التشريع
تركنا التشريع في العصر الأموي، وأظهر مميزاته انقسامه إلى قسمين: أهل الرأي، وأهل الحديث؛ وقد تجلَّى ذلك أكبر جلاء في آخر العهد الأموي، وأول العهد العباسي، وزاد الخلف بين الطائفتين، وتميزتا على مرور الزمان، وأصبحت أعلام كل مدرسة من المدرستين جلية واضحة مغايرة لأعلام الأخرى في الشارة واللون، وما إلى ذلك، ويحمل أعلام مدرسة الحديث الحجازيون، وخاصة المدنيين، وعلى رأسهم مالك بن أنس وتلاميذه، ويحمل أعلام مدرسة الرأي العراقيون خاصة الكوفيين، وعلى رأسهم أبو حنيفة النعمان.
وفخر العراقيون بأنه قد نزل بين أظهرهم أعلامٌ من الصحابة، كعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقَّاص، وعمَّار بن ياسر، وأبي موسى الأشعري وغيرهم، وقال الحجازيون إن مَنْ تفرق من الصحابة في الأمصار أقل عددًا ممَنْ بقي في الحجاز، فإن النبي ﷺ بعد رجوعه من حُنين ترك بالمدينة نحو اثني عشر ألف صحابي، مات بها نحو عشر آلاف، وتفرّق في سائر الأقطار نحو ألفين.
وفي الواقع إذا حصرنا نظرنا في الحديث، وجدنا الأولوية للحجازيين؛ فأكثر الصحابة كانوا بالمدينة، وهم أعرف الناس بحديث رسول الله ﷺ، وأخبر بقوله وعمله، وحتى مَنْ رحل منهم إلى العراق وسائر الأمصار فإنما كانوا عارية من الحجاز، وقد خلَّف هؤلاء — كعلي بن أبي طالب — وعبد الله بن مسعود — الحديث في المدينة كما خلَّفوه في العراق، ففضل الحجازيين في هذا لا ينكر؛ ولهذا إذا تجادل الحجازيون والعراقيون في هذا الباب كان الحجازيون أقوى وأقهر، بل عابوا على العراقيين أنهم يتزيدون في الحديث الصحيح، ويكثرون من الحديث الموضوع، قال مالك: «إذا جاوز الحديث الحَرّتَين ضعفت شجاعته»، وكان مالك يُسمِّي الكوفة «دار الضرب»، يعني أنها تصنع الأحاديث وتضعها، كما تخرج دار الضرب الدراهم والدنانير، وقال ابن شهاب: «يخرج الحديث من عندنا شبرًا فيعود في العراق ذراعًا».
وسبب ذلك أن حديث رسول الله بدأ وَخُتم في الحجاز، والمستمعون لرسول الله كثيرون، ومن العسير الكذب في حادثة شاهدها الكثير، أو في قول سمعه الجمُّ الغفير، وليس الشأن كذلك في العراق؛ فبعده عن الحجاز يجعل اصطناع القول ممكنًا — هذا إلى أن أخلاط المسلمين من الأمم المختلفة كانوا في العراق أكثر منهم في الحجاز، وفيهم مَنْ لم يصل الإيمان إلى أعماق نفسه، فلا يتحرج من اختلاق حديث أو رواية خبر غير صحيح، ما دام ذلك يعلي شأنه ويؤيد دعواه؛ وعامل آخر هو ظهور المذاهب المختلفة في العراق، من معتزلة ومرجئة وأصناف من المتكلمين، وليس يجاريهم في ذلك أهل الحجاز؛ لبساطة أهله في الحياة والعقيدة، وفي كل صنف من هؤلاء مَنْ رأى أن يؤيد حجته ورأيه بتأويل آيات القرآن واختلاق الحديث كما أسلفنا.
على أن الحجازيين وإن بزُّوا العراقيين في الحديث، فقد بزَّهم العراقيون في الرأي، وهو ما يُسَّمى «القياس»، وكان ذلك طبيعيًا أيضًا؛ لأن الأحداث تتبع في كثرتها وقلتها المدنية، فإذا كانت معيشة قوم ساذجة بسيطة، كما هو الشأن في الحجاز، كانت مسائلها الاقتصادية والجنائية وأحوال الأسرة ساذجة بسيطة، وإن تعقدت الحياة وعظمت المدنية كما هو الشأن في العراق، تعقدت الأحداث الاقتصادية والجنائية والاجتماعية وتنوعت، وكل هذه الأحداث تحتاج إلى تشريع، وأحاديث رسول ﷺ الله التي كانت معروفة بالحجاز تكفي بنصها على وجه التقريب للإفتاء بما يقع في الحجاز من أحداث؛ للشبه الكبير بين عهد مالك وعهد النبي ﷺ، وليس كذلك الشأن في أحداث العراق، فهي كثيرة معقدة متنوعة. بالعراق دجلة والفرات وما يتطلب ذلك من ريٍّ وخراج ليس مثلهما في الحجاز، وفي العراق مال وفير يصب صبًا، والمال يتبعه الترف والنعيم، واللهو والإجرام، وخَلْق مشاكل تحتاج إلى فتاوى ليس مثلها في الحجاز، وبالعراق أخلاط من فرس وروم ونبط وغير ذلك لهم عادات اقتصادية واجتماعية ليس مثلها في الحجاز، فلئن كفى الحديث في الحجاز وحاجاتهم قليلة وحديثهم كثير، فليس يكفي في العراق وحاجتهم كثيرة وحديثهم قليل — لذلك اضطروا إلى إعمال الرأي فيما لم يرد فيه نصٌ، والتوسع في النصِّ بالوضع — ورأينا النزاع يشتد حول القياس وجوازه وعدم جوازه، وكانت معركة كبيرة نجمل أمرها فيما يلي: لعب القياس دورًا كبيرًا في العصر العباسي، وشغل حيزًا كبيرًا من العلوم؛ فالقياس في أصول الفقه، وفي الفقه، وفي اللغة، وفي النحو، وفي المنطق؛ والذي يهمنا الآن منه أثره في التشريع.
أصل القياس أن يُعْلَم حكمٌ في الشريعة لشيء فيقاس عليه أمر آخر لاتحاد العلِّة فيهما، ولكنهم توسعوا في معناه أحيانًا فأطلقوه على النظر والبحث عن الدليل في حكم مسألة عرضت لم يرد فيها نصٌّ، وأحيانًا يطلقونه على الاجتهاد فيما لا نصَّ فيه، وبعبارة أخرى جعلوه مرادفًا للرأي، ويعنون بالرأي وبالقياس بهذا المعنى أن الفقيه من طول ممارسته للأحكام الشرعية تنطبع في نفسه وجهة الشريعة في النظر إلى الأشياء؛ وتمرن ملكاته على تعرُّف العلل والأسباب، فيستطيع إذا عرض عليه أمر لم يرد فيه نصٌّ أن يرى فيه رأيًا قانونيًا متأثرًا بجو الشريعة التي ينتمي إليها، وبأصولها وقواعدها التي انطبعت فيه من طول مزاولتها، ومن أجل هذا ذمُّوا الرأي الذي يصدر ممَنْ ليس أهلًا للاجتهاد، والرأي الذي لا تسنده أصول الدين، وهذا الرأي أو القياس كان مثارًا للنزاع بين العلماء منذ العصر الأموي كما أبنَّا ذلك في فجر الإسلام حتى بين الصحابة، فمنهم مَنْ كان يتشدد فلا يفتي إلا بما ورد فيه نصٌّ من كتاب أو حديث كعبد الله بن عمر، ومنهم مَنْ كان يبدي الرأي فيما يعرض من الحوادث التي لم يَرِدْ فيها نص، كعمر وعبد الله ابن مسعود وغيرهما، ورُوِي في ذلك الشيء الكثير؛ واستمر النزاع بين النزعتين يقوى ويشتد إلى العصر العباسي، وأصبحت رياسة أهل الرأي لفقهاء الكوفة، وأهل الحديث لأهل المدينة؛ وفي الواقع لم يخلُ إمام من الأئمة — سواءً كان من أهل الرأي أم الحديث — من القول بالرأي، وهو مضطر إلى ذلك؛ لأن التقدم في المدنية يخلق كل يوم حوادث جديدة تحتاج لفتوى الفقهاء، ولا يُعدُّ فقيهًا حتى يفتي فيها، ولكن الفقهاء اختلفوا درجات متفاوتة في مقدار الأخذ بالرأي والاعتماد عليه، فمنهم مَنْ ضيَّق أمره، ومنهم مَنْ توسَّع، ومنهم مَنْ توسط كما سيأتي بيانه، وكان هذا من أهم الأصول التي خالفت بين الأئمة في التشريع.
وأخذت المسألة دورًا كبيرًا في الجدل بين أصحاب الرأيين، فيقول — مثلًا — أحد الفريقين، وهو المنكر للتحسين والتقبيح العقليَّيْن: إنا نرى الشريعة قد فرَّقت بين المتماثَِلين وجمعت بين المختَلِفَيْن، ولو كان الأمر بالعقل لجمع بين المتماثلين وفرَّق بين المختلفين، فالشارع أوجب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، مع أن الصلاة أوْلى بالمحافظة عليها، وحرَّم النظر إلى العجوز الشوهاء القبيحة النظر إذا كانت حرة، وجوَّزه إلى الشابة البارعة الجمال إذا كانت أمَة، واكتفى في القتل بشاهدين دون الزنا، وحَّرم المطلقة ثلاثًا على الزوج المطِّلق، ثم أباحها له إذا تزوجت بغيره، وحالها في الموضعين واحدة، وأباح للرجل أن يتزوج أربعًا، ولم يبح للمرأة إلا رجلًا واحدًا، مع قوة الدواعي من الجانبين، وقطع يد السارق لكونها آلة المعصية، فأذهب العضو الذي تعدَّى به على الناس، ولم يقطع اللسان الذي يقذف المحصنات، ولا العضو الذي يزني به، وأوجب الزكاة في خمس من الإبل، وأسقطها عن عدة آلاف من الخيل إلخ. إلخ … فلو كان الأمر بالعقل لكان الحكم غير هذا؛ فكيف نترك الحكم للرأي؟ وكيف نقول بالحسن والقبح العقليين؟
على كل حال لو رسمنا دوائر تمثل مقدار المذاهب في استعمال الرأي لكان أصغرها دائرة الظاهرية، ثم الحنابلة، ثم المالكية، ثم الشافعية، ثم الحنفية.
•••
والآن نستعرض في إيجاز المسلك الذي سلكه أهل الحديث، والمسلك الذي سلكه أهل الرأي.
على كل حال زادت مراجع التشريع مرجعًا وهو فتاوى الصحابة، وليس ما خلفه الصحابة قاصرًا على ما ذكرت، بل هناك أمر آخر وهو أن الحديث قد يكون قد ثبت عن الرسول، ولكن اختلفت أنظار الصحابة في توجيهه وتفسيره وتأويله، أو أن الحديث قد نُسِخَ بحديث آخر بلغ بعضهم ولم يبلغ البعض؛ مثال الأول ما رُوِي أن رسول الله أسرع في الطواف مرة، فذهب كثير إلى أن الرَّمَل في الطواف سُنَّة، وقال ابن عباس ليس بسنَّة، إنما فعله النبي لسبب عارض، وهو أنه قد بلغه قول المشركين: حَطَّمتهم حُمَّى يَثْرب، فأراد أن يظهر لهم بالإسراع القوة والنشاط، وليس بسُنَّة؟ ومثال الثاني أن النبي رخَّص في نكاح المتعة عام خيبر وعام أوطاس، ثم نهى عنه، فاختلفت الصحابة في ذلك وفي نسخه، وقد يثبت الحديث أيضًا ولكن يختلفون في علّتَه، كالذي رُوِي أن رسول الله قام للجنازة، فاختلفوا في تعليل ذلك، فقال قوم: ذلك لتعظيم الملائكة تحف بالميت، أو لهول الموت، فيعم الوقوف للميت والكافر، وقال قوم: إنها كانت ليهودي، فكره أن تعلو فوق رأسه، فالقيام يخصُّ الكافر إلخ.
فلمَّا جاء عصر التابعين زادت المصادر مصدرًا على النحو الماضي، فكان من كبار التابعين من له فتاوى في حوادث لم تكن في عهد النبي ولا الصحابة، وكان لكل كبير من كبارهم آراء في تفسير بعض الآيات القرآنية، وآراء في تأويل الحديث، وآراء في فتاوى الصحابة، كما كان لهم آراء في تقدير الصحابة وتقويمهم من الناحية الفقهية، فمن التابعين مَنْ يفضل أقوال عبد الله بن مسعود على غيره، ومنهم مَنْ يفضل آراء عليّ وابن عباس، إلى غير ذلك؛ ويغلب أن هذا الترجيح يرجع إلى البلد الذي فيه الصحابي والتابعي وتابعي التابعي، فهو يتتلمذ للصحابة الذين كانوا في بلده، ويأخذ بقولهم، ويفضل روايتهم.
وجاء بعد التابعين طبقة أخرى تعمل عمل التابعين وهكذا، فعمر وعثمان وعبد الله بن عمر وعائشة وابن عباس وزيد بن ثابت كانوا أئمة المدينة، وجاء بعدهم تلاميذهم، ومن أشهرهم سعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله بن عمر، ومن بعدهما الزهري، ويحيى بن سعيد، وربيعُة الرَّأْي، ومن بعدهم مالك؛ لذلك كان مالك أعلم الناس بقضايا عمر، وأقوال عبد الله بن عمر، وعائشة، ومَنْ ذكرنا. وكان عبد الله بن مسعود وعليّ في الكوفة، ثم شريح والشّعبي، ثم علقمة وإبراهيم النخعي، وتمت السلسلة إلى أبي حنيفة، وتعصَّب كل قوم لسلسلتهم، فكان مالك ينهج منهج مَنْ ذكرنا من أعلام مدرسته، وأبو حنيفة كذلك؛ قال أبو حنيفة مرة لمناظره: «إبراهيم أفقه من سالم، ولولا فضل الصحبة لُقلت علقمة أفضل من ابن عمر». وكما كان مالك أعلم الناس بأحاديث المدينة، وقضايا علماء الصحابة المدنيين وتابعيهم وفتاواهم وآرائهم، كان أبو حنيفة أعلم الناس بقضايا عبد الله ابن مسعود وعليّ بن أبي طالب، وغيرهما من صحابة العراق وفتاواهم، وآراء التابعين من الكوفيين. ولمَّا جاء دور التدوين في العصر العباسي رأينا مالكًا يجمع هذا الذي ذكرنا في كتابه الموطأ، والعلماء العراقيين يجمعون فتاوى أئمتهم ومشايخهم في الكتب.
ووُجِدَ كثير من علماء المدينة، كسعيد بن المسيب والزهري يكرهون الرأي والقول به، ويهابون الفتيا، ويعدُّونها محنة، وساعدهم على تحقيق نزعتهم ما أشرنا إليه قبل من كثرة الحديث عندهم، وقلة الأحداث التي تعرض لهم، وحملتهم هذه النزعة أيضًا على أن يرحلوا إلى البلاد يجمعون الأحاديث التي لم يروِها رجال المدينة، فمنهم مَنْ رحل إلى العراق، ومنهم مَنْ رحل إلى الشام ومصر، فإذا اسُتفُْتوا رجعوا إلى الكتاب، فإن وجدوا فيه نصًا عملوا به، وإلا رجعوا إلى الحديث، فكذلك، وإن وجدوا أحاديث مختلفة فاضلوا بينها بالراوي من حيث العلم والصدق، فإن لم يجدوا حديثًا رجعوا إلى أقوال الصحابة والتابعين، فأخذوا بقولهم، فإن اختلف الصحابة والتابعين فاضلوا بين أقوالهم وخاصة أقوال أئمة بلادهم، فإن لم يكن شيء من ذلك رجعوا إلى أصول الكتاب والسنة، فنظروا إلى إشاراتها ومقتضياتها لعلهم يجدون مُشْبهًا لما عرض، أو يقع في نفسهم حكمة للأمر أو النهي أو الحِلِّ والحرمة تنطبق على هذه المسألة.
بجانب هؤلاء كان قوم من أهل الرأي وخاصة في العراق، يتهيبون الحديث كما يتهيب الأولون الرأي، ويستعظمون «قال رسول الله» كما يستعظم الأولون «أجتهد رأيي» ولعل ذلك سببه إدراك ما في الأمر من صعوبة في إثبات نسبة الحديث إلى الرسول والاستيثاق من صحته. قال إبراهيم النخعي، وهو من علماء الكوفة: «أقول قال عبد الله (يعني ابن مسعود) وقال علقمة أحب إلينا» من أجل ذلك قلَّ الحديث عندهم، وكانوا أجرأ على الرأي، بل لم يقتصروا في الإفتاء على ما يقع من أحداث، وما أكثرها في العراق، بل تعدوا إلى فرض الفروض، فلو قال رجل لامرأته أنت طالق نصف تطليقة أو ربع تطليقة فماذا يكون الحكم؟ ولو قال أنت طالق واحدة بعدها واحدة ونحو ذلك، كأن الأمر أصبح مرانًا عقليًا كمسائل الحساب والجبر والهندسة، ومرنوا على ذلك مرانًا عجيبًا، وخاصة أبا حنيفة كما سيأتي، فكان لهم قدرة فائقة على قياس الأمر بأشباهه، واستخراج العلل والأسباب، ووجوه الفروق الموافقات، وقد اشتركوا مع المدرسة الأولى في العمل بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين، ولكنهم اختلفوا عنهم في أمور:
•••
- (١) أول ما نلاحظه أن الأمويين — إذا استثنينا عمر بن عبد العزيز — لم يكونوا يتصلون برجال التشريع ورجال الدين على العموم اتصالًا وثيقًا، إلا في أحوال نادرة، كاتصال الزهري بهم، بل قصر الخلفاء أنفسهم على النواحي السياسية من قمع الثورات الداخلية والفتوحات الخارجية، وتنظيم شئون الدولة المالية، وما إلى ذلك، وتركوا العلماء يدرسون ويفتون، وعيَّنوا القضاة وتركوهم يقضون بما يرون، كأن السياسة منفصلة عن الدين، وكأن وظيفتهم سياسية بحتة؛ فلمَّا ثارت الثورة على الأمويين واستقر الأمر في يد العباسيين، كان من أثرها صبغ الدولة صبغة دينية، ورأينا النزعة الدينية عند الخلفاء العباسيين الأولين واضحة جلية، ورأينا اتصال الخلفاء بالعلماء ورجال الدين أقوى وأبين؛ فأبو جعفر المنصور يقرِّب العلماء ويصلهم، والمهدي يشتد على الزنادقة وينشئ «إدارة» للبحث عنهم وتعذيبهم، والرشيد وأبو يوسف القاضي متلازمان، والمأمون يصدر «مرسومًا» بخلق القرآن، ويقضي شطرًا من خلافته في مناقشة العلماء في ذلك وتعذيب مَنْ أنكره، ويناقش في نكاح المتعة ويريد أن يصدر أمرًا في شأنه، وهكذا مما لا نجد له مثيلًا في العهد الأموي. وعلى العموم فقد أراد العباسيون ألا يكونوا سياسيين فحسب، بل سياسيين ودينيين معًا.٩ وكان من أثر ذلك أن جماعة من العلماء عذبهم العباسيون؛ لأنهم أبوا أن يخضعوا لوجهة نظرهم، والخضوع لسلطانهم، كمالك وأبي وحنيفة وسفيان الثوري، على حين أنَّا نرى الحسن البصري في العهد الأموي يجلس في المسجد الجامع ويتكلم في السياسة، ويُسْتَفْتَى في الخلفاء والأمراء فينقدهم في شدة، ثم لا يصيبه أذى. والذي يهمنا هنا هو الناحية التشريعية، فقد كان لاتجاه العباسيين هذا الاتجاه أثر بيَّنٌ في التشريع، وهو صبغ أعمال الدولة كلها صبغة دينية، فنظام الري، ونظام الضرائب، وحفر الترع وجباية الأموال، ونظام الدواوين، كلها مسائل دينية يؤلف فيها أبو يوسف القاضي كتابه الخراج، ويُستفتَى فيها الفقهاء، ويجتهدون فيها اجتهادًا دينيًا، وهكذا كل ما دق من الأمور وعظم مرجعه فتوى المفتين وقضاء رجال الدين؛ وهذا — من غير شك — يجعل مهمة الفقهاء شاقة واسعة النطاق.
- (٢)
ويتصل بهذا الأمر أن الفقه في العصر العباسي تضخَّم ونما نموًا كبيرًا، وسبب هذا أمور؛ منها: ما أشرنا إليه قبل من عمل العباسيين في صبغ الأمور كلها صبغة دينية، ومنها: أن طبيعة النظام الذي جرى عليه الفقهاء تجعل المأثور يتزايد مع الزمن، فبعد أن كان في عهد الصحابة المأثور هو حديث رسول الله، أصبح في عهد التابعين المأثور أقوال الرسول وكبار الصحابة، وفي عهد تابعي التابعين المأثور هذا وقول كبار التابعين وهكذا، فكلمَّا جاء جيل ورث عمن قبله آراء المجتهدين، وفتوى المفتين، وقضاء القضاة؛ وسبب ثالث: وهو أن مدرسة الرأي لم تكتفِ بما يحدث من أحداث بل كأنها فرحت بما لديها من وسائل الاجتهاد وأدوات القياس، والقدرة على «التخريج»، فأباحت إثارة المسائل الفرْضية، تبدي فيها رأيها، وتستعمل قياسها حتى فرضوا المستحيل والبعيد الوقوع، وأكثروا الفروض في أبواب الرقيق والطلاق والأيمان والنذور كثرة لا حد لها، وبدأ بذلك العراقيون، ثم تبعهم فيما بعد الشافعية والمالكية. ومن أسباب التضخم أن المملكة الإسلامية أصبحت في صدر الدولة العباسية بعيدة الأطراف، تضم بين جوانبها أممًا مختلفة، لكل أمة عادات اجتماعية، وعادات قانونية، وطرق في المعاملات، ولكل أمة دين له تقاليده، فلمَّا دخلت هذه الأمم في الإسلام استقرت الأمور في العهد العباسي، وصُبِِغتَ الأمور كلها صبغة دينية، وتفرق الأئمة في الأمصار وعُرضت هذه العادات والتقاليد على الأئمة، فعُرِضت أمور العراق على أبي حنيفة وأمثاله، وفيها العادات الفارسية والعادات النبطية وغيرها، وعُرِضت أمور الشام على الأوزاعي وأضرابه، وفيها العادات الرومانية وغيرها، وفيها نظم القضاء الروماني، وما كان يجري في المعاملات وطريقة التقاضي، وعُرِضت أمور مصر على الليث بن سعد والشافعي وأقرانهما، وفيها العادات المصرية والرومانية كذلك، ونحو هذا؛ فكان من عمل هؤلاء الأئمة «تسليم» هذه العوائد والتقاليد، أعني النظر إليها بالقواعد العامة للإسلام وإقرار بعضها وإنكار بعضها وتعديل بعضها، وهذا — بلا شك — باب واسع من الأبواب التيتُضخِّم التشريع وتغذيه، وهذا أيضًا قد جعل كلَّ مصر يغذي التشريع غذاءً خاصًا، قد لا يكون في غيره، وقديمًا كانت مكة تغذي الفقهاء بمناسك الحج وبشئون التجارة كما كانت المدينة تغذي الفقهاء أكثر من مكة في شئون الزراعة، وبأعمال رسول الله في المدينة، فلمَّا فُتِحت الأمصار ظل الأمر على هذا الحال، فدجلة والفرات ونظامهما قد غذيا أبا يوسف في آرائه في كتاب الخراج، ومعاملة العراقيين في المزارعة والمساقاة والاستصناع غذت فقه العراق، ونظام النيل وعوائد المصريين غذت الشافعي في مذهبه الجديد — كما سيأتي — وعلى الجملة فكانت هناك عوائد عربية في جزيرة العرب، وعوائد فارسية في العراق، وعوائد رومانية في الشام، وعوائد رومانية وإغريقية ومصرية في مصر، كلها عُرِضتَ على الأئمة و«سُلِّمت».
فلمَّا كثرت الرحلات بين العلماء — كما أشرنا قبل — وأصبح من واجبات طالب العلم الأولية أن يرحل إلى الأمصار المختلفة ويأخذ من علمائها، زالت الحدود والفواصل التي تميَّز كل طائفة من المشرعين في مصر، فاستفاد العالمُ العراقي من الحجازي، والمصري منهما، وكمَّل كل منهم نقصه، واستفاد فيما هو مقصر فيه، وأفاد فيما هو غنيٍّ به؛ وهكذا عملت الرحلات في تطعيم كل شجرة من أشجار العلم، كما عملت في تقريب ألوانها وطعومها، ومن ذلك التشريع؛ فنرى ربيعة الرأي المدني يرحل إلى العراق ثم يعود إلى المدينة، ومحمد بن الحسن العراقي صاحب أبي حنيفة يرحل إلى المدينة ويقرأ موطأ مالك ويعود إلى العراق، والشافعي يرحل إلى المدينة وإلى العراق وإلى مصر وهكذا؛ ومن أجل هذا أصبحنا نرى الفروق على توالي الأزمان تقل بين مدرسة الحديث ومدرسة الرأي بما يأخذ الأولون من رأي الآخرين، وما يأخذ الآخرون من حديث الأولين، وأصبحنا نرى كتب المذاهب تتشابه والفروض في كل المذاهب تكثر، وعلى الجملة يتأثر كل بما امتاز به كل.
-
(٣)
من مميزات هذا العصر كذلك، كثرة اختلاف الفقهاء ونشاطهم في الجدال والمناظرة؛ فقد اختلفوا وتعددت أسباب اختلافهم، من ذلك اختلافهم في تفسير الألفاظ الواردة في الكتاب أو السُنَّة كاختلافهم في معنى القروء الواردة في قوله تعالى:وَالْمُطَلََّقَاتُ يتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ َثلاَثَة قُرُوءٍ، هل القرء الطهر أو الحيض؟ فذهب الحجازيون من الفقهاء إلى أنه الطهر، وذهب العراقيون إلى أنه الحيض، وكان اختلاف الحجازيين والعراقيين تبعًا لاختلاف الصحابة في هذا أيضًا، فقد روي عن عمر وعثمان وعائشة وزيد بن ثابت أنهم قالوا الأقراء الأطهار، كما رُوِي عن عبد الله بن مسعود أنها الحيض، وفي هذا ما يدل على ما سبق من انحياز العراقيين لابن مسعود، والحجازيين إلى علماء الصحابة في المدينة؛ وقد يكون الاختلاف سببه تركيب الكلام وتأليف الجمل، وقد يكون سببه حمل الكلام على الحقيقة أو المجاز، وقد يكون سببه ما ورد من جملة آيات أو أحاديث إذا أُلِّف بعضها من بعض اختلفت المدارك فيما يُسْتَنْتَجُ منها وما لا يُستَنتَجُ، وقد يكون سببه اختلاف الأحاديث الواردة في الموضوع، وأن كل مجتهد وصل إليه بعض دون بعض، أو صح عنده بعض دون بعض. كالذي رُوِي عن عبد الوارث بن سعيد أنه قال: قدمت مكة فألفيت بها أبا حنيفة، فقلت: ما تقول في رجل باع بيعًا، وشرط شرطًا؟ فقال البيع باطل والشرط باطل، فأتيت ابن أبي لَيْلى فسألته عن ذلك فقال: البيع جائز والشرط باطل، فأتيت ابن شُبْرُمة فسألته عن ذلك فقال: البيع جائز والشرط جائز. فقلت في نفسي سبحان الله، ثلاثة من فقهاء العراق لا يتفقون على مسألة، فعدت إلى أبي حنيفة، فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما قالا لك، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله ﷺ عن بيع وشرط. فعدت إلى ابن أبي ليلى فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما قالا لك، حدثني هشام بن عُرْوَة عن أبيه عن عائشة قالت: أمرني رسول الله أن أشتري بَرِيرة فأعتقها، فاشترط أهلها بالولاء لأنفسهم، فقال رسول الله: ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، البيع جائز والشرط باطل. قال فعدت إلى ابن شُبرمة فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما قالا لك، حدثني مِسْعَر بن كِدام عن محارب بن دِثار عن جابر قال: بعْت النبي بعيرًا، وشرط لي حملانه إلى المدينة، البيع جائز والشرط جائز. وقد يكون سبب الخلاف ما ورد من الحديث يصح عند قوم ولا يصح عند آخرين، ويشترط قوم لصحة الحديث شروطًا كثيرة إن لم تتحقق فُضَّل عليه القياس، ولا يشترط قوم هذه الشروط ويفضلون الحديث — ولو لم يستوفها — على القياس. وقد يكون الخلاف سببه اختلاف مقدرة الفقهاء على القياس والاستنباط، أو اختلافهم في المقدرة اللغوية والعلم بأساليب العرب ودلالة الكلام. وقد يكون سببه الاختلاف في وجهات النظر، وتأثر كل إمام بما يحيط به من بيئة طبيعية واجتماعية١٠ إلخ.
على كل حال كان الاختلاف بين الفقهاء كثيرًا وقديمًا، كان هذا الاختلاف بين الصحابة فقد اختلف أبو بكر وعمر في قتال مانعي الزكاة، واختلف عثمان وزيد بن ثابت وعلي في عبد تزوج حرة هل يُعْتَبَرُ حال الزوج فيكون أقصى طلاقها طلقتين؟ بهذا قال الأولان، أو يُعْتَبَرُ حال الزوجة فيكون أقصى طلاقها ثلاثًا؟ بذلك قال علي؛ وكاختلافهم في توريث الإخوة مع الجد، إلى كثير من أمثال ذلك. وكانت كلما أتت طبقة زاد الخلاف لكثرة المسائل المعروضة ولكثرة المفتين، حتى إذا تبلورت مدرسة الحديث وتركَّزت في مالك وأصحابه في الحجاز، وتبلورت مدرسة الرأي وتركَّزت في أبي حنيفة وأصحابه في العراق، زاد الخلاف وكثر الجدل، واستمر النزاع، وكان أكبر الفضل في شدة المناظر راجعًا إلى مدرسة أبي حنيفة، فإن كثرة مسائلهم التي فرَّعوها، وعدم تحرجهم في إبداء الرأي فيما لم يصح فيه نص عندهم، جعل فقهاء الحديث يردون عليهم في شدة بأنهم أهملوا الحديث إلى الرأي فأخطأوا، كما أن استعمال العراقيين للقياس وهو ضرب من المنطق سمح للمنطق أن يتسرب للفقه، وجعل الجدل يتشكل بالشكل المنطقي، وفي هذا تكثير للجدل والمناظرة، وفي رأيي أن هذا الجدل هو الذي ألجأ كبار الأئمة كالشافعي إلى وضع أصول الفقه؛ فإن المناظرة كانت تدور حول الكلمات وتحديد معانيها، والجمل وتأليفها، وموقف السنة من الكتاب، والكتاب من السنة، وعمل الصحابي هل هو حجة أو لا، والقياس ومدى استعماله ومتى يصح ومتى لا يصح؛ فجرَّد الشافعي وأمثاله هذه المسائل التي يكثر فيها الخلاف، واجتهدوا أن يرجعوا المسائل الجزئية التي يتجادلون فيها إلى أصول فكان من ذلك أصول الفقه.
هذه المناظرات — وإن حكاها كل جماعة بما يتفق وعصبيته المذهبية — وسَّعت دائرة الحركة الفقهية، وكوَّنت آراء قانونية لها قيمتها، وحملت الكثيرين من الفقهاء على أن يتسلحوا بأسلحة مناظريهم، فالقياسيون يتسلحون بالحديث، والمحدِّثون يتسلحون بالرأي، وقرَّبت كثيرًا من أوجه النظر المتباعدة، وربما كان أقرب مثال لذلك الشافعي ومحمد بن الحسن الحنفي، فكلاهما اطلع على الناحيتين، وتسلَّح بالسلاحين.
وقد أثرت هذه المناظرات أيضًا في الكتب المؤلفة في ذلك العصر وما بعده أثرًا كبيرًا، فلو قارنت بين كتاب الأم للشافعي، وكتاب النحو لسيبويه، رأيت فرقًا كبيرًا بين التأليفين، فالأم يغلب عليه الحوار، قال كذا فقلت: أرأيت إن زعم كذا؟ فإن قال قائل كذا رددت عليه بكذا، قال لي بعضهم كذا فقلت له، إلى نحو ذلك مما يغلب عليه الجدل والمناظرة والحوار، وكثيرًا ما يعرض لآراء المخالفين ويذكر حجتهم ثم يفنِّدها بحججه، ويذكر فصلًا يعنونه «كتاب الردَّ على محمد بن الحسن»، وفصلًا يعنونه «كتاب اختلاف العراقيين» إلخ؛ وهكذا الحنفية في التأليف، ولا ترى هذا واضحًا جليًا في كتاب سيبويه، فهو أميل إلى تقرير القواعد وتفريعها والاستشهاد عليها؛ وسبب ذلك الثورة الكبيرة التي كانت في هذا العصر في الآراء الفقهية، والحرية التي أبداها الحنفية في استعمال الرأي، وجدُّ مناظريهم في إفحامهم، ونحو ذلك مما لا يقاس به الخلاف النحوي والمناظرات النحوية؛ لأن الأمر فيه أغلب ما يكون على النقل والسماع واستخراج القاعدة العامة من الجزئيات.
-
(٤)
ومن مميزات العصر العباسي في التشريع «التدوين»؛ فقد ظهرت حركة التدوين في هذا العصر في كل فروع العلم ومنها الفقه، نعم كان في العصر الأموي نواة التدوين، ولكنها نمت واتسعت في العصر العباسي، وكانت كل مدرسة تتبع منحاها، فقد كان فقهاء المدينة يجمعون فتاوى عبد الله بن عمر وعائشة وابن عباس ومَنْ جاء بعدهم من كبار التابعين في المدينة، وينظرون فيها ويستنبطونه منها ويفرِّعون عليها، كما كان العراقيون يجمعون فتاوى عبد الله بن مسعود وقضايا عليّ وفتاواه، وقضايا شريح وغيره من قضايا الكوفة، ثم يستخرجون منها ويستبنطون؛ وقد بدأ الفقه في العصر الأموي الحديث، لأنه يُعَدُّ مادة الفقه، وخاصة عند مدرسة الحديث، ثم بدءوا يبوبون الحديث أبوابًا حسب الفقه؛ فأحاديث الوضوء ثم أحاديث الصلاة، ثم أحاديث الزكاة وهكذا، ثم بدءوا يفرِّعون المسائل من الحديث، فيروي الذهبي أن عبد الله بن المبارك «دوّن العلم في الأبواب والفقه»، ويقول في أبي ثور: «إنه صنَّف الكتب وفرَّع السنن»، ويريد أنه جمع الأحاديث المتعلقة بموضوع واحد في باب واحد؛ وأوسع ما ورد إلينا في هذا الباب كتاب الموطأ للإمام مالك، وقد خطا فيه خطوة جديدة في تقنين الحديث.
هذا في المدينة، وأمَّا في العراق فقد كانوا أميل إلى الرأي كما رأينا، وقد كان من أظهر علمائهم إبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، وقد رووا أن إبراهيم جمع فتاوى الشيوخ وآراءهم ومبادئهم القانونية في كتاب، وأن حمادًا كان له مجموعة منها، وقد وصل إلينا كتاب الآثار لمحمد بن الحسن جمع فيه آثار هؤلاء العلماء وآراءهم؛ ومن أقدم ما وصل إلينا في الفقه العراقي كتاب الخراج لأبي يوسف، ثم كتب محمد بن الحسن، كما وصل إلينا كتاب الأم للشافعي، وفيه ينحو منحى جديدًا متأثرًا بمدرسة الحديث في الحجاز ومدرسة الرأي في العراق، وسنتكلم عن هذه الكتب فيما بعد.
وعلى الجملة فقد دُوِّنت في هذا العصر كتب الفقه واصطبغت صبغة قانونية، بعد أن كانت صبغتها قبلُ صبغة حديث، وظهر فيها أثر الخلاف في المذاهب وأثر الجدال، واصطبغت الكتب وخاصة كتب العراق بالمنطق.
-
(٥)
كان هذا العصر عصر حرية في الاجتهاد كالذي قبله، فميدان العلم والبحث مفتوح لكل راغب والوسط العلمي يرفع من شأن قوم لكفايتهم وجدهم ويضع من شأن آخرين لعكس ذلك، وكل مَنْ استكمل أدوات الاجتهاد فله أن يجتهد، ومَنْ لم يستكمل ذلك فله أن يتبع أي فقيه وأيّ مفتٍ فيما يفتيه، فإذا حدثت حادثة فالقاضي يقضي باجتهاده لا بمذهب معين، وإذا عرض سؤال لرجل استفتى فيه مَنْ شاء من العلماء، والمفتي يفتي بما أَدَّى إليه اجتهاده، فالقضاء والفتوى غير مقيدَين بأي قيد إلا القيد العرفي، وهو أن يكون القاضي أو المفتي في مستوى لائق في وسط العلماء، ومن أجل هذا كانت الحادثة يقضي فيها قاضٍ في بلد برأي، وقاضٍ آخر برأي آخر؛ إذ لا قانون قد اعترفت به الدولة، وكذلك الشأن في الفتاوى، وكذلك في التعبُّد، فالمجتهد يتعبد في الصلاة والزكاة حسب ما أداه إليه اجتهاده، وغير المجتهد يتعبَّد حسب ما يتلقاه من العلماء. ولم تكن إلى العصر العباسي مذاهب معينة يقلِّدها الناس إنما كان علماء مجتهدون كثيرو العدد في كل مصر، فلمَّا جاء العصر العباسي بدأت المذاهب تتحدد؛ كان العلماء فيما قبل يجتهدون في مسائل متفرقة، فأخذنا نرى العلماء يوسعون دائرة بحثهم حتى يشمل أبواب الفقه كلها، وساير هذا وضع الكتب في الأبواب المختلفة، فعُرِفتَ كل آراء المجتهد في هذه الأبواب كلها، وساير هذا أيضًا كثرة الجدل والمناظرات بين الفقهاء على النحو الذي بيَّنا، فأدََّى ذلك إلى أن كل إمام أصبحت له أصول ومناحٍ وأساليب يجري عليها في الاستنباط. كل هذا جعل المذاهب تتبلور ويستقل كل مذهب عن غيره، ويتجمع حول كل إمام تلاميذ وأتباع يأخذون عنه وينحون منحاه، فظهور المذاهب وتكوُّنها والتعصب لها وشمولها لأبواب الفقه والتأليف فيها واستقلالها ونحو ذلك، كله ظاهرة من ظواهر العصر العباسي.
ومع هذا فلا تظن أن الأمر في عصرنا الذي نؤرخه قد استقر على النحو الدقيق الذي عندنا من انقسام المسلمين إلى مذاهب أربعة، بل كان عصرنا بدء هذه الحركة، ولم يتم هذا التكوين إلا في القرن الرابع. قال أبو طالب المكي في قوت القلوب: «إن الكتب والمجموعات مُحْدَثة والقول بمقالات الناس، والفتيا بمذهب الواحد من الناس واتخاذ قوله، والحكاية له من كل شيء، والتفقه على مذهبه، لم يكن الناس قديمًا على ذلك في القرنين الأول والثاني». فهذه العملية — عملية تكوُّن المذاهب — بدأت في العصر العباسي، ولم يكن الأمر قاصرًا على المذاهب الأربعة الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، بل كانت في ذلك العصر مذاهب كثيرة غير هذه، لم يقلّ بعضها في القيمة والقوة عنها، فكان مذهب الحسن البصري، ومذهب أبي حنيفة، ومذهب الأوزاعي، ومذهب سفيان الثوري، ومذهب الليث بن سعد، ومذهب مالك، ومذهب سفيان بن عيينة، ومذهب الشافعي؛ ثم من بعدهم مذهب إسحاق بن راهَوَيْه، ومذهب أبي ثور، ومذهب أحمد بن حنبل، ومذهب داود الظاهري، ومذهب ابن جرير الطبري وغير ذلك. وكان لكل مذهب من هذه المذاهب آراء وطرق في الاجتهاد، ولكلٍّ أتباع متفرقون في الأمصار، ولكن حدث أن بعض هذه المذاهب مات لظروف خارجية؛ كعدم التلاميذ الأقوياء الذين ينصرون المذهب وينشرونه ويدافعون عنه، وكعدم مَنْ يعتنقه من ذوي الجاه والسلطان ومَنْ إليهم، إلى غير ذلك من أسباب، وأحيانًا لأسباب داخلية كمذهب الظاهري؛ فقد قضى عليه تشدده في عدم الأخذ بالرأي ووقوفه الشديد عند النص إلخ. وكان الذي كُتِبَ له البقاء من هذه المذاهب هي المذاهب الأربعة، ولكن هذا الانحصار لم يتم إلا في القرن الرابع وما بعده كما ذكرنا؛ أمَّا في القرن الثاني والثالث فكل هذه المذاهب الثلاثة عشر التي عددنا وغيرها كانت موجودة ولها أنصار، وكان الاجتهاد حرًا طليقًا. ومن العلماء مَنْ كان لا يتقيد بشيء من هذه المذاهب، بل يجتهد لنفسه فإن صحَّ عنده حديث عمل به، وإن وجد قولين للعلماء تخَّير لنفسه،تارة يتبع مذهب المدينة، وتارة مذهب العراق، حتى فيمن ينتسبون إلى إمام معين، كمحمد بن الحسن، لم يمنعه انتسابه إلى أبي حنيفة من اختياره من مذهب مالك وهكذا؛ وكان لهذه الحرية في الاجتهاد أثر صالح في نمو الفقه نموًا يدعو إلى الإعجاب، وظهور الآراء القانونية بمظهر جليل، وتحليل المسائل تحليلًا دقيقًا، ومراعاة كل فقيه حال قومه وبلده، ومقتضيات الأحوال، حتى لا تكاد تخلو مسألة من المسالة من آراء متعددة، لكلٍ دليله ووجهة نظره، إن ضعف نظر بعضهم فبجانبه النظر القوي والاتجاه السديد.
كذلك من ظواهر الفقه الإسلامي سعة دائرته التي يبحث فيها؛ فهو يشمل القانون التجاري، والقانون المدني، وقانون العقوبات، كما يشمل العبادات، وفيه ما تنفِّذه السلطة التنفيذية، وفيه ما تترك العقوبة فيه لله — كل أعمال الإنسان داخلة في دائرته من الوضوء إلى الميراث — وسبب هذا بناء القانون الإسلامي على الكتاب والسنة، وهما قد تعرَّضا لجميع هذه الأبواب، ففي القرآن والسنة نصوص في الطهارة، كما فيهما نصوص في الدَّين، كما فيهما نصوص في عقوبة السرقة إلخ. وهذا — من غير شك — قد جعل مهمة الفقيه المجتهد أشق وأدق؛ فهو لابد أن يحيط بكل هذه الفروع، ولابد أن يعلم مبادئها والأصول التي استندت عليها حتى يستطيع أن يستنبط أحكامًا للمسائل التي تجِدُّ. وكان الأمر يكون أسهل لو تخصص قوم للعبادات، وآخرون للأمور المالية وغيرهم للمسائل الجنائية، ولكن لم يصل العالمَ إلى التخصص إلا في العصور الحديثة، فكان الفقيه فقيه كل شيء، كما كان الطبيب طبيب كل شيء.
•••
والذي يستعرض ما كُتِبَ في الفقه في هذه العصور وما بعدها يرى أن الفقهاء والمؤلفين قد جمعوا المسائل التي تتعلق بموضوع واحد في باب بعينه، ولكنهم في عرضهم قد عرضوا الجزئيات دون القواعد غالبًا، فإذا عرضوا للبيع استعرضوا الجزئيات من مثل «مَنْ باع صُبْرة طعام كل قفيز بدرهم جاز البيع، ومَنْ باع قطيع غنم كل شاة بدرهم فسد البيع، ومَنْ اشترى ثوبًا على أنه عشرة أذرع بعشرة دراهم فوجده أقل فالمشتري بالخيار إن شاء أخذه بكل الثمن وإن شاء ترك» إلخ. وهذه الفروع — من غير شك — ترجع في أساسها إلى مبادئ، لكن هذه المبادئ قلَّما تُذْكََرُ وإن كانت في نفس المجتهد، وقد كان من الممكن أن يكون بجانب هذه الفروع أصول الفقه، فتذكر في كل باب النظريات العامة التي انبنت عليها الفروع، ولكن الأصول التيدُوِّنت في ذلك العصر ليست من هذا القبيل، إنما عُرِضَ فيها لأدوات الاجتهاد لا للنظريات العامة في البيع والإجارة ونحوها؛ لأن أساسها — كما أشرنا — هو ما كان بين الفقهاء من المناظرة والجدال. وقد حاول قوم بعد عصرنا أن يتجهوا هذا الاتجاه فيذكروا في كل باب المبادئ العامة للأبواب المختلفة، ولكنهم لم يسيروا في هذا الطريق إلى آخره.
وسبب سير الفقه هذا السير في النظر إلى الجزئيات أن الفقه والتدوين فيه بدأ يجمع ما نُقِلَ من الحديث عن رسول الله، وفتاوى الصحابة والتابعين؛ ثم تبويب كل جمع من الجزئيات في باب، فكان طبيعيًا أن يكون الباب الفقهي حكاية عن فروع وردت، ثم كانت عبارة عما يراه المجتهد في هذه المسائل حسب أصوله، وحسب مشايخه، وحسب مسلكه في الاجتهاد.
والآن نعرض للمذاهب المشهورة وكبار رجالها ومسلكها في التشريع:
(١) أبو حنيفه ومدرسته
أغلب المؤرخين على أن أبا حنيفة وُلِدَ بالكوفة سنة ٨٠هـ ومات ببغداد سنة ١٥٠هـ، فيكون قد عاش نحو سبعين سنة، منها نحو ٥٢ سنة في العصر الأموي ونحو ١٨ في العصر العباسي؛ إذن فقد وُلِدَ في عهد عبد الملك بن مروان، ولمَّا مات عبد الملك كان أبو حنيفة في السادسة من عمره، ونشأ في ولاية الحجاج على العراق، فقد مات الحجاج وعمر أبي حنيفة خمسة عشر عامًا، فرأى قسوة الحجاج ومعاملته للثائرين، وحروبه وسطوته وسلطانه في العراق، وكان شابًا أيام عمر بن عبد العزيز، سمع بعدله وشاهد آثاره، ورأى تدهور الأمويين، وشاهد بدء الدعوة العباسية، وسايرها حتى تمت للعباسيين، والعراقُ وما إليه كان مهدًا لهذه الدعوة، وكان مساهمًا في حرب الأمويين؛ وشاهد بعد الحجاج يزيد بن المهلب أميرًا على العراق يحكم الناس حكمًا عربيًا عصبيًا، كما شاهد إمارة خالد بن عبد الله القَسْري، ونصر بن سَيَّار، وما كان فيهما من فتن، ورأى انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين على يد قومه من الفرس، ورأى خروج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب على المنصور، وقالوا إنه عطف على محمد، وكان ميله معه، وأخيرًا رأى استقرار الأمر في يد العباسيين، وبناء المنصور لبغداد، وتحوُّل أبهة الدنيا وحضارتها وجمالها إليها؛ ثم مات في خلافة المنصور. كل هذه الأحداث مرّتَ على أبي حنيفة وأعمل فيها فكره، وأثرت في نفسه آثارها المختلفة، وساهم في بعضها، وكان خِرِّيجها الناشئ في أحضانها، والمتكوِّن من ذراتها، والناضج على نيرانها.
وعلم الكلام قد طُعِّم بالفلسفة قبل أي علم آخر، وتأثر بها كما تأثر بآراء الأديان الأخرى للاحتكاك بها في المناظرة والدعوة إلى الدين — وقد أبنا ذلك قبل — فكان عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وغيرهما في البصرة يدعون إلى الإسلام، ويردون طعن الطاعنين، ويبحثون في صفات الله، وفي العاصي: أكافر أم مؤمن؟ إلخ؛ ويطَّلعون على أقوال أهل الديانات ويفندونها بمثل حججهم الفلسفية. فالظاهر أن أبا حنيفة بدراسته لبرنامج الكلام، وبلوغه فيه مبلغًا يشار إليه بالأصابع، أكسبه قوة في المناظرة، وقدرة في المنطق، ومرانًا على الأسلوب العقلي في التفكير غير أسلوب المحدِّثين، فإن كان المحدِّثون يكتفون في الحديث ببحث الرواة، فالمتكلمون يتجاوزون ذلك أيضًا إلى النقد الخارجي، وهو موافقة الحديث لمبادئ الإسلام العامة وأصوله، ونحو ذلك كما رأيت. وقد عُرِف عن المعتزلة رؤساء المتكلمين نقد بعض الصحابة في جرأة لم يُقْدِم عليها غيرهم، ونقد بعض ما روي من الحديث في صراحة، ونجد لذلك كله أثرًا في أبي حنيفة كما سيأتي.
درس أبو حنيفة الفقه في مدرسة الكوفة، وكانت مدرسة لها رجالها، ولها طابعها الخاص؛ ولتصوير أشهر رجالها نضع هذا الجدول البسيط:
هؤلاء أشهر رجال مدرسة العراق، وكان لكلٍّ منهم يد في تلوينها وتشكيلها: فابن مسعود فقيه جليل يتأثر عمر بن الخطاب في دقة نظره وحريته، وعليّ بن أبي طالب خلَّف مجموعة من القضايا والفتاوى لأهل العراق حُفِظتَ عنه وعُدَّتَ دستورًا، وعلقمة كان خير تلاميذ ابن مسعود وحامل علمه وفقهه، ومسروق خلَّف لأهل العراق فتاوى كثيرة كان يُسْتَفْتَى فيها، وشريح مارس القضاء نحو ستين سنة في العصر الأموي، فلابس الحياة العملية، وقد دعم مذهب الرأي بدعائم قوية وكان له أكبر الأثر في تلوينه وتميُّزه، والشعبي — على العكس من ذلك — كان يغذي العراقيين بالحديث والآثار، فكأنه هو شريح تعاونا على تدعيم المذهب بعنصريه، كان الشعبي ينقبض للفتوى ويتهيبها شأن صاحب الآثار، وكان النخعي يتهلل لها وينبسط شأن صاحب الرأي، وكان ذلك على خلاف حياتهما العلمية؛ فقد كان الشعبي ظريفًا مبتسطًا فكهًا، فإذا جاءت الفتوى انقبض، وكان النخعي منقبضًا جادًا، فإذا جاء الرأي انشرح، ثم جاء حماد بن أبي سليمان فجمع ذلك كله في صدره وأسلمه لأبي حنيفة فصاغه مذهبًا، ولعلك لاحظت معي كثرة النَّخَعيين في هذه المدرسة، فعلقمة نخعي، والأسود نخعي، وإبراهيم نخعي، ثم مسروق بن الأجدع هَمْدَاني، ثم عامر الشعبي نسبة إلى شَعْب وهو بطن من هَمْدَان، والنَّخَع وهَمْدَان قبيلتان يمنيتان، وشريح كندي، وكندة من اليمن، وحماد بن أبي سليمان أشعري بالولاء، وأشْعَر قبيلة من اليمن. ونحن نعلم أن معاذ بن جبل أرسله النبي ﷺ قاضيًا على الجند باليمن يعلِّم الناس القرآن وشرائع الإسلام ويقضي بينهم، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن؛ كان معاذ من أعلم الصحابة بالحلال والحرام، وهو صاحب الحديث المشهور الذي هو دعامة أهل الرأي، وهو أن رسول الله ﷺ قال لمعاذ بن جبل حين وجهه إلى اليمن: بِمَ تقضي؟ قال: بما في كتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بما في سنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال اجتهد رأيي — فلعل هؤلاء اليمنيين كانوا متأثرين بمبدأ معاذ وتعاليمه وفقهه — وبالفعل نجد بعض أعلام هذه المدرسة كالأسود بن يزيد النخعي من تلاميذ معاذ بن جبل.
•••
وقد روى بعضهم أن أبا حنيفة تولَّى للمنصور عدَّ اللبِن في بناء بغداد، ويقول الخطيب إن العامة هي التي تدعي ذلك.
فهذا التشدد في قبول الحديث، وهذه الحرية في وزن أقوال الصحابة والتابعين مضافًا إليهما ما ذكرنا قبل من أسباب، جعلت القياس أساسًا كبيرًا من أسس التشريع في فقه أبي حنيفة.
وقد نازله فقهاء عصره ونازلهم فانتصف منهم في الأغلب، ونسوق لك أمثلة قليلة مما رُوِي، سُئِلَ عن رجلين اشتركا في ثلاثة دراهم دفع أحدهم درهمين والآخر واحدًا واختلطت الدراهم، ثم ضاع درهمان من الثلاثة، فقال أبو حنيفة: الدرهم الباقي بينهما أثلاثًا، ثلث لذي الدرهم، والثلثان لذي الدرهمين؛ و سُئِلَ فيهما ابن ُ شُبْرُمة فقال: إن الدرهم الباقي بينهما أنصافًا، لكل نصف. حجة ابن شبرمة أن درهمًا من الدرهمين الضائعين هو من مال دافع الدرهمين بيقين، والدرهم الثاني من الدرهمين الضائعين هو من مال دافع الدرهمين بيقين، والدرهم الثاني من الدرهمين الضائعين مشكوك فيه فيكون منهما، فيكون الدرهم الثاني مناصفة؛ وحجة أبي حنيفة أن الدراهم الثلاثة لمَّا خُلِطتَ أصبح كل درهم مشتركًا، لصاحب الدرهم ثلثه، ولصاحب الدرهمين ثلثاه، فأي درهم ذهب فهذا حكمه، والدرهم الباقي هذا حكمه أيضًا، ثلثه لذي الدرهم وثلثاه لذي الدرهمين. وفي هذا مثل من أمثلة الرأي الذي كان يستعمل؛ وسُئِلَ: ما قولك في الشرب في قدح أو كأس في بعض جوانبها فضة؟ فقال: لا بأس به، فقيل له أليس قد ورد النهي عن الشرب في إناء الفضة والذهب؟ فقال أبو حنيفة: ما تقول في رجل مرَّ على نهر، وقد أصابه عطش، وليس معه إناء فاغترف الماء من النهر فشربه بكفه وفي أصبعه خاتم؟ فقال مناظره: لا بأس بذلك، قال أبو حنيفة: فهذا كذلك.
وجاءه جماعة من أهل المدينة ليناظروه في القراءة خلف الإمام (وأبو حنيفة يقول بعدم القراءة)، فقال لهم لا يمكنني مناظرة الجميع، فولُّوا الكلام أعلمكم، فأشاروا إلى واحد، فقال: هذا أعلمكم؟ والمناظرة معه كالمناظرة معكم؟ قالوا: نعم، قال: والحجة عليه كالحجة عليكم؟ قالوا: نعم، قال: إن ناظرته لزمتكم الحجة؛ لأنكم اخترتموه فجعلتم كلامه كلامكم، وكذا نحن اخترنا الإمام فقراءته قراءتنا.
وعلى الجملة فقد مَهَرَ في القياس، وطبَّقه تطبيقًا واسعًا أثَّر في الفقه أثرًا كبيرًا من كثرة الفروع وتحديد وجوه المشابهات، وتسليح المجتهد سلاحًا قويا في الإفتاء. وقد لا تدرك كبير فرق فيما لدينا من كتب الفقه في المذاهب المختلفة، كمذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة، ومن أجل هذا قال بعض المستشرقين إن الفروق بين المذاهب قليلة؛ ولكن في رأيي أن هذه القلة إنما كانت في كتب تلاميذ الأئمة؛ لأن تلاميذ أبي حنيفة أخذوا ما احتاجوا إليه من الحديث، وتلاميذ مالك توسعَّوا في اقتباس ما هم في حاجة إليه من القياس فتقاربت المذاهب، أمَّا في عصر أبي حنيفة ومالك نفسيهما فالفرق كان كبيرًا.
ومن أجل هذا فرََّقوا بين المحدِّث والفقيه، فقد يكون الرجل محدِّثًا لا فقهيًا وقد يكون قليل الحديث وهو فقيه.
•••
- (١)
فبعد أن وقعت حوادث قليلة من هذا القبيل، تُوُسِّع فيها من طريق الفرض، وسبَحَ الخيال يستخرج فروضًا عديدة، خصوصًا في الأيمان والطلاق، لم تحدث ولن تحدث، ولكن الخيال يتوهمها، والفقيه الفرضي يتمرن على حلها.
- (٢)
والأمر الثاني ما أشار إليه ابن القيم من أن المتأخرين ارتكنوا على هذه المسائل القليلة الواردة عن الأئمة وتوسَّعوا فيها حتى جعلوا في كل باب من أبواب الفقه، ولم يقفوا عند الحدود التي وقفت فيها الأئمة، بل جعلوا منها ما يحتال به على إضاعة الحقوق وإفساد الالتزامات.
•••
وطبيعي أنتُحدِثَ هذه المبادئ ثورة فكرية عنيفة، وتقسم الناس إلى قسمين: مؤيد لها وناصر، وهاجٍ لها وقادح، وكذلك كان؛ فقد وقف العراق في أمر أبي حنيفة معسكرين يتنازعان، ووقف المؤيدون لمذهب أبي حنيفة من العراقيين أمام المدنيين كذلك يتنازعون، ويترامون بالأقوال، هؤلاء ينصرون أبا حنيفة ويبينون فضله ومزاياه، ووجوه تفضيل مذهبه على غيره، وهؤلاء يضعون من شأنه ويرون أنه خطر على الدين، وأن طريقته تخالف طريقة المتقدمين، وخلَّف لنا كل معسكر تراثًا من آرائه وأقواله؛ وقد عقد الخطيب البغدادي فصلًا طويلًا نقل فيه أكثر ما قاله الفريقان، وكذلك فعل ابن عبد البر في كتابه الانتقاء.
وكان أكثر الذين عادَوه من أصحاب الحديث، وطبيعي أن يكون ذلك لأن منهجه غير منهجهم، فهم يروون الحديث ويكتفون في تصحيحه بأن الراوي غير مجرَّح، وهو يشتدد في روايته على النحو الذي ذكرناه، فإذا رد آثارًا ولم يعمل بها هاجوا عليه وقدحوا فيه. وكذلك عاداه الفقهاء من مدرسة الحديث؛ لأنه كان يستعمل القياس مع وجود الحديث في نظرهم، مع أن الحديث لم يصح عنده فتركه إلى القياس، فإذا رد الحديث ونطق بما يفيد أنه لم يثبت عنده شنَّعوا عليه بأنه أكذب الحديثَ؛ فقد سأله رجل عن شيء، فأجاب فيه، فقال له الرجل: إنه يروي فيه عن النبي ﷺ كذا، فقال أبو حنيفة: دعنا من هذا؛ وحدثه أبو إسحق الفزاري حديثًا، فقال أبو حنيفة: هذا حديثًا خرافة؛ وحدُّثه أحدهم حديث «البَيَّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فقال أبو حنيفة: أرأيت إن كانا في سفينة؟ أرأيت إن كانا في سجن؟ أرأيت إن كانا في سفر؟».
ورُوِي له أن يهوديًا رضخ رأس جارية بين حجرين، فرضخ النبي ﷺ رأسه بين حجرين، فقال أبو حنيفة: هذا هذيان. رووا هذا وأمثاله، والظاهر منها أن أبا حنيفة كان ينكر هذه الأحاديث؛ لأنها لم تصح عنده، فشنَّع المحدِّثون عليه، وقالوا: إنه ينكر قول الرسول ويقدِّم عليه رأيه، ويقولون: ما رأينا أجرأ على الله من أبي حنيفة، كان يضرب الأمثال لحديث رسول الله، وأحصوا عليه أنه أفتى بنحو مائتي مسألة خالف فيها الحديث؛ قال رسول الله: «للفرس سهمان وللرجل سهم» فقال أبو حنيفة؛ أنا لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن؛ وقال ﷺ: «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا» وقال أبو حنيفة: إذا وجب البيع فلا خيار؛ وكان النبي ﷺ يقرع بين نسائه إذا أراد أن يخرج في سفر، وقال أبو حنيفة: القرعة قمار إلخ. ووضح في هذا كله أن الشروط الدقيقة التي اشترطها في الأخذ بالحديث خالفت بين أنظاره وأنظارهم، وجعلت الحديث يصح عندهم ولا يصح عنده، فإذا استعمل القياس لأن الحديث لم يصح عنده اتهموه بأنه يقدِّم رأيه على الحديث، وقالوا: إنه استقبل الآثار واستدبرها برأيه، إلى كثير من أمثال هذا التشنيع. وما من أحد من الأئمة إلا كان له مثل هذا الموقف حين لا يصح عنده حديث صح عند غيره فلا يأخذ به، وإن كان أبو حنيفة في ذلك أكثر، للأسباب التي أبنَّاها.
فقال له قد أجابه بعض أصحابنا:
وفضَّل شاعرٌ أهل الكوفة على أهل المدينة في الفقه فقال:
فأجابه رجل من أهل المدينة:
ومهما قيل فإن هذه الحركة القوية، وهذا النزاع الشديد بين أصحاب الرأي والحديث، رقَّى الفقه في هذا العصر رقيًا عظيمًا، وفتق الأذهان واستخرج منها أحكامًا ونظريات هي خير نتاج العصور الإسلامية.
•••
أتى بعد أبي حنيفة تلاميذه، فجدُّوا في المحافظة على مذهبه بتدوينه والاستدلال له، وترتيب مسائله وتوسيعها، كما أتيح لبعضهم فرصة رياسة القضاة فقوَّى مذهبه وبثَّه وأيَّده، وكان من أشهر هؤلاء التلاميذ أبو يوسف ومحمد وزفر، ويطول بنا القول لو استقصينا أخبارهم وآراءهم، فنكتفي في ذلك بلمحة يسيرة.
- (١)
أنه تولَّى القضاء عهدًا طويلًا، وفي هذا فائدة للفقه كبيرة؛ ففي القضاء امتحان للنظريات العلمية وصهر لها في بوتقة العمل، ومواجهة لمشاكل عملية لا يدركها مَنْ اقتصر على النظر، ومقابلة الصعاب في طرق المرافعات، ممَنْ له البينة، ومَنْ عليه اليمين ونحو ذلك، لا يفكر فيها كثيرًا مَنْ يُسْتَفْتَى أو يؤلف الكتب. فلهذا كان أبو يوسف منظمًا لمذهب أبي حنيفة ومغذيًا له بالطرق العلمية، ومن أجل هذا قال الحنفية: إنه يُعْمَل بقول أبي يوسف في باب القضاء، أضف إلى هذا أن أبا يوسف في مثل مركزه يستطيع أن يعرف شئون الدولة ومناحيها في التفكير والعمل، وما يعرض لها من مشاكل وكيفتُحل ما لا يعرفه غيره، وكل هذا يكسبه نظرًا جديدًا ورأيًا في مسائل لا يراها مَنْ يقيس أو يستحسن بين جدران أربعة أو حلقة المسجد.
- (٢)
تولَّى قضاء بغداد وكان من يتولاه يكون قاضي القضاة، فله نوع إشراف على سائر القضاة، وفي هذا تمكين لمذهب أبي حنيفة ونشر له ولمبادئه.
- (٣) كان أبو يوسف أوسع اتصالًا بالمحدِّثين وأكثر رواية للحديث عنهم؛ قال ابن جرير الطبري: (كان أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي فقيهًا عالمًا حافظًا، ُذكِرَ أنه كان يُعْرَفُ بحفظ الحديث، وأنه كان يحضر المحدِّث فيحفظ خمسين أو ستين حديثًا ثم يقوم ويمليها على الناس، وكان كثير الحديث، وكان قد جالس محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ثم جالس أبا حنيفة، وكان الغالب عليه مذهب أبي حنيفة، وكان ربما خالفه أحيانًا في المسألة بعد المسألة».٥١ وقد رحل إلى المدينة ولقي مالكا وناظره وأخذ عنه، ورجع عن بعض آرائه إلى قول مالك وأقوال الحجازيين؛ ومع هذا فقد رضي عنه بعض المحدِّثين كابن مَعِين وابن حنبل، ولم يرضَ عنه أكثرهم، فلم يروِ عنه شيئًا أحد من أصحاب كتب الحديث الستة؛ قال ابن عبد البر: «كان ابن معين يثني عليه ويوثِّقه، وأمَّا سائر الحديث فهم كأعداء لأبي حنيفة وأصحابه».٥٢ على كل حال سهَّل له اتصاله بالمحدِّثين سبيل تقوية مذهب أبي حنيفة بالحديث أيضًا، وتطعيم المذهب ببعض آراء الحجازيين، وبمخالفة أبي حنيفة إلى ما صحَّ عنده من حديث أحيانًا.
- (٤) بما ألَّف في الفقه، فقد روى ابن النديم أنه ألَّف كتاب الصلاة — كتاب الزكاة — كتاب الصيام — كتاب الفرائض — كتاب البيوع — كتاب الحدود — كتاب الوكالة — كتاب الوصايا — كتاب الصيد والذبائح — كتاب الغصب والاستبراء — كتاب اختلاف الأمصار — كتاب الرد على مالك بن أنس — كتاب رسالة في الخراج إلى الرشيد — كتاب الجوامع، ألَّفه ليحيى بن خالد (البرمكي)، يحتوي على أربعين كتابًا، ذكر فيه اختلاف الناس والرأي المأخوذ به، أمالٍ أملاها، رواها بشر بن الوليد القاضي، يحتوي على ستة وثلاثين كتابًا ممَّا فرَّعه أبو يوسف.٥٣
والذي بقي لنا من ذلك كله كتاب الخراج، وأقوال نقلها عنه الفقهاء من بعده، وأبواب نقلها عنه الشافعي في الأم.
ونجد في كتاب الخراج مصداق كل ما ذكرناه عن أبي يوسف، فهو يتعرض لأمور من أهم شئون الدولة المالية، لا يستطيع الإلمام بها والوقوف على دقائقها إلا مَنْ كان في مثل منصبه واتصاله بالخلفاء ومهام الدولة؛ وهو واسع الاطلاع في الحديث، كثير الأخذ عن الشيوخ في مختلف الأمصار، ومختلف الاتجاهات؛ فهو يروي عن «بعض أشياخنا الكوفيين» و«عن بعض أشياخنا من أهل المدينة»، وعن أبي حنيفة، وعن مالك بن أنس، وعن الليث بن سعد، وعن عشرات غيرهم؛ وهو واسع الاطلاع على أقوال الصحابة وأعمالهم، ويتجلى في كتاب الخراج وقوفه على تصرفات عمر بن الخطاب؛ لأنه كان العُمْدَة في هذا الباب؛ إذ إن عمر واجه هذه المشاكل المالية عند فتحه لبلاد الفرس والروم، وسنَّ لمَنْ بعده ما يحتذونه، وقد ورد اسمه في كتاب الخراج نحو ١٢٣ مرة.
•••
(٢) مالك ومدرسته
وقد تزيَّدَ بعضهم في أخباره، كما فعل الحنفية وغيرهم، فزعموا أن أمه حملت به ثلاث سنين (ولا أدري قيمة هذا في فضل الرجل)، ورووا أن النبي ﷺ قال: «يخرج الناس المشرق والمغرب فلا يجدون عالمًا أعلم من أهل المدينة». إلخ.
ولسنا نعرف كثيرًا عن نشأته الأولى، ودراسته العلمية في صباه، وقد ذكروا أنه أخذ القراءة عن نافع بن أبي نعيم، وسمع الحديث من كثير من شيوخ المدينة أشهرهم ابن شهاب الزهري، ونافع مولى ابن عمر، فابن شهاب الزهري أحد الفقهاء والمحدِّثين، وكان من أعلم الناس في زمنه بالسٌنَّة؛ وقد روى عنه مالك في الموطأ (في بعض نسخ الموطأ) مائة واثنين وثلاثين حديثًا، ونافع مولى عبد الله بن عمر أصله من الديلم، أصابه عبد الله بن عمر في غزوة غزاها فأسلم وأخذ عن ابن عمر حديثه، وكان من أشهر علماء المدينة. وقد روى عنه مالك في الموطأ ثمانين حديثًا كما أخذ عن هشام بن عروة بن الزبير، وقد روى عنه في الموطأ ستة وخمسين حديثًا، وهكذا لقي شيوخًا كثيرين وخاصة شيوخ المدينة، وأخذ عنهم.
كما رُوِي عنه أنه سُئِلَ عن البغاة (يعني العصاة الخارجين على الخلفاء) أيجوز قتالهم؟ فقال: إن خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز، فقال: فإن لم يكن مثله؟ فقال: دعهم ينتقم الله من ظالم بظالم، ثم ينتقم من كليهما، فكانت هذه الكلمة من أسباب محنته.
على كل حال تتفق الروايتان في ضربه، وفي الأصل السبب، وتختلف في التفاصيل. وقد روينا قبل عن أبي حنيفة مثل هذا الموقف، وزيد عليه طلبه للقضاء وإباؤه؛ فلعل رأي أبي حنيفة ومالك كان متفقًا، وسياسة المنصور في الحالين واحدة.
•••
تركَّزت مدرسة المدينة في مالك كما تركَّزت مدرسة الكوفة في أبي حنيفة، فإن أردنا تصوير مدرسة المدينة كما فعلنا بمدرسة الكوفة فليكن هكذا:
بعضهم يعدُّ من الفقهاء السبعة أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي المتوفى سنة ٩٤، ويضعه بدل سالم بن عبد الله بن عمر.
وكان طبيعيًا كذلك أن تكون المسائل التي تعرض لفقهاء المدينة أقل عددًا؛ لتحرج المدنيين من الفتوى إذا قيسوا بالعراقيين، ولأن المشاكل القانونية والمسائل الفقهية تدور مع المدنية، ولأن المدينة كانت أقرب إلى بساطة العيش وأبعد عن تعقيدات الحضارة، وكان ما أُثِرَ عندهم من حديث كثير كافيًا في أغلب الأحيان كل ما يعرض من إشكال.
ومن هذا نرى أن هذين الأصلين، أعني عمل أهل المدينة وقول الصحابي، قد غذَّيا مالك بآثار كثيرة كان من شأنها تضييق دائرة الرأي؛ ومع هذا فلم ينكر مالك الرأي بتاتًا، فمن أصول مذهبه القول بالمصالح المرسلة أو الاستصلاح، وقد تقدَّم الكلام فيه، ومن هذا القبيل ما قاله من الضرب عند التهمة للاعتراف بالسرقة، ورويت عنه أقوال دليلها الاستحسان، كتضمين الصُناع وثبوت الشفعة في بيع الثمار. فمن هذا نرى أن مسالك الأئمة من أصحاب الرأي وأصحاب الحديث، تكاد تكون واحدة في العدد، ولكن الاختلاف إنما هو في سعة الدوائر وضيقها، فإن ضاقت دائرة الحديث واتسعت دائرة الرأي عند الأولين كان الأمر على العكس عند الآخرين، أمَّا عدد الدوائر نفسها فتكاد تكون واحدة.
•••
أكبر آثار مالك التي نُقِلتَ إلينا «الموَطّأ» و«المدونَّة».
وطريقته في التأليف أن يذكر الأحاديث المتعلقة بالموضوع الواحد، وقد يعقب الحديث بتفسير كلمة لغوية فيه، وأحيانًا يعقبه بأنه سُئِلَ في كذا فأجاب بكذا استنادًا إلى آية أو حديث أو قياس؛ «سُئِلَ مالك عن الحائض تطهر فلا تجد ماءً، هل تتيمم؟ قال: نعم، لتتيمم فإن مثلها الجنب إذا لم يجد ماءً تيمم». وأحيانًا يعقبه بتفريع مسائل وذكر حكمها، كأن يقول بعد أحاديث السرقة: «وليس على الأجير ولا على الرجل يكونان مع القوم (السارقين) قَطع؛ لأن حالهما ليست بحال السارق، وإنما حالهما حال الخائن، وليس على الخائن قطع …» «والأمر عندنا في السارق يوجد في البيت قد جمع المتاع ولم يخرج به أنه ليس عليه قَطْع، وإنما مَثل ذلك كمثل رجل وضع بين يديه خمرًا ليشربها فلم يفعل فليس عليه حَدّ»، وأحيانًا لا يبدأ بالحديث، بل يذكر المسألة ويذكر حكمها ودليله على هذا الحكم، وأحيانًا يذكر في المسألة حكم علماء المدينة، فيقول: «الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا كذا»، إلخ، إلخ.. فهو لهذا كله كتاب حديث وفقه معًا.
وعلى كل حال فكتاب الموطأ يُعَدّ من أوائل الكتب التي أُلِّفت في الحديث والفقه، وقد نشره الآخذون عن مالك في الأمصار، فمحمد بن الحسن في العراق، ويحيى بن يحيى الليثي في الأندلس، وعبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم، وعبد الله بن عبد الحكم وأشهب في مصر، وأسد بن الفرات في القيروان إلخ وكان له أثر كبير في الحركة العلمية الدينية على اختلاف العصور.
فالمدونة كما ترى متأثرة بالعراقيين في تفريع المسائل وتوليدها، وبالحجازيين في تطبيق مذهب مالك عليها، ومن هذا ترى كيف كان الزمن والرجال والرحلات تعمل على استفادة كل مذهب بما للآخر، فالمدونة ليست إذن من تأليف مالك، وإنما هي جمع لفتاوى مالك في مسائل، واجتهاد من تلاميذه وتلاميذ تلاميذه في وضع أحكام لمسائل على قواعده ومبادئه.
وقد كان لمالك أصحاب أكثر عظمائهم مصريون كعبد الله بن وهب وابن القاسم وأشهب وعبد الله بن الحكم، ومن عظمائهم أندلسي كبير، وهو يحيى بن يحيى الليثي.
•••
وعلى الجملة فإن كانت مدرسة أبي حنيفة قد وسَّعت الفقه بكثرة الفروع، وبما يستلزمه ذلك من رأي وقياس واستحسان، وبمواجهة المشاكل المعقَّدة التي قدَّمتها لها المدنية الضخمة، والتي قدَّمتها لها بقايا الأمم الممدنة في العراق من آشوريين وكلدانيين وفرس وغيرهم، فإن مدرسة مالك قد أثرت في الفقه بما نقلت من أحاديث كانت وافرة فيها بحكم قيام الرسالة فيها، وكثرة الصحابة بها، وبما قدَّمت من أشكال أوضاع تداولها سكان المدينة جيلًا عن جيل، وأهل المدينة في ذلك أوثق؛ فقد شهد الأولون منهم النبي يتوضأ على نحو خاص، ويصلي على نحو خاص، وعرفوا مقدار المكاييل والموازين التي كانت تُستَعَمَلُ لعهده، فنقلوا ذلك كله إلى مَنْ بعدهم من طريق الأخبار أحيانًا، ومن طريق التوريث أحيانًا أخرى، وتسلسل ذلك إلى مالك ومدرسته؛ ثم كان من أصحاب الذهبيين مَنْ ينتفع بمزايا كل، فيرحل محمد بن الحسن الحنفي إلى المدينة يمكث فيها ثلاث سنين ويروي الموطأ، ويعود إلى العراق مزودًا بالآثار، ويذهب أسد ابن الفرات ويمكث في العراق طويلًا، ويعود إلى مصر والقيروان مزودًا بكثرة الفروع، وبذلك وأمثاله تأثرت المدرستان، وتقارب المذهبان.
(٣) الشافعى ومدرسته
وهذه الوصايا تدل على أن حالته المالية في مصر كانت لا بأس بها، وإن لم تبلغ درجة الغنى.
وأما صفاته العقلية واللسانية فيكاد المؤرخون يجمعون على عذوبة منطقه، وحسن بيانه وذكائه، وقدرته الفائقة على الجدل، وقوته في التفكير، ومهارته في الاستنباط.
إذن ثقافته ثقافة في اللغة والأدب واسعة، وثقافة في الحديث، رحل في طلبه إلى بلاد كثيرة، وثقافة في الفقه على نمط مدرسة الحجاز، وثقافة في الرأي على نمط مدرسة العراق، وثقافة اجتماعية من مشاهدته لحياة البدو في البادية، والحضارة الأولية في الحجاز واليمن، والحضارة المعقدة المركبة في العراق ومصر، وحياة الفقراء من البدو والزُهَّاد من المحدِّثين، ومَنْ أخذوا بحظهم من الدنيا كمحمد بن الحسن الشيباني في العراق، وابن عبد الحكم في مصر، ورؤية لأنماط من الحياة الاجتماعية والاقتصادية مختلفة، تتطلب أنواعًا من التشريع مختلفة، فالمصريون يتعاملون أنواعًا من المعاملات لا يتعاملها أهل العراق، والمصريون والعراقيون يشتركون أحيانًا فيما لا يشترك معهم فيه الحجازيون، ونظام الري للنيل في مصر غير نظام دجلة والفرات في العراق، وذلك يستتبع اختلافًا في الخراج وما إليه، وكلاهما يختلف في ذلك عن بلاد لا تعرف أنهارًا كالحجاز؛ كل هذا وأمثاله كان له أثر كبير في تكوين مذهب الشافعي، فإن نحن أردنا أن نخطط رسمًا بيانيًا لمدرسته كما فعلنا من قبل كان هذا يسيرًا سهلًا:
وكان الشافعي في أول أمره يَعُدُ نفسه تلميذًا لمالك، ومتبعًا لمذهبه وتعاليمه وأحد رجاله مدرسته، وما زال كذلك إلى سنة ١٩٥ حيث قدم بغداد قدمته الثانية، فهناك بلغ مبلغ مؤسس مذهب يدعو إليه، والظاهر أن أقوى ما أثر فيه اتصاله في قدمته الأولى بأصحاب أبي حنيفة واستفادته من كتب محمد وعلمه بطريقة أهل العراق، فقد رأى من غير شك أن طريقتهم لا يحسن أخذها كلها، ولا تركها كلها، فعندهم القياس وهو منهج صحيح، ولكنه في نظره ليس على إطلاقه بل لابد أن يتأخر عن الأحاديث الصحيحة حتى ما كان منها خبر آحاد، وعندهم طريقة التفريع، وتوليد المسائل الكثيرة من أصولها، وهي طريقة جيدة، وعندهم الجدل والاستدلال بالعدالة والمصلحة، وإلحاق الشبيه بالشبيه، وما بين الأشياء من فروق وموافقات، والمناظرة في ذلك وتأليف الحجج، وقد رأى ذلك حسنًا، ورأى نفسه في استعداد جيد للدخول في هذا الباب والتفوق فيه، فاقتبس من ذلك أحسنه وأضافه إلى ثروته الحجازية من اللغة والأدب أولًا، والحديث وإجماع أهل المدينة وطريقة الحجازيين في الاستنباط ثانيًا.
هاتان الناحيتان قد استفاد منهما الشافعي، وألَّف بينهما بشخصيته، فأخرج مذهبًا جديدًا دعا إليه في العراق سنة ١٩٥، وتبعه عليه بعض أصحابه البغداديين مثل أبي عليّ الحسين بن علي الكرابيسي، وكان من مشاهير علماء العراق، وله مصنفات كثيرة مات سنة ٢٥٦؛ ومثل أبي ثور الكلبي، وقد صحب الشافعي في بغداد وأخذ عنه، وألَّف في مسائل الاختلاف بين مالك والشافعي، وكان أميل إلى الشافعي في كتبه؛ وكأبي علي الزعفراني، كان يقرأ كتب الشافعي التي ألَّفها قبل قدومه مصر. ولكن يظهر أن الشافعي لم يجد لمذهبه في العراق نجاحًا كبيرًا لمزاحمة الحنفية له، ولِمَا لهم من جاه وسلطان وقوة، فتحوَّل إلى مصر. قال الزعفراني: لمَّا أراد الشافعي الخروج إلى مصر أنشد لنفسه:
أظهر مزايا الشافعي أنه على أثر ما رأى من صور مختلفة للتشريع، وتباين بين نمط الحجازيين والعراقيين، وما كان له من الجدل ومناظرات بين هؤلاء وهؤلاء، عمد إلى أن يحدد موقفه تحديدًا دقيقًا أمام هؤلاء وهؤلاء، رأى موقف الحجازيين إزاء الحديث غير موقف العراقيين، فسأل نفسه: ما موقفه، ورأى موقف الحجازيين إزاء القياس والاستحسان غير موقف العراقيين، فأراد أن يتعرف موقفه في ذلك؛ ورأى مثل هذا في إجماع أهل المدينة وإجماع العلماء عامة، فحاول أن يضبط ذلك؛ كل هذا نقله من الفروع إلى الأصول، وهذه من غير شك خطوة جديدة في التفكير، فإذا فرغ من وضع خطة في أصل هاجم مخالفها، لا فرق عنده بين أن يكون مخالفه حجازيًا أو عراقيًا، ولا فرق بين أن يكون أستاذه الذي أخذ عنه العلم، أو إنسانًا لا يعرفه.
ولنسق لذلك بعض الأمثلة، فقد فكر في الحديث ورأى نفسه أمام جماعة ينكرون الأخذ بالحديث بتاتًا، وجماعة يعملون به بشروط طويلة، وجماعة يعملون به في سهولة، فوضع له خطة خلاصتها: أنه إذا حدَّث ثقة عن ثقة عن رسول الله ولم يكن هناك حديث يخالفه عُمِلَ به، فإذا كانت هناك أحاديث مختلفة نظر: هل فيها ناسخ ومنسوخ، كأن يتأخر أحدها في الزمن، ويثبت بدليلٍ أن الحديث الأخير نسخ ما قبله فيُعْمَلُ بالناسخ، فإن لم يكن ناسخ ولا منسوخ نظر في أوثق الروايات وأمعنها في الصحة فعمل بها، فإن تكافأت عرضها على أصول القرآن والسنة الثابتة وعمل بما كان من الأحاديث أقرب إلى ذلك؛ وإذا ثبت الحديث عن رسول الله لا يترك هذا الحديث لأي قياس ولا لأي رأي، ولا لأي أثر يُروى عن صحابي كائنًا مَنْ كان، أو تابعي كائنًا مَنْ كان.
وهو على هذا الأساس قد أنكر الاستحسان وهاجم القائلين به، ويظهر من مجموع قوله أنه يعني بالاستحسان مجرد الرأي من غير أن يكون مستندًا إلى أصل شرعي، وشبَّه المُسْتَحْسِن في أثناء كلامه بالتاجر يقدر للشيء ثمنًا من غير أن يدخل السوق ويعرف أسعار اليوم. فتقديره لا ينبني على أساس، كذلك الفقيه يستحسن من غير أن يرجع في استحسانه إلى أصول الشريعة، ولذلك هاجم مالكًا في قوله بالمصالح المرسلة، وهاجم الحنفية في قولهم بالاستحسان.
وقد خطا بكتابه خطوات في الفقه من حيث وضع القواعد للمجتهد وإلزامه الأخذ بها أو بنظائرها، حتى لا يأتي اجتهاده متناقضًا، يومًا يستدل بالعام ويومًا يقول إن دلالته ظنية، ويومًا يستدل بالخاص ويومًا يقول يحتمل أنه خصوصية إلخ، ولا يخفى ما يترتب على وضع هذه المبادئ من انتظام سير الفقه وتوحيد مجاريه، وعدم الاضطراب في التفريع.
على كل حال بين أيدينا مجموعة في سبعة أجزاء أغلبها من كلام الشافعي رواها عنه تلميذه وأدخل فيها بعض تعليقات أفردَها وبيَّنها حتى لا تلتبس بكلام الشافعي، ومجموع ذلك هو الذي أطلق عليه «كتاب الأم»؛ وقد بُوِّب على أبواب الفقه كما فعل مالك في الموطأ، ولكن فيه فصول في أصول الفقه كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
وقد أُمْلِيتَ هذه الأبواب في مصر، والعلماء يقسَّمون فقه الشافعي إلى مذهبين: قديم وجديد. فأمَّا القديم فهو ما كتبه وقال به في العراق، وأمَّا الجديد فهو ما كتبه وقال به في مصر؛ ذلك أنه لمَّا جاء مصر عدل عن بعض أقواله له كان قالها من قبل، وسببه أنه خالط علماء مصر، وسمع ما صح عندهم من حديث وسمع تلاميذ الليث بن سعد ينقلون عنه آراءه وفقهه، ورأى بعض حالات اجتماعية تخالف تلك التي رآها في الحجاز والعراق؛ فغيَّر ذلك من فقه الشافعي في بعض أقواله، وأطلق عليه المذهب الجديد.
وفي «الأم» مصداق لجميع ما ذكرنا عن الشافعي، فهو فيه فصيح العبارة، قوي الأداء، تشوب عبارته بلاغة البادية وفصاحتها، وقوة القرشية وإيجازها، أخذ عليه بعض المتعقبين له أشياء عدوها غلطًا كقوله: ماء عذب، وماء مالح بدل ملح، وقول: الطهور هو المطِّهر، مع أن الطهور هو الطاهر على سبيل المبالغة، وقوله: وليست الأذنان من الوجه فيغسلان بدل فيغسلا، إلى أمثال ذلك؛ وهي في الحقيقة ليست أخطاء بل أجازها اللغويون والنحويون. وعلى كل حال فليس يستطيع أن ينكر أحد ما في عبارة الشافعي من دقة وقوة وبلاغة.
وعلى الجملة فالكتاب ثروة كبيرة من حيث دلالته على مناحي الشافعي في الاجتهاد، وعلى فقهه وعلى ما كان من أثر مصر في القول بالمذهب الجديد.. إلخ.
•••
ويظهر أنه امْتُحِنَ في مسألة خلق القرآن فقال كلامًا نجا به من الاضطهاد، فشنَّع عليه أعداؤه من المصريين حتى قلَّ الناس في حلقته، ثم زال ما في نفوسهم منه وعظمت حلقته حتى أخذت أكثر الجامع، وهو أكثر مَنْ دوَّن فقه الشافعي، وألَّف فيه الكتب الكثيرة، منها المختصر المطبوع على هامش الأم، وانتشرت كتبه ومختصراته في الأقطار فخدمت مذهب الشافعي، مات سنة ٢٦٤.
وعلى الجملة فقد كان البويطي أفقه، والمزني أفصح وأمهر وأذكى، والمرادي أروى ولكلٍ فضل.
ومما يلاحظ أن أصحاب الشافعي لم يكونوا يخالفونه كثيرًا، كما كان أصحاب أبي حنيفة يخالفونه، فالمسائل التي خالف فيها أصحاب الشافعي إمامهم تكاد تكون معدودة وكثير منها تخرج على أصوله، وهذا بخلاف أصحاب أبي حنيفة، فقد خالفه أبو يوسف ومحمد وزفر في الأصول والفروع، وهذا يرجع — فيما أرى — إلى سببين: الأول أن مذهب أبي حنيفة لم يقيده أبو حنيفة، وإنما قيَّده ورتَّبه أصحابه، وله العذر في ذلك فقد أزهر أبو حنيفة قبيل عصر التدوين، وكان السابق والمبتكر في صبغ الفقه صبغته الجديدة، وترك لتلاميذه تدوينه، وهذا يجعل أصحابه في حل المخالفة عند مقارنة المسائل بعضها ببعض، وتطبيقها على الأصول، والسبب الثاني أن مذهب أبي حنيفة — كما علمنا — أميل إلى الرأي من مذهب الشافعي، والرأي يمنح أصحابه حرية لا تكون لأصحاب الحديث ومَنْ نحا منحاهم ومَنْ قرب منهم.
•••
ويطول بنا القول على هذا النمط في ترجمة أصحاب المذاهب الثلاثة عشر الذين عددناهم قبل، ويحتاج ذلك إلى كتاب مستقل، فنكتفي بهؤلاء الذين ذكرنا إذ كانوا يمثلون المناحي المختلفة في التشريع، ولكن لا بأس من أن نلم إلمامًا خفيفًا ببعض مَنْ كان لهم أثر كبير أو لون مختلف في الفقه فمنهم
ولا خلاف في عدَّه من كبار المحدِّثين، ولكن الخلاف في عدِّه من الفقهاء؛ فابن جرير الطبري لم يعدّ مذهبه في الخلاف بين الفقهاء، وكان يقول إنما هو رجل حديث لا رجل فقه، وثارت عليه الحنابلة من أجل ذلك، ولم يذكره ابن قتيبة في كتابه «المعارف» بين الفقهاء، وذكره المقدسي في المحدِّثين لا في الفقهاء، واقتصر ابن عبد البر في كتابه الانتقاء على الأئمة الثلاثة، أبي حنيفة ومالك والشافعي، وخالفهم في ذلك غيرهم وخاصة المتأخرين.
فإن نحن نظرنا من ناحية النظريات القانونية ونظمها ورقيها، وجدنا ابن حنبل أكبر أثرًا في الحديث منه في الفقه.
وممَنْ له لون خاص في التشريع داود بن علي الأصبهاني، المعروف بداود الظاهري؛ وُلِدَ بالكوفة نحو سنة ٢٠٠، ونشأ ببغداد وتوفي بها سنة ٢٧٠، درس مذهب الشافعي وتعصَّب له وألَّضف في مناقبه، ثم استقل بمذهب يُعْرَفُ بمذهب الظاهرية، وتبعه كثير من الناس خصوصًا في فارس والأندلس.
وموقفه في الفقه موقف النقيض من الحنفية، ينكر القياس، ويرى أن في القرآن والحديث وعموماتهما ما يكفي لبيان الأحكام؛ فهو يتمسك بظاهر الكتاب والسنة، ومن هذا اشتق اسم الظاهرية، ويرى أن القول بالقياس تشريع عقلي، والدين إلهي، ولو كان الدين بالعقل لجرت أحكام على خلاف ما أتى به الكتاب والسنة، فوجب أن تتقيد بهما بل بظاهرهما ولا نبيح القياس إذا ورد نص بتحريم أو تحليل وبُيِّن فيه علته، فحينئذ يجوز لنا أن نشرك في الحكم الأشياء التي لم ينص عليها ولكن تتحد في العلة؛ أمَّا إذا لم ينص على العلة، فليس للمجتهد أن يقول بها من عنده ثم يقيس عليها، فالله تعالى يقول:وما اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إَِلى اللهِ ولم يقل إلى الرأي والقياس. وقد هاجم القياسيين، وبيَّن ما ألجأهم إليه القياس من خطأ في الأحكام، وأداء هذا المنحى إلى مخالفة المذاهب الأخرى في كثير من المسائل.
وعلى الجملة فقد كان مجال التشريع عندهم أضيق من غيرهم؛ لأن أكبر منحى للاجتهاد هو القياس وقد أنكروه.
كذلك مما لا يسعنا إغفاله ما للشيعة والخوارج من فقه، وسنتكلم في فقههما عند الكلام في عقائدهما إن شاء الله.
•••
- (١)
كان هذا العصر الذي نؤرخه أكثر عصور الإسلام نشاطًا في التشريع وأكثر عددًا من الفقهاء المجتهدين، كل ما كان فيه من وئام وخصام سَّبَب صهر المسائل الفقهية، والجد في تجريدها وتصفيتها، وكان العلماء أحرارًا ولا تُحْجَرُ على حريتهم في الاجتهاد والتفكير ما داموا بعيدين عن مسائل الخلافة وما إليها، فلهم أن يجتهدوا في غيرها ما شاءوا، ولهم أن يستنتجوا الأحكام من الكتاب والسنة أو القياس ما شاءوا، لا تتعرض ل مَنْ وسَّع على نفسه فاستعمل الرأي إلى غاية مداه، كما لا تتعرض ل مَنْ ضيَّق على نفسه فالتزم الأحكام من الكتاب والسنة وحدهما؛ ولم تلتزم الحكومة قانونًا بعينه تفرضه على الدولة كلها، ولا مذهبًا معينًا تفرضه على الأمصار فرضًا، بل اختارت القضاة من مناحٍ مختلفة في الاجتهاد، وتركت لهم الحرية في الأحكام على حسب اجتهادهم، فربما حُكِمَ في المسألة بحكمين مختلفين في مصرين مختلفين، بل ربما حُكِمَ بحكمين مختلفين في بلد واحد إذا كان لهما قاضيان، كما ذكر ابن المقفع، ولم تتدخل الحكومة في حسم الخلاف وتوحيد القضاء ولا في عاصمتها نفسها، وأمَّا مَنْ عدا القضاة من الفقهاء المجتهدين فحريتهم في التشريع أظهر.
وكما كثر الفقهاء والمشرعون وكثر اجتهادهم، كثرت المسائل القانونية، وأحكام الجزئيات كثرة لا يقاس بها ما كانت عليه قبل هذا العصر، فُفرِّعت الفروع، وفُرِضت الفروض، ووضع لها الأحكام، وعرضت كل العادات والتقاليد والعرف في الأمصار المختلفة في عراق وحجاز وشام ومصر على الفقه، وواجهها الفقهاء وشرعوا لها الأحكام، أو أقروها على ما هي عليه إذا لم تصطدم بنص، وتوسعوا في بابي الإجماع والقياس، حتى دخلت منهما العادات العراقية والشامية والمصرية، وأقرّتَ على ما هي عليه أحيانًا، وعدِّلت إذا خالفت أصول الإسلام وأصبحت جزءًا من الفقه الإسلامي.
وقد كان لكل أمة عرف وعادات في بيعها وشرائها وفي لغتها، ودلالة ألفاظها على معانيها، وفي الزواج وما يكون جهازًا وما لا يكون، وفي الأراضي هل يدفع العشر المؤجر أو المستأجر إلخ، وكل هذه العادات عرضت على الأئمة فأدخلوها في الفقه وكانت من أكبر مصادره، لأن كثيرًا من عادات الأمم لم تعرف في عهد النبي ﷺ فلم يرد فيها نص من كتاب ولا سنة، ورجوع الناس عن عاداتهم التي جروا عليها أجيالًا ليس بالأمر الهين؛ لذلك أجاز الفقهاء الكثير منها وأقروها وعدُّوها إسلامية، وكان هذا سببًا من أسباب تضخم الفقه.
-
(٢)
كان المسلمون قبل هذا العصر، وفي أول العصر لا ينحازون إلى مذاهب، بل المسلم أحد رجلين، أمَّا عالم مجتهد فهو يدرس ويجتهد لنفسه في تعرُّف الأحكام ويعلِّم ذلك لتلاميذه، وأمَّا عامي أو شبه عامي إذا عرضت له مسالة استفتى فيها مَنْ صادفه من المجتهدين كائنًا مَنْ كان فيعمل بما يفتيه، والمجتهدون كثيرون مختلفون، فلمَّا تقدم الزمن في العصر العباسي رأينا المذاهب تتبلور، ولكنها مع تبلورها كثيرة، اشتهر منها ثلاثة عشر مذهبًا أو يزيد، ورأينا الكتب توضع في كل مذهب، ورأينا الناس ينحازون إلى هذه المذاهب، ثم رأينا بعض المذاهب يقدر لها الانقراض فيفنى أصحابها، أو يقل أتباعها، وبعضها يقدر له البقاء والنماء، حتى يصبح بعد عصرنا هذا والمذاهب أربعة فقط حنفي ومالكي وشافعي وحنبلي، هذا عدا الشيعة والخوارج، وإذا بالناس ينحازون إلى هذه المذاهب لا إلى غيرها، وتنقسم البلاد هذه المذاهب، فيسود كل مذهب قطرًا، وتقل بجانبه المذاهب الأخرى (كما سيأتي بيانه في حينه)، وإذا عرض لعامي أمر استفتى فيه علماء مذهبه غالبًا، وتعبَّدَ عليه في الصلاة والزكاة والصيام والحج، وسار في الزواج والطلاق على مذهب إمامه.
-
(٣)
إذا تتبعنا ما كان بين مدرسة الرأي ومدرسة القياس، ونظرنا إلى الفقهاء من حيث مقدار حريتهم في الرأي، وأردنا أن نضع لهم قائمة تبين درجتهم في ذلك، وجدنا أن أول القائمة طائفة رأت عدم العمل بالحديث والاكتفاء بالقرآن، قالوا: لأنكم تروون الحديث عن رجل آخر، وليس أحد إلا وهو عرضة للخطأ أو النسيان، فلسنا نقبل منها شيئًا إذ كانت عرضة للوهم، ولا نقبل إلا كتاب الله الذي لا يسع أحدًا الشك في حرف منه،١١٤ وقد حكى الشافعي في الأم عنهم أنهم انقسموا قسمين، قسم قالوا: ما لم يكن فيه كتاب الله فليس على أحد فيه فرض، وقسم قالوا: يقبل الحديث إذا كان فيه قرآن.١١٥
ومثل هؤلاء القوم يصح أن يوضعوا في أعلى قائمة الحرية إذا كان مذهبهم أن نلتزم فقط ما جاء في القرآن، أمَّا ما عداه فنعمل فيه بالرأي والعدالة، وهذا هو الأقرب من قولهم، كما يصح أن يوضعوا في أسفل القائمة حتى بعد الظاهرية إن قالوا لا نعمل إلا بما ورد في كتاب الله، ومما يؤسف له أنا لم نجد نصًا صريحًا يعين اتجاه مذهبهم فإن كانوا قد ذهبوا إلى الاتجاه الأول كانوا — من غير شك — أكثر الفقهاء حرية لأنهم لا يلتزمون إلا ما ورد في الكتاب من أحكام، أمَّا ما عدا ذلك فهم أحرار في استعمال الرأي فيه؛ كما أنه مما يؤسف له أنا لا نعلم لذلك زعيمًا دعا إلى هذا الرأي ووضع له قواعده وأصوله وفرَّع عليه، بل لم يسمَّ الشافعي في الأم اسم مَنْ ذهب هذا المذهب.
يلي هؤلاء — إن كان مذهبهم كما فسرنا — مذهب أبي حنيفة؛ فقد قيَّد الحديث الذي يُعْمَلُ به وضيَّق دائرته ووسَّع القياس، ثم الشافعي فقد وسَّع الحديث وقلَّل دائرة القياس، ثم مالك فلم يتوسع في القياس كما توسَّع الشافعي، ثم أحمد بن حنبل فقد أبى استعمال القياس إلا عند الضرورة القصوى، وفضَّل عليه الحديث الضعيف، ثم داود الظاهري فقد أنكر القياس إلا ما نص فيه على العلة.
والذي يستعرض هذه الآراء يرى أن دائرة الحرية التي كان يسبح فيها مذهب أبي حنيفة أخذت في الضيق، حتى أن تلاميذه أنفسهم كأبي يوسف ومحمد كانا من عوامل هذا التضييق؛ فقد أخذا من مدرسة الحجاز حديثًا كثيرًا عدَّلا به مذهب أبي حنيفة وخالفا به شيخهما، ولئن أثر مذهب أبي حنيفة في المذاهب الأخرى من ناحية الرأي والقياس، فقد كان تأثير مدرسة الحديث في مذهب أبي حنيفة أقوى وأكثر. ولو فكَّر مفكر في ذلك العصر ربما توقع غلبة مذهب أبي حنيفة وسيادته على مذهب الحديث لتأييد الحكومة العباسية له بعض الشيء، ولغلبة مذهب الاعتزال نحو خمسين عامًا ختمت ببدء خلافة المتوكل، ومذهب الاعتزال هو القائل بالتحسين والتقبيح العقليين، ولظهور الفلسفة في العراق وهي أدعى إلى الحرية الفكرية، ولكن مع كل هذا كانت الغلبة في الفقه لمدرسة الحديث، والسبب في هذا — على ما يظهر — أن قوة المحدِّثين كانت أكبر وجمهور المسلمين كان لهم أنصر، وأن حركة الاعتزال وحركة الفلسفة كانتا حركتين أرستقراطيتين يعتنقهما في الغالب أرستقراطية الشعب لا جمهوره؛ ولذلك هوجم القول بخلق القرآن الذي قال به المعتزلة هجومًا عنيفًا من الشعب، ورفع جمهور الناس الذين يقفون في وجهه ويتحرجون من القول به ويتحملون العذاب في سبيله إلى درجة عليا إلى أن قضى عليه، وكذلك هوجمت الفلسفة من الشعب، ولم ينفع كثيرًا تأييد الحكومة العباسية مذهب أبي حنيفة بعض الشيء؛ لأن أكبر هذا التأييد مصدره وجود أبي يوسف على رأس القضاة، وأبو يوسف نفسه كما رأينا كان من عوامل إدخال الحديث الكثير في فقه أبي حنيفة وتعديله. لهذا كله ضاقت دائرة الرأي والقياس واتسعت دائرة الحديث، يضاف إلى ذلك أيضًا أن المحدِّثين قد نشطوا نشاطًا كثيرًا في هذا العصر، فجمعوا الأحاديث المتفرقة في الأمصار المختلفة صحيحها وضعيفها، وكثير من هذه الأحاديث تتعلق بالأحكام؛ فاضطر الفقهاء أمام هذه الأحاديث وأمام قوة المحدِّثين أن يخضعوا أنفسهم للحديث، ولهذا نرى كتب الفقه حتى كتب الحنفية تستدل على أكثر الأحكام بالحديث، وإن كان بعضها ضعيفًا، ونرى أن الفروق بين المدارس المختلفة قلّتَ، فلم تعد بين تلاميذ أبي حنيفة والشافعي ومالك فروق كالتي كانت بين مالك وأبي حنيفة أنفسهما، حتى ليظن الظان لأوَّل وهلة أن منحى التشريع عند الجمهور واحد، ولم يكن ذلك صحيحًا عند تأسيس هذه المدارس، وإنما أظهره بهذا المظهر شيء واحد: هو «غلبة رجال الحديث».