اللغة والأدب والنحو
كان العرب يسكنون الجزيرة وما حولها، وكانوا — كما أسلفنا — يعيشون قبائل، وكانت هذه القبائل تختلف في لغتها.
وهذا الخلاف قد يكون خلاف كلمات، فقبيلة تستعمل البُرَّ، وقبيلة تستعمل القمح، وحِمْيَر تستعمل كلمة «الَقيْل» لِمَا يستعمل فيه العدنانيون «اَلملِك» وهكذا.
وقد يكون الاختلاف في الحركات، فبعض القبائل كقريش تفتح حرف المضارعة فيقولون: «نَسْتعين» وبعضها كأسد تكسرها، فتقول: نِستعين.
وكذلك هناك أنواع عديدة من الاختلافات، فبعض القبائل تقول: أولئك وبعضها تقول ألالِكَ؛ وبعضهم يقول: استحيَيْتُ، وبعضهم يقول: استَحَيْتُ وبعضهم يقول: مستهزِئون، وبعضهم يقول: مسْتهزُون؛ وبعضهم يَميل في قَضَى ورَمَى ونحوهما، وبعضهم لا يُميل؛ وبعضهم يقولون: ما زيد قائم، وبعضهم ما زيد قائمًا؛ وبعضهم يقولون: هلمَّوا إلينا، وبعضهم يقول للجمع والمفرد والمثنى هلم إلينا؛ وبعضهم يقول: «صاعقة»، وبعضهم يقول فيها: «صاقعة»؛ وبعضهم يقول: هذه البقر وهذه النخل، وبعضهم يقول: هذا البقر وهذا النخل. إلى كثير من أمثال ذلك.
وكان هذا الاختلاف أيضًا أهم الأسباب في كثرة المترادفات في اللغة العربية، فإحدى القبائل تضع اسمًا لشيء، وتضع قبيلة أخرى اسمًا آخر، وقد وردت أدلة على ذلك فقالوا: — مثلًا — إن السَّكَّر اسمه المِبْرتَ بلغة اليمن.
•••
لم تكن هذه القبائل العربية في درجة واحدة من الفصاحة، فقد اشتهر بعضها بأنه أفصح من بعض، ولم تكن في درجة واحدة من السلامة، فقد سلمت بعض القبائل وحافظت على عربيتها لبعد مكانها عن الاختلاط والفساد؛ ولذلك لمَّا جاء العلماء يروون اللغة تحرََّوا، وفضَّلوا بعضًا على بعض، فاستبعدوا لغة حمير؛ لأنها تكاد تكون لغة وحدها مخالفة للغة مضر، ولأنهم خالطوا الحبشة وخالطوا اليهود وخالطوا الفرس فتأشّبتَ لغتهم، ولم يأخذوا عن القبائل التي كانت تسكن التخوم لمجاورتهم لمصر والشام وفارس والهند؛ ولهذا لم يأخذوا عن لخم وجذام وقضاعة وغسان وتغلب، ولم يأخذوا عن بني حنيفة وسكان اليمامة وثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولم يأخذوا عن الحضريين لفساد لغتهم.
هذا وقد عدُّوا قريشًا أفصح العرب، وقالوا: «أجمع علماؤنا بكلام العرب والرواة لأشعارهم، والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم أن قريشًا أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة».
كانت جزيرة العرب قبل الإسلام قليلة الاتصال بمَنْ حولها وبما حولها! وخاصة سكان أواسط الجزيرة، فلمَّا جاء الإسلام وُفتِحَت الفتوح، كان لذلك آثار في اللغة متعاكسة، فمن ناحية: انتشرت اللغة العربية في البلاد المفتوحة، في مصر والشام والعراق وفارس والسند، وأخذ أهل هذه الأمصار يتكلمون العربية شيئًا فشيئًا حتى غلبت ما عداها، فكسبت اللغة من المتكلمين بها أضعاف مَنْ كان يتكلم بها من عرب الجزيرة.
واستفادت أيضًا أن كل مصرٍ من هذه الأمصار غذَّى اللغة العربية بكلمات لم تكن تعرفها، فنباتات كل مصر وحيواناته وملابسه ونحو ذلك مما لم يكن للعرب به علم قد أخذه العرب وأدخلوه في لغتهم، وأخضعوه لأحكامها، نعم إن العرب قد لجأوا إلى التعريب حتى في الجاهلية، فاستعمل الأعشى كلمة: «شهنشاه» أي ملك الملوك، واستعمل امرؤ القيس: «السَّجَنْجَل» وهي المرآة، وكان التجار منهم يجلبون الرياش والأثاث والثياب، وصنوف البقول، وأنواع الماعون، ويجلبون أسماءها معها.
وقد اختلف علماء العربية في ذلك فقال الجوهري: «التعريب أن تتكلم العرب بالكلمة على نهجها وأسلوبها»، وتبعه الحريري في ذلك، فقال في درة الغواص: إن فتح الشين من شطرنج خطأ والصواب كسرها لتصير على وزن قِرْطَعْب وجرْدَحْل، ويريان أنه إذا نطقت العرب بكلمة لا على وزن لغتهم كخراسان وآجر لم تكن عربية بل تبقى أعجمية.
أمَّا سيبويه وجمهور أهل اللغة، فقد ذهبوا إلى أن التعريب أن تتكلم العرب بالكلمة الأعجمية مطلقًا، ولو لم تكن على وزن كلماتها.
وكان العرب إذا حوُّلوا كلمة إلى لغتهم أخضعوها لقوانين اللغة، فتتوارد عليها علامات الإعراب، وتعرَّف بأل وتضاف ويضاف إليها، وتثنى وتجمع، وُتصرف ويشتق منها. فقالوا في زنديق: زندق وتزندق، وفي طراز: طرَّز تطريزًا وهو مطرَّز ومطرَّز، ومن ديوان: ودوًّن تدوينًا، ومن نوروز: نَوْرَزَ، وفي لجام: ألجم وهو ملجم، والمصدر إلجام، وقالوا: درهَمَت الخبّازَي، أي صارت كالدراهم وقالوا: جَنَّقونا بالمنجنيق.
واستمر المعرَّبون على تعريبهم في العصر العباسي، وكان ذلك حتى في يد غير العرب، فابن المقفع في كليلة ودمنة عرَّب البازيار (مربى البزاة) وسِرجِين (الزبل) وفيج (رسول السلطان) وأساورة (جمع أسوار لمن يحسن الرمي).
والجاحظ عرَّب بعض كلمات أعجمية في كتبه كالكرابج (جمع كُربُج) وهو الحانوت؛ والنصارى النساطرة في تعريبهم استعملوا كلمات أعجمية من أسماء أمراض ونباتات وعلاج ونحوها.
وكان هذا سببًا كبيرًا من أسباب نمو اللغة العربية، يضاف إليه سبب آخر وهو تغيُّر مدلول الكلمات، فالإسلام أدخل في اللغة معاني جديدة لكلمات كثيرة كمؤمن ومسلم، وصلاة وزكاة، وركوع وسجود، فمدلول هذه الكلمات في الجاهلية غيره في الإسلام، فالصلاة التي كان مدلولها الدعاء أصبح مدلولها الحركات والسكنات بأشكال خاصة، وكذلك الزكاة كان مدلولها النماء، فأصبح مدلولها إخراج المال في حال معينة وعلى نحو خاص وهكذا.
وجدَّت مذاهب مختلفة كمعتزلة ومرجئة وخوارج إلخ، لها معانٍ خاصة، واستُعْمِلت كلمات استعمالات دارت مع الزمن كالحاجب، والديوان، والكاتب والوزير. قد كان يطلق الوزير — مثلًا — على كل ناصر ومعين، فاستعمل في معنى خاص؛ وكانت كلمة الديوان تطلق على الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجند مثلًا، ثم استعمل في المكان الذي يحفظ فيه، ثم استعملوه في مجموعة أبيات الشاعر، فقالوا: ديوان عمر بن أبي ربيعة وهكذا.
وكانت الأحداث سببًا في استعمال كلمات في معانٍ خاصة لم تكن تُسْتَعْمَلُ، فقد قال ابن دريد في الجمهرة: «ذكر بعض أهل اللغة أن كلمة الجائزة بمعنى العطية — والجمع جوائز — كلمة إسلامية، وأصلها أن أميرًا من أمراء الجيوش واقف العدو، وبينه وبينهم نهر، فقال: مَنْ جاز هذا النهر فله كذا وكذا، فكان الرجل يعبر النهر فيأخذ مالًا، فيقال: أخذ فلان جائزة؛ فسُمَّيت جوائز لذلك».
وجاءت العلوم فوضع لها العلماء مصطلحات خاصة، أخذوا أكثرها من كلمات عربية الأصل وحوَّروا مدلولها، فالعروض، والبحر الطويل، والبسيط، والمديد، والنحو، والفاعل، والمفعول، والمنطق، والقضية، والموضوع، والمحمول وأصول الفقه، والقياس، والاستحسان إلخ، كل هذه معانٍ دخلت في اللغة ومعاجمها لم يكن للعرب الأولين بها علم.
كل هذا حمل العلماء على وضع قواعد لحفظ العربية، فكان النحو وكان علم اللغة.
•••
لو فعلوا ذلك لاستفدنا فوائد كثيرة، فعرفنا كل ما يختص بالقبيلة من ألفاظها ولهجاتها، وعرفنا المترادفات ومنشأها، وعرفنا الألفاظ التي امتازت بها كل قبيلة، وعرفنا سببها إلخ، ولاستنتج الباحث من ذلك كله أشياء قيمة جدًا؛ ولكنهم لم يفعلوا وساروا في جمعهم على نظرية وحدة اللغة العربية، بقطع النظر عن اختلاف القبائل.
قد تقول إن ما تطلبه ميسور، فلدينا الشعراء، وقد عرفنا قبائلهم معرفة صحيحة فنحن نعرف مَنْ مِنْ الشعراء من تميم، ومَنْ مِنْ قريش، إلخ، فإذا جمعنا شعر الشعراء من قبيلة واحدة ودرسنا ألفاظهم ومعانيهم وتراكيبهم أمكننا أن نستنتج كل ما نريد. فأقول إن هذا صحيح إلى حدٍّ ما، ولكنه لا يكفي؛ لأن الشعر أحد المصادر، لا كلها، فهناك ألفاظ تنطق بها القبيلة ولا تدخل في شعر شعرائها، لأنها ليست من الألفاظ الشعرية، ويكاد يكون للشعر معجم خاص.
على أن هذا يسلمنا لمشكلة أخرى هي من أصعب المشاكل وأحوجها للنظر، وهي أن الشعر والأدب الذي ورد عن العرب يكاد يكون كله بلغة واحدة، فقد حدُّثونا عن عنعنة تميم (فتقول في أنّ عَنّ)، وتَلْتَلة بهراء فيقولون: (تِعلمون وتِصنعون بكسر التاء)، وكشكشة ربيعة فيقولون: (إنَّكِشْ ورأيتكشْ مكان إنكِ ورأيتكِ)، وكسكسة هوازن فيقولون: (أعطيتكسْ ومِْنكِسْ وعَْنْكسْ مكان أعطيتكِ وَمِنْكِ وعَنك). وحدثونا أن لغةً تُلزم الأسماء الخمسة الألف فنقول: هذا أباه وأخاه، وحدثونا عن أشياء كثيرة من هذا القبيل اختلف فيها قبائل العرب ويستشهدون على كل ذلك بالبيت أو البيتين أو الثلاثة، فإذا نحن عدنا إلى ما رُوِي عن هذه القبائل من شعر لم نجد لما حدَّثونا به أثرًا، فنرجع إلى شعراء تميم فلا نجد عنعنة، وإلى شعراء ربيعة فلا نجد كشكشة وهكذا، فما علة ذلك وقد كان هذا في شعر الجاهليين والإسلاميين على السواء؟
قد يقال إن الرواة غيَّروا ما ورد ونطقوا به على وفاق اللغة الفصحى، ففتحوا — مثلًا — ما ورد من التاءات المكسورة، وحوَّروا عَنّ إلى أن، وقد ورد بالفعل روايتان لقول ذي الرمة:
أَعَنْ تَرَسَّمْتَ مِنْ خَرْفَاءَ مَنزِلةً — وأأن ترسمت، وقول ابن هّوْمة: أَعَنْ تغَنَّتْ على ساقٍ مُطَوَّقَةٌ — وأََأَن تغنت.
وعلى الجملة كانت ألفاظ القرآن مادة كبيرة من مواد اللغة اجتهد العلماء في تحديد معانيها، وكانت حافزًا لهم على الرحلة والرواية لتبيين مدلولها؛ كما كانت ألفاظه سببًا في أن يجمعوا حول كل لفظة ما يتصل بها ويبين اشتقاقها وما تفرع من مادتها، فإذا جاءوا مثلًا لكلمة أجاج في قوله تعالى: « هَذاَ عذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَاَ مِلْحٌ أُجَاجٌ» قالوا إن معناها شديد الملوحة، وقارنوا بينها وبين أجيج النار، وقولهم أجَّ الظليم إذا عَدَا، إلخ؛ وقارنوا بين استعمال الكلمات المختلفة في القرآن ذوات المبنى الواحد لتحديد معانيها، ووجوه الشبه بينها فقارنوا بين فجّر في قوله تعالى: وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا والفجر في قوله: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ والفجر في قوله:إِنَّ قُرْآنَ اْلَفجْر ِكَانَ مَشْهُودًا والفُجَّار في قوله تعالى:إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّار لَفِي سِجَّينٍ وقوله:بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ إلخ.
كذلك كان من مصادرهم ما ورد من الشعر الذي يحتج به من جاهلي وإسلامي فقد أتى فيه كثير من الغريب، فأخذوا يبحثون عن معانيه؛ والشعر نفسه بعضه يدل على معاني بعض.
وهذا النحو من التلقي عن العرب قد يكون محدودًا مضبوطًا لا يحتمله شك، كما إذا أشار إلى شيء ونطقوا بلفظه، فأشاروا إلى إنسان وقالوا إنسان، وإلى يد وقالوا يد، وإلى عين وقالوا عين؛ وقد تدل عليه القرائن، فإذا سمع أحد قول الشاعر:
وكان هذا سبب وفرة الجمع؛ لأن كل عالم جمع أشياء سمعها وعرفها واقتصر عليها، وبجانبه عالم آخر سمع أشياء أخرى وعلمها واقتصر عليها، فجاءت الطبقة التي بعدهم فجمعت ما تفرق عند العلماء، ومن ذلك كانت كل طبقة أوسع معرفة ممَنْ قبلها، وشأنها في ذلك شأن المحدِّثين، فقد كان كل صحابي يعرف بعض الحديث، فجاء التابعي فسمع من جملة من الصحابة، وجاء تابع التابعي فسمع من عدد أكبر، حتى جاءت طبقة رحلت إلى مصر والشام والعراق وجمعت ما عند العلماء، وكان لنا من ذلك كتب الحديث الضخمة كما رأيت، بل قد رتَّب علماء اللغة درجة الأخذ والتحمُّل كما فعل المحدِّثون، فقال: «أملى علينا» أرفع من «سمعت»، و«سمعت» أعلى من «حدثني»، و«حدثني» خير من «أخبرني» كما يفعل المحدِّثون.
وكان دون ذلك كله الأخذ من الكتب والصحف.
وبدءوا في رواية اللغة بدءهم في الحديث، فكانوا يذكرون السند، فيقول ثعلب — مثلًا — في أماليه: حدثني أبو بكر بن الأنباري عن أبي العباس عن ابن الأعرابي قال: يقال لَحَنَ الرجل يلحْن لحنًا فهو لاحِن، إذا أخطأ وَلحِن يَلحَن لحنًا فهولَحِن، إذا أصاب وفطن؛ ولكن علماء اللغة لم يستمسكوا بذلك طويلًا كما استمسك المحدِّثون، فلم يكن لنا معجم لغة مسند كمسند البخاري ومسلم. والسبب في هذا أن اللغة أوسع جدًا من الحديث، فلو اتبع في كل كلمة وكل اشتقاق الإسناد لبلغ المعجم حدًا لا يُقدَّر، ولأن اللغة فيما عدا ألفاظ القرآن ليس لها من التقديس ما للحديث.
كذلك مما اتبع في اللغة على نمط الحديث أنهم رتبوا ما ورد من اللغة ترتيب أهل الحديث. ففصيح وأفصح، وجيد وأجود، وضعيف ومنكر ومتروك، كما فعلوا في الحديث من صحيح وحسن وضعيف، فقالوا: إن اللغة التي ورد بها القرآن أفصح مما في غيره، فقالوا: أوفى بالعهد أفصح من وَفَى بالعهد؛ لأن الأولى لغة القرآن؛ وقالوا: المزِراب لغة في الميزاب وليست فصيحة؛ وقالوا: الخوى الجوع مقصور، وقد مدُّه قوم وليس بالعالي؛ وقالوا: رضبت الشاة لغة مرغوب عنها، والفصيح ربضت؛ وقالوا: دمعت عيني (بكسر الميم) لغة رديئة. والظاهر أنهم راعوا في تفضيل لغة على لغة، وجَعْلِ بعض اللغات أفصح من بعض، وقبولِ بعض اللغات واللهجات دون بعض أمورًا كثيرة، منها: أن الكلمة إذا نطقت بها جملة قبائل كانت خيرًا من الكلمة تنطق بها قبيلة واحدة، ومنها: أن الكلمة إذا وردت على القياس النحوي والصرفي فضَّلوها على غيرها.
«قال رجل لأبي عمرو ابن العلاء: أخبرني عما وضعتَ مما سُميَّت عربية، أيدخل فيه كلام العرب كله؟ فقال: لا، فقلت: كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهم حجة؟ فقال: أحمل على الأكثر وأسمي ما خالفني لغات». ومنها: أن الكلمة إذا رواها علماء كثيرون كانت أصح من الكلمة رواها راوٍ واحد. قال في الجمهرة: «قال الأصمعي: أرض قِرْوَاحٌ وَقِرْيَاحٌ وقِرْحِيَاء قفراء ملساء، وقريحاء لم يجئ بها غير الأصمعي». وقال القالي: «قال اللحياني: يقال قعد فلان الأرْبَعَاء والأرْبَعَاوِي، أي متربِّعًا وهو نادر ولم يأتِ به أحد غيره» إلخ.
ومما اتبعوا فيه نمط المحدِّثين تجريح الرجال وتعديلهم، فعدَّلوا الخليل بن أحمد وأبا عمرو بن العلاء مثلًا، وجرَّحوا قُطْربًا المتوفي سنة ٢٠٦، وهو الذي قال فيه ابن السكِّيت: كتبت عنه قمطرًا ثم تبينت أنه يكذب في اللغة فلم أذكر عنه شيئًَا، ولكن لم يبلغوا في ذلك مبلغ المحدِّثين في دقة التحري والتقِّصي.
- (١) أن بعض علماء اللغة لم يكن ثقة فيما يرويه قال الخليل بن أحمد: «إن النحارير ربما أدخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب إرادة اللبس والتعنت».٢١ وقال اللاحقي: سألني سيبويه: هل تحفظ للعرب شاهدًا على إعمال فَعِل؟ قال: فوضعت له هذا البيت:حَذِرٌ أُمُورًا لاتُضِهرُ وَآمِنٌمَا لَيس مُنْجِيَه مِنَ الأقْدَارِِ
وقال الخليل: أمَّا ضَهْيد وهو الرجل الصلب، فمصنوع لم يأتِ في الكلام الفصيح. وقالوا: عَنْشَج، وهو الرجل المتقبض الوجه السيء المنظر مصنوع. وفي الجمهرة: قد جاء في باب «فيعلول» كلمتان مصنوعتان في هذا الوزن، قالوا: عَيْدَشُون دويبة، وليس بثبت، وصَيْخَدون، قالوا: الصَّلابة ولا أعرفها. وقد ورد من ذلك الشيء الكثير، وقد حملهم على الوضع حب الظهور بمعرفة ما لم يعرفه أحد من العلماء، والضيق عند السؤال، وما كان بين العلماء من منافسات شديدة بين يدي الخلفاء والأمراء وفي محضر الناس.
- (٢) ما سبق من أخذ بعض العلماء اللغة عن الكتب والصحف، وقد كانت الكتابة في عصورها الأولى غير منقوطة ولا مشكولة إلا القرآن، فدخل اللغة ما سُمَّي التصحيف. قال المعري: أصل التصحيف أن يأخذ الرجل اللفظ من قراءته في صحيفة ولم يكن سمعه من الرجال فيغيره عن الصواب، قال في المزهر: وقد وقع فيه جماعة من الأجلاء من أئمة اللغة أَئمة الحديث، حتى قال الإمام أحمد: «و مَنْ يعري من الخطأ والتصحيف؟»٢٢ حتى الأئمة الكبار في اللغة مثل الخليل والأصمعي وغيرهما وقعوا في التصحيف، فمن ذلك يوم «بُعَاث» وهو يوم كان فيه حرب بين الأوْسِ والخَزْرَجِ، فجاء في كتاب العين «بغاث» بالغين المعجمة، وكان هذا مما طُعِنَ فيه على كتاب العين لأنه يوم مشهور لا يصح أن يخطئ فيه الخليل:
وقال العَجَّاج يصف امرأة من نساء عفيفات:
فصحَّفه أبو عبيدة فرواه القبْس بالباء. وروى البصريون بيت الأعشي:
وفي المثل: دَقَّك بالمِنْحازِ حبّ القِلْقِل، فقال العامة فيه: حبّ الُفلْفُل، قال الأصمعي: «وهو تصحيف إنما هو بالقاف وهو أصلب ما يكون من الحبوب». واختلفوا في بيت الحارث بن حِلِّزة يذكر قومًا أخذوهم بذنب غيرهم:
وجاء في اللغة من ذلك الشيء الكثير، بعضه عُرِفَ واستكشف، وبعضه لم يُعْرَف ولم يستكشف، وهذا — من غير شك — يوقع الشك في بعض ما ورد في اللغة، فمثلًا يقول في القاموس: «الغَْلث كالعَلْث في معانيه» ولا أظن إلا أن إحدى الكلمتين مصحفة عن الأخرى؛ لأن راويها أخذها عن الكتب.
-
(٣)
عدم تحديد المعاني التي ينقلونها، وذلك أن كثيرًا من الكلمات — كما رأيت — كان ينقل سماعًا عن العرب، ويفهم السامع معانيها لا بالإشارة ولكن بالقرائن، فيفهم سامعٌ شيئًا ويفهم سامع آخر شيئًا آخر؛ فقد سمعوا مثلًا قول العربي: ما أصابتنا العامقَابة، ففسرها بعضهم بقطرة من مطر، وفسرها بعضهم بالرعد، ويتصل بهذا ما كان يُروِى لهم من شعر، فكانوا يختلفون في تفسير غريبه اجتهادًا منهم واستعمالًا للقرائن، وهم يختلفون في فهمها.
-
(٤)
اعتمادهم في أخذ مفردات اللغة أحيانًا على أبيات نُسِبت إلى الجاهليين أو الإسلاميين زورًا، وإنما هي من وضع الشعراء أمثال خََلف وحمَّاد فاستشهدوا بأبيات من لامية العرب — أقِيمُوا بَنِ أمِّي صُدُور مطِيكُم — وقد قال الثقات إنها مصنوعة.. إلخ.
-
(٥)
تعرَُّض اللغويين إلى أصل الكلمات، وبيان أنها أُخَِذت من الفرس أو الروم أو نحوهما، وكان علمهم بلغات مَنْ حولهم ناقصًا فلم يكن فيهم مَنْ يعرف الهيروغليفية والحبشية والسريانية واليونانية والحميرية والسبئية معرفة صادقة حتى يستطيع أن يقول قولًا يُعْتَمَد عليه في أصل الكلمات واشتقاقها؛ ولهذا وقعوا في كلامهم في المعاجم في أخطاء كثيرة، فزعموا في كلمات أنها عبرانية وليست عبرانية وكلمات سريانية وليست كذلك، وكلمات عربية وهي ليست بها، وادَّعوا اشتقاقها من كلمات وليست كذلك إلخ.
-
(٦)
ما ذكره ابن الأنباري من أن الكلمات قسمان: كلمات متواترة وآحاد، فأمَّا المتواترة فلغة القرآن وما تواتر من السنَّة وكلام العرب، وهذا قطعي يفيد العلم، وأمَّا الآحاد فما تفرد بنقله بعض أهل اللغة، ولم يوجد فيه شرط التواتر اهـ. وهذا المتوتر قليل إذا قيس بغيره، فكثير من الكلمات لم يروها جمع من أهل المتواتر عن غيرهم وأقصى ما في الأمر أنها رويت عن الخليل وأبي عمرو والأصمعي وأقرانهم، ولا شك أن هؤلاء ما كانوا معصومين ولا بالغين حد التواتر،٢٦ فهي مظنونة لا مقطوع بها.
من كل هذا نتبين أن هناك ألفاظًا مقطوعًا بصحتها وهي ألفاظ القرآن ونحوها، وألفاظًا مظنونة وهي غيرها، تحتمل الشك وتحتمل الفساد؛ ومع هذا فلا ضير علينا، فيكفي في اللغة المواضعة والاتفاق على الكلمة، ولوخُلَِقت خلقًا، وكل الذي نريد أن نستفيده من هذا أن اللغة وهذا شأنها فيما عدا ما ذكرنا من الألفاظ لم تبلغ حدًا من التقديس يصح أن تهدر معه حرية الأمم في اختيار الكلمات المناسبة، وإماتة غير المناسبة، وتكميل ما نقص، وخلق ما ليس بموجود.
•••
- المرحلة الأولى: جمع الكلمات حيثما اتفق؛ فالعالم يرحل إلى البادية يسمع كلمة في المطر، ويسمع كلمة في اسم السيف، وأخرى في الزرع والنبات، وغيرهما في وصف الفتى أو الشيخ إلى غير ذلك، فيدوّن ذلك كله حسما سمع من غير ترتيب إلا ترتيب السماع، كالمحدِّث كان يسمع حديثًا في الوضوء، وحديثًا في البيع، وحديثًا في الميراث، فيجمع ذلك كله على ما سمع من غير ترتيب؛ ودليل ذلك ما رُوِي عن العلماء الأولين في روايتهم وعن صحفهم من تفسير كلمات متفرقة لا يربطها رابط.
- المرحلة الثانية: جمع الكلمات المتعلقة بموضوع واحد في موضع واحد، كالمحدِّث يجمع أحاديث الصلاة، ويسميها كتاب الصلاة، وأحاديث البيع، ويسميها كتاب البيع، كما فعل مالك في الموطأ، والذي دعا إلى هذا في اللغة — على ما يظهر — أنهم رأوا كلمات متقاربة المعنى، فأرادوا تحديد معانيها، فدعاهم ذلك إلى جمعها في موضع واحد. مثال ذلك: ما رُوِي عن الأصمعي: «من أصوات الخيل الشخِيرُ والنَّخِيرُ والكَرِير: فالأول من الفم؛ والثاني من المنخرين، والثالث من الصدر» ومثل قوله: «الهْتل من المطر أصغر من الهَطْل». أو رأوا كلمات متقاربة اللفظ متقاربة المعنى، فأرادوا تحديد معانيها في دقة، مثال ذلك ما قال الكسائي: «القَضم للفرس، والخَضْم للإنسان»، ومثل: «القَبْضُ الأخذ بأطراف الأنامل، والقبض الأخذ بالكف كلها» و«القَدُّ طولًا، والقَطُُّ عرضًا» إلخ. أو رأوا كلمة واحدة وضعت لمعانٍ مختلفة ففسروها، كالذي قال الأصمعي: «العين النقد من الدراهم والدنانير وليس بعرَض. والعين مطرُ أيام لا يُقْلع، والعين عين الإنسان، والعين عين البئر، والعين عين الميزان، والعين عين النفس أن يعين الرجل الرجل ينظر إليه فيصيبه بعين إلخ»: ولكن هذه المحاولة الأولى لم تكن مستقصية ولا وافية، بل كانت خطرات وأمثلة منثورة.
وتُوجت هذه المرحلة بكتب تؤلف في الموضوع الواحد، فألَّف أبو زيد كتابًا في المطر، وكتابًا في اللبن. وأَلَّف الأصمعي كتبًا كثيرة صغيرة كل كتاب في موضوع، فكتاب في النخل والكَرْم وكتاب في الشاء، وكتاب في الإبل، وكتاب في أسماء الوحوش، وكتاب في الخيل، وكتاب النبات والشجر إلخ.
«من صغار النخيل الجَثيُث، وهو أول ما يطلع من أمّه، وهو الوَدِيُ والهِرَاء والَفسِيلُ. وإذا كانت الَفسِيلةُ في الجِذع ولم تكن مستأْرِضة فهو خسيس النخل، والعربُ تسميها الرَّاكب، فإذا قُلِعَت الوَدِيّة من أمَها بِكَرَ بها قيل ودِيّةٌ مُنْعَلةٌ، فإذا غرسها حفر لها بئرًا فغرسها ثم كبس حولها بُترنوق المسيل والدِّمن، فتلك البئر هي الفقير. يقال فَقّرْنا للوَدِيّة تفقيرًا والأشأ من صغار النخل».
المرحلة الثالثة — وضع معجم يشمل كل الكلمات العربية على نمط خاص إليه؛ ليرجع إليه مَنْ أراد البحث عن معنى كلمة.
وأول مَنْ فكر في هذا الموضوع — في اللغة العربية — الخليل بن أحمد — على ما بلغنا — فكّر في أن يجمع كل ما عُرِفَ من ألفاظ العرب في كتاب مرتَّب، وقد اعترضته في ذلك صعوبتان: الأولى كيف يحصر لغة العرب، الثانية كيف يرتِّبها.
أمَّا المسألة الأولى فحلها بالطريقة الآتية: رأى أن الكلمات العربية أمَّا أن تكون مركبة من حرفين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، ولا تزيد الكلمة العربية عن ذلك باعتبار أصولها، ثم رأى أن الكلمات الثنائية — عقلًا — يمكن حصرها بأن يفرض أن الحرف الأول مثلا ا فالحرف الثاني قد يكون باء أو تاء أو ثاء إلخ، فإذا ضربنا ١ × ٢٧ (وهي عدد حروف الهجاء) أمكن أن نحصر الكلمات الثنائية المبدوءة بالألف. ثم نأخذ الباءَ ونضربها في ٢٦، والتاء ونضربها في ٢٥ وهكذا، ومجموع كل هذا نضربه في ٢ ليكون معنا مقلوب الحروف؛ لأن التقديم والتأخير معتبر في التركيب، فيكون مجموع ذلك جميع الكلمات المركبة من حرفين.
ويلاحظ أنه بهذا ترك الكلمات المركبة من حرفين متماثلين مثل أَ أْ، بَ بْ.
ثم عمل كذلك في الثلاثيات، ففرض أن كل ثنائي مما تقدَّم يعتبر كأنه حرف واحد، فتضرب عدد الثنائيات في ٢٦ وما بعده في ٢٥ وهكذا، ومجموع ذلك يضرب في ٦ جملة المقلوب، وفعل مثل ذلك في الرباعي والخماسي.
وبذلك حصر جميع الكلمات التي يمكن أن توجد — نظريًا — ثم بيَّن منها المهمل والمستعمل، ويعني بالمهمل الكلمة التي لم تقلها العرب ولم تستعملها في معنى خاص، كعضخ فإنها استعملت مثلًا خضع ولم تستعمل عضخ، فكان الخليل إذا وصل إلى مادة مهملة نبَّه على أنها مهملة، وإذا وصل إلى مادة مستعملة أبان معناها.
المسألة الثانية — نرى أن الخليل رتَّب الكلمات على حسب أوائلها، ولكنه لم يراعِ الترتيب المعروف عندنا: ا ب ت إلخ، بل رتَّبها هكذا:
ع ح ه خ غ ق ك ج ش ض ص س ز ط د ت ظ ذ ث ر ل ن ف ب م وا ي
وقد سُمَّى كتابه كتاب العين؛ باعتبار أول أجزائه، كما سمَّى أبو تمام كتابه بالحماسة؛ لأنه أول باب من أبوابه العشرة.
وقد راعى في هذا الترتيب مخارج الحروف، فبدأ بحروف الحلق، ثم ما بعدها من حروف الحنك، ثم الإضراس، ثم الشفة، وجعل حروف العلة آخرًا، وهي الحروف الهوائية.
وبدأ من حروف الحلق بالعين لأنه من أقصى حروف الحلق؛ وقد لوحظ عليه أن العين ليست أقصى الحروف مخرجًا، وإنما أقصاها الهمزة ثم الهاء.
وقد رُوِي عن الخليل أنه قال: لم أبدأ بالهمزة لأنه يحلقها النقص والتغيير والحذف، ولا بالهاء لأنها مهموسة خفيَّة لا صوت لها، فنزلت إلى الحيز الثاني وفيه العين والحاء، فوجدت العين أنصع الحرفين.
وقد جاء في دائرة المعارف الإسلامية أنه اتبع في ترتيبه كتاب العين ما كان يتبعه علماء النحو في اللغة السنسكريتية؛ فقد كانوا يبدءون بحروف الحلق وينتهون بحروف الشفة.
وروي عن أبي الطيب اللغوي أن الخليل رتَّب أبوابه وتوفي من قبل أن يحشيه. وعن ابن راهوايه: كان الخليل عمل منه باب العين وحده، وأحب الليث أن ينفق سوق الخليل فصنَّف باقيه، وسمََّى نفسه الخليل من حبه له؛ فهو إذا قال الخليل بن أحمد فهو الخليل، وإذا قال الخليل مطلقًا فهو يحكي نفسه؛ فجميع ما فيه عن الخليل منه لا من الخليل.
وقال النووي: كتاب العين المنسوب إلى الخليل إنما هو من جمع الليث عن الخليل.
وقال ابن جني في الخصائص: أمَّا كتاب العين ففيه من التخطيط والخلل والفساد ما لا يجوز أن يُحْمَلَ على أصغر أتباع الخليل. وقال أبو علي القالي: «لمَّا ورد كتاب العين من بلاد خراسان في زمن أبي حاتم أنكره هو وأصحابه أشد الإنكار؛ لأن الخليل لو كان ألَّفه لحمله أصحابه عنه، وكانوا بذلك أولى من رجل مجهول، ثم لمَّا مضت بعده مدة طويلة، ظهر الكتاب في زمان أبي حاتم، وذلك في حدود سنة ٢٠٥، فلم يلتفت أحد من العلماء إليه، والدليل على كونه لغير الخليل أن جميع ما وقع فيه من معاني النحو إنما هو على مذهب الكوفيين، بخلاف مذهب البصريين الذي ذكره سيبويه عن الخليل، وفيه خلط الرباعي والخماسي من أولهما إلى آخرهما».
وقال ابن النديم في الفهرست: «قرأت بخط أبي الفتح النحوي … قال أبو بكر بن دريد: وقع بالبصرة كتاب العين سنة ٤٨ (يعني ومائتين)،قَدِمَ به ورَّاق من خراسان، وكان في ثمانية وأربعين جز ءًا فباعه بخمسين دينارًا».
وعلى كل حال فيكاد العلماء يتفقون على أن فكرة جمع اللغة على هذا النحو هي للخليل بن أحمد، وإن اختلفوا في أنه ألَّف كتاب العين كله أو بعضه، أو قصر على وضع الفكرة فيه.
- (أولًا): صعوبة الأخذ منه لصعوبة ترتيبه؛ لأنه رتب حروفه حسب المخارج كما علمت، ومن الصعب تتبع هذا، ولأنه خلط بين الثلاثي المضاعف والرباعي المضاعف، وفيه أيضًا خلط كثير نبه عليه الزبيدي في مختصر العين.
- (ثانيًا): أنه يذكر الكلمة ويذكر مقلوبها، فيذكر في مادة ع ب د مثلًا ب ع د، إلخ، فمن الصعب عند البحث عن كلمة معرفة أيها الأصل وأيها المقلوب.
- (ثالثًا): أنه وقع فيه تصحيف كثير لما علمت من أن الكتابة في ذلك العصر لم تكن تنقط، وحروف اللغة العربية فضلًا عن ذلك متقاربة في الشكل فبين الفاء في الوسط والغين تقارب، والتاء والنون كذلك إلخ، وهذا قد أوقع اللغة العربية ومؤلفاتها في كثير من اللبس، ولم ينتبه إليه من مؤلفي المعاجم إلا الفيروزابادي صاحب القاموس، فلم يكتفِ بالضبط بالقلم بل كان يضبط بالكلمات فيقول بالتاء المثلثة مثلًا، على وزن غراب، وعلى وزن أمير إلخ.
وعل كل حال فقد أخذوا على كتاب العين كثيرًا من التصحيف، وألَّف كثير من العلماء كتبًا في تصحيح ما جاء فيه من الغلط أو تكميل ما فاته من النقص، وإليك أمثلة مما جاء فيه من التصحيف:
قال: ائذعر القوم، تفرقوا. والصواب: ابذعروا.
قال:عسا الليل، أظلم. وإنما هو غسا بالغين المعجمة.
قال: الجحل أولاد الإبل. وهو غلط إنما هو: الحجل بالحاء قبل الجيم.
قال: بنات بحر، ضرب من السحاب. والصواب: بنات بخر بالخاء المعجمة.
وقال: مرحت الجلد، دهنته. وإنما هو: مَرَخْتُ.
وقال: ضَبَأتَ المرأة، كثر ولدها. والصواب: ضنأت.
وقال: شيء ربيذ، بعضه على بعض. والصواب: رثيد. إلى كثير من أمثال ذلك.
واستمر مؤلفو العاجم يسيرون على نمط الخليل حتى أتى الجوهري في القرن الرابع فاخترع النمط الذي جرى عليه فيما بعدُ القاموس ولسان العرب وغيرهما، كما سنبينه في حينه إن شاء الله.
هذه هي المراحل الثلاث الطبيعية لجمع اللغة، جمع مفردات حيثما اتفق، وجمع كلمات متقاربة نوعًا من التقارب، أوْلها موضع واحد، ثم جمع المعجم، وكانت كل مرحلة من هذه المراحل تسلم إلى ما بعدها. ولا يعكر على هذه الفكرة إلا أن الخليل وهو واضع الفكرة الثالثة كان أسبق زمنًا من أبي زيد والأصمعي، واضعَيْ الفكرة الثانية، ولكن نجيب على هذا بأن الثلاثة تعاصروا زمنًا طويلًا فالخليل عاش من (١٠٠–١٧٥) والأصمعي من (١٢٢–٢١٣) وأبو زيد (توفي سنة ٢١٥) عن بضعة وتسعين عامًا؛ فقد عاشوا معًا زمنًا طويلًا، وربما سبق الأصمعي وأبو زيد بالتأليف في المفردات، وبأن الخليل على ما عليه أكثر المحققين وضع الفكرة فقط ولم يستطع أن يملأها وينفذها مَنْ قاربه في الزمن مثل الأصمعي وأبي زيد؛ لأن فكرة الخليل كانت طفرة في التفكير، وكانت قبل زمانها، فلم يستطع أن يملأها إلا مَنْ أتى بعده وبعد الأصمعي وأبي زيد، لهذا لا تزال فكرة التسلسل معقولة صحيحة.
ومع هذا فلا الخليل ولا غيره ممَنْ أتى بعه من أصحاب المعاجم استطاعوا أن يجمعوا الألفاظ العربية كلها، ولا أن يستقصوا معاني الألفاظ التي جمعوها، وآية ذلك أن كلمات كثيرة وردت في الشعر الجاهلي والإسلامي تستعمل استعمالًا لا يتفق وما في المعاجم.
•••
وكل ما قلناه في اللغة ينطبق على الأدب، فقد كانت اللغة ممتزجة بالأدب امتزاجًا تامًا، كان لكل قبيلة أدبها كما كان لكل قبيلة لغتها، فترْوِي خطب خطبائها وشعر شعرائها، ويحفظ الخلف من القبيلة آثار السلف.
وكانوا يأتون القبائل يأخذون عنهم شعر الشعراء، فرووا أن الشافعي رحل إلى البادية، وكان يحفظ عشرة آلاف بيت من هذيل بإعرابها وغريبها ومعانيها، وكان يحمل شعر الشَّنْفري، وأخذ عنه العلماء ذلك، ومنهم الأصمعي.ورووا عن الأعراب قصصهم وخرافاتهم وأيامهم، وللأصمعي في ذلك القِدْح المعّلى، فقد ملأ كتب الأدب بما روى عن أعراب في البادية، ومن هذا الشيء الكثير في أمالي القالي، وعلى كل حال فقد طلب العلماء الأولون الأدب، أمَّا لنفسه وأمَّا لأنه مادة اللغة، ومستودع غريبها.
ودخل الشك فيما رُوِي من الأدب ما عدا ما جاء منه متواترًا لأسباب ورد أكثرها فيما ذكرنا من الشك في اللغة.
ووقع التصحيف في الأدب كما حصل في اللغة، فصَحَّفَ الأصمعي بيت الحطيئة:
أي كثير اللبن والتمر إلى: وغررتني وزعمت أنك لاتني بالضيف تامِرْ — أي لا تتواني عن ضيفك تأمر بتعجيل القِرَى إليه.
وأنشد الأخفش أبا عمرو بن العلاء:
فقال أبو عمرو: كبرت عليك رأس الراء، فظننتها واوًا، وإنما هي سراته؛ قلت: وما سراته؟ قال: سراة كل شيء ظهره. إلى كثير من أمثال ذلك.
هذا إلى أن كثيرًا من الأبيات رويت بروايات مختلفة، فأبو عمرو يروي البيت:
والأصمعي يرويه:
وتقرأ شرح ابن الأنباري على المفضليات فلا تكاد تجد قصيدة لم ترو روايات عدة، بزيادة أو حذف، وتقديم أو تأخير، وتغيير كلمات في الأبيات؛ ولنسق لهذا مثلًا، فالبيت:
يُرْوِى: ولا الأمانة يفجعُ، ويروى: وصل مَنْ لا يقطع، ويروى: وللإمانة تفج. وقول تأبط شرًا:
وسببه أمور أهمها: أن الأدب الجاهلي والإسلامي ظلَّ سنين طويلة يتناقله الرواة شفاهًا عن حفظهم لا عن كتاب مدوَّن، والحافظة كثيرًا ما تخطئ، وكثيرًا ما تضع كلمة مكان كلمة متى استقام الوزن والمعنى، فراوٍ يغير كلمة، وراوٍ يغيَّر أخرى، وراوٍ لا يغير؛ والعلماء يروون عن رواة مختلفين فيأتي هذا الاختلاف. ومن أسباب ذلك ما تقدم وهو أن العلماء كانوا يأخذون أحيانًا عن صحف غير منقوطة ولا مشكولة، فيقرؤها كلٌّ حسبما يصح عنده معناها، فخذالة إذا لم تنقط تقرأ جدالة وجذالة، وحرق إذا لم تنقط تقرأ حرق وخرق، فيأخذها كلٌّ حسب اجتهاده، ويمعن الفكر في تأويل المعنى على وفق ما قرأ. وقد رُوِي لنا الشيء الكثير فيما وقع بين العلماء من نزاع وخصومة حول البيت يرويه أحدهم على شكل ويرويه الآخر على شكل آخر.
•••
على كل حال اتجه علماء الأدب إلى جمع المختارات، ومن أقدم ما وصل إلينا من ذلك العصر: المفضليات والأصمعيات وجمهرة أشعار العرب كلها وكلها شعر.
وأمَّا جمهرة أشعار العرب فكتاب ينسب إلى أبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، وهو شخصية غير معروفة، قالوا إنه مات سنة ١٧٠، ولكن تاريخ حياته وهُوِيّته أحاط بها الغموض، هو ثنايا الكتاب يقول: حدثنا المفضَّل ابن محمد الضّبي، فإن صح ذلك فهو تلميذ من تلاميذه.
كما أن من أقدم ما وصل إلينا من الكتب التي جَمَعت بين مختار الشعر والنثر: البيان والتبيين للجاحظ، ثم الكامل للمبرِّد. وقد سبق الكلام فيهما في الجزء الأول من ضحى الإسلام.
وفي الواقع جاء علماء النحو (وكانوا أيضًا علماء لغة وأدب، لأن هذه الفروع لم تنفصل وتحدد ويتميز كل عالم بعلم منها إلا بعد العصر الأول) فأرادوا أن يضعوا للجزئيات كليات، فقد رأوا جاء محمد، وذهب عليّ، وحسن منظره، فأرادوا أن يسموا الضمة على دال محمد وياء عليّ وراء منظره رفعًا، وأن يسموا هذه الكلمات فاعلًا، وأن يضعوا القاعدة العامة «الفاعل مرفوع»، وكذلك فعلوا في قواعد الصرف وبذلوا في ذلك جهدًا غريبًا في تتبع النصوص وإعمال الفكر واستخراج القاعدة، وليس يدري أحد مقدار المجهود الذي بُذِلَ في تعرُّف قاعدة يعرفها أطفال المدارس الابتدائية اليوم.
وفي الحق أن العراق بزَّ سائر الأمصار في اختراع العلوم وتدوينها، وعلة ذلك أن سكان العراق بقايا أمم قديمة متحضرة كان بها علم وتدوين، فلمَّا دخل أهله في الإسلام فعلوا في العلوم العربية على قياس أممهم السابقة، فما كان منهم إلا أن طبقوا ما عرض في الإسلام على ما جرى عليه آباؤهم — هذا في العلوم عامة، وأمَّا في علم النحو والصرف واللغة خاصة فإن حاجة البلاد الأعجمية إليها أشد من حاجة البلاد العربي، فما حاجة عرب البادية والحجاز إلى النحو واللغة، وهم يعرفون لغتهم ويتكلمون بها صحيحة عن سليقة، فإذا كان الباعث على النحو ما بدا من اللحن كان طبيعيًا أن يكون منشؤه بلدًا أعجميًا، ولا أفضل في ذلك من العراق؛ فقد جمع إلى أعجميته ثقافة واسعة عميقة موروثة.
- (١) أن القواعد التي وضعوها اشتقوها من طريق استقراء ناقص، فطردوها في الباب كله، فقد سمعوا أفعالًا ثم وضعوا قواعد أن الماضي إذا كان كذا كان مضارعه كذا، وأمره كذا، واسم فاعله كذا، واسم مفعوله كذا؛ وهم لم يسمعوا كل فعل ولا كل اسم فاعل ومفعول، وقالوا: إن ما كان من الكلام على وزن «فَعْل» فجمعه في التكسير على وزن أفُعُل، وأجازوا ذلك حتى فيما لم يُسمَع من العرب. ومن الجائز أن العرب لم تجمع كل المفردات منه هذا الجمع بل جمعت بعضها على نمط آخر، ونحن نرى أن جميع اللغات لم تجرِ على نمط واحد في جمعها؛ قال ابن جني: «ألا تراك لو لم تسمع تكسير واحد من هذه الأمثلة، بل سمعته مفردًا، أكنت تحتشم من تكسيره على ما كُسِّر عليه نظيره»، ويقول: «فإذا سمعت ضَؤُل ولم تسمع مضارعه، فإنك تقول فيه يضؤل، ولا تحتاج أن تتوقف لأنه لو كان محتاجًا إلى ذلك.. لكان معنى هذا أن القوم قد جاءوا بجميع المواضي والمضارعات وأسماء الفاعلين والمفعولين والمصادر وأسماء الأزمنة والأمكنة، والآحاد والثنائي، والمجوع والتكابير والتصاغير» يعني وهي لم تفعل ذلك.٤٥
وهذا باب عظيم الخطر؛ لأنه مكَّن النحويين من وضع القواعد العامة، وجعلهم يهدرون ما عدا ذلك مما ورد غير سائر على مقتضاها، وعدُّوه شاذًا، كما أنه وسَّع اللغة سعة كبيرة، فإنا لم نسمع من العرب كل مشتقات الكلمة، فجرينا على القواعد الموضوعة من هذا الاستقراء الناقص، فتضخمت اللغة واطردت وتمت مواضع النقص منها. بل انظر في عبارة ابن جني نفسه، فقد جرى في التعبير فيها على ذلك، فقد جمع الماضي على مواضٍ، وقال المضارعات والتكابير والتصاغير، وليس يدَّعِي أحد أن العرب نطقت بهذه الكلمات في هذه المعاني، وإنما هو القياس.
- (٢) ومن ذلك أن يقيسوا على كلمة وردت كلمات أخرى من قبيلها، من ذلك ما قالوا (مَوَّيْت) إذا كتبت «ما» و(لَوَّيت) إذا كتبت «لا»، وكوِّفت كافًا حسنة، ودوَّلت دالًا جيدة، وزوّيت زايا قوية.٤٦ وواضح أن العرب لم تنطق بهذا كله، ولكن النحويين قاسوه على كلام العرب واستعملوه.
- (٣) ومن ذلك أيضًا أن الطريقة التعليمية التي جرى عليها النحويون والصرفيون جعلتهم يجرون في ذلك إلى حد بعيد، فيقولون: كيف تصيغ من الضرب على وزن صَمَحْمَح، فتقول ضَرَبْرَب، ومن القتل: قتلتل، ومن زِبْرج: زَبرْجَج، ومن الخُروج: خَرَجْرَج وهكذا. ويقول ابن جني: ولو قال لك قائل: بأي لغة كان هؤلاء يتكلمون؟ لم تجد بدًا من أن تقول بالعربية.٤٧ ويقولون لو سميت رجلًا بَعَلي أو إَلي أو لَدَي، فكيف تثنيها وكيف تجمعها وكيف تصغرها؟ إلى كثير من أمثال ذلك؛ فتجاوزوا بذلك الواقع إلى الفروض، وهذا بعينه هو ما وقع للحنفية في فرض الفروض، وطلب الأحكام لها.
- (٤) ومن ذلك أنهم يخترعون علة لِمَا ورد ثم يقيسون عليها، فيعللون قلب الواو والياء ألفًا بأنهما متى تحركتا حركة لازمة وانفتح ما قبلها إلخ، فإنهما يقلبان ألفًا، ويقيسون على ذلك، ويَرِدُ عليهم قَوَد وغَيَب،٤٨ مع أنهما قلبتها في دار وعاب فيجيبون عن ذلك ويتأولون. وعلى كل حال يطردون القاعدة فيما يعرض ولم يسمع، إلى غير ذلك من ضروب القياس التي مُلِئت بها كتب النحو، وتوسع في ذلك مَنْ أتى بعد، وخاصة أبا علي الفارسي وابن جني؛ وقد عقد الأخير في كتابه الخصائص فصولًا تشبه أصول الفقه، ففصل في جواز القياس، وفصل في تعارض السماع والقياس، وفصل في الاستحسان، وفصل في العلل، وفصل في إجماع أهل العربية متى يكون حجة إلخ، مما يدل على تأثر النحويين بالفقهاء، وإن كان ابن جني نفسه يعقد فصلًا يذكر فيه أن علل النحويين أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين.
نعم إن الأصوليين اختلفوا هل تثبت اللغة بالقياس أو لا تثبت؟ وانقسموا قسمين، ولكن مهما كان اختلافهم فقد وقع القياس فعلًا وأثر في اللغة والنحو أثرًا كبيرًا كما رأيت، وكان شأن الفقهاء، حارب كثير منهم القياس وشنَّع على قائليه واستخدمه فعلًا كأداة للتشريع. قال ابن الأنباري: «اعلم أن إنكار القياس في النحو لا يتحقق لأن النحو كله قياس، فمَنْ أنكر القياس فقد أنكر النحو، ولا يُعْلَم أحد من العلماء أنكره» وينسب إلى الكسائي أنه قال:
•••
هذا القياس الذي اخترع منه النحويون كليات القواعد كان له أثر كبير في اللغة العربية، وأخشى أن تكون لغتنا التي نستعملها اليوم وقبل اليوم هي وليدة النحو واللغة معًا، وليست وليدة اللغة وحدها، فاللغة — عادة — لا تخضع لقياس مطَّرد، فهي تقول: أكْرَمَ ويُكْرِم، وَأَحسن ويُحْسِنُ ولكن بجانب ذلك تقول: أَحْزَنَ وَيَحزنُ؛ وفي القرآن الكريم فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ وفي اللغة: أكرَم فهو مُكْرم وأعظَم فهو، معَظْمَ، ولكن بجانب ذلك أحبَّ فهو محبوب؛ وفي اللغة: إنّ الساعة آتية، ولكن فيها أيضًا: إنّ هذَانِ لسَاحِران؛ وفي اللغة: اليوم أقرأ وأكتبُ (بالرفع عند تجرد عوامل النصب والجزم) ولكن فيها أيضًا ما قاله امرؤ القيس:
إلى كثير من أمثال ذلك.
وقال عمَّار الكلبي وقد عِيب عليه بيت من شعره:
ومن أجل هذا أخذ النحويون يتأولون ما لم يجرِ على قواعدهم، ويتكلفون في تخريجه، بل ويضعون أبيات الشعر أحيانًا وضعًا للاستشهاد عليه.
ومن هذا يتضح أن مدرسة البصرة ظلت قائمة وحدها في النحو وما إليه إلى أن جاء أبو جعفر الرؤاسي، فكان أول مَنْ ألف في النحو من الكوفيين، وأول مَنْ أسس مدرسة الكوفة، ودعمها تلميذاه الكسائي والفرَّاء، وكانا نظيري سيبويه رئيس البصريين.
وتاريخ النحو في منشئه غامض كل الغموض، فإنا نرى فجأة كتابًا ضخمًا ناضجًا هو كتاب سيبويه، ولا نرى قبله ما يصح أن يكون نواة تبين ما هو سّنة طبيعية من نشوء وارتقاء، وكل ما ذكروه من هذا القبيل لا يشفي غليلًا.
وقد اختلف المؤلفون الأقدمون أنفسهم في التعبير عما فعله أبو الأسود، فقال بعضهم: إنه أول مَنْ وضع النحو كما رأيت، وعبَّر بعضهم تعبيرًا أدق، فقال ابن قتيبة في كتابه «المعارف»: «أول مَنْ وضع العربية أبو الأسود»، وقال ابن حجر في الإصابة: «أول مَنْ نقط المصحف ووضع العربية أبو الأسود».
فالذي يظهر أنهم يعنون بالعربية هذه العلامات التي تدل على الرفع والنصب والجر والجزم والضم والفتح والكسر والسكون والتي استعملها أبو الأسود في المصحف، وأن هذه الأمور لمَّا توسَّع العلماء فيها بعدُ وسمُّوا كلامهم «نحوًا» سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود وقالوا: إنه واضع النحو للشبه في الأساس بين ما صنع وما صنعوا، وربما لم يكن هو يعرف اسم «النحو» بتاتًا. ومثل ذلك يقال أيضًا في النص الذي ذكره ابن سَلام في «طبقات الشعراء» فقد قال: «وكان لأهل البصرة في العربية قدمة بالنحو، وبلغات العرب والغريب عناية، وكان أول مَنْ أسس العربية وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسها، أبو الأسود الدؤلي … وكان رجلَ البصرة وكان عَلَويّ الرأي … وإنما قال ذلك حين اضطرب كلام العرب فغُلبت السليقة، فكان سراة الناس يلحنون، فوضع باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف الجر والرفع والنصب والجزم». فالظاهر أيضًا أن عمله في أول الأمر كان ساذجًا بسيطًا، وهو وضع علامات الرفع والنصب وما إليها، ولم يزد على ذلك، فلما سُمَّى العلماء بعدُ بعض ضروب الرفع فاعلًا، وبعض ضروب النصب مفعولًا، قالوا: إن أبا الأسود وضع باب الفاعل والمفعول، وإن كان أبو الأسود نفسه لم يعرف «فاعلًا» ولا «مفعولًا» بل ربما لم يعرف أيضًا رفعًا ولا نصبًا، فإنهم يروون أنه قال لكاتبه: «إذا رأيتني قد فتحتُ فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه، وإن ضممتُ فمي فانقط بين يدي الحرف، وإن كسرتُ فاجعل النقط من تحت» وهو تعبير ساذج يتفق وزمن أبي الأسود؛ فالذين جاءوا بعدُ أطلقوا الأسماء الاصطلاحية التي وضعوها على ما فعل أبو الأسود في وضعه الأول الساذج، وهذا هو الذي يمكن أن يتمشى مع طبيعة النشوء.
ويظهر لي أن الخطوة التي تلت هذه كانت ناشئة عن عمل أبي الأسود، فإن عمله أثار الكلام حول الرفع والنصب والجر والتنوين، فكان العلماء الذين ذُكِرُوا أمثال نصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، يثيرون مسائل متفرقة من هذا الباب، أمَّا حول آية من القرآن الكريم استلفتت نظرهم، أو حول بيت من الشعر لم يجرِ على المألوف، فيقفون عند رفع الكلمة لِمَ رفعت؟ ونصبها لِمَ نصبت؟ فعبد الله ابن أبي إسحق الحضرمي يسمع الفرزدق يقول:
فيرى أن «مجلف» في رفعها لا تناسب «مسحتًا» في نصبها، فيعترض على الفرزدق، فيهجوه الفرزدق بقول:
فيعترض ابن أبي إسحق على قوله مولى مواليًا أيضًا، ويقول بل هو مولى موالٍٍ؛ فهذا وأمثاله يلفت النظر ويجعلهم يفكرون في أن مثل موضع «مجلَّف» هذه ينبغي أن تكون منصوبة، فيتبعون الأدوات التي مثل أو، فيرون الواو والفاء ويخترعون اسمًا لهذا كحروف العطف، وقد يكون استقصاؤهم في أول الأمر ناقصًا فيأتي مَنْ بعدهم فيستدرك ذلك وهكذا. ويسمعون قول النابغة: «في أنيابها السُّمُّ ناقِعُ» فيقول عيسى بن عمر: قد أساء النابغة إنما هو «ناقعًا» ويسمعون قول الفرزدق:
أضف إلى ذلك أنه بعد عليٍّ وأبي الأسود كان هناك موالٍ شغلوا بهذا الموضوع، وكان منهم مَنْ أصله فارسي، ومنهم مَنْ أصله سندي، ومنهم مَنْ اتصل بالسريانيين، وكان لهؤلاء نحوٌ احتذوا حذوه أحيانًا كما سيأتي.
ثم جاءت الخطوة التالية، وهي جمع مسائل النحو المعروفة في كتاب، وقد ذكروا أن عيسى بن عمر الثقفي المتوفى سنة ١٤٩ فعل ذلك، فألَّف كتابين سمى أحدهما الجامع والآخر الإكمال، ورووا أن الخليل بن أحمد قال:
قال ابن الأنباري: «وهذان الكتابان لم نرهما، ولم نر أحدًا رآهما»، وقال محمد ابن يزيد: «قرأت أوراقًا من أحد كتابي عيسى بن عمر، وكان كالإشارة إلى الأصول» وعبارة محمد بن يزيد تدل على أن الكتابين محاولة أولية لجمع النحو.
وعلى الجملة فيظهر أن سيبويه جمع في كتابه ما تفرَّق من أقوال العلماء قبله، ورتبها وبوَّبها، وجمع ما استشهد به العلماء من شعره، وما سمعه هو بنفسه؛ مما يدل على سعة اطلاع، وطول باع؛ ففي الكتاب ألف بيت وخمسون من شعر العرب، نسَبَ منها نحو ألف بيت إلى قائليها، وفيه كثير من كلام العرب وأمثالهم، ولم يكن جامعًا، بل كانت له شخصية قوية في التعليل والترجيح مع جودة في العبارة. فإذا علمنا أنه فارسي الأصل وأنه عربي بصري بالمَرْبَى، وأنه مات وله بضع وثلاثون سنة أدركنا مقدار نبوغه، وكان ثقة فيما يرويه، عُرِض كتابه على يونس، فاستعرض ما نقله عنه فوجده صادقًا، وحاز الكتاب ثقة العلماء وتداولوه بالشرح، وإذا قالوا «الكتاب» فإنما يعنونه، وكل ما أُلِّف في النحو بعده فمبنيٌّ عليه ومستمد منه.
وبعد، فهل النحو علم عربي محض؟ أو هو علم أُقْتُبِسَ من علم النحو الأمم الأخرى؟
وعلى كل حال فقد تُوَّج نحو البصرة بسيبويه وكتابه، ونشأت بالكوفة مدرسة على رأسها أبو جعفر الرؤاسي وتلميذاه الكسائي والفرَّاء.
أنشأ الرؤاسي مدرسة الكوفة في النحو ووضع فيه كتابًا لم يصل إلينا؛ وقالوا إن الخليل اطلع عليه وانتفع به، وبدأت من ذلك الحين مدرسة الكوفة تناظر مدرسة البصرة. بدأ الخلاف هادئًا بين الرؤاسي في الكوفة والخليل في البصرة، ثم اشتد بين الكسائي في الكوفة وسيبويه في البصرة، وصار لكل مدرسة عَلَم تنحاز إليه كل فرقة، ويظهر أن هذه العصبية العلمية بين المدرستين كانت مؤسسة على العصبية السياسية التي ظهرت بين البلدين، والتي حكينا أمرها من قبل، وكانت كذلك أثرًا من آثار ظهور العصبيات البلدية التي أخذت تحل محل العصبية الجنسية، وأيًا ما كان فقد اختلفت مدرسة الكوفة عن مدرسة البصرة في مبادئ أساسية.
فالبصريون إذا رأوا استجاد واستزاد واستخار واستعار، ورأوا الأكثر يجري على هذا النسق، ثم رأوا استصوب واستحوذ، عدُّوا ذلك شذوذًا يُسْمَعُ ولا يقاس عليه، وإذا رأوا «إنََّ» تنصب الاسم وترفع الخبر غالبًا، ثم رأوها في بعض المواضع لا تسير هذا السير مع الوثوق بصحة ما ورد نحو إِنْ هَذََانِِ لَسَاحِرَانِ ألزموا الناس باتباع الأكثر الأغلب، فهم قد فضَّلوا القياس وآمنوا بسلطانه وجروا عليه وأهدروا ما عداه، وإذا رأوا لغتين: لغة تسير مع القياس، ولغة تسير عليه، فضَّلوا التي تسير عليه، وضعَّفوا من قيمة غيرها، فهم — في الواقع — أرادوا أن ينظِّموا اللغة ولو بإهدار بعضها، وأرادوا أن يكون ما سمع من العرب مخالفًا لهذا التنظيم مسائل شخصية جزئية يتسامحون فيها نفسها ولا يتسامحون في مثلها والقياس عليها حتى لا تكثر فُتفسِد القواعد والتنظيم، هذا إذا لم يتمكنوا من أن يؤولوا الشاذ تأويلًا يتفق وقواعدهم ولو بنوع تكلُّف.
وكانت هاتان النزعتان في البصرة في أيامها الأولى، فهم يقولون: إن ابن أبي إسحق الخضرمي وتلميذه عيسى بن عمر كانا أشد ميلًا للقياس، وكانا لا يأبهان بالشواذ، وكانا لا يتحرجان من تخطئة العرب، وكان أبو عمرو بن العلاء وتلميذه يونس بن حبيب البصريان أيضًا على عكسهما: يعظِّمان قول العرب ويتحرَّجان من تخطئتهم، فغلبت النزعة الأولى على مَنْ أتى بعدُ من البصريين، وغلبت النزعة الثانية على مَنْ أتى بعد من الكوفيين، ولا سيما الكسائي الكوفي.
ونرى في هاتين النزعتين أن البصريين كانوا أكثر حرية وأقوى عقلًا، وأن طريقتهم أكثر تنظيمًا وأقوى سلطانًا على اللغة، وأن الكوفيين أقل حرية وأشد احترامًا لِمَا ورد عن العرب ولو موضوعًا، فالبصريون يريدون أن ينشئوا لغة يسودها النظام والمنطق، ويميتوا كل أسباب الفوضى من رواية ضعيفة أو موضوعة، أو قول لا يتمشى مع المنطق؛ والكوفيون يريدون أن يضعوا قواعد للموجود حتى الشاذ، من غير أن يهملوا شيئًا حتى الموضوع، فكل عملهم أن يضعوا الشيء إلى لِفقه، فإذا كان للشيء الواحد جملة صور وضعوا له جملة قواعد.
ولعل المسألة الزنبورية نفسها التي أشرنا إليها قبلُ جارية هذا المجرى، فسيبويه لا يجيز إلا أن نقول: فإذا هُوَ هِيَ؛ لأنها المتمشية مع المنطق، هو مبتدأ، وهي خبر، وكلاهما ضمير رفع، والكسائي روي له أو سمع: فإذا هو إياها، فاستمسك بما سُمع وأجازه وأجاز القياس عليه وإن كان شاذًا؛ أمَّا سيبويه فلم يجزه لأنه لا يؤمن بالشاذ وإن ثبت سماعه، فلا يجوز أن نجيزه في أقوالنا، ولا أن نقيس عليه فيما يجري في كلامنا.
وظل الحال كذلك حتى تأسست مدينة بغداد، وهدأت الأمور السياسية، واستتب الأمن، وأخذ الحلفاء والأمراء يشجِّعون العلماء ويدعونهم لتربية أولادهم؛ فتسابق العلماء إلى بغداد، وكان للكوفيين الحظوة عند الخلفاء والأمراء أكثر مما كان للبصريين، لما سبق من أسباب، فالكسائي رئيس مدرسة الكوفة ذو الحظوة العظمى عند الرشيد، ومعلم الأمين والمأمون، والفرَّاء تلميذ الكسائي كان معلم أولاد المأمون، وابن السكِّيت تلميذ الفرَّاء كان معلم أولاد المتوكل، نعم كانت هناك مزاحمة للبصريين في القصور، فقد كان اليزيدي وهو بصري أحد معلمي المأمون، وكان ثعلب الكوفي والمبرِّد البصري معّلمي عبد الله بن المعتز، ولكن كان الكوفيون أعظم سلطانًا وأكثر عددًا، فإذا قرِّب بصري فلأسباب خاصة، كاليزيدي السابق ذكره كان معلمًا ليزيد بن منصور الحميري خال المهدي، وُنسِبَ إليه فسُمَّي اليزيدي، وكان ذلك قبل احتدام الخلاف بين البصريين والكوفيين؛ فحُفِظَت له مكانته من ذلك الحين وإن كان بصريًا، ومع هذا فقد كان مسالمًا للكسائي معترفًا بسلطانه.
•••
كذلك كان الشأن في اللغة والأدب، فاقت البصرة فيهما ما عداها من الأمصار، وحسبك دليلًا أن أقوى الشخصيات التي رُوِي ت عنها اللغة والأدب من البصريين نذكر منهم ثلاثة كانوا أشهر الناس في ذلك، وهم: الأصمعي، وأبو زيد، وأبو عبيدة، وكلهم بصري.
فالأصمعي عربي من باهلة، اسمه عبد الملك بن قُرَيب، نُسب إلى جده أصمع، وقد نشأ بالبصرة وأخذ عن علمائها، ورحل إلى البادية وكتب عن أهلها اللغة والأدب، وكان قبيح المنظر، وهبه أحد الأمراء جارية فخافت منه، ولكن خفيف الروح، ظريف، ميال إلى حكاية مُلَح الأعراب وأخبارهم، يعرف كيف يعجِب مَنْ يحدِّثه، ويستخرج ضحكه واستحسانه؛ وقد رُِزِق خصلتين كانتا سرَّ شهرته، أولاهما: حافظة جيدة، حتى لتمرَّ على سمعه القصيدة الطويلة فيحفظها، فيروى عنه أنه يحفظ ستة عشرة ألف أرجوزة، عدا دواوين العرب، وهذا إن بولغ فيه فأساسه صحيح؛ ولم يكن بهذا القدر من الذكاء العلمي، فالخليل يعجز عن أن يعلمه العروض، ولا يبلغ في النحو مبلغًا كبيرًا؛ لأن نحو عصره كان يحتاج إلى مهارة في القياس ونحوه، ولذلك يقول مَنْ رآه يتناظر مع سيبويه: «إن الحق كان مع سيبويه والأصمعي يغلبه بلسانه». والثانية: جودة الإلقاء، حتى قال أبو نواس: «إنه بلبل يطرب الناس بنغماته»، ويقول فيه الشافعي: «ما عبَّر أحد عن العرب بأحسن من عبارة الأصمعي»، وكان سماع العرب في كلامهم ولهجتهم مما يعجب الحضريين، فأعجبتهم منه هذه الخلة. مكنته هاتان الخصلتان من التقرب للقصر، فكان نديم الرشيد وسميره ومضحكه بما يروى من مُلَح الأعراب، وملأ كتب الأدب بما روى من قصص عن العرب والأعراب في حياتهم الاجتماعية، وبما روى من لغة وأدب، وبما دار بينه وبين العلماء في القصر وبين يدي الأمراء وفي حلقات العلماء، وكان اتصاله بالرشيد سببًا في شهرته الواسعة، كما كان سببًا في غناه.
وكان واسع العلم باللغة وألفاظها وتحديد معانيها واشتقاقها، لا يكتفي بمعرفة اللفظ حتى يشاهد مدلوله إن كان مما يشاهد، فأبو عبيدة يجمع من ألفاظ الخيل وأعضائها وما يتعلق بها أضعاف ما يجمع الأصمعي، ولكن يُسْأَل أبو عبيدة عن مدلول الألفاظ إذا أُحْضِر فرس فلا يعرف، ويعرف ذلك الأصمعي في دقة؛ وذلك نتيجة مخالطة العرب طويلًا وسماعه منهم واتصاله بهم في معيشتهم، على حين أن أكثر علم أبي عبيدة نظري.
وكان واسع الحفظ لأشعار العرب ودواوينها، فيقول الأخفش: «ما رأينا أحدًا أعلم بالشعر من الأصمعي وخلف»، ويقول ابن الأعرابي: «شهدت الأصمعي وقد أنشد نحوًا من مائتي بيت ما فيه بيت عرفناه»؛ وقد رُِوي عنه الكثير من شعر قبائل العرب.
كما أن وجوده في القصور وبين يدي الأمراء وما يتطلبه هؤلاء من سمر وأحاديث طريفة، وحسن استعداد الأصمعي لذلك جعله يروي الشيء الكثير من مُلَح الأعراب في عشقهم وزواجهم ومشاكلهم وما إلى ذلك، حتى ملأ جو العراق بهذا النوع من القصص ثم تناقلته الأمصار.
إن الديلم الأعداء لأنهم أعاجم، والعرب كانوا يعدُّون جميع الأعاجم أعداءهم، فسلوا هذا الأعرابي ما معنى الديلم، فسألناه فقال: الديلم حياض بالغور أوردتها إبلي غير مرة!
وآخرون يوثِّقونه، فقد وثَّقه ابن مَعِين وأحمد بن حنبل في الحديث، وقال أبو داود عنه إنه صدوق، ووثَّقه بعض اللغويين، فقال أبو الطيب: «لم يرَ الناس أحضر جوابًا، وأتقن لما يحفظ من الأصمعي ولا أصدقه لهجة، وكان شديد التأله فكان لا يفسر القرآن ولا شيئًا من اللغة له نظير واشتقاق في القرآن، وكذلك الحديث تحرجًا، وكان لا يفسر شعرًا فيه هجاء، ولم يرفع من الأحاديث إلا الأحاديث اليسيرة، وكان صدوقًا في كل شيء من أهل السّنة، فأمَّا ما يحكي العوام وسقاط الناس من نوادر الأعراب، ويقولون هذا مما اختلقه الأصمعي، وما يحكونه عن ابن أخيه (قد تقدمت الحكاية) وكيف يقول ذلك عبد الرحمن، ولولا عمه لم يكن شيئًا مذكورًا … وأنى يكون الأصمعي كذلك، وهو لا يفتي إلا فيما أجمع عليه العلماء، ويقف عما ينفردون عنه، ولا يجيز إلا أفصح اللغات، ويلح في دفع ما سواه».
ويظهر لي جمعًا بين الروايات المتناقضة أنه كان فيما يروي من الحديث متحريًا شديد التحري، فوثَّقه المحدِّثون، وكان في اللغة صادقًا غالبًا، إلا أنه يجتهد أحيانًا في تفسير الغريب فيخطئ، أمَّا في النوادر والملح وما يحكي عن الأعراب فيرخي في ذلك لنفسه العنان، وإذا وجد الحال يستدعي قولًا ظريفًا أو مْلحة تَزَيَّد فيها أو اخترعها، ولا يرى التساهل في ذلك ما يمس دينًا أو يخرج به عن التقوى؛ لذلك نشك فيما يرويه من النوادر كحكاية الأعرابي الذي أضناه العشق وهو ابن ست وتسعين سنة، قالها للرشيد، فقال له: ويحك يا عبد الملك! «ابن ست وتسعين يعشق؟!» وغير ذلك كثير، فلمَّا أنس الناس منه ذلك وعُرف به، اخترعوا النوادر الظريفة من الأعراب أيضًا ونسبوها إليه. وقد ألَّف كتبًا كثيرة بقي لنا بعضها، منها في الأدب كتاب الأصمعيات، وقد سبق القول فيه، وبعض رسائل في اللغة نقلنا نموذجًا منها قبل.
وأمَّا أبو زيد الأنصاري، فهو سعيد بن أوس، عربي من الخزرج من الأنصار، ونشأ بالبصرة كذلك، وأخذ العلم عن علمائها أمثال أبي عمرو بن العلاء، ورحل إلى بغداد في أيام المهدي، ولكن اتصاله بالخلفاء لم يكن كاتصال الأصمعي وأبي عبيدة، ويظهر أن صفاته لم تكن تؤهله لذلك؛ فقد كان متقعرًا يبحث عن الغريب، ويلتزم — حتى مع العامة — النحو والإعراب.
كما كان من مميزاته ضعف العصبية البلدية عنده، فلم يتحرج من الأخذ عن علماء الكوفة كما فعل غيره من علماء البصرة، بل أخذ عمَنْ وثق به من الكوفيين كالمفضَّل الضبِّي، فأخذ عنه كثيرًا من الشعر، وصرَّح باسمه وبما نََقَل عنه.
وكان أبو زيد أكثر الثلاثة أخذًا عن العرب في البادية، وله في الأخذ عنهم مذهب يخالف مذهب الأصمعي، فالأصمعي كان يضيِّق دائرة الأخذ، ولا يجوِّز إلا أصح اللغات، ويشدد في ذلك، وأمَّا أبو زيد — فمع تحريه الشديد وتوثيق الناس له أكثر من الأصمعي — كان لا يضيَّق دائرة مَنْ يؤخذ عنهم، بل يروي ما سمعه ولو كان غريبًا نادرًا؛ ولذلك انفرد بأشياء، وكان ما روي عنه من اللغة أكثر مما روي عن الأصمعي.
وعمَّر طويلًا حتى قارب المائة، واختل حفظه ولم يختلّ عقله، أراد الرياشي أن يقرأ عليه كتابه في الشجر والكلأ، فقال أبو زيد: «لا تقرأه عليَّ فإني أُنْسِتْهُ». مات سنة ٢١٥.
وبقي لنا من كتبه: كتاب «النوادر»، وكتاب «المطر»، وكتاب «اللبأ واللبن».
فكتاب النوادر قال في أوله: «ما كان فيه من شعر القصيد فهو سماعي من المفضَّل بن محمد الضبِّي، وما كان من اللغات وأبواب الرجز فذلك سماعي من العرب» وطريقته فيه أن يأتي بالقطعة من القصيدة أو الرجز، البيتين أو الثلاثة أو أكثر ثم يشرح ما فيها من غريب، ويظهر أنه قد تعمَّد اختيار الأبيات التي فيها غريب ليشرحه، مثال ذلك قوله: قال رجل من غَطَفَان:
السِّنات: جمع سَِنة وهي النعاس، والمرغثُ: المرضِعُ، فلذلك دعيت عوجاء، وعجْفَاء، وعَوَجُها عَجَفُها، والودْعَتَان مِنَْقَافَانِ في عنقه إلخ.
ويظهر أن هذا الكتاب قد دخلته حواشٍ كثيرة من أئمة اللغة بعده، ففيه نقلٌ عن أبي حاتم السجستاني والرياشي والمبرِّد وغيرهم ممَنْ كانوا من تلاميذه أو جاءوا بعده.
أمَّا أبو عبيدة مَعْمَرُ بن المُثَنَى، ففارسي الأصل، يهودي الآباء، تيمي بالولاء كان أعلم الثلاثة وأوسعهم اطلاعًا، مكّنته ظروفه من ثقافات واسعة، ثقافة يهودية وفارسية وعربية، لا يقتصر على اللغة والنحو والنوادر كزميليه، بل يشارك في كثير من العلوم، ويعرف كثيرًا من أخبار العرب وأيامها، ويقارن ذلك بأخبار الفرس وأيامها، ولكن إذا كان فارسي الأصل عربي المربَى لم يكن يحسن التعبير بالعربية إحسان الأصمعي وأبي زيد، وقد وصفه أبو نواس أحسن وصف إذ قال: «أبو عبيدة عالم ما تُرِِكَ مَعَ أسْفَارِه يَقْرَؤُّها». فهو عالم لا بليغ ولا صفيح، يفوق قرينيه في القدرة على التأليف وسعة الاطلاع، ويفوقانه في حسن الأداء، ومكَّنته فارسيته من التحرر من العصبية العربية، فهو شعوبي يطعن على العرب أحيانًا وعلى أنسابهم ويؤلف الكتب في معايبهم؛ ولكنه مع هذا عالم باللغة العربية علمًا واسعًا لا يقل كثيرًا عن علم الأصمعي وأبي زيد بها، حتى قال ابن مناذر: «كان الأصمعي يجيب في ثلث اللغة، وكان أبو عبيدة يجيب في نصفها، وكان أبو زيد يجيب في ثلثيها»؛ وقد فسر بعضهم هذه الجملة بأن ليس منشأ ذلك سعة الاطلاع وقلته ولكن منشؤه التوسُّع في الأخذ والتحمل والفتيا والتضييق فيها، فكان بعضهم أشد تضييقًا فيما يأخذ كالأصمعي، «وكان أبو عبيدة أعلم الثلاثة بأيام العرب وأخبارهم وأجمعهم لعلومهم»، حتى روي عنه أنه كان يقول: ما التَقى فرسان في جاهلية ولا إسلام إلا عرفتهما وعرفت فارسَيْهما»، وهي مع غلوها تدل على معرفة واسعة بالأخبار. وقد استقدمه بغداد إسحق بن إبراهيم الموصلي وقرَّبه إلى الرشيد، وكان هو وبعض الفرس كالبرامكة يقدمونه على الأصمعي ويزاحمونه به عصبية منهم؛ وفي الواقع كان هو أعلم من الأصمعي، وقد حررته فارسيته من الخضوع للعصبية العربية، وكان لا يتشدد في تفسير آيات القرآن والحديث تشدد الأصمعي، ولا يتحرج من أن يجتهد في الفهم، ويقول في ذلك ما يؤديه إليه اجتهاده؛ وعمَّر كذلك طويلًا حتى قارب المائة، ومات سنة ٢١٣.
هؤلاء الثلاثة هم نجوم البصرة، وهم العلماء الذين أخذنا عنهم أكثر اللغة والأدب، فلو جُرِّدت كتب اللغة مما أخذ عنهم ما بقي إلا أقلها.
وكان يقابلهم من علماء الكوفة نجوم أخرى ثلاثة: الكسائي والفرَّاء والمفضَّل الضَّبِّي، وكلهم كان في قصر الخليفة، وكلهم كان مربَّي وليّ عهد.
فأمَّا المفضل الضبي فعربي من ضَبَّة، ومن أشهر علماء الكوفة، يروون أنه خرج على المنصور مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن، فظفر به المنصور ثم عفا عنه وجعله مُرَبِّي ابنه المهدي؛ وقد اشتهر بالنحو ومعرفته بالأنساب وأيام العرب وروايته للشعر، وعُرِف َ بالصدق فيما يروي، مات سنة ١٦٤ أو ١٦٨ أو سنة ١٧٠ على اختلاف في الروايات.
وقد بقي لنا من أهم كتبه كتاب المفضَّليات، وقد تقدَّم القول فيه، وكتاب الأمثال.
ولم يبقَ لنا من كتبه إلا رسالة تُنْسَبُ إليه في لحن العامة.
وعلى الجملة فقد خطا الفرَّاء باللغة والنحو خطوة واسعة نحو الضبط، وتقعيد القواعد، وتمييز الفروع من الأصول، ظهر ذلك في كتب مَنْ بعده لأن أكثر كتبه لم تصل إلينا. وقد مات سنة ٢٠٧.
وممَنْ كان في طبقة الفراء من الكوفيين محمد بن زياد المعروف بابن الأعْرَابي ولم يكن أبوه أعرابيًا كما يتبادر من اللفظ، بل كان عبدًا سنديًا، وإنما لُقِّب بالأعرابي «لأنهم يقولون رجل أعجم وأعجمي إذا كان في لسانه عجمة وإن كان من العرب، ورجل عجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحًا، ورجل أعرابي إذا كان بدويًا وإن لم يكن من العرب، ورجل عربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن بدويًا» وقد عُرِفَ بالنحو، وعُدَّ من أكابر أئمة اللغة، وكان راوية لأشعار القبائل، ومُنِحَ حافظة لاقطة تشبه حافظة الأصمعي، كان يملي على الناس من حفظه ما لو جُمِعَ لألَّف كتبًا عديدة، ويظهر أنه كان ثقة فيما يروي قاسِيَ الحكم على العلماء، وقد جرَّح الأصمعي وأبا عبيدة والكسائي، ورماهم بالكذب والاختلاق. مات سنة ٢٣١ عن نحو ثمانين عامًا.
وروى الأغاني أن المهدي قال للمفضَّل: «إني رأيت زهير بن أبي سُلْمَى افتتح قصيدته بأن قال: دع ذا وعدُّ القول في هَرِمٍ — ولم يتقدم له قبل ذلك قول، فما الذي أمر نفسه بتركه؟ فقال له المفضل: ما سمعت يا أمير المؤمنين في هذا شيئًا إلا أني توهمته كان يفكر في قول يقوله، أو يُرَوَّي في أن يقول شعرًا فعدل عنه إلى مدح هَرِم، وقال: دع ذا. ثم دعا المهدي بحماد فسأله هذا السؤال فقال حماد ليس هكذا قال زهير ياأمير المؤمنين، قال: فكيف قال؟ قال فأنشده:
ولكن مما لا شك فيه أيضًا أن من وسائل الخصومة التي كانت بين البصريين والكوفيين أن بعض علماء كل بلد كانوا يبالغون في تجريح الآخرين.
وعلى الجملة كان البصريون أقوى وأكثر إنتاجًا وأوثق رواية، ولذلك أسباب: منها أن الأعراب الفصحاء الذين كانوا يرِدُون على البصرة ومرِبدها أكثر ممَنْ كانوا يردون على الكوفة، وهؤلاء الوافدون من الأعراب أخذ عنهم العلماء كثيرًا من اللغة والأدب، فكما كانت طريقة الأخذ الرحلة إلى البادية كان كذلك رحلة الأعراب إلى الأمصار، وكانوا يفضلون أعراب بادية البصرة على أعراب بادية الكوفة؛ لأن الأولين أعرق بداوة والآخرين أفسدتهم الحضارة. ومنها: — ما علمت — من أن مدرسة البصرة سبقت مدرسة الكوفة بنحو مائة سنة في الوجود، فكان طبيعيًا أن ينضج النحو واللغة في البصرة أكثر مما نضج في الكوفة. ومنها: أن الكوفيين كانوا أكثر صلة بالأمراء والخلفاء ببغداد، وهذا جعل تزاحم الكوفيين على الأبواب أشد، وجعلهم يتخيرون ما يحسن في السمر والمنادمة، ويتزيدون فيما يعجب وبخاصة ما ليس في التزيد فيه حرج كبير، كالحكايات والقصص من الأعراب؛ ولكن من ناحية أخرى يظهر لي أن الكوفيين لقربهم من الخلفاء، ولاشتغالهم بمهنة تأديب أولاد الخلفاء والأمراء كانوا يتجهون في اللغة والعلم جهة الإيضاح والتبسيط أكثر مما فعل البصريون، وقد رأيت أن الفرَّاء الكوفي مؤدب أولاد المأمون جعل النحو أقرب إلى أن يكون في متناول الصبيان، على حين أنهم يروون أن «المبرد كان إذا أراد مريد أن يقرأ عليه كتاب سيبويه (البصري) يقول له: هل ركبت البحر؟ تعظيمًا لكتاب سيبويه واستصعابا لما فيه».
وأيًا ما كان فقد استمر التعاون بين المدرستين في خدمة العلم، والنزاع المستمر والتفاخر والترامي بالكذب والوضع إلى أواخر القرن الثالث الهجري فكان لكل مدرسة شخصيتها ومميزاتها وأعلامها إلى أن اختلطتا وامتزجتا في مدرسة بغداد، فأخذت الفروق تضمحل، وأخذ علماء النحو واللغة بعدُ يدرسون مسائل الخلاف بين المدرستين على أنها مسائل تاريخية، وربما كان خاتمة أعلام المدرستين ثعلب الكوفي، المتوفى سنة ٢٨٥، والمبرِّد البصري المتوفى سنة ٢٩١ وكان بينهما من المفاخرة والمناقب الشيء الكثير، ثم خفتَ من بعدهما الجدال وقلَّ النزاع.
•••
وبعد، فنظرة إلى ما تقدَّم ترينا: أن هذا العصر كان العصرَ الذي جُمعت فيه اللغة ونقلت من الألسنة إلى الكتب، ومن المشافهة إلى التحرير، وأن الذين تولوا ذلك التدوين والجمع هم مَنْ ذكرنا وقليل أمثالهم، وفي الواقع أن هؤلاء مهما بلغوا من الجد لم يستطيعوا أن يدونوا كل كلمات العرب على اختلاف قبائلهم؛ لأن ذلك كان يحتاج إلى سلطة عليا دقيقة منظمة تضع خطة محكمة تشبه الخطة التي تضعها «مصالح الإحصاء الرسمية»، فتحدد القبائل التي يصح الأخذ عنها، وتوجَّه كل طائفة من العلماء إلى قبيلة أو جملة قبائل، وترسم لهم طريقة الأخذ والتدوين، ولو فعلت لكان الحصر أوفى والضبط أتم، ولما استطاع فرد أو أفراد أن يختلقوا أو يتزايدوا؛ ولكن هذه الفكرة لم تكن في ذلك العصر ولا يمكن أن تكون، ولم تتخذ الحكومة في ذلك الوقت أية خطوة للإشراف على الحركة العلمية، سواءً في ذلك الدولة الأموية والعباسية، وسواءً في ذلك العلوم اللسانية والعلوم الدينية، حتى القانون الذي تُحْكَمُ به الرعية لم يتخذ شكلًا رسميًا، ولم تحتضنه الدولة — كما رأيت عند الكلام في الفقه — بل كانت الحركات العلمية مجهود الأمة نفسها، فهم يتعلمون بمحض إرادتهم ويعلِّمون بمحض إرادتهم، والرغبة الشخصية هي التي تدفع للتعلم، والكفاية الشخصية في الأوساط العلمية هي وحدها التي تؤهل العالم أن يُعَلِّم ويتخذ له حلقة في المسجد وهكذا. فهؤلاء اللغويون جدُّوا من أنفسهم في جمع اللغة وتدوينها، أمَّا من طريق الخروج إلى البادية، أو من رحلة الأعراب إليهم وسماعهم منهم؛ وطبيعي أنهم بهذا الشكل — الذي لم ترسم له خطة محدودة — يفوتهم كثير من الكلمات العربية لم تقع لهم، وهذا ما يعلل ما نرى من أن كثيرًا من الكلمات التي وردت في الشعر الفصيح الصحيح من جاهلي وإسلامي لم يرد له ذكر فيما بين أيدينا من معاجم، وكلمات كثيرة استعملت في الشعر الفصيح الصحيح للدلالة على معانٍ لم تفسرها المعاجم تفسيرًا يتفق وهذه المعاني.
كذلك كان هذا العمل الفردي الاجتهادي سببًا في أن لغويًا قد يفهم من مخالطته للعرب وسماعه للكلمة مدلولًا قد فهمه من القرائن، على حين أن لغويًا آخر سمع هذه الكلمة وفهم من قرائن أخرى مدلولًا يخالف المدلول الذي فهمه الأول مخالفة قريبة أو بعيدة، وهذا هو الذي يفسر ما نراه في المعاجم التي بين أيدينا من إيراد احتمالات مختلفة لتفسير الكلمات. وقد يكون لهذا سبب آخر وهو أن الكلمة التي تكون واحدة وتستعملها قبيلة في معنى، وتستعملها قبيلة أخرى في معنى آخر، وعدم النظام الذي ذُكر جعل الراوي لا يعيَّن القبيلة التي أخذ منها هذه الكلمة وهذا المعنى — غالبًا — ولهم بعض العذر في ذلك؛ فلو فعلوا لبلغ المعجم مجلدات عديدة.
وناحية أخرى وهي أن ضعف الكتابة العربية في ذلك العصر، وعدم العناية بالنقط والشكل، وتقارب الحروف في اللغة العربية، والاكتفاء في التفريق بينها بالنقط مع أنهم لا يلتزمونه، جعل التصحيف ميسورًا سهلًا، فلا فرق بين العين والغين إلا النقطة، ولا بين الباء والتاء والثاء والنون والياء في أول الكلمات ووسطها إلا النقط، وهذا هو الذي يفسر ما نرى في المعاجم من أن الكلمة يرويها بعضهم بالعين وبعضهم بالغين، وكلمة أخرى يرويها بعضهم بالفاء وبعضهم بالقاف، وكلمة ثالثة يرويها بعضهم بالصاد وبعضهم بالضاد، وكل يخطِّئ الآخر، وقد فتحتُ «لسان العرب» حيثما اتفق فخرجت مادة قبض فوجدت فيها ما يأتي: قال الليث: «القبيضُة من النساء القصيرة: وقال الأزهري: هذا تصحيف والصواب القُنْبُضَة». وفيها: في حديث بلال في التمر، فجعل يجيء به قْبَضًا قْبَضًا»، وقد رُوِي بالصاد المهملة. وفيها أن بيت الشَّمَّاخ:
يرويه بعضهم القِبّضي بالضاد وبعضهم القِبّصي بالصاد، فهذه ثلاثة تصحيفات في مادة واحدة، فكم في اللغة جميعها.
ومع ما بذله العلماء من جهد في التحري عن الخطأ والتصحيف والوضع بقي منه ما بقي في الكتب، ومما يؤسف له أن جهود العلماء وقفت تقريبًا على ما وضع في العصر العباسي الأول والثاني، ولم يكن لمَنْ أتى بعدهم إلا جمع ما قالوا أو اختصار ما جمعوا، فلم يحكموا بالإعدام على كلمات تبين عدم صحتها أو عدم الحاجة إليها، ولم يحكموا بصحة كلمات تثبت صحتها أو دعت الحاجة إليها.
وكذلك الشأن في الأدب إنما جمع في العصر العباسي، ورُوِي من شعر الأدب ونثره ما كان العرب يتناقلونه في ذلك العصر شفاهًا، فحُوِّل من رواية شفوية إلى كتابة وتدوين، ودخل في الأشعار اختلاف الروايات كما رأيت؛ لأن الحافظة تخطئ كثيرًا فتضع لفظًا مكان لفظ، وتقدم بيتًا على بيت، وتحذف بيتًا كان إلخ، وجاء حماد وخلف الأحمر — كما سبق — وأمثالهما، فعدُّوا من الظرافة أن يتزيدوا، وتسابقوا في الوضع، واستغلوا إعجاب الناس بالجديد الذي لم يُسْمَع من قبل، وتلهفهم على الكتابة عنهم ما لم يرو من قبل عن غيرهم، كما استغلوا إعجاب الناس بما يستخرج الدهشة من خبر غريب أو حادثة غير مألوفة، أو قصيدة فرشوا لها فرشًا يناسبها؛ فكان من ذلك ما أدركه المفضَّل الضبِّي من أن تمييز الصحيح من غير الصحيح أصبح بعد هؤلاء الكذبة المهرة عسيرًا أو مُحالًا.
كذلك نحن مدينون لهذا العصر كل الدَّين بالنحو والصرف، فما اخترعه الخليل ودوَّنه وسيبويه وأكمله الفرَّاء وأمثالهم في هذا العهد هو أساس كل ما وصل إلينا، فإن كان بعدُ جديد فتبويب وشرح وتبسيط وإكمالٌ قليل، لكن لا اختراع جديد ولا إنتاج جديد. فإذا قلنا إننا عشنا القرون الطويلة نأكل من المائدة التي صنفها هؤلاء في اللغة والأدب والنحو والصرف، ولم نزد صنفًا عليها، بل لم نغير كثيرًا في طريقة إعداد الصنف وتهيئته لم يكن ذلك بعيدًا من الصواب.
ومما ألاحظه أيضًا أن اللغة والنحو لم يشترك في وضع أسسها غير العراق، فالمصريون والشاميون ساهموا في القراءات، وساهموا في الحديث، وساهموا في التاريخ، وساهموا في الفقه، وكان لهم في كل ذلك رجال يعدون في طبقة رجال العراق، كما أبنا ذلك عند الكلام في مراكز الحياة العقلية، ولكنا — فيما وصل إلينا — لم نجد مصريًا أو شاميًا جدَّ في جمع اللغة وتدوينها في ذلك العصر كما جدَّ أبو عمرو بن العلاء، والخليل والأصمعي وأضرابهم، مع أن في مصر عربًا خلصًا كان المصريون يستطيعون أن يدوِّنوا ما يسمعونه عنهم فيكون لهم نصيب في ذلك، وربما أفادونا لونًا غير اللون الذي أُثِر عن العراقيين، وكان بالشام عرب خلص كذلك، وقريب منهم بادية الشام، فيستطيعون أن يخرجوا إليها يستمعون أعرابها ويدونون ما سمعوا منهم، كما فعل الأصمعي والكسائي وغيرهما، وربما أفادونا في ذلك لونًا خاصًا أيضًا، ولكنهم لم يفعلوا، ولم نعلم كذلك من المصريين والشاميين من وضع حجرًا أساسيًا في بناء النحو في عهد تأسيسه، كما فعل الخليل وسيبويه والفرَّاء. قد كان لمصر الليث بن سعد، وللشام الأوزاعي وهما يضارعان فقهاء العراق، ولكن لم يكن لهما أصمعي ولا سيبويه — فيما نعلم — وربما كان السبب في ذلك جملة أمور مجتمعة منها: أن اللغة العربية لم تنتشر في مصر انتشارها في العراق، فعرب أهل مصر لا حاجة لهم يجمع لغة ولا بنحو، وأهل مصر أنفسهم أخذوا يتعلمون اللغة العربية في العصر الأموي تعلمًا ابتدائيًا لا يمكّنهم من جمع وابتكار فيها، فلمَّا نضجوا أو قاربوا النضج كان النحو قد تكوَّن واللغة قد جُمِعَت، أمَّا العلوم الأخرى من حديث وتاريخ وتشريع فالباعث الديني كان عندهم فيها أقوى من الباعث اللغوي أو النحوي، والعرب الذين في مصر في حاجة إلى الحديث وما يتبعه من تاريخ وتشريع، لا إلى نحو ولا إلى لغة؛ فلمَّا اشتغلوا هم بالحديث وما إليه دون اللغة والنحو قلَّدهم في ذلك غيرهم من الموالي، وقريب من ذلك يصح أن يقال في الشاميين، وإن كانوا أكثر اتصالًا بالعرب من المصريين. ومنها: أن ظروفًا خاصة أشرنا إليها قبل جعلت تأسيس النحو في البصرة، ثم نقلت العدوى إلى الكوفة فتعاون المدرستان في تأسيسه والنحو وليد اللغة، ولم تنتقل العدوى إلى مصر والشام لبعد المسافة. ومنها: أن العراق ربيب حضارات مختلفة، وأهله قد شغلوا بالعلوم كثيرًا قبل أن يتعرَّبوا، وبعض هذه الأمم كان لها لغة معروفة ونحو موضوع، فلمَّا تعربوا اتجهت أفكارهم المنظمة تنظيمًا علمياٍّ أن يؤسسوا في العربية ما أُسَّس قبل ذلك في غيرها؛ أضف إلى ذلك ذوق الخلفاء والأمراء العباسيين في العراق وتشجيعهم لحركة اللغة والنحو، ولم يكونوا كالأمويين الذين يشجعون الأدب العربي من ناحية روايته، لا من ناحية علميته؛ فكل هذا ونحوه أنتج الظاهرة التي أبنَّاها.
•••
وأياًّ ما كان فمما يلفت النظر حقاًّ جدُّ العلماء في ذلك العصر في جمع اللغة وابتكار النحو جِدًا لم يكن له نظير في العصور الإسلامية بعدُ؛ فاحتمال العناء في مخالطة الأعراب في البادية، وتحملهم السفر وخشونة العيش، وصبرهم على كل ما يلَقون من مكروه، وتفكيرهم الطويل العميق مع الزهد في عرض الدنيا — كما يقدم لنا الخليل بن أحمد صورة من ذلك من أجمل الصور — كل هذا من غير شك يدعو إلى الإعجاب. (قال الأصمعي: قال عيسى بن عمر: «كنت أنسخ بالليل حتى ينقطع سوائي» أي وسطي)؛ وأبو العباس ابن عم الأصمعي يهلع من الغربة في البادية ويشتاق أهله فيهمُّ بالرجوع، ثم يرى عربيًا فيتوسل له أن يسهل له سبيل الأخذ عن الأعراب فيفعل، ويصحبه فيسمع قصيدة من أعرابي مطلعها:
فيقول أبو العباس: «قد والله أنسيت أهلي، وهان عليَّ طول الغربة وشظف العيش سرورًا بما سمعت». ورُوِي عن أبي المحلم أنه أنشَدَ يونس بن حبيب أبياتًا من رجز، فكتبها على ذراعه إذ لم يجد صحيفة.
ومثل ذلك كثير يشهد بأنهم عانوا في العلم أشد مما يعاني الجندي في صف القتال.
وأمَّا تميم فقبيلة مضرية أيضًا، قال ابن خلدون: «كانت منازلهم بأرض نجد دائرة من هناك على البصرة واليمامة وامتدت إلى العذيب من أرض الكوفة» وكان منهم شعراء كثيرون ففي الجاهلية أوس بن حجر، وسلامة بن جندل، وعيدة بن الطبيب؛ وفي الإسلام جرير والفرزدق، والراجزان المشهوران: العجاج وابنه رؤبة.