التاريخ والمؤرخون
ذكرنا قبل أن أول ما عُنِي به — من التاريخ الإسلامي — سيرة النبي ﷺ وما يتبعها من مغازٍ، وأن هذا النوع من التاريخ اعتمد على شيئين: الأول ما كان دائرًا بين العرب عن أخبار الجاهلية كأخبار جُرْهم ودفن زمزم، وأخبار قُصَيّ بن كِلابٍ وغلبته على أمر مكة وجمعه قريش، ومعونة قضَاعة له، وقصة سد مأرب ونحو ذلك. والثاني أحاديث رواها الصحابة والتابعون منْ بعدهم عن حياة النبي ﷺ من ولادته ونشأته ودعوته إلى الإسلام، وجهاده مع المشركين وغزواته، وعلى الجملة أخباره إلى حين وفاته؛ وقد أضافوا إلى أخبار الجاهلية والإسلام الأشعار التي رُوِيت في هذه الموضوعات، مما يصح بعضه ولم يصح بعضه عند الثقات.
وقد تأثر ما يُرْوَى في السيرة من أحداث قبل الإسلام بالنمط الذي تروى به أيام العرب في الجاهلية، كما تأثر ما يروى منها من أحداث الإسلام بنمط الحديث.
وكان أكبر الرواة عنه ابن هشام بن عروة، وابن شهاب الزهري؛ ووصلت إلينا كثير من روايات عروة وأحاديثه في كتب ابن إسحق والواقدي والطبري، فرُوِِيت عنه أخبار الهجرة إلى الحبشة وأخبار الهجرة إلى المدينة، وغزوة بدر إلخ، وكثير مما رُوِي عنه كان إجابة عن أسئلة وُجِّهت إليه من عبد الملك بن مروان والوليد وغيرهما. ويدل ما وصل إلينا من إجابته على أنه كان يجيب في المغازي من أحاديث جمعها.
وعلى الجملة فكُتب السيرة الأولى التي وصلت إلينا كابن هشام وابن سعد والطبري مدينة في جزء كبير منها لِمَا رواه عروة بن الزبير.
هؤلاء الأربعة هم الدعامة الأولى في كتابة المغازى، ونرى من أخبارهم أن ثلاثة منهم، وهم أبان وعروة وشرحبيل، الأولان من خير بيوتات قريش وأشرفها: أبان وعروة، والثالث موًلى من موالي الأنصار، وطبيعي أن تكون المدينة أهم مصدر المغازي؛ فقد وقعت أكثر الأحاديث تحت أعين أهلها، وأمَّا وهب فقد ذكروا أنه من أهل الكتاب الذين أسلموا، وأنه يمني من أصل فارسي قد اعتدَّ في أخباره على ما رَُوَِى عن عباس وجابر وأبي سعيد الخُُدْرِِيّ وغيرهم، وعلى ما قرأ من كتب أهل الكتاب.
ثم جاءت بعد هؤلاء طبقة أخرى عُنِيَت بالمغازي من أشهرهم: (١) عبد الله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري (٢) وعاصم بن عُمر بن قتَادة (٣) والزُّهرِِي. فأمَّا عبد الله فكان جده الأعلى عَمْرو بن حَزْم من كبار الصحابة، بعثه رسول الله إلى أهل اليمن ليفقِّههم في الدين ويعلِّمهم السنة ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صَدَقاتهم، وجدُّه محمد بن عمرو مات يوم الَحرَّة، وكان معروفًا بالتقوى، وأبوه أبو بكر كان قاضي المدينة لمَّا كان عمر بن عبد العزيز واليًا عليها، وضم إليه سليمان ولاية المدينة، وظل فيها في خلافة عمر. ورُوِي عن مالك أنه قال: «لم يكن أحد بالمدينة عنده من علم القضاء ما كان عند أبي بكر بن حزم»، وهو الذي كتب إليه عمر بن عبد العزيز يطلب إليه أن يجمع الحديث. وقد خلف أبو بكر ولدين محمدًا وعبد الله الذي نترجم له، فمحمد كان قاضيًا على المدينة، وكان يخرج في قضائه عن الحديث أحيانًا إلى العمل بما أجمع عليه أهل المدينة، ويأبى عليه أخوه عبد الله إلا أن يتبع الحديث.
وقد نُقِلَت عن عبد الله هذا أخبار كثيرة ذكرها ابن إسحاق والواقدي وابن سعد والطبري، ورُوِِيت له أخبار تتعلق ببدء حياة النبي ﷺ، ووفود القبائل إلى رسول الله، وأخبار في حروب الردة إلخ. ففي سيرة ابن هشام: «قال ابن إسحق، وحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن امرأته فاطمة بنت عمارة عن عَمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرَارَة، عن عائشة كذا». وفي الطبري عن محمد بن إسحق أنه «دخل على عبد الله بن أبي بكر، فقال لامرأته فاطمة: حَدِّّني محمدًا ما سمعتِ من عَمْرة بنت عبد الرحمن، فقالت: سمعت عَمْرة تقول، سمعت عائشة تقول إلخ» ويروي الطبري: عن محمد بن إسحق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: كان جميع ما غزا رسول الله ﷺ بنفسه ستًّا وعشرين غزوة: أول غزوة غزاها وَدَّان، ثم غزوة بُواَط إلخ. وعلى الجملة فقد كان عبد الله بن أبي بكر عظيم الأثر في كتب السير والمغازي، وكان له من بيته العظيم في الأنصار، وتزوجِه بقاطمة التي تروي عن عَمْرة التي تروي عن عائشة ما يَسَّر له جمع الأحاديث التي تتصل بالمغازي.
وقد نقلت إلينا مجموعة مما رواه في كتب الحديث، ونقل ابن سعد عنه كثيرًا من أخبار المغازي في كتابه. وقد مات سنة ١٢٤.
وجاءت بعد هؤلاء طبقة أخرى عاشت في العصر العباسي، أشهرهم مُوسَى ابن عُْقبَة، ومعْمرً بن راشد، وابن إسحق والوَاقِدِيّ.
فإن نحن وصلنا إلى ابن إسحق والواقدي فقد وصلنا إلى أكبر مؤرخي العصر العباسي الأول، ومَنْ كان عليهما يَعْتمد أكثر المؤرخين الذين جاءوا بعدهما.
وقد بقي بعض هذه الأخبار التي حذفها ابن هشام في تاريخ الطبري وغيره من التواريخ منسوبة إلى ابن إسحق؛ وابن إسحق قليل الإسناد في القسم الأول كثيره في الأخيرين وخاصة الأخير، فهو يروي عن عاصم بن عمر، وعبد الله بن أبي بكر، ويكثر من الرواية عن الزهري، واتصل بكثر من الزبيريين ومواليهم، فأخذ عنهم، عِلْمَ عروة بن الزبير وهشام بن عروة.
ولابن إسحق فضل جمع الأحداث وترتيبها وتبويبها وسلسلتها، وربما كان هو أول مَنْ فعل ذلك، وحذا حذوه مَنْ بعده.
وقد اختلف العلماء فيه في العراق، كما اختلفوا فيه في المدينة من مجرِّح ومُعدِّل، ومُوَثَِّّق ومكذِِّّب، وقد عقد الخطيب البغدادي فصلًا طويلًا حكى فيه الأقوال التي قيلت له والتي قيلت عليه، ولم يحكم بينها كعادته، ووقف بعضهم في ذلك موقفًا وسطًا، فقالوا إن سعة علمه لا تنكر، وإنه لم يكن كاذبًا، ولكنه كان قدريًا وكان يتشيع، وكان لا يتقيد بالقيود الكثيرة التي يتقيد بها ثقات المحدِّثين، فيقول فيه ابن حنبل: «كان رجلًا يشتهي الحديث فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه»، والمحدِّثون لا يرضون عن هذا ويشترطون السماع. و«كان يحدِّث عن جماعة بالحديث الواحد ولا يفصل ذا من ذا»، والمحدِّثون يكرهون ذلك ويشددون في نسبة كل جزء من الحديث إلى قائله، فالظاهر أنه لم يلتزم طرق المحدِّثين في الحديث، وتوسَّع في نقل الأخبار فكرهه بعضهم من أجل ذلك وعابوه.
وقد مات ببغداد سنة ١٥٢ أو سنة ١٥٣.
الواقدي — كان الثاني بعد ابن إسحق في سعة العلم بالمغازي والسِّير والتاريخ، وكان معاصرَه وأصغر منه سنًّا، وكان موًلى مثله، فهو محمد بن عمر بن واقد الواقدي مولى بني هاشم، وقيل مولى بني سهم بن أسلم؛ وقد لقي كثيرًا من الشيوخ وأخذ عنهم مثل مَعْمرَ بن راشد، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري؛ ومن أشهر شيوخه في التاريخ الذين يروي عنهم كثيرًا أبو معشر الِّسْندي واسمه نَجِيح، كان من علماء المدينة، فلمَّا قدم المهدي المدينة استصحب معه أبا معشر هذا إلى بغداد وأمر له بألف دينار، وقال له: «تكون بحضرتنا فتفقِّه مَنْ حولنا». ومات ببغداد سنة ١٧٠، وكان كثير العلم بالتاريخ والحديث، ففي الحديث يضعفه كثير من المحدِّثين، ويروون أنه اختلط في آخر عمره، وبقي قبل أن يموت سنتين في تغير شديد لا يدري ما يحدِّث به لكثرة المناكير في روايته؛ والبخاري يقول فيه: «إنه منكر الحديث»، ولكنهم لا يطعنون في سعة علمه بالمغازي، فيقول فيه أحمد بن حنبل: إنه بصير بالمغازي: وقد ألَّف كتابًا فيها ذكره ابن النديم في الفهرست، اقتبس منه ابن سعد في كتابه الطبقات عند الكلام في السيرة، وكذلك الطبري.
فيظهر أن الواقدي استفاد كثيرًا من علم أبي معشر في المغازي والتاريخ، كان تلميذه أيام كان في المدينة.
وللواقدي كتاب اسمه «التاريخ الكبير» مرتب على حسب السنين اقتبس منه الطبري كثيرًا في تاريخه، وآخر ما اقتبس منه سنة ١٧٩.
وله كتاب الطبقات ذكر فيه الصحابة والتابعين مرتبين حسب طبقاتهم، ويظهر أن كاتبه «ابن سعد» قد حذا حذوه وسار في كتابه على منهجه.
ولم يبقَ لنا مما يصح من كتبه إلا كتاب المغازي، وقد ذكر في أوله شيوخه الذين أخذ عنهم مغازيه، ويبلغون نحو خمسة وعشرين، وكلهم تقريبًا من أهل المدينة أو من سكانها، ومن هؤلاء مَنْ سبقنا فذكرنا علمهم الواسع بالسيرة كالزهري، ومعمر بن راشد، وأبي معشر، ولم يذكر ابن إسحق في هذه المجموعة، وإن كان في كتابه قد استخدم تآليفه، ومغازي الواقدي على ما يظهر أكثر إخبارًا عن سيرة النبي في أيامه المدينة، وهو أميل في أخباره إلى الفقه والحديث من ابن إسحق، وهو يرجع أحيانًا إلى كتب وصحف رآها واعتمد عليها، أو سمع عمَنْ رآها، فيقول ابن سعد: قال الواقدي، حدَّثني عبد الله بن جعفر الزهري قال: وجدت في كتاب أبي بكر بن عبد الرحمن بن المسوِّر. وقال محمد بن عمر (الوقادي): نسخت كتاب أهل «أذْرُُِح» فإذا فيه إلخ، ويمتاز عمَنْ سبقه بالدقة في تعيين تاريخ الحوادث.
وكان الواقدي — كما رأينا — على اتصال بالعباسيين، وقد تأثر بهذه الصلة بعض الشيء في كتبه، في حذف اسم العباس من جملة أسماء مَنْ وقعوا أسرى في يد المسلمين يوم بدر، وأحيانًا يكني عن العباس بفلان، ولا يصرِّح باسمه، ونحو ذلك.
وقد وقف في الواقدي المحدِّثون موقفهم من ابن إسحق من معدِّل ومجرِّح، وحكى أقوالهم أيضًا على اختلافها الخطيب البغدادي، فكان يثق به مالك ولا يثق بابن إسحق، وكان يثق به محمد بن الحسن من الحنفية، ولقَّبه بعضهم بأمير المؤمنين في الحديث، ويثق به ابن عبيد القاسم بن سلام اللغوي الشافعي، ويقول: «الواقدي ثقة، كما كان يطعن عليه عليّ المديني ويقول: «عند الواقدي عشرون ألف حديث لم يُسمَع بها»، ويقول يحيى بن مَعِين: أغْْرَبَ الواقدي على رسول الله ﷺ، عشرين ألف حديث» وقال أحمد بن حنبل: «الواقدي يُركِّب الأسانيد»، وقال الشافعي: «الواقدي وصل حديثين» أي لا يصح أن يوصلا.
وأيَّا ما كان فقد كان الواقدي من أوسع الناس علمًا في عصره بالمغازي والسِّير، كما كان واسع العلم بالحديث والتفسير والفقه، وكان من أكبر المصادر التي عوَّل عليها الطبري في تاريخه.
- (١)
أن أكثر كُتَّاب السيرة الأولين كانوا من أهل المدينة؛ لأن أكثر أحداث السيرة من تشريع مدني ومغازٍ كان والنبي ﷺ فيها، وكان مَنْ حوله من أصحاب أعرف الناس بتلك الأخبار، فكانوا يحدثون بها ويروونها، وتناقلها عنهم التابعون ومن بعدهم حتى دوِّنت، وبدأ التدوين في المدينة ونفق في العراق.
- (٢)
كانت السيرة والمغازي جزءًا من الحديث يرويه الصحابة كما يروون أحاديث الصلاة والصيام، وكان مَنْ بعدهم يرويها عنهم كما يروون أحاديث العبادات والمعاملات، ويصل بعضها ببعض؛ وعُنِي بعض العلماء بهذه الناحية التاريخية كماعُنِي غيرهم بأحاديث الأحكام، ثم أُفْرِِدَت بالتأليف، وضَمَّ إلى الحديث غيره من أخبار الجاهلية، وما في يد الناس من شعر.
- (٣)
سلك المؤلفون الأولون في السيرة مسلك المحدِّثين الأولين، فمنهم مَنْ كان يُعَْنى بالإسناد ومنهم مَنْ لم يعنِ به، واضطر ابن إسحق والواقدي وأمثالهما — مراعاة لسير الحوادث وأخذ بعضها برقاب بعض — أن يجمعوا الأسانيد ويجمعوا بعد ذلك المتن، من غير أن يفرزوا كل جزء من المتن بسنده، فهاجمهم المحدِّثون من أجل ذلك، ولكن عذر المؤرخون عنايتهم بعرض الحادثة كاملة في إيجاز تسهيلًا على الكُتَّاب والقُرَّاء.
- (٤)
كل ما سبق أن ذكرناه في الحديث من دخول الوضع فيه، وتقسيمه إلى أقسام باعتبار صحته وضعفه ينطبق على السيرة والمغازي، فمن الرواة مَنْ كان ثقة صدوقًا، ومنهم المتساهل في رواية الأخبار، ومنهم الوضَّاع، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
•••
- (١)
أنها مادة من مواد التشريع وأصل من أصوله، فأعمال عمر بن الخطاب وسيرته في البلاد المفتوحة اتخذت أساسًا ونبراسًا لمن جاء بعده من أئمة الفقهاء، من شئون الجهاد ومعاملة أهل الذمة، والخراج والعُشْر وما ذلك؛ كذلك كانوا مضطرين إلى أن يتتبعوا شئون الفتح ليعرفوا أي البلاد ُفتِحَ ليعرفوا أي البلاد ُفتِحَ صلحًا، وأيها ُفتِحَ عَنْوة؛ لِمَا يترتب على ذلك من اختلاف في الجزية والخراج ونحوهما، وهذا ما دعا مؤرخي البلدان أن يعقدوا الفصول الطويلة في أول كتبهم يبينون فيه حال البلد في الفتح: هل ُفُتِحَت صلحًا أو عنوة؟ كالذي نرى في المقريزي نقلًا عن المؤرخين الأولين، وكالذي نرى في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي؛ وهذا بعينه هو الذي دعا البَلأُذري أن يفرد في ذلك كتابه المشهور «فتوح البلدان»، ومصداق ذلك أنا نرى قسمًا كبيرًا من أقسام الحديث يشمل هذه الأمور التاريخية، والحديث لا شك في أنه مصدر من مصادر التشريع، ففي كتب الحديث فصول وأبواب في أحكام القتال والغزو، وفي الأمان والهدنة، وفي الجزية وأحكامها، وفي الغنائم والفيء إلخ.
- (٢)
وسبب آخر يتصل بهذا، وهو أن حوادث الخلاف بين المسلمين، كالذي كان بين المهاجرين والأنصار عقب وفاة النبي ﷺ فيمَنْ يتولى الخلافة، والخلاف بين عثمان وقاتليه، والخلاف بين عليّ وعائشة، وبين عليّ ومعاوية، وبين الأمويين وابن الزبير، وبين الأمويين والشيعة، وبين الأمويين ودعاة العباسيين، وبين العباسيين والعلويين، كلها كانت سببًا في الاختلاف في العقائد بين المسلمين، هل الأئمة من قريش أو من الأمة كلها؟ وهل من عليّ ونسله أو من المسلمين جميعًا؟ ومن ذلك نشأ الشيعة والخوارج وغيرهما، فاضطر كل فريق أن يدعم مذهبه بالأحداث التاريخية وتشريحها وتعليلها، فكانت أحداث التاريخ مرجعًا للعقائد كما كانت في السبب الأول مرجعًا للتشريع؛ ومن أجل هذا أيضًا نرى في كتب الحديث أبوابًا وفصولًا في هذه المسائل التاريخية: ففصول في الخلافة والإمارة، وفصل في الأئمة من قريش، وفي مَنْ تصح إمارته، وفي طاعة الإمام، وفي أعوان الأئمة والأمراء، وفي فضائل الصحابة، وباب كبير في الفتن، وكله تأريخ للخلاف بين المسلمين من مقتل عثمان ووقعة الجمل، وقتال الخوارج وأمر الحَكَمين، وبيعة يزيد بن معاوية وابن الزبير والحجاج وبني مروان إلخ؛ وفيما نجد مصداق ما نقول من أنها أُعدّتَ لتكون منبعًا يدعم به كل فريق عقائده في المسائل السياسية.
- (٣)
وسبب ثالث دعا إلى رواية أخبار الفتوح والحرص عليها، وهو أن هذه الفتوح كان يسودها العصبية القبيلة بجانب العصبية الدينية، فكانوا في القتال ينحازون إلى قبائل، كل قبيلة لها مكانها في القتال، ولها لواؤها تقاتل عنه كما تقاتل عن الإسلام، وتفتخر كل قبيلة بنصرتها في بعض أيامها، فتميم أبلت بلاء حسنًا في يوم كذا، وغيرها أبلى بلاء حسنًا في يوم كذا، مما يعد مفخرة للقبيلة كأيامها في جاهليتها، وحرصت كل قبيلة أن تروِي وقائعها وتتزيد فيها أحيانًا، ويسلمها السلف إلى الخلف، فكان ذلك باعثًا على حفظ الأخبار من طريق الرواية ومن طريق الأشعار؛ فالشعراء أيضًا أخذوا مفاخر قبائلهم ونظموها في قصائدهم، وفخروا بها على خصومهم وضمَّنوها نقائصهم.
ولمَّا تحوَّلت العصبية القبيلة على عصبية بلدية تبعتها رواية الأخبار، ففخرت البصرة على الكوفة والكوفة على البصرة بالأحداث التاريخية — كما رأيت قبل — وفخرت تميم البصرة على تميم الكوفة، وفضَّلتْ قبائل البصرة من غير تميم على تميم الكوفة، وإن كانوا من دمها.
- (٤)
وسبب رابع لرواية الأحداث، وهو ما في طبيعة الإنسان من تلذذ بالسمر، ومن خير أنواع السمر رواية الأخبار، وما يتصل به وبأصوله ورجاله من قتال وحروب وخصام وجدال، وهذا هو التاريخ.
بدءوا تاريخهم — شفويًا — كما كانت كل نواة علم لهم شفوية؛ وبدأ الجيل الأول الذي شاهد هذه الحوادث واشترك فيها يرويها، وتحمَّلها عنه الجيل الذي بعده، وقيَّد بعضهم منها أحاديث متفرقة كالذي نرى في كتب الحديث، حتى إذا جاء القرن الثاني رأينا قومًا يبدءون في جمع أخبار الحادثة الواحدة، وضم بعضها إلى بعض، وتدوين ذلك في رسالة أو كتاب، وقد اشتهر من ذلك جماعة كان من أولهم:
ولكن هذه الطبقة على العموم طبقة أبي مخنف وسيف بن عمر والمدائني وأمثالهم لم يكن تأليفهم مرتبًا ولا عملهم مسلسلًا منظمًا، ولا شاملا وافيًا، كما يدل على ذلك مانقُلَ عنهم، إنما كثر الترتيب والتنظيم في الطبقة التي أتت بعدهم، وهي طبقة البلاذري وابن جرير الطبري، وكان الطبري أكثر تنظيمًا وأميل إلى تنسيق الحوادث وترتيبها حسب السنين، وله الفضل في أنه جمع في كتابه زبدة ما ألَّفه المؤرخون قبله كما فعل في التفسير؛ ونرجئ الكلام فيه وفي طبقته إلى الكلام في العصر العباسي الثاني إن شاء الله فهو بهم أليق.
ونلاحظ أن أكثر مَنْ ذكرنا ممَنْ كتبوا في التاريخ الإسلامي في ذلك العصر كانوا من أهل العراق، فأبو مخنف كوفي، وسيف بن عمر كوفي كذلك والمدائني بصري سكن المدائن ثم بغداد، والزبير بن بكار وإن كان مدنيًا فقد عاش في العراق أزمانًا؛ وعلى العكس من ذلك مَنْ كتبوا في السير والمغازي، فقد كان أكثرهم مدنيين كما رأينا، وقد أبنَّا السبب قبل في عناية المدنيين بالسيرة. أمَّا الفتوح وما إليها فقد سكن كثير ممن اشتركوا فيها العراق وتحدثوا بأخبارها وروَّوا ذلك أبناءهم، وكانوا أقدر على التدوين من أهل الشام ولو أن الخلافة الأموية فيهم، فلمَّا جاء العباسيون كان طبيعيًا أن يكون مؤرخوهم من العراق.
•••
ونوع ثالث عُنِي به مؤرخو المسلمين وهو الأنساب، وذلك أن العرب كانت بحكم طبيعتها تعيش قبائل، وتعد القبائل وحدة كوحدة الأسرة، وتمّحي فيها شخصية الفرد إلى حد كبير، فالمحمدة يأتيها الفرد محمدة للقبيلة، والعار يرتكبه الفرد عار للقبيلة، والشاعر يشعر للقبيلة، والخطيب يخطب للقبيلة، والوفود تفد باسم القبيلة، وهكذا ملكت عليهم القبيلة أنفسهم وتفكيرهم. فلمَّا جاء الإسلام أراد أن يحُِل الأخوة الدينية محل الرابطة الَقبَلية، ووجدت الرابطة الدينية فعلًا وكانت قوية شديدة، ولكن لم تَّمح العصبية القبيلة، فظل المسلمون ينحازون في القتال إلى قبائل؛ ولمَّا دوَّن عمر ديوان الخراج بدأ بالعباس عم النبي ﷺ ثم ببني هاشم ثم بمَنْ بعدهم طبقة بعد طبقة، فراعى الاعتبار الديني والاعتبار الَقبَلي معًا، وفخرت القبائل بما هو لها من مواقف في قتال فارس والروم، وبما كان لهم في قتال المسلمين بعضهم بعضًا، ورأينا جريرًا والفرزدق والأخطل الأمويين يتهاجون بالقبائل: يفخر جرير على الأخطل بتميم وقيسٍ على تغلب، ويعدد مفاخرهما وأيامهما، ويفخر الأخطل بتغلب على تميم، ويفخر جرير على الفرزدق بفرعه من تميم، ويفخر الفرزدق على جرير ببيته من تميم، ويعدُّ كلٌّ مخازي الفرع الآخر، لا فرق في ذلك بينهم وبين الجاهليين. وعاش الأمويون عيشة عربية يقاتلون بالعصبية القبلية ويتخذونها سلاحًا لهم؛ وهذا كله من غير شك يدعو إلى العناية بحفظ الأنساب، وكذلك كان؛ فلمَّا خضع الفرس والروم للعرب انقسم الناس إلى قسمين: عرب وموالٍ، فزاد ذلك في العصبية العربية والتمسك بها.
ولمَّا جاءت الدولة العباسية ظهرت الشعوبية، وأخذ الشعوبيون يبحثون عن مثالب العرب ومثالب كل قبيلة ويتزيدون فيها، فكان ذلك باعثًا جديدًا على تشريح القبائل وعدِّ المفاخر من جانب العرب، وعدِّ المثالب من جانب الشعوبية؛ فكان من ذلك العناية بالأنساب وتدوينها والتأليف فيها، وأقام ذلك فرعًا من التاريخ بجانب تاريخ السِّيَر والمغازي وتاريخ الأحداث الإسلامية.
واشتهر بذلك أيضًا دغَفل بن حْنظلة الشَّيباني، وقد اختلف المحدِّثون في عدِّه صحابيًا، وأكثرهم على أنه كان رجلًا أيام النبي ﷺ ولكن لم يلقه، وله مع أبي بكر مناظرة في النسب، ذكرها صاحب العقد، وقد غرق سنة ٧٠هـ في حرب الخوارج؛ ويُجْمِع مؤرخوه على معرفته الواسعة بالنسب، فيقول ابن سيرين: «إنه كان عالمًا ولكن اغتلبه النسب»؛ وقال ابن سعد: «كان له علم ورواية للنسب»؛ ويروُون أنه اتصل بمعاوية فأعجب بعلمه وقال له: اذهب إلى يزيد فعّلمه. وعدُّوه فيمَنْ نزل البصرة؛ وله أخبار كثيرة في الأنساب، ولكن كما قال ابن النديم: «لا مصّنف له»، وذلك طبيعي بالنسبة لزمنه.
واشتهر بالنسب أيضًا من التابعين سعيد بن المسيّب، فكان َنسَّابة؛ قال له رجل: أريد أن تعلِّمني النسب، قال: «إنما تريد أن تُسَابّ الناس».
وكان في كل قبيلة قوم يعرفون أنسابها، فلمَّا جاء عصر التدوين عُني قوم بملاقاة هؤلاء العارفين والأخذ عنهم، وتدوين ذلك في الكتب، كما فعلوا في اللغة والأدب؛ وقد اشتهر بذلك في عصرنا جماعة، من أشهرهم
وقد عاش الكلبي عهدًا طويلًا في العصر الأموي، وشهد وقعة دَيْرِِ الَجماجِم مع عبد الرحمن بن الأشعث، ولم يكن ضلعه مع بني أمية، كما يدل عليه خروجه عليهم، وكذلك كان أبوه وجدُّه، فأبوه السائب قْتِلَ مع مصعب بن الزبير، وجدُّه بشر كان مع عليّ في وقعة الجمل وصِفِّين.
وكان محمد بن السائب غزير العلم بالأنساب، يتلقاها عمَنْ عرفها من أهلها، فيقول ابن النديم: «أخذ نسب قريش عن أبي صالح، وأخذه أبو صالح عن عقيل ابن أبي طالب، وأخذ نسب كندة عن أبي الكناس الكندي، وأخذ نسب معدُّ بن عدنان عن النجارين أوس العدواني، إلخ». وتوفي سنة ١٤٦.
وجاء بعده ابنه هشام الكلبي، فأكمل خطة أبيه، فكان «عالمًا بالنسب وأخبار العرب وأيامها ومثالبها ووقائعها»، وله كتب كثيرة ذكرها ابن النديم وقسَّمها إلى أقسام: كتب في الأحلاف، أي الحِْلف بين القبائل، وكتب في المآثر والبيوتات والمنافرات والموءودات، وكتب في أخبار الأوائل، وكتب فيما قارب الإسلام من أمر الجاهلية، وكتب في أخبار الإسلام، وكتب في أخبار البلاد، وكتب في أخبار الشعراء وأيام العرب، وكتب في الأخبار والأسمار، وكتب في نسب اليمن، وكتب في أنساب أخرى، وكتب في موضوعات شتى؛ وتبلغ الكتب التي عدُّها له نحو ١٤٠ كتابًا. وكتاب نسب فحول الخيل في الجاهلية والإسلام، وكتاب الأصنام الذي ُ طبِعَ في مصر؛ هذا إلى مقتبسات من تآليفه في الكتب المشهورة كالطبري، وكمعجمي ياقوت، وكتاب شرح ابن الأنباري للمفضليات، والعقد الفريد، والأغاني وغيرها.
وقد اتصل هشام بالمأمون وصنَّف له كتاب «الفريد» في الأنساب، واتصل بجعفر بن يحيى البرمكي وأّلف له كتاب «الملوكي» في الأنساب أيضًا. وتوفي سنة ٢٠٤.
كما اشتهر آخرون منهم: أبو الَيْقظان النسابة، واسمه سُحَيم، أّلف كتبًا كثيرة في الأنساب، كنسب تميم ونسب خندف، وكان شيخ المدائني. ومات سنة ١٩٠.
ويتصل بهذا ما فعله الشعوبية في هذا العصر، كالذي فعل أبو عبيدة، فقد ألَّف كتاب المثالب، وكتاب مثالب باهلة، وكتاب أدعياء العرب؛ وكالذي فعله عَلاَّن الشعوبي، فقد ألَّف كتابًا في المثالب، منه مثالب قريش، ومثالب تميم بن مرة، ومثالب بني أسد، ومثالب بني عَديّ إلخ؛ وكالذي فعله الهيثم ابن عَدِيّ، فله كتاب المثالب الكبير، ضمَّنه مثالب العرب. فهؤلاء وأمثالهم كانوا يتعرضون للأنساب من ناحية خاصة؛ وهي ذكر عيوب القبائل العربية والتشهير بها تبعًا لنزعتهم الشعوبية.
•••
- (١) إن بعض الخلفاء، وقد فتحو الفتوح، أرادوا أن يقفوا على الأمم المفتوحة وأخبارها تلذذًا بذلك من جهة، واستفادة من معرفة أحوال الأمم في نظمها وترتيب أمورها من جهة أخرى، ووقوفًا على أحوالها حتى يكونوا على استعداد إذا أرادوا أن يدهموهم، من جهة ثالثة، فالمسعودي يذكر في سيرة معاوية أنه كان يخصص جزءًا من ليله في سماع «أخبار العرب وأيامها والعجم وملوكها، وسياستها لرعيتها، وسائر ملوك الأمم وحروبها ومكايدها وسياستها لرعيتها، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة»،٥٣ ويقول في ترجمة السّفاح: إن أبا بكر الهذلي «كان يحدِّث السفاح يومًا بحديث لأنوشروان في بعض حروبه بالمشرق، مع بعض ملوك الأمم»،٥٤ إلى كثير من أمثال ذلك. ولا يمكن أن نتصور مُلْكًا ضخمًا كالدولة الأموية والعباسية لم يكن ملوكها واقفين وقوفًا تامًا على معرفة أحوال الأمم المجاورة، التي تصالحها حينًا وتحاربها حينًا، والكتب تتداول بينهم وبين ملوكها، والمعاهدات تبرم بينهما وتنقض، وهذا — من غير شك — يضطرها إلى معرفة شيء من تاريخها وأحوال ملوكها.
- (٢)
إن الإسلام نشر سلطانه على كثير من الأمم المفتوحة، ودخل كثير من أهلها في الإسلام وتعرَّبوا في الجيل الثاني، وصاروا يتقنون العربية قولًا وكتابة، وكانوا يعرفون تاريخ أممهم من آبائهم ومن أهل جنسهم، فدعتهم النزعة القومية إلى أن يكتبوا تاريخ أممهم بالعربية اعتزازًا به، وحرصًا على الوطنية الكامنة، فابن المقفع الفارسي الأصل العربي المربَى يترجم كتاب «خُدًايْنامه»، وهو كتاب في تاريخ الفرس من أول نشأتهم إلى آخر أيامهم، ويترجم كتاب «آبين نامه»، وهو كتاب في نُظُم الفرس وعاداتهم وشرائعهم، ويترجم كتاب التاج في سيرة أنوشروان إلخ، وإسحق بن يزيد ينقل من الفارسية إلى العربية كتاب سيرة الفرس المعروف باختيار نامه، والسريانيون ينقلون أخبار قومهم، وأخبار اليونان وتاريخ حكمائهم وعلمائهم إلخ. ولمَّا نشطت حركة الترجمة في العصر العباسي وكان كثيرون يتقنون الألسنة المختلفة مع العربية، فمنهم مَنْ يتقن الفارسية، ومنهم مَنْ يتقن اليونانية، ومنهم مَنْ يتقن الهندية، وقعوا — فيما وقعوا عليه — على كتب في تاريخ الأمم المختلفة فنقلوها إلى اللسان العربي، فكان من ذلك كله أن كان أمام مَنْ يتكلمون العربية مصادر مختلفة لأخبار الأمم المختلفة، كانت كلها مُعْتًَمد الطبري في تاريخه ومَنْ أتى بعده من المؤرخين.
- (٣) إن القرآن والسنة اشتملا على كثير من أخبار اليهود والنصارى، والصابئين والمجوس، وكان تعرضهما مختصرًا مقتصرًا فيه على موضع العظة، فأراد المفسرون أن يتوسَّعوا في تفسير ذلك، فكان مجالهم أخبار اليهود والنصارى وغيرهم مما ورد في التوراة والإنجيل وشروحهما وحواشيهما؛ وقد عدَُّ ابن النديم كتبًا كثيرة يهودية ونصرانية ُنقَِلت إلى العربية وعرفها المسلمون، وصادف ذلك أيضًا أن دخل كثير من هؤلاء في الإسلام يحملون في رءوسهم معلومات واسعة تلقنوها قبل إسلامهم. وصف القرآن الكريم بعضهم بقوله: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اْلكِتَابِِ، فكان علمهم وعلم مَنْ أتى بعدهم مصدرًا للمؤرخين يؤرخون منه الأمم اليهودية والنصرانية وغيرهما، فنقلوا عن اليهود والنصارى ومَنْ أسلم منهم تلك الأخبار وأدخلوها في كتبهم، وقد رأينا قبلُ ابن إسحق ينقل عن التوراة نصوصًا.
ونحن إذا استعرضنا تاريخ الطبري المسُمَّى «تاريخ الأمم والملوك» نستطيع أن نتعرف منه رواة الأخبار لكل أمة ممَنْ كانوا الطبقة الأولى، ومَنْ كانوا الطبقة الثانية، وهكذا حتى وصلت إليه، فهو ينقل عن وهب بن منبِّه كثيرًا في أخبار خلق العالم وما إليه، كما ينقل عن ابن جُرَيج الرومي كثيرًا من ذلك ومن أخبار النصرانية، ونجد كثيرًا في رواته مَنْ كانوا من أصل يهودي أو نصراني كعبد الرحمن ابن دَانيل وأسباط، وفي بعض المواضع تكاد تكون سلسلة الرواية واحدة «عمرو عن أسْبَاط عن السُّدِّي» إلخ. ويقول في تاريخ الفرس: «ذكر العلماء بأخبار الأمم السالفة من العرب والعجم كذا» إلخ.
ويطول بنا القول لو وقفنا عند كل أمة ذكرها الطبري، وعددنا الرواة وسلسلنا وترجمنا لأصحابنا من أولهم إلى أن وصلت إلى ابن جرير، فنجتزئ بهذا القدر الآن، ونرجئ ما عدا ذلك إلى الكلام في الطبري إن شاء الله.
ومن هذه الطرق كتب المسلمون تاريخ اليهود والنصارى والسريانيين وملوك بابل، وتاريخ الفرس واليونان والروم إلخ.
والذي يلاحظ أن هذا القسم أكثر تضخمًا بالوضع وبالأساطير لبعد العهد أولًا، ولعدم الدقة في النقل ثانيًا، ولتزيد كل أمة في أخبارها ثالثًا.
•••
ونوع خامس من التاريخ وهو «تراجم الرجال» وقد عُنِي به المسلمون قديمًا عناية غريبة فاقت غيرهم من الأمم في عصورهم، فما إن يظهر أحد بالعلم والمعرفة — ولو برواية حديث واحد أو خبر واحد — إلا يهجم عليه العلماء ويرحلون إليه ويأخذون عنه، ويَعُدّ العالم ظفرًا كبيرًا أن يعثر على رجل أو امرأة من هؤلاء لم يصل إليه غيره، فيقيّد عنه ما أخذ ويروي ما سمع، وما إن يموت هذا المروي عنه الحديث أو الخبر، أو مَنْ اشتهر بعلم أو معرفة، حتى يتسابق المؤرخون على تدوين أصله ونسبه، والبلاد التي تنقَّل فيها، والشيوخ الذين أخذ عنهم، والأحداث التي عَرَضت له في حياته، وتاريخ وفاته وغير ذلك.
وربما كان أصل ذلك ما ورد منذ العصر الأول للإسلام عن فضائل بعض الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وعبيدة بن الجراح، وكثير غيرهم مما مُلِئتَ به كتب الحديث، فكان هذا داعيًا لأن يحتذوا هذا الحذو، ويقفوا على فضائل غيرهم من الصحابة والتابعين من بعدهم. فلمَّا اتسعت الحركة العلمية وكثرت رواية الحديث، ورأى العلماء أنفسهم بين أصناف من الرواة، صادق وغير صادق ومشكوك فيه، جرت ألسنتهم بالحكم على الأشخاص، وقد رأيت قبل أن الصحابة أنفسهم كان بعضهم يمدح بعضًا، وبعضهم يجرِّح بعضًا، كالذي قاله عبد الله بن عمر وعائشة في أبي هريرة؛ فلمَّا جاء التابعون من بعدهم رأينا هذا الباب يتسع، ويزيد قول بعضهم في بعض مدحًا وذمَّا، وتوثيقًا وتجريحًا. فقد نقل عن مالك بن أنس الكثير في الطعن منه والطعن عليه، ولمَّا تركزت الأمصار زادت اتساعًا، فالحجازيون يُشَرِّحون العراقيين، والعراقيون يشرِّحون الحجازيين وهكذا.
كل هذا يلفت الأنظار إلى الرجال وجعل العلماء يعنون بهذه الناحية؛ وقد رأينا قبلُ الواقدي ألَّف كتاب الطبقات وحذا حذوه فيه تلميذه وكاتبه ابن سعد، والظاهر أن الباعث على تأليفهما هو باعث الحديث ليعرف مَنْ يصح الأخذ عنه ومَنْ لا يصح؛ هذا إلى الإشادة بذكر أخبار أخيار الناس وقادتهم، وقام المحدِّثون في هذا الباب بما يستخرج العجب، فبحثوا عن كل راوٍ وشرَّحوه وحللوه، حتى أتى البخاري فوضع كتبه الثلاثة في تاريخ الرجال كما رأيت، وحذا مَنْ بعده حذوه.
وكان عمل هؤلاء العلماء والمحدِّثين سببًا في أن رجال اللغة والأدب قلَّدوا المحدِّثين، َفَشُرِّح الأصمعي والكسائي وأبو عبيدة وقُطْرب وحماد وخلف الأحمر كما ُ شرِّح المحدِّثون، وقالوا الأقوال المختلفة في تجريحهم وتعديلهم كما قال المحدِّثون، ولم يكتفِ المحدثون بالنقد، بل زادوا في ذلك تاريخ الرجل وشيوخه ليتعرفوا من ذلك قيمته، ففعل رجال اللغة والأدب.
وخطا الأدباء خطوة تقليدية أيضًا، فوضعوا الكتب كذلك في تراجم الشعراء وطبقاتهم، فوضع ابن سَلام طبقات الشعراء على نسق طبقات المحدِّثين، وأتى بعده ابن قتيبة، فألَّف أيضًا في الطبقات وترجَمَ لكل شاعر ترجمة مختصرة. ودليلنا على أن الأدباء قلَّدوا المحدِّثين أن المحدِّثين كانوا أسبق إلى هذا العمل تاريخيًا، ففي العهد الأموي نرى أحاديث قيلت في جرح الرجال وتعديلهم، ونرى في صدر الدولة العباسية شعبة بن الحجاج ويحيى بن سعيد الَقّطان يؤلفان الكتب في نقد المحدِّثين وبيان صادقهم من كاذبهم، مع أنا لا نعلم في بدء هذا العصر كتابًا أدبيًا يصح أن يقال إنّ موضوعه تراجم رجال الأدب.
بل نرى من أقوى الأدلة على ذلك أن الصبغة التي اصطبغت بها كتب التراجم الأدبية صبغة محدِّثين أكثر منها صبغة أدباء، خصوصًا ما أُلِّف منها أيام سطوة المحدِّثين، ككتاب الأغاني، فإنك ترى فيه الإسناد على نمط إسناد المحدِّثين والتعبير في كثير من الأحيان تعبير حديث، وذلك كقوله أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد عن أبيه، عن أبي عبيدة قال: بلغني أن هذا البيت (لا يذهب العرف بين الله والناس) في التوراة؛ قال إسحق: وذكر عبد الله بن مروان، عن أيوب بن عثمان الدمشقي، عن عثمان بن عائشة، قال: سمع كعب الحبر رجلًا ينشد بيت الحطيئة:
فلعلك ترى معي أنك — وأنت تقرأ هذا — كأنك تقرأ قطعة من أحاديث البخاري.
ومن أكبر المظاهر التي تأثرت بها كتب تراجم الأدباء بكتب المحدِّثين احتجاب شخصية المؤلف، تقرأ في الأغاني فيغمرك بروايات عن الرجل وأحاديثه ووقائعه وأدبه وشعره، ولكن قلَّ أن تظفر منه بكلام له أو نقد لشعر أو تعليق على حادثة أو نحو ذلك. ويظهر لي أن هذا أيضًا أثر من آثار نمط المحدِّثين؛ فقد حصروا أنفسهم في دائرة النقل، نقل ما حُدِّثوا به، ونقل ما بلغهم عن الرجل، وذلك إن جاز في الحديث ومجال القول ضيق؛ لأن المحدِّث لا يهمه من المترجَم إلا ما يدل على صدقه أو كذبه وتجريحه أو عدالته، فما كان يجوز في الأدب ومجال للقول ذو سعة، وشخصية الأديب في النقد والتحليل وبيان المحاسن والمساوي، وموضع الحسن أو القبيح لها القيمة الكبرى في الفن الأدبي، ولكن هو التقليد للمحدِّثين نزع بهم هذا المنزع — وليس هذا مقصورًا على كتب التراجم، بل هو في أصول كتب الأدب المؤلفة في ذلك العصر أيضًا. فإذا قرأت في البيان والتبيين للجاحظ أو عيون الأخبار لابن قتيبة لم تجد للمؤلف شخصية بارزة مع قدرتهما الفائقة، وما لهما من بسطة في العلم والأدب، ولو أحصيت ما للجاحظ في البيان والتبيين لم تجد له ربع الكتاب ولا خمسه، وإنما له الاختيار والجمع — شأن المحدِّثين في الحديث.
وأيًّا ما كان فقد ترقَّى هذا النوع على توالي الزمن، من كتب مرتبة حسب حروف الهجاء، وحسب العصور، ومن إفراد كل علم بطبقات رجاله، من طبقات نحويين وطبقات شافعية وحنفية ومالكية، ومن إفراد أصحاب العقائد الكتب لمعتنقيها من طبقات للشيعة وللمعتزلة إلخ، ومن تاريخ علماء كل بلد كتاريخ البغدادي في علماء بغداد إلخ، مما ليس هذا محل تفصيله.
•••
وأكبر مَا دعا إلى هذا النوع السّمر اللذيذ، وأكثر ما يعجب فيه الغريب الظريف، فإذا رأى الأخباريون في الوقائع الثابتة ما يغذي هذا العاطفة قالوه، وإذا لم يجدوه اخترعوه، وقد يكون أساس الحادثة صحيحًا ولكنه ليس يستخرج أقصى العجب فيكملوه من خيالهم، ويتزيَّدوا فيه من أوهامهم، ويصقلوه بالأسلوب اللطيف، حتى يخرج الخبر كله كأنه واقعة صحيحة. وقد اشتهر بهذا الوصف جماعة من أشهرهم في عصرنا:
وقد كان الهيثم تلميذ هشام بن عروة ومحمد بن إسحق، وتتلمذ له محمد بن سعد صاحب الطبقات.
وعلى الجملة فقد ملأ التاريخ والأدب بأخباره وقصصه ونوادره، وله أثره في مصر، فقد جاءها ونزل بها وحدَّث فيها، كما روى السمعاني، ومات بفم الصِّلح سنة ٢٠٦.
وينسبون إليه أنه من أسبق المؤرخين إلى ترتيب الحوادث حسب السنين، فكان في ذلك قدوة للطبري بعده.
حتى أبو نواس قال فيه:
•••
وهكذا هجم المؤرخون — وما كان أكثرهم في هذا العصر — على فروع التاريخ المختلفة، وأخذوا في تدوينها وترتيبها وترقيتها، من كتب في حوادث مختلفة إلى كتب جامعة، ومن مسائل منتثرة على كتب منظمة، ومن سرد حوادث إلى ترتيبها حسب السنين.
فإن نحن سألنا في التاريخ سؤالنا في النحو، هل التاريخ الإسلامي علم إسلامي مستقل، أو متأثر بالأمم الأخرى؟ قلنا إنه يظهر لنا أن تاريخ السيرة، وتاريخ حوادث الإسلام في عصوره الأولى كان إسلاميًا بحتًا، ويدل تطوره على أنه تطور طبيعي لم يأته التنظيم من الخارج، نعم كان لليونان تاريخ عام، وتاريخ للبلدان، وتراجم رجال، وكان للفرس تواريخ مؤرخة حسب السنين، ولكن لم يظهر أثر للنقل عنهم في حياة التاريخ الأولى عند المسلمين. أمَّا متأخرو المؤرخين، وتاريخ المؤرخين الأولين للأمم الأخرى من فرس وروم، ويهودية ونصرانية، فالنقل فيها والتأثر بها واضح جلي.
قد يكون في عمل هؤلاء المؤرخين بعض مآخذ، كتلوين التاريخ ببعض العقائد أحيانًا، وتعصبهم لقبائلهم أحيانًا، وللخلفاء الذين يتصلون بهم أحيانًا، وكبنائهم التاريخ حول الخلفاء لا حول الشعوب، وإهمالهم كثيرًا من وصف النواحي الاجتماعية، وغلبة النزعة الدينية فيما يعرضون له من أحداث، وضعف النقد وإيجازه وسذاجته إلى غير ذلك؛ ولكن كل هذه العيوب تقل حدِّتها إذا نظرنا إلى ما ذكرنا من مزاياهم، خصوصًا وإنا عند نقدهم يجب أن نقيس محاسنهم ومعايبهم باعتبار زمانهم وبيئتهم التي تحيط بهم، لا بزماننا وبيئاتنا، حتى يكون النقد أدق والحكم أصدق؛ فمَنْ مِن المؤرخين غيرهم عُنِي في عصرهم بتاريخ الحوادث بالشهر باليوم؟ وبعض المؤرخين الأوربيين يقول إن هذا النمط من كتابة التاريخ لم يُعْرَف في أوربا قبل سنة ١٥٩٧م؛ ومَنْ من المؤرخين غيرهم عُنِي بالإسناد عنايتهم، فيسند الرجلُ إلى امرأته وإلى أمَته، ويدور على الناس في أخبيتهم ومنازلهم يتلمس الأخبار ويطبق ما يسمع على المشاهد؟ ومَنْ من المؤرخين في مثل عصرهم يتشدد تشددهم في الرواية والسماع، ولا يستجيز الأخذ عن الصحيفة إلا أن يكون ضعيفًا مطعونًا فيه؟ ومَنْ من المؤرخين في مثل عصرهم صبر على ما صبروا عليه من فاقة وبؤس، وحَلَّ من غَانة إلى َفَرْغَاَنة، مع بُعد الشقة ووعورة الطرق، ثم قيَّد كل ما سمع مع الإفلاس، وغلاء القرطاس؟
الحق أنهم — على عيوبهم — لم يدخروا جهدًا، ولم يعرفوا دَعَة.