الفصل السابع

التاريخ والمؤرخون

ذكرنا قبل أن أول ما عُنِي به — من التاريخ الإسلامي — سيرة النبي وما يتبعها من مغازٍ، وأن هذا النوع من التاريخ اعتمد على شيئين: الأول ما كان دائرًا بين العرب عن أخبار الجاهلية كأخبار جُرْهم ودفن زمزم، وأخبار قُصَيّ بن كِلابٍ وغلبته على أمر مكة وجمعه قريش، ومعونة قضَاعة له، وقصة سد مأرب ونحو ذلك. والثاني أحاديث رواها الصحابة والتابعون منْ بعدهم عن حياة النبي من ولادته ونشأته ودعوته إلى الإسلام، وجهاده مع المشركين وغزواته، وعلى الجملة أخباره إلى حين وفاته؛ وقد أضافوا إلى أخبار الجاهلية والإسلام الأشعار التي رُوِيت في هذه الموضوعات، مما يصح بعضه ولم يصح بعضه عند الثقات.

وقد تأثر ما يُرْوَى في السيرة من أحداث قبل الإسلام بالنمط الذي تروى به أيام العرب في الجاهلية، كما تأثر ما يروى منها من أحداث الإسلام بنمط الحديث.

وقد كان تاريخ النبي داخلًا فيما يروى من الحديث، وكانت الأحاديث فيه متفرقة يوم كان المحدِّث يجمع كل ما وصل إليه علمه من غير ترتيب، فلمَّا رُتِبَت الأحاديث في الأبواب، جُمِعت السيرة في أبواب مستقلة، كان من أشهرها باب يُسمَّى «المغازي والسير»١ ثم انفصلت هذه الأبواب عن الحديث وأُلِّفت فيها الكتب الخاصة، ولكن ظل المحدِّثون يدخلونها ضمن أبوابهم، ففي «البخاري» — مثلًا — كتاب المغازي، وفي «مسلم» كتاب الجهاد والسِّير، وفي «مسند أحمد» كتاب المغازي، إلى غير ذلك من الأبواب المتصلة بتاريخ النبي ونستطيع أن نضع الجدول الآتي، لبيان تسلسل التأليف في السيرة:
figure
فأول مَنْ عُرِفَ بالتأليف في المغازي أربعة: أبَان بن الخليفة عثمان المتوفى سنة ١٠٥هـ، وقد كان واليًا على المدينة لعبد الملك بن مروان سبع سنين، وعُرِفَ بالحديث والفقه، والظاهر أن سيرته التي جمعها لم تكن إلا صُحُفًا فيها أحاديث عن حياة الرسول كما يدل، عليه قول ابن سعد في المغيرة بن عبد الرحمن: «وكان ثقة قليل الحديث، إلا مغازي رسول الله أخذها من أبان بن عثمان، فكان كثيرًا ما تقُرأ عليه ويأمرنا بتعليمها»٢ ولكن من الغريب أن مؤلفي السيرة الأولين كابن سعد وابن هشام لم يرووا له شيئًا في السيرة.
والثاني عروة بن الزبير، وهو من أشراف البيوت وأنبلها، أخو عبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير، أبوهم الزبير بن العوام، وأمّه وأمّ عبد الله أسماء بنت أبي بكر، وقد وُلِدَ عروة سنة ٢٣هـ، ونشأ بالمدينة وأخذ الحديث والأخبار عن كثير من الصحابة، منهم: أبوه، وزيد بن ثابت، وأسَامة بن زيد، وأبو هُرَيرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس؛ وكان يكره بني أمية ويجلس في مسجد الرسول بالمدينة مع علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فيتذاكران جورَ مَنْ جار من بني أمية والمقام معهم، وهما لا يستطيعان تغيير ذلك، ويخافان أن تحل عقوبة الله بهما لسكوتهما؛٣ وكان عروة كثير الحديث ثقة فيما يرويه، وكان يدوٍِّن علمه، قال هشام بن عروة: «أحرق أبي يوم الْحَرَّة كُُتبَ فقه كانت له، فكان يقول بعد ذلك: لأنْ تكون عندي أحب إلى من أن يكون لي مثل أهلي وولدي»،٤ وقد رحل من المدينة إلى مصر وأقام بها سبع سنين. روَِى البَلاذُرِِيّ عن عروة قال: أقمت بمصر سبع سنين وتزوجت بها، فرأيت أهلها مَجَاهيد قد حُمِلَ علهيم فوق طاقتهم، وإنما فتحها عُمَرٌو بصلح وعَهْد وشيء مفروض عليهم؛٥ ويذكر ابن سلام في طبقات الشعراء أن عروة بن الزبير كان بمصر عندما خَلع عبد الله بن الزبير يزيد بن معاوية،٦ وبعد مقتل عبد الله كان عبد الملك يعامل عروة في إجلال واحترام، فيروي الأغاني أن عروة «قدم على عبد الملك بن مروان، فأجلسه معه على السرير، فجاء قوم فوقعوا في عبد الله بن الزبير، فخرج عروة فقال للآذن: إن عبد الله بن الزبير ابن أبي وأمي، فإن أردتم أن تقعوا فيه فلا تأذنوا لي عليكم»٧ — وكان عروة أحد الفقهاء العشرين الذين استعان بهم عمر بن عبد العزيز أيام إمارته على المدينة (من سنة ٨٧ إلى سنة ٩٣) — وعدَّ عروة أحد الفقهاء السبعة الذين انتهى إليهم العلم بالمدينة، وقد مكَّنه نسبه من أن يروي الكثير من الأخبار والأحاديث عن النبي وحياة صدر الإسلام، فروى عن أبيه الزبير وأمه أسماء، وروى الكثير عن خالته عائشة.

وكان أكبر الرواة عنه ابن هشام بن عروة، وابن شهاب الزهري؛ ووصلت إلينا كثير من روايات عروة وأحاديثه في كتب ابن إسحق والواقدي والطبري، فرُوِِيت عنه أخبار الهجرة إلى الحبشة وأخبار الهجرة إلى المدينة، وغزوة بدر إلخ، وكثير مما رُوِي عنه كان إجابة عن أسئلة وُجِّهت إليه من عبد الملك بن مروان والوليد وغيرهما. ويدل ما وصل إلينا من إجابته على أنه كان يجيب في المغازي من أحاديث جمعها.

وعلى الجملة فكُتب السيرة الأولى التي وصلت إلينا كابن هشام وابن سعد والطبري مدينة في جزء كبير منها لِمَا رواه عروة بن الزبير.

والثالث ُ شُرَحْبِِيل بن سعد، مولى الأنصار، وقد عُمِّر أكثر من مائة سنة ومات سنة ١٢٣، وقد رُوَِى كثيرًا عن زيد بن ثابت وأبي سعيد الخدْرِِي وأبي هريرة، وقد روي عنه أنه كتب «ثبتًا» بأسماء مَنْ هاجر من مكة إلى المدينة، وأسماء مَنْ اشتركوا في غزوة بدر وغزوة أحد، وقال سفيان بن عيينة: إن أحدًا لم يعرف المغازي وغزوة أُحد معرفته؛ ولكن لم يكن من الثقة بحيث كان أبان وعروة، فابن سعد يقول فيه: «إنه بقي إلى آخر الزمان حتى اختَلط، واحتاج حاجة شديدة، وله أحاديث وليس يحتج به»؛٨ وقد رووا أن الناس تحاموه لأنه كان إذا نزل بأحد فلم يصله، قال له إن أباك لم يشهد بدرًا، ولذلك لم يروِ عنه ابن إسحق والواقدي شيئًا، ولكن ابن سعد روى عنه خبرًا في انتقال النبي من قْبَاء إلى المدينة.٩
والرابع وهب بن منُبِّه، وقد مضى القول فيه كثيرًا، والذي يهمنا الآن أخباره في السيرة، وقد ذكر صاحب «كشف الظنون» عند كلامه في علم المغازي والسِّير: «يقال أول مَنْ صنَّف في المغازي عروة ابن الزبير، وجمعها أيضًا وَهْبُ بن منبه»، وكُتّاب السِّير الأولون لا يسندون إليه شيئًا في كتبهم، ولكن عثر على قطعة من كتابه في المغازي، وهي الآن في مدينة «هيدْلْبِِرْجْ» في ألمانيا وكُتِبَت سنة ٢٢٨هـ وراويها «محمد بن بكر عن أبي طلحة عن عبد المنعم عن أبيه عن أبي إلياس عن وهب»، وفي هذه القطعة لا يُسْتَعْمِل الإسناد، وهذه عادة وهب، وقد ذكر فيها «العقبة الكبرى» واجتماع قريش في دار الندوة، وهجر النبي إلخ. ولا يتبين من هذه القطعة إن كان وهب قد أدخل في المغازي شيئًا من معارف أهل الكتاب، وقد كان عارفًا بها مطلعًا فيها.

هؤلاء الأربعة هم الدعامة الأولى في كتابة المغازى، ونرى من أخبارهم أن ثلاثة منهم، وهم أبان وعروة وشرحبيل، الأولان من خير بيوتات قريش وأشرفها: أبان وعروة، والثالث موًلى من موالي الأنصار، وطبيعي أن تكون المدينة أهم مصدر المغازي؛ فقد وقعت أكثر الأحاديث تحت أعين أهلها، وأمَّا وهب فقد ذكروا أنه من أهل الكتاب الذين أسلموا، وأنه يمني من أصل فارسي قد اعتدَّ في أخباره على ما رَُوَِى عن عباس وجابر وأبي سعيد الخُُدْرِِيّ وغيرهم، وعلى ما قرأ من كتب أهل الكتاب.

ثم جاءت بعد هؤلاء طبقة أخرى عُنِيَت بالمغازي من أشهرهم: (١) عبد الله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري (٢) وعاصم بن عُمر بن قتَادة (٣) والزُّهرِِي. فأمَّا عبد الله فكان جده الأعلى عَمْرو بن حَزْم من كبار الصحابة، بعثه رسول الله إلى أهل اليمن ليفقِّههم في الدين ويعلِّمهم السنة ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صَدَقاتهم، وجدُّه محمد بن عمرو مات يوم الَحرَّة، وكان معروفًا بالتقوى، وأبوه أبو بكر كان قاضي المدينة لمَّا كان عمر بن عبد العزيز واليًا عليها، وضم إليه سليمان ولاية المدينة، وظل فيها في خلافة عمر. ورُوِي عن مالك أنه قال: «لم يكن أحد بالمدينة عنده من علم القضاء ما كان عند أبي بكر بن حزم»، وهو الذي كتب إليه عمر بن عبد العزيز يطلب إليه أن يجمع الحديث. وقد خلف أبو بكر ولدين محمدًا وعبد الله الذي نترجم له، فمحمد كان قاضيًا على المدينة، وكان يخرج في قضائه عن الحديث أحيانًا إلى العمل بما أجمع عليه أهل المدينة، ويأبى عليه أخوه عبد الله إلا أن يتبع الحديث.

وقد نُقِلَت عن عبد الله هذا أخبار كثيرة ذكرها ابن إسحاق والواقدي وابن سعد والطبري، ورُوِِيت له أخبار تتعلق ببدء حياة النبي ، ووفود القبائل إلى رسول الله، وأخبار في حروب الردة إلخ. ففي سيرة ابن هشام: «قال ابن إسحق، وحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن امرأته فاطمة بنت عمارة عن عَمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرَارَة، عن عائشة كذا». وفي الطبري عن محمد بن إسحق أنه «دخل على عبد الله بن أبي بكر، فقال لامرأته فاطمة: حَدِّّني محمدًا ما سمعتِ من عَمْرة بنت عبد الرحمن، فقالت: سمعت عَمْرة تقول، سمعت عائشة تقول إلخ» ويروي الطبري: عن محمد بن إسحق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: كان جميع ما غزا رسول الله بنفسه ستًّا وعشرين غزوة: أول غزوة غزاها وَدَّان، ثم غزوة بُواَط إلخ. وعلى الجملة فقد كان عبد الله بن أبي بكر عظيم الأثر في كتب السير والمغازي، وكان له من بيته العظيم في الأنصار، وتزوجِه بقاطمة التي تروي عن عَمْرة التي تروي عن عائشة ما يَسَّر له جمع الأحاديث التي تتصل بالمغازي.

وأمَّا عاصم بن عمر بن قتَادة الظََّفري١٠ فمدني من الأنصار، كان جدُّه قتادة أنصاريًا شهد مع الرسول غزوة بدر، وابنه عمر بن قتادة روى الأخبار عن أبيه وبلَّغها ابنه عاصمًا، واتصل عاصم هذا بعمر بن عبد العزيز، وقال فيه ابن سعد: «كان راوية للعلم، وله علم بالمغازي والسِّير، أمره عمر بن عبد العزيز أن يجلس في مسجد دمشق فيحدِّث الناس بالمغازي ومناقب الصحابة ففعل». أرََّخ بعضهم موته بسنة ١٢٠ وبعضهم بسنة ١٢٩، وكان مصدرًا من المصادر التي اعتمد عليها ابن إسحق والواقدي.
وأمَّا ابن شهاب الزهري فمكّي، كما يدل عليه نسبه إلى بني زُهٍْرة، فهو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، حارب جدُّه عبد الله بن شهاب مع المشركين يوم بدر «وكان أحد النفر الذي تعاقدوا يوم أُحُد لئن رأوا رسول الله لَيْقُتلنَّهُ أو لَيقْتَلُنَّ دونه»،١١ «وكان عبد الله بن شهاب الزهري هو الذي شََجَّ رسول الله في جبهته»،١٢ وأبو مسلم «كان مع ابن الزبير على الأمويين» واتصل محمد بن شهاب الزهري بعد ذلك بالأمويين، عبد الملك وهشام، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم، وكان يستوطن الشام ويتردد على الحجاز ويصاحب الخلفاء، حتى قال فيه مكحول: «أي الرجل الزهري، لولا أنه أفسد نفسه بصحبة الملوك».
وكان ابن شهاب الزهري من أسبق الناس إلى تدوين علمه على حين أن علماء زمنه كثيرًا ما يتحرجون من ذلك، قال الزهري: «مانَشَرَ أحد من الناس هذا العِلْمَ نَشْرِي ولا بذله بذلي»، وقد كان مجدًا في جمع الحديث وتدوينه قال: «أدركت من قريش أربعة بحور: سعيد بن المسيِّب، وعروة بن الزبير، وأبا سلمة ابن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة». وقالوا: «كان الزهري يأتي المجالس من صدورها ولا يأتيها من خلفها، ولا يبُقى في المجلس شابًا ولا كهلًا، ولا عجوزًا ولا كهلة إلا سألهم، حتى يحاول رَبَّات الحِجَال» وكان يدوِّن ذلك كله. قال صالح بن كيسان: «كنت أطلب العلم أنا والزهري، فقال: تعالَ نكتب السنن، قال: فكتبنا ما جاء عن النبي ، ثم قال: تعال نكتب ما جاء عن الصحابة، قال: فكتب ولم أكتب، فأنجَحَ وضيَّعتُ». وكان مع اتصاله بخلفاء بني أمية لا يجاريهم إن أرادوا إفساد العلم، فقد أراد هشام بن عبد الله أن يقول في قوله تعالى: وَالَّذِي تَولَّى كِبْرَهُ مِْنْهمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إن الذي تولى كبره هو علي بن أبي طالب، فأبى وقال: هو عبد الله بن أبيّ بن سلول، فقال له هشام: كذبتَ هو عليّ، فقال الزهري: «أنا أكذب؟ فوالله لو ناداني منادٍ من السماء إن الله أحل الكذب ما كذبتُ، حدثني سعيد بن المسيب وعروة وعبد الله وعلقمة بن وقاص عن عائشة أن الذي تولَّى كبره عبد الله بن أُُبَيّ» وروى الأغاني عن ابن شهاب الزهري أنه قال: «قال لي خالد بن عبد الله الَقسري: اكتب لي النسب، فبدأت بنسب مُضر وما أتممته، فقال: اقطعه قطعه الله مع أصولهم، واكتب لي السيرة، فقلت له: فإنه يمر بي الشيء من سِيَرة عليّ بن أبي طالب فأذكره، فقال: لا! إلا أن تراه في قعر الجحيم».١٣

وقد نقلت إلينا مجموعة مما رواه في كتب الحديث، ونقل ابن سعد عنه كثيرًا من أخبار المغازي في كتابه. وقد مات سنة ١٢٤.

وكان كثير من هؤلاء الرواة للسيرة يسمعون للشعر ويشاركون فيه، ويجدون مُتْعةًً في روايته، فابن أبي بكر بن حزم يفضل حسان بن ثابت الأنصاري على الفرزدق في حكاية طويلة،١٤ وابن شهاب الزهري كان «يحدِّث ثم يقول هاتوا من أشعاركم فإن الأذن مَجّاجة وللنفس حَمْضًةً»،١٥ فلعل ميل هؤلاء الأولين إلى الشعر وشغفهم به هو السبب في إدخال بعض الشعر في ثنايا السيرة.

وجاءت بعد هؤلاء طبقة أخرى عاشت في العصر العباسي، أشهرهم مُوسَى ابن عُْقبَة، ومعْمرً بن راشد، وابن إسحق والوَاقِدِيّ.

فأمَّا موسى بن عقبة فمولى للزبيريين، ولعله استفاد من هذه الصلة بعض علمه، وقد رأينا قبل أن من أشهر علماء المغازي عروة بن الزبير وابنه هشام، وقد عُنِي موسى وأخواه إبراهيم ومحمد بمدارسة العلم في مسجد المدينة، واشتهروا ثلاثَتُهم بالفقه والحديث وعُرِفَ أصغرهم موسى بالمغازي، حتى قال فيه مالك بن أنس: «عليكم بمغازي ابن عقبة وهي أصح المغازي»؛١٦ وكانت سيرته التي كتبها مختصرة موجزة، كما يروي الرواة، وصل إلينا منها بعض مقتطفات، ونجد ابن سعد ينقل عنه بعض الأخبار، كما ينقل عنه الطبري بعض أخبار السيرة وبعض أخبار الخلفاء الراشدين وبني أمية، وينقل عنه الأغاني أخبار زيد بن عمرو،١٧ الذي كان يتأله في الجاهلية، ويروي موسى بن عقبة أن كُرَيْبَ بن أبي مسلم مولى عبد الله ابن عباس وضع عنده حمل بعير من كتب ابن عباس.١٨ وقد مات موسى سنة ١٤١.
وأمَّا مَعْمَر بن راشد، فكذلك كان من الموالي، كان مولى للأزْدي، وقد وُلِدَ ونشأ بالبصرة ثم رحل إلى اليمن، وظل ينتقل بين اليمن والبصرة، وكان عظيم الخُُلُق، يصفه ابن سعد فيقول: «كان مُعْمَر رجلًا له حلم ومروءة ونبل في نفسه»، كما كان واسع العلم بالحديث والسير. وقد ذكر ابن النديم في الفهرست أن له من الكتب «كتاب المغازي» — ولم يصل إلينا، وإنما وصل من مقتطفات في الواقدي وابن سعد والطبري والبلاذري — وأكثر ما يقوله معمر ينسبه إلى الزُّهري، وقد كان شيخه. وقد مات بصنعاء سنة ١٥٠ أو سنة ١٥٢.

فإن نحن وصلنا إلى ابن إسحق والواقدي فقد وصلنا إلى أكبر مؤرخي العصر العباسي الأول، ومَنْ كان عليهما يَعْتمد أكثر المؤرخين الذين جاءوا بعدهما.

ابن إسحق: هو محمد بن إسحق بن يَسَار، وكان كذلك من الموالي أُسر جدُّه يسار في عَيْن الّتمر في العراق، ووُجِّه إلى المدينة وكان مولى لقيس بن مَخْرَمة بن المطلب بن عبد مناف، وهو من أصل فارسي.١٩
وقد نشأ محمد بن إسحق في المدينة، والراجح أنه وُلِدَ نحو سنة ٨٥، وقد اتهم بأنه في شبابه كان يغازل النساء، ورُِفِع أمره إلى والي المدينة «فأمر بإحضاره، وكان حسن الوجه، فضربه أسواطًا ونهاه عن الجلوس في مؤخر المسجد».٢٠
وقد لقي كثيرًا من علماء المدينة وأخذ عنهم الحديث، فسمع القاسم بن محمد بن أبي بكر، وأبَان بن عثمان، ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن هرمز، ونافعًا مولى عبد الله بن عمر، وابن شهاب الزهري؛ وفي سنة ١١٥ رحل إلى الإسكندرية وسمع من يزيد بن أبي حبيب، ثم عاد إلى المدينة، وكان يجمع الأحاديث وخاصة ما اتصل منها بالمغازي حتى اشتهر بها. ورُوِِي عن الشافعي أنه قال: «مَنْ أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحق».٢١ وقد عاداه في المدينة عالمان كبيران: هشام بن عروة بن الزبير، ومالك بن أنس؛ فأمَّا عداء هشام فسببه أن ابن إسحق روى بعض أخباره عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر، وفاطمة هذه هي زوجة هشام بن عروة، فلمَّا بلغ هشامًا ذلك أنكره وقال: «أَلِعدوّ الله الكذاب يروى عن امرأتي؟ مِنْ أين رآها؟»٢٢ ودافع بعض العلماء عن ابن إسحق، فقد رُوِي عن أحمد بن حنبل أنه قال: «وما ينكر هشام؟ لعله جاء فاستأذن عليها فأذنت له، وهو لم يعلم»؛٢٣ سيما وقد كان من المألوف في هذا العصر أن يروي الرجال عن النساء. فقد رأينا قبلُ أن عبد الله بن أبي بكر يروي عن امرأته فاطمة بنت عمارة، ويدعوها لأن تقص على ابن إسحق خبرًا، هذا إلى أن فاطمة بنت المنذر كانت متقدمة في السن أيام محمد ابن إسحق، فقد وُلِدَت سنة ٤٨هـ، فهي أسن منه بنحو ٣٧ سنة.
وأمَّا عداء مالك فله سببان: الأول ما تقدم من أن ابن إسحق كان يطعن في نسب مالك بن أنس، ويروي أنه هو وأهله من موالي بني تميم بن مرة؛٢٤ والثاني أنه كان يطعن في علم مالك ويقول: «ائتوني ببعض كتبه حتى أبين عيوبه، أنا بَيْطار كتبه»؛٢٥ فكان مالك يقول فيه: «إنه دَجَّال من الدجاجلة»، وكان يقول: نحن نفيناه عن المدينة،٢٦ وكان يقول: «محمد بن إسحق كذَّاب». على كل حال وقف فيه علماء المدينة موقفين مختلفين، فكان هشام ومالك يجرحانه، وكان ابن شهاب الزهري وغيره يثنون عليه. وقد اتهم بالتشيع والقول في القدر؛ فلمَّا قامت الدولة العباسية رحل إلى العراق، فنزل الكوفة والجزيرة والري وبغداد، واتصل بالمنصور، وطلب منه أن يصنف كتابًا لابنه المهدي منذ خلق الله آدم إلى يومه ففعل، فاستطاله المنصور فاختصره في هذا الكتاب المختصر، وأُلقي الكتاب الكبير في خزانة المنصور.٢٧
وقد ألَّف كتابه المغازي من مجموعة الأحاديث والأخبار التي سمعها من المدينة والتي سمعها من مصر، كما يدل على ذلك ما بين أيدينا من الكتاب. والظاهر أنه قد جمع كتابه قبل أن يرحل إلى العراق؛ إذ ليس فيه من أثرٍ لأحاديثه، وقد بحث بعض المستشرقين في احتمال تأثر ابن إسحق بالعباسيين لاتصاله بالمنصور، وذكروا مثلًا على ذلك موقف العباس في غزوة بدر «وهو جد العباسيين»، فقد ذكر مثلًا ابن إسحق أنه حارب في بدر مع المشركين، ولكنه لطَّف ذلك فزعم أنه كان مُكْْرَهًا، وروى في ذلك حديثًا عن ابن عباس عن رسول الله أنه قال: «مَنْ لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنما خرج مُسْتَكرهًا»، وردَّ عليه آخرون بأن بعض تلاميذ ابن إسحق في المدينة وهو إبراهيم بن سعد روى عنه خبرًا كهذا قبل اتصاله بالعباسيين.٢٨
ألَّف ابن إسحق كتابه المغازي، وهو أول كتاب وصل إلينا في السيرة من بين المؤلفين الأولين الذين ذكرناهم، وإن كان قد وصلنا مختصرًا في سيرة ابن هشام٢٩ المتوفى سنة ٢١٨، وقد تلقى ابن هشام السيرة عن زياد بن عبد الله اَلبكّائي المتوفى سنة ١٨٣ عن ابن إسحق.
وتنقسم مغازي ابن إسحق إلى ثلاثة أقسام: «المُبْتَدَا» و«المبعث» و«المغازي» فالمبتدا يبحث في تاريخ الوحي قبل الإسلام، والمبعث في حياة النبي في مكة، والمغازي في حياته في المدينة؛ وقد اختصر ابن هشام هذه السيرة ونصَّ على ما فعله فيها فقال: «وأَنا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم ومَن ولَدَ رسول الله مِنْ وَلدِه وأولادهم لأصلابهم، الأول فالأول من إسماعيل إلى رسول الله وما يعرض من حديثهم، وتاركٌ ذكر غيرهم من ولد إسماعيل — على هذه الجهة للاختصار — إلى حديث سيرة رسول الله ، وتارك بعض ما ذكره ابن إسحق في هذا الكتاب مما ليس لرسول الله فيه ذكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سببًا لشيء من هذا الكتاب ولا تفسيرًا له ولا شاهدًا عليه، لِمَا ذكرت من الاختصار، وأشعارًا ذكرها لم أر أحدًا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعضه يسوء بعض الناس ذكره، وبعض لم يُقِرّ لنا البَكَّائي بروايته، ومستقصٍ إن شاء الله تعالى ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له والعلم به»؛٣٠ فحذف ابن هشام من القسم الأول من سيرة ابن إسحق تاريخ الأنبياء من آدم (عليه السلام) إلى إبراهيم (عليه السلام) وحذف كذلك من فروع إسماعيل مَنْ لم يلد النبي كما حذف أخبار القبائل الأخرى وعباداتهم ونحو ذلك.

وقد بقي بعض هذه الأخبار التي حذفها ابن هشام في تاريخ الطبري وغيره من التواريخ منسوبة إلى ابن إسحق؛ وابن إسحق قليل الإسناد في القسم الأول كثيره في الأخيرين وخاصة الأخير، فهو يروي عن عاصم بن عمر، وعبد الله بن أبي بكر، ويكثر من الرواية عن الزهري، واتصل بكثر من الزبيريين ومواليهم، فأخذ عنهم، عِلْمَ عروة بن الزبير وهشام بن عروة.

كذلك اتصل ابن إسحق بغير المسلمين من يهود ونصارى ومجوس، ونقل عنهم، فينقل عن «بعض أهل العلم من أهل الكتاب الأول»، وعن «أهل التوراة» و«مَنْ يسوق الأحاديث عن العجم». وقد خََلَفَ ابنُ إسحق في هذا الباب وهبَ بن منبه، ونحا منحاه، وأحيانًا ينقل أيضًا عن وهب، وربما كان ابن إسحق أول مَنْ نقل عن التوراة والإنجيل نقلًا حرفيًا، وقد عابه بعضهم على ذلك فيقول ابن النديم: «وكان يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم في كتبه أهل العلم الأول»، كما قال فيه أيضًا: «إنه كان يُعْمَل له الأشعار ويؤتَى بها ويسأل أن يُدْخلها في كتابه فيفعل فضمَّن كتابه من الأشعار ما صار به فضيحة عند رواة الشعر»،٣١ وقد نقل عنه الطبري وابن هشام شيئًا من هذا الشعر، وكثيرًا ما يقول ابن هشام عند ذكر ما رواه ابن إسحق «وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة»، وقد نقده على ذلك أيضًا محمد بن سَلاّم الجمْحِيّ صاحب كتاب طبقات الشعراء؛ وعلى الجملة فقد رأى أن يجمع كل ما يروى من الشعر في الموضع الذي يذكر خبره، ويترك لعلماء الشعر نقده والاستيثاق من صحته.

ولابن إسحق فضل جمع الأحداث وترتيبها وتبويبها وسلسلتها، وربما كان هو أول مَنْ فعل ذلك، وحذا حذوه مَنْ بعده.

وكان له تلاميذ يروون عنه كتابه، منهم إبرهيم بن سعد بالمدينة، والبَكَّائي الذي أخذ عنه ابن هشام، وسَلَمة بن الفضل الذي يروي عنه الطبري أكثر ما يروي عن ابن إسحق، ويروي الخطيب البغدادي: «إن محمد بن إسحق صنَّف هذا الكتاب في القراطيس. ثم صيَّر القراطيس لسلمة بن الفضل فكانت تفضل رواية سلمة على رواية غيره لحال تلك القراطيس».٣٢

وقد اختلف العلماء فيه في العراق، كما اختلفوا فيه في المدينة من مجرِّح ومُعدِّل، ومُوَثَِّّق ومكذِِّّب، وقد عقد الخطيب البغدادي فصلًا طويلًا حكى فيه الأقوال التي قيلت له والتي قيلت عليه، ولم يحكم بينها كعادته، ووقف بعضهم في ذلك موقفًا وسطًا، فقالوا إن سعة علمه لا تنكر، وإنه لم يكن كاذبًا، ولكنه كان قدريًا وكان يتشيع، وكان لا يتقيد بالقيود الكثيرة التي يتقيد بها ثقات المحدِّثين، فيقول فيه ابن حنبل: «كان رجلًا يشتهي الحديث فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه»، والمحدِّثون لا يرضون عن هذا ويشترطون السماع. و«كان يحدِّث عن جماعة بالحديث الواحد ولا يفصل ذا من ذا»، والمحدِّثون يكرهون ذلك ويشددون في نسبة كل جزء من الحديث إلى قائله، فالظاهر أنه لم يلتزم طرق المحدِّثين في الحديث، وتوسَّع في نقل الأخبار فكرهه بعضهم من أجل ذلك وعابوه.

وقد مات ببغداد سنة ١٥٢ أو سنة ١٥٣.

الواقدي — كان الثاني بعد ابن إسحق في سعة العلم بالمغازي والسِّير والتاريخ، وكان معاصرَه وأصغر منه سنًّا، وكان موًلى مثله، فهو محمد بن عمر بن واقد الواقدي مولى بني هاشم، وقيل مولى بني سهم بن أسلم؛ وقد لقي كثيرًا من الشيوخ وأخذ عنهم مثل مَعْمرَ بن راشد، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري؛ ومن أشهر شيوخه في التاريخ الذين يروي عنهم كثيرًا أبو معشر الِّسْندي واسمه نَجِيح، كان من علماء المدينة، فلمَّا قدم المهدي المدينة استصحب معه أبا معشر هذا إلى بغداد وأمر له بألف دينار، وقال له: «تكون بحضرتنا فتفقِّه مَنْ حولنا». ومات ببغداد سنة ١٧٠، وكان كثير العلم بالتاريخ والحديث، ففي الحديث يضعفه كثير من المحدِّثين، ويروون أنه اختلط في آخر عمره، وبقي قبل أن يموت سنتين في تغير شديد لا يدري ما يحدِّث به لكثرة المناكير في روايته؛ والبخاري يقول فيه: «إنه منكر الحديث»، ولكنهم لا يطعنون في سعة علمه بالمغازي، فيقول فيه أحمد بن حنبل: إنه بصير بالمغازي: وقد ألَّف كتابًا فيها ذكره ابن النديم في الفهرست، اقتبس منه ابن سعد في كتابه الطبقات عند الكلام في السيرة، وكذلك الطبري.

فيظهر أن الواقدي استفاد كثيرًا من علم أبي معشر في المغازي والتاريخ، كان تلميذه أيام كان في المدينة.

وُلِدَ الواقدي بالمدينة سنة ١٣٠ في خلافة مروان بن محمد، وسمع من شيُوخها؛ ولمَّا حجَّ الرشيد (وربما كان ذلك سنة ١٧٠) زار المدينة فقال ليحيى بن خالد: «ارْتََدْ٣٣ لي رجلًا عارفًا بالمدينة والمشاهد، وكيف كان نزول جبريل (عليه السلام) على النبي ومن أي وجه، كان يأتيه، وقبور الشهداء؛ فسأل يحيى بن خالد، «قال الواقدي»: فكلهم دلَّه عليّ، فبعث إليَّ فأتيته، وذلك بعد العصر، فقال لي: يا شيخ، إن أمير المؤمنين أعزَّه الله يريد أن تصلي عشاء الآخرة في المسجد، وتمضي معنا إلى هذه المشاهد فتوقفنا عليها؛ ففعلتُ، ولم أدَع موضعًا من المواضع ولا مشهدًا من المشاهد إلا مررت بهما (يعني الرشيد ويحيى) عليه»،٣٤ ومَنَحاه مالًا كثيرًا، وطلب إليه يحيى بن خالد البرمكي أن يصير إليه في العراق إذا استقرت به الدار، ففعل، واتصل به فأغناه وأخلص في حبه فبعد نكبته كان إذا ذُكِرَ اسمه ترحّم عليه الواقدي فأكثر الترحم. وخرج إلى الشام والرََّقََّة ثم رجع بغداد، فبقي بها حتى ولاَّه المأمون القضاء بعسكر المهدي،٣٥ و«كان المأمون يكرم جانبه ويبالغ في رعايته، فلم يزل قاضيًا حتى مات ببغداد سنة ٢٠٧ أو سنة ٢٠٩».
عُني الوقادي بالمغازي والسَّيَر والتاريخ الإسلامي عامة، ونبغ في ذلك؛ يقول فيه البغدادي: «وهو ممَنْ طَبَّق شرق الأرض وغربها ذِكرُِه، ولم يَخْفَ على أحد عَرَف أخبار الناس أمْرُِه، وسارت الركبان بكتبه في فنون العلم من المغازي والسير والطبقات وأخبار النبي والأحداث التي كانت في وقته وبعد وفاته ، وكتب الفقه، واختلاف الناس في الحديث وغير ذلك»٣٦ ويحدِّث هو عن نفسه فيقول: «ما أدركت رجلًا من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء ولا مولى لهم إلا وسألته، هل سمعت أحدًا من أهل يخبرك عن مشهده وأين قتل؟ فإذا أعلمني مضيت إلى الموضع فأعاينه، ولقد مضيت إلى المُرَيسِْيع فنظرت إليها، وما علْمتُ غزاة إلا مضيت إلى الموضع حتى أعيانه».٣٧ وتخصص في تاريخ الإسلام، حتى كان لا يعرف كثيرًا من أمور الجاهلية؛ وقال إبراهيم الحَرْبي: «كان الواقدي أعلم الناس بأمر الإسلام، فأمَّا الجاهلية فلم يعمل فيها شيئًا»؛٣٨ وكان كثير الكتب، كثير التأليف، فرُوِِي أنه «كان له ستمائة قِمَطْر كتب»، وانتقل من جانب من بغداد إلى جانب فحمل كتبه على عشرين ومائة وقر،٣٩ وقد عدَّ لَهُ ابن النديم كتبًا كثيرة ألَّفها أكثرها في التاريخ وقليلها في الفقه.
وقد كانت كتبه عمدة للمؤرخين بعده اقتبسوا منها ووصلت إلينا مقتبساتهم، ففي كتاب ابن حبيش في الغزوات أخبار كثيرة مقتبسة من كتاب الواقدي في الردة.٤٠

وللواقدي كتاب اسمه «التاريخ الكبير» مرتب على حسب السنين اقتبس منه الطبري كثيرًا في تاريخه، وآخر ما اقتبس منه سنة ١٧٩.

وله كتاب الطبقات ذكر فيه الصحابة والتابعين مرتبين حسب طبقاتهم، ويظهر أن كاتبه «ابن سعد» قد حذا حذوه وسار في كتابه على منهجه.

ولم يبقَ لنا مما يصح من كتبه إلا كتاب المغازي، وقد ذكر في أوله شيوخه الذين أخذ عنهم مغازيه، ويبلغون نحو خمسة وعشرين، وكلهم تقريبًا من أهل المدينة أو من سكانها، ومن هؤلاء مَنْ سبقنا فذكرنا علمهم الواسع بالسيرة كالزهري، ومعمر بن راشد، وأبي معشر، ولم يذكر ابن إسحق في هذه المجموعة، وإن كان في كتابه قد استخدم تآليفه، ومغازي الواقدي على ما يظهر أكثر إخبارًا عن سيرة النبي في أيامه المدينة، وهو أميل في أخباره إلى الفقه والحديث من ابن إسحق، وهو يرجع أحيانًا إلى كتب وصحف رآها واعتمد عليها، أو سمع عمَنْ رآها، فيقول ابن سعد: قال الواقدي، حدَّثني عبد الله بن جعفر الزهري قال: وجدت في كتاب أبي بكر بن عبد الرحمن بن المسوِّر. وقال محمد بن عمر (الوقادي): نسخت كتاب أهل «أذْرُُِح» فإذا فيه إلخ، ويمتاز عمَنْ سبقه بالدقة في تعيين تاريخ الحوادث.

وكان الواقدي — كما رأينا — على اتصال بالعباسيين، وقد تأثر بهذه الصلة بعض الشيء في كتبه، في حذف اسم العباس من جملة أسماء مَنْ وقعوا أسرى في يد المسلمين يوم بدر، وأحيانًا يكني عن العباس بفلان، ولا يصرِّح باسمه، ونحو ذلك.

وقد وقف في الواقدي المحدِّثون موقفهم من ابن إسحق من معدِّل ومجرِّح، وحكى أقوالهم أيضًا على اختلافها الخطيب البغدادي، فكان يثق به مالك ولا يثق بابن إسحق، وكان يثق به محمد بن الحسن من الحنفية، ولقَّبه بعضهم بأمير المؤمنين في الحديث، ويثق به ابن عبيد القاسم بن سلام اللغوي الشافعي، ويقول: «الواقدي ثقة، كما كان يطعن عليه عليّ المديني ويقول: «عند الواقدي عشرون ألف حديث لم يُسمَع بها»، ويقول يحيى بن مَعِين: أغْْرَبَ الواقدي على رسول الله ، عشرين ألف حديث» وقال أحمد بن حنبل: «الواقدي يُركِّب الأسانيد»، وقال الشافعي: «الواقدي وصل حديثين» أي لا يصح أن يوصلا.

والظاهر أن مطعن المحدِّثين عليه كمطعنهم علي ابن إسحق، فلم يكن يتقيد بمذهبهم من ناحيتين: أنه يأخذ من الصحف والكتب كما رأينا، وكان ثقات المحدِّثين يكرهون هذا كل الكراهية، ولا يرون أن المحدِّث يصح له أن يحدِّث بحديث إلا أن يسمعه بأذنه ممَنْ رُوِي عنه. والثانية أنه كان يجمع الأسانيد المختلفة ويجيء بالمتن واحدًا، مع أن جزءًا من المتن لبعض الرواة وجزءًا آخر لرواة آخرين، وكانوا يعدُّون هذا عيبًا، ويعيبون هذا على الزهري وابن إسحق؛ وقد اعتذر هو عن هذا بأن الأمر يطول. فقد روي أنه لما طالبه تلاميذه بذلك جاءهم بغزوة أحُد في عشرين جلدًا لمَّا اتبع طريقة إفراد كل حديث بسنده، فاستكثروا ذلك وقالوا: رُِدَّنا إلى الأمر الأول.٤١

وأيَّا ما كان فقد كان الواقدي من أوسع الناس علمًا في عصره بالمغازي والسِّير، كما كان واسع العلم بالحديث والتفسير والفقه، وكان من أكبر المصادر التي عوَّل عليها الطبري في تاريخه.

ابن سعد: كان محمد بن سعد نفحة من نفحات الواقدي؛ فهو تلميذه وكاتبه يدوِّن له كتبه وأحاديثه وما يشير به، وقد لُقِّب من أجل ذلك «بكاتب الواقدي»، وخلَّف لنا كتابه الممتع «الطبقات الكبرى» في ثمانية أجزاء؛ وقد وُلِدَ بالبصرة سنة ١٦٨، وكان من الموالي، فآباؤه موالٍ للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس. وقد رحل إلى المدينة وإلى بغداد، وبها اتصل بالواقدي، وألَّف كتبه من علمه، وله فضل الترتيب والزيادة على علم أستاذه أحيانًا، فقد كمَّل ما كان ينقص الواقدي من أخبار الجاهلية واستعان فيها — غالبًا — بهشام الكَْلبي كما استعان في مواضع أخرى بغير الواقدي من العلماء كابن إسحق وأبي معشر وموسى بن عقبة وغيرهم؛ وقد خصص الجزء الأول والثاني من كتابه «الطبقات» لسيرة رسول الله ومغازيه، وخصص الأجزاء الستة الأخرى لأخبار الصحابة والتابعين، متبعًا في ذلك ترتيب الأمصار، َفمَنْ في مكة ومَنْ في المدينة، ومَنْ في البصرة والكوفة، ثم رتَّب علماء كل مصرٍ حسب شهرتهم وزمنهم.
ومدحه كثير من المحدِّثين، فقال فيه الخطيب: «محمد بن سعد عندنا من أهل العدالة، وحديثه يدل على صدقه، فإنه يتحرى في كثير من رواياته».٤٢ وتوفي ببغداد سنة ٢٣٠، وهو أحد شيوخ المؤرخ الكبير «البَلأُذري». هؤلاء هم أشهر مؤرخي السِّير والمغازي من بدء التأليف فيها إلى نهاية العصر الذي نؤرخه،٤٣ ومنه نستطيع أن نستنتج النتائج الآتية:
  • (١)

    أن أكثر كُتَّاب السيرة الأولين كانوا من أهل المدينة؛ لأن أكثر أحداث السيرة من تشريع مدني ومغازٍ كان والنبي فيها، وكان مَنْ حوله من أصحاب أعرف الناس بتلك الأخبار، فكانوا يحدثون بها ويروونها، وتناقلها عنهم التابعون ومن بعدهم حتى دوِّنت، وبدأ التدوين في المدينة ونفق في العراق.

  • (٢)

    كانت السيرة والمغازي جزءًا من الحديث يرويه الصحابة كما يروون أحاديث الصلاة والصيام، وكان مَنْ بعدهم يرويها عنهم كما يروون أحاديث العبادات والمعاملات، ويصل بعضها ببعض؛ وعُنِي بعض العلماء بهذه الناحية التاريخية كماعُنِي غيرهم بأحاديث الأحكام، ثم أُفْرِِدَت بالتأليف، وضَمَّ إلى الحديث غيره من أخبار الجاهلية، وما في يد الناس من شعر.

  • (٣)

    سلك المؤلفون الأولون في السيرة مسلك المحدِّثين الأولين، فمنهم مَنْ كان يُعَْنى بالإسناد ومنهم مَنْ لم يعنِ به، واضطر ابن إسحق والواقدي وأمثالهما — مراعاة لسير الحوادث وأخذ بعضها برقاب بعض — أن يجمعوا الأسانيد ويجمعوا بعد ذلك المتن، من غير أن يفرزوا كل جزء من المتن بسنده، فهاجمهم المحدِّثون من أجل ذلك، ولكن عذر المؤرخون عنايتهم بعرض الحادثة كاملة في إيجاز تسهيلًا على الكُتَّاب والقُرَّاء.

  • (٤)

    كل ما سبق أن ذكرناه في الحديث من دخول الوضع فيه، وتقسيمه إلى أقسام باعتبار صحته وضعفه ينطبق على السيرة والمغازي، فمن الرواة مَنْ كان ثقة صدوقًا، ومنهم المتساهل في رواية الأخبار، ومنهم الوضَّاع، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.

•••

وهناك ناحية ثانية اتجه إليها المؤرخون بجانب اتجاههم إلى السيرة، وهي تاريخ الحوادث الإسلامية من حروب بين بعض المسلمين وبعض، كوقعة الجَمَل ووقعة صِفِّين، ومن حروب المسلمين مع الأمم الأخرى من فرس وروم وهنود وغيرهم، وما تبع ذلك من فتوح وأحداث؛ ويظهر لي أن الذي دعاهم إلى تقييد هذه الحوادث أمور:
  • (١)

    أنها مادة من مواد التشريع وأصل من أصوله، فأعمال عمر بن الخطاب وسيرته في البلاد المفتوحة اتخذت أساسًا ونبراسًا لمن جاء بعده من أئمة الفقهاء، من شئون الجهاد ومعاملة أهل الذمة، والخراج والعُشْر وما ذلك؛ كذلك كانوا مضطرين إلى أن يتتبعوا شئون الفتح ليعرفوا أي البلاد ُفتِحَ ليعرفوا أي البلاد ُفتِحَ صلحًا، وأيها ُفتِحَ عَنْوة؛ لِمَا يترتب على ذلك من اختلاف في الجزية والخراج ونحوهما، وهذا ما دعا مؤرخي البلدان أن يعقدوا الفصول الطويلة في أول كتبهم يبينون فيه حال البلد في الفتح: هل ُفُتِحَت صلحًا أو عنوة؟ كالذي نرى في المقريزي نقلًا عن المؤرخين الأولين، وكالذي نرى في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي؛ وهذا بعينه هو الذي دعا البَلأُذري أن يفرد في ذلك كتابه المشهور «فتوح البلدان»، ومصداق ذلك أنا نرى قسمًا كبيرًا من أقسام الحديث يشمل هذه الأمور التاريخية، والحديث لا شك في أنه مصدر من مصادر التشريع، ففي كتب الحديث فصول وأبواب في أحكام القتال والغزو، وفي الأمان والهدنة، وفي الجزية وأحكامها، وفي الغنائم والفيء إلخ.

  • (٢)

    وسبب آخر يتصل بهذا، وهو أن حوادث الخلاف بين المسلمين، كالذي كان بين المهاجرين والأنصار عقب وفاة النبي فيمَنْ يتولى الخلافة، والخلاف بين عثمان وقاتليه، والخلاف بين عليّ وعائشة، وبين عليّ ومعاوية، وبين الأمويين وابن الزبير، وبين الأمويين والشيعة، وبين الأمويين ودعاة العباسيين، وبين العباسيين والعلويين، كلها كانت سببًا في الاختلاف في العقائد بين المسلمين، هل الأئمة من قريش أو من الأمة كلها؟ وهل من عليّ ونسله أو من المسلمين جميعًا؟ ومن ذلك نشأ الشيعة والخوارج وغيرهما، فاضطر كل فريق أن يدعم مذهبه بالأحداث التاريخية وتشريحها وتعليلها، فكانت أحداث التاريخ مرجعًا للعقائد كما كانت في السبب الأول مرجعًا للتشريع؛ ومن أجل هذا أيضًا نرى في كتب الحديث أبوابًا وفصولًا في هذه المسائل التاريخية: ففصول في الخلافة والإمارة، وفصل في الأئمة من قريش، وفي مَنْ تصح إمارته، وفي طاعة الإمام، وفي أعوان الأئمة والأمراء، وفي فضائل الصحابة، وباب كبير في الفتن، وكله تأريخ للخلاف بين المسلمين من مقتل عثمان ووقعة الجمل، وقتال الخوارج وأمر الحَكَمين، وبيعة يزيد بن معاوية وابن الزبير والحجاج وبني مروان إلخ؛ وفيما نجد مصداق ما نقول من أنها أُعدّتَ لتكون منبعًا يدعم به كل فريق عقائده في المسائل السياسية.

  • (٣)

    وسبب ثالث دعا إلى رواية أخبار الفتوح والحرص عليها، وهو أن هذه الفتوح كان يسودها العصبية القبيلة بجانب العصبية الدينية، فكانوا في القتال ينحازون إلى قبائل، كل قبيلة لها مكانها في القتال، ولها لواؤها تقاتل عنه كما تقاتل عن الإسلام، وتفتخر كل قبيلة بنصرتها في بعض أيامها، فتميم أبلت بلاء حسنًا في يوم كذا، وغيرها أبلى بلاء حسنًا في يوم كذا، مما يعد مفخرة للقبيلة كأيامها في جاهليتها، وحرصت كل قبيلة أن تروِي وقائعها وتتزيد فيها أحيانًا، ويسلمها السلف إلى الخلف، فكان ذلك باعثًا على حفظ الأخبار من طريق الرواية ومن طريق الأشعار؛ فالشعراء أيضًا أخذوا مفاخر قبائلهم ونظموها في قصائدهم، وفخروا بها على خصومهم وضمَّنوها نقائصهم.

    ولمَّا تحوَّلت العصبية القبيلة على عصبية بلدية تبعتها رواية الأخبار، ففخرت البصرة على الكوفة والكوفة على البصرة بالأحداث التاريخية — كما رأيت قبل — وفخرت تميم البصرة على تميم الكوفة، وفضَّلتْ قبائل البصرة من غير تميم على تميم الكوفة، وإن كانوا من دمها.

  • (٤)

    وسبب رابع لرواية الأحداث، وهو ما في طبيعة الإنسان من تلذذ بالسمر، ومن خير أنواع السمر رواية الأخبار، وما يتصل به وبأصوله ورجاله من قتال وحروب وخصام وجدال، وهذا هو التاريخ.

بدءوا تاريخهم — شفويًا — كما كانت كل نواة علم لهم شفوية؛ وبدأ الجيل الأول الذي شاهد هذه الحوادث واشترك فيها يرويها، وتحمَّلها عنه الجيل الذي بعده، وقيَّد بعضهم منها أحاديث متفرقة كالذي نرى في كتب الحديث، حتى إذا جاء القرن الثاني رأينا قومًا يبدءون في جمع أخبار الحادثة الواحدة، وضم بعضها إلى بعض، وتدوين ذلك في رسالة أو كتاب، وقد اشتهر من ذلك جماعة كان من أولهم:

(١) أبو مِخنف لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سُلَيم الأزدِي، كان جدُّه مخنف صحابيًا، وله بعض أحاديث في كتب السنن، ترجم له ابن حجر في «الإصابة في تمييز الصحابة»، وقال ابن النديم: «إن مخنفًا هذا كان من أصحاب عليّ» ويظهر أن حفيده الذي نترجم له، قد ورث من جده التشيع؛ فقد قال فيه صاحب القاموس: «إن أبا مخنف أخْبَارِِيّ شيعي تالِفّ متروك» وقد أّلف كتبًا كثيرة، كل كتاب في موضوع من مسائل التاريخ الإسلامي إلا كتابًا واحدًا اسمه كتاب رُِوستُقبَاذ؛ وقد عدُّها ابن النديم وصاحب فوات الوفيات، وهي ٣٣ كتابًا، منها: كتاب الردة، وكتاب فتوح الشام، وكتاب فتوح العراق وكتاب الجَمَل، وكتاب صِفِّين، وكتاب مقتل علي، وكتاب نَجْدَة الحرُِورِِي، وكتاب الأزارقة، وكتاب خالد بن عبد الله الَقسري إلخ؛ ويظهر أن كل كتاب شرح لمسألة، كأنه فصل من كتاب كبير، وقد عُنِي بالخوارج وما يدور حول عليّ، وأكثر ما كتبه وألفه كان في الأحداث التي حدثت في العصر الأموي، ويظهر من كتابته أنه لا يضمر الميل إلى الأمويين لما علمت من تشيعه.
ولم يبق لنا من كتبه الصحيحة إلا ما نقله عنه ابن جرير الطبري في تاريخه، فليس لدارسه إلا أن يجرد من الطبري ما نقله عنه ثم يستخرج منه ما يصل إليه من نتائج، كما فعل الأستاذ ولهوسن Wellhausen؛ ويظهر منها أنه لم يُعْن بترتيب الحوادث وتنظيمها، شأن المحاولات الأولى في التأليف.
وقد طعن فيه كثير من المحدِّثين كالذين نقلنا عن صاحب القاموس، وقال فيه أبو حاتم: «إنه متروك الحديث»، وقال الدارقطني: «أخْبَاري متروك الحديث»، وقالوا: «إنه كان يروي عن جماعة من المجهولين». مات سنة ١٥٧. ونقل ابن النديم قال: «قالت العلماء: أبو مخنف بأمر العراق وفتوحها وأخبارها يزيد على غيره، والمدائني بأمر خراسان والهند وفارس، والواقدي بالحجاز والسيرة، وقد اشتركوا في فتوح الشام»،٤٤ وأسلوبه في كتابته سهل جميل.
ويكاد يكون معاصر له (٢) سَيْف بن عمر الكوفي الأسَديّ التميمي؛ قال ابن النديم: «إن له من الكتب كتاب الفتوح الكبيرة والردة، وكتاب الجمل ومسيرة عائشة وعليّ» ولم يبقَ لنا منه أيضًا إلا ما يقتبسه من الطبري في أخبار الردة وفي الفتوح الأولى، وكان من شيوخه جابر الجُعْفِي الكوفي أحد كبار علماء الشيعة، وأخذ جابر عن الشعبي وغيره، وقد وَّجه الباحثون مثل «ولهوسِنْ» و«كايتاني» عنايتهم في درس ما نقله الطبري عن سيف، وقارنوا بين ما نقله هو وما نقله غيره من ثقاة المؤرخين، فوجدوه أقل دقة وإن كان أكثر تفصيلًا، والمحدِّثون أنفسهم لا يوثِّقونه كثيرًا، فيروي ابن حجر في التهذيب أنهم ضَعَّفوه، ولم يروِ له إلا الترمذي «فقد روى له َفَرْدَ حديث»؛ وأسلوبه قوي مؤثر، يتعصب فيما يحكي لقبيلته تميم، ويلوِّن مواقفه بلون زاهٍ جميل. قال ابن حجر: مات بعد سنة ١٧٠.
ويلي هذين ومَنْ في طبقتهما (٣) المدائني: وهو علي بن محمد المدائني مولى عبد الرحمن بن سمرة القرشي، بصري سكن المدائن فُنسِبَ إليها، وقد وُلِدَ في أوائل عهد الدولة العباسية سنة ١٣٥، وعاش نحو تسعين عامًا، ومات سنة ٢٢٥، «واتصل بإسحق بن إبراهيم الموصلي، فكان لا يفارق منزله، وفي منزله كانت وفاته؛ مرَّ عشيَّة من العشيَّات على حمار فاره وبِزَّه حسنة، فسأله يحيى بن مَعين: إلى أين يا أبا الحسن؟ فقال: إلى هذا الكريم الذي يملأ كمِّي من أعلاه إلى أسفله دنانير ودراهم، فقال: ومَنْ هذا قال: أبو محمد بن إسحق بن إبراهيم الموصلي٤٥ وكان أحدَ المتكلمين، تتلمذ لمِعْمَرَ بن الأشعث في الكلام ولكنه اشتهر بالأدب والتاريخ، وقد أكثر من التأليف، فعدَّ له صاحب الفهرست ٢٣٩ كتابًا وزاد عليها ياقوت في معجمه، وهي — كما قسَّمها ابن النديم — كتب في أخبار النبي ، وكتب في أخبار قريش، وكتب في أخبار مناكح الأشراف وأخبار النساء، وكتب في أخبار الخلفاء، وكتب في الأحداث كمقتل عثمان والجمل والردُّة، وكتب في الفتوح، وكتب في أخبار العرب كالخيل والرهان ومَنْ نُسِبَ إلى أمّه إلخ، وكتب في أخبار الشعراء، وكتب شتى في مواضع مختلفة.
ونرى من هذا سعة علمه بموضوعات التاريخ الإسلامي سعة فائقة، حتى أن تآليفه فيه استغرق عدها ست صفحات كاملة من كتاب معجم الأدباء لياقوت. ومما يؤسف له أن هذه الكتب كلها ضاعت مع أنه لعهد قريب — عهد عبد القادر البغدادي — كان هناك بعض كتبه استعان بها في تأليفه «خزانة الأدب»، ولم يبقَ منها إلا ما يرويه في كتبه الطبري والمسعودي، والعقد الفريد، والأغاني، وابن أبي الحديد في نهج البلاغة، وما يرويه المبرد في الكامل وأنساب الأشراف في أخبار الخوارج؛ وصفه ثعلب النحوي فقال: «مَنْ أراد أخبار الجاهلية فعليه بكتب أبي عبيدة، ومَنْ أراد أخبار الإسلام فعليه بكتب المدائني»، ووصفه الخطيب البغدادي فقال: «كان عالمًا بأيام الناس، وأخبار العرب وأنسابهم، عالمًا بالفتوح والمغازي ورواية الشعر صدوقًا في ذلك».٤٦ وعلى الجملة فالمحدِّثون لا يطعنون عليه كما طعنوا على سابقَيْه، فيحيى بن مَعين أشهر نقاد رجال الحديث يقول إنه ثقة. وقد اتصل بالمأمون وحدُّثه على ظلم بني تمية لعليّ وبنيه، فقال له المأمون: «لا جرم قد ابتعث الله عليهم مَنْ يلعن أحياءهم وأمواتهم، ويلعن مَنْ في أصلاب الرجال وأرحام النساء؛ يعني الشيعة»،٤٧ ويظهر مما نقل عنه في أخبار الدولة العباسية أنه كان مؤيدًا لها ونصيرًا.
وكان من أكبر تلاميذ المدائني (٤) الزّبير بن بكار من نسل عبد الله بن الزبير، وبيتهم هو الذي عُرِفَ بسعة العلم وبالسيرة — كما رأيت قبل — وكان الزبير من مشاهير العلماء والأدباء في العصر العباسي، وحامل علم المدائني في التاريخ، وله مؤلفات أيضًا ككتاب نسب القرشيين؛ وقد عدَّ له ابن النديم ٢١ كتابًا، بعضها في التاريخ وبعضها في الأدب، وكان مؤدب ولد محمد بن عبد الله بن طاهر حينًا، وتوفي وهو قاضٍ بمكة سنة ٢٥٦، وعمره أربع وثمانون سنة.

ولكن هذه الطبقة على العموم طبقة أبي مخنف وسيف بن عمر والمدائني وأمثالهم لم يكن تأليفهم مرتبًا ولا عملهم مسلسلًا منظمًا، ولا شاملا وافيًا، كما يدل على ذلك مانقُلَ عنهم، إنما كثر الترتيب والتنظيم في الطبقة التي أتت بعدهم، وهي طبقة البلاذري وابن جرير الطبري، وكان الطبري أكثر تنظيمًا وأميل إلى تنسيق الحوادث وترتيبها حسب السنين، وله الفضل في أنه جمع في كتابه زبدة ما ألَّفه المؤرخون قبله كما فعل في التفسير؛ ونرجئ الكلام فيه وفي طبقته إلى الكلام في العصر العباسي الثاني إن شاء الله فهو بهم أليق.

ونلاحظ أن أكثر مَنْ ذكرنا ممَنْ كتبوا في التاريخ الإسلامي في ذلك العصر كانوا من أهل العراق، فأبو مخنف كوفي، وسيف بن عمر كوفي كذلك والمدائني بصري سكن المدائن ثم بغداد، والزبير بن بكار وإن كان مدنيًا فقد عاش في العراق أزمانًا؛ وعلى العكس من ذلك مَنْ كتبوا في السير والمغازي، فقد كان أكثرهم مدنيين كما رأينا، وقد أبنَّا السبب قبل في عناية المدنيين بالسيرة. أمَّا الفتوح وما إليها فقد سكن كثير ممن اشتركوا فيها العراق وتحدثوا بأخبارها وروَّوا ذلك أبناءهم، وكانوا أقدر على التدوين من أهل الشام ولو أن الخلافة الأموية فيهم، فلمَّا جاء العباسيون كان طبيعيًا أن يكون مؤرخوهم من العراق.

•••

ونوع ثالث عُنِي به مؤرخو المسلمين وهو الأنساب، وذلك أن العرب كانت بحكم طبيعتها تعيش قبائل، وتعد القبائل وحدة كوحدة الأسرة، وتمّحي فيها شخصية الفرد إلى حد كبير، فالمحمدة يأتيها الفرد محمدة للقبيلة، والعار يرتكبه الفرد عار للقبيلة، والشاعر يشعر للقبيلة، والخطيب يخطب للقبيلة، والوفود تفد باسم القبيلة، وهكذا ملكت عليهم القبيلة أنفسهم وتفكيرهم. فلمَّا جاء الإسلام أراد أن يحُِل الأخوة الدينية محل الرابطة الَقبَلية، ووجدت الرابطة الدينية فعلًا وكانت قوية شديدة، ولكن لم تَّمح العصبية القبيلة، فظل المسلمون ينحازون في القتال إلى قبائل؛ ولمَّا دوَّن عمر ديوان الخراج بدأ بالعباس عم النبي ثم ببني هاشم ثم بمَنْ بعدهم طبقة بعد طبقة، فراعى الاعتبار الديني والاعتبار الَقبَلي معًا، وفخرت القبائل بما هو لها من مواقف في قتال فارس والروم، وبما كان لهم في قتال المسلمين بعضهم بعضًا، ورأينا جريرًا والفرزدق والأخطل الأمويين يتهاجون بالقبائل: يفخر جرير على الأخطل بتميم وقيسٍ على تغلب، ويعدد مفاخرهما وأيامهما، ويفخر الأخطل بتغلب على تميم، ويفخر جرير على الفرزدق بفرعه من تميم، ويفخر الفرزدق على جرير ببيته من تميم، ويعدُّ كلٌّ مخازي الفرع الآخر، لا فرق في ذلك بينهم وبين الجاهليين. وعاش الأمويون عيشة عربية يقاتلون بالعصبية القبلية ويتخذونها سلاحًا لهم؛ وهذا كله من غير شك يدعو إلى العناية بحفظ الأنساب، وكذلك كان؛ فلمَّا خضع الفرس والروم للعرب انقسم الناس إلى قسمين: عرب وموالٍ، فزاد ذلك في العصبية العربية والتمسك بها.

ولمَّا جاءت الدولة العباسية ظهرت الشعوبية، وأخذ الشعوبيون يبحثون عن مثالب العرب ومثالب كل قبيلة ويتزيدون فيها، فكان ذلك باعثًا جديدًا على تشريح القبائل وعدِّ المفاخر من جانب العرب، وعدِّ المثالب من جانب الشعوبية؛ فكان من ذلك العناية بالأنساب وتدوينها والتأليف فيها، وأقام ذلك فرعًا من التاريخ بجانب تاريخ السِّيَر والمغازي وتاريخ الأحداث الإسلامية.

وقد اشتهر جماعة من أول عهد الإسلام بحفظ الأنساب، فاشتهر أبو بكر الصديق بأنه نَسَّابة، وله أخبار ومناظرات في ذلك تدل على معرفته الواسعة بقبائل العرب وفروعها.٤٨

واشتهر بذلك أيضًا دغَفل بن حْنظلة الشَّيباني، وقد اختلف المحدِّثون في عدِّه صحابيًا، وأكثرهم على أنه كان رجلًا أيام النبي ولكن لم يلقه، وله مع أبي بكر مناظرة في النسب، ذكرها صاحب العقد، وقد غرق سنة ٧٠هـ في حرب الخوارج؛ ويُجْمِع مؤرخوه على معرفته الواسعة بالنسب، فيقول ابن سيرين: «إنه كان عالمًا ولكن اغتلبه النسب»؛ وقال ابن سعد: «كان له علم ورواية للنسب»؛ ويروُون أنه اتصل بمعاوية فأعجب بعلمه وقال له: اذهب إلى يزيد فعّلمه. وعدُّوه فيمَنْ نزل البصرة؛ وله أخبار كثيرة في الأنساب، ولكن كما قال ابن النديم: «لا مصّنف له»، وذلك طبيعي بالنسبة لزمنه.

واشتهر بالنسب أيضًا من التابعين سعيد بن المسيّب، فكان َنسَّابة؛ قال له رجل: أريد أن تعلِّمني النسب، قال: «إنما تريد أن تُسَابّ الناس».

كما اشتهر في العهد الأموي النسّابة البَكْرِِيّ، و«كان نصرانيًا، رُوِى عنه رؤبة بن العجاج».٤٩

وكان في كل قبيلة قوم يعرفون أنسابها، فلمَّا جاء عصر التدوين عُني قوم بملاقاة هؤلاء العارفين والأخذ عنهم، وتدوين ذلك في الكتب، كما فعلوا في اللغة والأدب؛ وقد اشتهر بذلك في عصرنا جماعة، من أشهرهم

محمد بن السَّائب الكَلْبِيّ، وابنه هشام الكلبي؛ فمحمد بن السائب من قبيلة كلب، وإليها يُنَسب، وكان من علماء الكوفة، استقدمه سليمان بن علي العباسي إلى البصرة.

وقد عاش الكلبي عهدًا طويلًا في العصر الأموي، وشهد وقعة دَيْرِِ الَجماجِم مع عبد الرحمن بن الأشعث، ولم يكن ضلعه مع بني أمية، كما يدل عليه خروجه عليهم، وكذلك كان أبوه وجدُّه، فأبوه السائب قْتِلَ مع مصعب بن الزبير، وجدُّه بشر كان مع عليّ في وقعة الجمل وصِفِّين.

وكان محمد بن السائب غزير العلم بالأنساب، يتلقاها عمَنْ عرفها من أهلها، فيقول ابن النديم: «أخذ نسب قريش عن أبي صالح، وأخذه أبو صالح عن عقيل ابن أبي طالب، وأخذ نسب كندة عن أبي الكناس الكندي، وأخذ نسب معدُّ بن عدنان عن النجارين أوس العدواني، إلخ». وتوفي سنة ١٤٦.

وجاء بعده ابنه هشام الكلبي، فأكمل خطة أبيه، فكان «عالمًا بالنسب وأخبار العرب وأيامها ومثالبها ووقائعها»، وله كتب كثيرة ذكرها ابن النديم وقسَّمها إلى أقسام: كتب في الأحلاف، أي الحِْلف بين القبائل، وكتب في المآثر والبيوتات والمنافرات والموءودات، وكتب في أخبار الأوائل، وكتب فيما قارب الإسلام من أمر الجاهلية، وكتب في أخبار الإسلام، وكتب في أخبار البلاد، وكتب في أخبار الشعراء وأيام العرب، وكتب في الأخبار والأسمار، وكتب في نسب اليمن، وكتب في أنساب أخرى، وكتب في موضوعات شتى؛ وتبلغ الكتب التي عدُّها له نحو ١٤٠ كتابًا. وكتاب نسب فحول الخيل في الجاهلية والإسلام، وكتاب الأصنام الذي ُ طبِعَ في مصر؛ هذا إلى مقتبسات من تآليفه في الكتب المشهورة كالطبري، وكمعجمي ياقوت، وكتاب شرح ابن الأنباري للمفضليات، والعقد الفريد، والأغاني وغيرها.

والمحدِّثون يتهمونه وأباه، فيقول أبو حاتم محمد بن السائب: «أجمعوا على ترك حديثه، واتهمه جماعة بالوضع»؛ ويقول أحمد بن حنبل في هشام: «مَنْ يحدِّث عنه؟ إنما هو صاحب نسب وسمر، ما ظننت أن أحدًا يحدِّث عنه».٥٠
حتى الأغاني يعقِّب على هشام في مواضع مختلفة ويرميه بالوضع، فيقول بعد نقله عن ابن الكلبي أخبارًا عن دُريد بن الصَّمة: «هذه الأخبار التي ذكرتها عن ابن الكلبي موضوعة كلها والتوليد بيّنٌ فيها وفي أشعاره، وما رأيت شيئًا منها في ديوان دريد بن الصمة على الروايات … وهذا من أكاذيب ابن الكلبي، وإنما ذكرته على ما فيه لئلا يسقط من الكتاب شيء قد رواه الناس وتداولوه».٥١ وقد فعل الأغاني مثل ذلك في أكثر من موضع.
ورُوِى له ابن خلكان أيضًا قولًا تظهر فيه الصنعة كل الظهور.٥٢

وقد اتصل هشام بالمأمون وصنَّف له كتاب «الفريد» في الأنساب، واتصل بجعفر بن يحيى البرمكي وأّلف له كتاب «الملوكي» في الأنساب أيضًا. وتوفي سنة ٢٠٤.

كما اشتهر آخرون منهم: أبو الَيْقظان النسابة، واسمه سُحَيم، أّلف كتبًا كثيرة في الأنساب، كنسب تميم ونسب خندف، وكان شيخ المدائني. ومات سنة ١٩٠.

ويتصل بهذا ما فعله الشعوبية في هذا العصر، كالذي فعل أبو عبيدة، فقد ألَّف كتاب المثالب، وكتاب مثالب باهلة، وكتاب أدعياء العرب؛ وكالذي فعله عَلاَّن الشعوبي، فقد ألَّف كتابًا في المثالب، منه مثالب قريش، ومثالب تميم بن مرة، ومثالب بني أسد، ومثالب بني عَديّ إلخ؛ وكالذي فعله الهيثم ابن عَدِيّ، فله كتاب المثالب الكبير، ضمَّنه مثالب العرب. فهؤلاء وأمثالهم كانوا يتعرضون للأنساب من ناحية خاصة؛ وهي ذكر عيوب القبائل العربية والتشهير بها تبعًا لنزعتهم الشعوبية.

•••

ونوع رابع من التاريخ ظهر كذلك في هذا العصر وقبله، وهو تاريخ الأمم الأخرى من فرس وروم ونحوهما، وتاريخ الأديان الأخرى كيهودية ونصرانية، والذي بعث على هذا النوع — في نظري — أمور:
  • (١)
    إن بعض الخلفاء، وقد فتحو الفتوح، أرادوا أن يقفوا على الأمم المفتوحة وأخبارها تلذذًا بذلك من جهة، واستفادة من معرفة أحوال الأمم في نظمها وترتيب أمورها من جهة أخرى، ووقوفًا على أحوالها حتى يكونوا على استعداد إذا أرادوا أن يدهموهم، من جهة ثالثة، فالمسعودي يذكر في سيرة معاوية أنه كان يخصص جزءًا من ليله في سماع «أخبار العرب وأيامها والعجم وملوكها، وسياستها لرعيتها، وسائر ملوك الأمم وحروبها ومكايدها وسياستها لرعيتها، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة»،٥٣ ويقول في ترجمة السّفاح: إن أبا بكر الهذلي «كان يحدِّث السفاح يومًا بحديث لأنوشروان في بعض حروبه بالمشرق، مع بعض ملوك الأمم»،٥٤ إلى كثير من أمثال ذلك. ولا يمكن أن نتصور مُلْكًا ضخمًا كالدولة الأموية والعباسية لم يكن ملوكها واقفين وقوفًا تامًا على معرفة أحوال الأمم المجاورة، التي تصالحها حينًا وتحاربها حينًا، والكتب تتداول بينهم وبين ملوكها، والمعاهدات تبرم بينهما وتنقض، وهذا — من غير شك — يضطرها إلى معرفة شيء من تاريخها وأحوال ملوكها.
  • (٢)

    إن الإسلام نشر سلطانه على كثير من الأمم المفتوحة، ودخل كثير من أهلها في الإسلام وتعرَّبوا في الجيل الثاني، وصاروا يتقنون العربية قولًا وكتابة، وكانوا يعرفون تاريخ أممهم من آبائهم ومن أهل جنسهم، فدعتهم النزعة القومية إلى أن يكتبوا تاريخ أممهم بالعربية اعتزازًا به، وحرصًا على الوطنية الكامنة، فابن المقفع الفارسي الأصل العربي المربَى يترجم كتاب «خُدًايْنامه»، وهو كتاب في تاريخ الفرس من أول نشأتهم إلى آخر أيامهم، ويترجم كتاب «آبين نامه»، وهو كتاب في نُظُم الفرس وعاداتهم وشرائعهم، ويترجم كتاب التاج في سيرة أنوشروان إلخ، وإسحق بن يزيد ينقل من الفارسية إلى العربية كتاب سيرة الفرس المعروف باختيار نامه، والسريانيون ينقلون أخبار قومهم، وأخبار اليونان وتاريخ حكمائهم وعلمائهم إلخ. ولمَّا نشطت حركة الترجمة في العصر العباسي وكان كثيرون يتقنون الألسنة المختلفة مع العربية، فمنهم مَنْ يتقن الفارسية، ومنهم مَنْ يتقن اليونانية، ومنهم مَنْ يتقن الهندية، وقعوا — فيما وقعوا عليه — على كتب في تاريخ الأمم المختلفة فنقلوها إلى اللسان العربي، فكان من ذلك كله أن كان أمام مَنْ يتكلمون العربية مصادر مختلفة لأخبار الأمم المختلفة، كانت كلها مُعْتًَمد الطبري في تاريخه ومَنْ أتى بعده من المؤرخين.

  • (٣)
    إن القرآن والسنة اشتملا على كثير من أخبار اليهود والنصارى، والصابئين والمجوس، وكان تعرضهما مختصرًا مقتصرًا فيه على موضع العظة، فأراد المفسرون أن يتوسَّعوا في تفسير ذلك، فكان مجالهم أخبار اليهود والنصارى وغيرهم مما ورد في التوراة والإنجيل وشروحهما وحواشيهما؛ وقد عدَُّ ابن النديم كتبًا كثيرة يهودية ونصرانية ُنقَِلت إلى العربية وعرفها المسلمون، وصادف ذلك أيضًا أن دخل كثير من هؤلاء في الإسلام يحملون في رءوسهم معلومات واسعة تلقنوها قبل إسلامهم. وصف القرآن الكريم بعضهم بقوله: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اْلكِتَابِِ، فكان علمهم وعلم مَنْ أتى بعدهم مصدرًا للمؤرخين يؤرخون منه الأمم اليهودية والنصرانية وغيرهما، فنقلوا عن اليهود والنصارى ومَنْ أسلم منهم تلك الأخبار وأدخلوها في كتبهم، وقد رأينا قبلُ ابن إسحق ينقل عن التوراة نصوصًا.

ونحن إذا استعرضنا تاريخ الطبري المسُمَّى «تاريخ الأمم والملوك» نستطيع أن نتعرف منه رواة الأخبار لكل أمة ممَنْ كانوا الطبقة الأولى، ومَنْ كانوا الطبقة الثانية، وهكذا حتى وصلت إليه، فهو ينقل عن وهب بن منبِّه كثيرًا في أخبار خلق العالم وما إليه، كما ينقل عن ابن جُرَيج الرومي كثيرًا من ذلك ومن أخبار النصرانية، ونجد كثيرًا في رواته مَنْ كانوا من أصل يهودي أو نصراني كعبد الرحمن ابن دَانيل وأسباط، وفي بعض المواضع تكاد تكون سلسلة الرواية واحدة «عمرو عن أسْبَاط عن السُّدِّي» إلخ. ويقول في تاريخ الفرس: «ذكر العلماء بأخبار الأمم السالفة من العرب والعجم كذا» إلخ.

ويطول بنا القول لو وقفنا عند كل أمة ذكرها الطبري، وعددنا الرواة وسلسلنا وترجمنا لأصحابنا من أولهم إلى أن وصلت إلى ابن جرير، فنجتزئ بهذا القدر الآن، ونرجئ ما عدا ذلك إلى الكلام في الطبري إن شاء الله.

ومن هذه الطرق كتب المسلمون تاريخ اليهود والنصارى والسريانيين وملوك بابل، وتاريخ الفرس واليونان والروم إلخ.

والذي يلاحظ أن هذا القسم أكثر تضخمًا بالوضع وبالأساطير لبعد العهد أولًا، ولعدم الدقة في النقل ثانيًا، ولتزيد كل أمة في أخبارها ثالثًا.

•••

ونوع خامس من التاريخ وهو «تراجم الرجال» وقد عُنِي به المسلمون قديمًا عناية غريبة فاقت غيرهم من الأمم في عصورهم، فما إن يظهر أحد بالعلم والمعرفة — ولو برواية حديث واحد أو خبر واحد — إلا يهجم عليه العلماء ويرحلون إليه ويأخذون عنه، ويَعُدّ العالم ظفرًا كبيرًا أن يعثر على رجل أو امرأة من هؤلاء لم يصل إليه غيره، فيقيّد عنه ما أخذ ويروي ما سمع، وما إن يموت هذا المروي عنه الحديث أو الخبر، أو مَنْ اشتهر بعلم أو معرفة، حتى يتسابق المؤرخون على تدوين أصله ونسبه، والبلاد التي تنقَّل فيها، والشيوخ الذين أخذ عنهم، والأحداث التي عَرَضت له في حياته، وتاريخ وفاته وغير ذلك.

وربما كان أصل ذلك ما ورد منذ العصر الأول للإسلام عن فضائل بعض الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وعبيدة بن الجراح، وكثير غيرهم مما مُلِئتَ به كتب الحديث، فكان هذا داعيًا لأن يحتذوا هذا الحذو، ويقفوا على فضائل غيرهم من الصحابة والتابعين من بعدهم. فلمَّا اتسعت الحركة العلمية وكثرت رواية الحديث، ورأى العلماء أنفسهم بين أصناف من الرواة، صادق وغير صادق ومشكوك فيه، جرت ألسنتهم بالحكم على الأشخاص، وقد رأيت قبل أن الصحابة أنفسهم كان بعضهم يمدح بعضًا، وبعضهم يجرِّح بعضًا، كالذي قاله عبد الله بن عمر وعائشة في أبي هريرة؛ فلمَّا جاء التابعون من بعدهم رأينا هذا الباب يتسع، ويزيد قول بعضهم في بعض مدحًا وذمَّا، وتوثيقًا وتجريحًا. فقد نقل عن مالك بن أنس الكثير في الطعن منه والطعن عليه، ولمَّا تركزت الأمصار زادت اتساعًا، فالحجازيون يُشَرِّحون العراقيين، والعراقيون يشرِّحون الحجازيين وهكذا.

كل هذا يلفت الأنظار إلى الرجال وجعل العلماء يعنون بهذه الناحية؛ وقد رأينا قبلُ الواقدي ألَّف كتاب الطبقات وحذا حذوه فيه تلميذه وكاتبه ابن سعد، والظاهر أن الباعث على تأليفهما هو باعث الحديث ليعرف مَنْ يصح الأخذ عنه ومَنْ لا يصح؛ هذا إلى الإشادة بذكر أخبار أخيار الناس وقادتهم، وقام المحدِّثون في هذا الباب بما يستخرج العجب، فبحثوا عن كل راوٍ وشرَّحوه وحللوه، حتى أتى البخاري فوضع كتبه الثلاثة في تاريخ الرجال كما رأيت، وحذا مَنْ بعده حذوه.

وكان عمل هؤلاء العلماء والمحدِّثين سببًا في أن رجال اللغة والأدب قلَّدوا المحدِّثين، َفَشُرِّح الأصمعي والكسائي وأبو عبيدة وقُطْرب وحماد وخلف الأحمر كما ُ شرِّح المحدِّثون، وقالوا الأقوال المختلفة في تجريحهم وتعديلهم كما قال المحدِّثون، ولم يكتفِ المحدثون بالنقد، بل زادوا في ذلك تاريخ الرجل وشيوخه ليتعرفوا من ذلك قيمته، ففعل رجال اللغة والأدب.

وخطا الأدباء خطوة تقليدية أيضًا، فوضعوا الكتب كذلك في تراجم الشعراء وطبقاتهم، فوضع ابن سَلام طبقات الشعراء على نسق طبقات المحدِّثين، وأتى بعده ابن قتيبة، فألَّف أيضًا في الطبقات وترجَمَ لكل شاعر ترجمة مختصرة. ودليلنا على أن الأدباء قلَّدوا المحدِّثين أن المحدِّثين كانوا أسبق إلى هذا العمل تاريخيًا، ففي العهد الأموي نرى أحاديث قيلت في جرح الرجال وتعديلهم، ونرى في صدر الدولة العباسية شعبة بن الحجاج ويحيى بن سعيد الَقّطان يؤلفان الكتب في نقد المحدِّثين وبيان صادقهم من كاذبهم، مع أنا لا نعلم في بدء هذا العصر كتابًا أدبيًا يصح أن يقال إنّ موضوعه تراجم رجال الأدب.

بل نرى من أقوى الأدلة على ذلك أن الصبغة التي اصطبغت بها كتب التراجم الأدبية صبغة محدِّثين أكثر منها صبغة أدباء، خصوصًا ما أُلِّف منها أيام سطوة المحدِّثين، ككتاب الأغاني، فإنك ترى فيه الإسناد على نمط إسناد المحدِّثين والتعبير في كثير من الأحيان تعبير حديث، وذلك كقوله أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد عن أبيه، عن أبي عبيدة قال: بلغني أن هذا البيت (لا يذهب العرف بين الله والناس) في التوراة؛ قال إسحق: وذكر عبد الله بن مروان، عن أيوب بن عثمان الدمشقي، عن عثمان بن عائشة، قال: سمع كعب الحبر رجلًا ينشد بيت الحطيئة:

من يفعلِ الخيرَ لا يعْدَمْ جوَازِِيَهُ
لا يَذهبُ العرفُ بينَ الله والنَّاس
فقال: والذي نفسي بيده إن هذا البيت لمكتوب في التوراة؛ قال إسحق قال العمري: والذي صح عندنا في التوراة:
«لا يذهب العُرف بين الله والعباد».٥٥

فلعلك ترى معي أنك — وأنت تقرأ هذا — كأنك تقرأ قطعة من أحاديث البخاري.

ومن أكبر المظاهر التي تأثرت بها كتب تراجم الأدباء بكتب المحدِّثين احتجاب شخصية المؤلف، تقرأ في الأغاني فيغمرك بروايات عن الرجل وأحاديثه ووقائعه وأدبه وشعره، ولكن قلَّ أن تظفر منه بكلام له أو نقد لشعر أو تعليق على حادثة أو نحو ذلك. ويظهر لي أن هذا أيضًا أثر من آثار نمط المحدِّثين؛ فقد حصروا أنفسهم في دائرة النقل، نقل ما حُدِّثوا به، ونقل ما بلغهم عن الرجل، وذلك إن جاز في الحديث ومجال القول ضيق؛ لأن المحدِّث لا يهمه من المترجَم إلا ما يدل على صدقه أو كذبه وتجريحه أو عدالته، فما كان يجوز في الأدب ومجال للقول ذو سعة، وشخصية الأديب في النقد والتحليل وبيان المحاسن والمساوي، وموضع الحسن أو القبيح لها القيمة الكبرى في الفن الأدبي، ولكن هو التقليد للمحدِّثين نزع بهم هذا المنزع — وليس هذا مقصورًا على كتب التراجم، بل هو في أصول كتب الأدب المؤلفة في ذلك العصر أيضًا. فإذا قرأت في البيان والتبيين للجاحظ أو عيون الأخبار لابن قتيبة لم تجد للمؤلف شخصية بارزة مع قدرتهما الفائقة، وما لهما من بسطة في العلم والأدب، ولو أحصيت ما للجاحظ في البيان والتبيين لم تجد له ربع الكتاب ولا خمسه، وإنما له الاختيار والجمع — شأن المحدِّثين في الحديث.

وأيًّا ما كان فقد ترقَّى هذا النوع على توالي الزمن، من كتب مرتبة حسب حروف الهجاء، وحسب العصور، ومن إفراد كل علم بطبقات رجاله، من طبقات نحويين وطبقات شافعية وحنفية ومالكية، ومن إفراد أصحاب العقائد الكتب لمعتنقيها من طبقات للشيعة وللمعتزلة إلخ، ومن تاريخ علماء كل بلد كتاريخ البغدادي في علماء بغداد إلخ، مما ليس هذا محل تفصيله.

•••

ونوع سادس لم ينزل إلى درجة الَقصَص، فنقرؤه على أنه وليد الخيال واختراع الوهم، ولم يرتفع إلى درجة التاريخ فتفحص وقائعه، وتمتحن أحداثه، وتضبط رواياته، بل كان مزيجًا من هذا وذاك، مُزج فيه الواقع بالخيال، والحقائق بالأوهام، ويروي صاحبه خبرًا صحيحًا ويمزجه بأخبار مخترعة، ويرويها كلها على أنها وقائع ثابتة، وأحداث صادقة، فهو يرويها كما يَرْوِي التاريخ، ولكن لا يدقق فيها كما يدقق المؤرخ، وقد أُطْلق على هؤلاء اسم «الأخْبَاريين»، فهو اسم أقل في الدلالة من اسم مؤرخ، وفيه ما يشعر بالحق والخيال معًا، على حين أن المؤرخ يشعر برواية الحق وحده؛ قال السَّمْعَاني في كتابه الأنساب: «الأخباري بفتح الألف وسكون الخاء وفتح الباء وفي آخرها الراء، هذه النسبة إلى الأخبار، ويقال لمَنْ يروي الحكايات القصص والنوادر الأخباري».٥٦

وأكبر مَا دعا إلى هذا النوع السّمر اللذيذ، وأكثر ما يعجب فيه الغريب الظريف، فإذا رأى الأخباريون في الوقائع الثابتة ما يغذي هذا العاطفة قالوه، وإذا لم يجدوه اخترعوه، وقد يكون أساس الحادثة صحيحًا ولكنه ليس يستخرج أقصى العجب فيكملوه من خيالهم، ويتزيَّدوا فيه من أوهامهم، ويصقلوه بالأسلوب اللطيف، حتى يخرج الخبر كله كأنه واقعة صحيحة. وقد اشتهر بهذا الوصف جماعة من أشهرهم في عصرنا:

الهَيْثَم بن عَدِيّ الطائي الكوفي الأخباري، فهو عربي الأصل من طيئ، أبوه عربي من واسط وأمه من سبي مَنْبِج، وإن هجاه قوم فنفوا نسبه، فقال فيه دِعْبل الخُُزَاعي:
سألتُ أبي وكان أبي عَلِيمًا
بأخبار الحوَاضِرِِ والَبوَادِي
فقلتُ له: أََهَيْثََمُ من عِدِيٍّ؟
فقالَ كأحمدَ بنِ أبِي دُوَادِ
فإن يَكُ هَيْثَمٌ منهمْ صَحيحًا
فأحمدُ — غيرَ شك — من إيَادِ
متى كانتْ إيَادُ تَرُوس قُوْمًا
َلَقَدْ غَضِبَ الإله عَلَى اْلعِبَادِ

وقد كان الهيثم تلميذ هشام بن عروة ومحمد بن إسحق، وتتلمذ له محمد بن سعد صاحب الطبقات.

وله كتب كثيرة عدَّها ابن النديم في الأنساب والمثالب والتاريخ والأدب، وقد اتهم بأنه ذكر العباس بن عبد المطلب بشيء فحُبِِسَ لذلك عدة سنين؛ وهذا مثل آخر من أمثلة تدخل العباسيين في العلم وتأثيرهم في التاريخ، ويظهر أن الحبس مرَّنه على أن يجاريهم، فقد نادم كثيرًا من خلفائهم، نادم المنصور والمهدي والهادي والرشيد، وكان يتحفهم بالأخبار الطريفة المصطنعة غالبًا؛ سأل المهدي يومًا: ويحك! إن الناس يخبرون عن الأعراب شحًّا ولؤمًا، وكرمًا وسماحًا، وقد اختلفوا في ذلك، فقال الهيثم: خرجت من عند أهلي … ومعي ناقة أركبها فَندَّت، فجعلتُ أتبعها حتى أمسيتُ، فأدركتها ونظرت فإذا خيمة أعرابي فأتيتها؛ ثم وصف المرأة بمنتهى البخل والشح، والرجل بمنتهى الكرم والسماحة. ثم قال إنه مضى لسبيله وأمسى عليه المساء فنزل خيمة أخرى، وحدَّث عما جرى له، فإذا المرأة سمحة كريمة، والرجل شحيح لئيم، فتبسم، فسأله الرجل: مم تبتسم؟ فحكى له قصته في الخيمة الأولى، فقال الرجل: إن هذه التي عندي هي أخت ذلك الرجل، وتلك التي عنده أختي.٥٧ وهكذا لفَّقَ الحكاية وصقلها ليبين أن في بعض العرب كرمًا وسماحة، وفي بعضهم لؤمًا وشحًّا؛ ومثلُ ذلك القصة التي اخترعها ليدل بها على معايب كل قبيلة من قبائل العرب.٥٨

وعلى الجملة فقد ملأ التاريخ والأدب بأخباره وقصصه ونوادره، وله أثره في مصر، فقد جاءها ونزل بها وحدَّث فيها، كما روى السمعاني، ومات بفم الصِّلح سنة ٢٠٦.

وينسبون إليه أنه من أسبق المؤرخين إلى ترتيب الحوادث حسب السنين، فكان في ذلك قدوة للطبري بعده.

والمحدِّثون يهاجمونه هجومًا عنيفًا، فيحيى بن مَعِين يقول: «ليس بثقة» و«ليس بشيء» و«كان يكذب»، ويقول بعضهم فيه: «ساقط قد كُشِف قناعه»، ورووا عن جارية الهيثم أنها قالت: «كان مولاي يقوم عامة الليل يصلي، فإذا أصبح جلس يكذب»، وقال أبو داود «هو كذَّاب»، وقال النسائي: «متروك الحديث».٥٩

حتى أبو نواس قال فيه:

الهيثم بن عَدِي في تَلوُّنِهِ
في كل يوم لَهُ رَحْلٌ على خَشَبِ
فما يزال أخا حِلٍّ وَمُرْتَحَلٍ
إلى المَوَالِي وأحْيَانا إلى الْعرَبِِ
له لسان يُزَجِّيه بجوهره
كأنَّهُ لم يَزَلْ يغدو على قتَبِ
لله أنتَ فماقُرْبَى تَهُمُّ بها
إلا اجتلبت لها الأنساب من كَثَبِ
إذا نَسبْتَ عَدِيًا في بني ُثعَلٍ
فَقدَمِِ الدالَ قبلَ العينِ في الَنسبِ
والحق أن أبا نواس هجاه لحادثة حدثت له، وأن المحدِّثين هاجموا أكثر المؤرخين — كما رأيت — لأن نمطهم يختلف عن نمط المحدِّثين، ولا يدققون في رواياتهم تدقيق المحدِّثين، ومن أجل هذا كان بعض المحدِّثين يطعنون في المؤرخ من ناحية حديثه فقط، ولا يتعرضون لناحيته في التاريخ أو الأنساب وما إلى ذلك؛ فيقول بعضهم في الهيثم: «كانت له معرفة بأمور الناس وأخبارهم، ولم يكن في الحديث بالقويّ». وإن كان هذا كله لا يخلي الهيثم من تساهله في التاريخ والأخبار، ويجعل الناقدين على حق في وصفه بأنه «أخباري».٦٠ وقد اشتهر بوصف «الأخباري» في هذا العصر كثير غيره كأبي بكر عَيّاش، ويموت بن المزَّرع وغيرهما، نكتفي منهم بهذه الصورة.

•••

وهكذا هجم المؤرخون — وما كان أكثرهم في هذا العصر — على فروع التاريخ المختلفة، وأخذوا في تدوينها وترتيبها وترقيتها، من كتب في حوادث مختلفة إلى كتب جامعة، ومن مسائل منتثرة على كتب منظمة، ومن سرد حوادث إلى ترتيبها حسب السنين.

فإن نحن سألنا في التاريخ سؤالنا في النحو، هل التاريخ الإسلامي علم إسلامي مستقل، أو متأثر بالأمم الأخرى؟ قلنا إنه يظهر لنا أن تاريخ السيرة، وتاريخ حوادث الإسلام في عصوره الأولى كان إسلاميًا بحتًا، ويدل تطوره على أنه تطور طبيعي لم يأته التنظيم من الخارج، نعم كان لليونان تاريخ عام، وتاريخ للبلدان، وتراجم رجال، وكان للفرس تواريخ مؤرخة حسب السنين، ولكن لم يظهر أثر للنقل عنهم في حياة التاريخ الأولى عند المسلمين. أمَّا متأخرو المؤرخين، وتاريخ المؤرخين الأولين للأمم الأخرى من فرس وروم، ويهودية ونصرانية، فالنقل فيها والتأثر بها واضح جلي.

قد يكون في عمل هؤلاء المؤرخين بعض مآخذ، كتلوين التاريخ ببعض العقائد أحيانًا، وتعصبهم لقبائلهم أحيانًا، وللخلفاء الذين يتصلون بهم أحيانًا، وكبنائهم التاريخ حول الخلفاء لا حول الشعوب، وإهمالهم كثيرًا من وصف النواحي الاجتماعية، وغلبة النزعة الدينية فيما يعرضون له من أحداث، وضعف النقد وإيجازه وسذاجته إلى غير ذلك؛ ولكن كل هذه العيوب تقل حدِّتها إذا نظرنا إلى ما ذكرنا من مزاياهم، خصوصًا وإنا عند نقدهم يجب أن نقيس محاسنهم ومعايبهم باعتبار زمانهم وبيئتهم التي تحيط بهم، لا بزماننا وبيئاتنا، حتى يكون النقد أدق والحكم أصدق؛ فمَنْ مِن المؤرخين غيرهم عُنِي في عصرهم بتاريخ الحوادث بالشهر باليوم؟ وبعض المؤرخين الأوربيين يقول إن هذا النمط من كتابة التاريخ لم يُعْرَف في أوربا قبل سنة ١٥٩٧م؛ ومَنْ من المؤرخين غيرهم عُنِي بالإسناد عنايتهم، فيسند الرجلُ إلى امرأته وإلى أمَته، ويدور على الناس في أخبيتهم ومنازلهم يتلمس الأخبار ويطبق ما يسمع على المشاهد؟ ومَنْ من المؤرخين في مثل عصرهم يتشدد تشددهم في الرواية والسماع، ولا يستجيز الأخذ عن الصحيفة إلا أن يكون ضعيفًا مطعونًا فيه؟ ومَنْ من المؤرخين في مثل عصرهم صبر على ما صبروا عليه من فاقة وبؤس، وحَلَّ من غَانة إلى َفَرْغَاَنة، مع بُعد الشقة ووعورة الطرق، ثم قيَّد كل ما سمع مع الإفلاس، وغلاء القرطاس؟

الحق أنهم — على عيوبهم — لم يدخروا جهدًا، ولم يعرفوا دَعَة.

١  أصل المغازي جمع مغزى ومغزاة، وكلاهما موضع الغزو أو الغزو نفسه، ثم توسَّعوا في معناها فأطلقوها على مناقب الغزاة وغزواتهم، ثم نجد استعملوها استعمالًا واسعًا للدلالة على حياة النبي حتى جعلوها مرادفة للسيرة.
٢  الطبقات ١٥٦/٥.
٣  الطبقات ١٣٥/٥.
٤  الطبقات ١٣٣/٥.
٥  فتوح البلدان ص ٣١٧ طبع أوربا و٢٢٥ طبع مصر.
٦  طبقات ابن سلام ص ٣٥ طبع أوربا.
٧  أغاني ٤٥/١٦.
٨  ابن سعد ٢٢٨/٥.
٩  جزء ١ قسم أول ١٦٠.
١٠  بنو ظفر بفتحتين بطن من الأنصار.
١١  المعارف لابن قتيبة.
١٢  ابن هشام.
١٣  أغاني ٥٩/١٩.
١٤  رواها الأغاني ٣٨/١٩.
١٥  الحمضة الشهوة، قال الأزهري: ومعنى الجملة أن الآذان لا تعي كل ما تسمعه، وهي مع ذلك ذات شهوة لِمَا تستظرفه من غرائب الحديث ونوادر الكلام.
١٦  تهذيب التهذيب لابن حجر.
١٧  الأغاني ١٦/٣.
١٨  طبقات ابن سعد ٢١٦/٥.
١٩  الخطيب البغدادي ٢١٥/١.
٢٠  ابن النديم ٩٢.
٢١  الخطيب البغدادي.
٢٢  الخطيب ٢٢٢/١.
٢٣  الخطيب.
٢٤  الانتقاء لابن عبد البر ص ١١.
٢٥  الخطيب ٢٢٤/١.
٢٦  إشارة إلى المسيح الدجال.
٢٧  الخطيب ٢٢١/١.
٢٨  طبقات ابن سعد ٤ قسم أول ص ٧.
٢٩  بلغني خبر العثور على نسخة من سيرة ابن إسحق نفسها في بلاد المغرب، ولم أتبين صحة هذا الخبر.
٣٠  سيرة ابن هشام ٣/١.
٣١  الفهرست ٩٢.
٣٢  الخطيب ٢٢١/١.
٣٣  في الأصل «ارتداد».
٣٤  طبقات ابن سعد ٣١٥/٥ في حديث طويل.
٣٥  عسكر المهدي هي المحلة المعروفة بالرُِصافة في شرقي بغداد.
٣٦  تاريخ بغداد ١/٣.
٣٧  الخطيب البغدادي ٦/٣.
٣٨  المصدر نفسه ٥/٣.
٣٩  المصدر نفسه ٦/٣.
٤٠  كتاب ابن حبيش مخطوط فلم ينشر بعد.
٤١  البغدادي ٧/٣.
٤٢  تاريخ بغداد ٣٢١/٥.
٤٣  استفدنا كثيرًا في هذا الفصل من البحث القيم الممتع الذي كتبه الأستاذ يوسف هوروفتز Joseph Horvitz بالألمانية، وترجم إلى الإنجليزية بعنوان: (سير النبي الأولى ومؤلفوها) The Earliest Biographies of the prophet and their authors.
٤٤  الفهرست ٩٣.
٤٥  معجم الأدباء لياقوت ٣١٠/٥.
٤٦  تاريخ بغداد ٥٥/١٢.
٤٧  طبقات الأدباء ٣١١/٥.
٤٨  انظر العقد الفريد ٥١/٢.
٤٩  فهرست ابن النديم ٨٩.
٥٠  الخطيب البغدادي ٤٦/١٤.
٥١  الأغاني ١٩/٩.
٥٢  ابن خلكان ٢٩٠/٢.
٥٣  مروج الذهب ٥٦/٢.
٥٤  مروج الذهب ١٧٢/٢.
٥٥  الأغاني ٥١/٢.
٥٦  الأنساب ٢١.
٥٧  القصة بطولها في ابن خلكان ٣٠٢/٢.
٥٨  انظرها في مروج الذهب للمسعودي ١٧٥/٢ وما بعدها.
٥٩  انظر ذلك كله في الخطيب البغدادي ٥٢/٤ وما بعدها.
٦٠  ومن الحق أن نذكر هنا كلمة «الأخباري» لا يستعملها الكُتَّاب كلهم بهذا المعنى فنجدهم يقولون «أحيانًا» فلان أخباري ثقة ويريدون بالأخباري أنه راوية القصص الطريفة والملح الظريفة وإن لم يكن يكذب ويضع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤