الشيعة
عرفنا من الفصل الذي كُتب عن الشيعة في «فجر الإسلام» أن التشيع أساسه الاعتقاد بأن «عليًا» وذريته أحق الناس بالخلافة، وأن عليًا كان أحق بها من أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عهد له بها من بعده، وكان كل إمام يعهد بها لمن بعده: فأهم خلاف بين الشيعة وغيرهم مسألة «الخلافة» لمِن تكون. وإذ كان الخليفة يجمع في يديه الشئون الدينية والشئون السياسية؛ كان الخلاف بين الشيعة وغيرهم خلافًا دينيًا وسياسيًا، وإن كان الخلاف السياسي مصبوغًا أيضًا بصبغة الدين. وإذ كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على خلافة عليّ في رأيهم، وكان عليّ قد عهد بها لمن بعده، وهكذا؛ فأبو بكر، وعمر، وعثمان، أخذوا حقه، والخلفاء الأمويون والعباسيون معتدون غاصبون للخلافة، والواجب على شيعة عليّ ردّ الحق لصاحبه، والعمل سرًا وجهرًا على أن يتولى الأمر أهله.
وكان يعارض هذا الرأي رأي آخر كان يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على من يخلفه، وترك الأمر للناس يرون ما يصلح لهم ومن يصلح لهم، فكل ما يتطلبه النبي أن يحافَظَ على الدين، وَتُرْعَى تعاليمه ومبادئه، وليختر الناس بعدُ من يرون أنه أقدر على حمل هذا العبء والقيام بتكاليفه. ثم مِن هؤلاء مَن رأوا أن تكون دائرة الاختيار محصورة في قريش، لأن العرب أطوع للقرشيين، ولأن الخليفة ينبغي أن يكون ذا عصبية تشد أزره وتحمي ظهره، ولا قبيلة في العرب أعز من قريش؛ ومن هؤلاء من أدعم نظريته بحديث: «الأئمة من قريش»؛ ومنهم من رأى أن دائرة الانتخاب لا تقتصر على قريش، بل تعم المسلمين كلهم، ولو كان عبدًا حبشيًا متى توافرت فيه شروط الإمامة. وعلى هذا الرأي الأخير أكثر الخوارج.
وقد بدأ التشيع من فرقة من الصحابة كانوا مخلصين في حبهم لعلي، يرونه أحق بالخلافة لصفات رأوها فيه؛ من أشهرهم سلمان الفارسي، وأبو ذر الغِفارِي، والمقْداد بن الأسود. وتكاثرت شيعته لما نقم الناس على عثمان في السنوات الأخيرة من خلافته، ثم لما ولي الخلافة.
وكان حزب الشيعة ككل حزب، ينضم إليه المخلص لمبادئه، ومن يرى المنفعة فيه — فتشيع قوم إيمانًا بأحقية عليّ للخلافة وولده، وتشيع قوم كرهوا الحكم الأموي ثم العباسي، لأنهم ظلموا منه، أو أن قومًا من قبائل العرب تعصبوا للأمويين، فكان العداء القبلي يتطلب أن يكون خصومهم في الجانب الآخر؛ وتشيع كثير من الموالي، لأنهم رأوا الحكم الأموي حكمًا مصبوغًا بالأرستقراطية العربية، وأن الأمويين لم يعاملوهم معاملتهم للعرب، ولم يعدلوا بينهم، فاضطروا بحكم الطبيعة البشرية أن يؤيدوا — ولو سرًا — من عاداهم، ولا أعدى لهم من الشيعة؛ وتشيع قوم من الفرس خاصة، لأنهم مرنوا أيام الحكم الفارسي على تعظيم البيت المالك وتقديسه، وأن دم الملوك ليس من جنس دم الشعب؛ فلما دخلوا في الإسلام نظروا إلى النبي ﷺ نظرة كسَرويَّة، ونظروا إلى أهل بيته نظرتهم إلى البيت المالك، فإذا مات النبي ﷺ فأحق الناس بالخلافة أهل بيته. وهكذا اعتنق التشيع طوائف مختلفة لأسباب مختلفة، بل اعتنقه أيضًا قوم أسوأ من هؤلاء، قوم أرادوا الانتقام من الإسلام فتظاهروا بالغلو فيه خديعة ومكرًا، ومن ضروب الغلو، الغلو في التشيع. وهذا أمر طبيعي في كل حزب، ففيه دائمًا المخلص والمدلس، ومن يعتقده دينًا، ومن يراه جلبًا لمصلحة وتحقيقًا لغاية.
وقد انقسم الشيعة إلى فرق عدة، وأساس الاختلاف بينها شيئان:
-
(١)
اختلاف في المبادئ والتعاليم: فمنهم المغالي المتطرف في التشيع الذي يسبغ على الأئمة نوعًا من التقديس، ويبالغ في الطعن على من خالف عليًا وحزبه إلى درجة الكفر؛ ومنهم المعتدل المتزن الذي يرى أحقية الأئمة في اعتدال، وخطأ من خالفهم خطأ لا يبلغ الكفر.
-
(٢)
الاختلاف في تعيين الأئمة؛ فقد أعقب عليّ وأبناؤه كثيرين، واختلف الشيعة فيما بينهم على الأئمة من ذرية عليّ؛ فمنهم من يقول هذا، ومنهم من يقول ذاك، فكان ذلك أيضًا من أسباب الاختلاف. ولعل من الخير أن نقدم للقارئ هذه الشجرة. لنبين بها تسلسل الأئمة في وضوح وجلاء:

وقد انفض كثير من الفرق، وكانت قليلة الأهمية في تعاليمها وتاريخها، فلنقصر الآن على مذهبين كبيرين باقيين إلى اليوم وهما: الإمامية والزيدية، ولننهج في بحثنا منهجنا في الكلام على الاعتزال، فلنبدأ بتعاليمهم ونثّني بمشاهير رجالهم وتاريخهم السياسي.
الإمامية
سموا بهذا الاسم نسبة إلى الإمام (الخليفة) لأنهم أكثروا من الاهتمام به وركزوا كثيرًا من تعاليمهم حوله، فكانوا يرون أن عليًا يستحق الخلافة بعد النبي ﷺ لا من طريق الكفاية وحدها، ولا من طريق ما ورد عن النبي ﷺ من أوصاف لا تنطبق إلا عليه، بل من طريق النص عليه بالاسم، ثم يرون أن الأئمة هم عليّ وأبناؤه من فاطمة، على التعيين واحدًا بعد واحد، وأن معرفة الإمام وتعيينه أصل من أصول الإيمان؛ وإذا كان عليّ معينًا بالاسم من النبي ﷺ فأبو بكر وعمر مغتصبان ظالمان يجب التبرؤ منهما. على حين أن الزيدية أقل منهم تشددًا في ذلك، فإن النبي عندهم عيَّنه بالوصف لا بالشخص ولذلك لا يتبرأون من أبي بكر وعمر ولا يغمطونهما حقهما، بل يرون أن خلافتهما صحيحة وإن كان عليّ أفضل منهما، لأن إمامة المفضول جائزة مع وجود الأفضل.
•••
هذه خلاصة نظر الشيعة إلى الإمام مستمدة من أوثق كتبهم، ومعتمدة على ما روي من أقوال الأئمة أنفسهم مجردة من الشروح والحواشي، فهم بهذا النظر يسبغون على الإمام نوعًا من التقديس، فهو يتلقى علمه من الله عن طريق الوحي، ويُعده الله إعدادًا خاصًا من حين أن يكون نطفة، ويحفظه برعايته السامية، ويعصمه من الذنوب، ويورثه علم الأنبياء والمرسلين، ويطلعه على كل ما كان وما سيكون. وكان النبي ﷺ يعلم علمًا علمه الناس، وعلمًا آثر به عليًّا، وعليّ آثر به وصيّه، وهكذا إلى المهدي الثاني عشر. والإمام ظل الله في أرضه، ونور الله في أرضه، والوسيلة الوحيدة لمعرفة الحق والباطل إلخ، والاعتقاد بذلك جزء من الإيمان، كالإيمان بالله ورسوله لا تنفع أعمال الإنسان إلا به، بل إن عصيان المؤمن قد يخففه أو يمحوه الإيمان بالإمام.
وهم بهذا يختلفون اختلافًا كبيرًا عن «أهل السنة» ونظرهم إلى الخليفة، فالخليفة عند «أهل السنة» إنسان ككل الناس، وُلد كما يولد الناس، وتعلم أو جهل كما يتعلم الناس أو كما يجهل الناس؛ ليس له من مزية إلا أن كفايته وأخلاقه جعلت الناس يختارونه، أو أنه تلقى الخلافة ممن قبله، ليس يتلقى وحيًا وليس له سلطة روحية، إنما هو منفذ للقانون الإسلامي، وقد ينحرف عن التنفيذ فلا طاعة له على الناس، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ وليس له أن يشرّع إلا في حدود القوانين الإسلامية وإلا فتشريعه باطل، ثم قد يجور وقد يعدل، وقد يتهتك ويشرب الخمر فيكون عاصيًا؛ والمؤرخون أحرار في تشريحه كتشريح كل الناس، ويزنونه بنفس الموازين التي توزن بها أعمال الناس، وإن انحرف واستطاعوا عزله عزلوه.
أما الإمام في نظر الشيعة ففوق أن يحكم عليه، وهو فوق الناس في طينته وتصرفاته، وهو مشرّع وهو منفذ، ولا يُسأَل عما يفعل، والخير والشر يقاس به، فما عمله فهو خير، وما نهى عنه فشر، وهو قائد روحي، وله سلطة روحية تفوق حتى سلطة البابا في الكنيسة الكاثوليكية؛ فالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج لا تنفع إلا بالإيمان به، كما لا تنفع أعمال الكافر من غير إيمان بالله ورسوله.
وظاهر أن عقيدة الشيعة على هذا المنوال تشل العقل، وتميت الفكر، وتعطي للخليفة أو الإمام سلطة لا حد لها، فيعمل ما يشاء، وليس لأحد أن يعترض عليه، ولا لثائر أن يثور في وجهه ويدعي الظلم، لأن العدل هو ما فعله الإمام. وهي أبعد ما تكون عن الديمقراطية الصحيحة التي تجعل الحكم للشعب في مصلحة الشعب، وتزن التصرفات بميزان العقل، ولا تجعل الخليفة والإمام والملك إلا خادمًا للشعب، فيوم لا يخدمهم لا يستحق البقاء في الحكم.
حُكم الإمام في نظر الشيعة حكم ديني معصوم، وفي هذا إفناء لعقليتهم، وتسليم مطلق لتصرفات أئمتهم؛ وأين هذا النظر من النظر المستند إلى الطبيعة، وهو أن الله لم يخلق فرعًا أو أسرة من الناس تمتاز كلها — متسلسلة — بامتياز لا حد له، وفوق مستوى كل الناس في العقل والدين والحكم والتصرف. إن المشاهد والمعقول أن كل أسرة فيها الطالح والصالح والذكي والغبي، وكلنا أولاد آدم، وفينا أصلح الناس وأفسد الناس؛ وولدا آدم لصلبه قال فيهما الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآَخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وابن نوح قال الله فيه: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ؛ وقال الله: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوُّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ؛ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ؛ ورسول الله ﷺ يقول لابنته فاطمة — وهو يعظها —: (يا فاطمة! اعملي فلن أُغني عنك من الله شيئًا).
فهذه الآيات كلها تدل على أن القرابة والنسب لا مدخل لهما في تقويم الأشخاص، وليس الصلاح والتقوى والعلم تورث كما يورث المال، إنما هي أمور خاضعة لقوانين أخرى غير قانون الإرث المالي. ومن مزايا الإسلام العظيمة تقريره أن الإنسان يوزن بأعماله لا بآبائه ولا بجاهه ولا بماله: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، وقد كان من الموالي من هو أقرب لرسول الله من بعض القرشيين. فدعوى أن الإمامة إرث وأن الإمام معصوم، وأن الإيمان بالإمام يَجُبّ المعاصي، قلب لنظام الإسلام وهدم لأهم مبادئه.
وقد كان عمر يخطئ وأبو بكر يخطئ وعليّ يخطئ؛ ولو كان لعليّ كل هذا الذي يدّعونه للإمام من عصمة وعلم ببواطن الأمور وخفاياها ونتائجها لتغير وجه التاريخ، ولما قبل التحكيم، ولدبّر الحروب خيرًا مما دبّر؛ فإن ادعوا أنه علم وسكت وتصرف وفق القدر، فهو خاضع للظروف خضوع الناس، تتصرف فيه حوادث الزمان كما تتصرف في الناس؛ خاضع للحكم عليه بالخطأ والصواب خضوع الناس؛ والنبي نفسه يقول وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ.
الحق أن هذه أوهام جرت على الناس البلاء، وجعلتهم يذلون ويخضعون خضوعًا مطلقًا للظلم والفساد، ويرضون به، ولا يرفعون صوتهم بالنقد، بل ولا يقومون بأضعف الإيمان وهو الاستنكار بالقلب.
وهذا النظر الشيعي إلى الإمام يلقى على تاريخ الفاطميين وعلى كل الدول الشيعية ضوءًا قويًا، فنعرف السرّ لِمَ كان يخضع الناس للخلفاء، وكيف ينظرون إليهم نظر تقديس، وكيف كانت تقابل أعمالهم مهما جارت وظلمت بالقبول والاستحسان.
إن شئت فاستعرض ديوان ابن هانئ الأندلسي المغربي الشيعي تر العجب العجاب، فاستمع مثلًا لما يقوله في مدح المعز لدين الله الفاطمي:
وفيها يقول:
وفيها يقول:
ويقول في طاعة الإمام:
ويقول في أن الإمام من نور الله:
ويقول:
كما يلقى ضوءًا على فهم ما يقوم به شيعة الإسماعيلية نحو «السِّير» محمد شاه ابن أغا عليّ المعروف بأغاخان (وهو من نسل الحسن بن الصَّبَّاح صاحب قلعة الموت، والحسن هذا من نسل عليّ بن أبي طالب)، وهو في منتهى الغنى ومعروف في الأوساط الأرستقراطية الأوروبية، وله خيل سباق تشترك في أشهر الحفلات، ويعيش عيشة بذخ وترف، ومع هذا يجبي إليه الإسماعيلية عشر أموالهم، وينظرون إليه نظرة تقديس.
إن شئت نظرًا معتدلًا هادئًا فوازن بين قوم يرون أن إمامهم أحد الناس يجري عليه ما يجري عليهم، ويخطئ كما يخطئون، ويصيب كما يصيبون، فإذا أخطأ نقد، وإذا أصر على الخطأ عُزل، وهو ليس إلا خادمًا للأمة، فإذا لم يؤد الخدمة نُحِّيَّ؛ وبين قوم يرون أن إمامهم معصوم لا يأتي بخطأ، ويجب أن تحوّر العقول ويقلب وضعها في الرؤوس حتى تفهم أن ما يأتي الإمام به عدل كائنًا ما كان.
وانظر كيف يسعد الأولون، وكيف تتحرر عقولهم، وكيف يخشاهم إمامهم، وكيف يسعون دائمًا نحو الكمال بما يثيرون من نقد وما يعالجون من إصلاح، وكيف يفسد أمر الآخرين، وتشل عقولهم، ويتدهورون في شئونهم.
إني أرى رأيًا لا تحيز فيه أن نظر أهل السنة إلى الخلافة كان أعدل وأقوم وأقرب إلى العقل، وإن كانوا يؤاخذون مؤاخذة شديدة على أنهم لم يطبقوا نظريتهم تطبيقًا جريئًا؛ فلم ينقدوا الأئمة نقدًا صريحًا، ولم يقفوا في وجوههم إذا ظَلموا، ولم يقوموهم إذا جاروا، ولم يضعوا الأحكام الحاسمة في موقف الخليفة من الأمة، وموقف الأمة من الخليفة، بل استسلموا لهم استسلامًا معيبًا، فجنوا بذلك على الأمة أكبر جناية، ولكنهم كانوا أحسن حالًا من الشيعة؛ فهناك من مؤرِّخيهم من دونوا تاريخ الخلفاء في الأمانة، وصوروهم كما يعتقدون، وعابوا بعض تصرفاتهم؛ ومن المشرعين من وضعوا الأحكام السلطانية يبينون فيها ما يجب للإمام، وما يجب للأمة؛ إلى غير ذلك. وعلى كل حال فنحن الآن نوازن بين النظريتين، ونقارن بين الوجهتين.
وأظن أن الزمن الذي أفهم الناس حقوقهم وواجباتهم، وحررهم مما يشل تفكيرهم يعدل بإخواننا الشيعة عن هذا النظر في الأئمة الذي لا يصلح إلا لأن يدون في التاريخ — على أنهم في حياتهم العملية سائرون على هذه الطريقة فعلًا من إدخال الإصلاحات الاجتماعية والمجالس النيابية، ومشايعة المدنية الغربية — وهذا لا يتفق ونظرية الإمامة، وترقب المهدي المنتظر؛ وليس من العدل أن تكون أفكار رجال الدين في جانب، والحياة الواقعية من جانب، فمهمتهم أكبر من أن يلقنوا تعاليم الإمامة نظريًا وتلقينها كذلك؛ إنما مهمتهم مواجهة الواقع، وإصلاح ما فيه من خطأ إن كان.
•••
ولنعد بعد إلى موقفنا في شرح تعاليم الشيعة.
فأما العصمة فيقصدون منها أن الأئمة — كالأنبياء — معصومون في كل حياتهم، ولا يرتكبون صغيرة ولا كبيرة، ولا تصدر عنهم أية معصية، ولا يجوز عليها خطأ ولا نسيان. ونظر الشيعة في ذلك وحججهم نلخصها فيما يأتي:
-
(١)
قالوا إن الذي دعا إلى نصب الإمام هو جواز الخطأ من الأمة، فإذا جاز الخطأ أيضًا من الإمام لاحتجنا إلى هاد آخر، وهو مثله، فيلزم من ذلك التسلسل.
ورد عليهم خصومهم بأن الحاجة إلى الإمام ليست هي جواز الخطأ من الأمة؛ بل وظيفته تنفيذ الأحكام ودرء المفاسد، وحفظ بيضة الإسلام، ولا حاجة في ذلك إلى العصمة، بل يكفي الاجتهاد والعدالة.
-
(٢)
واستدلوا أيضًا بأنه حافظ للشريعة، فيلزم أن يكون معصومًا حتى يؤمن على حفظها، وإلا احتاج إلى حافظ آخر.
وكان جواب خصومهم أن الإمام ليس هو الحافظ وإنما هو المنفذ، وحافظ الشريعة هم العلماء لقوله تعالى: وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ وَكَاُنوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ؛ وقوله تعالى: كُوُنوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ — ولو كان وجود المعصوم ضروريًا لوجب أن يكون في كل قطر بل في كل بلدة؛ إذ الواحد لا يكفي للجميع لانتشار المكلفين في الأقطار — ونصب نائب عنه لا يفيد لأن النائب غير معصوم.
ومما ردوا به عليهم أيضًا ما روي عن عليّ في «الكافي» أنه قال لأصحابه: «لا تَكفُّوا عن مقالةٍ بحق، أو مشورة بعدل، فإني لست آمن أن أخطئ»، وما روي أن الحسين كان يظهر الكراهة من صلح أخيه الحسن مع معاوية ويقول: «لو جُزَّ أنفي كان أحب إلَّي مما فعله أخي»، إلى آخر ما قالوا.
وهذه العقيدة بعصمة الأئمة غريبة حقًا على الإسلام، فلم نعرف هذا الموضوع أثير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا صدر الإسلام، بل ولا نعرف وصف العصمة أسند إلى الأنبياء في هذا العصر، وروح القرآن الكريم لا يفهم منها دعوى العصمة لأحد من الناس، وفي القرآن: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى: وموسى وَكزَ الرجل فقتله: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ، وقال: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي؛ وفي القرآن قصة سليمان: إذْ عُرضَ عَلَيْه بالعَشيِّ الصَّافِنَات الجِيَادُ، فقَالَ إني أحْبَبْتُ حُبَّ الخيرِ عَنْ ذِكْر رَبيِّ حَتىّ تَوَارتْ بالحِجَابِ، ويونس: إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ونبينا يقول الله له: وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ويقول له: وَتَخْشَى النَّاسَ واللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ، ويقول له: عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ، وعاتبه بقوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الأعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى؛ ويعترف القرآن للنبي بذنوب غفرها الله له: لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمًا تَأَخَّرَ، لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ؛ ويؤكد رسول الله في القرآن أنه بشر هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشًرًا رَّسُولًا، إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ.
فمفهوم هذه الآيات واضح، وهي لا تتفق مطلقًا مع ما يدعيه الشيعة لعصمة أئمتهم، فإذا كان هذا ما قصه الله عن الأنبياء، فكيف يرقى الأئمة منزلة فوق منزلة الأنبياء.
فظاهر من هذا أن جمهور المسلمين لم ينظروا حتى إلى الأنبياء نظر الشيعة إلى الأئمة، ولم يمنحوا الأنبياء العصمة المطلقة حتى من الخطأ والنسيان، وحتى قبل النبوة كالذي قاله الشيعة في الأئمة.
وفكرة العصمة للأمة بعيدة عن الإسلام وتعاليمه، كما أنها بعيدة عن الطبائع البشرية التي ركبت فيها الشهوات، وركب فيها الخير والشر، ومزجت فيها الميول المتعاكسة؛ وفضيلة الإنسان الراقي ليس في أنه معصوم، بل في أنه قادر على الخير والشر، وينجذب إليهما، وهو في أكثر الأحيان ينجذب إلى الخير، ويدفع الشر. أما الطبيعة المعصومة فطبيعة الملائكة الذين لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَايُؤْمَرُونَ لا طبيعة الإنسان الذي لو فقد شهوته لفقد حيويته.
-
(١)
أن الخلفاء من عهد أبي بكر وعمر ثم الأمويين والعباسيين، قد تسلموا زمام الحكم وباشروا سياسة الرعية فعلا، ومباشرة الحكم — من جهة — تعرض الحاكم للعمل، فإذا عمل تعرض للخطأ والصواب، وكل ما في الأمر أن الأشخاص الحاكمين يختلفون؛ فبعضهم صوابه أكثر من خطئه، وبعضهم خطؤه أكثر من صوابه. وليس من الممكن في طبيعة الحكام أن يصيبوا دائمًا؛ ومن جهة أخرى. فتصرفاتهم اليومية حتى غير ما يتعلق منها بالحكم ظاهرة للخاصة منقولة على ألسنتهم للعامة، ولذلك عرفنا منهم من كان يشرب، ومن كان لا يشرب، ومن كان يحب الجواري، ومن كان لا يحب، ومن كان يُغني أو يحب الغناء ومن لا يغني ومن لا يميل للغناء. على الجملة عرفنا كل تفاصيل حياتهم بمحاسنها ومساوئها وصوابها وخطئها، ومحال أن تدعي العصمة لهؤلاء بعد ذلك. أما أئمة الشيعة فلم يتولوا الحكم إلا أيامًا قليلة، في عهد عليّ كانت أيام حرب وعدم استقرار، والأئمة بعد ذلك لم يتعرضوا للحكم ولم يتعرضوا للجمهور، فلم تُجرَّب أعمالهم، ولم تظهر تصرفاتهم، ويضاف إلى ذلك أنهم مضطهدون اضطهادًا مستمرًا من الولاة والخلفاء، وعواطف الناس دائمًا مع المضطهد المظلوم، وهي على عكس ذلك مع المضطهد ومن يتولى الحكم.
إن نصف الناس أعداءٌ لمنوَليَ الأحكام هذا إن عدلفدعوى عصمتهم تجد مرتعًا خصيبًا يساعد عليها تستر الأئمة وأحيانًا غيبتهم، فهم لم يتعرضوا للحكم حتى يختبروا وتظهر أعمالهم، إنهم أحيطوا بجو خفاء وغموض يهيئان النفوس لقبول دعوى العصمة؛ ولو ادعيت العصمة لبني أمية والعباس لكانت مهزلة تقابل بالضحك والاستخفاف.
-
(٢)
وسبب آخر وهو أن أكثر من كان يحيط بالخلفاء في الصدر الأول والعهد الأموي من العرب، والعرب أمة ديمقراطية تنظر إلى الخليفة نظرهم إلى أحدهم، لا يمتاز عنهم كثيرًا، بل منهم من كان يغلو في الديمقراطية أيام النبي نفسه فكان القرآن يحد من هذا الغلو في الديمقراطية، ويقول لهم لا تَرفعُوا أصواتكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبيِّ. ووفد على النبى وفد بني تميم وقت الظهيرة وهو راقد، فجعلوا ينادونه يا محمد اخرج لنا؛ فاستيقظ فخرج ونزلت: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ودخل عيَيْنََةُ بن حِصْن على النبي ﷺ وعنده عائشة من غير استئذان، فقال رسول الله: أين الاستئذان؟ قال يا رسول الله ما استأذنت على رجل قط ممن مضى منذ أدركت، ثم قال: مَنْ هذه الجميلة إلى جانبك؟ فقال ﷺ: هذه عائشة أم المؤمنين. فلما خرج قالت عائشة: مَنْ هذا يا رسول الله؟ قال: أحمق مطاع، وإنه على ما ترين لسيد قومه؛ ونزل في ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِ مِنَ الْحَقِّ إلى غير ذلك. وكانوا مع من بعده من الخلفاء أشد جرأة، والتاريخ مملوء بالشواهد على ذلك. وهذه الديمقراطية الغالية أحيانًا والمعتدلة أحيانًا يستحيل أن تنمو فيها بذرة دعوة إلى عصمة. أما التشيع فكان حوله، خصوصًا في آخر العهد الأموي والعهد العباسي، كثير من الفرس رُبُّوا على أرستقراطية الملوك، وورثوا عن آبائهم نظرة التقديس لملوكهم؛ وسمي العرب هذه النزعة كسروية نسبة إلى كسرى ملك الفرس، لأنهم لا يعرفونها بين العرب. قال الثعالبي النيسابوري في كتابه (المضاف والمنسوب) بعد أن ذكر عدل كسرى أنو شروان: «فأما سائر الأكاسرة فإنهم كانوا ظلمة فجرة، يستعبدون الأحرار، ويجرون الرعية مجرى الأُجراء والعبيد والإماء، فلا يقيمون لهم وزنًا، ويستأثرون عليهم حتى بأطايب الأطعمة والثياب الحسنة والمراكب والنساء الحسان، والدور السَّرية، ومحاسن الآداب؛ فلا يجترئ أحد من الرعايا أن يطبخ سكباجًا، ويلبس ديباجًا، أو يركب هملاجًا، أو ينكح امرأة حسناء، أو يبني دارًا قوراء، أو يؤدب ولده، أو يمد إلى مروءة يده، وكانوا يبنون أمورهم على معنى قول عمرو بن مَسَعدَة للمأمون: «ملك ما يصلح للمولى على العبد حرام».٤٦ مثل هذه النزعة ولهذه الحالة النفسية، وغلبة العبودية يمكن أن تثمر فيها دعوى العصمة.
ويظهر أن دعوى العصمة لم يكن يعرفها الأئمة الأولون، فقد روينا قبلُ قول عليّ في المشورة، لأنه لا يؤمن الخطأ من نفسه، وروينا تخطئة الحسين للحسن في صلحه مع معاوية.
إنما وجد القول بالعصمة من غلاة الشيعة أولًا، ولم يكن يسلم به الأئمة الأولون ثم زاد القول في آخر الدولة الأموية، وكانت العصمة مسلكًا من مسالك الدعوة لآل البيت، وتحريضًا للناس على الثورة ضد الظالمين من الأمويين.
•••
ويتصل بهذه العصمة قولهم بأن الأئمة وسطاء بين الله والناس وشفعاء، وأن الاعتقاد فيهم كاف في محو السيئات ورفع الدرجات. روى ابن بابويه القمي عن الفضل بن عمرو قال: «قلت لأبي عبد الله: لم صار عليّ قسيم الجنة والنار؟ قال: لأن حبه إيمان وبغضه كفر، وإنما خلقت الجنة لأهل الإيمان، والنار لأهل الكفر، فهو قسيم الجنة والنار، لا يدخل الجنة إلا محبوه، ولا يدخل النار إلا مبغضوه».
ويقول بعضهم:
ويقول ابن هانئ:
وكتب الشيعة مملوءة بالأحاديث والأخبار الدالة على هذا المبدأ، وفيه هدم لمبدأ الإسلام الجميل، وهو مسئولية الإنسان وأن قيمة كل إنسان عمله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وأن كائنًا من كان حتى الأنبياء لا يغنون عن أحد شيئًا يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ، وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَّتَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ، قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا.
ففي الاعتقاد بأن الحب لآل البيت والأئمة غناء إهدار ركن من أعظم أركان الإسلام، وهو المطالبة بالعمل الصالح وارتباط الثواب به، والنهي عن العمل السيئ وارتباط العقوبة به إذ يكفي حب آل البيت ثم ترتفع التكاليف.
لقد دخل على المسلمين من جَرَّاء العصمة والمبالغة في الشفاعة ضرر كبير، ولم يقتصر الضرر على الشيعة إذ تسربت تعاليمهم إلى غيرهم من الفرق الأخرى الإسلامية؛ فكان السنيون إذا رأوا الشيعة ينسبون عملًا وفضلًا لإمام نسبوا مثله للأنبياء على الأقل؛ فغلا بعضهم في القول بعصمة الأنبياء من الكبائر والصغائر قبل النبوة وبعدها، وهو مخالف لصريح القرآن؛ ورأوا أن الشيعة يقولون بأن للأئمة نورًا، فقال بعضهم. إن رسول الله ﷺ لم يكن له ظل؛ ورأوا الشيعة تقول إن الإمامة تورث، فزعم بعض الصوفية أن مشيخة الطرق تورث، فنور الشيخ ينتقل منه إلى ابنه، وإذا مات وخلف صبيًا فهو الشيخ ولو كان رضيعًا لأن فيه نور أبيه؛ ورأوا الشيعة تقول بعصمة الأئمة، فاعتقد العامة بعصمة الأولياء، فلا يصح الطعن على من سموه وليًا ولو رأوه يشرب الخمر، وكفوا ألسنتهم وأيديهم عنه، بل وتبركوا به، لأنه فوق أن يسأل عن عمله. وكم فسد الإسلام من هذه الأوهام، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
ووصفه بالهادي:
ووصفه أيضًا بالمهدي في قوله في رثائه ﷺ:
وهي في كل ذلك بمعناها اللغوي الديني رجل هداه الله فاهتدى، ثم نراها تأخذ معنى جديدًا وهو إمام منتظر يأتي فيملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا. وأول ما نعلم من إطلاقها بهذا المعنى ما زعمه كيسان مولى عليّ بن أبي طالب في محمد بن الحنيفة (وهو ابن عليّ بن أبي طالب من أم من بني حنيفة نسب إليها)، فقد زعم كيسان إمامة محمد هذا وأنه مقيم بجبل رضوى (وهو جبل على سبع مراحل من المدينة) وإلى هذا أشار كثير عزة، وكان كيسانيًا فقال:
لقد مات ابن الحنفية سنة ٨١هـ، وصلى عليه أبان بن عثمان بن عفان، وكان والي المدينة، ودفن بالبقيع، ولكن لم يشأ الكيسانية أن يؤمنوا بموته، وقالوا بغيبته وبانتظاره حتى يعود، وكان هذا أساسًا لفكرة الإمام المنتظر عند الإمامية الإثنى عشرية.
ويظهر أن العباسيين أيضًا عز عليهم أن يكون للشيعة مهدي وللأمويين سفياني وليس لهم شيء، فرأوا أن يكون لهم أيضًا «مهدي»، فوضعت لهم الأحاديث على هذا النمط؛ روى الطبراني عن ابن عمر قال، كان رسول الله ﷺ في نفر من المهاجرين والأنصار، وعليّ بن أبي طالب عن يساره والعباس عن يمينه، إذ تلاحى العباس ونفر من الأنصار، فأغلظ الأنصار للعباس، فأخذ النبي ﷺ بيد العباس وبيد عليّ وقال: «سيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض جورًا وظلمًا، وسيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض قسطًا وعدلًا، فإذا رأيتم ذلك فعليكم بالفتى التميمي فإنه يقبل من قبل المشرق، وهو صاحب راية المهدي».
ويظهر أن واضع الحديث كان ماهرًا فترك النص على الإشارة للزمن، فإن انتصر العلويون فالحديث يصلح لهم، وإن انتصر العباسيون صلح لهم؛ فلما انتصر العباسيون اتخذوه حجة لأنهم أصحاب الرايات التي خرجت من المشرق.
وروى الحاكم عن ابن عباس قال: منا أهل البيت أربعة: منا السفاح، ومنا المنذر، ومنا المنصور، ومنا المهدي. قال مجاهد: بيِّن لي هؤلاء الأربعة، فقال ابن عباس: أما السفاح فربما قتل أنصاره وعفا عن عدوه؛ وأما المنذر أراه قال: فإنه يعطي المال الكثير، ولا يتعاظم في نفسه، ويمسك القليل من حقه؛ وأما المنصور فإنه يعطي النصر على عدوه على مسيرة شهر، وهو الشطر مما كان يعطي رسول الله ﷺ؛ وأما المهدي فإنه يملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا، وتأمن البهائم السباع، وتلقى الأرض أفلاذ كبدها. قال: قلت: وما أفلاذ كبدها؟ قال: أمثال الأسطوانة من الذهب والفضة».
ورووا عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ قال: لا تذهب الدنيا حتى يلي أمتي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي. قال البلخي في كتابه «البدء والتاريخ» بعد روايته هذا الحديث: «وقد تأول قوم أنه المهدي محمد بن أبي جعفر لقبه المهدي واسمه محمد، وهو من أهل البيت، ولم يأل جهدًا في إظهار العدل ونفي الجور» إلخ.
فنرى من هذا أن عقيدة المهدي فشت في العلويين والأمويين والعباسيين، وأخذت عند كل منهم لونًا خالصًا.
وفكرة المهدي هذه لها أسباب سياسية واجتماعية ودينية؛ ففي نظري أنها نبعت من الشيعة، وكانوا هم البادئين باختراعها، وذلك بعد خروج الخلافة من أيديهم وانتقالها إلى معاوية، وقتل عليّ، وتسليم الحسن الأمر لمعاوية، وتسمية هذا العام، الذي فيه سّلم الحسن الأمر لمعاوية، عام الجماعة، ثم قتل الحسين.
تم ذلك فرأى رؤساء الشيعة أن هذا قد يسبب اليأس في نفوس أتباعهم، وخافوا أن يذوب حزبهم، فكان منهم بعيدو النظر، بدأوا يبشرون بأن الحكم سيرجع إليهم، وأن بني أمية سيهزمون، فوضعوا لذلك خططًا، منها الدعوة السرية للتشيع والعمل في الخفاء على قلب الدولة الأموية وإضعافها، ثم رأوا أن ذلك لا يتم إلا بقيام رئيس للشيعة يلتف الناس حوله ولو سرًا، ويلقبونه بأنه الخليفة حقًا، ورأوا أن ذلك لا يتم أيضًا إلا بصبغه صبغة دينية، فهو الإمام وهو المعصوم، ورأوا من إحكام أمرهم بث الرجاء والأمل في نفوس الناس حتى يشجعوا ويثبتوا، ومنوهم بأن الأمر لهم في النهاية، وأن الأمويين مهما أوتوا من النصر العاجل فإنه ينتظرهم الخذلان الآجل.
ولكن قومًا حولوا الأخبار الواردة من الشيعة الأولين في الحكومة المنتظرة إلى حاكم منتظر، لأن ذلك أقرب إلى أذهان العامة، فالأولون كانوا يرمزون بالمهدي المنتظر إلى حكومة شيعية منتظرة، فجعلها المتأخرون حقيقة، وجعلوا المهدي المنتظر حقيقة، وأكثروا من القول فيه وزادوه أوصافًا وأخبارًا ليلبسوه ثوب الحقيقة.
ولكن العامة لا يفهمون جيدًا رجوع المعاني، إنما يفهمون رجوع الأشخاص فوضعت لذلك أخبار المهدي المنتظر بشخصه ووصفه.
وكما كان في التاريخ أن اليونان لما فشلوا في حكمهم، وغلبهم الرومانيون على أمرهم حولوا الفلسفة العملية إلى فلسفة رواقية تتطلب اللذة في الحياة العقلية، وتتحمل آلام الحياة في صبر وثبات، كذلك الشيعة خرج الأمر من أيديهم فدعوا إلى تحمل آلام الحياة في صبر وثبات، وزادوا على ذلك إجادة تصوير فكرة الأمل، وجسدوها في المهدي.
ولما كان الشيعة هم الأساتذة الأولون في هذا الموضوع قلدهم خالد بن يزيد الأموي لما فشل وخرج الحكم من بيته إلى بيت مروان بن الحكم، ثم قلدهم العباسيون بشكل آخر فسلموا بالمهدي واستغلوا فكرته، وادعوا أن المهدي فيهم لا في شيعة علي. فاليأس عند الشيعة وعند البيت السفياني هو السبب النفسي لقيام فكرة المهدي، وحرب القوم من جنس سلاحهم هو السبب النفسي للمهدي العباسي.
واستغل هؤلاء القادة المهرة أفكار الجمهور الساذجة المتحمسة للدين والدعوة الإسلامية فأتوهم من هذه الناحية الطيبة الطاهرة، ووضعوا الأحاديث يروونها عن رسول الله ﷺ في ذلك، وأحكموا أسانيدها وأذاعوها من طرق مختلفة، فصدق الجمهور الطيب لبساطته، وسكت رجال الشيعة لأنها في مصلحتهم، وسكت الأمويون لأنهم قلدوها في سفيانيِّهم، وسكت العباسيون لأنهم حولوها إلى منفعتهم، وهكذا كانت مؤامرة شنيعة أفسدوا بها عقول الناس. وكنت أنتظر من المعتزلة كشف النقاب عن هذا الضلال، إلا أني مع الأسف لم أعثر لهم على شيء كثير في هذا الباب، ولكني أعرف أن الزيدية (وهم فرع آخر من فروع الشيعة الذين تأثروا أثرًا كبيرًا بتعاليم المعتزلة، لأن زيدًا رئيسهم تتلمذ لواصل بن عطاء زعيم المعتزلة)، كانوا ينكرون المهدي والرجعة إنكارًا شديدًا، وقد ردوا في كتبهم الأحاديث والأخبار المتعلقة بذلك، ورووا عن أئمة أهل البيت روايات تعارض روايات الأئمة الاثني عشرية.
حديث المهدي هذا حديث خرافة، وقد ترتب عليه نتائج خطيرة في حياة المسلمين، نسوق لك أهمها:
-
(١)
أحيط المهدي بجو غريب من التنبؤات والإخبار بالمغيبات والإنباء بحوادث الزمان. فعند آل البيت علم توارثوه عن أخبار الزمان إلى يوم القيامة؛ وهناك الجفر وهو جلد ثور صغير مكتوب فيه علم ما سيقع لأهل البيت مروي عن جعفر الصادق في زعمهم؛ وهناك أخبار زعم مسلمة اليهود أنهم رأوها في كتبهم الدينية مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه في أحداث الدول وأعمارها، فامتلأت عقول الناس بأحاديث تروى وقصص تقص، ونشأ باب كبير في كتب المسلمين اسمه الملاحم، فيه أخبار الوقائع من كل لون، فأخبار العرب والروم، وأخبار في قتال الترك، وأخبار في البصرة وبغداد والإسكندرية، وما جاء في فضل الشام وأنه معقل الملاحم، وأخبار عن مكة والمدينة وخرابهما، وأخبار أن المهدي يملك جبل الديلم والقسطنطينية وسيفتح رومية وأنطاكية وكنيسة الذهب، وأخبار عن فتح الأندلس وما يجري فيه من أحداث٥٨ إلخ. وجعلت هذه الأشياء كلها أحاديث بعضها نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها إلى أئمة أهل البيت، وبعضها إلى كعب الأحبار ووهب بن منبه، وهكذا. وكان لكل ذلك أثر سيئ في تضليل عقول الناس وخضوعهم للأوهام، كما كان من أثر ذلك الثورات المتتالية في تاريخ المسلمين، ففي كل عصر يخرج داع أو دعاة كلهم يزعم أنه المهدي المنتظر، ويلتف حوله طائفة من الناس، كالذي كان من المهدي رأس الدولة الفاطمية. وتقرأ تاريخ المغرب فلا يكاد يمر عصر من غير خروج مهدي، وكان آخر عهدنا به مهدي السودان، وظهور فرقة البابية في فارس التي دعا إليها ميرزا عليّ محمد المولود سنة ١٢٣٥هـ، وهو من نسل الحسين، وقد ادعى — لما بلغ الخامسة والعشرين — أنه الباب — ومعنى الباب عندهم «نائب المهدي المنتظر». ولو أحصينا عدد من خرجوا في تاريخ الإسلام وادعوا المهدية، وشرحنا ما قاموا به من ثورات، وما سببوا من تشتيت للدولة الإسلامية وانقسامها وضياع قوتها، لطال بنا القول، ولم يكفنا كتاب مستقل.
وهذا كله من جرَّاء نظرية خرافية، هي نظرية «المهدية»، وهي نظرية لا تتفق وسنة الله في خلقه، ولا تتفق والعقل الصحيح. ولعل تقدم الناس في عقلهم ومعارفهم وتقدمهم في الحكم ونظامه وما ينبغي أن يكون، يقضي على البقية الباقية من هذه الخرافة، ويحوّل الناس إلى أن ينشدوا العدل، ويعملوا بأيديهم وعقولهم في إيجاد الحكم الصالح، ويُحلُّوا ذلك محل المهدي المنتظر؛ فخير لهم أن يطلقوا العدل في الواقع لا في الخيال، وأن يعملوا على تحقيقه في دنيا الحس والعقل لا دنيا الأوهام.
-
(٢)
وشيء آخر تولَّد من فكرة المهدي المنتظر؛ ذلك أن الصوفية اتصلت بالتشيع اتصالًا وثيقًا، وأخذت فيما أخذت عنه فكرة المهدي، وصاغتها صياغة جديدة وسمته «قُطبا»، وكونت مملكة من الأرواح على نمط الأشباح، وعلى رأس هذه المملكة الروحية القطب، وهو نظير الإمام أو المهدي في التشيع؛ والقطب هو الذي «يدبر الأمر في كل عصر، وهو عماد السماء، ولولاه لوقعت على الأرض»؛ ويلي القطب النجباء، قال ابن عربي في الفتوحات الملكية: «وهم اثنا عشر نقيبًا في كل زمان، لا يزيدون ولا ينقصون، على عدد بروج الفلك الاثني عشر، كل نقيب عالم بخاصية كل برج وبما أودع الله تعالى في مقامه من الأسرار والتأثيرات … وأعلم أن الله تعالى قد جعل بأيدي هؤلاء النقباء علوم الشرائع المنزلة، ولهم استخراج خبايا النفوس وغوائلها، ومعرفة مكرها وخداعها، وإبليس مكشوف عندهم، يعرفون منه ما لا يعرفه من نفسه، وهم من العلم بحيث إذا رأى أحدهم وطأة شخص في الأرض علم أنها وطأة سعيد أو شقي مثل العلماء بالآثار والقيافة إلخ».
وقال ابن تيمية في بعض فتاويه: «وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة، مثل الغوث الذي بمكة، والأوتاد الأربعة، والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين، والنجباء الثلاثمائة، فهي ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي مأثورة عن النبي ﷺ لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلا لفظ الأبدال؛ فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن عليّ كرم الله وجهه مرفوعًا إلى النبي ﷺ أنه قال: إن فيهم (يعني أهل الشام) الأبدال، أربعين رجلًا، كلما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلًا. ولا توجد أيضًا في كلام السلف».
وهكذا كون الصوفية مملكة باطنية وراء المملكة الظاهرية، اتخذوا فيها فكرة المهدي، وغيروا ألفاظها، وكملوا نظامها، وكلها سبح في الخيال وجرى وراء أوهام كلها شعر، ولكنه ليس شعرًا لذيذًا، بل هو شعر أفسد على الناس عقائدهم وأعمالهم، وأبعدهم عن المنطق في التصرف في شئون الحياة، وقعد بهم عن المطالبة بإصلاح الحكم وتحقيق العدل؛ فكانوا يهيمون في أودية الخيال، والحكام يهيمون في أودية الفساد. وكأنهم تواضعوا على ذلك؛ فالحاكم يفسد، والشعب يحلم، وحالة الأمة تسوء.
وهي عقيدة أعرق في الغرابة من عقيدة المهدي.
والتقية عند الشيعة جزء مكمل لتعاليمهم تواصوا به وعدوه مبدأ أساسيًا في حياتهم، وركنًا من دينهم، ورووا فيه الشيء الكثير عن أئمتهم، وانبنى عليه تاريخهم، فالأحداث التاريخية كلها أساسها إمام مختف أو متستر يدعو إلى نفسه في الخفاء، ويبث دعاته في الأمصار، فيتخذون البيعة له من أنصارهم، ويطالبونهم بالكتمان، والتظاهر بالطاعة، ويلزمونهم بأن يعملوا أعمالهم المطلوبة منهم من الولاة الظاهرين على أتم وجه حتى لا تحوم حولهم شبهة، إلى أن تنضج الثورة ويحين الوقت الملائم، فيعلنوا الخروج ويحملوا السلاح في وجه الدولة.
وقد روى الكليني في التقية أخبارًا كثيرة، فروى عن أبي عبد الله أنه قال: «تسعة أعشار الدين في التقية ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخفين». وقال في قوله تعالى: أُوَلئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا. قال: بما صبروا على التقية — وما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف، إن كانوا ليشهدون الأعياد ويشدون الزنانير، فأعطاهم الله أجرهم مرتين.
وعلى هذا قال كثير من الشيعة: إنه يحسن لمن اجتمع مع أهل السنة أن يوافقهم في صلاتهم وصيامهم وسائر ما يدينون به؛ ورووا عن بعض أئمة أهل البيت: من صلى وراء سني تقية فكأنما صلى وراء نبي؛ وفي وجوب قضاء هذه الصلاة عندهم خلاف.
وقد فسروا كثيرًا من أعمال الأئمة على أنهم فعلوها تقية، فسكوت عليّ على أبي بكر وعمر وعثمان كان تقية، ومصالحة الحسن لمعاوية كان تقية إلخ. كما كانت التقية عند الشيعة سببًا في تحميل الكلام معاني خفية، وجعلهم للكلام ظاهرًا يفهمه كل الناس، وباطنًا يفهمه الخاصة، وقصدهم في كلامهم إلى الرمز والكناية ونحوهما، وفسر بعضهم بعض آيات القرآن على هذا النحو، فجعلوا كثيرًا من الآيات رمزًا لعليّ والأئمة، فقال بعضهم في قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، إن المراد بما أنزل إليك خلافة عليّ؛ وقالوا: إن وراء هذه العلوم أسرارًا خفية أشار إليها عليّ زين العابدين بقوله:
وجري على هذا النمط بعض الصوفية، فقالوا: إن وراء علم الظاهر علم الباطن، وهو لا يفهم من الوضع اللغوي للكلمات ولا من البراهين المنطقية، إنما يفهم من طريق الإلهام والمكاشفة إلخ.
وكان على عكس الشيعة في القول بالتقية الخوارج، فقالوا: لا تجوز التقية بحال من الأحوال، ولو عرضت النفس والمال والعرض للأخطار.
وحياة الشيعة والخوارج السياسية مظهر من مظاهر قولهم في التقية، فالخارجي يعلن الخروج على الإمام في صراحة ولو كان وحده، ويحاربه ولو كان في نفر قليل، مهما بلغ عدوه من العدد، ولا يداري ولا يماري؛ والشيعي يداري ويجاري، ويتستر ويتكتم حتى يظن أن الفرصة أمكنته فيظهر.
•••
أدى الشيعة الاعتقاد بالإمامة، وأنها جزء من الإيمان والعصمة وما إليها، إلى اعتقادهم أن المؤمنين حقًا هم عليّ ومن ناصره ووالاه، ومن تبع الأئمة بعد عليّ في الأجيال المتعاقبة؛ أما من عداهم من أبي بكر وعمر وعثمان ومن تابعهم، والأمويين والعباسيين ومن شايعهم، فهم في نظرهم مقصرون، وإن اختلف الشيعة فيما بينهم في الوصف الذي يصفونهم به، فمنهم من غلا فيهم إلى درجة الحكم عليهم بالكفر.
فيروون عن الصادق: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: من ادعى إمامة ليست له، ومن جحد إمامًا من عند الله، ومن زعم أن أبا بكر وعمر لهما نصيب في الإسلام».
وهذا — من غير شك — ضيق في النظر أدى إليه اتخاذهم مقياس الفضيلة والرذيلة والإيمان والكفر الإيمان بإمامة عليّ، فمن آمن بذلك فهو المؤمن وهو الفاضل، وهو الذي يستحق الثواب، ومن كفر بإمامته فهو الكافر وهو الشرير، وهو المعّذب بالنار؛ فكأن الإيمان بإمامة عليّ يساوي الإيمان بالله، بل يزيد عليه، فمن آمن بالله وحده من غير إيمان بإمامة عليّ لم ينفعه إيمانه، فإذا زاد على ذلك أنه جحد استحقاق عليّ للإمامة فهذا هو الكفر الذي ما بعده كفر.
وهذا مقياس في منتهى الغرابة، كمن يقيس الحجرة بالقدح بدل الأمتار، أو يقيس المكيل بالمتر بدل القدح؛ فنحن نعلم أن روح الإسلام تقوم المرء بشيئين: توحيد الله، وإيمان برسالة رسوله محمد، ثم الأعمال الصالحة التي تنفع الناس، وبهذا وحده يقدر المرء في نظر الإسلام، وبهذا وحده يوزن أبو بكر وعمر وعائشة كما يوزن به عليّ نفسه، وكما يوزن به كل إنسان؛ فإلغاء هذا المقياس، ووضع مقياس آخر هو الإيمان بعليّ، جهل بروح الإسلام وضعف في العقل حتى في نظر العقل المجرد. ولو قالوا إن المقياس هو الإيمان بالله وبالأعمال، وأن الإيمان بإمامة عليّ عقيدة من عقائد الخير لقاربوا الحق، ولكان لقولهم مندوحة ولكن إنكار إمامة عليّ لا يستوجب كفرًا ولا يستوجب لعنة، وفضل أبي بكر وعمر على الإسلام أكبر من فضل عليّ، ولكلٍ فضل، فجحد هذا بالنسبة لهما حتى يستوجبا اللعنة سخف في الرأي، وضيق في الذهن.
على أنا نرى من بين الشيعة من تلطف في الحكم فلم يصل بهؤلاء الصحابة إلى درجة الكفر وإلى استحقاق اللعن.
وعلى كل حال جرأتهم هذه العقيدة على أن ينقدوا أعمال الصحابة ومن يليهم، وأنا أنقل هنا بعضًا من أقوال من يعد معتدلًا فيهم؛ فأهل السنة — وخاصة من عهد أبي الحسن الأشعري — يرون أنه لا يصلح أن يتعرض لأحد من الصحابة بسوء، ويروون أحاديث في ذلك مثل: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»، ومثل: «خير القرون قرني ثم الذي يليه ثم الذي يليه». وروي عن الحسن البصري أنه ذكر عنده الجمل وصفين، فقال: تلك دماء طهر الله منها أسيافنا فلا نلطخ بها ألسنتنا، وقالوا: إن من المروءة أن يحفظ رسول الله ﷺ في عائشة زوجته، وفي الزبير ابن عمته، وفي طلحة الذي وقاه بيده. ثم ما الذي ألزمنا وأوجب علينا أن نلعن أحدًا من المسلمين أو نبرأ منه؛ وأي ثواب في اللعنة والبراءة؟ … ثم قد كان رسول الله صهرًا لمعاوية، إذ كانت أم حبيبة زوجه، فالأدب أن تحفظ أم حبيبة وهي أم المؤمنين في أخيها، إلى آخر ما قالوا.
وفي هذه الأقوال بعض الحق، ولكن الشيعة وقفوا نفس الموقف الذي عابوه على أهل السنة، فقد رموا أهل السنة بتحاملهم على آل البيت وأتباعهم فتحاملوا هم على من عداهم، ولم يقفوا من الصحابة جميعًا موقف القاضي العادل، فجرحوا الصحابة إذا لم يكونوا من الشيعة، وأغضبوا عن كل شيء من الشيعة، ورفعوا الأئمة فوق البشر بل فوق الأنبياء، لأنهم ادعوا العصمة لهم؛ وكان المنطق يقضي — وقد وضعوا مبدأ نقد أعمال الصحابة — أن يضعوا الصحابة كلهم في ميزان واحد، ويحاسبوهم حسابًا واحدًا. ولعل المعتزلة كانوا أعدل منهم في هذا الباب، فنظروا إلى جميعهم نظرًا واحدًا وإن أخطأ بعضهم في الحساب.
أداهم هذا النظر الذي ذكرنا إلى أن يروا أنهم لا يأخذون الحديث إلا ممن كان شيعيًا، ولا يأخذون علمًا إلا ممن كان شيعيًا، ولا يثقون برواية تاريخ إلا ممن كان شيعيًا؛ ولذلك كانت كتب أحاديثهم، وفقههم، وأصول فقههم، ورواية تاريخهم محصورة كلها في المتشيعين.
بهذا حصروا أنفسهم في دائرة خاصة، حتى كأنهم هم المسلمون وحدهم؛ فإن عاشوا وسط السنيين فباطنهم لأنفسهم، وظاهرهم التقية.
وفي الحق أن كثيرًا من «أهل السنة» وقفوا نفس موقف الشيعة، فلم يرض كثير من المحدثين أن يرووا أحاديث الشيعة ولم يرض كثير من الفقهاء أن يعدوا خلافات الشيعة بين اختلافات الفقهاء.
وكان أولى الفريقين أن يكون عمادهم في الأخذ والرد صدق الراوي وكذبه مهما كان مذهبه الديني.
ومع هذا فكان نظر السنيين أقرب إلى العدل وأدنى إلى الإنصاف؛ فلم يكرهوا عليًا كره الشيعة لأبي بكر وعمر وعائشة، بل مجدوه وعظموه، وأثنوا عليه، واعترفوا بفضائله، وإن رأوا أن أبا بكر وعمر يفضلانه، ورووا ما صح عندهم من حديث علي؛ ولئن كان رجال السياسة قد أساءوا إلى عليّ وشيعته نفيًا وقتلًا وتعذيبًا، فإن رجال العلم والدين كانوا أعدل في معاملة الشيعة من معاملة الشيعة لرجال الدين والعلم السنيين، وإن أخذ على السنيين شيء إزاء موقفهم نحو الصحابة والتابعين، فهو أنهم بالغوا في تمجيدهم جميعًا، فلم يشاءوا أن ينقدوا في جرأة وصراحة عمل أحد منهم سواء كان شيعيًا أم غير شيعي، وسواء كان عليًا أم أبا بكر، وشتان بين صنيعهم وصنيع الشيعة في السب واللعن لكل من لم يكن شيعيًا، وخاصة من دخل في خلاف مع عليّ وشيعته. ولو أنصفوا جميعًا لوقفوا منهم موقف المؤرخ الصريح الصادق ينقدون عمل العامل من غير نظر إلى فرقته ومذهبه، ويمجدون عمل الخير من أي جهة كان، ولكن من لنا بالصدر الرحب والعقل الواسع؟!
•••
- (الأول): أن ما كان من أصول وفروع عند السنيين يخالف تعاليم الشيعة وعقائدها، التي ألممنا بها من قبل، يرفض رفضًا باتًا، ويحل محل أصول وفروع تتمشى مع العقائد الشيعية.
- (الثاني): أنهم — وقد منعوا أنفسهم من أن يأخذوا حديثًا أو رأيًا إلا عن إمام من أئمة الشيعة وعالم شيعي وراوٍ شيعي — اضطروا أن يبنوا أحكامهم على الكتاب بالتفسير الشيعي والأحاديث بالرواية الشيعية فقط، وأن يرفضوا ما روي عن غيرهم، وهذا يستتبع حتمًا ضيقًا في التشريع من جهة، ومخالفة للتشريع السني في بعض المسائل من جهة أخرى.
- (الثالث): أن الشيعة أنكروا الإجماع العام كأصل من أصول التشريع، لأن هذا يسلم إلى الأخذ بأقوال غير الشيعة، وأنكروا القياس لأنه رأي، والدين لا يؤخذ بالرأي، وإنما يؤخذ عن الله ورسوله وعن الأئمة المعصومين، وقد استلزم قولهم بعصمة الأئمة أن يأخذوا أقوالهم كنصوص من قبل الشارع لا تحتمل خلافًا.
ولنسق على ذلك أمثلة من المسائل المشهورة التي خالف فيها الشيعة السنية:
١- فمن أهم ذلك وأشهره نكاح المتعة، وهي أن يتعاقد الرجل مع امرأة أن يتزوج بها بأجر معين إلى أجل مسمى، كأن يقول لها تزوجتك بخمسة جنيهات لمدة أسبوع فتقبل. ونكاح المتعة عند الشيعة لا توارث فيه، فلا ترث الزوجة زواج متعة من الرجل ولا يرث منها؛ ولا يشترط لصحة المتعة شهود بل تصح من غير شهود ومن غير إعلان، ولا حاجة فيها إلى الطلاق، بل ينتهي العقد بانتهاء المدة المحدودة، وعدتها حيضتان لمن تحيض، وخمسة وأربعون يومًا لمن لا تحيض، ولا حد لعدد النساء المتمتع بهن، فليس شأنهن شأن الزوجات بزواج دائم من قصرهن على أربع، بل له أن يستمتع بما شاء من عدد.
وقد وردت في المتعة نصوص مختلفة ذهب فيها العلماء مذاهب مختلفة يطول شرحها، ولنورد بعضها في إجمال:
فأولًا — ورد في القرآن في سورة النساء وهي مدنية: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً، فذهب قوم إلى أن الآية وردت في حلِّ نكاح المتعة، ودليلهم على هذا:
-
(١)
أنه عبر في ذلك بلفظ الاستمتاع دون لفظ النكاح، والاستمتاع والمتعة بمعنى واحد.
-
(٢)
أنه أمر بإيتاء الأجر، وفي هذا إشارة إلى أن العقد عقد إيجار، والمتعة إيجار على منفعة البضع.
-
(٣)
أنه أمر بإيتاء الأجر بعد الاستمتاع، وذلك يكون في عقد الإجارة والمتعة، فأما المهر فإنما يجب في النكاح بنفس العقد، ويطالب الزوج بالمهر أولًا ثم يمكن من الاستمتاع، فدلت الآية على جواز عقد المتعة.
وقد ردّ على ذلك آخرون، وقالوا: إن الآية واردة في النكاح المعروف لا في نكاح المتعة، لأن سياق الآية كلها في النكاح، فقد ذكر أول الآيات أجناسًا ممن يحرم زواجهن، وأباح ما وراء ذلك، فيصرف قوله: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إلى الاستمتاع بعقد النكاح المعروف؛ وأما تسمية الواجب أجرًا فقد ورد في القرآن تسمية المهر أجرًا، قال تعالى: فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن، وقال تعالى: يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وأما أنه أمر بإيتاء الأجر بعد الاستمتاع — وليس ذلك الشأن في النكاح — فقالوا إن في الآية تقديمًا وتأخيرًا كأنه تعالى قال: فآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ إذَا استَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ أي إذا أردتم الاستمتاع كقوله تعالى: يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ. أي إذا أردتم تطليقهن. واستدل هؤلاء المحرمون للمتعة بقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فقد حرم الجماع إلا بأحد شيئين: عقد النكاح وملك اليمين، والمتعة ليست بنكاح ولا بملك يمين، والدليل على أنها ليست بنكاح أنها ترتفع بغير طلاق، ولا يجري التوارث فيها بينهما.
وثانيًا — وردت أحاديث كثيرة مختلفة الدلالة في المتعة نسوق بعضها: فقد روي عن ابن مسعود قال: كنا نغزو مع رسول الله ﷺ ليس معنا نساء فقلنا: ألا نَختصِي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا بعد أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل؛ ثم قرأ ابن مسعود يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وعن أبي جمرة قال: سألت ابن عباس عن متعة النساء فرخص، فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد، وفي النساء قلة أو نحوه؟ فقال ابن عباس: نعم. رواه البخاري.
وعن محمد بن كعب عن ابن عباس قال: «إنما كانت المتعة في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم، فتحفظ له متاعه، وتصلح له شأنه، حتى نزلت هذه الآية إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِم أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ قال ابن عباس: فكل فرج سواهما حرام». رواه الترمذي.
وعن عليّ أن رسول الله ﷺ نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، وفي رواية نهى عن متعة النساء يوم خيبر.
وعن سلمة بن الأكوع قال: رخص لنا رسول الله ﷺ في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها.
وعن سيرة الجهني أنه غزا مع النبي ﷺ فتح مكة، قال: فأقمنا بها خمسة عشر، فأذن لنا رسول الله ﷺ في متعة النساء، فلم أخرج حتى حرمها. وفي رواية أنه كان مع النبي ﷺ فقال: يأيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا. رواه أحمد ومسلم. وفي راوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى في حجة الوداع عن نكاح المتعة. رواه أحمد وأبو داود.
هذا طرف من الأحاديث التي وردت في المتعة.
فالظاهر من كل هذا أن نكاح المتعة أجازه رسول الله ﷺ في بعض الأوقات وعند الحاجة؛ كالسبب الذي ذكره ابن مسعود من أنهم كانوا في غزوة من غير نساء، واشتد بهم الأمر حتى استفتوا في الخصاء. وقد روي التحليل في غزوات مختلفة آخرها يوم فتح مكة، ثم حرمت.
ورُويت روايات مختلفة عن ابن عباس، فمنها أنه كان يحّلها واستمرَّ على ذلك، ومنها أنه عدل عن رأيه. ويروون في ذلك أن سعيد بن جُبير قال لابن عباس: قد سارت بفتياك الركبان، وقالت فيها الشعراء؛ قال: وما قالوا؟ قال: قالوا:
فقال ابن عباس: سبحان الله! ما بهذا أفْتيتُ، وما هي إلا كالميتة لا تحل إلا للمضطر.
كذلك رُويت روايات مختلفة عن ابن مسعود وعليّ وبعض الصحابة.
وقد أكد عمر بن الخطاب تحريمها في خلافته، وأخذ الناس بتحريمها أخذًا شديدًا، وروي عنه أنه قال: «لا أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته» ثم انقطع الخلاف بإجماع الأئمة الأربعة وفقهاء الأمصار على تحريمها، ما عدا فقهاء الشيعة؛ فقد حكي عن عليّ والباقر والصادق حلّها؛ فجرى من بعدهم على سنهم.
والشيعة إلى الآن تستعمل المتعة، وأكثر ما تستعمله في الأسفار ونحوها؛ فالتاجر مثلًا — في فارس — إذا أقام في بلد أيامًا قد يتزوج زواج متعة.
وكان بعض الأئمة من الشيعة يتعصب لها ويراها قربة، فكان الصادق يقول — كما رووا —: «ليس منا مَن لم يستحلَّ متعتنا».
وروى الكافي أن الباقر سئل عن المتعة، فقال: أحلّها الله في كتابه وسنّة نبيه، نزلت في القرآن: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فهي حلال إلى يوم القيامة؛ فقيل له: يا أبا جعفر، مثلك يقول هذا وقد حرمها عمر؟ فقال: وإن كان فعل؛ فقيل: إنا نعيذك بالله أن تحل شيئًا حرمه عمر، فقال الباقر: أنت على قول صاحبك، وأنا على قول رسول الله، هلُمَّ أُُلاعِنك أن القول ما قال النبي، والباطل ما قال صاحبك؛ فأقبل عبد الله الليثي وقال: أيسرك أن نساءك وبناتك وأخواتك وبنات عمك يفعلن ذلك؟ فأعرض الباقر حين ذكر نساءه وبنات عمه.
بل ربما كان من الأسباب التي حملت الشيعة على التمسك بالمتعة نهي عمر عنها، لما في نفوسهم من كراهية شديدة له ولأعماله وآرائه.
•••
وبعد، فإن حكمنها العقل في هذا النوع من النكاح، لم نجده يفترق كثيرًا عن الزنا؛ روي عن عليّ أنه قال: «لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي»، وقد أصاب عمر وجه الصواب بإدراكه أن لا كبير فرق بين متعة وزنا. ثم إن عدّ المتعة من باب استئجار بضع المرأة شناعة يمجها الذوق السليم، وفيه تسهيل لعيشة الإباحة التي لا تتقيد بقيود، ولا تتحمل عبء الزواج؛ يضاف إلى ذلك ما يستتبعه نظام إباحة المتعة من فساد المرأة واستهتارها، وكثرة الضحايا منهن، فاستئجار المرأة أيامًا وتركها يعرّضها لأشد أنواع الخطر، وهذا ما حدث فعلًا، وضج بالشكوى منه عقلاء فارس.
وإذا كان المثل الأعلى للأسرة زوجًا واحدًا، وزوجة واحدة، وعروة وثقى باقية أبدًا في سعادة ينشأ في أحضانها الأبناء والبنات، فما أبعد نكاح المتعة من هذا المثل.
٢- ومما خالفوا فيه «أهل السنة» قولهم بتحريم الزواج من اليهودية والنصرانية، و «أهل السنة» يجيزونه استنادًا إلى قوله تعالى فيمن أحل الزواج بهن: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ، والشيعة تقول: إن هذه الآية منسوخة بآية وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ.
٣- وللشيعة كذلك خلاف طويل في نظام الإرث؟ فهم ينكرون العول في الميراث، كما إذا مات شخص عن زوجة، وبنتين، وأم، وأب، فإن للزوجة الثمن، وللبنتين الثلثين، وللأم والأب الثلث؛ فإذا كانت المسألة من أربعة وعشرين كان الناتج سبعة وعشرين، فهذا عول، فتقسم التركة إلى سبعة وعشرين جزءًا بدل أربعة وعشرين، والزوجة تأخذ ثلاثة من. سبعة وعشرين، والبنتان ١٦ والأبوان ٨.
وقد ذكروا أن أول من حكم بالعول عمر بن الخطاب، والشيعة تنكر العول وتذهب مذهب ابن عباس في عدم العول، وتقدم بعض الورثة على بعض؛ فتقدم الزوجة والأبوين على البنتين في أخذ نصيبهم، فتأخذ الزوجة في المثال المتقدم ثلاثة من ٢٤، والأبوان ٨ من ٢٤ والبنتان ١٣ وهو الباقي بدل ١٦.
والشيعة تقدم القرابة على العصبة، ويروون أن الصادق سئل لمن المال للأقرب أو للعصبة؟ فقال: «المال للأقرب، والعصبة في فيه التراب، وتوريث الرجال دون النساء قضية جاهلية».
فإذا مات رجل عن بنت وابن ابن؛ فالمال كله للبنت عند الشيعة لأنها أقرب من ابن الابن؛ وعند أهل السنة النصف للبنت والنصف لابن الابن لأنه عصبة.
ومن أغرب مسائلهم في الإرث أنهم يقولون: إن ابن العم الشقيق مقدم على العم لأب، ولعلهم يرمون بذلك أن يكون عليّ بن أبي طالب متقدمًا في إرث رسول الله ﷺ على العباس، لأن عليًا ابن عمٍ شقيق والعباس عم لأب. والشيعة لا تورّث النساء من الأرض والعقار، إنما تورّثهن من فروع الأموال.
وهم يقولون: إن الأنبياء تورث، وأهل السنة يقولون لا يورثون، لحديث، «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة»؛ احتج به أبو بكر فمنع فاطمة من الإرث، وماتت هي واحدة عليه. وقولهم في إرث النبي ﷺ في المال يؤيد من طريق غير مباشر دعواهم في إرث الخلافة.
•••
وأكبر شخصيات ذلك العصر في التشريع الشيعي، بل ربما كان أكبر الشخصيات في ذلك في العصور المختلفة الإمام جعفر الصادق.
ومن هذا ونحوه يظن أن فكرة المهدية، وعصمة الأئمة وتقديسهم وإعلاء شأنهم نبتت في ذلك العصر، عصر الإمام جعفر الصادق.
ومما عرف من مبادئ جعفر الصادق في التشريع أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد فيها نهي؟ وقوله: ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله ولكن لا تبلغه عقول الرجال. وكان يرى جواز نقل الحديث بالمعنى، فقد سأله محمد بن مسلم: أسمعُ الحديث منك فأزيد وأنقص، قال: إن كنت تريد معانيه فلا بأس؛ وسئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر ولا يدري أيهما هو، وليس يقدر على ماء غيره، قال: يهريقهما جميعًا ويتيمم. وكان لا يقول بالقياس لأنه رأي وإنما يُرجع إلى ما ورد في الأصول من الكتاب والسنة. ويروون أنه ناظر أبا حنيفة في الرأي فقال جعفر الصادق لأبي حنيفة: أيهما أعظم قتل النفس أو الزنا؟ قال: قتل النفس، قال: فإن الله قد قبل في قتل النفس شاهدين، ولم يقبل في الزنا إلا أربعة، ثم سأله أيهما أعظم: الصلاة أو الصوم؟ قال: الصلاة، قال: فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فكيف يقوم لك القياس، فاتق الله ولا تَقِسْ … إلخ.
وللإمام جعفر حكم وأدعية وردت في كتب الشيعة، وروى بعضها الشهرستاني في «الملل والنحل» واليعقوبي في تاريخه.
من أمثلة ذلك قوله: «إن الله تعالى أراد بنا شيئًا، وأراد منا شيئًا؛ فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا أظهره لنا، فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا»، وقوله: «اللهم لك الحمد إن أطعتك، ولك الحجة إن عصيتك، لا صنع لي ولا لغيري في إحسان، ولا حجة لي ولا لغيري في إساءة».
على الجملة فقد كان الإمام جعفر من أعظم الشخصيات ذوي الأثر في عصره وبعد عصره، وقد مات في العام العاشر من حكم المنصور؛ ويروون أن المنصور سمَّه ولم يثبت ذلك، ودفن في البقيع بالمدينة مع أبيه الباقر وجده رحمة الله عليهم.
•••
فكان كثير من أحاديث أهل البيت ولم يرو في كتب أهل السنة لهذا السبب السياسي، ولسبب آخر وهو تزيد أصحابهم عليهم. فاستقل أهل البيت بأحاديثهم، وهم أيضًا — من ناحيتهم — لم يشاءوا أن يرووا أحاديث الصحابة غير العلويين أمثال أبي بكر وعمر ومعاوية وعائشة لكرههم لهم، ولاعتقادهم أيضًا أن أتباعهم تزيدوا لهم. فنشأ من ذلك مجموعتان من الأحاديث: مجاميع يرويها أهل السنة كالبخاري ومسلم، وقد سبق الكلام فيهما، ومجاميع يرويها الشيعة: ومن أجمع كتبهم في هذا كتاب الكافي في علم الدين لمحمد بن يعقوب الكليني، وهو يحتوي ستة عشر ألف حديث، قسمها — كما فعل أهل السنة — إلى صحيح وحسن وقوي وضعيف إلخ، وقد اتفق في جمعه عشرين عامًا، ويسميه الشيعة «ثقة الإسلام»، وقد مات ببغداد سنة ٣٢٨ أو سنة ٣٢٩، ودفن بالكوفة؛ وغيره من الكتب أُلِّف بعده على نمطه.
فكان اختلاف التشريع بين أهل السنة والشيعة مبنيًا في الغالب على:
-
(١)
اختلافهم في فهم القرآن، وللشيعة تأويلات في بعض الآيات خاصة بهم.
-
(٢)
وعلى أحاديث يرويها الشيعة عن أئمتهم لا يعترف بها أهل السنة.
•••
وهم يقولون في كثير من مسائل أصول الدين بقول المعتزلة، فقد قال الشيعة كما قال المعتزلة بأن صفات الله عين ذاته، وبأن القرآن مخلوق، وبإنكار الكلام النفسي، وإنكار رؤية الله بالبصر في الدنيا والآخرة، كما وافق الشيعة المعتزلة في القول بالحسن والقبح العقليين، وبقدرة العبد واختياره، وأنه تعالى لا يصدر عنه قبيح، وأن أفعاله معللة بالعلل والأغراض إلخ.
وكثير من المعتزلة كان يتشيع، فالظاهر أنه عن طريق هؤلاء تسربت أصول المعتزلة إلى الشيعة.
وقد اشتهر من الشيعة كثير من المتكلمين من أشهرهم هشام بن الحكم، وشيطان الطاق.
وجاءه رجل ملحد فقال له: أنا أقول بالاثنين، وقد عرفت إنصافك فلست أخاف مشاغبتك؛ فقام هشام وهو مشغول بثوب ينشره وقال: حفظك الله، هل يقدر أحدهما أن يخلق شيئًا لا يستعين بصاحبه عليه؟ قال: نعم، قال هشام. فما ترجو من اثنين؟ واحد خَلَقَ كل شيء أصح لك؛ فقال الرجل: لم يكلمني بهذا أحد قبلك.
ويظهر أنه كان يميل إلى الجبر، وله مع المعتزلة في ذلك مناظرات كما كان يميل إلى التجسيم، وحكي عنه في ذلك أقوال، والجاحظ يشتد عليه في المناقشة ويغضب في نقده غيرة على المعتزلة.
وعلى الجملة فقد كان له فضل كبير في صياغة الكلام على المذهب الشيعي، وألف كتبًا كثيرة لم يصل إلينا شيء منها. قال ابن النديم «إنه توفي بعد نكبة البرامكة مستترًا، وقيل في خلافة المأمون».
الزيدية
هم فرقة كبيرة من فرق الشيعة تتبع زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب؛ مَثل هو وهشام بن عبد الملك ثانية دور الحسين ويزيد بن معاوية؛ فقد كان زيد طموحًا إلى الخلافة، نافرًا مما يناله وقومه من ظلم الأمويين، وذهب إلى العراق لخصومة مالية — إذ كان قد ادعى عليه خالد بن عبد الله القسري زورًا وديعة ستمائة ألف درهم، فألح عليه أهل الكوفة أن يخرج على الأمويين ووعدوه بالنصرة، وكان هشام يخشى جانبه، فأمر عامله على العراق، يوسف بن عمر الثقفي، ألا يدعه طويلًا في العراق، فأمره يوسف بالرحيل، فخرج ثم عاد وبث دعاته، وعزم على الخروج على بني أمية. وكان زيد من قديم يرشح نفسه للخلافة ويكره الذل، ويرى أنه أحق بالأمر من هشام، قال مرة: «والله لا يحب الدنيا أحد إلا ذل»، فبلغت هشامًا. وقال له هشام مرة: لقد بلغني يا زيد أنك تذكر الخلافة وتتمناها ولست هناك، وأنت ابن أمة (وكانت أمه سندية)، قال يا أمير المؤمنين: لقد كان إسحق بن حرة وإسماعيل ابن أمة، فاختص الله ولد إسماعيل فجعل منهم العرب، فمازالوا ذلك ينمي حتى كان منهم رسول الله. فلما كان في العراق سنة ١٢١ نفذ خطته، وقد نصحه كثيرون ألا يفعل، نصحه سَلَمَة بن كُهَيْل، فقال له: نشدتك الله كم بايعك؟ قال زيد: أربعون ألفًا، قال: فكم بايع جدك (الحسين)؟ قال ثمانون ألفًا، قال: فكم حصل معه؟ قال: ثلاثمائة، قال: نشدتك الله أنت خير أم جدك؟ قال: جدي، قال: أفقرنك الذي خرجت فيه أم القرن الذي خرج فيه جدك؟ قال: بل القرن الذي فيه جدي، قال أفتطمع أن يفي لك هؤلاء وقد غدر أولئك بجدك؟ قال: قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وأعناقهم. وكتب عبد الله بن الحسن إلى زيد يقول: «يا ابن عم! إن أهل الكوفة نُفُخُ العلانية خُورُ السريرة، هُرُج في الرخاء، جُزعُ في اللقاء تَقَدَّمهُمُ ألسنتهم، ولا تشايعهم قلوبهم، لا يبيتون بعدة في الأحداث، ولا ينوءون بدولة مرجوة، ولقد تواترت كتبهم إليّ بدعوتهم، فصمت عن ندائهم، وألبست قلبي غشاء عن ذكرهم، يأسًا منهم، وإطراحًا لهم، وما لهم مَثَل إلا ما قال عليّ بن أبي طالب: «إن أُهملتم خُضتم، وإن حوربتم خُرتم، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم، وإن أجبتم إلى مُشاقّة نكصتم».
ولبث على ذلك بضعة عشر شهرًا، ثم أمر أصحابه بالخروج قبل الموعد المحدد لما أحس أن يوسف بن عمر يطلبه هو وأصحابه؛ فلما جد الجد تفرق عنه أكثر من بايعه، ولم يبق معه إلا ثلاثمائة أو أقل، وكانت بينهم وبين يوسف ابن عمر ملحمة ثبت فيها زيد ومن معه، حتى إذا جنح الليل رمي زيد بسهم فأصاب جانب جبهته اليسرى، فلما انتُزع منه قَضَى، فأخذ رأسه وبعث به إلى هشام، فأمر به فنصب على باب مدينة دمشق، ثم أرسل إلى المدينة، ومكث البدن مصلوبا حتى مات هشام، ثم أمر به الوليد فأنزل وأحرق. وكان قتل زيد سنة ١٢٢.
وقد كان قتل زيد وابنه يحيى على النحو الذي روينا سببًا من أسباب زيادة البغض للأمويين والاستعداد للثورة عليهم.
هذا زيد زعيم فرقة الزيدية، وقد ظل أتباعه يعملون من بعده حتى نجحوا في بعض البقاع كطبرستان واليمن، ولا يزال معظم بلاد اليمن من الزيدية إلى اليوم، ولا سيما في البلاد الجبلية.
وهم في تعاليمهم أقرب إلى أهل السنة، فلا يقولون بالتقية، ولا يتبرأون من أبي بكر وعمر ولا يلعنوهما، ولا يقولون بعصمة الأئمة، ولا يقولون باختفائهم.
وهم يشترطون الاجتهاد في أئمتهم، فلذلك كثير فيهم الاجتهاد، وكثرت آراؤهم في الفقه، ونبغ منهم كثيرون من المجتهدين، كالإمام الداعي إلى الحق الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل، وقد ملك طبرستان من سنة ٢٥٠–٢٧٠ وله كتاب «الجامع في الفقه»، وكالقاسم بن إبراهيم العلوي الذي تولى على صعدة من بلاد اليمن ٢٤٦–٢٨٠، وهو الذي ينسب إليه كتاب الرد على ابن المقفع الذي نشر حديثًا.
وهذا الكتاب يطلعنا على ناحيتين هامتين: إحداهما الأحاديث المروية عن أهل البيت من زيد إلى عليّ مرتبة ترتيبًا فقهيًا، وذلك يمكن من الإ طلاع على أصولهم التي بنوا عليها الأحكام؛ والثانية ترينا تشدد أهل البيت جميعًا في عدم أخذ شيء من الأحكام ولا رواية الأحاديث إلا عن الأئمة، فلا تكاد تجد حديثًا في هذا المجموع الكبير إلا ومرجعه الأخير زيد أو عليّ، لا شيء عن أبي بكر، أو عمر، أو ابن مسعود، أو غيرهم من الصحابة.
من وفاة رسول الله ﷺ، إلى آخر عصرنا الذي نؤرخه وإلى ما بعده وشيعة عليّ تتطلب له ولنسله، وترى أنهم أحق بها، وتاريخهم بين وثبة واستعداد للوثبة، والخلفاء يحذرونهم ويراقبونهم سرًا وعلنًا، وينكلون بهم تنكيلًا شديدًا، فلا يرجع الشيعة عن مطلبهم، ولا يغيّر الخلفاء سياستهم. وكانت حركتهم أيام أبي بكر وعمر وصدر من خلافة عثمان حركة هادئة نوعًا ما، ثم عنفت وتدخَّل فيها السيف والدم فزادها عنفًا. وفي عهد القتال بين عليّ ومعاوية انقسمت المملكة الإسلامية إلى معسكرين: معسكر العراق وهم شيعة عليّ، ومعسكر الشام وهم شيعة معاوية؛ وحتى بعد قتل عليّ واستيلاء معاوية وبيته على المُلك ظل العراق — وخاصة الكوفة — شيعي النزعة، وظلت حركات الغلو في التشيع تنبع منه، كحركة عبد الله بن سبأ والمختار الثقفي؛ وانضم إلى حركة التشيع كثير من الموالي، وخاصة موالي الفرس لما بينا قبلُ من أسباب، فكانت فارس ولا سيما خراسان أميل إلى التشيع كالعراق.
وقف الأمويون من العلويين وقفة لا رحمة فيها، وقفة سياسية لا خلقية، والسياسي إذا نظر إلى العلويين رآهم إما ثوَّارا إن ظهروا، أو متآمرين على قلب الدولة إن اختفوا، والخلفاء الأمويون شباب تأخذهم الحدة وتملؤهم الحمية. ولم يكن من خلفاء بني أُمية وأُمرائهم من تقدمت به السن عند تولي الخلافة أو الإمارة، أو طالت أيامه في الخلافة والإمارة حتى أسن إلا الخليفة معاوية والأمير نصر بن سيَّار.
صفا الجو لمعاوية بقتل عليّ، وحَملِه الحسن بن عليّ أن ينزل عن الخلافة ويترك له الأمر، فتم له ذلك، وصانع بني هاشم وكبار الصحابة وأبناءهم، ورهّب ورغَّب، فاجتمعت كلمة أكثر الناس له.
ولكن العلويين سكتوا على مضض حتى تولى يزيد، فخرج عليه الإمام العلوي الحسين بن عليّ، فقتله يزيد، وارتكب الشناعات في أبناء فاطمة، ومن بقي منهم حيًّا بعد نكبة كربلاء كان أكثرهم أطفالًا لا يصلحون لقيادة، فمنهم من سكت على مضض ينتظر الزمن في إنضاج الأطفال، ومنهم من بايع ابن عليّ من غير فاطمة وهو محمد بن الحنفية.
وتستر الشيعة وأخذوا يعملون في الخفاء واصطنعوا مبدأ التقية.
ثم خرج المختار الثقفي يطالب بدم الحسين، وتحرك كثير من أهل العراق لمشايعته، وذلك في عهد عبد الملك بن مروان، فاستعمل الحجاج على العراق فعسف بالناس وخاصة الشيعة، ونكل بهم تنكيلا.
وقد رأينا قبلُ ما فعل هشام بن عبد الملك بزيد بن عليّ، وما فعل الوليد بن يزيد بيحيى بن زيد.
ولقي سليمان بن عبد الملك أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية (بن عليّ بن أبي طالب)، فرأى منه ذكاءه ودهاءه، فبعث إليه من سمه في طريقه؛ فلما أحس أبو هاشم بالسم قيل إنه عهد بالأمر من بعده إلى أحد آل البيت العباسي، وهو محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس؛ فكان هذا مبدأ تحول الأمر من بيت علّي إلى بيت العباس.
وكان الأمويون أقل مراقبة لبني العباس منهم لبني عليّ، ولذلك تمكن العباسيون من بث الدعوة، فكان دعاتهم يتظاهرون بالتجارة ويبثون الدعوة سرًا.
فلما مات محمد بن عليّ سنة ١٢٤ أوصى بالأمر لابنه إبراهيم، فاستعمل إبراهيم أبا مسلم الخراساني ليكون رئيسًا لدعاته، فقبض مروان بن محمد عليّ إبراهيم وقتله، وقبل قتله عهد بالأمر من بعده إلى أخيه أبي العباس عبد الله بن محمد الملقب بالسفاح، رأس الدولة العباسية.
هذه خلاصة موجزة لما نكب به الأمويون أئمة العلويين، يضاف إلى هذا نكباتهم للأفراد الذين شعروا منهم بالتشيع، كقتل معاوية حُجر بن عدي الكندي، وقتل زياد ابن أبيه الألوف من شيعة الكوفة والبصرة، وتبعه ابنه عبيد الله بن زياد في ذلك، فقتل هانئ بن عروة المُرادي، ومسلم بن عقيل الهاشمي وغيرهما.
ولما نازع عبد الله بن الزبير عبد الملك بن مروان في الملك، واستولى ابن الزبير على بعض الأصقاع، سار في شيعة العلويين سيرة الأمويين، فقتل المختار الثقفي وكثيرًا من أتباعه، وحبس محمد بن الحنفية؛ وفعل الحجاجُ بالشيعة لأفاعيل حتى خشي الناس أن يسموا أبناءهم أسماء أهل البيت.
كل هذا وأمثاله كان من الأسباب الكبرى لسخط هذا الفريق على الأمويين، وتكاتفهم على إسقاط دولتهم؛ وتضاف إلى ذلك أسباب أخرى لا تهمنا في موضوعنا.
فبدأت الدعوة للخروج على الأمويين، وكان أهم مركز لها خراسان والعراق، وكان الدعاة يستغلون ما فعل الأمويون ببني هاشم، وما ارتكبوه من الفظائع لتشويه سمعتهم، كهتك حرمة المدينة في عهد يزيد بن معاوية، وإباحة مكة في عهد عبد الملك:
لقد اتفق بنو هاشم عليّ الكيد لبني أمية، وتحالفوا على الخروج عليهم، وعقدوا المجالس يتذاكرون فيها أمر بني أمية، وظلمهم واضطراب أمرهم، وكُرْه الناس لهم، ومحبتهم لبني هاشم، ويدبرون الأمور لبث الدعوة وقلب الدولة.
وبنو هاشم فرعان: فرع عليّ، وفرع العباس؛ فأما فرع عليّ فتسلسل في ولديه الحسن ثم الحسين، ثم افترقوا فرقًا أهمها ثلاث: فرقة سلسلتها في أولاد الحسن، لأنه أكبر أولاد عليّ؛ وفرقة سلسلتها في أولاد الحسين، لأن الحسن قد سلم الخلافة إلى معاوية فأضاع حق أولاده؛ وفرقة جعلتها في ابن عليّ من غير فاطمة، وهو المعروف بمحمد بن الحنفية، لأن الحق آل إليه بعد وفاة أبيه وأخويه، ثم انتقلت منه إلى ابنه أبي هاشم عبد الله؛ وهنا تحولت فيما يقول العباسيون إلى بيت العباس بتنازل أبي هاشم لمحمد بن عليّ العباسي.
ومع هذا فكان من إحكام خطة العباسيين أنهم لم يكونوا يصرحون عند دعوتهم في كثير من المواقف باسم الإمام ليتجنبوا انشقاق الهاشميين بعضهم على بعض.
وأما بيت العباس فأولهم العباس عم النبي، ثم ابنه عبد الله بن عباس، وقد ناصر عليًا أولًا، ثم تحول إلى معاوية وسالم الأمويين، وإن كرههم في أعماق نفسه؛ وكذلك كان ابنه عليّ بن عبد الله بن العباس الملقب بالسجَّاد، ذهب في أيام عبد الملك بن مروان إلى دمشق وأقام بها، ثم أساء إليه الوليد ابن عبد الملك بعده فتحول إلى الحُمَيمةَ (بلدة من أعمال البلقاء بالشام) وبها مات سنة ١١٨هـ. ثم أتى ابنه محمد بن عليّ فتظاهر بمشايعة العلويين، ثم قيل بعد أبي هاشم العلوي إليه فكان ذلك بدء الدعوة العباسية. وكان من أخباره ما تقدم ذكره حتى استولى السفاح سنة ١٣٢ وهو أول الخلفاء العباسيين.
•••
وما بدأ الملك يستقر للعباسيين حتى غضب عليهم العلويون، وشعر العباسيون بأنهم حديثو عهد الدولة، أنهم في حاجة إلى الشدة والقسوة لتدعيم ملكهم، فقسوا عليهم بأكثر مما قسا الأمويون، ثم كانوا أعرف بالعلويين وأساليبهم يوم خالطوهم وحالفوهم للعمل ضد الأمويين، فكانوا أقدر على تتبعهم ومعرفة مكايدهم ومنازلتهم بمثل أساليبهم. وانكشف الأمر عن معسكرين آخرين كلاهما من بني هاشم، معسكر العلويين أو الطالبيين، ومعسكر العباسيين؛ الأولون يُدلون بعليّ بن أبي طالب ابن عم النبي ﷺ وزوج ابنته فاطمة، والآخرون يدلون بجدهم العباس عم النبي ﷺ؛ واحتدم القتال بينهم سرًا وجهرًا، وعادت المسألة سيرتها الأولى بل أشد، ورأوا أن نار الأمويين كانت جنة إذا قيست بنار العباسيين.
وحكى الأغاني أن أبا عدي العبلي (وهو شاعر أموي)، قال في ابتداء حكم بني العباس قصيدته المشهورة في رثاء بني أمية:
إلى آخر القصيدة.
•••
كانت أكبر حجة للعلويين على الأمويين هي قرابة العلويين لرسول الله ﷺ فجاء العباسيون ينازعونهم هذه الحجة، وبدأوا بالاعتزاز بالقرابة فقط، فلما خاصمهم العلويون قال العباسيون إنهم أقرب منهم، فالعباسيون ينتسبون إلى العباس عم النبي ﷺ، والعلويون إلى عليّ، ابن عم النبي، والعم أقرب من ابن العم.
•••
تم للعباسيين الأمر، وأبادوا الأمويين، وتربعوا في دست الخلافة، فغضب العلويون وسكتوا قليلًا على مضض؛ وكان من رجالاتهم وسادتهم سيدان يقيمان بالمدينة، هما محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وكان يلقب بالنفس الزكية، وكان ما شئت (فضلًا وشرفًا ودينًا وعلمًا وشجاعة وفصاحة ورياسة وكرمًا ونبلًا)، ثم أخوه إبراهيم بن عبد الله؛ فالتف كثير من العلويين حول (النفس الزكية)، وأرادوه على أن يخرج على السفاح، وينتهز فرصة بدء الدولة وقرب عهدها، وبثوا الدعاة له، وبدأ بعض القادة الذين كانوا يعملون للعباسيين بالميل إليه، وضبط كتاب من يزيد بن عبد الله بن هُبيرة إلى النفس الزكية يعلمه أنه يبايع له، وأن قبله أموالًا وعدَّة وسلاحًا، وأن معه عشرين ألف مقاتل؛ فأرسل الكتاب إلى السفاح فأمر بقتل ابن هُبيرة فقتل. وكان يبلُغ أبا العباس السفاح عن النفس الزكية أشياء فكان يستعين عليه بأبيه وعمه ويصانعهم جميعًا فيهدئ من نفوسهم.
كتب المنصور أولًا إلى محمد بن عبد الله يعرض عليه الأمان هو وولده وإخوته ومن بايعه وتابعه، وأن يعطيه ألف ألف درهم، ويتركه ينزل حيث شاء ويقضي حاجاته، ويطلق مِن سِجنه مَنْ فيه مِن أهل بيته وشيعته وأنصاره، ويترك له الخيار في اختيار من أحب لأخذ الميثاق بهذا وكتابة العهد الذي يرضاه.
ثم تدخل السيف إذ لم يفلح القلم، فأرسل إليه المنصور جيشًا كثيفًا على رأسه ابن أخيه عيسى بن موسى، فالتقى جيشه بجيش محمد في موضع قريب من المدينة، فغُلب محمد بن عبد الله وقُتل وحمل رأسه إلى المنصور.
ثم خرج أخوه إبراهيم بن عبد الله، ومضى إلى البصرة، وأظهر أمره هناك، وكثرت جموعه وانضم إليه كثير من الزيدية والمعتزلة، فأرسل إليه عيسى بن موسى أيضًا، فكانت الغلبة لعسكر المنصور كذلك، وقتل إبراهيم في قرية قريبة من الكوفة يقال لها «باخَمْرَى» ومن أجل هذا يعرف إبراهيم بأنه «قتيل باخمرى»، وقتل في هذه المعارك كثير من البيت العلوي، وقبض على عدد عديد منهم، حبسهم المنصور في سرداب على شاطئ الفرات بالقرب من الكوفة لا يصل إليهم ضوء حتى ماتوا. وغضب المنصور من هذه الأحداث المتتالية من الطالبيين، فخطب في أهل خراسان خطبة شديدة خرج فيها عن اتزانه وتؤدته، فسب وشتم ورغب ورهب، وعرض فيها لتاريخ العلويين كما يتصوره هو، فأحببنا إثباتها لأهميتها:
صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم صلى على النبي ﷺ ثم قال:
يا أهل خراسان: أنتم شيعتنا وأنصارنا وأهل دولتنا، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا من هو خير منا، وإن أهل بيتي هؤلاء من ولد عليّ بن أبي طالب تركناهم والله الذي لا إله إلا هو والخلافة، فلم نعرض لهم فيها بقليل ولا كثير، فقام فيها عليّ ابن أبي طالب فتلطخ وحكم عليه الحكمان، فاقترفت عنه الأمة، واختلفت عليه الكلمة. ثم وثبت عليه شيعته وأنصاره وأصحابه وبطانته وثقاته فقتلوه، ثم قام من بعده الحسن بن عليّ، فوالله ما كان فيها برجل، قد عرضت عليه الأموال فقبلها قدس إليه معاوية: أني أجعلك وليّ عهدي من بعدي، فخدعه فانسلخ له مما كان فيه وسلمه إليه، فأقبل على النساء يتزوج في كل يوم واحدة فيطلقها غدًا، فلم يزل على ذلك حتى مات على فراشه؛ ثم قام من بعده الحسين بن عليّ، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة؛ أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن، أهل هذه المدرة السوداء (وأشار إلى الكوفة) فوالله ما هي بحرب فأحاربها، ولا سلم فأسالمها، فرق الله بيني وبينها، فخذلوه وأسلموه حتى قتل؛ ثم قام من بعده زيد بن عليّ فخدعه أهل الكوفة وغرّوه، فلما أخرجوه وأظهروه أسلموه.. ثم وثب علينا بنو أمية، فأماتوا شرفنا، وأذهبوا عزنا؛ والله ما كنت لهم عندنا تِرَةٌ يطلبونها، وما كان ذلك كله إلا فيهم وبسبب خروجهم عليهم، فنفونا من البلاد، فصرنا مرة بالطائف، ومرة بالشام، ومرة بالشراة، حتى ابتعثكم الله لنا شيعة وأنصارًا، فأحيا شرفنا وعزنا بكم أهل خراسان، ودمغ بحقكم أهل الباطل، وأظهر حقنا، وصار إلينا ميراثنا عن نبينا صلى الله عليه، فقر الحق مقره وأظهر مناره، وأعز أنصاره، وقُطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين، فلما استقرت الأمور فينا على قرارها من فضل الله فيها، وحكمه العادل لنا، وثبوا علينا ظلمًا وحسدًا منهم لنا، وبغيًا لما فضلنا الله به عليهم، وأكرمنا به من خلافته، وميراث نبيه صلى الله عليه وسلم:
•••
هذه الحجج من جانبي الهاشميين جعلت الناس ينقسمون قسمين: علويين وعباسيين؛ ورأينا الشعراء ينحازون أيضًا فريقين سنعرض لهما بعد؛ ورأينا حتى الفرق الإسلامية تنقسم أيضا هذا الانقسام، ففرقة شيعة علوية، وفرقة أخرى عباسية كان من غلاتها قوم يلقبون بالرّاوندية.
وقال الفخري: «إنهم قوم من أهل خراسان كانوا يقولون بتناسخ الأرواح ويزعمون أن روح آدم انتقلت إلى فلان — رجل من كبارهم — وأن جبريل هو فلان — عن رجل آخر — قلما ظهروا أتوا قصر المنصور وقالوا هذا قصر ربنا؛ فأخذ المنصور رؤساءهم فحبس منهم مائتي رجل» إلخ.
وأيا ما كان، فالراوندية شيعة العباسيين وفرقتهم الدينية. غلا فيهم من غلا كما غلا في الشيعة العلوية من غلا.
وبهذا الوضع أصبحت حجة العلويين على العباسيين أضعف من حجتهم على الأمويين، لاشتراك الجميع في الهاشمية والقربى من رسول الله، وتنازع الطائفتين في أيهما أقرب.
•••
واستمر النزاع العلوي العباسي طوال العصر الذي نؤرخه وبعده، كلما قام خليفة عباسي قام داع علوي يدعو إلى نفسه، ثم يقاتل ويُقتَل، وقد يستكشف أمره قبل الخروج فيحبس أو يسم، وقد يدس لعلوي لم يعتزم الخروج والثورة ولكن يتقرب إلى العباسيين من هذا الباب، فتلصق التهمة به ظلمًا وعدوانًا وهكذا؛ فاقرأ تاريخ كل خليفة تحصل على وقائعه مع العلويين حتى كان ذلك شعار للخلافة.
فبعد المنصور تولى المهدي، وقد غضب على وزيره يعقوب بن داود، وقبض عليه وأودعه السجن حتى عمي، لأن المهدي دفع إليه علويًا وأمره بحفظه فأطلقه.
ثم ولي هارون الرشيد: فخرج عليه يحيى بن عبد الله بن حسن، وهو أخو النفس الزكية وإبراهيم «قتيل باخمرى»، وكان خروجه بالديلم، وتبعه ناس كثير من الأمصار؛ فبعث إليه الرشيد من يستميله إلى الصلح فمال إليه، وطلب أمانًا بخط الرشيد، وأن يشهد عليه فيه القضاة والفقهاء وجلّة بني هاشم، فأجابه الرشيد إلى طلبه؛ وقدم يحيى إلى الرشيد فحبسه عنده، واستفتى الفقهاء والقضاة في نقض العهد، فأفتى بذلك بعضهم، وأبى آخرون منهم محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، ثم أرسل الرشيد إلى يحيى من قتله في حبسه. ووشي إليه بموسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين، فقبض عليه الرشيد بالمدينة وحمله إلى بغداد، فحبسه ثم قتله قتلًا خفيًا، وأدخل عليه شهودًا شهدوا أنه مات حتف أنفه.
فلما ولي الأمين كان من أمره مع الطالبيين ما قاله أبو الفرج الأصفهاني: «كانت سيرة محمد في أمر آل أبي طالب خلاف من تقدم، لتشاغله بما كان فيه من اللهو والإدمان له، ثم الحرب التي كانت بينه وبين المأمون حتى قتل، فلم يحدث على أحد منهم في أيامه حدث بوجه ولا سبب».
ولما وقع الخلاف بين الأمين والمأمون، رأى العلويون أن الفرصة سانحة لهم؛ فالناس منقسمون بين الأمين والمأمون، والحروب بينهما قائمة، ولا هم لأحدهما إلا الآخر، وأن الخلاف بينهما يضعف أمرهما معًا، وأن ملل الناس من الحرب وويلاتها قد يصرف وجوههم عن العباسيين إلى العلويين؛ ومن أجل ذلك نشط العلويون وبثوا الدعاة، وكثر خروجهم وفتهم.
فخرج محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسين بن عليّ بالكوفة، وكان مدبر حربه، وقائد جنده أبو السَّرَايا السَّري بن منصور الشيباني وعظم أمره، وكان كلما بعث المأمون بجيش هزمه أبو السرايا، وفي أثناء القتال مات محمد بن إبراهيم هذا، فولّى أبو السرايا بدله غلامًا علويًا أمرد اسمه محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي.
وقوي أمر أبي السرايا وقوي معه الطالبيون، وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة، وأرسل عماله من العلويين على الأمصار مكة والمدينة والبصرة وغيرها. ولم يخضع المأمون هذه الفتن إلا بعناء شديد، وبذل دماء كثيرة، وكان الفضل الأكبر في هزيمة أبي السرايا للقائد الكبير هو ثَمَة بن أعْيَن، وكان المأمون في هذه الفتنة في مرو — عاصمة خراسان — قبل أن ينتقل إلى بغداد.
ترى ما الذي حمل المأمون على هذا العمل الذي لم يسبق إليه؟ عندي أن ذلك يرجع إلى أمور:
-
(١)
أنه استعرض الفتن التي قامت من عهد عليّ إلى يومه، فرآها فتنًا مضعفة للدولة، مفرقة للكلمة؛ فلعل من الخير أن يفتح السبيل أمام البيتين العباسي والعلوي يختار خيرهما، فتنقطع الفتن ويتعاون البيتان على الخير العام للمسلمين. فإن كان هذا رأيه فقد غاب عنه أن الناس لا يحكِّمون العقل دائمًا، أن الخلاف لا يقطع بمثل هذه السهولة، وأن عصبية العلويين لبيتهم والعباسيين لبيتهم تعمي العقل وتبعث الفتن، وهذا ما كان.
-
(٢)
أن المأمون كان معتزليًا على مذهب معتزلة بغداد، وهم يرون أن عليًا أولى بالخلافة حتى من أبي بكر وعمر، فذريته من بعده أحق؛ فأراد أن يحقق مذهبه وينقل الخلافة إليهم.
-
(٣)
أنه كان تحت تأثير الفضل بن سهل والحسن بن سهل وهما فارسيان، والفرس يجري في عروقهم التشيع، كما كان الشأن في بيت البرامكة أيام الرشيد، فمازالوا بالمأمون يلقنانه آراءهما حتى أقرها ونفذها.
-
(٤)
أنه رأى أن عدم تولي العلويين للخلافة يكسب أئمتهم شيئًا من التقديس، فإذا ولوا الحكم ظهروا للناس وبان خطؤهم وصوابهم فزال عنهم هذا التقديس.
وأغلب ظني أن المأمون كان مخلصًا في عمله صادقًا في تصرفه، وقد زوج المأمون عليا الرضا هذا بنته، وزوج محمد بن عليّ بنته الأخرى، ولكن شاء القدر أن يموت عليّ الرضا سريعًا، بعد أن ولاه المأمون عهده، وبعد أن مرض أيامًا ثلاثة، فادعوا أن المأمون سمه لثورة بغداد، وما أكثر ادعاء الشيعة بسم أئمتهم، وهذا بعيد؛ فالمؤرخون يروون حزن المأمون الشديد عليه، كما يروون أن المأمون بعد موته وبعد انتقاله إلى بغداد ظل يلبس الخضرة (وهو شعار العلويين) تسعة وعشرين يومًا، ويلزم القواد بلبسها، فلما رأى كراهية البيت العباسي لها ودسهم الدسائس في ذلك اضطر أن يغيرها إلى السواد (وهو الشعار العباسي)، فإن كان حقًا قد سم، يكون قد سمه أحد غير المأمون من دعاة البيت العباسي.
وقد حكى ابن عبد ربه في العقد الفريد مناظرة طويلة جرت بين المأمون وجملة من جلة العلماء، ذهب فيها المأمون إلى تفضيل عليّ على أبي بكر وعمر وأحقيته للخلافة دونهما.
وفي عهد المعتصم خرج محمد بن القاسم بن عمر بن عليّ بن الحسين بن عليّ ابن أبي طالب في خراسان، فبعث إليه عبد الله بن ظاهر بجيش هزمه، ثم قبض على محمد بن القاسم وبعث به إلى المعتصم، فأودع السجن، ثم هرب ولم يعرف له خبر؛ وكان محمد من أهل العلم يذهب مذهب الاعتزال من القول بالعدل والتوحيد.
وهكذا كان كما قال ابن الرومي:
•••
أما بعد، فقد كانت ساحة البلاد الإسلامية مجالًا للدسائس والفتن والحروب المستمرة من وفاة رسول الله ﷺ تقريبًا إلى آخر العصر الذي نؤرخه بعده، من غير أن يحسم النزاع بين الشيعة ورجال الدولة؛ فلا الشيعيون يعدلون عن مطالبهم وتنفيذ خطتهم، ولا الساسة بالطبع يستسلمون لمطالب الشيعة، ولا يعالجونها في رفق وهوادة؛ ومهما بالغت في عظم ما أنفق الفريقان من الرءوس والأموال والتفكير والفتن والخطط، فلست ببالغ قدره؛ وظني أن لو اجتمعت كلمة المسلمين وقدر الجهد الذي بذل في إخضاع العلويين لبني أمية وبني العباس، أو إخضاع الأمويين والعباسيين للعلويين — لكان جهدًا يكفي لفتح أكثر العالم وإخضاعه للمسلمين، ولكان يتغير وجه التاريخ تغيرًا تامًا، ويكتب كله من جديد على نمط آخر. ولكن شهوة الحكم دائمًا في كل عصر تفرق الكلمة، وتضيع وحدة الأمة، وتحل قوتها، وتضعف مِرتها، وتفرق بين الابن وأبيه، والأخ وأخيه؛ والأحداث الناتجة عن شهوة الحكم هي التي تملأ دائمًا صفحات التاريخ في القديم والحديث، وفي استطاعة العقل دائمًا أن يوجد الأسباب المعقولة للشيء وضده؛ فقد تسمع الحجج من الشيعة فتظن أن الحق معهم والباطل مع خصومهم، وتسمع حجج الأمويين والعباسيين فكذلك.
ولو عقل الناس ما قبلوا حجج هؤلاء ولا هؤلاء، ولكان أحق الناس بالحكم أصلحهم، ولو كان عبدًا حبشيًا، سواء كان من نسل الرسول ﷺ في شرفه ورفعته، أو من نسل نجار أو حلاق في حقارته وضعته، لأن خير الناس أنفعهم للناس، ومن كل بيت مهما علا ينتج الصالح والفاسد، والخير والشرير؛ وحكم الناس صناعة ككل الصناعات ينبغ فيها النابغ، وينبغ من أوساط مختلفة من غير أن نعرف في وضوح قوانين نبعه ونبوغه.
ولكن هذه النظر مع بساطته وسلامته لم يكثر مقتنعوه، لأن البيوت الأرستقراطية لا ترتضيه، ولأنه — مع الأسف — سهل نظريًا، أصعب ما يكون عمليًا، فمن هو أصلح الناس؟ وإذا عثرنا عليه فكيف نقيمه، وكيف نختار أهل الحل والعقد لحمايته وكيف يحمونه، بل كيف يحمون أنفسهم؟ إلخ.
كم فكر المسلمون قديمًا في هذا وأمثاله، وكان الحل سهلًا، والتنفيذ صعبًا، وعلى هذا الخلاف وحده كانت كل الثورات بين الشيعة وخصومهم.
فإن أنت سألت أي الفريقين كان على حق في هذا النزاع؟ لم تكن الإجابة هينة؛ هؤلاء الشيعة يحكمون عاطفة شريفة نبيلة، هي عاطفة الحنو على أهل بيت رسول الله والعطف عليهم، هي عاطفة حب للرسول تبعها حب لنسله، وأداهم هذا الحب إلى أن يقولوا حكمنا رسول الله فليحكمنا نسله — وفي هذا جمال العاطفة وإن لم يكن فيه جمال المنطق — وقال خصومهم: إن الحب شيء والحكم شيء، وليس الحكم مالًا يورث، ولا تركة توزع حسب الفريضة، إنما هي أهلية وزعها الله على الناس، فقد تخرج الكفاية من بيت وضيع، ولا تخرج من بيت رفيع؛ وإذا كان المنصب من مناصب الدولة كالقضاء، والوزارة، والكتابة لا تورث لأنها تستوجب أهلية خاصة، فالخلافة أولى لأن عبئها أشد ومسئوليتها أعظم؛ وفي هذا القول جمال المنطق، وإن لم يكن فيه جمال العاطفة؛ فكل حزب نظر من ناحيته فقط، فأسرف في الحكم على الآخر، وكان في كل فريق من يلقي على النار وقودًا يزيد اشتعالها.
وتعجبني جملة في نهج البلاغة تنسب إلى الإمام عليّ، فقد سئل عن رأيه في عثمان وقاتليه فقال: «إنه استأثر فأساء الأثرة وجزعوا فأساءوا الجزع؛ ولله حكم واقع، في المستأثر والجازع»، ولعل هذا أصدق وصف لما كان بين عثمان والناقمين عليه، وهو كذلك أصدق وصف للأمويين والعباسيين، والناقمين عليهم من الشيعيين.
وكان للشيعة عاطفتان بارزتان قويتان يرجع إليهما النتاج الأدبي الشيعي عاطفة الغضب، وعاطفة الحزن؛ فأما الغضب فإنهم اعتقدوا أنهم سلبوا حقهم وغصبوه، وأُخذ منهم ظلمًا وعدوانًا، فغضبوا لذلك، ودعتهم ثورة الغضب أن يقولوا وأن يقولوا كثيرًا في هجاء غاصبهم، وفي بيان حقهم، وفي شرح مظلمتهم، وفي وجهة نظرهم، وفي إظهار حججهم، إلى غير ذلك. وأما عاطفة الحزن فإن الدولتين العباسية والأموية أخذتاهم بالعنف، وعاملتاهم بأقسى مما يعامل الكفرة والملحدون؛ فمن حين إلى حين تحدثان فيهم مجزرة. ولا يكاد يجف منهم دم حتى يسيل دم، وتفننتا في ذلك، فقتلُ وصلب، وإحراق وتذرية، وإماتة بطيئة في السجون بحرمانهم من النور والهواء، والأكل والماء، وكل هذا وأقل منه يستنزف الدمع ويذيب القلب، وكل هذا وأقل منه ينطق الأبكم، فكيف إذا وقعت هذه الأحداث لنفس ثائرة ولسان طلق وبيان جزل. لقد بدأت هذه الأحداث بمجزرة الحسين وآل بيته، فكانت القصائد الباكية، والخطب الرائعة، والأقوال الدامية، صدى للدماء المسفوحة، والجثث المطروحة، وكانت ذكراها تبعث في كل جيل حزنًا، فيبعث الحزن أدبًا وتتابعت الأحداث فتتابع الأدب، فكان لنا من هاتين العاطفتين — الغضب والحزن — أدب حي غزير، فإن ثارت العاطفة الأولى أخرجت أدبًا قويًا ثائرًا، وإن ثارت الثانية أخرجت أدبا حزينًا باكيًا، فاجتمع في أدبهم القوة والضعف، واللين والعنف.
والآن أعرض بشيء من التفصيل لهذا المعنى الإجمالي:
الأدب الشيعي أنواع مختلفة، فمن ذلك نوع صدر من أئمة الشيعة أنفسهم يحتجون فيه على خصومهم؛ وإذا قلت الشيعة في الدولة الأموية فأعني بهم شيعة بني هاشم، سواء كانوا علويين أو عباسيين، لأنهم كانوا في ذلك عصبة واحدة ضد الأمويين، أما إذا قلت الشيعة في العصر العباسي، فأعني بها العلويين وحدهم، لأن خصومهم كانوا العباسيين الذين حالفوهم أيام الأمويين، وخاصموهم أيام دولتهم.
فأئمة الشيعة قد وهبوا لسانًا ناطقًا وقولًا عذبًا، فأُثرت عنهم الخطب الرنانة، والكتب التي تقرب من حد الإعجاز، والأجوبة القصيرة التي جمعت بين إصابة المعنى وإيجاز اللفظ.
وقد عرفت قريش عامة، والهاشميون خاصة، بقوة اللسان، وسحر البيان. قال أبو الحسن: «أسرع الناس جوابًا عند البديهة قريش ثم بقية العرب»، وسئل أيضًا عليّ عن قريش فقال: «أما بنو مخزوم فريحانة قريش، تحب حديث رجالهم (والزواج) في نسائهم؛ وأما بنو عبد شمس (ومنهم بنو أمية) فأبعدها رأيًا، وأمنعها لما وراء ظهورها؛ وأما نحن (يعني بني هاشم) فأبذل لما في أيدينا وأسمح عند الموت بنفوسنا؛ وهم (بنو عبد شمس) أكثر وأمكر وأنكر، ونحن أفصح وأنصح وأصبح».
من أجل هذا أنتج النزاع بين البيتين القرشيين (البيت الهاشمي والبيت الأموي) ثم بين البيتين الهاشميين (العلوي والعباسي) هذا النتاج الباهر.
من أمثلة ذلك ما تجده في نهج البلاغة من كتب بين عليّ ومعاوية، وخطب لعليّ في بيان حقه، وظلم الناس له، ونحو ذلك؛ وهي وإن كان بعضها موضوعًا فبعضها الآخر رواه الثقات — على أن الموضوع منه أيضًا أدب رفيع، في منتهى القوة والبلاغة، وإن شك فيه المؤرخ فلن يشك في قيمته الكبرى الأديب والبليغ، وكل ما يفعله الأديب إذا استعان بالمؤرخ أن ينسبه إلى العصر العباسي لا عصر عليّ، وذلك لا يقلل من قيمته الأدبية.
وتسلسل هذا النوع من الأدب بين أئمة الشيعة وخصومهم، حتى رأينا في مطلع العصر العباسي هذه الكتب القوية التي كانت بين محمد بن عبد الله بن الحسن، وبين أبي جعفر المنصور، وقد نقلنا بعضها قبل، واتخذها كثير من كتب الأدب كالكامل للمبرد مثلًا للأدب الرفيع إلخ.
ونوع آخر من الأدب الشيعي وهو الأدب الحزين، أدب البكاء على القتلى والمصلوبين، أمثال الحسين، وزيد بن عليّ، ومحمد بن عبد الله إلخ. وهذا النوع قد ملئت به كتب التاريخ والأدب، وكانت حادثة الحسين على الأخص مثارًا لقصائد طويلة وقصص خيالية رائعة، في مختلف العصور.
ونوع ثالث، وهو أن هذا النزاع بين الشيعة وخصومهم كون أحزابًا؛ ففي الدولة الأموية حزب هاشمي، وحزب أموي، وفي الدولة العباسية حزب علوي وحزب عباسي، ولم تقتصر الخصومة بين الأحزاب على هذا الجانب المظلم، جانب السيف والدم، بل كان إلى هذا جانب طريف هو جانب الخصومة الأدبية التي كانت نعمة على الأدب.
فكان هناك شعراء للشيعة وشعراء لبني أمية وشعراء للعلويين يقابلهم شعراء للعباسيين، وكان هؤلاء الشعراء يقومون لأحزابهم مقام الصحف للأحزاب اليوم. وفي رأيي أن فضل الشيعة الأدبي لم يقتصر على شعراء حزبهم، بل لهم الفضل كذلك حتى على شعراء خصومهم، فلولا خصومة الشيعة الحادة ما كان شعراء الأمويين والعباسيين بهذه القوة والغزارة، ولا نحصر الشعر في هذا الضرب السخيف، شعر المديح الصرف؛ فكان هذا الذي ذكرت سببًا من أكبر الأسباب في وجود الشعر السياسي، في العصر الأموي والعباسي.
كان للأمويين شعراء سياسيون، وللشيعة كذلك ولسائر الفرق، وابتدأ ذلك من عهد عليّ، فكان لعليّ أبو الأسود الدؤلي، ولمعاوية مِسكين الدارمي ثم لبني أمية أبو العباس الأعمى، وأعشى ربيعة، ونابغة بني شيبان إلخ، وللهاشميين كثير عزة، والكميت، وأيمن بن حريم الأسدي إلخ. وكان شعراء بني أمية أكثر، لأن المال لديهم أوفر، ولهذا مدحهم حتى شعراء الشيعة، وحتى الكميت؛ وكان شعر الشيعة أحر وأقوى، لأن مبعثه الإخلاص غالبًا، فليس لأئمة الشيعة ما يكافئون به كثيرًا.
ولد الكميت أيام مقتل الحسين سنة ٦٠، ومات سنة ١٢٦ في خلافة مروان ابن محمد آخر الخلفاء الأمويين. وكان شاعرًا جزلًا مكثرًا، فقد بلغ شعره نحو ٥٢٨٩ بيتًا، وكان معلمًا في مسجد الكوفة، وكان خبيرًا بأيام العرب، عالمًا بلغاتها وشعرائها، وقف حياته متعصبًا للمصرية على اليمنية، ثم متعصبًا لبني هاشم على الأمويين، إلا فترة قصيرة أحس فيها بالخطر على حياته؛ فاستعمل التقية الشيعية ومدح الأمويين، ولجأ إلى الخليفة هشام بن عبد الملك فمدحه وزعم أنه تاب وأناب فعفا عنه — فلما حضرته الوفاة عاد فأظهر حبه وفتح عينيه ورووا أنه قال: اللهم آل محمد، اللهم آل محمد، اللهم آل محمد.
وفيما عدا هذا المظهر في مدح بني أمية قد استعمل علمه، وطريقة تعليمه ومعرفته الواسعة بالأخبار في مدح بني هاشم عامة، والعلويين خاصة، ودعم مذهبهم بالحجج، وشنَّع على بني أمية أشد تشنيع. ولنسق بعض الأمثلة من قوله — فمن حججه التي استعملها قوله:
يؤلف من ذلك للشيعة حجة فيقول: لو لم يورث النبي ﷺ لكانت الخلافة شائعة في قبائل العرب، ولما كان هناك معنى للقول بأن الخلافة من قريش، فإذا تمسكتم بأن الخلافة من قريش، ودفعتم الأنصار عن الخلافة بهذه الحجة، فلا معنى لتقديم قريش إلا القربى من رسول الله، وإذا كانت القربى هي الحجة فالأقرب أولى، فبنو هاشم أولى من بني أمية، وبنو عليّ أولى بني هاشم.
وهكذا ظل يؤلف الحجج لهم على هذا النمط، ويطعن الأمويين الطعنات النافذة، فيقول في الموازنة بين بني هاشم وبني أمية:
ويقول:
ومثل هذا كثير. ولقد اضطهد من أجل هذا وسجن وعذب فكان يقول:
وكان شعره — من غير شك — وقودًا للثورة، يسير في الناس فيبعث فيهم الحمية والحماسة، ويدفعهم لكره بني أمية وقتالهم، وقتل فقتلت بعده الدولة الأموية بقليل.
•••
فإن نحن وصلنا إلى العصر العباسي، رأينا الشعر السياسي يتلون بالخلاف المذهبي؛ فقد انقسم بنو هاشم إلى علويين وعباسيين، وأخذوا يتحاجون في «الأقربية»؛ يقول العباسيون إنهم ورثة العباس وهو عم، والعم يحجب ابن العم (وهو علي)؛ ويقول العلويون إنهم يرثون ولايتهم عن عليّ، وهو وإن كان ابن عم إلا أن نسله من فاطمة بنت النبي ﷺ كالحسن والحسين وأولادهما أولى، لأن البنت أقرب من العم؛ فأخذ الشعر يصطبغ هذه الصبغة، وينحاز فريق من الشعراء إلى العلويين وفريق إلى العباسيين.
قال القصائد الطويلة في فضائل عليّ، حتى وقف يومًا بالكوفة فقال: «من أتاني بفضيلة لعليّ بن أبي طالب ما قلت فيها شعرًا فله دينار»، حتى الفضائل الخرافية كالذي زعموا أن عليّ بن أبي طالب قام فتطهر للصلاة، ثم نزع خفَّه فانسابت فيه أفعى، فلما عاد ليلبسه انقضت عقاب فأخذت الخف فحلَّقت به، ثم ألقته فخرجت الأفعى منه. ومن خير قصائده في ذلك قصيدته المشهورة:
يقول فيها:
ويقول القصائد الطوال أيضًا في رثاء الحسين كقصيدته:
وقد كان السيد الحميري ينشئ في مدح العلويين ورثائهم، وينظم الأقوال والروايات والأخبار الشائعة التي كانت تقال فيهم، ويحرض المهدي على أن يحرم آل عمر بن الخطاب من العطاء:
ويظهر أنه سلك طريقًا ماكرًا أمن به إيقاع العباسيين وتنكيلهم، فكان يعليّ شأن العلويين ويمدحهم ويذم الصحابة وبني أمية، ثم يعرج على العباسيين فيمدحهم لأنهم من بني هاشم فبلغ ما أراد، ولم ينتقم منه العباسيون، بل نال من جوائزهم.
•••
وجاء بعده دِعبِل الخزاعي، فوقف موقفًا غير موقف السيد الحميري، قد وقف موقف عداء ظاهر للعباسيين، يهجو خلفاءهم أشد هجو وأقذعه، ولم يسلم من لسانه أحد من الخلفاء ولا الوزراء ولا الولاة ولا ذو نباهة، فهجا الرشيد وهجا المأمون وهجا المعتصم؛ ومدح العلويين بقصائد كثيرة، أشهرها تائيته البديعة التي مدح بها عليّ بن موسى بخراسان ومطلعها:
وفيها يقول:
•••
وبكى الحسين في رثاء طويل يقول فيه:
•••
يقابل ذلك كلما كان من الشعر في تأييد وجهة نظر العباسيين والاحتجاج بتفضيل العم، كالذي يقول مخاطبًا الرشيد:
وكالذي يقول:
وكان من أكبر دعاة العباسيين في الشعر مروان بن أبي حفْصة؛ لقد مدح المهدي والرشيد ونال جوائزهما العظيمة، وقال قصيدته المشهورة التي يمدح بها المهدي عندما عقد البيعة لابنه الهادي:
وكان من الأبيات على الشيعة قوله:
وقد غاظهم هذا البيت جدًا حتى لعنوه من أجله، وردوا عليه بقولهم:
ويطول بنا القول لو عددنا شعراء العلويين والعباسيين، وما قاله كلّ في الخلافة واستحقاقها، فنجتزئ بهذا القدر، وهو يكفينا للدلالة على ما كان للشيعة من أثر كبير في الأدب الأموي والعباسي. ولقد ظل هذا النزاع الأدبي على حدته طوال العصور الإسلامية، وفي كل قطر تقريبًا حتى يومنا هذا، وكان له الأثر القوي في الأدبين الفارسي والعربي معًا. وعلى الجملة فلئن شقيت السياسة بهذا النزاع فقد سعد الأدب؛ ولئن أجرى الدماء، وأزهق الأرواح، وخرب الممالك — فقد حرك العواطف، وأسال الأفكار، وأطلق للخيال العنان.
لقد أغنى المعتزلة الأدب من حيث المعاني، وقوة العقل، وسعة الذهن، وتوليد الأفكار العقلية، والنظر إلى الكون وإلى الطبيعة، وإجراء التجارب عليها، ودلالتها على خالقها، وغاصوا على المعاني غوصًا، ونقلوا الأدب من لفظ رشيق، إلى معنى عميق، ومن عبارات مجملة منمقة، إلى موضوعات واسعة مسهبة، وبعد أن كان الأدب خلوًا من الموضوع جعلوا له موضوعًا؛ فمن موضوعه: الحيوان، والبخلاء، والإمام، والقيان، والتجار، والمعلمون، إلى غير ذلك من موضوعات لم تكن في الأدب قبل المعتزلة؛ ووجهوا الذهن وجهات لم تكن قبلهم. كان النثر قبلهم خطبًا ترصف فيه الجمل رصفًا، أو جملًا حكمية، أو أمثالًا سائرة، فجعلوا الأدب كتبًا، كل كتاب يدور حول موضوع اجتماعي أو أدبي، أو رسائل كل رسالة لها نواة تدور الرسالة حولها. وكان الجاحظ مظهر المعتزلة، المحيط بأدبهم، الناشر لآرائهم، المحلي لأفكارهم، يزيد عليها من أفكاره، ويحليها بتعبيراته.
وجاء الشيعة فأغنوا الأدب لا من هذه الناحية العقلية، بل من الناحية السياسية والعاطفية، فظلوا يقولون في الحق وطلبه؛ والإرث وغصبه، ثم يبكون على حق ضاع، ودم أريق، وحرمات انتهكت، وبيوت دمرت، وجثث صلبت وذريت.
فكان لنا من الأدبين جميعًا؛ فكر وعاطفة، وعقل وقلب، وكلاهما لابد منه في الأدب.