الفصل الثاني

الشيعة

عرفنا من الفصل الذي كُتب عن الشيعة في «فجر الإسلام» أن التشيع أساسه الاعتقاد بأن «عليًا» وذريته أحق الناس بالخلافة، وأن عليًا كان أحق بها من أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عهد له بها من بعده، وكان كل إمام يعهد بها لمن بعده: فأهم خلاف بين الشيعة وغيرهم مسألة «الخلافة» لمِن تكون. وإذ كان الخليفة يجمع في يديه الشئون الدينية والشئون السياسية؛ كان الخلاف بين الشيعة وغيرهم خلافًا دينيًا وسياسيًا، وإن كان الخلاف السياسي مصبوغًا أيضًا بصبغة الدين. وإذ كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على خلافة عليّ في رأيهم، وكان عليّ قد عهد بها لمن بعده، وهكذا؛ فأبو بكر، وعمر، وعثمان، أخذوا حقه، والخلفاء الأمويون والعباسيون معتدون غاصبون للخلافة، والواجب على شيعة عليّ ردّ الحق لصاحبه، والعمل سرًا وجهرًا على أن يتولى الأمر أهله.

وكان يعارض هذا الرأي رأي آخر كان يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على من يخلفه، وترك الأمر للناس يرون ما يصلح لهم ومن يصلح لهم، فكل ما يتطلبه النبي أن يحافَظَ على الدين، وَتُرْعَى تعاليمه ومبادئه، وليختر الناس بعدُ من يرون أنه أقدر على حمل هذا العبء والقيام بتكاليفه. ثم مِن هؤلاء مَن رأوا أن تكون دائرة الاختيار محصورة في قريش، لأن العرب أطوع للقرشيين، ولأن الخليفة ينبغي أن يكون ذا عصبية تشد أزره وتحمي ظهره، ولا قبيلة في العرب أعز من قريش؛ ومن هؤلاء من أدعم نظريته بحديث: «الأئمة من قريش»؛ ومنهم من رأى أن دائرة الانتخاب لا تقتصر على قريش، بل تعم المسلمين كلهم، ولو كان عبدًا حبشيًا متى توافرت فيه شروط الإمامة. وعلى هذا الرأي الأخير أكثر الخوارج.

وقد بدأ التشيع من فرقة من الصحابة كانوا مخلصين في حبهم لعلي، يرونه أحق بالخلافة لصفات رأوها فيه؛ من أشهرهم سلمان الفارسي، وأبو ذر الغِفارِي، والمقْداد بن الأسود. وتكاثرت شيعته لما نقم الناس على عثمان في السنوات الأخيرة من خلافته، ثم لما ولي الخلافة.

وكان حزب الشيعة ككل حزب، ينضم إليه المخلص لمبادئه، ومن يرى المنفعة فيه — فتشيع قوم إيمانًا بأحقية عليّ للخلافة وولده، وتشيع قوم كرهوا الحكم الأموي ثم العباسي، لأنهم ظلموا منه، أو أن قومًا من قبائل العرب تعصبوا للأمويين، فكان العداء القبلي يتطلب أن يكون خصومهم في الجانب الآخر؛ وتشيع كثير من الموالي، لأنهم رأوا الحكم الأموي حكمًا مصبوغًا بالأرستقراطية العربية، وأن الأمويين لم يعاملوهم معاملتهم للعرب، ولم يعدلوا بينهم، فاضطروا بحكم الطبيعة البشرية أن يؤيدوا — ولو سرًا — من عاداهم، ولا أعدى لهم من الشيعة؛ وتشيع قوم من الفرس خاصة، لأنهم مرنوا أيام الحكم الفارسي على تعظيم البيت المالك وتقديسه، وأن دم الملوك ليس من جنس دم الشعب؛ فلما دخلوا في الإسلام نظروا إلى النبي نظرة كسَرويَّة، ونظروا إلى أهل بيته نظرتهم إلى البيت المالك، فإذا مات النبي فأحق الناس بالخلافة أهل بيته. وهكذا اعتنق التشيع طوائف مختلفة لأسباب مختلفة، بل اعتنقه أيضًا قوم أسوأ من هؤلاء، قوم أرادوا الانتقام من الإسلام فتظاهروا بالغلو فيه خديعة ومكرًا، ومن ضروب الغلو، الغلو في التشيع. وهذا أمر طبيعي في كل حزب، ففيه دائمًا المخلص والمدلس، ومن يعتقده دينًا، ومن يراه جلبًا لمصلحة وتحقيقًا لغاية.

وقد انقسم الشيعة إلى فرق عدة، وأساس الاختلاف بينها شيئان:

  • (١)

    اختلاف في المبادئ والتعاليم: فمنهم المغالي المتطرف في التشيع الذي يسبغ على الأئمة نوعًا من التقديس، ويبالغ في الطعن على من خالف عليًا وحزبه إلى درجة الكفر؛ ومنهم المعتدل المتزن الذي يرى أحقية الأئمة في اعتدال، وخطأ من خالفهم خطأ لا يبلغ الكفر.

  • (٢)

    الاختلاف في تعيين الأئمة؛ فقد أعقب عليّ وأبناؤه كثيرين، واختلف الشيعة فيما بينهم على الأئمة من ذرية عليّ؛ فمنهم من يقول هذا، ومنهم من يقول ذاك، فكان ذلك أيضًا من أسباب الاختلاف. ولعل من الخير أن نقدم للقارئ هذه الشجرة. لنبين بها تسلسل الأئمة في وضوح وجلاء:

figure

وقد انفض كثير من الفرق، وكانت قليلة الأهمية في تعاليمها وتاريخها، فلنقصر الآن على مذهبين كبيرين باقيين إلى اليوم وهما: الإمامية والزيدية، ولننهج في بحثنا منهجنا في الكلام على الاعتزال، فلنبدأ بتعاليمهم ونثّني بمشاهير رجالهم وتاريخهم السياسي.

الإمامية

سموا بهذا الاسم نسبة إلى الإمام (الخليفة) لأنهم أكثروا من الاهتمام به وركزوا كثيرًا من تعاليمهم حوله، فكانوا يرون أن عليًا يستحق الخلافة بعد النبي لا من طريق الكفاية وحدها، ولا من طريق ما ورد عن النبي من أوصاف لا تنطبق إلا عليه، بل من طريق النص عليه بالاسم، ثم يرون أن الأئمة هم عليّ وأبناؤه من فاطمة، على التعيين واحدًا بعد واحد، وأن معرفة الإمام وتعيينه أصل من أصول الإيمان؛ وإذا كان عليّ معينًا بالاسم من النبي فأبو بكر وعمر مغتصبان ظالمان يجب التبرؤ منهما. على حين أن الزيدية أقل منهم تشددًا في ذلك، فإن النبي عندهم عيَّنه بالوصف لا بالشخص ولذلك لا يتبرأون من أبي بكر وعمر ولا يغمطونهما حقهما، بل يرون أن خلافتهما صحيحة وإن كان عليّ أفضل منهما، لأن إمامة المفضول جائزة مع وجود الأفضل.

وأهم فرق الإمامية «الاثنا عشرية»، وسميت بذلك لأنها تقول باثني عشر إمامًا على الترتيب الذي تراه في الشجرة. فأولهم الإمام عليّ ثم ابنه الحسن ثم الحسين إلى الثاني عشر وهو محمد المهدي الذي اختفى نحو سنة ٢٦٠، وسيعود في آخر الزمان فيملأ الأرض عدلًا. وقد كانت الأسرة الصفوية التي حكمت فارس وغيرها من سنة ٩٠٧–سنة ١١٤٨هـ. من هذه الطائفة الإمامية الأثنى عشرية، واتخذت التشيع وخصوصًا الأثنى عشرية مذهب الدولة الرسمي، ولا يزال ذلك إلى الآن.١ ومن الإمامية من قال: إن الإمامة انتقلت بعد جعفر الصادق وهو الإمام السادس إلى إسماعيل ابنه لا إلى موسى الكاظم، ومن أجل هذا يسمّون الإسماعيلية، وقالوا بعد إسماعيل أتت أئمة مستورة، لأن الإمام يجوز له أن يستتر إذا لم تكن له شوكة وقوة يظهر بها على أعدائه، وإنما يظهر دعاته. وظل هؤلاء الأئمة يتداولون الإمامة واحدًا بعد واحد في ستر وخفاء إلى أن جاء عبيد الله المهدي رأس الدولة الفاطمية، فأظهر الدعوة لما أحس القوة، ومن أجل هذا يسمون أيضًا بالباطنية، لأنهم يقولون بالإمام الباطن أي المستور:٢ وقال بعضهم: إنما سموا الباطنية لقولهم بأن لكل ظاهر باطنًا ولكل تنزيل تأويلًا. ولا يزال في الهند إلى الآن طائفة كبيرة من الإسماعيلية.
وأهم مسألة يدور عليها كلام الإمامية مسألة الإمام؛ فهي مركز بحوثهم وهي الملوّن لعقيدتهم، وأكثر المسائل الفرعية ترجع إليها، وأهم ما يدور من الخلاف بينهم وبين أهل السنة إنما يدور حولها؛ فلنشرح نظرهم فيها، ونعقب عليه برأينا، وسنعتمد في شرح وجهة نظرهم على كتبهم، فذلك أنصف لهم، فننقل خلاصة ما ورد عن «الإمام» في كتاب الكافي للكُليني،٣ فهو من أوثق كتبهم، فالإمام عند الشيعة له صلة روحية الله من جنس التي للأنبياء والرسل «كتب الحسن بن العباس المعروفي إلى الرضا: جعلت فداك. أخبرني ما الفرق بين الرسول والإمام والنبي؟ فكتب أو قال: الفرق بين الرسول والنبي والإمام أن الرسول هو الذي ينزل عليه جبريل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي، وربما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم؛ والنبي ربما سمع الكلام، وربما رأى الشخص ولم يسمع؛ والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص».٤ فالإمام بهذا النص يوحي إليه، وإن اختلف طريق الوحي عن النبي والرسول، «والله عز وجل أعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل، إن زاد المؤمنون شيئًا ردهم، وإن نقصوا شيئًا أتمه لهم، وهو حجة على عباده، ولا تبقى الأرض بغير إمام، حجة لله على عبادة، ولو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة وكان هو الإمام». والإيمان بالإمام جزء من الإيمان، «عن أبي حمزة قال لي أبو جعفر: إنما يعبد الله من يعرف الله، فأما من لا يعرف الله فإنما يعبده هكذا ضَلَالا: قلت: جُعِلْت فداك، فما معرفة الله؟ قال: تصديق الله عز وجل، وتصديق رسوله، وموالاة عليّ الائتمام به وبأئمة الهدى عليهم السلام، والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم. هكذا يُعرَفُ الله»،٥ «ومن لا يعرف الله عز وجل ويعرف الإمام منا أهل البيت فإنما يعرف ويعبد غير الله».٦ «وقال أبو جعفر: إن من أصبح من هذه الأمة لا إمام له، أصبح ضالًا تائهًا، وإن مات على هذه الحال مات ميتة كفر ونفاق».٧ ويقول الله تعالى: وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، النور الإمام يأتم به، ويقول الله تعالى: مَن جَاءَ بِالْحَسَنةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ، وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ، الحسنة معرفة الولاية وحبنا أهل البيت، والسيئة إنكار الولاية وبغضنا أهل البيت٨ وقال الرضا: «الناس عبيد لنا في الطاعة موال لنا في الدين، فليبلِّغ الشاهد الغائب».٩ والأئمة هم الهداة الذين قال الله فيهم: ولكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ، وهم ولاة الله وخزنة علمه. قال أبو جعفر: «نحن خزان علم الله، ونحن تراجمة وحي الله، نحن الحجة البالغة على من دون السماء، ومن فوق الأرض».١٠ والأئمة نور الله الذي قال فيه تعالى: فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا، ونور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار، ويحجب الله نورهم عمن يشاء فتُظلم قلوبهم.١١
والأئمة هم أركان الأرض أن تميد بأهلها وحجته البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثري.١٢ وقال الرضا: «إن الإمامة هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء؛ إن الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول ومقام أمير المؤمنين، وميراث الحسن والحسين؛ إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعز المؤمنين؛ إن الإمامة أس الإسلام النامي، وفرعه السامي؛ بالإمامة تمام الصلاة والزكاة، والصيام والحج، والجهاد وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف؛ الإمام يُحل حلال الله، ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذب عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربه، بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة؛ الإمام كالشمس الطالعة المجللة بنورها العالم، وهي في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار؛ الإمام البدر المنير، والسراج الظاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدجى، وأجواز البلدان القفار، ولجج البحار؛ الإمام الماء العذاب على الظمأ، والدال على الهدى، والمنجي من الرديء … الإمام المطهر من الذنوب والمبرأ من العيوب، المخصوص بالعلم، الموسوم بالحلم، نظام الدين وعز المسلمين، وغيظ المنافقين وبوار الكافرين؛ الإمام واحدُ دهره، لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدل، ولا له مثل ولا نظير، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب، بل اختصاص من المُفْضِلِ الوهاب؛ فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختياره؟ هيهات هيهات، ضلت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب … وكلّت الشعراء، وعجزت الأدباء، وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه، أو فضيلة من فضائله، وأقرت بالعجز والتقصير، وكيف يوصف بكلّه، أو ينعت بكنهه، أو يفهم شيء من أمره، أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه، وهو بحيث النجم من يد المتناولين، ووصف الواصفين … ولقد راموا صعبًا وقالوا إفكًا، إذ تركوا أهل بيته عن بصيرة … ورغبوا عن اختيار الله ورسوله إلى اختيارهم، والقرآن يناديهم: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ويَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ … فكيف لهم باختيار الإمام؟ عالم لا يجهل، وداع لا ينكل، معدن القدس والطهارة، والنسك والزهادة، والعلم والعبادة، مخصوص بدعوة الرسول، ونسل المطهرة البتول … إن العبد إذا اختاره الله لأمور عباده شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهامًا، فلم يعي بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيد، موفق مسدد، قد أمن من الخطأ والزلل والعصار، يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده، وشاهِده على خلقه. وذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم.١٣
وأعمال الناس ستعرض على النبي والأئمة، قال الله تعالى: فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ. قال أبو عبد الله: المؤمنون هم الأئمة؛ وقال أبو عبد الله أيضًا. «نحن شجرة النبوة، وبيت الرحمة، ومفاتيح الحكمة، ومعدن العلم، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، وموضع سر الله، ونحن وديعة الله في عباده، ونحن حرم الله الأكبر، ونحن ذمة الله، ونحن عهد الله؛ فمن وفى بعهدنا فقد وفى بعهد الله، ومن خفرها فقد خفر ذمة الله وعهده».١٤ وعند الأئمة جميع الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل، وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها١٥وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ. ثم أورث الله الأئمة ذلك الكتاب الذي فيه تبيان كل شيء،١٦ وأنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة، وأنهم يعلمون علمه كله؛ وقد كذب من ادعى من الناس أنه جمع القرآن كله، فما جمعه وحفظه كما نزّله الله إلا عليّ بن أبي طالب والأئمة من بعده.١٧ وعند الأئمة اسم الله الأعظم؛١٨ وعندهم الجَفْر وهو وعاء من آدم فيه علم النبيين والوصيين، وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل، وعندهم مصحف فاطمة، وفيه مثل قرآننا ثلاث مرات، وليس فيه من قرآننا حرف واحد.١٩ وقال أبو جعفر: «إن لله عز وجل علمين. علم لا يعلمه إلا هو، وعلم علمه ملائكته ورسله، فما علمه ملائكته ورسله فنحن نعلمه».٢٠ والأئمة إذا شاءوا أن يعلموا شيئًا أعلمهم الله إياه، وهم يعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلا باختيارهم،٢١ وهم يعلمون علم ما كان وما يكون، وأنه لا يخفى عليهم شيء؛٢٢ والله تعالى لم يعلِّم نبيه علمًا إلا أمره أن يعلمه عليًّا أمير المؤمنين، وأنه كان شريكه في العلم،٢٣ ثم انتهى هذا العلم إلى الأئمة، ولو كان لألسنة الناس أَوْكية لحدثتهم الأئمة بما لهم وما عليهم،٢٤ والله أمر بطاعتهم ونهى عن معصيتهم، وهم بمنزلة رسول الله إلا أنهم ليسوا بأنبياء، ولا يحل لهم من النساء ما يحل للأنبياء، فأما ما خلا ذلك فهم بمنزلة رسول الله،٢٥ وكان مع رسول الله روح أعظم من جبريل وميكائيل، وهذا الروح مع الأئمة،٢٦ وكل إمام يؤدي إلى الإمام الذي بعده الكتب والعلم والسلاح.٢٧ والأئمة لم يفعلوا شيئًا ولا يفعلونه إلا بعهد من الله عز وجل، وأمر منه لا يتجاوزونه،٢٨ والإمام لا يلهو ولا يلعب، ولا يستطيع أحد أن يطعن عليه في فم ولا بطن ولا فرج.٢٩ والله ورسوله نصَّا على الأئمة واحدًا فواحدًا، فالله تعالى يقول: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ، وقد نزلت في عليّ والحسن والحسين، وقال رسول الله: من كنت مولاه فعليّ مولاه.٣٠ وكان كل إمام يعهد إلى الذي يليه، ويترك له كتابًا ملفوفًا ووصية ظاهرة، وفي هذا الكتاب ما يحتاج إليه ولد آدم منذ خلق الله آدم إلى أن تفنى الدنيا، وللإمام غيبة «وإذا بلغكم عن صاحب هذا الأمر غيبة فلا تنكروها»، وللإمام الثاني عشر غيبة، وهو المهدي الذي يملأ الأرض عدلًا وقسطًا كما ملئت جورًا وظلمًا، قال تعالى: فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ، قال أبو جعفر: «الخنس: إمام يخنس في زمانه … ثم يبدو كالشهاب الواقد في ظلمة الليل».٣١
وقال أبو عبد الله: من ادعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر.٣٢ وقال أبو جعفر: كل من دان الله بعباده يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول، وهو ضال متحير، والله شانئ لأعماله.٣٣ وقال أيضًا، قال الله تبارك وتعالى: لأعذبن كل رعية في الإسلام دانت بولاية كل إمام جائر ليس من الله، وإن كانت الرعية في أعمالها برة تقية، ولأعفون عن كل رعية في الإسلام دانت بولاية كل إمام عادل من الله، وإن كانت الرعية في أنفسها ظالمة مسيئة.٣٤
والإمام إذا مات لا يغسله إلا إمام. وقال أبو عبد الله: إن الله جل وعز إذا أراد أن يخلق الإمام من الإمام بعث ملكًا فأخذ شربة من تحت العرش ودفعها إلى الإمام فشربها فيمكث في الرحم أربعين يومًا لا يسمع الكلام … فإذا وضعته أمه بعث الله إليه ذلك الملك الذي أخذ الشربة فكتب على عضده الأيمن «وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلًا لا مبدّل لكلماته»، فإذا قام بهذا الأمر رفع الله له في كل بلدة منارًا ينظر به إلى أعمال العباد.٣٥
والملائكة تدخل بيوت الأئمة وتطأ بُسٌطهم وتأتيهم بالأخبار،٣٦ وليس من الحق في أيدي الناس إلا ما خرج من عند الأئمة، وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل.٣٧
والأرض كلها للإمام، قال تعالى: إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيَن، وأهل البيت هم الذين أورثهم الله الأرض وهم المتقون. وفي كل من الغنائم والغوص والكنوز والمعادن والملاحة الخُمس، قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ولِذِي الْقُرْبىَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وللإمام نصف هذا الخُمس؛ لأن الخُمس يقسم على ستة أسهم: سهم لله، وسهم للرسول، وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل، فما لله ولرسوله ولذي القربى للإمام،٣٨ فللإمام العشر من كل ما ذكرناه، والعشر الآخر ليتامى أهل البيت وحدهم ومساكينهم وأبناء السبيل منهم، فالخُمس كله لأهل البيت، نصفه للإمام ونصفه لمن ذكرنا من أهل البيت. «وإنما جعل الله هذا الخُمس خاصة لهم دون مساكين الناس وأبناء سبيلهم عوضًا عن صدقات الناس، وتنزيهًا من الله لهم لقرابتهم برسول الله وكرامة من الله لهم من أوساخ الناس»؛٣٩ وأما ما أخذ من غير أن يوجف عليه بخيل ولا ركاب فهي الأنفال، وهي لله ولرسوله خاصة، فتؤول للإمام وحده؛ وكذلك الآجام والمعادن والبحار والمفاوز، فهي للإمام خاصة، فإن عمل فيها قوم بإذن الإمام فلهم أربعة أخماس وللإمام الخُمس، وتجري على الخُمس الأحكام التي ذكرنا قبل.٤٠

•••

هذه خلاصة نظر الشيعة إلى الإمام مستمدة من أوثق كتبهم، ومعتمدة على ما روي من أقوال الأئمة أنفسهم مجردة من الشروح والحواشي، فهم بهذا النظر يسبغون على الإمام نوعًا من التقديس، فهو يتلقى علمه من الله عن طريق الوحي، ويُعده الله إعدادًا خاصًا من حين أن يكون نطفة، ويحفظه برعايته السامية، ويعصمه من الذنوب، ويورثه علم الأنبياء والمرسلين، ويطلعه على كل ما كان وما سيكون. وكان النبي يعلم علمًا علمه الناس، وعلمًا آثر به عليًّا، وعليّ آثر به وصيّه، وهكذا إلى المهدي الثاني عشر. والإمام ظل الله في أرضه، ونور الله في أرضه، والوسيلة الوحيدة لمعرفة الحق والباطل إلخ، والاعتقاد بذلك جزء من الإيمان، كالإيمان بالله ورسوله لا تنفع أعمال الإنسان إلا به، بل إن عصيان المؤمن قد يخففه أو يمحوه الإيمان بالإمام.

وهم بهذا يختلفون اختلافًا كبيرًا عن «أهل السنة» ونظرهم إلى الخليفة، فالخليفة عند «أهل السنة» إنسان ككل الناس، وُلد كما يولد الناس، وتعلم أو جهل كما يتعلم الناس أو كما يجهل الناس؛ ليس له من مزية إلا أن كفايته وأخلاقه جعلت الناس يختارونه، أو أنه تلقى الخلافة ممن قبله، ليس يتلقى وحيًا وليس له سلطة روحية، إنما هو منفذ للقانون الإسلامي، وقد ينحرف عن التنفيذ فلا طاعة له على الناس، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ وليس له أن يشرّع إلا في حدود القوانين الإسلامية وإلا فتشريعه باطل، ثم قد يجور وقد يعدل، وقد يتهتك ويشرب الخمر فيكون عاصيًا؛ والمؤرخون أحرار في تشريحه كتشريح كل الناس، ويزنونه بنفس الموازين التي توزن بها أعمال الناس، وإن انحرف واستطاعوا عزله عزلوه.

أما الإمام في نظر الشيعة ففوق أن يحكم عليه، وهو فوق الناس في طينته وتصرفاته، وهو مشرّع وهو منفذ، ولا يُسأَل عما يفعل، والخير والشر يقاس به، فما عمله فهو خير، وما نهى عنه فشر، وهو قائد روحي، وله سلطة روحية تفوق حتى سلطة البابا في الكنيسة الكاثوليكية؛ فالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج لا تنفع إلا بالإيمان به، كما لا تنفع أعمال الكافر من غير إيمان بالله ورسوله.

وظاهر أن عقيدة الشيعة على هذا المنوال تشل العقل، وتميت الفكر، وتعطي للخليفة أو الإمام سلطة لا حد لها، فيعمل ما يشاء، وليس لأحد أن يعترض عليه، ولا لثائر أن يثور في وجهه ويدعي الظلم، لأن العدل هو ما فعله الإمام. وهي أبعد ما تكون عن الديمقراطية الصحيحة التي تجعل الحكم للشعب في مصلحة الشعب، وتزن التصرفات بميزان العقل، ولا تجعل الخليفة والإمام والملك إلا خادمًا للشعب، فيوم لا يخدمهم لا يستحق البقاء في الحكم.

حُكم الإمام في نظر الشيعة حكم ديني معصوم، وفي هذا إفناء لعقليتهم، وتسليم مطلق لتصرفات أئمتهم؛ وأين هذا النظر من النظر المستند إلى الطبيعة، وهو أن الله لم يخلق فرعًا أو أسرة من الناس تمتاز كلها — متسلسلة — بامتياز لا حد له، وفوق مستوى كل الناس في العقل والدين والحكم والتصرف. إن المشاهد والمعقول أن كل أسرة فيها الطالح والصالح والذكي والغبي، وكلنا أولاد آدم، وفينا أصلح الناس وأفسد الناس؛ وولدا آدم لصلبه قال فيهما الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآَخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وابن نوح قال الله فيه: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ؛ وقال الله: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوُّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ؛ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ؛ ورسول الله يقول لابنته فاطمة — وهو يعظها —: (يا فاطمة! اعملي فلن أُغني عنك من الله شيئًا).

فهذه الآيات كلها تدل على أن القرابة والنسب لا مدخل لهما في تقويم الأشخاص، وليس الصلاح والتقوى والعلم تورث كما يورث المال، إنما هي أمور خاضعة لقوانين أخرى غير قانون الإرث المالي. ومن مزايا الإسلام العظيمة تقريره أن الإنسان يوزن بأعماله لا بآبائه ولا بجاهه ولا بماله: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، وقد كان من الموالي من هو أقرب لرسول الله من بعض القرشيين. فدعوى أن الإمامة إرث وأن الإمام معصوم، وأن الإيمان بالإمام يَجُبّ المعاصي، قلب لنظام الإسلام وهدم لأهم مبادئه.

وقد كان عمر يخطئ وأبو بكر يخطئ وعليّ يخطئ؛ ولو كان لعليّ كل هذا الذي يدّعونه للإمام من عصمة وعلم ببواطن الأمور وخفاياها ونتائجها لتغير وجه التاريخ، ولما قبل التحكيم، ولدبّر الحروب خيرًا مما دبّر؛ فإن ادعوا أنه علم وسكت وتصرف وفق القدر، فهو خاضع للظروف خضوع الناس، تتصرف فيه حوادث الزمان كما تتصرف في الناس؛ خاضع للحكم عليه بالخطأ والصواب خضوع الناس؛ والنبي نفسه يقول وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ.

الحق أن هذه أوهام جرت على الناس البلاء، وجعلتهم يذلون ويخضعون خضوعًا مطلقًا للظلم والفساد، ويرضون به، ولا يرفعون صوتهم بالنقد، بل ولا يقومون بأضعف الإيمان وهو الاستنكار بالقلب.

وهذا النظر الشيعي إلى الإمام يلقى على تاريخ الفاطميين وعلى كل الدول الشيعية ضوءًا قويًا، فنعرف السرّ لِمَ كان يخضع الناس للخلفاء، وكيف ينظرون إليهم نظر تقديس، وكيف كانت تقابل أعمالهم مهما جارت وظلمت بالقبول والاستحسان.

إن شئت فاستعرض ديوان ابن هانئ الأندلسي المغربي الشيعي تر العجب العجاب، فاستمع مثلًا لما يقوله في مدح المعز لدين الله الفاطمي:

ما شِئْتَ لا ما شاءت الأقدارُ
فاحكم فأنتَ الواحد القهَّارُ
وكأنما أنت النبيُّ محمدُ
وكأنما أنصارُك الأنصارُ
أنت الذي كانَتْ تُبَشِّرُنا بِهِ
في كتْبِهاَ الأحبارُ والأخبارُ
هذا إمامُ المتقين ومَنْ بِه
قد دُوِّخ الطُّغيان والكُفَّارُ
هذا الذي تُرْجَى النجاة بحبّه
وبه يُحطُّ الإصْرُ والأوْزَارُ
هذا الذي تُجْدِي شفاعته غدا
حقَّا وتخمد أن تراهُ النارُ
من آل أحمدَ كلُّ فخر لم يكن
يُنْمى إليهم ليس فيه فخارُ
كالبدر تحت غمامة من قَسْطَلٍ
صَحْيَان لا يخفيه عَنك سِرار

وفيها يقول:

أبناءَ فاطِمَ! هل لَنَا في حَشْرنا
لجَأٌ سِوَاكُم عَاصمٌ وَمُجارُ
أنتم أحباء الإلهِ وَآلُهُ
خلفاؤه في أرضه الأبرار
أهل النبوة والرسالة والهُدَى
في البيِّنات وسادُة أطهار
والوحي والتأويل والتحريم
والتحليل لا خُلْفُ ولا إنكار
إن قيل مَن خيرُ البرية لم يكن
إلاّ كُم خَلقٌ إليه يُشارُ
لو تَلْمَسُون الصخرَ لا نبجست به
وَتَفَجَّرَت وتدفقت أنهار
أو كان منكم للرُّفات مخاطِب
لبَّوا وَظَنوا أنه إنشار

وفيها يقول:

شرُفت بك الآفاق وانقسمت بك ال
أرزاق والآجال والأعمار
عَطِرت بك الأفواه إذ عذبتُ لك الأم
واه حين صفت لك الأكدارُ
جلَّتْ صِفاتك أن تُحَدَّ بِمَقولٍ
ما يصنع المصداق والمكثار
والله خصك بالقرَان وفضله
واخجلتي! ما تبلغ الأشعار

ويقول في طاعة الإمام:

فرضان من صومٍ وشكرِ خِلاَفّةٍ
هذا بهذا عندنا مَقرُون
فارزق عبادَكَ منك َفَضْلَ شفاعة
واقْرُبْ بهم زُلفى فأنت مكينُ
لك حَمْدنُا لا أنه لك مَفخرٌ
ما قدرُكَ المنثورُ والموزُونُ
قد قال فيكَ الله ما أنا قائلٌ
فكأنَّ كل قصيدةٍ تَضمينُ

ويقول في أن الإمام من نور الله:

وما سار في الأرض العريضة ذكُره
ولكنه في مسلك الشمس سالكُ
وما كْنهُ هذا النور نور جبينه
ولكنّ نورَ الله فيه مشاَرك

ويقول:

لي صارمٌ وهو شيعيّ كحامله
يكاد بسبقُ كرّاتي إلى البطلِ
إذا المُعزُّ معزُّ الدين سَلَّطه
لم يرتقبْ بالمنايا مدة الأجلِ

كما يلقى ضوءًا على فهم ما يقوم به شيعة الإسماعيلية نحو «السِّير» محمد شاه ابن أغا عليّ المعروف بأغاخان (وهو من نسل الحسن بن الصَّبَّاح صاحب قلعة الموت، والحسن هذا من نسل عليّ بن أبي طالب)، وهو في منتهى الغنى ومعروف في الأوساط الأرستقراطية الأوروبية، وله خيل سباق تشترك في أشهر الحفلات، ويعيش عيشة بذخ وترف، ومع هذا يجبي إليه الإسماعيلية عشر أموالهم، وينظرون إليه نظرة تقديس.

إن شئت نظرًا معتدلًا هادئًا فوازن بين قوم يرون أن إمامهم أحد الناس يجري عليه ما يجري عليهم، ويخطئ كما يخطئون، ويصيب كما يصيبون، فإذا أخطأ نقد، وإذا أصر على الخطأ عُزل، وهو ليس إلا خادمًا للأمة، فإذا لم يؤد الخدمة نُحِّيَّ؛ وبين قوم يرون أن إمامهم معصوم لا يأتي بخطأ، ويجب أن تحوّر العقول ويقلب وضعها في الرؤوس حتى تفهم أن ما يأتي الإمام به عدل كائنًا ما كان.

وانظر كيف يسعد الأولون، وكيف تتحرر عقولهم، وكيف يخشاهم إمامهم، وكيف يسعون دائمًا نحو الكمال بما يثيرون من نقد وما يعالجون من إصلاح، وكيف يفسد أمر الآخرين، وتشل عقولهم، ويتدهورون في شئونهم.

إني أرى رأيًا لا تحيز فيه أن نظر أهل السنة إلى الخلافة كان أعدل وأقوم وأقرب إلى العقل، وإن كانوا يؤاخذون مؤاخذة شديدة على أنهم لم يطبقوا نظريتهم تطبيقًا جريئًا؛ فلم ينقدوا الأئمة نقدًا صريحًا، ولم يقفوا في وجوههم إذا ظَلموا، ولم يقوموهم إذا جاروا، ولم يضعوا الأحكام الحاسمة في موقف الخليفة من الأمة، وموقف الأمة من الخليفة، بل استسلموا لهم استسلامًا معيبًا، فجنوا بذلك على الأمة أكبر جناية، ولكنهم كانوا أحسن حالًا من الشيعة؛ فهناك من مؤرِّخيهم من دونوا تاريخ الخلفاء في الأمانة، وصوروهم كما يعتقدون، وعابوا بعض تصرفاتهم؛ ومن المشرعين من وضعوا الأحكام السلطانية يبينون فيها ما يجب للإمام، وما يجب للأمة؛ إلى غير ذلك. وعلى كل حال فنحن الآن نوازن بين النظريتين، ونقارن بين الوجهتين.

وأظن أن الزمن الذي أفهم الناس حقوقهم وواجباتهم، وحررهم مما يشل تفكيرهم يعدل بإخواننا الشيعة عن هذا النظر في الأئمة الذي لا يصلح إلا لأن يدون في التاريخ — على أنهم في حياتهم العملية سائرون على هذه الطريقة فعلًا من إدخال الإصلاحات الاجتماعية والمجالس النيابية، ومشايعة المدنية الغربية — وهذا لا يتفق ونظرية الإمامة، وترقب المهدي المنتظر؛ وليس من العدل أن تكون أفكار رجال الدين في جانب، والحياة الواقعية من جانب، فمهمتهم أكبر من أن يلقنوا تعاليم الإمامة نظريًا وتلقينها كذلك؛ إنما مهمتهم مواجهة الواقع، وإصلاح ما فيه من خطأ إن كان.

•••

ولنعد بعد إلى موقفنا في شرح تعاليم الشيعة.

من أهم تعاليمهم التي تتصل بالخلافة أو الإمامة مسائل أربع هي: العصمة، والمهدية، والتقية، والرجعة؛ وهي كلمات كثيرة الدوران في المذهب الشيعي.

فأما العصمة فيقصدون منها أن الأئمة — كالأنبياء — معصومون في كل حياتهم، ولا يرتكبون صغيرة ولا كبيرة، ولا تصدر عنهم أية معصية، ولا يجوز عليها خطأ ولا نسيان. ونظر الشيعة في ذلك وحججهم نلخصها فيما يأتي:

  • (١)

    قالوا إن الذي دعا إلى نصب الإمام هو جواز الخطأ من الأمة، فإذا جاز الخطأ أيضًا من الإمام لاحتجنا إلى هاد آخر، وهو مثله، فيلزم من ذلك التسلسل.

    ورد عليهم خصومهم بأن الحاجة إلى الإمام ليست هي جواز الخطأ من الأمة؛ بل وظيفته تنفيذ الأحكام ودرء المفاسد، وحفظ بيضة الإسلام، ولا حاجة في ذلك إلى العصمة، بل يكفي الاجتهاد والعدالة.

  • (٢)

    واستدلوا أيضًا بأنه حافظ للشريعة، فيلزم أن يكون معصومًا حتى يؤمن على حفظها، وإلا احتاج إلى حافظ آخر.

    وكان جواب خصومهم أن الإمام ليس هو الحافظ وإنما هو المنفذ، وحافظ الشريعة هم العلماء لقوله تعالى: وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ وَكَاُنوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ؛ وقوله تعالى: كُوُنوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ — ولو كان وجود المعصوم ضروريًا لوجب أن يكون في كل قطر بل في كل بلدة؛ إذ الواحد لا يكفي للجميع لانتشار المكلفين في الأقطار — ونصب نائب عنه لا يفيد لأن النائب غير معصوم.

ومما ردوا به عليهم أيضًا ما روي عن عليّ في «الكافي» أنه قال لأصحابه: «لا تَكفُّوا عن مقالةٍ بحق، أو مشورة بعدل، فإني لست آمن أن أخطئ»، وما روي أن الحسين كان يظهر الكراهة من صلح أخيه الحسن مع معاوية ويقول: «لو جُزَّ أنفي كان أحب إلَّي مما فعله أخي»، إلى آخر ما قالوا.

وهذه العقيدة بعصمة الأئمة غريبة حقًا على الإسلام، فلم نعرف هذا الموضوع أثير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا صدر الإسلام، بل ولا نعرف وصف العصمة أسند إلى الأنبياء في هذا العصر، وروح القرآن الكريم لا يفهم منها دعوى العصمة لأحد من الناس، وفي القرآن: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى: وموسى وَكزَ الرجل فقتله: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ، وقال: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي؛ وفي القرآن قصة سليمان: إذْ عُرضَ عَلَيْه بالعَشيِّ الصَّافِنَات الجِيَادُ، فقَالَ إني أحْبَبْتُ حُبَّ الخيرِ عَنْ ذِكْر رَبيِّ حَتىّ تَوَارتْ بالحِجَابِ، ويونس: إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ونبينا يقول الله له: وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ويقول له: وَتَخْشَى النَّاسَ واللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ، ويقول له: عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ، وعاتبه بقوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الأعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى؛ ويعترف القرآن للنبي بذنوب غفرها الله له: لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمًا تَأَخَّرَ، لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ؛ ويؤكد رسول الله في القرآن أنه بشر هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشًرًا رَّسُولًا، إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ.

فمفهوم هذه الآيات واضح، وهي لا تتفق مطلقًا مع ما يدعيه الشيعة لعصمة أئمتهم، فإذا كان هذا ما قصه الله عن الأنبياء، فكيف يرقى الأئمة منزلة فوق منزلة الأنبياء.

ويظهر أن قول الشيعة في الأئمة هو السبب في بحث المتكلمين في عصمة الأنبياء ووضعه بحثًا في علم الكلام؛ فذهب قوم من المرجئة وابن الطيب الباقلاني من الأشعرية ومن اتبعه إلى أن الرسل غير معصومين إلا من الكذب في التبليغ فإنه لا يجوز عليهم؛ وذهبت طائفة إلى أن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يجوز عليهم كبيرة من الكبائر أصلا، وجوزوا عليهم الصغائر؛ وذهب جمهور أهل الإسلام من أهل السنة والمعتزلة والخوارج والشيعة إلى أنه لا يجوز البتَّة أن يقع من نبي أصلًا معصية عن عمد لا صغيرة ولا كبير ة. ويقول ابن حزم: إنه يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد، ويقع منهم أيضًا قصد الشيء يريدون به وجه الله والتقرب منه فيوافق خلاف مراد الله، إلا أنه تعالى لا يقرّهم على شيء من هذين الوجهين أصلا، بل ينبههم على ذلك، ويظهر ذلك لعباده ويبين لهم.٤١
ويقول المواقف وشرحه: «أجمع أهل الملل والشرائع على عصمة الأنبياء من تعمد الكذب فيما دَلَّ المُعجِز على صدقهم فيه كدعوى الرسالة وما يبغونه عن الله … وأما سائر الذنوب فهي إما كفر أو غيره، فأما الكفر فأجمعت الأمة على عصمتهم منه … وأما غير الكفر فإما كبائر أو صغائر، وكل منهما إما عمدًا وإما سهوًا، أما الكبائر عمدًا فمنعه الجمهور … وأما صدورها عنهم سهوًا أو على سبيل الخطأ في التأويل فجوزه الأكثرون … وأما الصغائر عمدًا فجوزه الجمهور إلا الجبائي، وأما سهوًا فهو جائز اتفاقًا؛ واستثنى أكثر المعتزلة الصغائر الخسيسة، وهي ما يحكم على صاحبها بالخسّة ودناءة الهمة، فإنها لا تجوز أصلًا لا عمدًا ولا سهوًا. هذا كله بعد الوحي، وأما قبله فقال الجمهور: لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة. وقال أكثر المعتزلة: تمتنع عليهم الكبيرة، لأن صدورها يوجب النفرة وهي تمنع من إتباعه فتفوت مصلحة البعثة».٤٢

فظاهر من هذا أن جمهور المسلمين لم ينظروا حتى إلى الأنبياء نظر الشيعة إلى الأئمة، ولم يمنحوا الأنبياء العصمة المطلقة حتى من الخطأ والنسيان، وحتى قبل النبوة كالذي قاله الشيعة في الأئمة.

وفكرة العصمة للأمة بعيدة عن الإسلام وتعاليمه، كما أنها بعيدة عن الطبائع البشرية التي ركبت فيها الشهوات، وركب فيها الخير والشر، ومزجت فيها الميول المتعاكسة؛ وفضيلة الإنسان الراقي ليس في أنه معصوم، بل في أنه قادر على الخير والشر، وينجذب إليهما، وهو في أكثر الأحيان ينجذب إلى الخير، ويدفع الشر. أما الطبيعة المعصومة فطبيعة الملائكة الذين لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَايُؤْمَرُونَ لا طبيعة الإنسان الذي لو فقد شهوته لفقد حيويته.

ويعجبني في ذلك قول الغزالي في التوبة: «وليس في الوجود آدمي إلا وشهوته سابقة على عقله، وغريزته التي هي عُدَّة الشيطان متقدمة على غريزته التي هي عدة الملائكة. فكان الرجوع عما سبق إليه على مساعدة الشهوات ضروريًا في حق كل إنسان نبيًا كان أو غبيًا، فلا تظن أن هذه الضرورة اختصت بآدم عليه السلام٤٣ وقد قيل:
فلا تحسبَنْ هندًا لها الغَدْرُ وَحْدَها
سجيةُ نفسٍ، كلُّ غانيةٍ هِنْدُ
بل هو حكم أزلي مكتوب على جنس الإنس لا يمكن فرض خلافه ما لم تتبدل السُّنة الإلهية التي لا مطمع في تبديلها … فكل بشر لا يخلو عن معصية بجوارحه إذا لم يخل عنه الأنبياء، كما ورد في القرآن والأخبار من خطايا الأنبياء وتوبتهم وبكائهم على خطاياهم، فإن خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح فلا يخلو عن الهم بالذنوب بالقلب، فإن خلا في بعض الأحوال عن الهم فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله، فإن خلا عنه فلا يخلو عن غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله … ولا يتصور الخلو، في حق الآدمي عن هذا النقص، وإنما يتفاوتون في المقادير؛ فأما الأصل فلابد منه، ولهذا قال عليه السلام: «إنه ليُغانُ على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرَّة»٤٤ وأغلب الظن أن بحث المتكلمين في عصمة الأنبياء متأخر عن قول الشيعة في عصمة الإمام، كما أن أغلب الظن أن الذي دعا إلى هذه الفكرة ما نشأ بين الشيعة وخصومهم من دعوى التفاضل، فقد فضل الشيعة علياًّ وفضل «أهل السنة» أبا بكر وعمر، وبدأت من ذلك الحين نغمة تعداد الفضائل لكل، فلم يكتف كل فريق بالحقائق، بل وضعوا الأحاديث لرفعة صاحبهم كما نقلنا قبل من النصوص الدالة على ذلك٤٥ وأتت الخلفاء بعد من الأمويين والعباسيين لأهل السنة كما تسلسل الأئمة للشيعة، فبقي التفاضل على مرور الزمان تعلو نغماته، ولكن خلفاء «أهل السنة لم تُسْبَغْ عليهم العصمة. وأئمة الشيعة أسبغت عليهم العصمة لأسباب:
  • (١)

    أن الخلفاء من عهد أبي بكر وعمر ثم الأمويين والعباسيين، قد تسلموا زمام الحكم وباشروا سياسة الرعية فعلا، ومباشرة الحكم — من جهة — تعرض الحاكم للعمل، فإذا عمل تعرض للخطأ والصواب، وكل ما في الأمر أن الأشخاص الحاكمين يختلفون؛ فبعضهم صوابه أكثر من خطئه، وبعضهم خطؤه أكثر من صوابه. وليس من الممكن في طبيعة الحكام أن يصيبوا دائمًا؛ ومن جهة أخرى. فتصرفاتهم اليومية حتى غير ما يتعلق منها بالحكم ظاهرة للخاصة منقولة على ألسنتهم للعامة، ولذلك عرفنا منهم من كان يشرب، ومن كان لا يشرب، ومن كان يحب الجواري، ومن كان لا يحب، ومن كان يُغني أو يحب الغناء ومن لا يغني ومن لا يميل للغناء. على الجملة عرفنا كل تفاصيل حياتهم بمحاسنها ومساوئها وصوابها وخطئها، ومحال أن تدعي العصمة لهؤلاء بعد ذلك. أما أئمة الشيعة فلم يتولوا الحكم إلا أيامًا قليلة، في عهد عليّ كانت أيام حرب وعدم استقرار، والأئمة بعد ذلك لم يتعرضوا للحكم ولم يتعرضوا للجمهور، فلم تُجرَّب أعمالهم، ولم تظهر تصرفاتهم، ويضاف إلى ذلك أنهم مضطهدون اضطهادًا مستمرًا من الولاة والخلفاء، وعواطف الناس دائمًا مع المضطهد المظلوم، وهي على عكس ذلك مع المضطهد ومن يتولى الحكم.

    إن نصف الناس أعداءٌ لمن
    وَليَ الأحكام هذا إن عدل

    فدعوى عصمتهم تجد مرتعًا خصيبًا يساعد عليها تستر الأئمة وأحيانًا غيبتهم، فهم لم يتعرضوا للحكم حتى يختبروا وتظهر أعمالهم، إنهم أحيطوا بجو خفاء وغموض يهيئان النفوس لقبول دعوى العصمة؛ ولو ادعيت العصمة لبني أمية والعباس لكانت مهزلة تقابل بالضحك والاستخفاف.

  • (٢)
    وسبب آخر وهو أن أكثر من كان يحيط بالخلفاء في الصدر الأول والعهد الأموي من العرب، والعرب أمة ديمقراطية تنظر إلى الخليفة نظرهم إلى أحدهم، لا يمتاز عنهم كثيرًا، بل منهم من كان يغلو في الديمقراطية أيام النبي نفسه فكان القرآن يحد من هذا الغلو في الديمقراطية، ويقول لهم لا تَرفعُوا أصواتكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبيِّ. ووفد على النبى وفد بني تميم وقت الظهيرة وهو راقد، فجعلوا ينادونه يا محمد اخرج لنا؛ فاستيقظ فخرج ونزلت: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ودخل عيَيْنََةُ بن حِصْن على النبي وعنده عائشة من غير استئذان، فقال رسول الله: أين الاستئذان؟ قال يا رسول الله ما استأذنت على رجل قط ممن مضى منذ أدركت، ثم قال: مَنْ هذه الجميلة إلى جانبك؟ فقال : هذه عائشة أم المؤمنين. فلما خرج قالت عائشة: مَنْ هذا يا رسول الله؟ قال: أحمق مطاع، وإنه على ما ترين لسيد قومه؛ ونزل في ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِ مِنَ الْحَقِّ إلى غير ذلك. وكانوا مع من بعده من الخلفاء أشد جرأة، والتاريخ مملوء بالشواهد على ذلك. وهذه الديمقراطية الغالية أحيانًا والمعتدلة أحيانًا يستحيل أن تنمو فيها بذرة دعوة إلى عصمة. أما التشيع فكان حوله، خصوصًا في آخر العهد الأموي والعهد العباسي، كثير من الفرس رُبُّوا على أرستقراطية الملوك، وورثوا عن آبائهم نظرة التقديس لملوكهم؛ وسمي العرب هذه النزعة كسروية نسبة إلى كسرى ملك الفرس، لأنهم لا يعرفونها بين العرب. قال الثعالبي النيسابوري في كتابه (المضاف والمنسوب) بعد أن ذكر عدل كسرى أنو شروان: «فأما سائر الأكاسرة فإنهم كانوا ظلمة فجرة، يستعبدون الأحرار، ويجرون الرعية مجرى الأُجراء والعبيد والإماء، فلا يقيمون لهم وزنًا، ويستأثرون عليهم حتى بأطايب الأطعمة والثياب الحسنة والمراكب والنساء الحسان، والدور السَّرية، ومحاسن الآداب؛ فلا يجترئ أحد من الرعايا أن يطبخ سكباجًا، ويلبس ديباجًا، أو يركب هملاجًا، أو ينكح امرأة حسناء، أو يبني دارًا قوراء، أو يؤدب ولده، أو يمد إلى مروءة يده، وكانوا يبنون أمورهم على معنى قول عمرو بن مَسَعدَة للمأمون: «ملك ما يصلح للمولى على العبد حرام».٤٦ مثل هذه النزعة ولهذه الحالة النفسية، وغلبة العبودية يمكن أن تثمر فيها دعوى العصمة.

ويظهر أن دعوى العصمة لم يكن يعرفها الأئمة الأولون، فقد روينا قبلُ قول عليّ في المشورة، لأنه لا يؤمن الخطأ من نفسه، وروينا تخطئة الحسين للحسن في صلحه مع معاوية.

إنما وجد القول بالعصمة من غلاة الشيعة أولًا، ولم يكن يسلم به الأئمة الأولون ثم زاد القول في آخر الدولة الأموية، وكانت العصمة مسلكًا من مسالك الدعوة لآل البيت، وتحريضًا للناس على الثورة ضد الظالمين من الأمويين.

•••

ويتصل بهذه العصمة قولهم بأن الأئمة وسطاء بين الله والناس وشفعاء، وأن الاعتقاد فيهم كاف في محو السيئات ورفع الدرجات. روى ابن بابويه القمي عن الفضل بن عمرو قال: «قلت لأبي عبد الله: لم صار عليّ قسيم الجنة والنار؟ قال: لأن حبه إيمان وبغضه كفر، وإنما خلقت الجنة لأهل الإيمان، والنار لأهل الكفر، فهو قسيم الجنة والنار، لا يدخل الجنة إلا محبوه، ولا يدخل النار إلا مبغضوه».

ويقول بعضهم:

حُبُّ عليّ في الورى جُنّة
فامحُ بها يارَبِّ أوْزَارِي
لو أن ذِمِّيّا نوى حُبّه
حُصِّنَ في النّارِ من النّارِ

ويقول ابن هانئ:

هذا الشفيع لأمَّة يَأتي بها
وجدودُه لجدودها شُفعاء

وكتب الشيعة مملوءة بالأحاديث والأخبار الدالة على هذا المبدأ، وفيه هدم لمبدأ الإسلام الجميل، وهو مسئولية الإنسان وأن قيمة كل إنسان عمله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وأن كائنًا من كان حتى الأنبياء لا يغنون عن أحد شيئًا يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ، وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَّتَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ، قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا.

ففي الاعتقاد بأن الحب لآل البيت والأئمة غناء إهدار ركن من أعظم أركان الإسلام، وهو المطالبة بالعمل الصالح وارتباط الثواب به، والنهي عن العمل السيئ وارتباط العقوبة به إذ يكفي حب آل البيت ثم ترتفع التكاليف.

لقد دخل على المسلمين من جَرَّاء العصمة والمبالغة في الشفاعة ضرر كبير، ولم يقتصر الضرر على الشيعة إذ تسربت تعاليمهم إلى غيرهم من الفرق الأخرى الإسلامية؛ فكان السنيون إذا رأوا الشيعة ينسبون عملًا وفضلًا لإمام نسبوا مثله للأنبياء على الأقل؛ فغلا بعضهم في القول بعصمة الأنبياء من الكبائر والصغائر قبل النبوة وبعدها، وهو مخالف لصريح القرآن؛ ورأوا أن الشيعة يقولون بأن للأئمة نورًا، فقال بعضهم. إن رسول الله لم يكن له ظل؛ ورأوا الشيعة تقول إن الإمامة تورث، فزعم بعض الصوفية أن مشيخة الطرق تورث، فنور الشيخ ينتقل منه إلى ابنه، وإذا مات وخلف صبيًا فهو الشيخ ولو كان رضيعًا لأن فيه نور أبيه؛ ورأوا الشيعة تقول بعصمة الأئمة، فاعتقد العامة بعصمة الأولياء، فلا يصح الطعن على من سموه وليًا ولو رأوه يشرب الخمر، وكفوا ألسنتهم وأيديهم عنه، بل وتبركوا به، لأنه فوق أن يسأل عن عمله. وكم فسد الإسلام من هذه الأوهام، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.

المهدي: ومن عقائد الشيعة البارزة الاعتقاد في المهدي، وكلمة المهدي اسم مفعول من هدى، يقال هداه الله الطريق أي عرفه ودلّه عليه وبيّنه له فهو مهدي. ولم ترد في القرآن كلمة المهدي وإنما ورد المهتدي: مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وورد الهادي وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ، وقد ورد في شعر حسان بن ثابت وصف النبي بالمهتدي:
بأبي وأمي مَنْ شهدْتُ وفاتَه
في يوم الاثنين النبيُّ المهْتَدِى

ووصفه بالهادي:

بالله ما حَمَلَتْ أُْنْثَى ولا وَضَعَتْ
مثلَ النَّبيِّ رسولِ الرَّحمَةِ الهادِي

ووصفه أيضًا بالمهدي في قوله في رثائه :

مَا بَالُ عَيني لا تَنَامُ كأّنّماَ
كُحِلَتْ مَآقيهَا بكُحل الأرْمَدِ
جَزَعًا عَلَى المَهْدِيِّ أصْبَحَ ثَاويًا
يَاخَيْرَ مَنْ وَطئ الحصا لا تَبْعدُ
وقد وردت في بعض الأحاديث كلمة المهدي وصفًا لعلي، فقد روي أن رسول الله قال: «وإن تؤمروا عليا ولا أراكم فاعلين تجدوه هاديًا مهديًا يأخذ بكم الصراط المستقيم»:٤٧ ولما قتل الحسين بن عليّ وصفه سليمان بن صرد بأنه «مهدي ابن مهدي». وأطلقه الشعراء في دولة بني أمية حتى على بعض الخلفاء الأمويين، فقال نهار بن توسعة في سليمان بن عبد الملك:
له رايةُ بالثغر سوداءُ لم تزل
تُفَضُّ بها للمشركين جمُُوعُ
مباركة تهَدِي الجنودَ كأنها
عُقابٌ نحت من ريشها الوُقُوعُ
على طاعة المَهْديّ لم يبق غيرها
فأُبْنا وأمر المسلمين جميع٤٨

وهي في كل ذلك بمعناها اللغوي الديني رجل هداه الله فاهتدى، ثم نراها تأخذ معنى جديدًا وهو إمام منتظر يأتي فيملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا. وأول ما نعلم من إطلاقها بهذا المعنى ما زعمه كيسان مولى عليّ بن أبي طالب في محمد بن الحنيفة (وهو ابن عليّ بن أبي طالب من أم من بني حنيفة نسب إليها)، فقد زعم كيسان إمامة محمد هذا وأنه مقيم بجبل رضوى (وهو جبل على سبع مراحل من المدينة) وإلى هذا أشار كثير عزة، وكان كيسانيًا فقال:

وسِبْط لا يذوق الموت حتى
يقود الخَيْلَ يقدمها اللواءُ
تغيَّبَ لا يُرى فيهم زمانًا
برضوى عنده عسل وماء
وكذلك فعل المختار بن أبي عبيد الثقفي، فكان يدعو الناس. إلى إمامة محمد بن الحنفية ويزعم أنه المهدي.٤٩

لقد مات ابن الحنفية سنة ٨١هـ، وصلى عليه أبان بن عثمان بن عفان، وكان والي المدينة، ودفن بالبقيع، ولكن لم يشأ الكيسانية أن يؤمنوا بموته، وقالوا بغيبته وبانتظاره حتى يعود، وكان هذا أساسًا لفكرة الإمام المنتظر عند الإمامية الإثنى عشرية.

وهذه العقيدة برجوع الإمام بعد غيبته أو موته هي المسماة في عرف الشيعة بالرجعة، وممن قال بالرجعة في العصر الأول عبد الله بن سبأ، فقد كان يقول برجوع محمد صلى الله عليه وسلم بعد موته. وفي أول المائة الثانية للهجرة كان جابر الجعفي (وهو أحد الكذابين قال فيه أبو حنيفة: ما رأيت أكذب منه) يقول برجعة عليّ بن أبي طالب، وكان يقول في قوله تعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ إن الدابة هي عليّ بن أبي طالب؛ ولما أتى القرن الثالث الهجري كان الإمامية يرون أن الأئمة كلهم يرجعون هم وأعداؤهم، وذلك حين ظهور المهدي،٥٠ وستأتي زيادة إيضاح لمذهبهم في الرجعة.
وزاد القول بالمهدي وانتشر وخاصة بين الشيعة، ووضعت فيه الأحاديث المختلفة، ولم يرو البخاري ومسلم شيئًا عن أحاديث المهدي، مما يدل على عدم صحتها عندهما، وإنما ذكرها الترمذي وأبو داود وابن ماجه وغيرهم، من مثل ما روي أن رسول الله قال: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلًا مني أو من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي»، ومثل أن رسول الله قال: «لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلًا من أهل بيتي يملؤها عدلًا كما ملئت جورًا» إلخ. وكلها تدور على أنه «لابد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية ويسمى بالمهدي، وقد أجهد رجال الحديث أنفسهم في فحص سند هذه الأحاديث وأبانوا ما فيها من ضعف رجالها».٥١
على الجملة انتشر في جو العصر الأموي فكرة المهدي المنتظر، وكان أكثر دعاة المهدي من الشيعة، ورأينا لبعض البيت الأموي مهديًا آخر لا يسمى المهدي، ولكنه يلقب بالسفياني، وذاعت أخبار السفياني هذا في البيئات الأموية، وغيرها وكان السفياني المنتظر كالمهدي المنتظر، قال في الأغاني عن مصعب: «كان خالد بن يزيد بن معاوية يوصف بالعلم ويقول الشعر، وزعموا أنه هو الذي وضع خبر السفياني وكبره، وأراد أن يكون للناس فيه طمع حين غلبه مروان ابن الحكم على الملك وتزوج أمه أم هاشم»؛ قال صاحب الأغاني: «وهذا وهم من مصعب فإن السفياني قد رواه غير واحد وتتابعت فيه رواية الخاصة والعامة». إلخ٥٢
وأنا أميل إلى قول مصعب رغمًا عن حجة أبي الفرج التي ذكرها من أن بعض أهل البيت روى حديث السفياني؛ فبعض أهل البيت كان يسره كل الأخبار التي تضعف من شأن البيت الأموي وانقسامه؛ فالظاهر أنه كان لخالد ابن يزيد شيعته وأعوانه، نغص عليهم غلبة مروان بن الحكم على الحكم، وكان خالد طموحًا اشتغل بالكيمياء ليغني أصحابه بالذهب إذا نجح كما تقدم، ثم وضع أحاديث المهدي، ولكنه اختار اسمًا أمويًا وهو السفياني إشارة إلى جده «أبي سفيان». قال في النجوم الزاهرة: «وكان خالد المذكور موصوفًا بالعلم والعقل والشجاعة، وكان مولعًا بالكيمياء، وقيل إنه هو الذي وضع حديث السفياني (أنه يأتي في آخر الزمان) لما سمع بحديث المهدي».٥٣
ومن أظرف ما حدث أنه لما قال الشيعة بالمهدي وقال بعض الأمويين بالسفياني، وضع الشيعة الأحاديث بأن المهدي إذا خرج سيقابل السفياني إذا خرج، «فسيبايع الناس المهدي يومئذ بمكة بين الركن والمقام، ثم إن المهدي يقول: أيها الناس اخرجوا إلى قتال عدو الله وعدوكم، فيجيبونه ولا يعصون له أمرًا، فيخرج المهدي ومن معه من المسلمين من مكة إلى الشام لمحاربة عروة بن محمد السفياني ومن معه من كلب» إلخ٥٤ ويروي الطبري في حوادث سنة ١٣٢. أيام النزاع بين دعاة العباسيين والأمويين أن جماعة من أهل قنسرين وحمص وتدمر تجمعوا، وقدمهم ألوف عليهم أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية ابن أبي سفيان، فرأسوا عليهم أبا محمد، ودعوا إليه وقالوا: «هو السفياني الذي كان يذكر، وكانت موقعة شديدة انهزم فيها أتباع أبي محمد وقتل هو وأرسل برأسه إلى أبي جعفر المنصور» إلخ.٥٥

ويظهر أن العباسيين أيضًا عز عليهم أن يكون للشيعة مهدي وللأمويين سفياني وليس لهم شيء، فرأوا أن يكون لهم أيضًا «مهدي»، فوضعت لهم الأحاديث على هذا النمط؛ روى الطبراني عن ابن عمر قال، كان رسول الله في نفر من المهاجرين والأنصار، وعليّ بن أبي طالب عن يساره والعباس عن يمينه، إذ تلاحى العباس ونفر من الأنصار، فأغلظ الأنصار للعباس، فأخذ النبي بيد العباس وبيد عليّ وقال: «سيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض جورًا وظلمًا، وسيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض قسطًا وعدلًا، فإذا رأيتم ذلك فعليكم بالفتى التميمي فإنه يقبل من قبل المشرق، وهو صاحب راية المهدي».

ويظهر أن واضع الحديث كان ماهرًا فترك النص على الإشارة للزمن، فإن انتصر العلويون فالحديث يصلح لهم، وإن انتصر العباسيون صلح لهم؛ فلما انتصر العباسيون اتخذوه حجة لأنهم أصحاب الرايات التي خرجت من المشرق.

وروى الحاكم عن ابن عباس قال: منا أهل البيت أربعة: منا السفاح، ومنا المنذر، ومنا المنصور، ومنا المهدي. قال مجاهد: بيِّن لي هؤلاء الأربعة، فقال ابن عباس: أما السفاح فربما قتل أنصاره وعفا عن عدوه؛ وأما المنذر أراه قال: فإنه يعطي المال الكثير، ولا يتعاظم في نفسه، ويمسك القليل من حقه؛ وأما المنصور فإنه يعطي النصر على عدوه على مسيرة شهر، وهو الشطر مما كان يعطي رسول الله ؛ وأما المهدي فإنه يملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا، وتأمن البهائم السباع، وتلقى الأرض أفلاذ كبدها. قال: قلت: وما أفلاذ كبدها؟ قال: أمثال الأسطوانة من الذهب والفضة».

ولعل انتشار خبر المهدي وما إليه، حمل المنصور على تسمية ابنه المهدي والإيهام بأنه المهدي المنتظر. روى الأغاني أن المنصور كان يريد البيعة للمهدي، وكان ابنه جعفر يعترض عليه في ذلك، فأمر بإحضار الناس فحضروا، وقامت الخطباء فتكلموا وقالت الشعراء، فأكثرت في وصف المهدي وفضائله، وفيهم مطيع بن إياس؛ فلما فرغ من ذلك قال مطيع: حدثنا فلان عن فلان أن النبي قال: المهدي منا محمد وابن عبد الله، وأمه من غيرنا، يملؤها عدلًا كما ملئت جورًا، ثم أقبل على العباس فقال له: أنشدك الله، هل سمعت هذا؟ فقال: نعم، مخافة من المنصور.٥٦

ورووا عن عبد الله بن مسعود عن النبي قال: لا تذهب الدنيا حتى يلي أمتي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي. قال البلخي في كتابه «البدء والتاريخ» بعد روايته هذا الحديث: «وقد تأول قوم أنه المهدي محمد بن أبي جعفر لقبه المهدي واسمه محمد، وهو من أهل البيت، ولم يأل جهدًا في إظهار العدل ونفي الجور» إلخ.

فنرى من هذا أن عقيدة المهدي فشت في العلويين والأمويين والعباسيين، وأخذت عند كل منهم لونًا خالصًا.

وفكرة المهدي هذه لها أسباب سياسية واجتماعية ودينية؛ ففي نظري أنها نبعت من الشيعة، وكانوا هم البادئين باختراعها، وذلك بعد خروج الخلافة من أيديهم وانتقالها إلى معاوية، وقتل عليّ، وتسليم الحسن الأمر لمعاوية، وتسمية هذا العام، الذي فيه سّلم الحسن الأمر لمعاوية، عام الجماعة، ثم قتل الحسين.

تم ذلك فرأى رؤساء الشيعة أن هذا قد يسبب اليأس في نفوس أتباعهم، وخافوا أن يذوب حزبهم، فكان منهم بعيدو النظر، بدأوا يبشرون بأن الحكم سيرجع إليهم، وأن بني أمية سيهزمون، فوضعوا لذلك خططًا، منها الدعوة السرية للتشيع والعمل في الخفاء على قلب الدولة الأموية وإضعافها، ثم رأوا أن ذلك لا يتم إلا بقيام رئيس للشيعة يلتف الناس حوله ولو سرًا، ويلقبونه بأنه الخليفة حقًا، ورأوا أن ذلك لا يتم أيضًا إلا بصبغه صبغة دينية، فهو الإمام وهو المعصوم، ورأوا من إحكام أمرهم بث الرجاء والأمل في نفوس الناس حتى يشجعوا ويثبتوا، ومنوهم بأن الأمر لهم في النهاية، وأن الأمويين مهما أوتوا من النصر العاجل فإنه ينتظرهم الخذلان الآجل.

ولكن قومًا حولوا الأخبار الواردة من الشيعة الأولين في الحكومة المنتظرة إلى حاكم منتظر، لأن ذلك أقرب إلى أذهان العامة، فالأولون كانوا يرمزون بالمهدي المنتظر إلى حكومة شيعية منتظرة، فجعلها المتأخرون حقيقة، وجعلوا المهدي المنتظر حقيقة، وأكثروا من القول فيه وزادوه أوصافًا وأخبارًا ليلبسوه ثوب الحقيقة.

قال الألوسي في تفسيره: «وتأول جماعة من الإمامية ما ورد من الأخبار في الرجعة على رجوع الدولة والأمر والنهي دون رجوع الأشخاص وإحياء الأموات».٥٧

ولكن العامة لا يفهمون جيدًا رجوع المعاني، إنما يفهمون رجوع الأشخاص فوضعت لذلك أخبار المهدي المنتظر بشخصه ووصفه.

وكما كان في التاريخ أن اليونان لما فشلوا في حكمهم، وغلبهم الرومانيون على أمرهم حولوا الفلسفة العملية إلى فلسفة رواقية تتطلب اللذة في الحياة العقلية، وتتحمل آلام الحياة في صبر وثبات، كذلك الشيعة خرج الأمر من أيديهم فدعوا إلى تحمل آلام الحياة في صبر وثبات، وزادوا على ذلك إجادة تصوير فكرة الأمل، وجسدوها في المهدي.

ولما كان الشيعة هم الأساتذة الأولون في هذا الموضوع قلدهم خالد بن يزيد الأموي لما فشل وخرج الحكم من بيته إلى بيت مروان بن الحكم، ثم قلدهم العباسيون بشكل آخر فسلموا بالمهدي واستغلوا فكرته، وادعوا أن المهدي فيهم لا في شيعة علي. فاليأس عند الشيعة وعند البيت السفياني هو السبب النفسي لقيام فكرة المهدي، وحرب القوم من جنس سلاحهم هو السبب النفسي للمهدي العباسي.

واستغل هؤلاء القادة المهرة أفكار الجمهور الساذجة المتحمسة للدين والدعوة الإسلامية فأتوهم من هذه الناحية الطيبة الطاهرة، ووضعوا الأحاديث يروونها عن رسول الله في ذلك، وأحكموا أسانيدها وأذاعوها من طرق مختلفة، فصدق الجمهور الطيب لبساطته، وسكت رجال الشيعة لأنها في مصلحتهم، وسكت الأمويون لأنهم قلدوها في سفيانيِّهم، وسكت العباسيون لأنهم حولوها إلى منفعتهم، وهكذا كانت مؤامرة شنيعة أفسدوا بها عقول الناس. وكنت أنتظر من المعتزلة كشف النقاب عن هذا الضلال، إلا أني مع الأسف لم أعثر لهم على شيء كثير في هذا الباب، ولكني أعرف أن الزيدية (وهم فرع آخر من فروع الشيعة الذين تأثروا أثرًا كبيرًا بتعاليم المعتزلة، لأن زيدًا رئيسهم تتلمذ لواصل بن عطاء زعيم المعتزلة)، كانوا ينكرون المهدي والرجعة إنكارًا شديدًا، وقد ردوا في كتبهم الأحاديث والأخبار المتعلقة بذلك، ورووا عن أئمة أهل البيت روايات تعارض روايات الأئمة الاثني عشرية.

حديث المهدي هذا حديث خرافة، وقد ترتب عليه نتائج خطيرة في حياة المسلمين، نسوق لك أهمها:

  • (١)
    أحيط المهدي بجو غريب من التنبؤات والإخبار بالمغيبات والإنباء بحوادث الزمان. فعند آل البيت علم توارثوه عن أخبار الزمان إلى يوم القيامة؛ وهناك الجفر وهو جلد ثور صغير مكتوب فيه علم ما سيقع لأهل البيت مروي عن جعفر الصادق في زعمهم؛ وهناك أخبار زعم مسلمة اليهود أنهم رأوها في كتبهم الدينية مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه في أحداث الدول وأعمارها، فامتلأت عقول الناس بأحاديث تروى وقصص تقص، ونشأ باب كبير في كتب المسلمين اسمه الملاحم، فيه أخبار الوقائع من كل لون، فأخبار العرب والروم، وأخبار في قتال الترك، وأخبار في البصرة وبغداد والإسكندرية، وما جاء في فضل الشام وأنه معقل الملاحم، وأخبار عن مكة والمدينة وخرابهما، وأخبار أن المهدي يملك جبل الديلم والقسطنطينية وسيفتح رومية وأنطاكية وكنيسة الذهب، وأخبار عن فتح الأندلس وما يجري فيه من أحداث٥٨ إلخ. وجعلت هذه الأشياء كلها أحاديث بعضها نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها إلى أئمة أهل البيت، وبعضها إلى كعب الأحبار ووهب بن منبه، وهكذا. وكان لكل ذلك أثر سيئ في تضليل عقول الناس وخضوعهم للأوهام، كما كان من أثر ذلك الثورات المتتالية في تاريخ المسلمين، ففي كل عصر يخرج داع أو دعاة كلهم يزعم أنه المهدي المنتظر، ويلتف حوله طائفة من الناس، كالذي كان من المهدي رأس الدولة الفاطمية. وتقرأ تاريخ المغرب فلا يكاد يمر عصر من غير خروج مهدي، وكان آخر عهدنا به مهدي السودان، وظهور فرقة البابية في فارس التي دعا إليها ميرزا عليّ محمد المولود سنة ١٢٣٥هـ، وهو من نسل الحسين، وقد ادعى — لما بلغ الخامسة والعشرين — أنه الباب — ومعنى الباب عندهم «نائب المهدي المنتظر». ولو أحصينا عدد من خرجوا في تاريخ الإسلام وادعوا المهدية، وشرحنا ما قاموا به من ثورات، وما سببوا من تشتيت للدولة الإسلامية وانقسامها وضياع قوتها، لطال بنا القول، ولم يكفنا كتاب مستقل.

    وهذا كله من جرَّاء نظرية خرافية، هي نظرية «المهدية»، وهي نظرية لا تتفق وسنة الله في خلقه، ولا تتفق والعقل الصحيح. ولعل تقدم الناس في عقلهم ومعارفهم وتقدمهم في الحكم ونظامه وما ينبغي أن يكون، يقضي على البقية الباقية من هذه الخرافة، ويحوّل الناس إلى أن ينشدوا العدل، ويعملوا بأيديهم وعقولهم في إيجاد الحكم الصالح، ويُحلُّوا ذلك محل المهدي المنتظر؛ فخير لهم أن يطلقوا العدل في الواقع لا في الخيال، وأن يعملوا على تحقيقه في دنيا الحس والعقل لا دنيا الأوهام.

  • (٢)

    وشيء آخر تولَّد من فكرة المهدي المنتظر؛ ذلك أن الصوفية اتصلت بالتشيع اتصالًا وثيقًا، وأخذت فيما أخذت عنه فكرة المهدي، وصاغتها صياغة جديدة وسمته «قُطبا»، وكونت مملكة من الأرواح على نمط الأشباح، وعلى رأس هذه المملكة الروحية القطب، وهو نظير الإمام أو المهدي في التشيع؛ والقطب هو الذي «يدبر الأمر في كل عصر، وهو عماد السماء، ولولاه لوقعت على الأرض»؛ ويلي القطب النجباء، قال ابن عربي في الفتوحات الملكية: «وهم اثنا عشر نقيبًا في كل زمان، لا يزيدون ولا ينقصون، على عدد بروج الفلك الاثني عشر، كل نقيب عالم بخاصية كل برج وبما أودع الله تعالى في مقامه من الأسرار والتأثيرات … وأعلم أن الله تعالى قد جعل بأيدي هؤلاء النقباء علوم الشرائع المنزلة، ولهم استخراج خبايا النفوس وغوائلها، ومعرفة مكرها وخداعها، وإبليس مكشوف عندهم، يعرفون منه ما لا يعرفه من نفسه، وهم من العلم بحيث إذا رأى أحدهم وطأة شخص في الأرض علم أنها وطأة سعيد أو شقي مثل العلماء بالآثار والقيافة إلخ».

وقال ابن تيمية في بعض فتاويه: «وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة، مثل الغوث الذي بمكة، والأوتاد الأربعة، والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين، والنجباء الثلاثمائة، فهي ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي مأثورة عن النبي لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلا لفظ الأبدال؛ فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن عليّ كرم الله وجهه مرفوعًا إلى النبي أنه قال: إن فيهم (يعني أهل الشام) الأبدال، أربعين رجلًا، كلما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلًا. ولا توجد أيضًا في كلام السلف».

وهكذا كون الصوفية مملكة باطنية وراء المملكة الظاهرية، اتخذوا فيها فكرة المهدي، وغيروا ألفاظها، وكملوا نظامها، وكلها سبح في الخيال وجرى وراء أوهام كلها شعر، ولكنه ليس شعرًا لذيذًا، بل هو شعر أفسد على الناس عقائدهم وأعمالهم، وأبعدهم عن المنطق في التصرف في شئون الحياة، وقعد بهم عن المطالبة بإصلاح الحكم وتحقيق العدل؛ فكانوا يهيمون في أودية الخيال، والحكام يهيمون في أودية الفساد. وكأنهم تواضعوا على ذلك؛ فالحاكم يفسد، والشعب يحلم، وحالة الأمة تسوء.

الرجعة: ويتصل بعقيدة المهدي القول بالرجعة؛ فكثير من الإمامية يعتقد بها ويرون أن النبي وعليًا والحسن والحسين وباقي الأئمة، وخصومهم كأبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية ويزيد يرجعون إلى الدنيا بعد ظهور المهدي، ويعذب من اعتدى على الأئمة وغصبهم حقوقهم أو قتلهم، ثم يموتون جميعًا، ثم يحيون يوم القيامة؛ قال الشريف المرتضى: إن أبا بكر وعمر يصلبان على شجرة في زمن المهدي.

وهي عقيدة أعرق في الغرابة من عقيدة المهدي.

التقية: هو اسم مصدر لتَوَقي واتقَّىَ، تقول توقَّيْتُ الشيء واتقَيْتهُ وَتَقَيَتهُ تُقي وتَقيَّةً أي حذرته؛ وفي القرآن: لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِيَن وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً؛ وفي قراءة: إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً؛ ومعناها أن يحافظ المرء على عِرضه أو نفسه أو ماله مخافة عدوه فيظهر غير ما يضمر؛ فهي مداراة وكتمان، وتظاهر بما ليس هو الحقيقة؛ وهي عند الشيعة النظام السِّرِّي في شئونهم، فإذا أراد إمام الخروج والثورة على الخليفة وضع لذلك نظامًا وتدابير، وأعلم أصحابه بذلك فتكتَّموه، وأظهروا الطاعة، حتى تتم الخطط المرسومة، فهذه تقية، وإذا أحسوا ضررًا من كافر أو سنِّي داروه وحاروه وأظهروا له الموافقة، فهذه أيضًا تقية، وهكذا.

والتقية عند الشيعة جزء مكمل لتعاليمهم تواصوا به وعدوه مبدأ أساسيًا في حياتهم، وركنًا من دينهم، ورووا فيه الشيء الكثير عن أئمتهم، وانبنى عليه تاريخهم، فالأحداث التاريخية كلها أساسها إمام مختف أو متستر يدعو إلى نفسه في الخفاء، ويبث دعاته في الأمصار، فيتخذون البيعة له من أنصارهم، ويطالبونهم بالكتمان، والتظاهر بالطاعة، ويلزمونهم بأن يعملوا أعمالهم المطلوبة منهم من الولاة الظاهرين على أتم وجه حتى لا تحوم حولهم شبهة، إلى أن تنضج الثورة ويحين الوقت الملائم، فيعلنوا الخروج ويحملوا السلاح في وجه الدولة.

وقد روى الكليني في التقية أخبارًا كثيرة، فروى عن أبي عبد الله أنه قال: «تسعة أعشار الدين في التقية ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخفين». وقال في قوله تعالى: أُوَلئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا. قال: بما صبروا على التقية — وما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف، إن كانوا ليشهدون الأعياد ويشدون الزنانير، فأعطاهم الله أجرهم مرتين.

وقد سئل أبو الحسن عن القيام للولاة، فقال: قال أبو جعفر: التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له، وسئل أبو جعفر عن رجلين من أهل الكوفة أُخِذاَ، فقيل لهما أبرآ من أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، فبرئ واحد منهما، وأبى الآخر، فخلى سبيل الذي برئ وقتل الآخر. فقال: أما الذي برئ فرجل فقيه في دينه، وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجل إلى الجنة. وأراد جماعة السير إلى العراق، فقالوا لأبي جعفر: أوصنا، فقال أبو جعفر: «ليقوِّ شديدكم ضعيفكم وليَعُدْ غنيكم على فقيركم، ولا تبثوا سرنا، ولا تذيعوا أمرنا». وقال أبو عبد الله: إن أمرنا مستور مقنّع بالميثاق، فمن هتك علينا أذله الله.٥٩

وعلى هذا قال كثير من الشيعة: إنه يحسن لمن اجتمع مع أهل السنة أن يوافقهم في صلاتهم وصيامهم وسائر ما يدينون به؛ ورووا عن بعض أئمة أهل البيت: من صلى وراء سني تقية فكأنما صلى وراء نبي؛ وفي وجوب قضاء هذه الصلاة عندهم خلاف.

وقد فسروا كثيرًا من أعمال الأئمة على أنهم فعلوها تقية، فسكوت عليّ على أبي بكر وعمر وعثمان كان تقية، ومصالحة الحسن لمعاوية كان تقية إلخ. كما كانت التقية عند الشيعة سببًا في تحميل الكلام معاني خفية، وجعلهم للكلام ظاهرًا يفهمه كل الناس، وباطنًا يفهمه الخاصة، وقصدهم في كلامهم إلى الرمز والكناية ونحوهما، وفسر بعضهم بعض آيات القرآن على هذا النحو، فجعلوا كثيرًا من الآيات رمزًا لعليّ والأئمة، فقال بعضهم في قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، إن المراد بما أنزل إليك خلافة عليّ؛ وقالوا: إن وراء هذه العلوم أسرارًا خفية أشار إليها عليّ زين العابدين بقوله:

إني لأكتمُ من علِمي جواهرَه
كَيْلاَ يرَى الْحَقَّ ذُو جهلٍ فيَفْتَتنا
وقد تقدَّمَ في هذا أبو حَسَن
إلى الحسين وأوصى قبله الحَسنَا
فربّ جوهر علم لو أبوح به
لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولا ستحل رجال مسلمون دمي
يرون أقبح ما يأتون حسنا

وجري على هذا النمط بعض الصوفية، فقالوا: إن وراء علم الظاهر علم الباطن، وهو لا يفهم من الوضع اللغوي للكلمات ولا من البراهين المنطقية، إنما يفهم من طريق الإلهام والمكاشفة إلخ.

وكان على عكس الشيعة في القول بالتقية الخوارج، فقالوا: لا تجوز التقية بحال من الأحوال، ولو عرضت النفس والمال والعرض للأخطار.

وحياة الشيعة والخوارج السياسية مظهر من مظاهر قولهم في التقية، فالخارجي يعلن الخروج على الإمام في صراحة ولو كان وحده، ويحاربه ولو كان في نفر قليل، مهما بلغ عدوه من العدد، ولا يداري ولا يماري؛ والشيعي يداري ويجاري، ويتستر ويتكتم حتى يظن أن الفرصة أمكنته فيظهر.

•••

أدى الشيعة الاعتقاد بالإمامة، وأنها جزء من الإيمان والعصمة وما إليها، إلى اعتقادهم أن المؤمنين حقًا هم عليّ ومن ناصره ووالاه، ومن تبع الأئمة بعد عليّ في الأجيال المتعاقبة؛ أما من عداهم من أبي بكر وعمر وعثمان ومن تابعهم، والأمويين والعباسيين ومن شايعهم، فهم في نظرهم مقصرون، وإن اختلف الشيعة فيما بينهم في الوصف الذي يصفونهم به، فمنهم من غلا فيهم إلى درجة الحكم عليهم بالكفر.

فيروون عن الصادق: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: من ادعى إمامة ليست له، ومن جحد إمامًا من عند الله، ومن زعم أن أبا بكر وعمر لهما نصيب في الإسلام».

وأكثروا من لعن أبي بكر وعمر وعائشة وحفصة وغيرهم، وبالغوا في ذلك حتى جعلوا لعنهم قربة إلى الله؛ ولهم أدعية مأثورة في لعن هؤلاء وأمثالهم.٦٠

وهذا — من غير شك — ضيق في النظر أدى إليه اتخاذهم مقياس الفضيلة والرذيلة والإيمان والكفر الإيمان بإمامة عليّ، فمن آمن بذلك فهو المؤمن وهو الفاضل، وهو الذي يستحق الثواب، ومن كفر بإمامته فهو الكافر وهو الشرير، وهو المعّذب بالنار؛ فكأن الإيمان بإمامة عليّ يساوي الإيمان بالله، بل يزيد عليه، فمن آمن بالله وحده من غير إيمان بإمامة عليّ لم ينفعه إيمانه، فإذا زاد على ذلك أنه جحد استحقاق عليّ للإمامة فهذا هو الكفر الذي ما بعده كفر.

وهذا مقياس في منتهى الغرابة، كمن يقيس الحجرة بالقدح بدل الأمتار، أو يقيس المكيل بالمتر بدل القدح؛ فنحن نعلم أن روح الإسلام تقوم المرء بشيئين: توحيد الله، وإيمان برسالة رسوله محمد، ثم الأعمال الصالحة التي تنفع الناس، وبهذا وحده يقدر المرء في نظر الإسلام، وبهذا وحده يوزن أبو بكر وعمر وعائشة كما يوزن به عليّ نفسه، وكما يوزن به كل إنسان؛ فإلغاء هذا المقياس، ووضع مقياس آخر هو الإيمان بعليّ، جهل بروح الإسلام وضعف في العقل حتى في نظر العقل المجرد. ولو قالوا إن المقياس هو الإيمان بالله وبالأعمال، وأن الإيمان بإمامة عليّ عقيدة من عقائد الخير لقاربوا الحق، ولكان لقولهم مندوحة ولكن إنكار إمامة عليّ لا يستوجب كفرًا ولا يستوجب لعنة، وفضل أبي بكر وعمر على الإسلام أكبر من فضل عليّ، ولكلٍ فضل، فجحد هذا بالنسبة لهما حتى يستوجبا اللعنة سخف في الرأي، وضيق في الذهن.

على أنا نرى من بين الشيعة من تلطف في الحكم فلم يصل بهؤلاء الصحابة إلى درجة الكفر وإلى استحقاق اللعن.

وعلى كل حال جرأتهم هذه العقيدة على أن ينقدوا أعمال الصحابة ومن يليهم، وأنا أنقل هنا بعضًا من أقوال من يعد معتدلًا فيهم؛ فأهل السنة — وخاصة من عهد أبي الحسن الأشعري — يرون أنه لا يصلح أن يتعرض لأحد من الصحابة بسوء، ويروون أحاديث في ذلك مثل: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»، ومثل: «خير القرون قرني ثم الذي يليه ثم الذي يليه». وروي عن الحسن البصري أنه ذكر عنده الجمل وصفين، فقال: تلك دماء طهر الله منها أسيافنا فلا نلطخ بها ألسنتنا، وقالوا: إن من المروءة أن يحفظ رسول الله في عائشة زوجته، وفي الزبير ابن عمته، وفي طلحة الذي وقاه بيده. ثم ما الذي ألزمنا وأوجب علينا أن نلعن أحدًا من المسلمين أو نبرأ منه؛ وأي ثواب في اللعنة والبراءة؟ … ثم قد كان رسول الله صهرًا لمعاوية، إذ كانت أم حبيبة زوجه، فالأدب أن تحفظ أم حبيبة وهي أم المؤمنين في أخيها، إلى آخر ما قالوا.

لم يرض الشيعة عن هذا القول، وقالوا: إن الله فرض عداوة أعدائه وولاية أوليائه، يقول الله تعالى: لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ. وقد لعن الله العاصين بقوله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرائِيلَ عَلَى لِسانِ دَاوُدَ، وأنتم لم تعدلوا في موقفكم، فأنتم دخلتم في أمر عثمان وخضتم فيه، ولم تحفظوا أبا بكر في محمد ابنه، فإنكم لعنتموه وفسقتموه لاشتراكه في فتنة عثمان، ولا حفظتم عائشة أم المؤمنين في أخيها محمد، ومنعتمونا أن نخوض وندخل أنفسنا في أمر عليّ والحسن والحسين ومعاوية الظالم له ولهما، المتغلب على حقه وحقهما. وكيف صار لعن ظالم عثمان من السنة، ولعن ظالم عليّ والحسن والحسين تكلفًا؛ وكيف تحدثتم في أمر عائشة وحفظتم أمرها ومنعتم من الحديث في خروجها يوم الجمل، ومنعتمونا من الحديث في أمر فاطمة وما جرى لها بعد أبيها؛ وكيف صار التعرض لعائشة من أكبر الكبائر، وكشف بيت فاطمة والدخول عليها في منزلها، وتهديدها بالحريق، من الإيمان؟ والصحابة أنفسهم كان يتعرض بعضهم لبعض، فعائشة تقول في عثمان: اقتلوا نَعْثَلا لعن الله نعثلا؛ وكان عبد الله ابن مسعود يلعن عثمان؛ وقد لعن معاوية عليّ بن أبي طالب وابنيه الحسن والحسين؛ ولعن أبو بكر وعمر سعد بن عبادة وبرئا منه، وأخرجاه من المدينة إلى الشام … وهذا طلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم لم يروا أن يمسكوا عن عليّ حتى قصدوا له، وحملوا السيوف في وجهه، وكذلك فعل معاوية وعمرو ابن العاص، وقد لعنهما عليّ ولعن أبا موسى الأشعري. وهذا عثمان قد نفى أبا ذر إلى الزبدة، إلى كثير من أمثال ذلك — ولو كانت الصحابة بالمنزلة التي تذكرونها لعلمت ذلك من حال نفسها — وهذا كله من وضع المتعصبين للأمويين، فقد كان لهم من ينصرهم بلسانه ويوضع الأحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف؛ ومن هذا القبيل حديث: «خير القرون قرني»، ومما يدل على بطلانه أن القرن الذي جاء بعده بخمسين سنة شر قرون الدنيا، فهو القرن الذي قتل فيه الحسين وأوقع بالمدينة، وحوصرت مكة، ونقضت الكعبة، وشربت الخلفاء الخمور، وارتكبوا الفجور، كما جرى ليزيد بن معاوية وللوليد بن يزيد، إلى آخر ما قالوا.٦١

وفي هذه الأقوال بعض الحق، ولكن الشيعة وقفوا نفس الموقف الذي عابوه على أهل السنة، فقد رموا أهل السنة بتحاملهم على آل البيت وأتباعهم فتحاملوا هم على من عداهم، ولم يقفوا من الصحابة جميعًا موقف القاضي العادل، فجرحوا الصحابة إذا لم يكونوا من الشيعة، وأغضبوا عن كل شيء من الشيعة، ورفعوا الأئمة فوق البشر بل فوق الأنبياء، لأنهم ادعوا العصمة لهم؛ وكان المنطق يقضي — وقد وضعوا مبدأ نقد أعمال الصحابة — أن يضعوا الصحابة كلهم في ميزان واحد، ويحاسبوهم حسابًا واحدًا. ولعل المعتزلة كانوا أعدل منهم في هذا الباب، فنظروا إلى جميعهم نظرًا واحدًا وإن أخطأ بعضهم في الحساب.

أداهم هذا النظر الذي ذكرنا إلى أن يروا أنهم لا يأخذون الحديث إلا ممن كان شيعيًا، ولا يأخذون علمًا إلا ممن كان شيعيًا، ولا يثقون برواية تاريخ إلا ممن كان شيعيًا؛ ولذلك كانت كتب أحاديثهم، وفقههم، وأصول فقههم، ورواية تاريخهم محصورة كلها في المتشيعين.

بهذا حصروا أنفسهم في دائرة خاصة، حتى كأنهم هم المسلمون وحدهم؛ فإن عاشوا وسط السنيين فباطنهم لأنفسهم، وظاهرهم التقية.

وفي الحق أن كثيرًا من «أهل السنة» وقفوا نفس موقف الشيعة، فلم يرض كثير من المحدثين أن يرووا أحاديث الشيعة ولم يرض كثير من الفقهاء أن يعدوا خلافات الشيعة بين اختلافات الفقهاء.

وكان أولى الفريقين أن يكون عمادهم في الأخذ والرد صدق الراوي وكذبه مهما كان مذهبه الديني.

ومع هذا فكان نظر السنيين أقرب إلى العدل وأدنى إلى الإنصاف؛ فلم يكرهوا عليًا كره الشيعة لأبي بكر وعمر وعائشة، بل مجدوه وعظموه، وأثنوا عليه، واعترفوا بفضائله، وإن رأوا أن أبا بكر وعمر يفضلانه، ورووا ما صح عندهم من حديث علي؛ ولئن كان رجال السياسة قد أساءوا إلى عليّ وشيعته نفيًا وقتلًا وتعذيبًا، فإن رجال العلم والدين كانوا أعدل في معاملة الشيعة من معاملة الشيعة لرجال الدين والعلم السنيين، وإن أخذ على السنيين شيء إزاء موقفهم نحو الصحابة والتابعين، فهو أنهم بالغوا في تمجيدهم جميعًا، فلم يشاءوا أن ينقدوا في جرأة وصراحة عمل أحد منهم سواء كان شيعيًا أم غير شيعي، وسواء كان عليًا أم أبا بكر، وشتان بين صنيعهم وصنيع الشيعة في السب واللعن لكل من لم يكن شيعيًا، وخاصة من دخل في خلاف مع عليّ وشيعته. ولو أنصفوا جميعًا لوقفوا منهم موقف المؤرخ الصريح الصادق ينقدون عمل العامل من غير نظر إلى فرقته ومذهبه، ويمجدون عمل الخير من أي جهة كان، ولكن من لنا بالصدر الرحب والعقل الواسع؟!

•••

فقه الشيعة: ومنحى الفقه الشيعي يشبه منحى الفقه السني من اعتماده على الكتاب والسنة، وإن كان هناك خلاف في الأصول والفروع، فأهم منشئه أشياء:
  • (الأول): أن ما كان من أصول وفروع عند السنيين يخالف تعاليم الشيعة وعقائدها، التي ألممنا بها من قبل، يرفض رفضًا باتًا، ويحل محل أصول وفروع تتمشى مع العقائد الشيعية.
  • (الثاني): أنهم — وقد منعوا أنفسهم من أن يأخذوا حديثًا أو رأيًا إلا عن إمام من أئمة الشيعة وعالم شيعي وراوٍ شيعي — اضطروا أن يبنوا أحكامهم على الكتاب بالتفسير الشيعي والأحاديث بالرواية الشيعية فقط، وأن يرفضوا ما روي عن غيرهم، وهذا يستتبع حتمًا ضيقًا في التشريع من جهة، ومخالفة للتشريع السني في بعض المسائل من جهة أخرى.
  • (الثالث): أن الشيعة أنكروا الإجماع العام كأصل من أصول التشريع، لأن هذا يسلم إلى الأخذ بأقوال غير الشيعة، وأنكروا القياس لأنه رأي، والدين لا يؤخذ بالرأي، وإنما يؤخذ عن الله ورسوله وعن الأئمة المعصومين، وقد استلزم قولهم بعصمة الأئمة أن يأخذوا أقوالهم كنصوص من قبل الشارع لا تحتمل خلافًا.

ولنسق على ذلك أمثلة من المسائل المشهورة التي خالف فيها الشيعة السنية:

١- فمن أهم ذلك وأشهره نكاح المتعة، وهي أن يتعاقد الرجل مع امرأة أن يتزوج بها بأجر معين إلى أجل مسمى، كأن يقول لها تزوجتك بخمسة جنيهات لمدة أسبوع فتقبل. ونكاح المتعة عند الشيعة لا توارث فيه، فلا ترث الزوجة زواج متعة من الرجل ولا يرث منها؛ ولا يشترط لصحة المتعة شهود بل تصح من غير شهود ومن غير إعلان، ولا حاجة فيها إلى الطلاق، بل ينتهي العقد بانتهاء المدة المحدودة، وعدتها حيضتان لمن تحيض، وخمسة وأربعون يومًا لمن لا تحيض، ولا حد لعدد النساء المتمتع بهن، فليس شأنهن شأن الزوجات بزواج دائم من قصرهن على أربع، بل له أن يستمتع بما شاء من عدد.

وقد وردت في المتعة نصوص مختلفة ذهب فيها العلماء مذاهب مختلفة يطول شرحها، ولنورد بعضها في إجمال:

فأولًا — ورد في القرآن في سورة النساء وهي مدنية: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً، فذهب قوم إلى أن الآية وردت في حلِّ نكاح المتعة، ودليلهم على هذا:

  • (١)

    أنه عبر في ذلك بلفظ الاستمتاع دون لفظ النكاح، والاستمتاع والمتعة بمعنى واحد.

  • (٢)

    أنه أمر بإيتاء الأجر، وفي هذا إشارة إلى أن العقد عقد إيجار، والمتعة إيجار على منفعة البضع.

  • (٣)

    أنه أمر بإيتاء الأجر بعد الاستمتاع، وذلك يكون في عقد الإجارة والمتعة، فأما المهر فإنما يجب في النكاح بنفس العقد، ويطالب الزوج بالمهر أولًا ثم يمكن من الاستمتاع، فدلت الآية على جواز عقد المتعة.

وقد ردّ على ذلك آخرون، وقالوا: إن الآية واردة في النكاح المعروف لا في نكاح المتعة، لأن سياق الآية كلها في النكاح، فقد ذكر أول الآيات أجناسًا ممن يحرم زواجهن، وأباح ما وراء ذلك، فيصرف قوله: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إلى الاستمتاع بعقد النكاح المعروف؛ وأما تسمية الواجب أجرًا فقد ورد في القرآن تسمية المهر أجرًا، قال تعالى: فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن، وقال تعالى: يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وأما أنه أمر بإيتاء الأجر بعد الاستمتاع — وليس ذلك الشأن في النكاح — فقالوا إن في الآية تقديمًا وتأخيرًا كأنه تعالى قال: فآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ إذَا استَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ أي إذا أردتم الاستمتاع كقوله تعالى: يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ. أي إذا أردتم تطليقهن. واستدل هؤلاء المحرمون للمتعة بقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فقد حرم الجماع إلا بأحد شيئين: عقد النكاح وملك اليمين، والمتعة ليست بنكاح ولا بملك يمين، والدليل على أنها ليست بنكاح أنها ترتفع بغير طلاق، ولا يجري التوارث فيها بينهما.

وثانيًا — وردت أحاديث كثيرة مختلفة الدلالة في المتعة نسوق بعضها: فقد روي عن ابن مسعود قال: كنا نغزو مع رسول الله ليس معنا نساء فقلنا: ألا نَختصِي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا بعد أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل؛ ثم قرأ ابن مسعود يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وعن أبي جمرة قال: سألت ابن عباس عن متعة النساء فرخص، فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد، وفي النساء قلة أو نحوه؟ فقال ابن عباس: نعم. رواه البخاري.

وعن محمد بن كعب عن ابن عباس قال: «إنما كانت المتعة في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم، فتحفظ له متاعه، وتصلح له شأنه، حتى نزلت هذه الآية إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِم أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ قال ابن عباس: فكل فرج سواهما حرام». رواه الترمذي.

وعن عليّ أن رسول الله نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، وفي رواية نهى عن متعة النساء يوم خيبر.

وعن سلمة بن الأكوع قال: رخص لنا رسول الله في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها.

وعن سيرة الجهني أنه غزا مع النبي فتح مكة، قال: فأقمنا بها خمسة عشر، فأذن لنا رسول الله في متعة النساء، فلم أخرج حتى حرمها. وفي رواية أنه كان مع النبي فقال: يأيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا. رواه أحمد ومسلم. وفي راوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى في حجة الوداع عن نكاح المتعة. رواه أحمد وأبو داود.

هذا طرف من الأحاديث التي وردت في المتعة.

فالظاهر من كل هذا أن نكاح المتعة أجازه رسول الله في بعض الأوقات وعند الحاجة؛ كالسبب الذي ذكره ابن مسعود من أنهم كانوا في غزوة من غير نساء، واشتد بهم الأمر حتى استفتوا في الخصاء. وقد روي التحليل في غزوات مختلفة آخرها يوم فتح مكة، ثم حرمت.

ورُويت روايات مختلفة عن ابن عباس، فمنها أنه كان يحّلها واستمرَّ على ذلك، ومنها أنه عدل عن رأيه. ويروون في ذلك أن سعيد بن جُبير قال لابن عباس: قد سارت بفتياك الركبان، وقالت فيها الشعراء؛ قال: وما قالوا؟ قال: قالوا:

قد قلتُ للشيخ لما طال مَحْبَسه:
يا صاح هل لك في فَتْوَى ابن عباس
وهل ترى رَخْصَة الأطراف آنِسة
تكون مَثوَاكَ حتى مَصْدَر الناس؟

فقال ابن عباس: سبحان الله! ما بهذا أفْتيتُ، وما هي إلا كالميتة لا تحل إلا للمضطر.

كذلك رُويت روايات مختلفة عن ابن مسعود وعليّ وبعض الصحابة.

وقد أكد عمر بن الخطاب تحريمها في خلافته، وأخذ الناس بتحريمها أخذًا شديدًا، وروي عنه أنه قال: «لا أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته» ثم انقطع الخلاف بإجماع الأئمة الأربعة وفقهاء الأمصار على تحريمها، ما عدا فقهاء الشيعة؛ فقد حكي عن عليّ والباقر والصادق حلّها؛ فجرى من بعدهم على سنهم.

والشيعة إلى الآن تستعمل المتعة، وأكثر ما تستعمله في الأسفار ونحوها؛ فالتاجر مثلًا — في فارس — إذا أقام في بلد أيامًا قد يتزوج زواج متعة.

وكان بعض الأئمة من الشيعة يتعصب لها ويراها قربة، فكان الصادق يقول — كما رووا —: «ليس منا مَن لم يستحلَّ متعتنا».

وروى الكافي أن الباقر سئل عن المتعة، فقال: أحلّها الله في كتابه وسنّة نبيه، نزلت في القرآن: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فهي حلال إلى يوم القيامة؛ فقيل له: يا أبا جعفر، مثلك يقول هذا وقد حرمها عمر؟ فقال: وإن كان فعل؛ فقيل: إنا نعيذك بالله أن تحل شيئًا حرمه عمر، فقال الباقر: أنت على قول صاحبك، وأنا على قول رسول الله، هلُمَّ أُُلاعِنك أن القول ما قال النبي، والباطل ما قال صاحبك؛ فأقبل عبد الله الليثي وقال: أيسرك أن نساءك وبناتك وأخواتك وبنات عمك يفعلن ذلك؟ فأعرض الباقر حين ذكر نساءه وبنات عمه.

بل ربما كان من الأسباب التي حملت الشيعة على التمسك بالمتعة نهي عمر عنها، لما في نفوسهم من كراهية شديدة له ولأعماله وآرائه.

•••

وبعد، فإن حكمنها العقل في هذا النوع من النكاح، لم نجده يفترق كثيرًا عن الزنا؛ روي عن عليّ أنه قال: «لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي»، وقد أصاب عمر وجه الصواب بإدراكه أن لا كبير فرق بين متعة وزنا. ثم إن عدّ المتعة من باب استئجار بضع المرأة شناعة يمجها الذوق السليم، وفيه تسهيل لعيشة الإباحة التي لا تتقيد بقيود، ولا تتحمل عبء الزواج؛ يضاف إلى ذلك ما يستتبعه نظام إباحة المتعة من فساد المرأة واستهتارها، وكثرة الضحايا منهن، فاستئجار المرأة أيامًا وتركها يعرّضها لأشد أنواع الخطر، وهذا ما حدث فعلًا، وضج بالشكوى منه عقلاء فارس.

وإذا كان المثل الأعلى للأسرة زوجًا واحدًا، وزوجة واحدة، وعروة وثقى باقية أبدًا في سعادة ينشأ في أحضانها الأبناء والبنات، فما أبعد نكاح المتعة من هذا المثل.

٢- ومما خالفوا فيه «أهل السنة» قولهم بتحريم الزواج من اليهودية والنصرانية، و «أهل السنة» يجيزونه استنادًا إلى قوله تعالى فيمن أحل الزواج بهن: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ، والشيعة تقول: إن هذه الآية منسوخة بآية وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ.

٣- وللشيعة كذلك خلاف طويل في نظام الإرث؟ فهم ينكرون العول في الميراث، كما إذا مات شخص عن زوجة، وبنتين، وأم، وأب، فإن للزوجة الثمن، وللبنتين الثلثين، وللأم والأب الثلث؛ فإذا كانت المسألة من أربعة وعشرين كان الناتج سبعة وعشرين، فهذا عول، فتقسم التركة إلى سبعة وعشرين جزءًا بدل أربعة وعشرين، والزوجة تأخذ ثلاثة من. سبعة وعشرين، والبنتان ١٦ والأبوان ٨.

وقد ذكروا أن أول من حكم بالعول عمر بن الخطاب، والشيعة تنكر العول وتذهب مذهب ابن عباس في عدم العول، وتقدم بعض الورثة على بعض؛ فتقدم الزوجة والأبوين على البنتين في أخذ نصيبهم، فتأخذ الزوجة في المثال المتقدم ثلاثة من ٢٤، والأبوان ٨ من ٢٤ والبنتان ١٣ وهو الباقي بدل ١٦.

والشيعة تقدم القرابة على العصبة، ويروون أن الصادق سئل لمن المال للأقرب أو للعصبة؟ فقال: «المال للأقرب، والعصبة في فيه التراب، وتوريث الرجال دون النساء قضية جاهلية».

فإذا مات رجل عن بنت وابن ابن؛ فالمال كله للبنت عند الشيعة لأنها أقرب من ابن الابن؛ وعند أهل السنة النصف للبنت والنصف لابن الابن لأنه عصبة.

ومن أغرب مسائلهم في الإرث أنهم يقولون: إن ابن العم الشقيق مقدم على العم لأب، ولعلهم يرمون بذلك أن يكون عليّ بن أبي طالب متقدمًا في إرث رسول الله على العباس، لأن عليًا ابن عمٍ شقيق والعباس عم لأب. والشيعة لا تورّث النساء من الأرض والعقار، إنما تورّثهن من فروع الأموال.

وهم يقولون: إن الأنبياء تورث، وأهل السنة يقولون لا يورثون، لحديث، «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة»؛ احتج به أبو بكر فمنع فاطمة من الإرث، وماتت هي واحدة عليه. وقولهم في إرث النبي في المال يؤيد من طريق غير مباشر دعواهم في إرث الخلافة.

٤- كذلك للشيعة خلاف في صيغة الأذان٦٢ وفي المسح على الرجلين في الوضوء دون غسلهما، وغير ذلك مما يطول شرحه، فنجتزئ هنا بهذا القدر.

•••

وأكبر شخصيات ذلك العصر في التشريع الشيعي، بل ربما كان أكبر الشخصيات في ذلك في العصور المختلفة الإمام جعفر الصادق.

الإمام جعفر الصادق: عاصر آخر الدولة الأموية، وصدرًا من الدولة العباسية، وهو ابن الإمام محمد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، عاش، نحوًا من خمسة وستين عامًا، ولد كما يقول الكليني سنة ٨٣ وتوفي سنة ١٤٨ في خلافة أبي جعفر المنصور؛ وأمه أم فروة بنت القاسم بن أبي بكر الصديق، ولعل هذا كان سببًا في تلطيف نظره إلى أبي بكر، على عكس جمهور الشيعة. ويظهر أنه كان بعيد عن غمار السياسة، والدخول في متاعبها، والاصطلاء بنارها، وهذا ما يعلل عيشته عيشة سالمة من اضطهاد الأمويين والعباسيين له غالبًا، على الرغم مما في ذلك العصر من فتن واضطراب ودسائس؛ أو أنه طبق مذهب التقية في دقة وإتقان. حكى المسعودي أن أبا سَلَمَة (داعية العباسيين) حين بلغه مقتل إبراهيم الإمام أضمر الرجوع — عما كان عليه من الدعوة العباسية — إلى آل أبي طالب، فبعث بكتابين مع رسول إلى المدينة، أحدهما إلى جعفر (الصادق)، والآخر إلى عبد الله بن الحسن بن الحسين بن عليّ ابن أبي طالب؛ فلما وصل الرسول إلى جعفر أعلمه أنه رسول أبي سلمة ودفع إليه كتابه ليلًا، فقال جعفر: وما أنا وأبو سلمة، وأبو سلمة شيعة لغيري؟ قال له: إني رسول، فتقرأ كتابه وتجيبه بما رأيت؛ فدعا جعفر بسراج، ثم أخذ بكتاب أبي سلمة فوضعه على السراج حتى احترق، وقال للرسول: عرِّف صاحبك بما رأيت، ثم تمثل بقول الكُمَيْت:
أيا موقدًا نارًا لِغيرِْكَ ضَوؤها
ويا حاطبًا في غير حَبْلِكَ تَحْطِبُ
فخرج الرسول من عنده.٦٣
وكان ذا حظ عظيم من العلم، قال الشهرستاني فيه: «وهو ذو علم غزير في الدين، وأدب كامل في الحكمة، وزهد بالغ في الدنيا، وورع تام عن الشهوات، وقد أقام بالمدينة مدة يفيد الشيعة المنتمين إليه، ويفيض على الموالين له أسرار العلوم، ثم دخل العراق وأقام بها مدة؛ ما تعرض للإمامة قط، ولا نازع أحدًا في الخلافة، ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط، ومن تعلّى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حطّ …».٦٤
ومركزه العلمي كان بالمدينة في أكثر الأحيان، وفي الكوفة حينًا، وله معرفة واسعة بعلوم الدين، وقد ذكروا أن ممن أخذ عنه مالكًا وأبا حنيفة، وأنهما استفادا من علمه؟ كما ذكروا أنه كان له معرفة بالتنجيم والكيمياء، وأن من تلاميذه جابر بن حيان.٦٥
والشيعة تروي عنه الشيء الكثير، حتى صنفوا من إجاباته عن المسائل أربعمائة كتاب سموها «الأصول»، «ولم يرو عن أحد من أهل بيته ما روي عنه حتى قال الحسن بن علي الوشاء — من أصحاب الرضا — أدركت في هذا المسجد (يعني مسجد الكوفة) تسعمائة شيخ كلٌّ يقول: حدثني جعفر بن محمد … وذكروا أن الرواة عنه بلغوا نحو أربعة آلاف رجل».٦٦
وكثير من أحاديث الإمامة ونظمها تروى عنه؛ من أهمها ما رواه جعفر الصادق عن علي بن أبي طالب في كيفية خلق العالم، وانتقال النور من آدم إلى نبينا إلى أن قال: «ثم انتقل النور إلى غرائزنا، ولمع في أئمتنا، فنحن أنوار السماء وأنوار الأرض، فينا النجاة، ومنا مكنون العلم، وإلينا مصير الأمور، وبمهدينا تنقطع الحجج؛ خاتمة الأئمة، ومنقذ الأمة، وغاية النور، ومصدر الأمور؛ فنحن أفضل المخلوقين، وأشرف الموحدين، وحجج رب العالمين، فليهنأ بالنعمة من تمسك بولايتنا، وقبض عروتنا».٦٧

ومن هذا ونحوه يظن أن فكرة المهدية، وعصمة الأئمة وتقديسهم وإعلاء شأنهم نبتت في ذلك العصر، عصر الإمام جعفر الصادق.

ومما عرف من مبادئ جعفر الصادق في التشريع أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد فيها نهي؟ وقوله: ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله ولكن لا تبلغه عقول الرجال. وكان يرى جواز نقل الحديث بالمعنى، فقد سأله محمد بن مسلم: أسمعُ الحديث منك فأزيد وأنقص، قال: إن كنت تريد معانيه فلا بأس؛ وسئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر ولا يدري أيهما هو، وليس يقدر على ماء غيره، قال: يهريقهما جميعًا ويتيمم. وكان لا يقول بالقياس لأنه رأي وإنما يُرجع إلى ما ورد في الأصول من الكتاب والسنة. ويروون أنه ناظر أبا حنيفة في الرأي فقال جعفر الصادق لأبي حنيفة: أيهما أعظم قتل النفس أو الزنا؟ قال: قتل النفس، قال: فإن الله قد قبل في قتل النفس شاهدين، ولم يقبل في الزنا إلا أربعة، ثم سأله أيهما أعظم: الصلاة أو الصوم؟ قال: الصلاة، قال: فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فكيف يقوم لك القياس، فاتق الله ولا تَقِسْ … إلخ.

وللإمام جعفر حكم وأدعية وردت في كتب الشيعة، وروى بعضها الشهرستاني في «الملل والنحل» واليعقوبي في تاريخه.

من أمثلة ذلك قوله: «إن الله تعالى أراد بنا شيئًا، وأراد منا شيئًا؛ فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا أظهره لنا، فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا»، وقوله: «اللهم لك الحمد إن أطعتك، ولك الحجة إن عصيتك، لا صنع لي ولا لغيري في إحسان، ولا حجة لي ولا لغيري في إساءة».

ولكن تزيّدوا على أقواله وآرائه كما تزيد أتباع الأئمة الآخرين على أئمتهم سواء في آداب الفقه والحديث أو في باب العقائد، فبعض الرسائل التي تنسب إليه لم تصح نسبتها، والشهرستاني يقول: «ولكن الشيعة بعده افترقوا، وانتحل كل واحد منهم مذهبًا، وأراد أن يروِّجه على أصحابه، فنسبه إليه وربطه به، والسيد بريء من ذلك … فمنهم من زعم أنه حي بعدُ ولن يموت حتى يظهر فيظهر أمره»٦٨ إلخ.
ويظهر أن كثرة ما نسب إليه، وصعوبة التمييز بين ما هو صحيح وغير صحيح، حملت البخاري على ألا يروي شيئًا من حديثه. ورجال الحديث من أهل السنة يختلفون فيه، فابن سعد صاحب الطبقات يقول: «إنه كان كثير الحديث ولا يحتج به ويستضعف؛ سئل مرة سمعت هذه الأحاديث من أبيك؛ فقال: نعم، وسئل مرة فقال: إنما وجدتها في كتبه»، ويحيي بن سعيد يقول: «في نفسي منه شيء»؛ وقيل لأبي بكر بن عياش مالك لم تسمع من جعفر وقد أدركته؟ قال: سألناه عما يتحدث به من الأحاديث أشيء سمعته؟ قال: لا ولكنها رواية رويناها عن آبائنا، ووثقه الشافعي ويحيي بن معين وغيرهما، ولم أر أحدًا يتهمه بالكذب ولكن من لا يروي عنه يتهمه بأنه لا يتقيد بما سمع، بل يحدث بما قرأ في الكتب، وهذا عيب في نظر المحدثين. وكان بعض المحدثين يأخذ بحديثه إذا رواه عنه الثقات، قال ابن حبان: «كان من سادات أهل البيت فقهًا وعلمًا وفضلًا، يحتج بحديثه من غير رواية أولاده عنه، وقد اعتبرت حديث الثقات عنه، فرأيت أحاديثه مستقيمة ليس فيها شيء يخالف حديث الإثبات، ومن المحال أن يلصق به ما جناه غيره».٦٩

على الجملة فقد كان الإمام جعفر من أعظم الشخصيات ذوي الأثر في عصره وبعد عصره، وقد مات في العام العاشر من حكم المنصور؛ ويروون أن المنصور سمَّه ولم يثبت ذلك، ودفن في البقيع بالمدينة مع أبيه الباقر وجده رحمة الله عليهم.

ومن أكبر رجال الشيعة زُرَارة بن أعْيَن. قال ابن النديم: «إنه أكبر رجال الشيعة فقهًا وحديثًا ومعرفة بالكلام والتشيع؛ أبوه أعين كان عبدًا روميًا لرجل من بني شيبان تعلم القرآن ثم أعتقه؛ وجده سِنْبِس كان راهبًا في بلاد الروم»٧٠ صحب زرارة هذا أبا جعفر محمدًا الباقر وابنه جعفر الصادق، ومات سنة ١٥٠هـ، وله آراء كثيرة منثورة في كتب الكلام.٧١

•••

على كل حال أهم ما يمتاز به تشريعهم بناؤه على أحاديث رويت عن أهل البيت، وكان كثير من هذه الأحاديث يصعب جمعها في عهد الأمويين لاضطهادهم العلويين، كالذي روينا من قبل من أمر معاوية للرواة ألا يذكروا شيئًا من فضائل عليّ، وأن يستكثروا من فضائل عثمان، فكان بعض الجامعين للحديث يتقون الأمويين في شأن أحاديث أهل البيت، ولم يكن الحال في صدر الدولة العباسية بخير من هذا — وربما كان أكثر الكتب ذكرًا لأحاديث أهل البيت مسند أحمد، ويذكر ابن خلكان في ترجمة النسائي (٢١٤–٣٠٣) أنه صنف كتاب الخصائص في فضل عليّ بن أبي طالب وأهل البيت، وأكثر رواياته فيه عن أحمد بن حنبل، فقيل له: ألا تصنف كتابًا في فضائل الصحابة فقال: «دخلت دمشق والمنحرف عن عليّ كثير، فأردت أن يهديهم الله بهذا الكتاب»، «وقد خرج إلى دمشق، فسئل عن معاوية وما روي من فضائله، فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأسًا برأس حتى يُفَضَّل!.. وكان يتشيع فمازالوا يدفعون في حضنه حتى أخرجوه من المسجد … ثم حمل إلى الرملة فمات بها».٧٢

فكان كثير من أحاديث أهل البيت ولم يرو في كتب أهل السنة لهذا السبب السياسي، ولسبب آخر وهو تزيد أصحابهم عليهم. فاستقل أهل البيت بأحاديثهم، وهم أيضًا — من ناحيتهم — لم يشاءوا أن يرووا أحاديث الصحابة غير العلويين أمثال أبي بكر وعمر ومعاوية وعائشة لكرههم لهم، ولاعتقادهم أيضًا أن أتباعهم تزيدوا لهم. فنشأ من ذلك مجموعتان من الأحاديث: مجاميع يرويها أهل السنة كالبخاري ومسلم، وقد سبق الكلام فيهما، ومجاميع يرويها الشيعة: ومن أجمع كتبهم في هذا كتاب الكافي في علم الدين لمحمد بن يعقوب الكليني، وهو يحتوي ستة عشر ألف حديث، قسمها — كما فعل أهل السنة — إلى صحيح وحسن وقوي وضعيف إلخ، وقد اتفق في جمعه عشرين عامًا، ويسميه الشيعة «ثقة الإسلام»، وقد مات ببغداد سنة ٣٢٨ أو سنة ٣٢٩، ودفن بالكوفة؛ وغيره من الكتب أُلِّف بعده على نمطه.

فكان اختلاف التشريع بين أهل السنة والشيعة مبنيًا في الغالب على:

  • (١)

    اختلافهم في فهم القرآن، وللشيعة تأويلات في بعض الآيات خاصة بهم.

  • (٢)

    وعلى أحاديث يرويها الشيعة عن أئمتهم لا يعترف بها أهل السنة.

•••

وهم يقولون في كثير من مسائل أصول الدين بقول المعتزلة، فقد قال الشيعة كما قال المعتزلة بأن صفات الله عين ذاته، وبأن القرآن مخلوق، وبإنكار الكلام النفسي، وإنكار رؤية الله بالبصر في الدنيا والآخرة، كما وافق الشيعة المعتزلة في القول بالحسن والقبح العقليين، وبقدرة العبد واختياره، وأنه تعالى لا يصدر عنه قبيح، وأن أفعاله معللة بالعلل والأغراض إلخ.

وقد قرأت كتاب الياقوت لأبي إسحق إبراهيم بن نوبخت من قدماء متكلمي الشيعة الإمامية٧٣ فكنت كأني أقرأ كتابًا من كتب أصول المعتزلة إلا في مسائل معدودة كالفصل الأخير في الإمامة، وإمامة عليّ، وإمامة الأحد عشر بعده.
ولكن أيهما أخذ من الآخر؟ أما بعض الشيعة فيزعم أن المعتزلة أخذوا عنهم، وأن واصل بن عطاء — رأس المعتزلة — تتلمذ لجعفر الصادق، وأنا أرجح أن الشيعة هم الذين أخذوا من المعتزلة تعاليمهم، وتتبُّعُ نشوء مذهب الاعتزال يدل على ذلك، وزيد بن عليّ زعيم الفرقة الشيعية الزيدية التي تنتسب إليه تتلمذ لواصل، وكان جعفر يتصل بعمه زيد؛ ويقول أبو الفرج الأصفهاني في «مقاتل الطالبين»: «كان جعفر بن محمد يمسك لزيد بن عليّ بالركاب ويسوي ثيابه على السرج»؛٧٤ فإذا صح ما ذكره الشهرستاني وغيره عن تتلمذ زيد لواصل، فلا يعقل كثيرًا أن يتتلمذ واصل لجعفر.

وكثير من المعتزلة كان يتشيع، فالظاهر أنه عن طريق هؤلاء تسربت أصول المعتزلة إلى الشيعة.

وقد اشتهر من الشيعة كثير من المتكلمين من أشهرهم هشام بن الحكم، وشيطان الطاق.

فأما هشام بن الحكم، فيظهر أنه أكبر شخصية شيعية في علم الكلام، كان مولي لبني شيبان، وكان من تلاميذ جعفر الصادق، نشأ بالكوفة وحظي عند البرامكة لتشيعهم المستتر، بل اتصل بالرشيد نفسه، وكان جدلًا قوي الحجة، ناظر المعتزلة وناظروه، ونقلت له في كتب الأدب مناظرات كثيرة متفرقة تدل على حضور بديهته وقوة حجته، «دخل يومًا على بعض الولاة العباسيين، فقال رجل للعباسي: أنا أقرر هشامًا بأن عليًا كان ظالمًا، فقال له؛ إن فعلت ذلك فلك كذا، فقال له يا أبا محمد (كنية هشام) أما علمت أن عليًا نازع العباس إلى أبي بكر؟ قال: نعم، قال: فأيهما كان الظالم لصاحبه؟ فتوقف هشام وقال: إن قلت العباس خفت العباسي، وإن قلت عليًا ناقضت قولي، ثم قال: لم يكن فيهما ظالم، قال: فيختصم اثنان في أمر وهما محقان جميعًا؟ قال: نعم، اختصم الملكان إلى داود وليس فيهما ظالم، إنما أرادا أن ينبهان على ظلمه، كذلك اختصم هذان إلى أبي بكر ليعرّفاه ظلمه»، فأمسك الرجل.٧٥

وجاءه رجل ملحد فقال له: أنا أقول بالاثنين، وقد عرفت إنصافك فلست أخاف مشاغبتك؛ فقام هشام وهو مشغول بثوب ينشره وقال: حفظك الله، هل يقدر أحدهما أن يخلق شيئًا لا يستعين بصاحبه عليه؟ قال: نعم، قال هشام. فما ترجو من اثنين؟ واحد خَلَقَ كل شيء أصح لك؛ فقال الرجل: لم يكلمني بهذا أحد قبلك.

وقد ناظر أبا الهذيل العلاف المعتزلي وروى عنه الخياط أنه كان يقول: إن أمة محمد ارتدت بعد وفاته، وخالفت أمره وبدلت حكمه، وأزالت خليفته عن مقامه إلخ.٧٦

ويظهر أنه كان يميل إلى الجبر، وله مع المعتزلة في ذلك مناظرات كما كان يميل إلى التجسيم، وحكي عنه في ذلك أقوال، والجاحظ يشتد عليه في المناقشة ويغضب في نقده غيرة على المعتزلة.

وعلى الجملة فقد كان له فضل كبير في صياغة الكلام على المذهب الشيعي، وألف كتبًا كثيرة لم يصل إلينا شيء منها. قال ابن النديم «إنه توفي بعد نكبة البرامكة مستترًا، وقيل في خلافة المأمون».

وأما شيطان الطاق فاسمه محمد بن النعمان، يسميه أهل السنة «شيطان الطاق»، ويسميه الشيعة مؤمن الطاق — من أصحاب جعفر الصادق كذلك.
والطاق محلة ببغداد، وكان صيرفيًا ماهرًا بمعرفة الدراهم والدنانير، فسموه شيطان الطاق لذلك. وقد حكي في «بحار الأنوار» مناظرة بينه وبين أبي خدرة؛ ذلك أن أبا خدرة كان يفضل أبا بكر على عليّ، وكان من الخوارج، وشيطان الطاق شيعي يفضل عليًا؛ فاجتمع قوم من الخوارج وقوم من الشيعة بالكوفة عند أبي نعيم النخعي، فقال أبو خدرة الخارجي: إن أبا بكر أفضل من عليّ وجميع الصحابة بأربع خصال: فهو ثاني لرسول الله، دفن في بيته، وهو ثاني اثنين معه في الغار، وهو ثاني اثنين صلى بالناس آخر صلاة قبض بعدها رسول الله، وهو ثاني صديق من الأمة. فرد عليه شيطان الطاق وقال: يا ابن أبي خدرة، أترك النبي بيوته — التي أضافها الله إليه، ونهى الناس عن دخولها إلا بإذنه — ميراثًا لأهله وولده، أو تركها صدقة على جميع المسلمين؟ فإن تركها ميراثًا لولده وأزواجه فقد ترك تسع زوجات، فليس لعائشة إلا نصيب إحداهن (أي فلم يكن لها أن تدفن أبا بكر في بيته ونصيبها لا يسمح بذلك)، وإن كان تركها ميراثًا لجميع المسلمين فإنه لم يكن له نصيب من البيت إلا كما لكل رجل من المسلمين؛ وأما قولك إنه ثاني اثنين إذ هما في الغار، فإن مكان عليّ في هذه الليلة على فراش النبي وبذل مهجته دونه أفضل من مكان صاحبك في الغار؛ وأما قولك في صلاته بالناس، فقد تقدم ليصلي بالناس في مرض رسول الله، فخرج النبي وتقدم وصلى بالناس وعزله عنها، ولو كان قد صلى بأمره لما عزله من تلك الصلاة؛ وأما تسميته الصديق فهو شيء سماه الناس، وقد أوجب الله عز وجل على صاحبك الاستغفار لعليّ بن أبي طالب بقوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ؛ ومن سماه القرآن وشهد له بالصدق والتصديق أولى ممن سماه الناس — إلى آخر المناظرة. كما حكى له مناظرات أخرى مع أبي حنيفة.٧٧

الزيدية

هم فرقة كبيرة من فرق الشيعة تتبع زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب؛ مَثل هو وهشام بن عبد الملك ثانية دور الحسين ويزيد بن معاوية؛ فقد كان زيد طموحًا إلى الخلافة، نافرًا مما يناله وقومه من ظلم الأمويين، وذهب إلى العراق لخصومة مالية — إذ كان قد ادعى عليه خالد بن عبد الله القسري زورًا وديعة ستمائة ألف درهم، فألح عليه أهل الكوفة أن يخرج على الأمويين ووعدوه بالنصرة، وكان هشام يخشى جانبه، فأمر عامله على العراق، يوسف بن عمر الثقفي، ألا يدعه طويلًا في العراق، فأمره يوسف بالرحيل، فخرج ثم عاد وبث دعاته، وعزم على الخروج على بني أمية. وكان زيد من قديم يرشح نفسه للخلافة ويكره الذل، ويرى أنه أحق بالأمر من هشام، قال مرة: «والله لا يحب الدنيا أحد إلا ذل»، فبلغت هشامًا. وقال له هشام مرة: لقد بلغني يا زيد أنك تذكر الخلافة وتتمناها ولست هناك، وأنت ابن أمة (وكانت أمه سندية)، قال يا أمير المؤمنين: لقد كان إسحق بن حرة وإسماعيل ابن أمة، فاختص الله ولد إسماعيل فجعل منهم العرب، فمازالوا ذلك ينمي حتى كان منهم رسول الله. فلما كان في العراق سنة ١٢١ نفذ خطته، وقد نصحه كثيرون ألا يفعل، نصحه سَلَمَة بن كُهَيْل، فقال له: نشدتك الله كم بايعك؟ قال زيد: أربعون ألفًا، قال: فكم بايع جدك (الحسين)؟ قال ثمانون ألفًا، قال: فكم حصل معه؟ قال: ثلاثمائة، قال: نشدتك الله أنت خير أم جدك؟ قال: جدي، قال: أفقرنك الذي خرجت فيه أم القرن الذي خرج فيه جدك؟ قال: بل القرن الذي فيه جدي، قال أفتطمع أن يفي لك هؤلاء وقد غدر أولئك بجدك؟ قال: قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وأعناقهم. وكتب عبد الله بن الحسن إلى زيد يقول: «يا ابن عم! إن أهل الكوفة نُفُخُ العلانية خُورُ السريرة، هُرُج في الرخاء، جُزعُ في اللقاء تَقَدَّمهُمُ ألسنتهم، ولا تشايعهم قلوبهم، لا يبيتون بعدة في الأحداث، ولا ينوءون بدولة مرجوة، ولقد تواترت كتبهم إليّ بدعوتهم، فصمت عن ندائهم، وألبست قلبي غشاء عن ذكرهم، يأسًا منهم، وإطراحًا لهم، وما لهم مَثَل إلا ما قال عليّ بن أبي طالب: «إن أُهملتم خُضتم، وإن حوربتم خُرتم، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم، وإن أجبتم إلى مُشاقّة نكصتم».

لم تفده تلك النصائح شيئًا، وبعث الدعاة إلى أهل السواد وأهل الموصل، وكانت بيعته التي يبايع عليها الناس «إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء ورد المظالم، وإقفال المَجَمَّر٧٨ ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا وجهل حقنا، أتبايعون على ذلك؟ فإذا قالوا: نعم، وضع يده على يدهم».

ولبث على ذلك بضعة عشر شهرًا، ثم أمر أصحابه بالخروج قبل الموعد المحدد لما أحس أن يوسف بن عمر يطلبه هو وأصحابه؛ فلما جد الجد تفرق عنه أكثر من بايعه، ولم يبق معه إلا ثلاثمائة أو أقل، وكانت بينهم وبين يوسف ابن عمر ملحمة ثبت فيها زيد ومن معه، حتى إذا جنح الليل رمي زيد بسهم فأصاب جانب جبهته اليسرى، فلما انتُزع منه قَضَى، فأخذ رأسه وبعث به إلى هشام، فأمر به فنصب على باب مدينة دمشق، ثم أرسل إلى المدينة، ومكث البدن مصلوبا حتى مات هشام، ثم أمر به الوليد فأنزل وأحرق. وكان قتل زيد سنة ١٢٢.

كان زيد واسع العلم بالدين قوي الحجة. وصفه خصمه هشام بن عبد الملك فقال: رأيته «رجلًا جدلًا لسنًا خليقًا بتمويه الكلام وصوغه، واجترار الرجال بحلاوة لسانه وبكثرة مخارجه في حججه، وما يدلي به عند لدد الخصام من السطوة على الخصم بالقوة الحادة لنيل الَفَلج.. إن أعاره القوم أسماعهم فخشاها من لين لفظه وحلاوة منطقه مع ما يدلي به من القرابة برسول الله وجدهم ميَّلًا إليه، غير متئدة قلوبهم، ولا ساكنة أحلامهم، ولا مصونة عندهم أديانهم».٧٩
وهرب ابنه يحيي بن زيد إلى خراسان، وصار إلى بلخ، وأقام بها متواريًا، يبث الدعاة، ويتهيأ للثورة؛ ثم خرج على الوليد بن يزيد، فأصيب بنُشَّابة أصابت جبهته؛ فكتب الوليد إلى يوسف بن عمر أن انظر عِجل العراق٨٠ (يعني يحيى) فاحرقه، ثم انسفه في اليم نسفًا. فأنزله من جذعه الذي صلب عليه، وأحرقه بالنار، وجعله في قوصرة، ثم جعله في سفينة، ثم ذراه في الفرات؛ وكان ذلك سنة ١٢٥.

وقد كان قتل زيد وابنه يحيى على النحو الذي روينا سببًا من أسباب زيادة البغض للأمويين والاستعداد للثورة عليهم.

وقد روى أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبين: أن أبا حنيفة كان ينصر زيدًا ويميل إليه، وأنه أرسل إليه يقول: «إن لك عندي معونة وقوة على جهاد عدوك فاستعن بها أنت وأصحابك في الكراع والسلاح»، وبعث بمال إلى زيد فقبله منه.٨١
وقال الزمخشري في الكشاف: «وكان أبو حنيفة يفتي سرًا بوجوب نصرة زيد بن عليّ، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة».٨٢
ولم يجتمع حوله الشيعة كلهم لنصرته لما ذكرنا من أخلاق أهل الكوفة، ولأن كثيرًا من الشيعة كانوا يقولون بإمامة أخيه محمد الباقر، ثم لابنه جعفر الصادق، ولأنه كان معتدلًا في تشيعه اعتدالًا لا يرضي الغلاة، «اجتمع إليه جماعة من رءوسهم، فقالوا رحمك الله ما قولك في أبي بكر وعمر؟ قال زيد: رحمهما الله وغفر لهما، ما سمعت أحدًا من أهل بيتي يتبرأ منهما، ولا يقول فيهما إلا خيرًا، قالوا: فلِم تطلب إذًا بدم أهل هذا البيت إلا أن وثبا على سلطانكم فنزعاه من أيديكم؟ فقال لهم زيد: إن أشد ما أقول فيما ذكرتم أنا كنا أحق بسلطان رسول الله من الناس أجمعين، وأن القوم استأثروا علينا ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا لهم كفرًا، قد وُلوا فعدلوا في الناس وعملوا بالكتاب والسنة؛ قالوا فلم يظلمك هؤلاء إذا كان أولئك لم يظلمون، فلمَ تدعو إلى قتال قوم ليسوا لك بظالمين؟ فقال إن هؤلاء ليسوا كأولئك، إن هؤلاء ظالمون لي ولكم ولأنفسهم، وإنما ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ، وإلى السنن أن تحيا وإلى البدع أن تطفأ، فإن أنتم أجبتمونا سعدتم، وإن أنتم أبيتم فلست عليكم بوكيل، ففارقوه ونكثوا بيعته … وقالوا: جعفر إمامنا اليوم بعد أبيه، وهو أحق بالأمر بعد أبيه، ولا نتبع زيد بن عليّ فليس بإمام، فسماهم زيد الرافضة».٨٣

هذا زيد زعيم فرقة الزيدية، وقد ظل أتباعه يعملون من بعده حتى نجحوا في بعض البقاع كطبرستان واليمن، ولا يزال معظم بلاد اليمن من الزيدية إلى اليوم، ولا سيما في البلاد الجبلية.

تعاليمه: قال الشهرستاني: «أتباع زيد بن علي ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة، ولم يجوزوا ثبوت إمامة في غيرهم (أي كمحمد بن الحنفية)، إلا أنهم جوزوا أن يكون كل فاطمي عالم زاهد شجاع سخي خرج للإمامة يكون إمامًا واجب الطاعة، سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين … وزيد ابن علي لما كان مذهبه هذا المذهب أراد أن يحصل الأصول والفروع حتى يتحلى بالعلم، فتتلمذ في الأصول لواصل بن عطاء — رأس المعتزلة — مع اعتقاد واصل أن جده عليّ بن أبي طالب — في حروبه التي جرت بينه وبين أصحاب الجمل وأهل الشام — ما كان على يقين من الصواب، وأن أحد الفريقين منهما كان على الخطأ لا بعينه، فاقتبس منه الاعتزال، وصارت أصحابه كلها معتزلة؛ وكان من مذهبه (مذهب زيد) جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل (ومن أجل هذا صحح إمامة أبي بكر وعمر) … ولما سمعت شيعة الكوفة هذه المقالة منه، وعرفوا أنه لا يتبرأ من الشيخين رفضوه حتى أتى قدره عليه فسميت رافضة؛ وجرت بينه وبين أخيه محمد الباقر مناظرة لا من هذا الوجه، بل من حيث يتتلمذ لواصل بن عطاء، ويقتبس العلم ممن كان يجوّز الخطأ على جدّه في قتال الناكثين والقاسطين، ومن يتكلم في القدر على غير ما ذهب إليه أهل البيت، ومن حيث إنه (أي زيدًا) كان يشترط الخروج شرطًا في كون الإمام إمامًا حتى قال له يومًا: «على قضية مذهبك، والدك ليس بإمام (يعني عليا زين العابدين) لأنه لم يخرج قط ولا تعرض للخروج».٨٤

وهم في تعاليمهم أقرب إلى أهل السنة، فلا يقولون بالتقية، ولا يتبرأون من أبي بكر وعمر ولا يلعنوهما، ولا يقولون بعصمة الأئمة، ولا يقولون باختفائهم.

وهم يشترطون الاجتهاد في أئمتهم، فلذلك كثير فيهم الاجتهاد، وكثرت آراؤهم في الفقه، ونبغ منهم كثيرون من المجتهدين، كالإمام الداعي إلى الحق الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل، وقد ملك طبرستان من سنة ٢٥٠–٢٧٠ وله كتاب «الجامع في الفقه»، وكالقاسم بن إبراهيم العلوي الذي تولى على صعدة من بلاد اليمن ٢٤٦–٢٨٠، وهو الذي ينسب إليه كتاب الرد على ابن المقفع الذي نشر حديثًا.

ومن أهم ما بين أيدينا من كتبهم كتاب «المجموع»٨٥ جمعت فيه الأحاديث التي رويت عن الإمام زيد والفتاوى مرتبة ترتيب الفقه، وقد ذكروا أنه أول كتاب جمع في الفقه على مذهب الزيدية، والروايات فيه كلها عن زيد عن آبائه من الأئمة؛ فيقول مثلًا: حدثني زيد عن أبيه عن جده عن عليّ عليه السلام وأكثره على هذا النمط؛ وبعضه فتاوى سئل فيها زيد، مثل: سألت زيدًا عن الرجل يكون له أقل من خمسين درهما، قال ليس عليه صدقة الفطر، وهكذا في كل أبواب الفقه — وبعض ما روي في هذا الكتاب عن زيد عن أبيه (عليّ زين العابدين) عن جده (الحسين) عن عليّ، يخالف ما يرويه الإمامية عن الإمام الباقر عن أبيه (عليّ زين العابدين) عن جده عن عليّ — ويعلل ذلك الزيدية بأن الرواة عن زيدهم عدول الزيدية الذين لا مطعن عليهم، والرواة عن الباقر هم الإمامية ولم تثبت لنا عدالتهم.٨٦

وهذا الكتاب يطلعنا على ناحيتين هامتين: إحداهما الأحاديث المروية عن أهل البيت من زيد إلى عليّ مرتبة ترتيبًا فقهيًا، وذلك يمكن من الإ طلاع على أصولهم التي بنوا عليها الأحكام؛ والثانية ترينا تشدد أهل البيت جميعًا في عدم أخذ شيء من الأحكام ولا رواية الأحاديث إلا عن الأئمة، فلا تكاد تجد حديثًا في هذا المجموع الكبير إلا ومرجعه الأخير زيد أو عليّ، لا شيء عن أبي بكر، أو عمر، أو ابن مسعود، أو غيرهم من الصحابة.

التاريخ السياسي للشيعة في هذا العصر: ولست أريد أن أدخل في تفاصيل التاريخ السياسي للشيعة، لأن هذا بكتب التاريخ السياسي أشبه؛ إنما أريد أن أ قتصر منه على ما يوضح الفِرق والمذاهب، ويلقي ضوءًا على ما ذكرنا قبل من تعاليم، فذلك وحده بموضوعنا أليق.

من وفاة رسول الله ، إلى آخر عصرنا الذي نؤرخه وإلى ما بعده وشيعة عليّ تتطلب له ولنسله، وترى أنهم أحق بها، وتاريخهم بين وثبة واستعداد للوثبة، والخلفاء يحذرونهم ويراقبونهم سرًا وعلنًا، وينكلون بهم تنكيلًا شديدًا، فلا يرجع الشيعة عن مطلبهم، ولا يغيّر الخلفاء سياستهم. وكانت حركتهم أيام أبي بكر وعمر وصدر من خلافة عثمان حركة هادئة نوعًا ما، ثم عنفت وتدخَّل فيها السيف والدم فزادها عنفًا. وفي عهد القتال بين عليّ ومعاوية انقسمت المملكة الإسلامية إلى معسكرين: معسكر العراق وهم شيعة عليّ، ومعسكر الشام وهم شيعة معاوية؛ وحتى بعد قتل عليّ واستيلاء معاوية وبيته على المُلك ظل العراق — وخاصة الكوفة — شيعي النزعة، وظلت حركات الغلو في التشيع تنبع منه، كحركة عبد الله بن سبأ والمختار الثقفي؛ وانضم إلى حركة التشيع كثير من الموالي، وخاصة موالي الفرس لما بينا قبلُ من أسباب، فكانت فارس ولا سيما خراسان أميل إلى التشيع كالعراق.

وقف الأمويون من العلويين وقفة لا رحمة فيها، وقفة سياسية لا خلقية، والسياسي إذا نظر إلى العلويين رآهم إما ثوَّارا إن ظهروا، أو متآمرين على قلب الدولة إن اختفوا، والخلفاء الأمويون شباب تأخذهم الحدة وتملؤهم الحمية. ولم يكن من خلفاء بني أُمية وأُمرائهم من تقدمت به السن عند تولي الخلافة أو الإمارة، أو طالت أيامه في الخلافة والإمارة حتى أسن إلا الخليفة معاوية والأمير نصر بن سيَّار.

صفا الجو لمعاوية بقتل عليّ، وحَملِه الحسن بن عليّ أن ينزل عن الخلافة ويترك له الأمر، فتم له ذلك، وصانع بني هاشم وكبار الصحابة وأبناءهم، ورهّب ورغَّب، فاجتمعت كلمة أكثر الناس له.

ولكن العلويين سكتوا على مضض حتى تولى يزيد، فخرج عليه الإمام العلوي الحسين بن عليّ، فقتله يزيد، وارتكب الشناعات في أبناء فاطمة، ومن بقي منهم حيًّا بعد نكبة كربلاء كان أكثرهم أطفالًا لا يصلحون لقيادة، فمنهم من سكت على مضض ينتظر الزمن في إنضاج الأطفال، ومنهم من بايع ابن عليّ من غير فاطمة وهو محمد بن الحنفية.

وتستر الشيعة وأخذوا يعملون في الخفاء واصطنعوا مبدأ التقية.

ثم خرج المختار الثقفي يطالب بدم الحسين، وتحرك كثير من أهل العراق لمشايعته، وذلك في عهد عبد الملك بن مروان، فاستعمل الحجاج على العراق فعسف بالناس وخاصة الشيعة، ونكل بهم تنكيلا.

وقد رأينا قبلُ ما فعل هشام بن عبد الملك بزيد بن عليّ، وما فعل الوليد بن يزيد بيحيى بن زيد.

ولقي سليمان بن عبد الملك أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية (بن عليّ بن أبي طالب)، فرأى منه ذكاءه ودهاءه، فبعث إليه من سمه في طريقه؛ فلما أحس أبو هاشم بالسم قيل إنه عهد بالأمر من بعده إلى أحد آل البيت العباسي، وهو محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس؛ فكان هذا مبدأ تحول الأمر من بيت علّي إلى بيت العباس.

وكان الأمويون أقل مراقبة لبني العباس منهم لبني عليّ، ولذلك تمكن العباسيون من بث الدعوة، فكان دعاتهم يتظاهرون بالتجارة ويبثون الدعوة سرًا.

فلما مات محمد بن عليّ سنة ١٢٤ أوصى بالأمر لابنه إبراهيم، فاستعمل إبراهيم أبا مسلم الخراساني ليكون رئيسًا لدعاته، فقبض مروان بن محمد عليّ إبراهيم وقتله، وقبل قتله عهد بالأمر من بعده إلى أخيه أبي العباس عبد الله بن محمد الملقب بالسفاح، رأس الدولة العباسية.

هذه خلاصة موجزة لما نكب به الأمويون أئمة العلويين، يضاف إلى هذا نكباتهم للأفراد الذين شعروا منهم بالتشيع، كقتل معاوية حُجر بن عدي الكندي، وقتل زياد ابن أبيه الألوف من شيعة الكوفة والبصرة، وتبعه ابنه عبيد الله بن زياد في ذلك، فقتل هانئ بن عروة المُرادي، ومسلم بن عقيل الهاشمي وغيرهما.

ولما نازع عبد الله بن الزبير عبد الملك بن مروان في الملك، واستولى ابن الزبير على بعض الأصقاع، سار في شيعة العلويين سيرة الأمويين، فقتل المختار الثقفي وكثيرًا من أتباعه، وحبس محمد بن الحنفية؛ وفعل الحجاجُ بالشيعة لأفاعيل حتى خشي الناس أن يسموا أبناءهم أسماء أهل البيت.

كل هذا وأمثاله كان من الأسباب الكبرى لسخط هذا الفريق على الأمويين، وتكاتفهم على إسقاط دولتهم؛ وتضاف إلى ذلك أسباب أخرى لا تهمنا في موضوعنا.

فبدأت الدعوة للخروج على الأمويين، وكان أهم مركز لها خراسان والعراق، وكان الدعاة يستغلون ما فعل الأمويون ببني هاشم، وما ارتكبوه من الفظائع لتشويه سمعتهم، كهتك حرمة المدينة في عهد يزيد بن معاوية، وإباحة مكة في عهد عبد الملك:

طمعت أمية أن سيرضَى هاشمٌ
عنها ويَذْهَبُ زيدُها وحُسَينُها
كلاَّ وربِّ محمدٍ وإلهه
حتى يبيد كَفُورهُا وخَئُوُنها

لقد اتفق بنو هاشم عليّ الكيد لبني أمية، وتحالفوا على الخروج عليهم، وعقدوا المجالس يتذاكرون فيها أمر بني أمية، وظلمهم واضطراب أمرهم، وكُرْه الناس لهم، ومحبتهم لبني هاشم، ويدبرون الأمور لبث الدعوة وقلب الدولة.

وبنو هاشم فرعان: فرع عليّ، وفرع العباس؛ فأما فرع عليّ فتسلسل في ولديه الحسن ثم الحسين، ثم افترقوا فرقًا أهمها ثلاث: فرقة سلسلتها في أولاد الحسن، لأنه أكبر أولاد عليّ؛ وفرقة سلسلتها في أولاد الحسين، لأن الحسن قد سلم الخلافة إلى معاوية فأضاع حق أولاده؛ وفرقة جعلتها في ابن عليّ من غير فاطمة، وهو المعروف بمحمد بن الحنفية، لأن الحق آل إليه بعد وفاة أبيه وأخويه، ثم انتقلت منه إلى ابنه أبي هاشم عبد الله؛ وهنا تحولت فيما يقول العباسيون إلى بيت العباس بتنازل أبي هاشم لمحمد بن عليّ العباسي.

ومع هذا فكان من إحكام خطة العباسيين أنهم لم يكونوا يصرحون عند دعوتهم في كثير من المواقف باسم الإمام ليتجنبوا انشقاق الهاشميين بعضهم على بعض.

وأما بيت العباس فأولهم العباس عم النبي، ثم ابنه عبد الله بن عباس، وقد ناصر عليًا أولًا، ثم تحول إلى معاوية وسالم الأمويين، وإن كرههم في أعماق نفسه؛ وكذلك كان ابنه عليّ بن عبد الله بن العباس الملقب بالسجَّاد، ذهب في أيام عبد الملك بن مروان إلى دمشق وأقام بها، ثم أساء إليه الوليد ابن عبد الملك بعده فتحول إلى الحُمَيمةَ (بلدة من أعمال البلقاء بالشام) وبها مات سنة ١١٨هـ. ثم أتى ابنه محمد بن عليّ فتظاهر بمشايعة العلويين، ثم قيل بعد أبي هاشم العلوي إليه فكان ذلك بدء الدعوة العباسية. وكان من أخباره ما تقدم ذكره حتى استولى السفاح سنة ١٣٢ وهو أول الخلفاء العباسيين.

•••

وما بدأ الملك يستقر للعباسيين حتى غضب عليهم العلويون، وشعر العباسيون بأنهم حديثو عهد الدولة، أنهم في حاجة إلى الشدة والقسوة لتدعيم ملكهم، فقسوا عليهم بأكثر مما قسا الأمويون، ثم كانوا أعرف بالعلويين وأساليبهم يوم خالطوهم وحالفوهم للعمل ضد الأمويين، فكانوا أقدر على تتبعهم ومعرفة مكايدهم ومنازلتهم بمثل أساليبهم. وانكشف الأمر عن معسكرين آخرين كلاهما من بني هاشم، معسكر العلويين أو الطالبيين، ومعسكر العباسيين؛ الأولون يُدلون بعليّ بن أبي طالب ابن عم النبي وزوج ابنته فاطمة، والآخرون يدلون بجدهم العباس عم النبي ؛ واحتدم القتال بينهم سرًا وجهرًا، وعادت المسألة سيرتها الأولى بل أشد، ورأوا أن نار الأمويين كانت جنة إذا قيست بنار العباسيين.

ياليت جَوْرَ بَنيِ مَرْوَانَ عاد لنا
يا لَيْتَ عَدْلَ بِني العَبَّاس في الناَّر

وحكى الأغاني أن أبا عدي العبلي (وهو شاعر أموي)، قال في ابتداء حكم بني العباس قصيدته المشهورة في رثاء بني أمية:

تقول أُمامةُ لمّا رَأت
نُشُوزي عن المَضْجعَ الأنفْسِ
وقلة نوْمي على مَضْجَعي
لدِي هَجْعَةِ الأعيُنِ النُّعَّس
أبي! ما عَرَاك؟ فقلت الهمُوم
مَنَعْنَ أباكِ فلا تُبلِسي

إلى آخر القصيدة.

فقصد الشاعر عبدُ الله والحسن ابنا الحسين (الإمامان العلويان) واستنشداه هذه القصيدة فأنشدها، فلما أتى عليها بكى محمد بن عبد الله بن حسن؛ فقال له عمه الحسن بن حسن: أتبكي على بني أمية وأنت تريد ببني العباس ما تريد؟ فقال: والله يا عم لقد كنا نقمنا على بني أمية ما نقمنا، فما بنو العباس إلا أقل خوفًا لله منهم، وإن الحجة على بني العباس لأوجب منها عليهم، ولقد كانت للقوم (يعني بني أمية) أخلاق ومكارم وفواضل ليست لأبي جعفر (أي المنصور)، فأعطَوا أبا عدي مالًا كثيرًا وانصرفوا.٨٧

•••

كانت أكبر حجة للعلويين على الأمويين هي قرابة العلويين لرسول الله فجاء العباسيون ينازعونهم هذه الحجة، وبدأوا بالاعتزاز بالقرابة فقط، فلما خاصمهم العلويون قال العباسيون إنهم أقرب منهم، فالعباسيون ينتسبون إلى العباس عم النبي ، والعلويون إلى عليّ، ابن عم النبي، والعم أقرب من ابن العم.

من ذلك أن أبا العباس السفاح لما بويع بالخلافة صعد المنبر وصعد داود بن علّي (أحد البيت العباسي) فقام دونه، فتكلم أبو العباس فكان مما قاله: «الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه، فكرّمه وشرّفه وعظّمه، واختاره لنا وأيّده بنا، وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقُوَّام به، والذابين عنه والناصرين له، وألزمنا كلمة لا تقوى وجعلنا أحقَّ بها وأهلها، وخصّنا برحم رسول الله وقرابته، وأنشأنا من آبائه، وأنبتنا من شجرته، واشتقنا من نبعته، جعله من أنفسنا عزيزًا عليه ما عَنتنَا، حريصًا علينا، بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتابًا يُتلَى عليه، فقال عزَّ مِن قائل فيما أُنزل من محكم القرآن: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، وقال: قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْموَدَّةَ فِي الْقُرْبىَ، وقال: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ، وقال: ماَ أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبىَ وَالْيَتَامَى؛ فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودَّتنا، وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا تكرمة لنا وفضلًا علينا، والله ذُو الفضل العظيم» إلخ؛٨٨ وقام بعده داود ابن عليّ فكان مما قاله: «أيها الناس، الآن تقشعت حنادس الدنيا، وانكشف غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من مطلعها، وبزغ القمر من مبزغه، وأخذ القوس باريها، وعاد السهم إلى منزعه، ورجع الحق إلى نصابه في أهل بيت نبيكم، أهل الرأفة بكم، والرحمة لكم، والعطف عليكم … ألا وإن ذمة الله وذمة رسوله وذمة العباس لكم أن نسير فنحكم في الخاصة والعامة بكتاب الله وسنة رسوله؛ وإنه والله أيها الناس ما موقف هذا الموقف بعد رسول الله أحد أولى به من عليّ بن أبي طالب، وهذا القائم خلفي، فاقبلوا عباد الله ما آتاكم بشر، واحمدوه على ما فتح لكم» إلخ.
ولما وُلِّي داود بن عليّ هذا الحجاز من قبل السفاح، قام فخطب، ثم استأذنه سديف بن ميمون، فقام سديف دون داود بمرقاة، فكان مما قال: «أتزعم الضلال — خطئت أعمالهم — أن غير آل رسول الله أولى بتراثه؟ ولمَ وبِمَ معاشر الناس؟ ألكم الفضل بالصحابة دون ذوي القرابة، الشركاء في ا لنسب، والورثة للسلب … لم يُر مثل العباس بن عبد المطلب، اجتمعت له الأمة بواجب حق الحرمة، أبو رسول الله بعد أبيه، وجلدة ما بين عينيه يوم خيبر، لا يُردّ له أمرًا، ولا يعصى له قَسَمًا» إلخ.٨٩
وناقش المأمون يومًا عليّ بن موسى الرَّضا، فسأله بم تدّعون هذا الأمر؟ قال: بقرابة عليّ من النبي صلى الله عليه وسلم وبقرابة فاطمة رضي الله عنها؛ فقال المأمون: إن لم يكن ههنا شيء إلا القرابة ففي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بيته، من هو أقرب إليه من عليّ، ومن هو في القرابة مثله، وإن كان بقرابة فاطمة من رسول الله فإن الحق بعد فاطمة للحسن والحسين، وليس لعليّ في هذا الأمر حق وهما حَّيان؛ وإذا كان الأمر على ذلك فإن علياًّ قد ابتزهما جميعًا وهما حيَّان، واستولى عليّ على ما لا يجب له، فما أحار عليّ بن موسى نطقًا.٩٠
وكان الشيعة العلويون يدعون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد بدولتهم، وأن عليّ بن أبي طالب والأئمة من بعده بشروا بهم وبملكهم، فادعى العباسيون مثل هذه الدعوى، ووجدوا من يضعون لهم مثل هذه الأخبار، «فزعم ناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمه العباس: إنها تكون في ولدك، وأنه حين أتاه بابنه عبد الله أذن في أُُذُنه وتفل في فِيه، وقال: اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل، ثم دفعه إلى أبيه وقال له: خذ إليك أبا الأملاك».٩١

•••

تم للعباسيين الأمر، وأبادوا الأمويين، وتربعوا في دست الخلافة، فغضب العلويون وسكتوا قليلًا على مضض؛ وكان من رجالاتهم وسادتهم سيدان يقيمان بالمدينة، هما محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وكان يلقب بالنفس الزكية، وكان ما شئت (فضلًا وشرفًا ودينًا وعلمًا وشجاعة وفصاحة ورياسة وكرمًا ونبلًا)، ثم أخوه إبراهيم بن عبد الله؛ فالتف كثير من العلويين حول (النفس الزكية)، وأرادوه على أن يخرج على السفاح، وينتهز فرصة بدء الدولة وقرب عهدها، وبثوا الدعاة له، وبدأ بعض القادة الذين كانوا يعملون للعباسيين بالميل إليه، وضبط كتاب من يزيد بن عبد الله بن هُبيرة إلى النفس الزكية يعلمه أنه يبايع له، وأن قبله أموالًا وعدَّة وسلاحًا، وأن معه عشرين ألف مقاتل؛ فأرسل الكتاب إلى السفاح فأمر بقتل ابن هُبيرة فقتل. وكان يبلُغ أبا العباس السفاح عن النفس الزكية أشياء فكان يستعين عليه بأبيه وعمه ويصانعهم جميعًا فيهدئ من نفوسهم.

حتى إذا انتقلت الخلافة لأبي جعفر المنصور، بدأ محمد بن عبد الله النفس الزكية يتحرك، وبايعه أشراف بني هاشم، وكان أول أمره يتخفى ولا يعلم مكانه، ثم أظهر أمره «وتبعه أعيان المدينة، ولم يتخلف عنه إلا نفر يسير، ثم غلب على المدينة وعزل عنها أميرها من قبل المنصور، ورتب عليها عاملًا وقاضيًا، وكسر أبواب السجون وأخرج من بها واستولى على المدينة»، وأخذ هو والمنصور يتكاتبان، «فكتب كل واحد منهما إلى صاحبه كتابًا نادرًا من محاسن الكتب»، وقد احتج كل في كتابه بحقه في الخلافة وفضله على خصمه — والكتابان — حقًا — يرياننا حجج كل فريق، وما كان يدور في نفوس العلويين والعباسيين، وشعور كلٍّ نحو الآخرين، فهما في الحق وثيقتان من أهم الوثائق نلخص ما فيهما لطولهما.٩٢

كتب المنصور أولًا إلى محمد بن عبد الله يعرض عليه الأمان هو وولده وإخوته ومن بايعه وتابعه، وأن يعطيه ألف ألف درهم، ويتركه ينزل حيث شاء ويقضي حاجاته، ويطلق مِن سِجنه مَنْ فيه مِن أهل بيته وشيعته وأنصاره، ويترك له الخيار في اختيار من أحب لأخذ الميثاق بهذا وكتابة العهد الذي يرضاه.

فكتب إليه محمد بن عبد الله كتابه يقول فيه: «إن الحق حقنا، وإنكم إنما طلبتموه بنا ونهضتم فيه بشيعتنا … وإن أبانا عليًّا كان الوصي والإمام فكيف ورثتموه دوننا ونحن أحياء، وقد علمت أن ليس أحد من بني هاشم يمُتُّ بمثل فضلنا ولا يفخر بمثل قديمنا وحديثنا ونسبنا وسببنا … وأنَّا بنو أُم رسول الله فاطمة بنت عمرو٩٣ في الجاهلية، وبنو ابنته فاطمة في الإسلام، من بينكم، فأنا أوسط بني هاشم نسبًا، وخيرهم أمًا وأبًا، ولم تلدني العجم ولم تعرّق في أمهات الأولاد،٩٤ وأن الله تبارك وتعالى لم يزل يختار لنا، فولدني من النبيين أفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أصحابه أقدمُهم إسلامًا وأوسعهم علمًا، وأكثرهم جهادًا، عليّ بن أبي طالب، ومن نسائه أفضلهن خديجة بنت خويلد أول من آمن بالله وصلى القبلة،٩٥ ومن بناته أفضلهن وسيده نساء أهل الجنة، ومن المولودين في الإسلام الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة. ثم قد علمت أن هاشمًا ولد عليًّا مرتين،٩٦ وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين،٩٧ وأن رسول الله ولدني مرتين، من قِبل جدَّيّ الحسن والحسين، فمازال الله يختار لي حتى اختار لي في النار، «فولدني أرفع الناس درجة في الجنة وأهون أهل النار عذابًا،٩٨ فأنا ابن خير الأخيار وابن خير الأشرار إلخ». ثم يعرض على المنصور الأمان كما عرض عليه ويذكره بما نقض من عهود.
فأجابه المنصور رادًّا على حججه حجة حجة، فما قال: «بلغني كلامك فإذا جُلُّ فخرك بالنساء، لتُضل به الجُفَاةَ والغوغاء. ولم يجعل الله النساء كالعمومة ولا الآباء كالعَصَبَة … ولقد علمت أن الله تبارك وتعالى بعث محمد وعمومتُه أربعة. فأجابه اثنان أحدهما أبى،٩٩ وكفر اثنان أحدهما أبوك١٠٠ …. فأما ما ذكرت من فاطمة أم أبي طالب فإن الله لم يهد أحدًا من ولدها للإسلام، وأما ما ذكرت من فاطمة أم الحسن وأن هاشمًا ولد عليًّا مرتين، وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين، فخير الأولين والآخرين محمد رسول الله لم يلده هاشم إلا مرة واحدة، ولم يلده عبد المطلب إلا مرة واحدة؛ وأما ما ذكرت من أنك ابن رسول الله فإن الله عز وجل أبى ذلك فقال: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاَتمَ النَّبِيِّينَ ولكنكم بنو ابنته، وإنها لقرابة قريبة، غير أنها امرأة لا تحوز الميراث ولا يجوز أن تؤُم، فكيف تورث الإمامة من قِبلها، ولقد طلب بها أبوك بكل وجه فأخرجها تخاصم، ومرَّضها سرًا، ودفنها ليلًا، فأبى الناس إلا تقديم الشيخين١٠١ …. وأفضي أمر جدك إلى أبيك الحسن، فسلمه إلى معاوية بخرَق ودراهم، وأسلم في يديه شيعته … فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه؛ فأما قولك إن الله اختار لك في الكفر فجعل أباك أهون أهل النار عذابًا، فليس في الشر خيار … وأما قولك إنك لم تلدك العجم ولم تعرّق فيك أمهات الأولاد، وإنك أوسط بني هاشم نسبًا وخيرهم أمًا وأبًا، فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طرًا، وقدمت نفسك على من هو خير منك أولًا وآخرًا وأصلًا وفصلًا، فخرت على إبراهيم ابن رسول الله،١٠٢ وعلى والدٍ وَلَدَه، فانظر ويحك أين تكون من الله غدًا، وما وُلد فيكم مولود بعد وفاة رسول الله أفضل من عليّ بن الحسين وهو لأم ولد … ولقد خرج منكم غير واحد فقتلكم بنو أمية، وحرَقوكم بالنار، وصلبوكم على جذوع النخل حتى خرجنا عليهم فأدركنا بثأركم إذ لم تدركوه، ورفعنا أقداركم، وأورثناكم أرضهم وديارهم … ولقد علمتَ أنْ قد توفي رسول الله ، وليس من عمومته أحد إلا العباس، فكان وارثه دون بني عبد المطلب، وطَلَبَ الخلافة غير واحد من بني هاشم، فلم ينلها إلا ولده (أي ولد العباس)، فاجتمع للعباس أنه أبو رسول الله خاتم الأنبياء، وبنوه القادة الخلفاء، فقد ذهب بفضل القديم والحديث» إلخ.

ثم تدخل السيف إذ لم يفلح القلم، فأرسل إليه المنصور جيشًا كثيفًا على رأسه ابن أخيه عيسى بن موسى، فالتقى جيشه بجيش محمد في موضع قريب من المدينة، فغُلب محمد بن عبد الله وقُتل وحمل رأسه إلى المنصور.

ثم خرج أخوه إبراهيم بن عبد الله، ومضى إلى البصرة، وأظهر أمره هناك، وكثرت جموعه وانضم إليه كثير من الزيدية والمعتزلة، فأرسل إليه عيسى بن موسى أيضًا، فكانت الغلبة لعسكر المنصور كذلك، وقتل إبراهيم في قرية قريبة من الكوفة يقال لها «باخَمْرَى» ومن أجل هذا يعرف إبراهيم بأنه «قتيل باخمرى»، وقتل في هذه المعارك كثير من البيت العلوي، وقبض على عدد عديد منهم، حبسهم المنصور في سرداب على شاطئ الفرات بالقرب من الكوفة لا يصل إليهم ضوء حتى ماتوا. وغضب المنصور من هذه الأحداث المتتالية من الطالبيين، فخطب في أهل خراسان خطبة شديدة خرج فيها عن اتزانه وتؤدته، فسب وشتم ورغب ورهب، وعرض فيها لتاريخ العلويين كما يتصوره هو، فأحببنا إثباتها لأهميتها:

صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم صلى على النبي ثم قال:

يا أهل خراسان: أنتم شيعتنا وأنصارنا وأهل دولتنا، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا من هو خير منا، وإن أهل بيتي هؤلاء من ولد عليّ بن أبي طالب تركناهم والله الذي لا إله إلا هو والخلافة، فلم نعرض لهم فيها بقليل ولا كثير، فقام فيها عليّ ابن أبي طالب فتلطخ وحكم عليه الحكمان، فاقترفت عنه الأمة، واختلفت عليه الكلمة. ثم وثبت عليه شيعته وأنصاره وأصحابه وبطانته وثقاته فقتلوه، ثم قام من بعده الحسن بن عليّ، فوالله ما كان فيها برجل، قد عرضت عليه الأموال فقبلها قدس إليه معاوية: أني أجعلك وليّ عهدي من بعدي، فخدعه فانسلخ له مما كان فيه وسلمه إليه، فأقبل على النساء يتزوج في كل يوم واحدة فيطلقها غدًا، فلم يزل على ذلك حتى مات على فراشه؛ ثم قام من بعده الحسين بن عليّ، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة؛ أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن، أهل هذه المدرة السوداء (وأشار إلى الكوفة) فوالله ما هي بحرب فأحاربها، ولا سلم فأسالمها، فرق الله بيني وبينها، فخذلوه وأسلموه حتى قتل؛ ثم قام من بعده زيد بن عليّ فخدعه أهل الكوفة وغرّوه، فلما أخرجوه وأظهروه أسلموه.. ثم وثب علينا بنو أمية، فأماتوا شرفنا، وأذهبوا عزنا؛ والله ما كنت لهم عندنا تِرَةٌ يطلبونها، وما كان ذلك كله إلا فيهم وبسبب خروجهم عليهم، فنفونا من البلاد، فصرنا مرة بالطائف، ومرة بالشام، ومرة بالشراة، حتى ابتعثكم الله لنا شيعة وأنصارًا، فأحيا شرفنا وعزنا بكم أهل خراسان، ودمغ بحقكم أهل الباطل، وأظهر حقنا، وصار إلينا ميراثنا عن نبينا صلى الله عليه، فقر الحق مقره وأظهر مناره، وأعز أنصاره، وقُطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين، فلما استقرت الأمور فينا على قرارها من فضل الله فيها، وحكمه العادل لنا، وثبوا علينا ظلمًا وحسدًا منهم لنا، وبغيًا لما فضلنا الله به عليهم، وأكرمنا به من خلافته، وميراث نبيه صلى الله عليه وسلم:

جَهْلا عليَّ وجُبنا من عدِّوهم
لبئست الخُلّتان الجهلُ والجُبْنُ
فإني والله يا أهل خراسان، ما أتيتُ من هذا الأمر ما أتيت بجهالة، بلغني عنهم بعض السقم والتعرم، وقد دسست لهم رجالًا فقلت: قم يا فلان قم يا فلان، فخذ معك من المال كذا وحذوتُ لهم مثالًا يعملون عليه، فخرجوا حتى أتوهم بالمدينة فدسوا إليهم تلك الأموال، فوالله ما بقي منهم شيخُ شابُ، ولا صغير ولا كبير إلا بايعهم بيعة استحللتُ بها دماءهم وأموالهم، وحلَّت لي عند ذلك بنقضهم بيعتي وطلبهم الفتنة: والتماسهم الخروج عليّ، فلا يرون أني أتيت ذلك على غير يقين، ثم نزل وهو يتلو على درج المنبر هذه الآية وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ.١٠٣

•••

هذه الحجج من جانبي الهاشميين جعلت الناس ينقسمون قسمين: علويين وعباسيين؛ ورأينا الشعراء ينحازون أيضًا فريقين سنعرض لهما بعد؛ ورأينا حتى الفرق الإسلامية تنقسم أيضا هذا الانقسام، ففرقة شيعة علوية، وفرقة أخرى عباسية كان من غلاتها قوم يلقبون بالرّاوندية.

الراوندية: قد صورهم المؤرخون تصويرات مختلفة، لعل أصدقها ما ذكره المسعودي إذ قال: «إنهم شيعة ولد العباس بن عبد المطلب من أهل خراسان وغيرهم، (قالوا) إن رسول الله قبض، وأحق الناس بعده العباس بن عبد المطلب لأنه عمه ووارثه وعصبته، لقوله الله تعالى: وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىَ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ، وإن الناس اغتصبوه حقه، وظلموه أمرًا إلى أن رده الله إليهم، وتبرأوا من أبي بكر وعمر، وأجازوا بيعة عليّ بن أبي طالب بإجازته لها؛١٠٤ وذلك لقوله: يا ابن أخي هلم إليَّ أبايعك فلا يختلف عليك اثنان. وقد صنف هؤلاء (الراوندية) كتبًا في هذا المعنى الذي ادعوه، وهي متداولة في أيدي أهلها ومنتحليها، ومنها كتاب صنفه عمرو بن بحر الجاحظ، وهو المترجم بكتاب «إمامة ولد العباس» يحتج فيه لهذا المذهب … ولم يصنف الجاحظ هذا الكتاب، ولا استقصى فيه الحجاج للراوندية — وهم شيعة ولد العباس — لأنه (كان) مذهبه، ولا كان يعتقده، لكن فعل ذلك تماجنًا وتظرفًا».١٠٥
وكان في هؤلاء الراوندية من غلا وسخف، فيروي الطبري أن منهم قومًا «عبدوا أبا جعفر المنصور، وصعدوا إلى الخضراء، فألقوا أنفسهم كأنهم يطيرون، وخرج جماعتهم على الناس بالسلاح فأقبلوا يصيحون بأبي جعفر: أنت أنت»١٠٦ يريدون: أنت الله:

وقال الفخري: «إنهم قوم من أهل خراسان كانوا يقولون بتناسخ الأرواح ويزعمون أن روح آدم انتقلت إلى فلان — رجل من كبارهم — وأن جبريل هو فلان — عن رجل آخر — قلما ظهروا أتوا قصر المنصور وقالوا هذا قصر ربنا؛ فأخذ المنصور رؤساءهم فحبس منهم مائتي رجل» إلخ.

وأيا ما كان، فالراوندية شيعة العباسيين وفرقتهم الدينية. غلا فيهم من غلا كما غلا في الشيعة العلوية من غلا.

وبهذا الوضع أصبحت حجة العلويين على العباسيين أضعف من حجتهم على الأمويين، لاشتراك الجميع في الهاشمية والقربى من رسول الله، وتنازع الطائفتين في أيهما أقرب.

•••

واستمر النزاع العلوي العباسي طوال العصر الذي نؤرخه وبعده، كلما قام خليفة عباسي قام داع علوي يدعو إلى نفسه، ثم يقاتل ويُقتَل، وقد يستكشف أمره قبل الخروج فيحبس أو يسم، وقد يدس لعلوي لم يعتزم الخروج والثورة ولكن يتقرب إلى العباسيين من هذا الباب، فتلصق التهمة به ظلمًا وعدوانًا وهكذا؛ فاقرأ تاريخ كل خليفة تحصل على وقائعه مع العلويين حتى كان ذلك شعار للخلافة.

فبعد المنصور تولى المهدي، وقد غضب على وزيره يعقوب بن داود، وقبض عليه وأودعه السجن حتى عمي، لأن المهدي دفع إليه علويًا وأمره بحفظه فأطلقه.

ثم تولى الهادي من بعد المهدي، فخرج عليه الحسين بن عليّ بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب١٠٧ بالمدينة، وخرج معه جماعة من أهل بيته، فأرسل الهادي إليه جيشًا قاتله فقتله؟ بموضع يقال له (فَخ) بين مكة والمدينة. ومن أجل هذا يسمى «صاحب فخ» وحمل رأسه إلى الهادي.

ثم ولي هارون الرشيد: فخرج عليه يحيى بن عبد الله بن حسن، وهو أخو النفس الزكية وإبراهيم «قتيل باخمرى»، وكان خروجه بالديلم، وتبعه ناس كثير من الأمصار؛ فبعث إليه الرشيد من يستميله إلى الصلح فمال إليه، وطلب أمانًا بخط الرشيد، وأن يشهد عليه فيه القضاة والفقهاء وجلّة بني هاشم، فأجابه الرشيد إلى طلبه؛ وقدم يحيى إلى الرشيد فحبسه عنده، واستفتى الفقهاء والقضاة في نقض العهد، فأفتى بذلك بعضهم، وأبى آخرون منهم محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، ثم أرسل الرشيد إلى يحيى من قتله في حبسه. ووشي إليه بموسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين، فقبض عليه الرشيد بالمدينة وحمله إلى بغداد، فحبسه ثم قتله قتلًا خفيًا، وأدخل عليه شهودًا شهدوا أنه مات حتف أنفه.

فلما ولي الأمين كان من أمره مع الطالبيين ما قاله أبو الفرج الأصفهاني: «كانت سيرة محمد في أمر آل أبي طالب خلاف من تقدم، لتشاغله بما كان فيه من اللهو والإدمان له، ثم الحرب التي كانت بينه وبين المأمون حتى قتل، فلم يحدث على أحد منهم في أيامه حدث بوجه ولا سبب».

ولما وقع الخلاف بين الأمين والمأمون، رأى العلويون أن الفرصة سانحة لهم؛ فالناس منقسمون بين الأمين والمأمون، والحروب بينهما قائمة، ولا هم لأحدهما إلا الآخر، وأن الخلاف بينهما يضعف أمرهما معًا، وأن ملل الناس من الحرب وويلاتها قد يصرف وجوههم عن العباسيين إلى العلويين؛ ومن أجل ذلك نشط العلويون وبثوا الدعاة، وكثر خروجهم وفتهم.

فخرج محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسين بن عليّ بالكوفة، وكان مدبر حربه، وقائد جنده أبو السَّرَايا السَّري بن منصور الشيباني وعظم أمره، وكان كلما بعث المأمون بجيش هزمه أبو السرايا، وفي أثناء القتال مات محمد بن إبراهيم هذا، فولّى أبو السرايا بدله غلامًا علويًا أمرد اسمه محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي.

وقوي أمر أبي السرايا وقوي معه الطالبيون، وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة، وأرسل عماله من العلويين على الأمصار مكة والمدينة والبصرة وغيرها. ولم يخضع المأمون هذه الفتن إلا بعناء شديد، وبذل دماء كثيرة، وكان الفضل الأكبر في هزيمة أبي السرايا للقائد الكبير هو ثَمَة بن أعْيَن، وكان المأمون في هذه الفتنة في مرو — عاصمة خراسان — قبل أن ينتقل إلى بغداد.

فكَّر المأمون وفكر، ثم طلع برأي غريب، وأحدث عملًا لم يقم به أحد قبله من بني أمية وبني العباس، ذلك أنه فكَّر في حال الخلافة بعده … واعتبر أحوال أعيان أهل البيتين — البيت العباسي والبيت العلوي — فلم ير فيهما أصلح ولا أفضل ولا أروع ولا أدين من عليّ بن موسى الرضا (ابن جعفر ابن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب)، فعهد إليه وكتب بذلك كتابًا بخطه، وألزم الرضا بذلك فامتنع ثم أجاب … وكان الفضل بن سهل وزير المأمون هو القائم بهذا الأمر والمحسن له، فبايع الناس لعليّ بن موسى من بعد المأمون، وسمي الرضا من آل محمد، وأمر المأمون الناس بخلع لباس السواد ولبس الخضرة، وكان هذا في خراسان. فلما سمع العباسيون ببغداد ما فعل المأمون من نقل الخلافة من البيت العباسي إلى البيت العلوي، وتغيير لباس آبائه وأجداده بلباس الخضرة أنكروا ذلك، وخلعوا المأمون من الخلافة غضبًا من فعله، وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي».١٠٨

ترى ما الذي حمل المأمون على هذا العمل الذي لم يسبق إليه؟ عندي أن ذلك يرجع إلى أمور:

  • (١)

    أنه استعرض الفتن التي قامت من عهد عليّ إلى يومه، فرآها فتنًا مضعفة للدولة، مفرقة للكلمة؛ فلعل من الخير أن يفتح السبيل أمام البيتين العباسي والعلوي يختار خيرهما، فتنقطع الفتن ويتعاون البيتان على الخير العام للمسلمين. فإن كان هذا رأيه فقد غاب عنه أن الناس لا يحكِّمون العقل دائمًا، أن الخلاف لا يقطع بمثل هذه السهولة، وأن عصبية العلويين لبيتهم والعباسيين لبيتهم تعمي العقل وتبعث الفتن، وهذا ما كان.

  • (٢)

    أن المأمون كان معتزليًا على مذهب معتزلة بغداد، وهم يرون أن عليًا أولى بالخلافة حتى من أبي بكر وعمر، فذريته من بعده أحق؛ فأراد أن يحقق مذهبه وينقل الخلافة إليهم.

  • (٣)

    أنه كان تحت تأثير الفضل بن سهل والحسن بن سهل وهما فارسيان، والفرس يجري في عروقهم التشيع، كما كان الشأن في بيت البرامكة أيام الرشيد، فمازالوا بالمأمون يلقنانه آراءهما حتى أقرها ونفذها.

  • (٤)

    أنه رأى أن عدم تولي العلويين للخلافة يكسب أئمتهم شيئًا من التقديس، فإذا ولوا الحكم ظهروا للناس وبان خطؤهم وصوابهم فزال عنهم هذا التقديس.

وأغلب ظني أن المأمون كان مخلصًا في عمله صادقًا في تصرفه، وقد زوج المأمون عليا الرضا هذا بنته، وزوج محمد بن عليّ بنته الأخرى، ولكن شاء القدر أن يموت عليّ الرضا سريعًا، بعد أن ولاه المأمون عهده، وبعد أن مرض أيامًا ثلاثة، فادعوا أن المأمون سمه لثورة بغداد، وما أكثر ادعاء الشيعة بسم أئمتهم، وهذا بعيد؛ فالمؤرخون يروون حزن المأمون الشديد عليه، كما يروون أن المأمون بعد موته وبعد انتقاله إلى بغداد ظل يلبس الخضرة (وهو شعار العلويين) تسعة وعشرين يومًا، ويلزم القواد بلبسها، فلما رأى كراهية البيت العباسي لها ودسهم الدسائس في ذلك اضطر أن يغيرها إلى السواد (وهو الشعار العباسي)، فإن كان حقًا قد سم، يكون قد سمه أحد غير المأمون من دعاة البيت العباسي.

وقد حكى ابن عبد ربه في العقد الفريد مناظرة طويلة جرت بين المأمون وجملة من جلة العلماء، ذهب فيها المأمون إلى تفضيل عليّ على أبي بكر وعمر وأحقيته للخلافة دونهما.

ومع هذا كله ظل المأمون يعطف على العلويين رغم كثرة خروجهم، فكان مما أوصى به المعتصم أن قال: «وهؤلاء بنو عمك أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فأحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، وأقبل من محسنهم، وصِلاتهم فلا تغفلها في كل سنة عند محلها، فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى».١٠٩

وفي عهد المعتصم خرج محمد بن القاسم بن عمر بن عليّ بن الحسين بن عليّ ابن أبي طالب في خراسان، فبعث إليه عبد الله بن ظاهر بجيش هزمه، ثم قبض على محمد بن القاسم وبعث به إلى المعتصم، فأودع السجن، ثم هرب ولم يعرف له خبر؛ وكان محمد من أهل العلم يذهب مذهب الاعتزال من القول بالعدل والتوحيد.

وهكذا كان كما قال ابن الرومي:

لكل أوانٍ للنبي محمد
قتيلُ زَكِيُّ بالدماء مُضَرَّج
هذا ما فعله العباسيون مع أئمة الطالبيين، ولم يكن تنكيلهم بمن تشيع من عامة الناس بأقل من ذلك، فأبو مسلم الخراساني سلط أعوانه على آل أبي طالب «يقتلهم تحت كل حجر ومدر، ويطلبهم في كل سهل وجبل»، وملئت سجون المنصور والرشيد بالعلويين ومن تشيع لهم، «ويموت إمام من أئمة الهُدى فلا تتبع جنازته، ولا تخصص مقبرته، ويموت (ماجن للعباسيين) أو لاعب أو مسخرة أو ضارب، فتحضر جنازته العدول والقضاة، ويعمِّر مسجدَ التعزية عنه القوّاد والولاة، ويَسْلَم فيهم مَن يعرفونه دهريًا أو سوفسطائيًا، ولا يتعرضون لمن يدرس كتابًا فلسفيًا أو مانويًا، ويقتلون من عرفوه شيعيًا، ويسفكون دم من سمى ابنه عليًا.. ويتكلم بعض شعراء الشيعة في ذكر مناقب الوصي، بل في ذكر معجزات النبي، فيقطع لسانه، ويمزق ديوانه، كما فعل بعبد الله بن عمار البرقي، وكما نبش قبر منصور النمري: حتى إن هارون والمتوكل كانا لا يعطيان مالًا ولا يبذلان نوالًا إلا لمن شتم آل أبي طالب، ونصر مذهب النواصب، مثل مروان بن أبي حفصة الأموي، ومن الأدباء مثل عبد الملك بن قريب الأصمعي.. يقتلون بني عمهم جوعًا وسغبًا، ويملأون ديار الترك والديلم فضة وذهبًا؛ يستنصرون المغربي والفرغاني، ويجفون المهاجري والأنصاري؛ ويولون أنباط السواد وزارتهم، وقلف١١٠ العجم والطماطم١١١ قيادتهم، ويمنعون آل أبي طالب ميراث أمهم، وفيء جدهم؛ يشتهي العلوي الأكلة فيحرمها، ويقترح على الأيام الشهوة فلا يطعمها، وخراج مصر والأهواز، وصدقات الحرمين والحجاز، تصرف إلى ابن أبي مريم المديني، وإلى إبراهيم الموصلي، وابن جامع السهمي،١١٢ وإلى زلزل الضارب، وبرصوما الزامر، ويقطع بختيشوع النصراني قوت أهل بلد، وبغا التركي والأفشين الأشروسني كفاية أمة ذات عدد؛ والمتوكل — زعموا — يتسرى باثني عشر ألف سرية، والسيد من سادات أهل البيت يتعفف بزنجية أو سندية! وصفوة مال الخراج مقصور على أرزاق الصفاعنة،١١٣ وعلى موائد المخاتنة، وعلى طُعْمِة الكلّابين، ورسوم القَرَّادين. ويبخلون على الفاطمي بأكلة أو شربة، ويصارفونه على دانق وحبة، ويشترون العوادة بالبدر، ويجرون لها ما يفي برزق عسكر، والقوم الذين أحل لهم الخمس وحرمت عليهم الصدقة، وفرضت لهم الكرامة والمحبة، يتكففون ضرًا، ويهلكون فقرًا، ويرهن أحدهم سيفه، ويبيع ثوبه، وينظر إلى فيئه بعين مريضة، ويتشدد على دهره بنفس ضعيفة … ومثالب بني أمية مع عظمها وكثرتها، ومع قبحها وشناعتها، صغيرة وقليلة في جانب مثالب بني العباس الذين بنوا مدينة الجبارين، وفرقوا في الملاهي والمعاصي أموال المسلمين … فإن تجامل علينا وزير أو أمير فإنا نتوكل على الأمير الذي لا يعزل، وعلى القاضي الذي لم يزل يعدل».١١٤

•••

أما بعد، فقد كانت ساحة البلاد الإسلامية مجالًا للدسائس والفتن والحروب المستمرة من وفاة رسول الله تقريبًا إلى آخر العصر الذي نؤرخه بعده، من غير أن يحسم النزاع بين الشيعة ورجال الدولة؛ فلا الشيعيون يعدلون عن مطالبهم وتنفيذ خطتهم، ولا الساسة بالطبع يستسلمون لمطالب الشيعة، ولا يعالجونها في رفق وهوادة؛ ومهما بالغت في عظم ما أنفق الفريقان من الرءوس والأموال والتفكير والفتن والخطط، فلست ببالغ قدره؛ وظني أن لو اجتمعت كلمة المسلمين وقدر الجهد الذي بذل في إخضاع العلويين لبني أمية وبني العباس، أو إخضاع الأمويين والعباسيين للعلويين — لكان جهدًا يكفي لفتح أكثر العالم وإخضاعه للمسلمين، ولكان يتغير وجه التاريخ تغيرًا تامًا، ويكتب كله من جديد على نمط آخر. ولكن شهوة الحكم دائمًا في كل عصر تفرق الكلمة، وتضيع وحدة الأمة، وتحل قوتها، وتضعف مِرتها، وتفرق بين الابن وأبيه، والأخ وأخيه؛ والأحداث الناتجة عن شهوة الحكم هي التي تملأ دائمًا صفحات التاريخ في القديم والحديث، وفي استطاعة العقل دائمًا أن يوجد الأسباب المعقولة للشيء وضده؛ فقد تسمع الحجج من الشيعة فتظن أن الحق معهم والباطل مع خصومهم، وتسمع حجج الأمويين والعباسيين فكذلك.

ولو عقل الناس ما قبلوا حجج هؤلاء ولا هؤلاء، ولكان أحق الناس بالحكم أصلحهم، ولو كان عبدًا حبشيًا، سواء كان من نسل الرسول في شرفه ورفعته، أو من نسل نجار أو حلاق في حقارته وضعته، لأن خير الناس أنفعهم للناس، ومن كل بيت مهما علا ينتج الصالح والفاسد، والخير والشرير؛ وحكم الناس صناعة ككل الصناعات ينبغ فيها النابغ، وينبغ من أوساط مختلفة من غير أن نعرف في وضوح قوانين نبعه ونبوغه.

ولكن هذه النظر مع بساطته وسلامته لم يكثر مقتنعوه، لأن البيوت الأرستقراطية لا ترتضيه، ولأنه — مع الأسف — سهل نظريًا، أصعب ما يكون عمليًا، فمن هو أصلح الناس؟ وإذا عثرنا عليه فكيف نقيمه، وكيف نختار أهل الحل والعقد لحمايته وكيف يحمونه، بل كيف يحمون أنفسهم؟ إلخ.

كم فكر المسلمون قديمًا في هذا وأمثاله، وكان الحل سهلًا، والتنفيذ صعبًا، وعلى هذا الخلاف وحده كانت كل الثورات بين الشيعة وخصومهم.

فإن أنت سألت أي الفريقين كان على حق في هذا النزاع؟ لم تكن الإجابة هينة؛ هؤلاء الشيعة يحكمون عاطفة شريفة نبيلة، هي عاطفة الحنو على أهل بيت رسول الله والعطف عليهم، هي عاطفة حب للرسول تبعها حب لنسله، وأداهم هذا الحب إلى أن يقولوا حكمنا رسول الله فليحكمنا نسله — وفي هذا جمال العاطفة وإن لم يكن فيه جمال المنطق — وقال خصومهم: إن الحب شيء والحكم شيء، وليس الحكم مالًا يورث، ولا تركة توزع حسب الفريضة، إنما هي أهلية وزعها الله على الناس، فقد تخرج الكفاية من بيت وضيع، ولا تخرج من بيت رفيع؛ وإذا كان المنصب من مناصب الدولة كالقضاء، والوزارة، والكتابة لا تورث لأنها تستوجب أهلية خاصة، فالخلافة أولى لأن عبئها أشد ومسئوليتها أعظم؛ وفي هذا القول جمال المنطق، وإن لم يكن فيه جمال العاطفة؛ فكل حزب نظر من ناحيته فقط، فأسرف في الحكم على الآخر، وكان في كل فريق من يلقي على النار وقودًا يزيد اشتعالها.

وتعجبني جملة في نهج البلاغة تنسب إلى الإمام عليّ، فقد سئل عن رأيه في عثمان وقاتليه فقال: «إنه استأثر فأساء الأثرة وجزعوا فأساءوا الجزع؛ ولله حكم واقع، في المستأثر والجازع»، ولعل هذا أصدق وصف لما كان بين عثمان والناقمين عليه، وهو كذلك أصدق وصف للأمويين والعباسيين، والناقمين عليهم من الشيعيين.

أدب الشيعة: في الحق أن حركة التشيع أغنت الأدب العربي إلى حد كبير، وكان الأدب الناتج عنها أدبًا غزيرًا قويًا؛ وسبب ذلك أن الموقف الذي وقفه الشيعة من طبيعته أن يلهب العاطفة ويهيجها ويثيرها، والعاطفة أكبر دعامة من دعائم الأدب، فإذا أثيرت وهاجت وكان بجانبها سلطان طلق، وبيان ناصع، فهناك الأدب الحي والقول الساحر.

وكان للشيعة عاطفتان بارزتان قويتان يرجع إليهما النتاج الأدبي الشيعي عاطفة الغضب، وعاطفة الحزن؛ فأما الغضب فإنهم اعتقدوا أنهم سلبوا حقهم وغصبوه، وأُخذ منهم ظلمًا وعدوانًا، فغضبوا لذلك، ودعتهم ثورة الغضب أن يقولوا وأن يقولوا كثيرًا في هجاء غاصبهم، وفي بيان حقهم، وفي شرح مظلمتهم، وفي وجهة نظرهم، وفي إظهار حججهم، إلى غير ذلك. وأما عاطفة الحزن فإن الدولتين العباسية والأموية أخذتاهم بالعنف، وعاملتاهم بأقسى مما يعامل الكفرة والملحدون؛ فمن حين إلى حين تحدثان فيهم مجزرة. ولا يكاد يجف منهم دم حتى يسيل دم، وتفننتا في ذلك، فقتلُ وصلب، وإحراق وتذرية، وإماتة بطيئة في السجون بحرمانهم من النور والهواء، والأكل والماء، وكل هذا وأقل منه يستنزف الدمع ويذيب القلب، وكل هذا وأقل منه ينطق الأبكم، فكيف إذا وقعت هذه الأحداث لنفس ثائرة ولسان طلق وبيان جزل. لقد بدأت هذه الأحداث بمجزرة الحسين وآل بيته، فكانت القصائد الباكية، والخطب الرائعة، والأقوال الدامية، صدى للدماء المسفوحة، والجثث المطروحة، وكانت ذكراها تبعث في كل جيل حزنًا، فيبعث الحزن أدبًا وتتابعت الأحداث فتتابع الأدب، فكان لنا من هاتين العاطفتين — الغضب والحزن — أدب حي غزير، فإن ثارت العاطفة الأولى أخرجت أدبًا قويًا ثائرًا، وإن ثارت الثانية أخرجت أدبا حزينًا باكيًا، فاجتمع في أدبهم القوة والضعف، واللين والعنف.

والآن أعرض بشيء من التفصيل لهذا المعنى الإجمالي:

الأدب الشيعي أنواع مختلفة، فمن ذلك نوع صدر من أئمة الشيعة أنفسهم يحتجون فيه على خصومهم؛ وإذا قلت الشيعة في الدولة الأموية فأعني بهم شيعة بني هاشم، سواء كانوا علويين أو عباسيين، لأنهم كانوا في ذلك عصبة واحدة ضد الأمويين، أما إذا قلت الشيعة في العصر العباسي، فأعني بها العلويين وحدهم، لأن خصومهم كانوا العباسيين الذين حالفوهم أيام الأمويين، وخاصموهم أيام دولتهم.

فأئمة الشيعة قد وهبوا لسانًا ناطقًا وقولًا عذبًا، فأُثرت عنهم الخطب الرنانة، والكتب التي تقرب من حد الإعجاز، والأجوبة القصيرة التي جمعت بين إصابة المعنى وإيجاز اللفظ.

وقد عرفت قريش عامة، والهاشميون خاصة، بقوة اللسان، وسحر البيان. قال أبو الحسن: «أسرع الناس جوابًا عند البديهة قريش ثم بقية العرب»، وسئل أيضًا عليّ عن قريش فقال: «أما بنو مخزوم فريحانة قريش، تحب حديث رجالهم (والزواج) في نسائهم؛ وأما بنو عبد شمس (ومنهم بنو أمية) فأبعدها رأيًا، وأمنعها لما وراء ظهورها؛ وأما نحن (يعني بني هاشم) فأبذل لما في أيدينا وأسمح عند الموت بنفوسنا؛ وهم (بنو عبد شمس) أكثر وأمكر وأنكر، ونحن أفصح وأنصح وأصبح».

من أجل هذا أنتج النزاع بين البيتين القرشيين (البيت الهاشمي والبيت الأموي) ثم بين البيتين الهاشميين (العلوي والعباسي) هذا النتاج الباهر.

من أمثلة ذلك ما تجده في نهج البلاغة من كتب بين عليّ ومعاوية، وخطب لعليّ في بيان حقه، وظلم الناس له، ونحو ذلك؛ وهي وإن كان بعضها موضوعًا فبعضها الآخر رواه الثقات — على أن الموضوع منه أيضًا أدب رفيع، في منتهى القوة والبلاغة، وإن شك فيه المؤرخ فلن يشك في قيمته الكبرى الأديب والبليغ، وكل ما يفعله الأديب إذا استعان بالمؤرخ أن ينسبه إلى العصر العباسي لا عصر عليّ، وذلك لا يقلل من قيمته الأدبية.

وقد عقد ابن عبد ربه في كتابه العقد الفريد فصلًا في الأجوبة١١٥ ذكر فيه كثيرًا من الأجوبة التي دارت بين عقيل بن أبي طالب ومعاوية، وما كان من الأجوبة بين معاوية وابن عباس، وما كان بين ابن عباس وعمرو بن العاص، ومجاوبات بني هاشم لابن الزبير، وما كان بين الحسين ومعاوية إلخ؛ وهو فصل ممتع حقًا، فائق حقًا، وهو مظهر من مظاهر الأدب الشيعي القوي، يدل على ما منحه هؤلاء القوم من إصابة الحجة، ووضوح المحجة، وهو نموذج لما أنتجه النزاع بين الأمويين والهاشميين من أدب، ولولا طوله لنقلته، فليرجع إليه القارئ ليشاركني في رأيي.

وتسلسل هذا النوع من الأدب بين أئمة الشيعة وخصومهم، حتى رأينا في مطلع العصر العباسي هذه الكتب القوية التي كانت بين محمد بن عبد الله بن الحسن، وبين أبي جعفر المنصور، وقد نقلنا بعضها قبل، واتخذها كثير من كتب الأدب كالكامل للمبرد مثلًا للأدب الرفيع إلخ.

ونوع آخر من الأدب الشيعي وهو الأدب الحزين، أدب البكاء على القتلى والمصلوبين، أمثال الحسين، وزيد بن عليّ، ومحمد بن عبد الله إلخ. وهذا النوع قد ملئت به كتب التاريخ والأدب، وكانت حادثة الحسين على الأخص مثارًا لقصائد طويلة وقصص خيالية رائعة، في مختلف العصور.

ونوع ثالث، وهو أن هذا النزاع بين الشيعة وخصومهم كون أحزابًا؛ ففي الدولة الأموية حزب هاشمي، وحزب أموي، وفي الدولة العباسية حزب علوي وحزب عباسي، ولم تقتصر الخصومة بين الأحزاب على هذا الجانب المظلم، جانب السيف والدم، بل كان إلى هذا جانب طريف هو جانب الخصومة الأدبية التي كانت نعمة على الأدب.

فكان هناك شعراء للشيعة وشعراء لبني أمية وشعراء للعلويين يقابلهم شعراء للعباسيين، وكان هؤلاء الشعراء يقومون لأحزابهم مقام الصحف للأحزاب اليوم. وفي رأيي أن فضل الشيعة الأدبي لم يقتصر على شعراء حزبهم، بل لهم الفضل كذلك حتى على شعراء خصومهم، فلولا خصومة الشيعة الحادة ما كان شعراء الأمويين والعباسيين بهذه القوة والغزارة، ولا نحصر الشعر في هذا الضرب السخيف، شعر المديح الصرف؛ فكان هذا الذي ذكرت سببًا من أكبر الأسباب في وجود الشعر السياسي، في العصر الأموي والعباسي.

كان للأمويين شعراء سياسيون، وللشيعة كذلك ولسائر الفرق، وابتدأ ذلك من عهد عليّ، فكان لعليّ أبو الأسود الدؤلي، ولمعاوية مِسكين الدارمي ثم لبني أمية أبو العباس الأعمى، وأعشى ربيعة، ونابغة بني شيبان إلخ، وللهاشميين كثير عزة، والكميت، وأيمن بن حريم الأسدي إلخ. وكان شعراء بني أمية أكثر، لأن المال لديهم أوفر، ولهذا مدحهم حتى شعراء الشيعة، وحتى الكميت؛ وكان شعر الشيعة أحر وأقوى، لأن مبعثه الإخلاص غالبًا، فليس لأئمة الشيعة ما يكافئون به كثيرًا.

ويصح أن نقف وقفة قصيرة عند الكُمَيْتِ، فإنه أكبر شعراء الشيعة في العصر الأموي، وهو أول من احتج في شعره على صحة المذهب الشيعي وأقام حججه وقوي براهينه، حتى قال الجاحظ فيه: «إنه أول من دل الشيعة على طرق الاحتجاج»، ولدينا ثروة كبيرة من شعره في ذلك وهي «الهاشميات»، وسميت القصائد بذلك لأنه احتج فيها لبني هاشم على خصومهم، وعدد أبياتها نحو من ٥٣٦ بيتًا.١١٦

ولد الكميت أيام مقتل الحسين سنة ٦٠، ومات سنة ١٢٦ في خلافة مروان ابن محمد آخر الخلفاء الأمويين. وكان شاعرًا جزلًا مكثرًا، فقد بلغ شعره نحو ٥٢٨٩ بيتًا، وكان معلمًا في مسجد الكوفة، وكان خبيرًا بأيام العرب، عالمًا بلغاتها وشعرائها، وقف حياته متعصبًا للمصرية على اليمنية، ثم متعصبًا لبني هاشم على الأمويين، إلا فترة قصيرة أحس فيها بالخطر على حياته؛ فاستعمل التقية الشيعية ومدح الأمويين، ولجأ إلى الخليفة هشام بن عبد الملك فمدحه وزعم أنه تاب وأناب فعفا عنه — فلما حضرته الوفاة عاد فأظهر حبه وفتح عينيه ورووا أنه قال: اللهم آل محمد، اللهم آل محمد، اللهم آل محمد.

وفيما عدا هذا المظهر في مدح بني أمية قد استعمل علمه، وطريقة تعليمه ومعرفته الواسعة بالأخبار في مدح بني هاشم عامة، والعلويين خاصة، ودعم مذهبهم بالحجج، وشنَّع على بني أمية أشد تشنيع. ولنسق بعض الأمثلة من قوله — فمن حججه التي استعملها قوله:

يقولون لم يُورَث ولولا تُراثُه
لقد شَركَت فيه بكيلُ وأرْحَبُ١١٧
ولا نتشلَتْ عضويْن منها يُحابرٌ
وكان لعبد القَيْسِ عضو مُؤرّب١١٨
فإن هي لم تَصْلُحْ لحيٍّ سِواهُمُ
إذا فذوو القُرْبى أحقُّ وأقرَبُ١١٩
فيا لك أمرًا قد أُشتَّتْ وجوهه
ودارًا ترى أسبابها تَتَقضَّبُ١٢٠
تبدلت الأشرارَ بعد خيارها
وجُدَّ بها من أمة وهي تلعب١٢١

يؤلف من ذلك للشيعة حجة فيقول: لو لم يورث النبي لكانت الخلافة شائعة في قبائل العرب، ولما كان هناك معنى للقول بأن الخلافة من قريش، فإذا تمسكتم بأن الخلافة من قريش، ودفعتم الأنصار عن الخلافة بهذه الحجة، فلا معنى لتقديم قريش إلا القربى من رسول الله، وإذا كانت القربى هي الحجة فالأقرب أولى، فبنو هاشم أولى من بني أمية، وبنو عليّ أولى بني هاشم.

وهكذا ظل يؤلف الحجج لهم على هذا النمط، ويطعن الأمويين الطعنات النافذة، فيقول في الموازنة بين بني هاشم وبني أمية:

أُسْدُ حَرْبٍ غُيُوثُ جَدْبٍ بهَا ليل
مَقاويل غيرُ ما أفْدامِ١٢٢
سادةٌ ذادَة عن الخُرَّد البِيض
إذا اليومُ كان كالأيَّامِ١٢٣
ساسةُ لا كمن يَرَى رِعْيَةَ النَّا
س سواءً ورِعيةَ الأنعامِ١٢٤
لا كعبد المليكِ أو كوليدٍ
أو سليمانَ بعدُ أو كهشامِ
من يَمُتْ فلا يمت فقيدًا ومَن يحيَي
فلا ذُو إلٍّ ولا ذمامِ١٢٥

ويقول:

فقُل لبني أميَّة حيثُ حلُّوا
وإن خِفْتَ المُهَنَّدَ والقَطِيعا١٢٦
ألا أُفٍّ لدهرٍ كنتُ فيه
هِدَانًا طائعًا لكُمُ مُطيعًا١٢٧
أجاع الله من أشبعتموه
وأشعُ من بجوْرِكُمُ أُجيعا
ويلعن فذَّ أمِته جهارًا
إذا ساس البريَّة والخليعا١٢٨
بمرضىِّ السياسة هاشميّ
يكون حيًا لأمَّته رَبيعا
وليثًا في المشاهد غيرَ نكْسٍ
لتقويم البريَّة مُسْتطِيعا١٢٩
يُقيم أمُورَها ويذُبُّ عنها
ويَترُكُ جَدْبَها أبدًا مَريعاَ١٣٠

ومثل هذا كثير. ولقد اضطهد من أجل هذا وسجن وعذب فكان يقول:

ما أبالي إذا حُفِظْت أبا القا
سم فيهم مَلاَمَةَ اللوَّامِ
ما أبالي ولن أباليَ فيهمْ
أبدًا رَغمَ ساخطين رَغام
فَهُمُ شيعتي وقسمي من الأمَّةِ
حَسْبي من سائر الأقسام
إن أمُتْ لاَ أمُتْ ونفسي نفسا
نِ من الشك في عمى أو تعامِي

وكان شعره — من غير شك — وقودًا للثورة، يسير في الناس فيبعث فيهم الحمية والحماسة، ويدفعهم لكره بني أمية وقتالهم، وقتل فقتلت بعده الدولة الأموية بقليل.

•••

فإن نحن وصلنا إلى العصر العباسي، رأينا الشعر السياسي يتلون بالخلاف المذهبي؛ فقد انقسم بنو هاشم إلى علويين وعباسيين، وأخذوا يتحاجون في «الأقربية»؛ يقول العباسيون إنهم ورثة العباس وهو عم، والعم يحجب ابن العم (وهو علي)؛ ويقول العلويون إنهم يرثون ولايتهم عن عليّ، وهو وإن كان ابن عم إلا أن نسله من فاطمة بنت النبي كالحسن والحسين وأولادهما أولى، لأن البنت أقرب من العم؛ فأخذ الشعر يصطبغ هذه الصبغة، وينحاز فريق من الشعراء إلى العلويين وفريق إلى العباسيين.

فأظهر شعراء الشيعة العلويين: السيد الحِميري، وهو شاعر مخضرم عاش في الدولتين الأموية والعباسية من سنة ١٠٥ إلى سنة ١٧٣، وكان مكثرًا مجيدًا ولكنه كان مثالًا للشيعي الغالي في التشيع، «فكان يفرط في سب أصحاب رسول الله وأزواجه، ويستعمل شعره في قذفهم والطعن عليهم، فتحومي شعره من هذا الجنس وغيره، وهجره الناس تخوفًا وترقبًا؛ وله طراز من الشعر ومذهب قلما يلحق به أو يقاربه، ولا يعرف له من الشعر كثير، وليس يخلو من مدح بني هاشم أو ذم غيرهم ممن هو عنده ضد لهم»؛١٣١ وقال الأصمعي: «لولا ما في شعره من سب السلف لما تقدمه من طبقته أحد».

قال القصائد الطويلة في فضائل عليّ، حتى وقف يومًا بالكوفة فقال: «من أتاني بفضيلة لعليّ بن أبي طالب ما قلت فيها شعرًا فله دينار»، حتى الفضائل الخرافية كالذي زعموا أن عليّ بن أبي طالب قام فتطهر للصلاة، ثم نزع خفَّه فانسابت فيه أفعى، فلما عاد ليلبسه انقضت عقاب فأخذت الخف فحلَّقت به، ثم ألقته فخرجت الأفعى منه. ومن خير قصائده في ذلك قصيدته المشهورة:

هل عند مَن أحببتُ تَنْوِيلُ
أمْ لا فإنّ اللومَ تَضْليل

يقول فيها:

أقسم بالله وآلائه
والمرءُ عما قال مسئول
إنّ عليّ بن أبي طالب
عَلَى التُّقي وَالبرّ مجَبولُ

ويقول القصائد الطوال أيضًا في رثاء الحسين كقصيدته:

أُمرُر عَلَ جَدث الْحُسي
ن فقُلْ لأعْظُمِه الزَّكيَّة
آأَعظُمًا لا زِلتِ مِنْ
وَطفاءَ ساكبةٍ رَويَّة
وإذا مَررتَ بقبره
فأطل به وَقفَ المَطِيَّة
وَابْكِ المُطَهّرَ للمطَهّر
والمُطهّرة النقَّية
كبكاء مُعْولةٍ أتَتْ
يومًا لِواحِدِها مَنيَّة
ونظم حادثة غدير خم،١٣٢ وهي ما تزعمه الشيعة من أن النبي يوم غدير خم أخذ بيد علي وقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه؛ فقال:
عجبتُ من قومٍ أتوْ أحمْدا
بخطَّةٍ ليس لها مَوْضعُ
قالوا له: لو شِئْتَ أعْلَمْتنا
إلى مَن الغايةُ والمَصْرَعُ
إذا تُوفِّيتَ وَفارَقَتنا
وفيهمُ في المُلكِ مَنْ يَطْمَعُ
فقال: لو أعلمتكم مَفزَعًا
كنتم عسيْتمُ فيه أن تصنعوا
كصُنْع أهل العِجلْ إذا فارقوا
هارونَ فالتّرْكُ له أروعُ
ثم أَتتهْ بعده عَزْمَةٌ
مِن ربِّه ليس له مدفعُ
أبِلغْ وإلا لم تكن مبلغًا
واللهُ منهم عاصم يمنعُ
فَعْندَها قام النبُّي الذي
كان بما يأمره يَصْدَعُ
يَخْطُبُ مأمورًا، وفي كفِّهِ
كف عليّ نورُها يَلَمعُ
رافعها أكْرِمْ بكفِّ الذي
يَرفعُ والكَف التي تُرْفَعُ
مَن كنتُ مَوْلاهُ فهذا له
مَولى فلم يرضوا ولم يقنعوا
وظَلَّ قومٌ غاظهُم قولُه
كأنما أنافُهم تُجدَعُ
حتى إذا وارَوه في لحده
وانصرفوا عن دَفْنه ضيَّعوا
ما قال بالأمس وأوصى به
واشترَوا الضرّ بما يَنْفَعُ
وقطَّعوا أرحامَهم بعده
فسوف يُجْزَوْنَ بما قَطَّعوا
وأزمَعوا مكرًا بمولاهُم
تبًا لما كانوا به أزمعوا
لا هم عليه يَردُوا حوضه
غدًا ولا هُو لهم يشفع

وقد كان السيد الحميري ينشئ في مدح العلويين ورثائهم، وينظم الأقوال والروايات والأخبار الشائعة التي كانت تقال فيهم، ويحرض المهدي على أن يحرم آل عمر بن الخطاب من العطاء:

قل لابن عباس سَميِّ محمد
لا تعطيَنّ بني عَديّ درهما
احرمْ بني تَيْمَ بن مُرَّة إنهم
شر البرية آخرًا ومُقدَّما
إن تُعْطِهِمْ لا يشكروا لك نعمَةً
ويكافئوك بأن تُذمّ وتُشتما
ولئن منعتهمُ لقد بدأوكُمُ
بالمنع إذ مَلَكوا وكانوا أظلما

ويظهر أنه سلك طريقًا ماكرًا أمن به إيقاع العباسيين وتنكيلهم، فكان يعليّ شأن العلويين ويمدحهم ويذم الصحابة وبني أمية، ثم يعرج على العباسيين فيمدحهم لأنهم من بني هاشم فبلغ ما أراد، ولم ينتقم منه العباسيون، بل نال من جوائزهم.

•••

وجاء بعده دِعبِل الخزاعي، فوقف موقفًا غير موقف السيد الحميري، قد وقف موقف عداء ظاهر للعباسيين، يهجو خلفاءهم أشد هجو وأقذعه، ولم يسلم من لسانه أحد من الخلفاء ولا الوزراء ولا الولاة ولا ذو نباهة، فهجا الرشيد وهجا المأمون وهجا المعتصم؛ ومدح العلويين بقصائد كثيرة، أشهرها تائيته البديعة التي مدح بها عليّ بن موسى بخراسان ومطلعها:

مَدَارسُ آيات خلت من تلاوةٍ
ومَنزِلُ وحي مقفرُ العَرَصات

وفيها يقول:

قفا نسأل الدار التي خَفَّ أهلها
متى عَهْدُها بالصوم والصلوات
وأين الأُلى شطَّتْ بهم غُرْبة النوى
أفَانينَ في الآفاق مفترقات
هُم أهلُ ميراث النبي إذا اعتَزوا
وهم خيرُ قاداتٍ وخيرُ حمَُاةِ
وما الناس إلا حاسد ومكذِّب
ومضطغنٌ ذو إحْنَةٍ وتِرَات
مَلاَمَك في أهل النبيِّ فإنهم
أحِبّايَ ما عاشوا وأهلُ ثِقاتي
تخيرتهُم رُشدًا لأمري فإنّهُم
على كلَّ حالٍ خِيرَةُ الخيرات
فيا ربّ زِدْني من يقيني بصيرةً
وزِدْ حُبَّهم يا ربّ في حَسَناتي
ألم تَرَ أني من ثلاثين حَجَّةً
أرُوحُ وأغْدُو دائمَ الحَسَرَاتِ
أرى فيْئهُمْ في غيرهم متقسّما
وأيديَهُم من فَيئهم صَفِراتِ
فآلُ رسول الله نُحْفُ جُسُومُهُم
وآل زياد حُفَّل القصراتِ
بَنَاتُ زيادٍ في القُصُور مَصُونةٌ
وآلُ رسولِ الله في الفَلَواتِ
فلولاَ الذي أرجُوهُ في اليوم أو غدٍ
لقَطَّع قلبي إثْرَهُم حسراتي
خروجُ إمامٍ لا محالة خارج
يقوم على اسم الله والبركاتِ
يميّز فينا كلَّ حَقّ وباطِلٍ
ويجزي على النَّعْماء والنَّقمات
سأقصر نفسي جاهدًا عن جِدالهِم
كفانَي ما ألقي من العَبرَاتِ

•••

وبكى الحسين في رثاء طويل يقول فيه:

رأس ابنِ بنت محمَّدٍ وَوَصيِّهِ
يا للرِّجال على قَناةٍ يُرْفَعُ!
والمسلمون بمنظر وبمسمع
لا جازعٌ مِن ذا ولا مُتخشِّعُ
أيقظتَ أجفانًا وكنتَ لها كرى
وأنمَْتَ عَينًا لم تكن بك تَهْجَعُ الخ

•••

يقابل ذلك كلما كان من الشعر في تأييد وجهة نظر العباسيين والاحتجاج بتفضيل العم، كالذي يقول مخاطبًا الرشيد:

يا ابن الأئمِة من بَعْدِ النبيّ ويا ابـ
ن الأوصياء أقّرَّ الناسُ أو دفعوا
إن الخلافة كانت إرْث والِدكِم
من دون تَيْمٍ وعفوُ الله مُتسَّعُ
لولا عَديٌّ وتيْمٌ لم تكن وَصَلَتْ
إلى أميّةَ تَمْريها وَتَرْتَضعُ١٣٣
وما لآل عليّ في إمارَتِكُم
وما لهم أبدًا في إرْثِكُم طمَعُ
يا أيها الناسُ لا تَعْزُبْ حُلُومكُمُ
ولا تُضِفكمُ إلى أكنافِها البدَعُ
العمُّ أوْلىَ من اُبن العمّ فاستَمعوا
قول النصيحةِ إنّ الحقَّ مُستْمَعُ

وكالذي يقول:

ألاَ لله دَرُّ بَني عليّ
ودَرٌّ من مَقالتهم كثيرُ
يُسمُّون النبيَّ أبًا ويأبى
من الأحزاب سَطرٌ بل سطور١٣٤

وكان من أكبر دعاة العباسيين في الشعر مروان بن أبي حفْصة؛ لقد مدح المهدي والرشيد ونال جوائزهما العظيمة، وقال قصيدته المشهورة التي يمدح بها المهدي عندما عقد البيعة لابنه الهادي:

يا ابنَ الذي ورِثَ النبيَّ محمدًا
دونَ الأقارب من ذَوِي الأرحامِ
الوحيُ بين بني البَنَاتِ وبينكم
قَطَع الخصامَ فلاتَ حين خِصام
ما للنساء مع الرجالِ فريضةٌ
نَزَلَتْ بذلك سُورةُ الأنعام
خلّوا الطريقَ لمَعْشَر عاداتهُم
حَطم المناكب كل يومِ زِحام١٣٥
ارْضَوا بما قَسَم الإلهُ لكم به
ودَعُو ورَاثة كلِّ أصْيَدَ حَامِ١٣٦
أني يكونُ، وليس ذاك بكائن
لبني البنات وِرَاثةُ الأعمام
ألغى سهامَهم الكتابُ فحاولوا
أن يَشرعوا فيها بغير سهام١٣٧
ظفَرتْ بنو ساقي الحَجيج بحقِّهم
وغُررتمُ بتَوَهُّم الأحلام١٣٨
عُقِدَتْ لموسى بالرُّصافة بيْعةٌ
شَدَّ الإله بها عُرا الإسلام١٣٩
مُوسى الذي عَرَفَتْ قُريش فضلَه
ولها فضيلتُها على الأقوام

وكان من الأبيات على الشيعة قوله:

أنَّي يكون — وليس ذاك بكائن —
لبني البنات وراثةُ الأعمام١٤٠

وقد غاظهم هذا البيت جدًا حتى لعنوه من أجله، وردوا عليه بقولهم:

لِمَ لا يكون — وإن ذاك لكائنٌ —
لبني البنات وراثة الأعمام
للبنت نصفٌ كامل من ماله
والعمُّ متروكٌ بغير سهام
ما للطليق وللتراث وإنما
صلى الطليق مخافة الصمصام١٤١
وحتى اغتاله بعضهم؛ فروى الأغاني أن صالح بن عطية لما سمع منه هذا البيت عاهد الله أن يغتاله، فلم يزل يلاطفه إلى أن أنس به، ثم مرض مروان بالحمى، فخلا البيت يومًا به وبصالح، فوثب عليه صالح حتى أخذ بحلقه، فما فارقه حتى مات.١٤٢

ويطول بنا القول لو عددنا شعراء العلويين والعباسيين، وما قاله كلّ في الخلافة واستحقاقها، فنجتزئ بهذا القدر، وهو يكفينا للدلالة على ما كان للشيعة من أثر كبير في الأدب الأموي والعباسي. ولقد ظل هذا النزاع الأدبي على حدته طوال العصور الإسلامية، وفي كل قطر تقريبًا حتى يومنا هذا، وكان له الأثر القوي في الأدبين الفارسي والعربي معًا. وعلى الجملة فلئن شقيت السياسة بهذا النزاع فقد سعد الأدب؛ ولئن أجرى الدماء، وأزهق الأرواح، وخرب الممالك — فقد حرك العواطف، وأسال الأفكار، وأطلق للخيال العنان.

لقد أغنى المعتزلة الأدب من حيث المعاني، وقوة العقل، وسعة الذهن، وتوليد الأفكار العقلية، والنظر إلى الكون وإلى الطبيعة، وإجراء التجارب عليها، ودلالتها على خالقها، وغاصوا على المعاني غوصًا، ونقلوا الأدب من لفظ رشيق، إلى معنى عميق، ومن عبارات مجملة منمقة، إلى موضوعات واسعة مسهبة، وبعد أن كان الأدب خلوًا من الموضوع جعلوا له موضوعًا؛ فمن موضوعه: الحيوان، والبخلاء، والإمام، والقيان، والتجار، والمعلمون، إلى غير ذلك من موضوعات لم تكن في الأدب قبل المعتزلة؛ ووجهوا الذهن وجهات لم تكن قبلهم. كان النثر قبلهم خطبًا ترصف فيه الجمل رصفًا، أو جملًا حكمية، أو أمثالًا سائرة، فجعلوا الأدب كتبًا، كل كتاب يدور حول موضوع اجتماعي أو أدبي، أو رسائل كل رسالة لها نواة تدور الرسالة حولها. وكان الجاحظ مظهر المعتزلة، المحيط بأدبهم، الناشر لآرائهم، المحلي لأفكارهم، يزيد عليها من أفكاره، ويحليها بتعبيراته.

وجاء الشيعة فأغنوا الأدب لا من هذه الناحية العقلية، بل من الناحية السياسية والعاطفية، فظلوا يقولون في الحق وطلبه؛ والإرث وغصبه، ثم يبكون على حق ضاع، ودم أريق، وحرمات انتهكت، وبيوت دمرت، وجثث صلبت وذريت.

فكان لنا من الأدبين جميعًا؛ فكر وعاطفة، وعقل وقلب، وكلاهما لابد منه في الأدب.

١  ويبلغ الإمامية الآن نحوًا من سبعة ملايين في فارس، ونحو مليون ونصف مليون في العراق، وخمسة ملايين في الهند.
٢  انظر ابن خلدون في المقدمة ص ١٦٤ وما بعدها، والشهرستاني ص ١٤٦ وما بعده.
٣  الكليني هو محمد بن يعقوب، يعد من أفاضل الشيعة ورؤسائهم، وهو عند الشيعة كالبخاري عند أهل السنة؛ له كتاب الكافي في ثلاثة أجزاء: الأول في الأصول والثاني والثالث في الفروع، ومات ببغداد سنة ٣٢٨.
٤  كتاب أصول الكافي طبع فارس سنة ١٢٨١ ص ٨٢.
٥  ص ٨٤.
٦  ص ٨٥.
٧  ص ٨٦.
٨  ص ٨٧.
٩  ص ٨٨.
١٠  ص ٩١.
١١  ص ٩٢.
١٢  ص ٩٣.
١٣  ص ٩٦ و٩٧.
١٤  ص ١٠٥ و١٠٦ و١٠٧.
١٥  ص ١٠٧.
١٦  ص ١٠٧.
١٧  ص ١١٠.
١٨  ص ١١٠ و١١٢.
١٩  ص ١١٥.
٢٠  ص ١٢٣.
٢١  ص ١٢٥.
٢٢  ١٢٦.
٢٣  ص ١٢٧.
٢٤  ص ١٢٨.
٢٥  ص ١٣١.
٢٦  ص ١٣٢.
٢٧  ص ١٣٣.
٢٨  ص ١٣٥.
٢٩  ص ١٣٨.
٣٠  ص ١٣٩.
٣١  ص ١٤٩.
٣٢  ص ١٨٧.
٣٣  ص ١٨٩.
٣٤  ص ١٩٠.
٣٥  ص ١٩٦.
٣٦  ص ١٩٩.
٣٧  ص ١١٢.
٣٨  ص ٢٨٩.
٣٩  ص ٢٨٩.
٤٠  ص ٢٨٨.
٤١  انظر الفصل لابن حزم جزء ٤ ص ٢ وما بعدها.
٤٢  شرح المواقف باختصار جزء ٣ ص ٢٠٤ وما بعدها.
٤٣  يشير إلى قوله تعال: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى. ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى.
٤٤  الإحياء ٨/٤ المطبعة الميمنية سنة ١٣٠٦.
٤٥  انظر في ذلك فجر الإسلام.
٤٦  ص ١٤٠.
٤٧  أسد الغابة ٣١/٤.
٤٨  انظر دائرة المعارف الإسلامية في مادة المهدي نقلًا عن جولد زيهر.
٤٩  ابن خلكان ٦٤٢/١.
٥٠  انظر تفسير الألوسي ٣١٦/٦.
٥١  انظر في ذلك ابن خلدون ٢٦٠/١ وما بعدها.
٥٢  الأغاني ٨٨/١٦.
٥٣  النجوم الزاهرة ٢٢١/١.
٥٤  مختصر تذكرة القرطبي طبعة بولاق ص ١٥٩.
٥٥  الطبري ١٣٨/٩ طبع بمصر.
٥٦  انظر القصة بطولها في الأغاني ٨٥/١٢.
٥٧  تفسير الألوسي ٣١٥/٦.
٥٨  انظر ذلك كله في مختصر تذكرة القرطبي ص ١٥٢ وما بعدها.
٥٩  انظر الكليني في الكافي ص ٤٠٠ وما بعدها.
٦٠  انظر الكافي ٣٩١/٣.
٦١  هذا مختصر من أقوال أبي جعفر النقيب، حكاه بطوله ابن أبي الحديد في نهج البلاغة ٤٥٤/٤ وما بعدها.
٦٢  يزيد الشيعة في الأذان «حي على خير العمل» بعد حي على الفلاح.
٦٣  مروج الذهب ١٦٦/٢.
٦٤  الملل والنحل ص ١٢٥ طبعة أوروبا.
٦٥  ابن خلكان ١٤٦/١.
٦٦  أعيان الشيعة ١٦٩/١.
٦٧  المسعودي: مروج الذهب ١٥/١.
٦٨  الملل والنحل ص ١٢٥ وما بعدها طبع أوروبا.
٦٩  انظر تهذيب التهذيب لابن حجر ١٠٣/٢.
٧٠  الفهرست لابن النديم ص ٢٢٠.
٧١  أنظرها في مقالات الإسلاميين للأشعري، وأصول الدين للبغدادي.
٧٢  ابن خلكان ٢٩/١.
٧٣  وهو مخطوط نادر تفضل صديقي الأستاذ أبو عبد الله الزنجاني فأهدانيه.
٧٤  مقاتل الطالبين ص ٩٣.
٧٥  عيون الأخبار ١٥/٢.
٧٦  الانتصار ٤١.
٧٧  انظر بحار الأنوار ٢٠٨/١١، ٢٢٤، ٣٢٥.
٧٨  المجمر: الجيش يبقى مدة طويلة في أرض العدو، وإقفاله: إرجاعه.
٧٩  الطبري ٢٦٦/٨ طبعة مصر.
٨٠  يريد بالعجل أنهم عبدوه كما عبده قوم من بني إسرائيل.
٨١  ص ١٠٧.
٨٢  الكشاف ٦٤/٢.
٨٣  الطبري ٢٧٢/٨.
٨٤  الملل والنحل ١١٦ طبعة أوروبا.
٨٥  طبع بميلانو سنة ١٩١٩.
٨٦  المجموع ص ١١.
٨٧  الأغانى ١٠٥/١٠.
٨٨  الطبرى ١٢٦/٩.
٨٩  اليعقوبي ٤٢٢/٢.
٩٠  عيون الأخبار ١٤١/٢.
٩١  الفخرى ص ١٨٨ طبع أوروبا.
٩٢  إن شئت فارجع إلى نصهما في تاريخ الطبري والكامل للمبرد على اختلاف قليل بينهما في النص.
٩٣  هي فاطمة زوج عبد المطلب أولدها عبد الله أبا رسول الله.
٩٤  يعرض بالمنصور لأن أمه أم ولد بربزية.
٩٥  أي وصل فيها.
٩٦  أي من قبل أبيه ومن قبل أمه.
٩٧  كذلك.
٩٨  يريد: أبا طالب.
٩٩  من أجابه: حمزة والعباس.
١٠٠  هما أبو طالب وأبو لهب.
١٠١  الشيخان: أبو بكر وعمر.
١٠٢  لأن أمه مارية القبطية.
١٠٣  أي بإجازة العباس لبيعة علي.
١٠٤  مروج الذهب ١٥٧/٢.
١٠٥  الطبري ٣٠٧/٩.
١٠٦  الطبري ٣٠٧/٩.
١٠٧  الفخري ١٨٨ طبع أوربا.
١٠٨  الفخري ٢٦٠ وما بعدها.
١٠٩  الطبري ٢٩٥/١٠.
١١٠  القلف: جمع أقلف وهو من لم يختن.
١١١  الطماطم: جمع طِمطِم بكسر الطاءين وهو من في لسانه عجمة فلا يفصح.
١١٢  إبراهيم الموصلي وابن جامع مغنيان، وابن أبي مريم من ندماء الرشيد.
١١٣  الصفاعنة: لعله جمع مصفعاني وهو من يصفع على قفاه هزؤوا به وسخرية.
١١٤  أبو بكر الخوارزمي الشيعي في رسالة طويلة قيمة من رسائله، عدد فيها نكبات الأمويين والعباسيين للعلويين.
١١٥  جزء ١٣٢/٢ وما بعدها.
١١٦  طبعت الهاشميات في أوروبا وفي مصر.
١١٧  أي تقول بنو أمية ليست الخلافة تورث عن النبي، ولو صح قولهم لكانت الخلافة في الناس عامة، ولاشتركت في الحق فيها بنصيب قبيلتا بكيل وأرحب، وهما حيان من همدان.
١١٨  انتشلت أي أخذت نصيبًا؛ يقول: لولا أنه يورث لنالت يحابر — وهي قبيلة من مراد — نصيبين من الحق في الخلافة، ولنالت عبد القيس — وهي قبيلة أخرى من جديلة — قسمًا مؤربًا أي كاملًا تامًا.
١١٩  هي، أي الخلافة، أي فإن تبين من الحجج التي قتلتها أن الخلافة لا تصلح لأحد من هؤلاء، وأنها لا تصلح إلا لقريش، فذوو القربى أحق وأقرب، فهم أولى، وذوو القربى هم بنو هاشم.
١٢٠  أي يا لك من أمر ما أعجبه، تشتتت وجوهه، وتوزعته الأعراض. ويا لك من دنيا تنقضب أسبابها أي تنقطع.
١٢١  أي تبدلت الدنيا حكم الأشرار وهم بنو أمية بعد حكم الأخيار أمثال علي.
١٢٢  يقول في بني هاشم إنهم أسود في الحروب، وإذا وهبوا فهم كالغيوث عند القحط وبهاليل: جمع بهلول وهو الضحوك، وأقدام: جمع قدم وهو الثقيل الغبي، والمقاويل: جمع مقول وهو الملك أو الرجل المتكلم.
١٢٣  الخرد: جمع خريدة وهي المرأة الحسناء. وقوله كان كالأيام أي الأيام الشداد وهي أيام الحروب.
١٢٤  أي يسومون الناس ويتعهدونهم لا كهؤلاء من بني أمية الذين يسوسون الناس كما يسوسون الأنعام.
١٢٥  يقول من حلت من خلفاء بني أمية لا يشعر بفقده، ومن يعش يعش لا عهد له ولا ذمة.
١٢٦  المهند: السيف، والقطيع: السوط.
١٢٧  الهدان: الجبان.
١٢٨  الفذ: الفرد وهو أول القداح، ويريد به معاوية وهو الفرد لأنه أخذ الملك بالسيف، ويريد بالخليع الوليد بن عبد الملك.
١٢٩  النكس: الجبان الردي.
١٣٠  الجدب: القحط، والمريع: الخصب.
١٣١  الأغاني ٣/٧.
١٣٢  غدير خم: غدير بين مكة والمدينة.
١٣٣  تيم: اسم قبيلة منها أبو بكر الصديق، وعدي: قبيلة منها عمر بن الخطاب.
١٣٤  يشير إلى آية الأحزاب: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رَّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ.
١٣٥  يريد بالمعشر العباسيين، وحطم المناكب يوم الزحام: كناية عن غلبهم الخصوم يوم التنافس في المجد.
١٣٦  الأصيد: السيد، والحامي: من يحمي من يلوذ به.
١٣٧  يشرعوا فيها بغير سهام: ينالونها من غير أن يكون لهم نصيب مفروض فيها.
١٣٨  ساقي الحجيج: العباس بن عبد المطلب، كان يسقي الحجاج بمكة في الجاهلية.
١٣٩  موسى: هو الهادي بن الخليفة المهدي.
١٤٠  بنو البنات: بنو فاطمة بنت النبي ، وقوله: وراثة الأعمام، أي وراثة كوراثة الأعمام.
١٤١  يريد بالطليق العباس بن عبد المطلب، ويشير بالطليق إلى أنه كان مع المشركين يوم بدر، ثم أسر فاقتدى نفسه.
١٤٢  الأغاني ٤٨/٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤