الجزء الأول

ذِكْر سلطان تونس

وكان سلطان تونس عند دخولي إليها السلطان أبا يحيى ابن السلطان أبي زكريا يحيى ابن السلطان أبي إسحاق إبراهيم ابن السلطان أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص رحمه الله، وكان بتونس جماعة من أعلام العلماء، منهم قاضي الجماعة بها أبو عبد الله محمد بن قاضي الجماعة أبي العباس أحمد بن محمد بن حسن بن محمد الأنصاري الخزرجي البلنسي الأصل ثم التونسي هو ابن الغماز، ومنهم الخطيب أبو إسحاق إبراهيم بن حسين بن علي بن عبد الرفيع الربعي، وولي أيضًا قضاء الجماعة في خمس دول، ومنهم الفقيه أبو علي عمر بن علي بن قداح الهواري، وولي أيضًا قضاءها وكان من أعلام العلماء، ومن عوائده أنه يَسْتَنِدُ كلَّ يوم جمعة بعد صلاتها إلى بعض أساطين الجامع الأعظم المعروف بجامع الزيتونة، ويستفتيه الناس في المسائل، فلما أفتى في أربعين مسألة انصرف عن مجلسه ذلك، وأظلني بتونس عيدُ الفطر فحضرْتُ المصلى، وقد احتفل الناس لشهود عيدهم وبرزوا في أَجْمَل هيئة وأَكْمل شارة، ووافى السلطان أبو يحيى المذكور راكبًا وجميع أقاربه وخواصه وخدام مملكته مشاةً على أقدامهم في ترتيب عجيب، وصَلَّيْتُ الصلاة وانقضت الخطبة وانصرف الناس إلى منازلهم.

وبعد مدة تَعَيَّنَ لركب الحجاز الشريف شيخُه يُعْرَف بأبي يعقوب السوسي من أهل أقل من بلاد إفريقية وأكثره المصامدة فقد موني قاضيًا بينهم، وخرجنا من تونس في أواخر شهر ذي القعدة سالكين طريق الساحل، فوصلنا إلى بلدة سوسة وهي صغيرة حسنة مبنية على شاطئ البحر بينها وبين مدينة تونس أربعون ميلًا، ثم وصلنا إلى مدينة صفاقس وبخارج هذه البلدة قبر الإمام أبي الحسن اللخمي المالكي مؤلف كتاب التبصرة في الفقه، قال ابن جزي في بلدة صفاقس: يقول علي بن حبيبٍ التنوخي (كامل):

سقيًا لأرض صفاقسٍ
ذات المصانع والمُصَلَّى
محمي القصير إلى الخليـ
ـج فقصْرها السامي المُعَلَّى
بلد يكاد يقول حيـ
ـن تزوره أهلًا وسهلَا
وكأنه والبحر يحـ
ـسر تارة عنه ويملَا
صب يريد زيارة
فإذا رأى الرقباء ولَّى

وفي عكس ذلك يقول الأديب البارع أبو عبد الله محمد بن أبي تميم، وكان من المجيدين المكثرين (بسيط):

صفاقسٌ لا صفا عيشٌ لساكنها
ولا سقى أَرْضَها غيثٌ إذا انسكبَا
ناهيك من بلدة مَنْ حَلَّ ساحَتَهَا
عانى بها العاديين الروم والعربَا
كم ضَلَّ في البر مسلوبًا بضاعته
وبات في البحر يشكو الأَسْر والعَطَبَا
قد عَايَنَ البحر من لوم لقاطنها
فكلما هَمَّ أن يدنو لها هَرَبَا

(رجع)، ثم وصلنا إلى مدينة قابس، ونزلنا بداخلها وأَقَمْنَا بها عشرًا لتوالي نزول الأمطار، قال ابن جزي في ذِكْر قابس: يقول بعضهم (رجز):

لهفي على طيب ليال خَلَتْ
بجانب البطحاء من قابسِ
كأن قلبي عند تذكارها
جذوة نار بيد قابسِ

(رجع)، ثم خرجنا من مدينة قابس قاصدين طرابلس، وصَحِبْنا في بعض المراحل إليها نحو مائة فارس أو يزيدون، وكان بالركب قوم رماة فهابَتْهُم العرب، وتحامت مكانهم وعصمنا الله منهم، وأَظَلَّنَا عيد الأضحى في بعض تلك المراحل، وفي الرابع بعده وَصَلْنا إلى مدينة طرابلس، فأقمنا بها مدة، وكنت عقدت بصفاقس على بنت لبعض أمناء تونس، فبنيت عليها بطرابلس، ثم خرجت من طرابلس أواخر شهر المحرم من عام ستة وعشرين ومعي أهلي، وفي صحبتي جماعة من المصامدة، وقد رفعت العلم، وتقدمت عليهم، وأقام الركب في طرابلس خوفًا من البرد والمطر، وتجاوزنا مسلاتة ومسراتة وقصور سرت، وهنالك أرادت طوائف العرب الإيقاع بنا، ثم صَرَفَتْهُم القدرة وحالت دون ما راموه من إذايتنا، ثم توسَّطْنا الغابة وتجاوزناها إلى قصر برصيصا العابد إلى قبة سلام، وأدركنا هنالك الركب الذين تخلفوا بطرابلس، ووَقَعَ بيني وبين صهري مشاجرة أَوْجَبَتْ فراق بنته، وتزوجْتُ بنتًا لبعض طلبة فاس، وبنيْتُ بها بقصر الزعافية، وأولمْتُ وليمة حبسْتُ لها الركب يومًا وأطعمْتُهم، ثم وصلنا في أول جمادى الأولى إلى مدينة الإسكندرية حَرَسَها الله، وهي الثغر المحروس، والقطر المأنوس، العجيبة الشان، الأصيلة البنيان، بها ما شِئْتَ من تحسين وتحصين، ومآثر دنيا ودِين، كَرُمَتْ مغانيها، ولَطُفَتْ معانيها، وجمعت بين الضخامة والإحكام مبانيها، فهي الفريدة تجلى سناها، والخريدة تجلى في حلاها، الزاهية بجمالها المُغْرِب، الجامعة لمفترق المحاسن لتوسطها بين المشرق والمغرِب، فكل بديعة بها اجتلاؤها، وكل طرفة فإليها انتهاؤها، وقد وَصَفَها الناس فأطنبوا، وصَنَّفُوا في عجائبها فأغربوا، وحسب المشرف إلى ذلك ما سطره أبو عبيد في كتاب المسالك.

ذِكْر أبوابها ومرساها

ولمدينة الإسكندرية أربعة أبواب، باب السدرة وإليه يشرع طريق المغرب، وباب رشيد، وباب البحر، والباب الأخضر، وليس يُفْتَح إلا يوم الجمعة، فيخرج الناس منه إلى زيارة القبور، ولها المرسى العظيم الشأن، ولم أرَ في مراسي الدنيا مثله إلا ما كان من مرسى كولم وقاليقوط ببلاد الهند، ومرسى الكفار بسرادق ببلاد الأتراك، ومرسى الزيتون ببلاد الصين، وسيقع ذكرها.

ذكر المنار

قصدت المنار في هذه الوجهة فرأيت أحد جوانبه متهدِّمًا، وصِفَتُه أنه بناء مُرَبَّع ذاهب في الهواء، وبابه مرتفع على الأرض، وإزاء بابه بناء بقدر ارتفاعه، وُضِعَتْ بينهما ألواحُ خشب يُعْبَر عليها إلى بابه، فإذا أُزِيلَتْ لم يكن له سبيل، وداخِلُ الباب موضع لجلوس حارس المنار، وداخل المنار بيوت كثيرة، وعَرْض الممر بداخله تسعة أشبار، وعَرْض الحائط عشرة أشبار، وعَرْض المنار من كل جهة من جهاته الأربعِ مائةٌ وأربعون شبرًا، وهو على تل مرتفع، ومسافةُ ما بينه وبين المدينة فرسخ واحد في بَرٍّ مستطيل يحيط به البحر من ثلاث جهات إلى أن يتصل البحر بسور البلد، فلا يمكن التوصل إلى المنار في البر إلا من المدينة، وفي هذا البَرِّ المتصل بالمنار مقبرة الإسكندرية، وقصدْتُ المنارَ عند عودي إلى بلاد المغرب عام خمسين وسبعمائة، فوجدته قد استولى عليه الخراب؛ بحيث لا يمكن دخوله ولا الصعود إلى بابه، وكان الملك الناصر رحمه الله قد شَرَعَ في بناء منار مثله بإزائه، فعاقه الموت عن إتمامه.

ذكر عمود السواري

ومن غرائب هذه المدينة عمود الرخام الهائل الذي بخارجها المسمى عندهم بعمود السواري، وهو متوسط في غابة نخل، وقد امتاز عن شجراتها سموًّا وارتفاعًا، وهو قطعة واحدة مُحْكَمة النحت، قد أقيم على قواعد حجارة مربعة أمثال الدكاكين العظيمة، ولا تُعْرف كيفية وَضْعه هنالك ولا يُتَحَقَّق مَنْ وَضَعَهُ، قال ابن جزي: أخبرني بعض أشياخي الرحالين أن أحد الرماة بالإسكندرية صعد إلى أعلى ذلك العمود ومعه قوسه وكنانته، واستقر هنالك وشاع خبره، فاجتمع الجم الغفير لمشاهدته وطال العجب منه، وخفي على الناس وَجْه احتياله، وأظنه كان خائفًا أو طالب حاجة، فأنتج له فعله الوصول إلى قصده لغرابة ما أتى به، وكيفية احتياله في صعوده أنه رمى بنشابة قد عقد فوقها خيطًا طويلًا وعقد بطرف الخيط حبلًا وثيقًا فتجاوزَت النشابة أعلى العمود معترضة عليه ووقعت من الجهة الموازية للرامي فصار الخيط معترضًا على أعلى العمود فجذَبَه حتى توسَّطَ الحبل أعلى العمود مكان الخيط فأوسطه من إحدى الجهتين في الأرض وتَعَلَّقَ به صاعدًا من الجهة الأخرى واستقر بأعلاه، وجذب الحبل واستصحب من احتمله فلم يهتدِ الناسُ لحيلته، وعجبوا من شأنه (رجع)، وكان أمير الإسكندرية في عهد وصولي إليها يسمى بصلاح الدين، وكان فيها أيضًا في ذلك العهد سلطان إفريقية المخلوع وهو زكرياء أبو يحيى بن أحمد بن أبي حفص المعروف باللحياني، وأَمَرَ الملك الناصر بإنزاله بدار السلطنة من إسكندرية، وأجرى له مائة درهم في كل يوم، وكان معه أولاده عبد الواحد ومصري وإسكندري وحاجبه أبو زكرياء بن يعقوب ووزيره أبو عبد الله بن ياسين، وبالإسكندرية توفي اللحياني المذكور وولده الإسكندري وبقي المصري بها إلى اليوم، قال ابن جزي: من الغريب ما اتَّفَقَ من صِدْق الزجر في اسمَيْ ولدَي اللحياني الإسكندري والمصري، فمات الإسكندري بها وعاش المصري دهرًا طويلًا بها وهي من بلاد مصر (رجع)، وتَحَوَّلَ عبد الواحد لبلاد الأندلس والمغرب وإفريقية، وتوفي هنالك بجزيرة جرية.

ذكر بعض علماء الإسكندرية

فمنهم قاضيها عماد الدين الكندي إمام من أئمة علم اللسان، وكان يَعْتَمُّ بعمامة خَرَقَتْ المعتاد للعمائم، لم أرَ في مشارق الأرض ومغاربها عمامة أعظم منها، رأيته يومًا قاعدًا في صدر محراب، وقد كادت عمامته أن تملأ المحراب، ومنهم فخر الدين بن الريغي، وهو أيضًا من القضاة بالإسكندرية فاضل من أهل العلم.

حكاية

يُذْكَر أن جد القاضي فخر الدين الريغي كان من أهل ريغة، واشتغل بطلب العلم، ثم رحل إلى الحجاز فوصل الإسكندرية بالعشي وهو قليلُ ذاتِ اليد، فأَحَبَّ ألَّا يدخلها حتى يسمع فأْلًا حسنًا، فقعد قريبًا من بابها إلى أن دخل جميع الناس، وجاء وقْت سد الباب ولم يبقَ هنالك سواه، فاغتاظ الموكل بالباب من إبطائه وقال متهكمًا: ادخل يا قاضٍ، فقال قاضٍ إن شاء الله، ودَخَلَ إلى بعض المدارس ولازم القراءة وسَلَكَ طريق الفضلاء، فعَظُمَ صيته وشُهِرَ اسمه، وعُرِفَ بالزهد والورع، واتصلت أخباره بمَلِك مصر، واتفق أن توفي قاضي الإسكندرية وبها إذ ذاك الجم الغفير من الفقهاء والعلماء، وكلهم متشوف للولاية وهو من بينهم لا يتشوف لذلك، فبعث إليه السلطان بالتقليد وهو ظهير القضاء وأتاه البريد بذلك، فأمر خديمه أن ينادي في الناس من كانت له خصومة فليحضر لها، وقَعَدَ للفصل بين الناس، فاجتمع الفقهاء وسواهم إلى رجل منهم كانوا يظنون أن القضاء لا يتعداه، وتفاوضوا في مراجعة السلطان في أَمْرِهِ ومخاطَبَتِهِ بأن الناس لا يرتضونه، وحضر لذلك أحد الحذاق من المنجمين، فقال لهم: لا تفعلوا ذلك، فإني عدلْتُ طالع ولايته وحققته فظَهَرَ لي أنه يحكم أربعين سنة، فأَضْرَبُوا عما هموا به من المراجعة في شأنه، وكان أَمْرُه على ما ظَهَرَ للمنجم، وعُرِفَ في ولايته بالعدل والنزاهة، ومنهم وجيه الدين الصنهاجي من قضاتها مُشْتَهِر بالعلم والفضل، ومنهم شمس الدين ابن بنت التنيسي، فاضلٌ شهيرُ الذكر، ومن الصالحين بها الشيخ أبو عبد الله الفاسي من كبار أولياء الله تعالى يُذْكَر أنه كان يُسْمَعُ رُدُّ السلام عليه إذا سَلَّمَ من صلاته، ومنهم الإمام العالم الزاهد الخاشع الورع «خليفة صاحب المكاشفات».

كرامة له

أخبرني بعض الثقات من أصحابه قال: رأى الشيخ خليفةُ رسولَ الله في النوم، فقال: يا خليفةُ زُرْنَا، فرحل إلى المدينة الشريفة وأتى المسجد الكريم فدخل من باب السلام وحَيَّا المسجد وسلم على رسول الله ، وقَعَدَ مستندًا إلى بعض سواري المسجد، ووَضَعَ رأسه على ركبتيه، وذلك يسمى عند المتصوفة الترفيق، فلما رَفَعَ رأسه وَجَدَ أربعة أرغفة وآنية فيها لبن وطبقًا فيه تمر فأكل هو وأصحابه وانصرف عائدًا إلى الإسكندرية ولم يَحُجَّ تلك السنة.

ومنهم الإمام العالم الزاهد الورع الخاشع برهان الدين الأعرج من كبار الزهاد وأفراد العباد، لَقِيتُه أيام مُقامي بالإسكندرية، وأقمت في ضيافته ثلاثًا.

ذكر كرامة له

دخلْتُ عليه يومًا فقال لي: أراك تحب السياحة والجولان في البلاد، فقلت له: نعم إني أحب ذلك، ولم يكن حينئذٍ خطر بخاطري التوغل في البلاد القاصية من الهند والصين، فقال: لا بد لك إن شاء الله من زيارة أخي فريد الدين بالهند، وأخي ركن الدين زكرياء بالسند، وأخي برهان الدين بالصين، فإذا بَلَغْتَهُم فأبلغهم مني السلام، فعَجِبْتُ من قوله، وأُلْقِيَ في روعي التوجه إلى تلك البلاد، ولم أَزَلْ أجول حتى لقيت الثلاثة الذين ذَكَرَهُمْ وأَبْلَغْتُهُمْ سلامه، ولما وادعته زَوَّدَنِي دراهم لم تَزَلْ عندي محوطة، ولم أَحْتَجْ بعدُ إلى إنفاقها إلى أن سَلَبَهَا مني كفار الهنود فيما سلبوه لي في البحر، ومنهم الشيخ ياقوت الحبشي من أفراد الرجال، وهو تلميذ أبي العباس المرسي، وأبو العباس المرسي تلميذ ولي الله تعالى أبي الحسن الشاذلي الشهير ذي الكرامات الجليلة والمقامات العالية.

كرامة لأبي الحسن الشاذلي

أخبرني الشيخ ياقوت عن شيخه أبي العباس المرسي أن أبا الحسن كان يحج في كل سنة، ويجعل طريقه على صعيد مصر، ويجاور بمكة شهر رجب وما بعده إلى انقضاء الحج، ويزور القبر الشريف ويعود على الدرب الكبير إلى بلده، فلما كان في بعض السنين وهي آخر سنة خرج فيها قال لخديمه: استصحب فأسًا وقفة وحنوطًا وما يُجَهَّز به الميت، فقال له الخديم: ولِمَ ذا يا سيدي؟ فقال له: في حميثرا سوف ترى، وحميثرا في صعيد مصر في صحراء عيذاب وبها عين ماء زعاق وهي كثيرة الضباع، فلما بَلَغَا حميثرا اغتسل الشيخ أبو الحسن وصلى ركعتين وقبضه الله عز وجل في آخر سجدة من صلاته ودُفِنَ هناك، وقد زُرْتُ قَبْرَه وعليه تبرية مكتوب فيها اسمه ونسبه متصلًا بالحسن بن علي رضي الله عنه.

ذكر حزب البحر المنسوب إليه

كان يسافر في كل سنة كما ذكرناه على صعيد مصر وبحر جدة، فكان إذا رَكِبَ السفينة يقرؤه في كل يوم وتلامذته إلى الآن يقرءونه في كل يوم وهو هذا: يا الله يا علي يا عظيم يا حليم يا عليم أنت ربي، وعلمك حسبي، فنعم الرب ربي، ونعم الحسب حسبي، تنصر من تشاء وأنت العزيز الرحيم، نسألك العصمة في الحركات والسكنات، والكلمات والإرادات، والخطرات من الشكوك والظنون، والأوهام الساترة للقلوب عن مطالعة الغيوب، فقد ابتلي المؤمنون وزُلْزِلوا زلزالًا شديدًا ليقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا، فثبتنا وانصرنا وسَخِّر لنا هذا البحر كما سَخَّرْتَ البحر لموسى عليه السلام، وسَخَّرْتَ النار لإبراهيم عليه السلام، وسَخَّرْتَ الجبال والحديد لداود عليه السلام، وسَخَّرْتَ الريح والشياطين والجن لسليمان عليه السلام، وسَخِّرْ لنا كل بحر هو لك في الأرض والسماء، والملك والملكوت، وبحر الدنيا وبحر الآخرة، وسَخِّرْ لنا كل شيء، يا من بيده ملكوت كل شيء، كهيعص، حم، عسق، انصرنا فإنك خير الناصرين، وافتح لنا فإنك خير الفاتحين، واغفر لنا فإنك خير الغافرين، وارحمنا فإنك خير الراحمين، وارزقنا فإنك خير الرازقين، واهْدِنا ونَجِّنا من القوم الظالمين، وهَبْ لنا ريحًا طيبة كما هي في عِلْمك، وانشرها علينا من خزائن رحمتك، واحملنا بها حَمْل الكرامة، مع السلامة والعافية في الدين والدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير، اللهم يسر لنا أمورنا مع الراحة لقلوبنا وأبداننا، والسلامة والعافية في ديننا ودنيانا، وكن لنا صاحبًا في سَفَرِنا، وخليفة في أهلنا.

واطمس على وجوه أعدائنا، وامسخهم على مكانتهم، فلا يستطيعون المضي ولا المجيء إلينا، وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ، يس إلى فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ، شاهت الوجوه، وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا، طس طسم حم عسق مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ حم حم حم حم حم حم حم حم الأمر وجاء النصر فعلينا لا يُنْصَرون حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ، باسم الله بابنا تبارك حيطاننا يس سقفنا كهعيص كفايتنا حم عسق حمايتنا فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، ستر العرش مسبول علينا، وعين الله ناظرة إلينا، بحول الله لا يُقْدَر علينا، وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ، فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حكاية

ومما جرى بمدينة الإسكندرية سنة سبع وعشرين، وبَلَغَنَا خبر ذلك بمكة — شَرَّفَها الله — أنه وَقَعَ بين المسلمين وتجار النصارى مشاجرة، وكان والي الإسكندرية رجلًا يُعْرَف بالكركي، فذهب إلى حماية الروم وأَمَرَ بالمسلمين فحضروا بين فصيلي باب المدينة، وأَغْلَقَ دونهم الأبواب نكالًا لهم، فأَنْكَرَ الناس ذلك وأعظَموه وكسروا الباب وثاروا إلى منزل الوالي، فتحصن منهم وقاتَلَهُم من أعلاه، وطيَّر الحمام بالخبر إلى الملك الناصر، فبعث أميرًا يُعْرَف بالجمالي، ثم أَتْبَعَهُ أميرًا يُعْرَف بطوغان جبار قاسي القلب متهم في دينه يقال: إنه كان يعبد الشمس، فدخلا إسكندرية وقبضا على كبار أهلها وأعيان التجار بها كأولاد الكوبك وسواهم، وأخذ منهم الأموال الطائلة، وجُعِلَتْ في عنق عماد الدين القاضي جامعة حديد.

ثم إن الأميرين قَتَلَا من أهل المدينة ستة وثلاثين رجلًا، وجعلوا كل رجل قطعتين وصلبوهم صفين، وذلك في يوم جمعة، وخرج الناس على عادتهم بعد الصلاة لزيارة القبور، وشاهدوا مصارع القوم فعظمت حَسْرَتُهم وتضاعفت أحزانهم، وكان في جملة أولئك المصلوبين تاجر كبير القدر يُعْرَف بابن رواحة، وكان له قاعة مُعَدَّة للسلاح، فمتى كان خوفٌ أو قتال جَهَّزَ منها المائة والمائتين من الرجال بما يكفيهم من الأسلحة، وبالمدينة قاعات على هذه الصورة لكثير من أهلها، فزل لسانه وقال للأميرين: أنا أضمن هذه المدينة، وكل ما يحدث فيها أطالب به وأحوط على السلطان مرتبات العساكر والرجال، فأنكر الأميران قوله وقالا: إنما تريد الثورة على السلطان، وقتلاه، وإنما كان قَصْدُه رحمه الله إظهار النصح والخدمة للسلطان فكان فيه حَتْفُه.

وكُنْتُ سمعت أيام إقامتي بالإسكندرية بالشيخ الصالح العابد المنقطع المنفق من الكون أبي عبد الله المرشدي، وهو من كبار الأولياء المكاشفين أنه منقطع بمنية بني مرشد، له هنالك زواية هو منفرد فيها لا خديم له ولا صاحب، ويقصده الأمراء والوزراء، وتأتيه الوفود من طوائف الناس في كل يوم فيطعمهم الطعام، وكل واحد منهم ينوي أن يأكل عنده طعامًا أو فاكهة أو حلوى، فيأتي لكل واحد بما نواه، وربما كان ذلك في غير إبانه، ويأتيه الفقهاء لطلب الخطبة فيولي ويعزل، وذلك كله مِنْ أَمْرِه مستفيض متواتر.

وقد قَصَدَهُ الملك الناصر مرات بموضعه، فخَرَجْتُ من مدينة الإسكندرية قاصدًا هذا الشيخ نَفَعَنَا الله به، ووصَلْتُ قرية تروجة (وضَبْطُها بفتح التاء الفوقية والراء وواو وجيم مفتوحة)، وهي على مسيرة نصف يوم من مدينة الإسكندرية، قرية كبيرة بها قاضٍ ووالٍ وناظر، ولأهلها مكارم أخلاق ومروءة، صَحِبْتُ قاضيها صفي الدين وخطييها فخر الدين وفاضلًا من أهلها يُسَمَّى بمبارك ويُنْعَت بزين الدين، ونَزَلْتُ بها على رَجُل من العُبَّاد الفضلاء كبير القدر يُسَمَّى عبد الوهاب، وأضافني ناظرها زين الدين بن الواعظ وسألني عن بلدي وعن مجباه، فأخبرْتُه أن مجباه نحو اثني عشر ألفًا من دينار الذهب، فعَجِبَ وقال لي: رأيتُ هذه القرية، فإن مجباها اثنان وسبعون ألف دينار ذهبًا، وإنما عَظُمَتْ مجابي ديار مصر؛ لأن جميع أملاكها لبيت المال.

ثم خرجْتُ من هذه القرية فوصلْتُ مدينة دمنهور، وهي مدينة كبيرة جبايتها كثيرة ومحاسنها أثيرة، أم مدن البحيرة بأَسْرِها وقُطْبُها الذي عليه مدار أمرها (وضبطها بدال مهملة وميم مفتوحتين ونون ساكنة وهاء مضمومة وواو وراء)، وكان قاضيها في ذلك العهد فخر الدين بن مسكين من فقهاء الشافعية، وتولى قضاء الإسكندرية لما عُزِلَ عنها عماد الدين الكندي بسبب الواقعة التي قصصناها، وأخبرني الثقة أن ابن مسكين أُعْطِيَ خمسة وعشرين ألف درهم وصَرَفَها من دنانير الذهب ألف دينار على ولاية القضاء بالإسكندرية، ثم رحلنا إلى مدينة فوا، وهذه المدينة عجيبة المنظر حسنة المخبر، بها البساتين الكثيرة والفوائد الخطيرة الأثيرة، (وضبطها بالفاء والواو المفتوحتين مع تشديد الواو)، بها قبر الشيخ الولي أبي النجاة الشهير الاسم خبير تلك البلاد وراوية الشيخ أبي عبد الله المرشدي، الذي قصدْتُه بمقربة من المدينة يفصل بينها خليج هنالك، فلما وصلْتُ المدينة تعدَّيْتُها ووصلت إلى زاوية الشيخ المذكور قبل صلاة العصر وسلَّمْتُ عليه، ووجدْتُ عنده الأمير سيف الدين يَلْمَلَك، وهو من الخاصكية (وأول اسمه ياء آخر الحروف ولامه الأولى مسكنة والثانية مفتوحة مثل الميم، والعامة تقول فيه الملك فيخطئون)، ونزل هذا الأمير بعسكره خارج الزاوية، ولما دخلْتُ على الشيخ رحمه الله قام إلي وعانَقَنِي وأحضر طعامًا فواكلني، وكانت عليه جبة صوف سوداء، فلما حضَرَتْ صلاة العصر قَدَّمَنِي للصلاة إمامًا، وكذلك لكل ما حضرني عنده حين إقامتي معه من الصلاة، ولما أردْتُ النوم قال لي: اصعد إلى سطح الزاوية فنَمْ هنالك، وذلك أوان القيظ، فقلت للأمير: باسم الله، فقال لي: وما منا إلا له مقام معلوم، فصعدت السطح فوجدت به حصيرًا ونطعًا وآنية للوضوء وجرة ماء وقدحًا للشرب، فنمت هنالك.

كرامة لهذا الشيخ

رأيت ليلتي تلك وأنا نائم بسطح الزاوية كأني على جناح طائر عظيم يطير بي في سمت القبلة يتيامَنُ ثم يشرق ثم يذهب في ناحية الجنوب ثم يبعد الطيران في ناحية الشرق، وينزل في أرض مظلمة خضراء ويتركني بها، فعجبت من هذه الرؤيا وقُلْتُ في نفسي: إن كاشفني الشيخ برؤياي فهو كما يُحْكَى عنه، فلما غَدَوْتُ لصلاة الصبح قَدَّمَنِي إمامًا لها، ثم أتاه الأمير يَلْمَلَك فوادعه وانصرف، ووادعه من كان هناك من الزوار، وانصرفوا أجمعين من بعد أن زَوَّدَهُم كُعَيْكَاتٍ صغارًا، ثم سبحت سبحة الضحى ودعاني وكاشفني برؤياي فقصصتها عليه، فقال: سوف تحج وتزور النبي ، وتجول في بلاد اليمن والعراق وبلاد الترك وبلاد الهند وتبقى بها مدة طويلة، وستلقى بها أخي دلشاد الهندي ويُخَلِّصُك من شدة تَقَعُ فيها، ثم زودني كعيكاتٍ ودراهم ووادعته وانصرفتُ، ومنذ فارقْتُه لم أَلْقَ في أسفاري إلا خيرًا، وظَهَرَتْ عليَّ بركاته، ثم لم ألقَ فيمن لقيته مثله إلا الولي سيدي محمدًا الموله بأرض الهند.

ثم رحلنا إلى مدينة النحرارية وهي رحبة الفناء حديثة البناء أسواقها حسنة الرؤيا (وضبطها بفتح النون وحاء مهمل مسكن وراءين)، وأميرها كبير القدر يُعْرَف بالسعدي وولده في خدمة ملك الهند وسنذكره، وقاضيها صَدْر الدين سليمان المالكي من كبار المالكية، سفر عن الملك الناصر إلى العراق ووَلِيَ قضاء البلاد الغربية، وله هيئة جميلة وصورة حسنة، وخطيبها شرف الدين السخاوي من الصالحين، ورحلْتُ منها إلى مدينة أبيار وهي قديمة البناء أرجة الأرجاء كثيرة المساجد ذات حُسْن زائد (وضَبْط اسمها بفتح الهمزة وإسكان الباء الموحدة وياء آخر الحروف وألف وراء)، وهي بمقربة من النحرارية ويَفْصِل بينهما النيل، وتُصْنَع بأبيار ثياب حسان تعلو قيمتها بالشام والعراق ومصر وغيرها.

ومن الغريب قُرْب النحرارية منها، والثياب التي تُصْنَع بها غير معتبَرة ولا مستحسَنة عند أهلها، ولَقِيتُ بأبيارَ قاضِيَها عز الدين المليحي الشافعي، وهو كريم الشمائل كبير القدر، حضرْتُ عنده مرة يوم الركبة، وهم يُسَمُّون ذلك يومَ ارتقاب هلال رمضان، وعادتهم فيه أن يجتمع فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر من اليوم التاسع والعشرين لشعبان بدار القاضي، ويقف على الباب نقيب المتعممين وهو ذو شارة وهيئة حسنة، فإذا أتى أحد الفقهاء أو الوجوه تلقاه ذلك النقيب ومشى بين يديه قائلًا: باسم الله سيدنا فلان الدين، فيسمع القاضي ومن معه فيقومون له ويُجْلِسُه النقيب في موضع يليق به، فإذا تكاملوا هنالك رَكِبَ القاضي ورَكِبَ من معه أجمعين وتبعهم جميع من بالمدينة من الرجال والنساء والصبيان، وينتهون إلى موضع مرتفع خارج المدينة وهو مُرْتَقَب الهلال عندهم، وقد فُرِشَ ذلك الموضع بالبسط والفرش، فينزل فيه القاضي ومن معه فيرتقبون الهلال ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب وبين أيديهم الشمع والمشاعل والفوانيس، ويوقد أهل الحوانيت بحوانيتهم الشمع، ويَصِلُ الناس مع القاضي إلى داره ثم ينصرفون، هكذا فِعْلُهم في كل سنة.

ثم توجَّهْتُ إلى مدينة المحلة الكبيرة، وهي جليلة المقدار حسنة الآثار، كثيرٌ أهلُها جامع بالمحاسن شَمْلُها واسمها بيِّن، ولهذه المدينة قاضي القضاة ووالي الولاة، وكان قاضي قضاتها أيام وصولي إليها في فراش المرض ببستان له على مسافة فرسخين من البلد، وهو عز الدين بن الأشمرين، فقصدْتُ زيارته صحبة نائبه الفقيه أبي القاسم بن بنون المالكي التونسي وشرف الدين الدميري قاضي محلة منوف، وأقمنا عنده يومًا وسمعت منه.

وقد جرى ذِكْرُ الصالحين أن على مسيرة يومٍ من المحلة الكبيرة بلاد البرلس ونسترو وهي بلاد الصالحين، وبها قبر الشيخ مرزوق صاحب المكاشفات، فقَصَدْتُ تلك البلاد ونزلت بزاوية الشيخ المذكور، وتلك البلاد كثيرة النخل والثمار والطير البحري والحوت المعروف بالبوري، ومدينتهم تسمى ملطين وهي على ساحل البحيرة المجتمعة من ماء النيل وماء البحر المعروفة ببحيرة تنيس ونسترو بمقربة منها، نزلت هناك بزاوية الشيخ شمس الدين القلوي من الصالحين، وكانت تنيس بلدًا عظيمًا شهيرًا وهي الآن خراب، قال ابن جزي: «تِنِّيس بكسر التاء المثناة والنون المشددة وياء وسين مهمل»، وإليه يُنْسَب الشاعر المُجِيد أبو الفتح بن وكيع، وهو القائل في خليجها (بسيط):

قم فاسقني والخليج مضطرب
والريح تثني ذوائب القصب
كأنها والرياح تعطفها
صب قنا سندسية العذب
والجو في حلة ممسكة
قد طرزتْها البروق بالذهب

ونَسترو (بفتح النون وإسكان السين وراء مفتوحة وواو مسكن) والبرلس (بباء موحدة وراء وآخره سين مهملة، وقيده بعضهم بضم حروفه الأول الثلاث وتشديد اللام، وقيده أبو بكر بن نقطة بفتح الأولين) وهو على البحر، ومن غريب ما اتفق به ما حكاه أبو عبد الله الرازي عن أبيه: أن قاضي البرلس وكان رجلًا صالحًا، خرج ليلة إلى النيل، فبينما أسبغ الوضوء وصلى ما شاء أن يصلي، إذ سمع قائلًا يقول:

لولا رجال لهم سرْد يصومونا
وآخرون لهم وِرْد يقومونا
لَزُلْزِلَتْ أَرْضُكُمْ من تحتكم سَحَرًا
لأنكم قومُ سوء لا تبالونا

قال: فتجَوَّزْتُ في صلاتي وأَدَرْتُ طرفي فما رأيتُ أحدًا ولا سمعت حسًّا، فعلمت أن ذلك زاجر من الله تعالى (رجع)، ثم سافرْتُ في أرض رملة إلى مدينة دمياط، وهي مدينة فسيحة الأقطار متنوعة الثمار عجيبة الترتيب آخذة من كل حسن بنصيب، والناس يضبطون اسمها بإعجام الذال، وكذلك ضَبَطَهُ الإمام أبو محمد عبد الله بن علي الرشاطي، وكان شرف الدين الإمام العلامة أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي إمام المحدثين يضبطها بإهمال الدال، ويُتْبِع ذلك بأن يقول خلاف الرشاطي وغيره، وهو أعرف بضبط اسم بلده، ومدينة دمياط على شاطئ النيل وأهل الدور الموالية له يستقون منه الماء بالدلاء، وكثير من دورها بها دركات يُنْزَل فيها إلى النيل، وشجر الموز بها كثير يُحْمَل ثمره إلى مصر في المراكب، وغنمها سائمة هملًا بالليل والنهار؛ ولهذا يقال في دمياط: سورها حلوى وكلابها غنم، وإذا دخلها أحد لم يكن له سبيل إلى الخروج عنها إلا بطابع الوالي، فمن كان من الناس معتبرًا طبع له في قطعة كاعد يستظهر به لحراس بابها، وغيرهم يطبع على ذراعه فيستظهر به، والطير البحري بهذه المدينة كثير متناهي السمن، وبها الألبان الجاموسية التي لا مثل لها في عذوبة الطعم وطيب المذاق، وبها الحوت البوري يُحْمَل منها إلى الشام وبلاد الروم ومصر، وبخارجها جزيرة بين البحرين والنيل تسمى البرزخ بها مسجد وزاوية، لقيت بها شيخها المعروف بابن قفل، وحضرت عنده ليلة جمعة، ومعه جماعة من الفقراء الفضلاء المتعبدين الأخيار قطعوا ليلتهم صلاة وقراءة وذكرًا، ودمياط هذه حديثة البناء، والمدينة القديمة هي التي خَرَّبَها الإفرنج على عهد الملك الصالح، وبها زاوية الشيخ جمال الدين الساوي قدوة الطائفة المعروفة بالقرندرية، وهم الذين يحلقون لحاهم وحواجبهم، ويسكن الزاوية في هذا العهد الشيخ فتح التكروري.

حكاية

يُذْكَر أن السبب الداعي للشيخ جمال الدين الساوي إلى حَلْق لحيته وحاجبيه أنه كان جميل الصورة حَسَنَ الوجه، فعَلِقَتْ به امرأة من أهل ساوة، وكانت تراسله وتعارضه في الطرق، وتدعوه لنفسها وهو يمتنع ويتهاون، فلما أعياها أَمْرُه دَسَّت له عجوزًا تصدَّتْ له إزاء دار على طريقه إلى المسجد وبيدها كتاب مختوم، فلما مر بها قالت له: يا سيدي أتُحْسِن القراءة؟ قال: نعم، قالت له: هذا الكتاب وَجَّهَهُ إلي ولدي وأحب أن تقرأه علي، فقال لها: نعم، فلما فتح الكتاب قالت له: يا سيدي، إن لولدي زوجة وهي بأسطوان الدار، فلو تفضلت بقراءته بين بابي الدار بحيث تُسْمِعُها، فأجابها لذلك، فلما تَوَسَّطَ بين البابين غَلَّقَت العجوز البابَ وخرجت المرأة وجواريها فتعلقْن به وأدخلْنَه إلى داخل الدار، وراودته المرأة عن نفسه، فلما رأى أن لا خلاص له، قال لها: إني حيث تريدين، فأريني بيت الخلاء، فأَرَتْه إياه، فأدخل معه الماء، وكانت عنده موسى حديدة، فحلق لحيته وحاجبيه وخرج عليها، فاستقْبَحَتْ هيئته واستنكَرَتْ فِعْلَه، وأَمَرَتْ بإخراجه، وعَصَمَهُ الله بذلك، فبقي على هيئته فيما بعد، وصار كُلُّ من يسلك طريقته يحلق رأسه ولحيته وحاجبيه.

كرامة لهذا الشيخ

يُذْكَر أنه لما قَصَدَ مدينة دمياط لزم مقبرتها، وكان بها قاضٍ يُعْرَف بابن العميد، فخرج يومًا إلى جنازةِ بعض الأعيان، فرأى الشيخ جمال الدين بالمقبرة، فقال له: أنت الشيخ المبتدع، فقال له: وأنت القاضي الجاهل، تَمُرُّ بدابتك بين القبور، وتعلم أن حرمة الإنسان ميتًا كحرمته حيًّا، فقال له القاضي: وأَعْظَمُ من ذلك حلقك للحيتك، فقال له: إياي تعني؟ وزعق الشيخ ثم رفع رأسه فإذا هو ذو لحية سوداء عظيمة، فعجب القاضي ومن معه ونزل إليه عن بغلته، ثم زعق ثانية، فإذا هو ذو لحية بيضاء حسنة، ثم زعق ثالثة ورفع رأسه، فإذا هو بلا لحية كهيئته الأولى، فقَبَّلَ القاضي يده وتتلمذ له وبنى له الزواية حسنة وصحبه أيام حياته، ثم مات الشيخ فدُفِنَ بزاويته، ولما حضرت القاضي وفاته أوصى أن يُدْفَن بباب الزاوية حتى يكون كلُّ داخلٍ إلى زيارة الشيخ يطأ قبره، وبخارج دمياط المزار المعروف بشطا (بفتح الشين المعجمة والطاء المهملة)، وهو ظاهر البَرَكَة يقصده أهل الديار المصرية، وله أيام في السنة معلومة لذلك، وبخارجها أيضًا بين بساتينها موضع يُعْرَف بالمنية فيه شيخ من الفضلاء يُعْرَف بابن النعمان قَصَدْتُ زاويته وبِتُّ عنده، وكان بدمياط أيام إقامتي بها والٍ يُعْرَف بالمُحْسِنِيِّ من ذوي الإحسان والفضل، بنى مدرسة على شاطئ النيل، بها كان نزولي في تلك الأيام، وتأكَّدَتْ بيني وبينه مودة، ثم سافرت إلى مدينة فارسكور، وهي مدينة على ساحل النيل (والكاف الذي في اسمها مضموم)، ونَزَلْتُ بخارجها، ولَحِقَنِي هنالك فارس وَجَّهَهُ إليَّ الأمير المحسني، فقال لي: إن الأمير سَأَلَ عنك وعَرَفَ بسيرتك، فبعث إليك بهذه النفقة. ودَفَعَ إليَّ جملة دراهم جزاه الله خيرًا.

ثم سافرت إلى مدينة أشمون الرمان (وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان الشين المعجم)، ونُسِبَتْ إلى الرمان لكثرته بها، ومنها يُحْمَل إلى مصر، وهي مدينة عتيقة كبيرة على خليج من خُلُج النيل، ولها قنطرة خشب ترسو المراكب عندها، فإذا كان العصر رُفِعَتْ تلك الخُشُب وجازت المراكب صاعدة ومنحدرة، وبهذه البلدة قاضي القضاة ووالي الولاة، ثم سافرت عنها إلى مدينة سمنود، وهي على شاطئ النيل، كثيرة المراكب، حسنة الأسواق، وبينها وبين المحلة الكبيرة ثلاثة فراسخ (وضبط اسمها بفتح السين المهمل والميم وتشديد النون وضمها وواو ودال مهمل)، ومن هذه المدينة رَكِبْتُ النيل مصعدًا إلى مصر ما بين مدائن وقرًى منتظمة متصل بعضها ببعض، ولا يفتقر راكب النيل إلى استصحاب الزاد؛ لأنه مهما أراد النزول بالشاطئ نزل للوضوء والصلاة وشراء الزاد وغير ذلك، والأسواق متصلة من مدينة الإسكندرية إلى مصر، ومن مصر إلى مدينة أسوان من الصعيد.

ثم وصلْتُ إلى مدينة مصر، هي أم البلاد، وقرارة فرعون ذي الأوتاد، ذات الأقاليم العريضة والبلاد الأريضة، المتناهية في كثرة العمارة، المتباهية بالحسن والنضارة، مجمع الوارد والصادر، ومحطُّ رَحْل الضعيف والقادر، وبها ما شئْتَ من عالِم وجاهل، وجادٍّ وهازِل، وحليم وسفيه، ووضيع ونبيه، وشريف ومشروف، ومنكَر ومعروف، تموج مَوْج البحر بسُكَّانها، وتكاد تضيق بهم على سعة مكانها وإمكانها، شبابها يجد على طول العهد، وكوكب تعديلها لا يبرح عن منزل السعد، قَهَرَتْ قاهِرَتُها الأمم، وتمكَّنَتْ ملوكها نواصي العرب والعجم، ولها خصوصية النيل التي جل خطرها وأغناها عن أن يستمد القطر قطرها وأرضها مسيرة شهر لمُجِدِّ السير، كريمة التربة، مؤنسة لذوي الغربة، قال ابن جزي: وفيها يقول الشاعر (طويل):

لعمرك ما مصر بمصر وإنما
هي الجنة الدنيا لمن يَتَبَصَّرُ
فأولادها الولدان والحور عِينُها
وروضتها الفردوس والنيل كَوْثَرُ

وفيها يقول ناصر الدين بن ناهض:

شاطئ مصر جنة
ما مثلها من بَلَدِ
لا سيما مذ زخرفت
بنيلها المطردِ
وللرياح فوقه
سوابغٌ من زردِ
مسرودة ما مسها
داودها بمبردِ
سائلة هواؤها
يرعد عاري الجسدِ
والفلك كالأفلاك بيـ
ـن حادر ومصعد

(رجع) ويقال: إن بمصر من السقَّائين على الجمال اثني عشر ألف سقاء، وإن بها ثلاثين ألف مكارٍ، وإن بنيلها من المراكب ستة وثلاثين ألفًا للسلطان والرعية تَمُرُّ صاعدة إلى الصعيد ومنحدرة إلى الإسكندرية ودمياط بأنواع الخيرات والمرافق، وعلى ضفة النيل مما يواجه مصر الموضع المعروف بالروضة، وهو مكان النزهة والتفرج، وبه البساتين الكثيرة الحسنة، وأهل مصر ذوو طرب وسرور ولهو، شاهَدْتُ بها مرة فرجة بسبب برء الملك الناصر من كَسْر أصاب يده، فَزَيَّنَ كلُّ أهل سوقٍ سُوقَهُمْ، وعَلَّقُوا بحوانيتهم الحلل والحلي وثياب الحرير، وبقوا على ذلك أيامًا.

ذِكْر مسجد عمرو بن العاص والمدارس والمارستانات والزوايا

ومسجد عمرو بن العاص مسجد شريف، كبير القدر، شهير الذكر، تقام فيه الجمعة، والطريق يعترضه من شرق إلى غرب، وبِشَرْقه الزاوية حيث كان يدرس الإمام أبو عبد الله الشافعي، وأما المدارس بمصر فلا يحيط أحد بحصرها لكثرتها، وأما المارستان الذي بين القصرين عند تربة الملك المنصور قلاون فيعجز الواصف عن محاسنه، وقد أُعِدَّ فيه من المرافق والأدوية ما لا يُحْصَر، ويُذْكَر أن مجباه ألف دينار كل يوم — وأما الزوايا فكثيرة، وهم يسمونها الخوانق واحدتها خانقة، والأمراء بمصر يتنافسون في بناء الزوايا، وكل زاوية بمصر معينة لطائفة من الفقراء، وأكثرهم الأعاجم، وهم أهل أدب ومعرفة بطريقة التصوف، ولكل زاوية شيخ وحارس، وترتيب أمورهم عجيب، ومن عوائدهم في الطعام أنه يأتي خديم الزاوية إلى الفقراء صباحًا، فيُعَيِّن له كل واحد ما يشتهيه من الطعام، فإذا اجتمعوا للأكل جَعَلُوا لكل إنسان خُبْزَه ومرقه في إناء على حدة، لا يشاركه فيه أحد، وطعامهم مرتان في اليوم، ولهم كسوة الشتاء وكسوة الصيف ومرتب شهري من ثلاثين درهمًا للواحد في الشهر إلى عشرين، ولهم الحلاوة من السكر في كل ليلة جمعة، والصابون لغسل أثوابهم، والأجرة لدخول الحمام، والزيت للاستصباح وهم أعزاب، وللمتزوجين زوايا على حدة، ومن المشترط عليهم حضور الصلوات الخمس والمبيت بالزاوية واجتماعهم بقبة داخل الزاوية.

ومن عوائدهم أن يجلس كل واحد منهم على سجادة مختصة به، وإذا صلوا صلاة الصبح قرءوا سورة الفتح وسورة المُلْك وسورة عم، ثم يؤتى بنسخ من القرآن العظيم مجزأة فيأخذ كل فقير جزءًا ويختمون القرآن ويَذْكُرون، ثم يقرأ القُرَّاء على عادة أهل المشرق، ومثل ذلك يفعلون بعد صلاة العصر، ومن عوائدهم مع القادم أنه يأتي باب الزاوية فيقف به مشدود الوسط وعلى كاهله سجادة وبِيُمْناه العكاز وبيسراه الإبريق، فيعلم البواب خديم الزاوية بمكانه فيخرج إليه ويسأله من أي البلاد أتى، وبأي الزوايا نزل في طريقه ومَنْ شيخه، فإذا عَرَفَ صحة قوله أَدْخَلَهُ الزاوية وفَرَشَ له سجادته في موضع يليق به، وأراه موضع الطهارة فيجدد الوضوء ويأتي إلى سجادته فيحل وسطه ويصلي ركعتين ويصافح الشيخ ومن حضر ويقعد معهم، ومن عوائدهم أنهم إذا كان يوم الجمعة أَخَذَ الخادم جميع سجاجيدهم، فيذهب بها إلى المسجد ويفرشها لهم هنالك، ويخرجون مجتمعين ومعهم شيخهم، فيأتون المسجد ويصلي كل واحد على سجادته، فإذا فرغوا من الصلاة قرءوا القرآن على عادتهم، ثم ينصرفون مجتمعين إلى الزاوية ومعهم شيخهم.

ذكر قرافة مصر ومزاراتها

ولمصر القرافة العظيمة الشأن في التبرك بها، وقد جاء في فَضْلها أَثَر أَخْرَجه القرطبي وغيره؛ لأنها من جملة الجبل المقطم الذي وَعَدَ الله أن يكون روضة من رياض الجنة، وهم يبنون بالقرافة القباب الحسنة ويجعلون عليها الحيطان فتكون كالدور ويبنون بها البيوت ويُرَتِّبُون القراء يقرءون ليلًا ونهارًا بالأصوات الحسان، ومنهم من يبني الزاوية والمدرسة إلى جانب التربة، ويَخْرُجون في كل ليلةِ جمعة إلى المبيت بها بأولادهم ونسائهم، ويطوفون على المزارات الشهيرة، ويخرجون أيضًا للمبيت بها ليلة النصف من شعبان، ويخرج أهل الأسواق بصنوف المآكل، ومن المزاراتِ الشريفةِ المشهدُ المُقَدَّسُ العظيمُ الشأنِ، حيث رأس الحسين بن علي عليهما السلام، وعليه رباط ضَخْم عجيب البناء على أبوابه حلق الفضة وصفائحها أيضًا كذلك وهو موفَى الحق من الإجلال والتعظيم، ومنها تربة السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور بن زيد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام، وكانت مجابة الدعوة، مجتهدة في العبادة، وهذه التربة أنيقة البناء مُشْرِقَة الضياء عليها رباط مقصود، ومنها تربة الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، وعليها رباط كبير، ولها جراية ضخمة، وبها القبة الشهيرة البديعة الإتقان، العجيبة البنيان، المتناهية الإحكام، المفرطة السمو، وسِعَتُها أَزْيَد من ثلاثين ذراعًا، وبقرافة مصر من قبور العلماء والصالحين ما لا يضبطه الحصر، وبها عدد جمٌّ من الصحابة وصدور السلف والخلف رضي الله تعالى عنهم، مثل: عبد الرحمن بن القاسم، وأشهب بن عبد العزيز، وأصبغ بن الفرج، وابني عبد الحكم، وأبي القاسم بن شعبان، وأبي محمد عبد الوهاب، لكن ليس لهم بها اشتهار، ولا يَعْرِفهم إلا من له بهم عناية، والشافعي رضي الله عنه ساعَدَهُ الجدُّ في نفسه وأتباعه وأصحابه في حياته ومماته، فظهر مِنْ أَمْرِهِ مصداق قوله (كامل):

الجدُّ يدْنِي كُلَّ أَمْر شاسع
والجد يفتح كل باب مُغْلَقِ

ذِكْر نيل مصر

ونيل مصر يَفْضُل أنهار الأرض عذوبةَ مذاقٍ واتساعَ قُطْرٍ وعِظَمَ منفعة، والمدن والقرى بضفتيه منتظمة ليس في المعمور مثلها، ولا يُعْلَم نهر يُزْدَرَعُ عليه ما يُزْدَرَعُ على النيل، وليس في الأرض نهر يُسَمَّى بحرًا غيره، قال الله تعالى: فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، وسماه يمًّا، وهو البحر، وفي الحديث الصحيح: أن رسول الله وَصَلَ ليلة الإسراء إلى سدرة المنتهى، فإذا في أصلها أربعة أنهار: نهران ظاهران، ونهران باطنان، فسأل عنها جبريل عليه السلام فقال: أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، وفي الحديث أيضًا: أن النيل والفرات وسيحون وجيحون كل من أنهار الجنة. ومجرى النيل من الجنوب إلى الشمال خلافًا لجميع الأنهار، ومن عجائبه أن ابتداء زيادته في شدة الحر عند نقص الأنهار وجفوفها، وابتداء نقصه حين زيادة الأنهر وفيضها، ونهر السند مثله في ذلك، وسيأتي ذِكْرُه، وأول ابتداء زيادته في حزيران وهو يونيو، فإذا بَلَغَتْ زيادته ستة عشر ذراعًا تم خراج السلطان، فإن زاد ذراعًا كان الخصب في العام والصلاح التام، فإن بلغ ثمانية عشر ذراعًا أَضَرَّ بالضياع وأعقب الوباء، وإن نقص ذراعًا عن ستة عشر نَقَصَ خراج السلطان، وإن نَقَصَ ذراعين استسقى الناس وكان الضرر الشديد، والنيل أَحَدُ أنهار الدنيا الخمسة الكبار، وهي: النيل والفرات والدجلة وسيحون وجيحون، وتُمَاثِلُها أنهار خمسة أيضًا: نهر السند ويُسَمَّى ينج آب، ونهر الهند ويُسَمَّى الكنك، وإليه تَحُجُّ الهنود، وإذا حرقوا أمواتهم رموا برمادهم فيه، ويقولون: هو من الجنة، ونهر الجون بالهند أيضًا، ونهر أتل بصحراء قفجق وعلى ساحله مدينة السرا، ونهر السرو بأرض الخطا وعلى ضفته مدينة خان بالق، ومنها ينحدر إلى مدينة الخنسا ثم إلى مدينة الزيتون بأرض الصين، وسيُذْكَر ذلك كله في مواضعه إن شاء الله، والنيل يفترق بعد مسافة من مصر على ثلاثة أقسام، ولا يُعْبَر نهر منها إلا في السفن شتاء وصيفًا، وأهل كل بلد لهم خلجان تخرج من النيل، فإذا مد أترعها فاضت على المزارع.

ذكر الأهرام والبرابي

وهي من العجائب المذكورة على مر الدهور، وللناس فيها كلام كثير وخوض في شأنها وأَوَّلِية بنائها، ويزعمون أن جميع العلوم التي ظَهَرَتْ قبل الطوفان أُخِذَتْ عن هرمس الأول الساكن بصعيد مصر الأعلى، ويسمى أخنوخ وهو إدريس عليه السلام، وأنه أَوَّل من تَكَلَّم في الحركات الفلكية والجواهر العُلْوِيَّة، وأول من بنى الهياكل ومَجَّدَ الله تعالى فيها، وأنه أَنْذَرَ الناس بالطوفان وخاف ذهاب العلم ودروس الصنائع، فبنى الأهرام والبرابي، وصَوَّرَ فيها جميع الصنائع والآلات ورَسَمَ العلوم فيها لتبقى مُخَلَّدة، ويقال: إن دار العلم والملك بمصر مدينة مَنْف، وهي على بريد من الفسطاط، فلما بُنِيَت الإسكندرية انتقل الناس إليها، وصارت دارَ العلم والملك إلى أن أتى الإسلام، فاخْتَطَّ عمرو بن العاص رضي الله عنه مدينة الفسطاط، فهي قاعدة مصر إلى هذا العهد، والأهرام بناء بالحجر الصلد المنحوت متناهي السمو مستدير متسع الأسفل ضيِّق الأعلى كالشكل المخروط، ولا أبواب لها ولا تعلم كيفية بنائها، ومما يُذْكَر في شأنها أن ملكًا من ملوك مصر قبل الطوفان رأى رؤيا هالَتْه، وأَوْجَبَتْ عنده أنه بنى تلك الأهرام بالجانب الغربي من النيل؛ لتكون مستودعًا للعلوم ولجثة الملوك، وأنه سأل المنجمين هل يُفْتَح منها موضع؟ فأخبروه أنها تُفْتَح من الجانب الشمالي، وعَيَّنُوا له الموضع الذي تُفْتَح منه ومَبْلَغ الإنفاق في فَتْحه، فأمر أن يُجْعَل بذلك الموضع من المال قَدْر ما أخبروه أنه يُنْفَق في فَتْحه، واشتد في البناء فأتمه في ستين سنة، وكتب عليها: بنينا هذه الأهرام في ستين سنة، فليَهْدِمْها من يريد ذلك في ستمائة سنة، فإن الهدم أَيْسَر من البناء، فلما أَفْضَت الخلافة إلى أمير المؤمنين المأمون أراد هَدْمها، فأشار عليه بعض مشايخ مصر أن لا يفعل، فلَجَّ في ذلك، وأَمَرَ أن تُفْتَح من الجانب الشمالي، فكانوا يوقدون عليها النار ثم يرشونها بالخل ويرمونها بالمنجنيق، حتى فُتِحَت الثلمة التي بها إلى اليوم، ووجدوا بإزاء النقب مالًا أَمَرَ أمير المؤمنين بوزنه، فحَصَرَ ما أَنْفَقَ في النقب فوجدهما سواء، فطال عَجَبُه من ذلك، ووجدوا عَرْض الحائط عشرين ذراعًا.

ذكر سلطان مصر

وكان سلطان مصر على عهد دخولي إليها الملك الناصر أبو الفتح محمد بن الملك المنصور سيف الدين قلاون الصالحي، وكان قلاوون يُعْرَف بالألفي؛ لأن الملك الصالح اشتراه بألف دينار ذهبًا، وأَصْله من قفجق، وللملك الناصر رحمه الله السيرة الكريمة والفضائل العظيمة، وكفاه شرفًا انتماؤه لخدمة الحرمين الشريفين، وما يَفْعَله في كل سنة من أفعال البر التي تُعِينُ الحُجَّاج من الجِمال التي تَحْمل الزاد والماء للمنقطعين والضعفاء، وتحمل من تأخر أو ضعف المشي في الدربين المصري والشامي، وبنى زاوية عظيمة بسرياقص خارج القاهرة، لكن الزاوية التي بناها مولانا أمير المؤمنين، وناصر الدين، وكهف الفقراء والمساكين، خليفة الله في أرضه، القائم من الجهاد بنفله وفرضه، أبو عنان أَيَّدَ الله أَمْره وأَظْهَرَه، وسنى له الفتح المبين ويَسَّرَه، بخارج حَضْرَتِه العلية المدينة البيضاء حَرَسَها الله لا نظير لها في المعمور في إتقان الوضع وحُسْن البناء والنقش في الجص، بحيث لا يَقْدر أهل المشرق على مِثْله، وسيأتي ذِكْر ما عَمَرَهُ — أيده الله — من المدارس والمرستان والزوايا ببلاده حرسها الله وحفظها بدوام مُلْكِه.

ذكر بعض أمراء مصر

منهم ساقي الملك الناصر وهو الأمير بكتمور (وضبط اسمها بضم الباء الموحدة وكاف مُسَكَّن وتاء معلوة مضمومة وآخره راء)، وهو الذي قَتَلَهُ الملك الناصر بالسم، وسيُذْكَر ذلك، ومنهم نائب الملك الناصر أرغون الدودار وهو الذي يلي بكتمور في المنزلة (وضبط اسمه بفتح الهمزة وإسكان الراء وضم الغين المعجمة)، ومنهم طشط المعروف بحمص أخضر (واسمه بطاءين مهملين مضمومين وبينهما شين معجم)، وكان من خيار الأمراء وله الصدقات الكثيرة على الأيتام من كسوة ونفقة وأجرة لمن يُعَلِّمُهم القرآن، وله الإحسان العظيم للحرافيش، وهم طائفة كبيرة أهل صلابة وجاه ودعارة، وسجنه الملك الناصر مرة، فاجتمع من الحرافيش آلاف، ووقفوا بأسفل القلعة، ونادوا بلسان واحد: يا أعرج النحس — يعنون الملك الناصر — أَخْرِجْه، فأخرجه من محبسه وسجنه مرة أخرى، ففعل الأيتام مثل ذلك فأطلقه، ومنهم وزير الملك الناصر يُعْرَف بالجمالي بفتح الجيم، ومنهم بدر الدين بن البابه، ومنهم جمال الدين نائب الكرك، ومنهم تقزدمور (واسمه بضم التاء المعلوة وضم القاف وزاء مسكن ثم دال مضموم وميم مثله وآخره راء)، ودمور بالتركية الحديد، ومنهم بهادر الحجازي (واسمه بفتح الباء الموحدة وضم الدال المهمل وآخره راء)، ومنهم قوصون (واسمه بفتح القاف وصاد مهمل مضموم)، ومنهم بَشْتَك (واسمه بفتح الباء الموحدة وإسكان الشين المعجم وتاء معلوة مفتوحة)، وكل هؤلاء يتنافسون في أفعال الخيرات وبناء المساجد والزوايا، ومنهم ناظر جيش الملك الناصر وكاتبه القاضي فَخْر الدين القبطي، وكان نصرانيًّا من القبط، فأسلم وحَسُن إسلامه، وله المكارم العظيمة والفضائل التامة، ودَرَجَتُه من أعلى الدرجات عند الملك الناصر، وله الصدقات الكثيرة والإحسان الجزيل، ومن عادته أن يجلس عشي النهار في مجلس له بأسطوان داره على النيل ويليه المسجد، فإذا حَضَرَ المغرب صلى في المسجد وعاد إلى مجلسه وأوتي بالطعام، ولا يُمْنَع حينئذٍ أحد من الدخول كائنًا من كان، فمن كان ذا حاجة تَكَلَّم فيها فقضاها له، ومن كان طالِبَ صدقة أَمَرَ مملوكًا له يُدْعَى بدر الدين واسمه لؤلؤ بأن يصحبه إلى خارج الدار، وهنالك خازنه معه صرر الدراهم، فيعطيه ما قدر له، ويحضر عنده في ذلك الوقت الفقهاء، ويقرأ بين يديه كتاب البخاري، فإذا صلى العشاء الأخيرة انصرف الناس عنه.

ذكر القضاة بمصر في عهد دخولي إليها

فمنهم قاضي القضاة الشافعية، وهو أعلاهم منزلة وأكبرهم قدرًا، وإليه ولاية القضاة بمصر وعَزْلهم، وهو القاضي الإمام العالم بدر الدين بن جماعة وابنه عز الدين، هو الآن متولي ذلك، ومنهم قاضي القضاة المالكية الإمام الصالح تقي الدين الأخنائي، ومنهم قاضي القضاة الحنفية الإمام العالم شمس الدين الحريري، وكان شديد السطوة لا تأخذه في الله لومة لائم، وكانت الأمراء تخافه، ولقد ذُكِرَ لي أن الملك الناصر قال يومًا لجلسائه: إني لا أخاف من أحد إلا من شمس الدين الحريري، ومنهم قاضي القضاة الحنبلية ولا أعرفه الآن، إلا أنه كان يُدْعَى بعز الدين.

حكاية

كان الملك الناصر رحمه الله يقعد للنظر في المظالم ورَفْع قصص المتشكين كل يوم اثنين وخميس، ويقعد القضاة الأربعة عن يساره وتُقْرَأ القصص بين يديه، ويعين من يسأل صاحب القصة عنها، وقد سلك مولانا أمير المؤمنين ناصر الدين أيده الله في ذلك مسلكًا لم يُسْبَق إليه، ولا مزيد في العدل والتواضع عليه، وهو سؤاله بذاته الكريمة لكل مُتَظَلِّم، وعرضه بين يديه المستقيمة أبى الله أن يحضرها سواء أدام الله أيامه، وكان رسم القضاة المذكورين أن يكون أعلاهم منزلة في الجلوس قاضي الشافعية، ثم قاضي الحنفية، ثم قاضي المالكية، ثم قاضي الحنبلية، فلما توفي شمس الدين الحريري وولي مكانه برهان الدين بن عبد الحق الحنفي، أشار الأمراء على الملك الناصر بأن يكون مجلس المالكي فوقه، وذَكَرُوا أن العادة جَرَتْ بذلك قديمًا، إذ كان قاضي المالكية زيد الدين بن مخلوف يلي قاضي الشافعية تقي الدين بن دقيق العيد، فأمر الملك الناصر بذلك، فلما عَلِمَ به قاضي الحنفية غاب عن شهود المجلس أَنَفَة من ذلك، فأنكر الملك الناصر مَغِيبَه وعَلِمَ ما قَصَدَهُ فأَمَرَ بإحضاره، فلما مَثُلَ بين يديه أَخَذَ الحاجب بيده وأقعده، حيث نفذ أمر السلطان مما يلي قاضي المالكية واستمر حاله على ذلك.

ذكر بعض علماء مصر وأعيانها

فمنهم شمس الدين الأصبهاني إمام الدنيا في المعقولات، ومنهم شرف الدين الزواوي المالكي، ومنهم برهان الدين بن بنت الشاذلي نائب قاضي القضاة بجامع الصالح، ومنهم ركن الدين بن القوبع التونسي من الأئمة في المعقولات، ومنهم شمس الدين بن عدلان كبير الشافعية، ومنهم بهاء الدين بن عقيل فقيه كبير، ومنهم أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بن حيان الغرناطي وهو أعلمهم بالنحو، ومنهم الشيخ الصالح بدر الدين عبد الله المنوفي، ومنهم برهان الدين الصفاقسي، ومنهم قوام الدين الكرماني، وكان سكناه بأعلى سطح الجامع الأزهر وله جماعة من الفقهاء والقراء يلازمونه ويدرس فنون العلم ويفتي في المذاهب، ولباسه عباءة صوف خشنة وعمامة صوف سوداء، ومن عادته أن يذهب بعد صلاة العصر إلى مواضع الفرج والنزاهات منفردًا عن أصحابه، ومنهم السيد الشريف شمس الدين ابن بنت الصاحب تاج الدين بن حناء، ومنهم شيخ شيوخ القراء بديار مصر مجد الدين الأقصرائي نسبة إلى أقصرا من بلاد الروم ومسكنه سرياقص، ومنهم الشيخ جمال الدين الحويزائي، والحويزا على مسيرة ثلاثة أيام من البصرة، ومنهم نقيب الأشراف بديار مصر السيد الشريف المعظم بدر الدين الحسيني من كبار الصالحين، ومنهم وكيل بيت المال المدرس بقبة الإمام الشافعي مجد الدين بن حرمي، ومنهم المحتسب بمصر نجم الدين السهرتي من كبار الفقهاء، وله بمصر رياسة عظيمة وجاه.

ذكر يوم المحمل بمصر

وهو يوم دوران الجمل، يوم مشهود وكيفية ترتيبهم فيه أنه يَرْكَب فيه القضاة الأربعة ووكيل بيت المال والمحتسب، وقد ذكرنا جميعهم، ويركب معهم أعلام الفقهاء وأمناء الرؤساء وأرباب الدولة، ويقصدون جميعًا باب القلعة دار الملك الناصر، فيخرج إليهم المحمل على جَمَل، وأمامه الأمير المعين لسفر الحجاز في تلك السنة ومعه عسكره، والسقاءون على جمالهم، ويجتمع لذلك أصناف الناس من رجال ونساء، ثم يطوفون بالمحمل، وجميع مَنْ ذَكَرْنا معه بمدينتي القاهرة ومصر والحُدَاة يَحْدُون أمامهم، ويكون ذلك في رجب، فعند ذلك تهيج العزمات وتنبعث الأشواق وتتحرك البواعث، ويلقي الله العزيمة على الحج في قَلْب من يشاء من عباده، فيأخذون في التأهب لذلك والاستعداد، ثم كان سفري من مصر على طريق الصعيد برسم الحجاز الشريف، فبِتُّ ليلة خروجي بالرباط الذي بناه الصاحب تاج الدين بن حناء بدير الطين، وهو رباط عظيم بناه على مفاخر عظيمة وآثار كريمة أودعها فيه، وهي قطعة من قصعة رسول الله والميل الذي كان يكتحل به، والدرفش وهو الأشفا الذي كان يَخْصِف به نعله، ومصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي بِخَطِّ يده رضي الله عنه، ويقال: إن الصاحب اشترى ما ذكرناه من الآثار الكريمة النبوية بمائة ألف درهم، وبنى الرباط، وجَعَلَ فيه الطعام للوارد والصادر والجراية لخدام تلك الآثار الشريفة، نفعه الله تعالى بقصده المبارك.

ثم خَرَجْتُ من الرباط المذكور، ومررْتُ بمنية القائد، وهي بلدة صغيرة على ساحل النيل، ثم سِرْتُ منها إلى مدينة بوش (وضبطها بضم التاء الموحدة وآخرها شين معجم)، وهذه المدينة أكثر بلاد مصر كتانًا، ومنها يُجْلَب إلى سائر الديار المصرية وإلى إفريقية، ثم سافرت منها فوصلت إلى مدينة دَلاص (وضبط اسمها بفتح الدال المهملة وآخره صاد مهمل)، وهذه المدينة كثيرة الكتان أيضًا كمثل التي ذَكَرْنا قبلها، ويُحْمَل أيضًا منها إلى ديار مصر وإفريقية، ثم سافرت منها إلى مدينة بِبَا (وضبط اسمها بباءين موحدتين أولاهما مكسورة)، ثم سافرت منها إلى مدينة البهنسا، وهي مدينة كبيرة وبساتينها كثيرة (وضبط اسمها بفتح الموحدة وإسكان الهاء وفتح النون والسين)، وتُصْنَع بهذه المدينة ثياب الصوف الجيدة، وممن لَقِيتُه بها قاضيها العالم شرف الدين، وهو كريم النفس فاضل، ولقيت بها الشيخ الصالح أبا بكر العجمي، ونزَلْتُ عنده وأضافني، ثم سافرت منها إلى مدينة منية ابن خصيب، وهي مدينة كبيرة الساحة متسعة المساحة مبنية على شاطئ النيل، وحق حقيق لها على بلاد الصعيد التفضيل بها المدارس والمشاهد والزوايا والمساجد، وكانت في القديم منية عامل مصر لخصيب.

حكاية خصيب

يُذْكَر أن أحد الخلفاء من بني العباس رضي الله عنهم غَضِبَ على أهل مصر، فآلى أن يُوَلِّي عليهم أَحْقَرَ عبيده وأصغرهم شأنًا قصدًا لإرذالهم والتنكيل بهم، وكان خصيب أَحْقَرَهم إذ كان يتولى تسخين الحمام، فخَلَعَ عليه وأَمَّرَه على مصر وظَنَّه أنه يسير فيهم سيرةَ سوء ويقصدهم بالإذاية حسبما هو المعهود ممن ولي عن غير عَهْدٍ بالعز، فلما استقرَّ خصيب بمصر سار في أهلها أحسن سيرة وشُهِرَ بالكرم والإيثار، فكان أقارب الخلفاء وسواهم يقصدونه فيجزل العطاء لهم ويعودون إلى بغداد شاكرين لما أَوْلَاهُم. وإن الخليفة افْتَقَدَ بعض العباسيين وغاب عنه مدة، ثم أتاه فسأله عن مغيبه فأخبره أنه قَصَدَ خصيبًا، وذَكَرَ له ما أعطاه خصيب، وكان عطاء جزيلًا، فغضب الخليفة وأَمَرَ بسمل عيني خصيب وإخراجه من مصر إلى بغداد، وأن يُطْرَح في أسواقها، فلما وَرَدَ الأمر بالقبض عليه حِيلَ بَيْنَه وبين دخول منزله، وكانت بيده ياقوتة عظيمة الشأن فخبأها عنده وخاطها في ثوب له ليلًا، وسُمِلَتْ عيناه وطُرِحَ في أسواق بغداد، فمر به بعض الشعراء فقال له: يا خصيب، إني كنت قَصَدْتُك من بغداد إلى مصر مادحًا لك بقصيدة، فوافَقْتُ انصرافك عنها، وأُحِبُّ أن تَسْمَعَهَا، فقال: كيف بسماعها وأنا على ما تراه؟ فقال: إنما قصدي سماعك لها، وأما العطاء فقد أَعْطَيْتَ الناس وأَجْزَلْتَ جزاك الله خيرًا، قال: فافعل، فأنشده (كامل):

أنت الخصيب وهذه مَصْرُ
فتدفقا فكلاكما بَحْرُ

فلما أتى على آخرها، قال له: افتُق هذه الخياطة، ففَعَل ذلك، فقال له: خذ الياقوتة، فأبى، فأَقْسَمَ عليه أن يأخذها فأخذها وذَهَبَ بها إلى سوق الجوهريين، فلما عَرَضَها عليهم قالوا له: إن هذه لا تَصْلُح إلا للخليفة، فرفعوا أَمْرَها إلى الخليفة، فأمر الخليفة بإحضار الشاعر واستَفْهَمه عن شأن الياقوتة، فأخبره بخبرها، فتَأَسَّفَ على ما فَعَلَهُ بخصيب، وأَمَرَ بمثوله بين يديه وأَجْزَلَ له العطاء وحَكَّمَه فيما يريد، فرغب أن يعطيه هذه المنية، ففعل ذلك وسكنها خصيب إلى أن توفي وأَوْرَثَها عَقِبَه إلى أن انقرضوا، وكان قاضي هذه المنية أيام دخولي إليها فخر الدين النويري المالكي، وواليها شمس الدين أمير خيِّر كريم، دَخَلْت يومًا الحمام بهذه البلدة فرأيت الناس بها لا يستترون، فعَظُمَ ذلك عليَّ وأتيْتُه فأعلمته بذلك، فأَمَرَنِي أن لا أبرح، وأَمَرَ بإحضار المكترين للحمامات، وكتبت عليهم العقود أنه متى دخل أحد الحمام دون مئزر فإنهم يؤاخذون على ذلك، واشتد عليهم أَعْظَمَ الاشتداد، ثم انْصَرَفْتُ عنه وسافرت من منية ابن خصيب إلى مدينة منلوي، وهي صغيرة مبنية على مسافة ميلَيْن من النيل (وضبط اسمها بفتح الميم وإسكان النون وفتح اللام وكسر الواو)، وقاضيها الفقيه شرف الدين الدَّمِيرِي (بفتح الدال المهمل وكسر الميم) الشافعي، وكبارها قوم يُعْرَفُون ببني فضيل، بنى أحدهم جامعًا أَنْفَقَ فيه صميم ماله، وبهذه المدينة إحدى عشرة معصرة للسكر، ومن عوائدهم أنهم لا يمنعون فقيرًا من دخول معصرة منها، فيأتي الفقير بالخبزة الحارة فيطرحها في القدر التي يُطْبَخ السكر فيها ثم يُخْرِجها وقد امتلأت سكرًا فينصرف بها، وسافَرْتُ من مَنْلَوِي المذكورة إلى مدينة منفلوط، وهي مدينة حَسُنَ رواؤها، مؤنق بناؤها على ضفة النيل، شهيرة البركة (وضبط اسمها بفتح الميم وإسكان النون وفتح الفاء وضم اللام وآخرها طاء مهمل).

حكاية

أخبرني أهل هذه المدينة أن الملك الناصر رحمه الله أَمَرَ بعمل منبر عظيم مُحْكَم الصنعة بديع الإنشاء برسم المسجد الحرام زاده الله شرفًا وتعظيمًا، فلما تَمَّ عَمَلُه أَمَرَ أن يُصْعَد به في النيل ليُجَازَ إلى بحر جدة ثم إلى مكة شَرَّفَها الله، فلما وَصَلَ المركب الذي احْتَمَلَهُ إلى منفلوط وحاذى مسجدها الجامع، وَقَفَ وامتنع من الجري مع مساعدة الريح، فعجب الناس من شأنه أَشَدَّ العجب، وأقاموا أيامًا لا ينهض بهم المركب، فكتبوا بخبره إلى الملك الناصر رحمه الله، فأَمَرَ أن يُجْعَلَ ذلك المنبر بجامع مدينة منفلوط، ففُعِلَ ذلك وقد عاينْتُه بها، ويُصْنَع بهذه المدينة شبه العسل يستخرجونه من القمح ويسمونه النيدا يُبَاع بأسواق مصر، وسافَرْتُ من هذه المدينة إلى مدينة أسيوط، وهي مدينة رفيعة أسواقها بديعة (وضبط اسمها بفتح الهمزة والسين المهملة والياء آخر الحروف وواو وطاء مهملة)، وقاضيها شرف الدين بن عبد الرحيم الملقب بحاصل ماثم — لَقَبٌ شُهِرَ به — وأصله أن القضاة بديار مصر والشام بأيديهم الأوقاف والصدقات لأبناء السبيل، فإذا أتى فقير لمدينة من المدن قصد القاضي بها فيعطيه ما قُدِّرَ له، فكان هذا القاضي إذا أتاه الفقير يقول له: حاصل ماثم، أي لم يَبْقَ من المال الحاصل شيء، فلُقِّبَ بذلك ولزمه، وبها من المشايخ الفضلاء الصالح شهاب الدين بن الصباغ، أضافني بزاويته وسافَرْتُ منها إلى مدينة أخميم، وهي مدينة عظيمة أصيلة البنيان عجيبة الشأن بها البربي المعروف باسمها، وهو مبني بالحجارة في داخله نقوش وكتابة للأوائل لا تُفْهَم في هذا العهد وصور الأفلاك والكواكب، ويزعمون أنها بُنِيَتْ والنسر الطائر ببرج العقرب، وبها صور الحيوانات وسواها، وعند الناس في هذه الصور أكاذيب لا يُعْرَج عليها.

وكان بأخميم رجل يُعْرَف بالخطيب أُمِرَ على هَدْم بعض هذه البرابي وابتنى بحجارتها مدرسة، وهو رجل موسر معروف باليسار، ويزعم حساده أنه استفاد ما بيده من المال من ملازمته لهذه البرابي، ونزلْتُ من هذه المدينة بزاوية الشيخ أبي العباس بن عبد الظاهر وبها تربة جده عبد الظاهر، وله من الإخوة ناصر الدين ومجد الدين وواحد الدين، ومن عادتهم أن يجتمعوا جميعًا بعد صلاة الجمعة، ومعهم الخطيب نور الدين المذكور وأولاده، وقاضي المدينة الفقيه مخلص وسائر وجوه أهلها، فيجتمعون للقرآن ويَذْكُرون الله إلى صلاة العصر، فإذا صَلَّوْها قرءوا سورة الكهف ثم انصرفوا، وسافرْتُ من أخميم إلى مدينة «هو» مدينة كبيرة بساحل النيل (وضبطها بضم الهاء)، نزلت منها بمدرسة تقي الدين بن السراج، ورأيتهم يقرءون بها في كل يوم بعد صلاة الصبح حزبًا من القرآن، ثم يقرءون أوراد الشيخ أبي الحسن الشاذلي وحزب البحر، وبهذه المدينة السيد الشريف أبو محمد عبد الله الحسني من كبار الصالحين.

كرامة له

دَخَلْتُ إلى هذا الشريف متبركًا برؤيته والسلام عليه، فسألني عن قصدي، فأخبَرْتُه أني أريد حج البيت الحرام على طريق جدة، فقال لي: لا يحصل لك هذا في هذا الوقت، فارجع. وإنما نَحُجُّ أَوَّلَ حجة على الدرب الشامي، فانْصَرَفْتُ عنه ولم أعمل على كلامه، ومضيت في طريق حتى وصلت إلى عيذاب، فلم يتمكن لي السفر، فعُدْتُ راجعًا إلى مصر ثم إلى الشام، وكان طريقي في أول حجاتي على الدرب الشامي حسبما أَخْبَرَنِي الشريف نَفَعَ الله به، ثم سافرتُ إلى مدينة قِنا، وهي صغيرة حسنة الأسواق (وضبط اسمها بقاف مكسورة ونون)، وبها قبر الشريف الصالح الولي صاحب البراهين العجيبة والكرامات الشهيرة عبد الرحيم القناوي رحمة الله عليه، ورأيْتُ بالمدرسة السيفية منها حفيدَهُ شهاب الدين أحمد.

وسافَرْتُ من هذا البلد إلى مدينة قوص (وهي بضم القاف)، مدينة عظيمة لها خيرات عميمة بساتينها مُورِقَة وأسواقها مونقة ولها المساجد الكثيرة والمدارس الأثيرة، وهي منزل ولاة الصعيد وبخارجها زاوية الشيخ شهاب الدين بن عبد الغفار، وزاوية الأفرم، وبها اجتماع الفقراء المتجردين في شهر رمضان من كل سنة، ومن علمائها القاضي جمال الدين بن السديد، والخطيب بها فتح الدين بن دقيق العيد أحد الفصحاء البلغاء الذين حَصَلَ لهم السبق في ذلك، لم أرَ من يماثله إلا خطيب المسجد الحرام بهاء الدين الطبري، وخطيب مدينة خوارزم حسام الدين الشاطي، وسيقع ذِكْرُهما، ومنهم الفقيه بهاء الدين بن عبد العزيز المدرس بمدرسة المالكية، ومنهم الفقيه برهان الدين إبراهيم الأندلسي، له زاوية عالية، ثم سافَرْتُ إلى مدينة الأقصر (وضبط اسمها بفتح الهمزة وضم الصاد المهمل)، وهي صغيرة حسنة، وبها قبر الصالح العابد أبي الحجاج الأقصري وعليه زاوية، وسافرْتُ منها إلى مدينة أَرْمَنْت (وضبط اسمها بفتح الهمزة وسكون الراء وميم مفتوحة ونون ساكنة وتاء فوقية)، وهي صغيرة ذات بساتين مبنية على ساحل النيل، أضافني قاضيها وأُنْسِيتُ اسْمَه، ثم سافَرْتُ منها إلى مدينة أَسْنَا (وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان السين المهمل ونون)، مدينة عظيمة متسعة الشوارع ضخمة المنافع كثيرة الزوايا والمدارس والجوامع، لها أسواق حسان وبساتين ذات أفنان، قاضيها قاضي القضاة شهاب الدين بن مسكين، أضافني وأكرَمَنِي وكتب إلى نوابه بإكرامي، وبها من الفضلاء الشيخ الصالح نور الدين علي والشيخ الصالح عبد الواحد المكناسي، وهو على هذا العهد صاحب زاوية بقوص.

ثم سافرت منها إلى مدينة أَدْفُو (وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان الدال المهمل وضم الفاء)، وبينها وبين مدينة أسنا مسيرة يوم وليلة في صحراء، ثم جزنا النيل من مدينة أدفو إلى مدينة العطواني، ومنها اكترينا الجمال، وسافَرْنُا مع طائفة من العرب تُعْرَف بدغيم (بالغين المعجمة) في صحراء لا عمارة بها إلا أنها آمنة السبل، وفي بعض منازلها نزلنا حميثرا حيث قبر ولي الله أبي الحسن الشاذلي، وقد ذَكَرْنا كرامته في أخباره أنه يموت بها، وأَرْضُها كثيرة الضباع، ولم نَزَل ليلةَ مَبِيتِنا بها نُحَارِب الضباع، ولقد قَصَدَتْ رحلي ضبعٌ منها فمزَّقَتْ عدلًا كان به واجترَّتْ منه حراب تمر وذَهَبَتْ به فوجدناه لما أصبحنا ممزَّقًا مأكولًا معظم ما كان فيه، ثم لما سِرْنا خمسة عشر يومًا وصلنا إلى مدينة عيذاب، وهي مدينة كبيرة كثيرة الحوت واللبن ويُحْمَل إليها الزرع والتمر من صعيد مصر، وأهلها البجاة وهم سود الألوان يلتحفون ملاحف صفرًا ويشدون على رءوسهم عصائب يكون عَرْض العصابة منها أصبعًا، وهم لا يُوَرِّثُون البنات، وطعامهم ألبان الإبل، ويركبون المهاري ويسمونها الصهب، وثلث المدينة للملك الناصر، وثلثاها لملك البجاة وهو يُعْرَف بالحدربي (بفتح الحاء المهمل وإسكان الدال وراء مفتوحة وباء موحدة وياء).

وبمدينة عيذاب مسجد يُنْسَب للقسطلاني شهير البركة رأيته وتبركت به، وبها الشيخ الصالح موسى والشيخ المسن محمد المراكشي، زَعَمَ أنه ابن المرتضى ملك مراكش، وأن سنه خمس وتسعون سنة، ولما وَصَلْنَا إلى عيذاب وَجَدْنا الحدربي سلطان البجاة يحارب الأتراك، وقد خَرَقَ المراكب وهرب الترك أمامه، فتعذر سَفَرُنا في البحر، فبِعْنَا ما كُنَّا أعددناه من الزاد، وعُدْنَا مع العرب الذين اكترينا الجِمال منهم إلى صعيد مصر، فوصلنا إلى مدينة قوص التي تَقَدَّمَ ذِكْرُها وانحدرنا منها في النيل، وكان أوان مَدِّه فوصلنا بعد مسيرة ثمانٍ من قوص إلى مصر، فبِتُّ بمصر ليلة واحدة وقصدت بلاد الشام، وذلك في منتصف شعبان سنة ست وعشرين، فوصلْتُ إلى مدينة بلبيس (وضبط اسمها بفتح الموحدة الأولى وفتح الثانية ثم ياء آخر الحروف مسكنة وسين مهملة)، وهي مدينة كبيرة ذات بساتين كثيرة، ولم أَلْقَ بها مَنْ يَجِبُ ذِكْرُه.

ثم وصلت إلى الصالحية، ومنها دخلنا الرمال ونزلنا منازلها مثل السوادة والورادة والمطيلب والعريش والخروبة، وبكل منزل منها فندق وهم يسمونه الخان، ينزله المسافرون بدوابهم، وبخارج كل خانٍ ساقية للسبيل وحانوت يشتري منها المسافر ما يحتاجه لنفسه ودابته، ومن منازلها قَطْيَا المشهورة، وهي (بفتح القاف وسكون الطاء وياء آخر الحروف مفتوحة وألف)، والناس يُبْدِلون أَلِفَها هاءَ تأنيث، وبها تؤخذ الزكاة من التجار وتُفَتَّش أمتعتهم ويُبْحَث عما لديهم أشد البحث، وفيها الدواوين والعمال والكُتَّاب والشهود، ومجباها في كل يوم ألف دينار من الذهب، ولا يجوز عليها أحد من الشام إلا ببراءة من مصر، ولا إلى مصر إلا ببراءة من الشام؛ احتياطًا على أموال الناس، وتوقِّيًا من الجواسيس العرافيين، وطريقها في ضمان العرب قد وُكِّلُوا بحفظه، فإذا كان الليل مَسَحُوا على الرمل لا يبقى به أَثَرٌ، ثم يأتي الأمير صباحًا فينظر إلى الرمل، فإن وَجَدَ به أثرًا طَالَبَ العرب بإحضار مؤثره، فيذهبون في طلبه فلا يفوتهم، فيأتون به الأميرَ فيعاقبه بما شاء.

وكان بها في عَهْد وصولي إليها عز الدين أستاذ الداراقماري من خيار الأمراء، أضافني وأَكْرَمَني وأباح الجواز لمن كان معي، وبين يديه عبد الجليل المغربي الوقاف وهو يَعْرِف المغاربة وبلادهم، فيسأل من وَرَدَ منهم من أي البلاد هو لئلا يلبس عليهم، فإن المغاربة لا يعترضون في جوازهم على قطيا، ثم سِرْنَا حتى وَصَلْنا إلى مدينة غزة، وهي أول بلاد الشام مما يلي مصر، متسعة الأقطار كثيرة العمارة حسنة الأسواق بها المساجد العديدة والأسوار عليها، وكان بها مسجد جامع حسن، والمسجد الذي تقام الآن به الجمعة، فيها بناء الأمير المعظم الجاولي، وهو أنيق البناء مُحْكَم الصنعة ومنبره من الرخام الأبيض، وقاضي غزة بدر الدين السلختي الحوراني، ومُدَرِّسها علم الدين بن سالم، وبنو سالم كبراء هذه المدينة، ومنهم شمس الدين قاضي القدس.

ثم سافرْتُ من غزة إلى مدينة الخليل صلى الله على نبينا وعليه وسلَّمَ تسليمًا، وهي مدينة صغيرة الساحة كبيرة المقدار مُشْرِقة الأنوار حسنة المنظر عجيبة المخبر في بطن وادٍ، ومسجدها أنيق الصنعة مُحْكَم العمل بديع الحُسْن سامي الارتفاع مبنيٌّ بالصخر المنحوت، في أحد أركانه صخرة أحد أقطارها سبعة وثلاثون شبرًا، ويقال: إن سليمان عليه السلام أَمَرَ الجن ببنائه، وفي داخل المسجد الغار المُكَرَّم المُقَدَّس، فيه قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلوات الله على نبينا وعليهم، ويقابلها قبور ثلاثة هي قبور أزواجهم، وعن يمين المنبر يلصق جدار القبلة موضع يُهْبَط منه على دَرَج رخام محكمة العمل إلى مسلك ضيق يُفْضِي إلى ساحة مفروشة بالرخام فيها صور القبور الثلاثة، ويقال إنها محاذية لها، وكان هنالك مسلك إلى الغار المبارك وهو الآن مسدود، وقد نزلْتُ بهذا الموضع مرات، ومما ذَكَرَهُ أهل العلم دليلًا على صحة كون القبور الثلاثة الشريفة هنالك ما نَقَلْتُه من كتاب علي بن جعفر الرازي الذي سماه المسفر للقلوب عن صحة قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أَسْنَدَ فيه إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله : «لما أُسْرِيَ بي إلى بيت المقدس مَرَّ بي جبريل على قَبْر إبراهيم فقال: انزل فصلِّ ركعتين، فإن هنا قبر أبيك إبراهيم، ثم مَرَّ بي على بيت لحم وقال: انزل فصلِّ ركعتين، فإن هنا وُلِدَ أخوك عيسى عليه السلام، ثم أتى بي إلى الصخرة» وذَكَرَ بقية الحديث.

ولَمَّا لَقِيتُ بهذه المدينة المُدَرِّسَ الصالح المعمر الإمام الخطيب برهان الدين الجعبري أحد الصلحاء المرضيين والأئمة المشهرين، سألته عن صحة كَوْن قَبْر الخليل عليه السلام هنالك، فقال لي: كل من لقيته من أهل العلم يُصَحِّحون أن هذه القبور قبور إبراهيم وإسحاق ويعقوب — على نبينا وعليهم السلام — وقبور زوجاتهم، ولا يَطْعَنُ في ذلك إلا أهل البدع، وهو نَقْل الخلف عن السلف لا يُشَكُّ فيه.

ويُذْكَر أن بعض الأئمة دَخَلَ إلى هذا الغار ووَقَفَ عند قبر سارة، فدخل شيخ فقال له: أي هذه القبور هو قبر إبراهيم؟ فأشار له إلى قبره المعروف، ثم دَخَلَ شاب فسأله كذلك، فأشار له إليه، ثم دخل صبي فسأله أيضًا، فأشار له إليه، فقال الفقيه: أَشْهَدُ أن هذا قبر إبراهيم عليه السلام لا شك، ثم دخل إلى المسجد فصلى به وارتحل من الغد، وبداخل هذا المسجد أيضًا قبر يوسف عليه السلام، وبشرقي حرم الخليل تربة لوط عليه السلام، وهي على تل مرتفع يُشْرِف منه غور الشام وعلى قبره أبنية حسنة، وهو في بيت منها حسن البناء مبيض ولا ستور عليه، وهنالك بحيرة لوط وهي أجاج يقال إنها موضع ديار قوم لوط، وبمقربة من تربة لوط مسجد اليقين، وهو على تل مرتفع له نور وإشراق ليس لسواه، ولا يجاوره إلا دار واحدة يسكنها قيمه، وفي المسجد بمقربة من بابه موضع منخفض في حجر صلد، قد هُيِّئ فيه صورة محراب لا يَسَعُ إلا مصليًا واحدًا، ويقال: إن إبراهيم سَجَدَ في ذلك الموضع شكرًا لله تعالى عند هلاك قوم لوط، فتحرك موضعُ سجوده وساخ في الأرض قليلًا، وبالقرب من هذا المسجد مغارة فيها قبر فاطمة بنت الحسين بن علي عليهما السلام، وبأعلى القبر وأسفله لوحان من الرخام في أحدهما مكتوب منقوش بخط بديع:

بسم الله الرحمن الرحيم، لله العزة والبقاء، وله ما ذرأ وبرأ، وعلى خَلْقِه كتب الفناء، وفي رسول الله أسوة، هذا قبر أم سلمة فاطمة بنت الحسين رضي الله عنه، وفي اللوح الآخر منقوش: صنعه محمد بن أبي سهل النقاش بمصر.

وتحت ذلك هذه الأبيات:

أسكنْت من كان في الأحشاء مَسْكَنُهُ
بالرغم منيَ بين التُّرْب والحَجَرِ
يا قَبْرَ فاطمةٍ بِنْت ابن فاطمة
بنت الأئمة بنت الأَنْجُم الزُّهْرِ
يا قَبْرُ ما فيك من دِينٍ ومن وَرَعٍ
ومِنْ عَفَافٍ ومن صَوْنٍ ومِنْ خَفَرِ

ثم سافرْتُ من هذه المدينة إلى القدس، فزرْتُ في طريقي إليه تربة يونس عليه السلام، وعليها بنية كبيرة ومسجد، وزُرْتُ أيضًا بيت لحم موضع ميلاد عيسى عليه السلام، وبه أَثَرُ جَذْع النخلة، وعليه عمارة كثيرة، والنصارى يعظمونه أَشَدَّ التعظيم ويضيفون من نَزَلَ به، ثم وَصَلْنا إلى بيت المقدس شرفه الله، ثالث المسجدين الشريفين في رتبة الفضل، ومصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا، ومعرجه إلى السماء، والبلدة كبيرة منيفة مبنية بالصخر المنحوت، وكان الملك الصالح الفاضل صلاح الدين بن أيوب — جزاه الله عن الإسلام خيرًا — لما فَتَحَ هذه المدينة هَدَمَ بعض سورها، ثم استنقض الملك الظاهر هدمه؛ خوفًا أن يقصدها الروم فيتمنعوا بها، ولم يكن بهذه المدينة نهر فيما تَقَدَّمَ، وجَلَبَ لها الماءَ في هذا العهد الأميرُ سيف الدين تنكيز أمير دمشق.

ذكر المسجد المقدس

وهو من المساجد العجيبة الرائقة الفائقة الحُسْن، يقال: إنه ليس على وَجْه الأرض مسجد أكبر منه، وأن طوله من شرق إلى غرب سبعمائة وثنتان وخمسون ذراعًا بالذراع المالكية، وعرضه من القبلة إلى الجوف أربعمائة ذراع وخمس وثلاثون ذراعًا، وله أبواب كثيرة في جهاته الثلاث، وأما الجهة القبلية منه فلا أعلم بها إلا بابًا واحدًا وهو الذي يَدْخُل منه الإمام، والمسجد كله فضاء غير مُسَقَّف إلا المسجد الأقصى، فهو مُسَقَّف في النهاية من إحكام العمل وإتقان الصنعة، مُمَوَّه بالذهب والأصبغة الرائقة، وفي المسجد مواضع سواه مُسَقَّفة.

ذكر قبة الصخرة

وهي من أعجب المباني وأَتْقَنها وأَغْرَبها شكلًا، قد توفر حظها من المحاسن، وأَخَذَتْ من كل بديعة بطرف، وهي قائمة على نشز في وسط المسجد، يُصْعَد إليها في دَرَج رخام، ولها أربعة أبواب، والدائر بها مفروش بالرخام أيضًا مُحْكَم الصنعة وكذلك داخلها، وفي ظاهرها وباطنها من أنواع الزواقة ورائق الصنعة ما يُعْجِز الواصف، وأكثر ذلك مغشى بالذهب، فهي تتلألأ نورًا وتلمع لمعان البرق، يَحَارُ بصر متأملها في محاسنها، ويقصر لسان رائيها عن تمثيلها، وفي وَسَطِ القبةِ الصخرةُ الكريمةُ التي جاء ذِكْرها في الآثار، فإن النبي عرج منها إلى السماء، وهي صخرة صماء، ارتفاعها نحو قامة، وتحتها مغارة في مقدار بيت صغير، ارتفاعها نحو قامة أيضًا، يُنْزَل إليها على دَرَج، وهنالك شَكْل محراب، وعلى الصخرة شباكان اثنان مُحْكَما العمل يُغْلِقان عليها أحدهما، وهو الذي يلي الصخرة من حديد بديع الصنعة، والثاني من خشب، وفي القبة درقة كبيرة من حديد معلقة هنالك، والناس يزعمون أنها درقة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.

ذكر بعض المشاهد المباركة بالقدس الشريف

فمنها بعدوة الوادي المعروف بوادي جهنم في شرقي البلد على تلٍّ مرتفع هنالك بِنْيَة يقال إنها مصعد عيسى عليه السلام إلى السماء، ومنها أيضًا قبر رابعة البدوية منسوبة إلى البادية، وهي خلاف رابعة العدوية الشهيرة، وفي بطن الوادي المذكور كنيسة يعظمها النصارى ويقولون: إن قبر مريم عليها السلام بها، وهنالك أيضًا كنيسة أخرى مُعَظَّمَة يحجها النصارى، وهي التي يَكْذِبُون عليها ويعتقدون أن قبر عيسى عليه السلام بها، وعلى كل من يحجها ضريبة معلومة للمسلمين، وضروب من الإهانة يتحملها على رَغْم أنفه، وهنالك موضع مهد عيسى عليه السلام يُتَبَرَّك به.

ذكر بعض فضلاء القدس

فمنهم قاضيه العالم شمس الدين محمد بن سالم الغَزِّي (بفتح الغين)، وهو من أهل غزة وكبرائها، ومنهم خطيبه الصالح الفاضل عماد الدين النابلسي، ومنهم المحدث المفتي شهاب الدين الطبري، ومنهم مدرس المالكية وشيخ الخانقاه الكريمة أبو عبد الله محمد بن مثبت الغرناطي نزيل القدس، ومنهم الشيخ الزاهد أبو علي حسن المعروف بالمحجوب من كبار الصالحين، ومنهم الشيخ الصالح العابد كمال الدين المراغي، ومنهم الشيخ الصالح العابد أبو عبد الرحيم عبد الرحمن بن مصطفى من أهل أرز الروم، وهو من تلامذة تاج الدين الرفاعي، صَحِبْتُه ولَبِسْتُ منه خرقة التصوف، ثم سافرْتُ من القدس الشريف برسم زيارة ثغر عسقلان وهو خراب قد عاد رسومًا طامسة وأطلالًا دارسة، وقَلَّ بَلَدٌ جَمَعَ من المحاسن ما جَمَعَتْه عسقلان إتقانًا وحُسْنَ وضْع وأصالة مكان، وجمعًا بين مرافق البَرِّ والبحر، وبها المشهد الشهير، حيث كان رأس الحسين بن علي عليه السلام قبل أن يُنْقَل إلى القاهرة، وهو مسجد عظيم سامي العلوفية جب للماء أمر ببنائه بعض العبيديين وكتب ذلك على بابه، وفي قبلة هذا المزار مسجد كبير يُعْرَف بمسجد عمر، لم يَبْقَ منه إلا حيطانه، وفيه أساطين رخام لا مِثْل لها في الحُسْن، وهي ما بين قائم وحصيد، ومن جملتها أسطوانة حمراء عجيبة يَزْعُم الناس أن النصارى احتملوها إلى بلادهم ثم فقدوها فوُجِدَتْ في موضعها بعسقلان، وفي القبلة من هذا المسجد بئر تُعْرَف ببئر إبراهيم عليه السلام، يُنْزَل إليها في دَرَج متسعة، ويُدْخَل منها إلى بيوت، وفي كل جهة من جهاتها الأربع عين تخرج من أسراب مطوية بالحجارة، وماؤها عذب وليس بالغزير، ويَذْكُر الناس من فضائلها كثيرًا، وبظاهر عسقلان وادي النمل، ويقال: إنه المذكور في الكتاب العزيز، وبجبانة عسقلان من قبور الشهداء والأولياء ما لا يُحْصَر لكثرته، أوقفنا عليهم قيِّم المزار المذكور، وله جراية يجريها له ملك مصر مع ما يصل إليه من صدقات الزوار.

ثم سافرْتُ منها إلى مدينة الرملة وهي فلسطين، مدينة كبيرة كثيرة الخيرات حسنة الأسواق وبها الجامع الأبيض، ويقال: إن في قبلته ثلاثمائة من الأنبياء مدفونين — عليهم السلام — وفيها من كبار الفقهاء مجد الدين النابلسي، ثم خرجْتُ منها إلى مدينة نابلس، وهي مدينة عظيمة كثيرة الأشجار مطردة الأنهار، من أكثر بلاد الشام زيتونًا ومنها يُحْمَل الزيت إلى مصر ودمشق، وبها تُصْنَع حلواء الخروب وتُجْلَب إلى دمشق وغيرها، وكيفية عملها: أن يُطْبَخ الخروب ثم يُعْصَر ويؤخذ ما يَخْرُج منه من الرُّب فتُصْنَع منه الحلواء، ويُجْلَب ذلك الرُّب أيضًا إلى مصر والشام، وبها البطيخ المنسوب إليها، وهو طَيِّب عجيب، والمسجد الجامع في نهاية من الإتقان والحسن، وفي وسطه بركة ماء عذب، ثم سافَرْتُ منها إلى مدينة عجلون (وهي بفتح العين المهملة)، وهي مدينة حسنة لها أسواق كثيرة وقلعة خطيرة ويشقها نهر ماؤه عذب، ثم سافرْتُ منها بقصد اللاذقية، فمررت بالغور، وهو وادٍ بين تلال به قبر أبي عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة رضي الله عنه، زرناه، وعليه زاوية فيها الطعام لأبناء السبيل، وبِتْنا هنالك ليلة، ثم وَصَلْنا إلى القصير، وبه قبر معاذ بن جبل رضي الله عنه، تبركت أيضًا بزيارته، ثم سافرْتُ على الساحل، فوصلْتُ إلى مدينة عكة، وهي خراب، وكانت عكة قاعدة بلاد الإفرنج بالشام ومرسى سفنهم، وتشبه قسطنطينية العظمى، وبشرقيها عين ماء تُعْرَف بعين البقر، يقال: إن الله تعالى أخرج منها البقر لآدم عليه السلام، ويُنْزَل إليها في دَرَج، وكان عليها مسجد بقي منه محرابه، وبهذه المدينة قبر صالح عليه السلام، ثم سافرت منها إلى مدينة صور وهي خراب، وبخارجها قرية معمورة وأكثر أهلها أرفاض، ولقد نزلت بها مرة على بعض المياه أريد الوضوء فأتى بعض أهل تلك القرية ليتوضأ فبدأ بغسل رجليه ثم غسل وجهه ولم يتمضمض ولا استنشق ثم مسح بعض رأسه، فأخذْتُ عليه في فِعْلِه، فقال لي: إن البناء إنما يكون ابتداؤه من الأساس.

ومدينة صور هي التي يُضْرَب بها المثل في الحصانة والمَنَعَة؛ لأن البحر محيط بها من ثلاث جهاتها ولها بابان أحدهما للبَرِّ والثاني للبحر، ولبابها الذي يُشْرَع للبَرِّ أربعة فصلات كلها في ستائر محيطة بالباب، وأما الباب الذي للبحر فهو بيْن بُرْجَيْنِ عظيمين، وبناؤها ليس في بلاد الدنيا أعجب ولا أغرب شأنًا منه؛ لأن البحر محيط بها من ثلاث جهاتها، وعلى الجهة الرابعة سور تَدْخُل السفن تحت السور وترسو هنالك، وكان فيما تَقَدَّمَ بين البرجين سلسلة حديد معترضة لا سبيل إلى الداخل هنالك ولا إلى الخارج إلا بعد حطها، وكان عليها الحراس والأمناء، فلا يدخل داخل ولا يخرج خارج إلا على علم منهم، وكان لعكة أيضًا ميناء مثلها ولكنها لم تكن تَحْمِل إلا السفن الصغار، ثم سافرت منها إلى مدينة صيدا، وهي على ساحل البحر، حسنة كثيرة الفواكه يُحْمَل منها التين والزبيب والزيت إلى بلاد مصر، نزلت عند قاضيها كمال الدين الأشموني المصري، وهو حَسَن الأخلاق كريم النفس، ثم سافرْتُ منها إلى مدينة طبرية، وكانت فيما مضى مدينة كبيرة ضخمة، ولم يبقَ منها إلا رسوم تُنْبِئ عن ضخامتها وعِظَم شأنها، وبها الحمامات العجيبة، لها بيتان أحدهما للرجال والثاني للنساء، وماؤها شديد الحرارة، ولها البحيرة الشهيرة، طولها نحو ستة فراسخ وعرضها أزيد من ثلاثة فراسخ، وبطبرية مسجد يُعْرَف بمسجد الأنبياء فيه قبر شعيب عليه السلام وبنته زوج موسى الكليم عليه السلام، وقبر سليمان عليه السلام، وقبر يهودا، وقبر روبيل صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم، وقَصَدْنَا منها زيارة الجب الذي أُلْقِيَ فيه يوسف عليه السلام، وهو في صحن مسجد صغير وعليه زاوية، والجب كبير عميق، شَرِبْنَا من مائه المجتمع من ماء المطر، وأَخْبَرَنَا قَيِّمُه أن الماء ينبع منه أيضًا، ثم سِرْنَا إلى مدينة بيروت، وهي صغيرة حسنة الأسواق، وجامعها بديع الحُسْن، وتُجْلَب منها إلى ديار مصر الفواكه والحديد، وقَصَدْنَا منها زيارة أبي يعقوب يوسف الذي يزعمون أنه من ملوك المغرب، وهو بموضع يُعْرَف بكَرَك نوح من بقاع العزيز، وعليه زاوية يطعم بها الوارد والصادر، ويقال: إن السلطان صلاح الدين وَقَفَ عليها الأوقاف، وقيل: السلطان نور الدين، وكان من الصالحين، ويُذْكَر أنه كان ينسج الحصر ويقتات بثمنها.

حكاية أبي يعقوب يوسف المذكور

يحكى أنه دَخَلَ مدينة دمشق فمرض بها مرضًا شديدًا، وأقام مطروحًا بالأسواق، فلما برئ من مَرَضِهِ خرج إلى ظاهر دمشق ليلتمس بستانًا يكون حارسًا له، فاستؤجر لحراسة بستان للملك نور الدين، وأقام في حراسته ستة أشهر، فلما كان في أوان الفاكهة أتى السلطان إلى ذلك البستان، وأَمَرَ وكيل البستان أبا يعقوب أن يأتي برمان يأكل منه السلطان، فأتاه برمان فوجده حامضًا، فأمره أن يأتي بغيره ففعل ذلك فوجده أيضًا حامضًا، فقال له الوكيل: أتكون في حراسة هذا البستان منذ ستة أشهر، ولا تَعْرِف الحلو من الحامض، فقال: إنما استأجرْتَني على الحراسة لا على الأكل، فأتى الوكيل إلى الملك فأَعْلَمَهُ بذلك، فبعث إليه الملك وكان قد رأى في المنام أنه يجتمع مع أبي يعقوب وتحصل له منه فائدة، فتفرَّسَ أنه هو، فقال له: أنت أبو يعقوب؟ قال: نعم، فقام إليه وعانَقَهُ وأَجْلَسَهُ إلى جانبه، ثم احْتَمَلَهُ إلى مجلسه فأضافه بضيافة من الحلال المكتسب بكدِّ يمينه، وأقام عنده أيامًا ثم خرج من دمشق فارًّا بنفسه في أوانِ البرد الشديد، فأتى قرية من قراها، وكان بها رجل من الضعفاء، فعَرَضَ عليه النزول عنده ففعل، وصنع له مرقة وذَبَحَ دجاجة، فأتاه بها وبخبز شعير، فأكل من ذلك ودعا للرجل.

وكان عنده جملةُ أولاد منهم بنت قد آنَ بناء زوجها عليها، ومن عوائدهم في تلك البلاد أن البنت يجهزها أبوها، ويكون معظم الجهاز أواني النحاس وبه يتفاخرون وبه يتبايعون، فقال أبو يعقوب للرجل: هل عندك شيء من النحاس؟ قال: نعم، قد اشتريت منه لتجهيز هذه البنت، قال: ائتني به، فأتاه به، فقال له: اسْتَعِرْ من جيرانك ما أَمْكَنَكَ منه، ففعل وأحضر ذلك بين يديه، فأوقد عليه النيران، وأَخْرَجَ صرة كانت عنده فيها الإكسير، فطرح منه على النحاس فعاد كله ذهبًا، وتركه في بيتٍ مُقْفَل، وكتب كتابًا إلى نور الدين ملك دمشق يُعْلِمُه بذلك وينبهه على بناء مارستان للمرضى من الغرباء، ويوقف عليه الأوقاف، ويبني الزوايا بالطرق، ويرضي أصحاب النحاس، ويعطي صاحب البيت كفايته، وقال له في آخر الكتاب: وإن كان إبراهيم بن أدهم قد خرج على ملك خراسان، فأنا قد خَرَجْتُ من ملك المغرب وعن هذه الصنعة والسلام، وفَرَّ من حينه وذهب صاحب البيت بالكتاب إلى الملك نور الدين، فوصل الملك إلى تلك القرية واحتمل الذهب بعد أن أرضى أصحاب النحاس وصاحب البيت، وطلب أبا يعقوب فلم يَجِدْ له أثرًا ولا وَقَعَ له على خبر، فعاد إلى دمشق وبنى المارستان المعروف باسمه الذي ليس في المعمور مثله، ثم وَصَلْتُ إلى مدينة طرابلس وهي إحدى قواعد الشام وبلدانها الضخام تخترقها الأنهار، وتَحُفُّها البساتين والأشجار، ويكنفها البحر بمرافقه العميمة والبَرُّ بخيراته المقيمة، ولها الأسواق العجيبة، والمسارح الخصيبة، والبحر على مِيلَيْن منها، وهي حديثة البناء، وأما طرابلس القديمة فكانت على ضفة البحر وتَمَلَّكَها الروم زمانًا، فلما اسْتَرْجَعَهَا الملك الظاهر خربت واتخذت هذه الحديثة، وبهذه المدينة نحو أربعين من أمراء الأتراك، وأميرها طيلان الحاجب المعروف بملك الأمراء ومسكنه منه بالدار المعروفة بدار السعادة، ومن عوائده أنْ يَرْكَبَ في كل يوم إثنين وخميس ويركب معه الأمراء والعساكر ويخرج إلى ظاهر المدينة، فإذا عاد إليها وقارَبَ الوصول إلى منزله ترجَّل الأمراءُ ونزلوا عن دوابهم ومشوا بين يديه حتى يَدْخُلَ منزله وينصرفون.

وتُضْرَب الطبلخانة عند دار كل أمير منهم بعد صلاة المغرب من كل يوم وتوقد المشاعل، وممن كان بها من الأعلام كاتب السر بهاء الدين بن غانم أحد الفضلاء الحسباء، معروف بالسخاء والكرم، وأخوه حسام الدين هو شيخ القدس الشريف وقد ذَكَرناه، وأخوهما علاء الدين كاتب السر بدمشق، ومنهم وكيل بيت المال قوام الدين بن مكين من أكابر الرجال، ومنهم قاضي قضاتها شمس الدين بن النقيب من أعلام علماء الشام، وبهذه المدينة حماماتٌ حسان منها حمام القاضي القرمي وحمام سندمور، وكان سندمور أمير هذه المدينة، ويُذْكَر عنه أخبار كثيرة في الشدة على أهل الجنايات، منها أن امرأة شَكَتْ إليه بأن أحد مماليكه الخواص تَعَدَّى عليها في لبنٍ كانت تبيعه فشَرِبَه، ولم تكن لها بَيِّنَة فأَمَرَ به فوُسِطَ فخرج اللبن من مصرانه، وقد اتفق مثل هذه الحكاية للعتريس أحد أمراء الملك الناصر أيام إمارته على عيذاب، واتفق مثلها للملك كبك سلطان تركستان، ثم سافرت من طرابلس إلى حصن الأكراد، وهو بلد صغير كثير الأشجار والأنهار بأعلى تل، وبه زاوية تُعْرَف بزاوية الإبراهيمي نسبة إلى بعض كبراء الأمراء، ونَزَلْتُ عند قاضيها ولا أحقق الآن اسمه، ثم سافرْتُ إلى مدينة حمص، وهي مدينة مليحة أرجاؤها مونقة وأشجارها مورفة وأنهارها متدفقة وأسواقها فسيحة الشوارع وجامعها متميز بالحسن الجامع وفي وسطه بركة ماء، وأهل حمص عرب لهم فضل وكرم، وبخارج هذه المدينة قبر خالد بن الوليد سيف الله ورسوله، وعليه زاوية ومسجد وعلى القبر كسوة سوداء، وقاضي هذه المدينة جمال الدين الشريشي من أجمل الناس صورة وأحسنهم سيرة، ثم سافرت منها إلى مدينة حماة إحدى أمهات الشام الرفيعة ومدائنها البديعة ذات الحسن الرائق والجمال الفائق، تحفها البساتين والجنات عليها النواعير كالأفلاك الدائرات يشقها النهر العظيم المسمى بالعاصي ولها ربض سمي بالمنصورية أعظم من المدينة، فيه الأسواق الحافلة والحمامات الحسان، وبحماة الفواكه الكثيرة ومنها المشمش اللوزي إذا كسرت نواته وجدت في داخلها لوزة حلوة، قال ابن جزي: وفي هذه المدينة ونهرها ونواعيرها وبساتينها يقول الأديب الرحال نور الدين أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد العنسي العماري الغرناطي نسبة لعمار بن ياسر رضي الله عنه (طويل):

حمى الله من شطى حماة مناظرًا
وقفت عليها السمع والفكر والطرفَا
تغني حمام أو تميل خمائل
وتزهى مباني تمنع الواصف الوصفَا
يلومونني أن أعصي الصون والنهى
وأطيع الكأس واللهو والقصفَا
إذا كان فيها النهر عاصٍ فكيف لا
أحاكيه عصيانًا وأشربها صرفَا
وأشدو لدى تلك النواعر شدوها
وأغلبها رقصًا وأشبهها غرقَا
تئنُّ وتذري دمعها فكأنها
تهيم بمرآها وتسألها العطفا

ولبعضهم في نواعيرها ذاهبًا مذهب التورية (طويل):

وناعورة رقَّتْ لعِظْم خطيئتي
وقد عايَنَتْ قصدي من المنزل القاصي
بكت رحمة لي ثم باحت بشجوها
وحسبك أن الخشب تبكي على العاصي

ولبعض المتأخرين فيها أيضًا من التورية (كامل):

يا سادةً سكنوا حماة وحَقِّكُمْ
ما حلْت عن تقوى وعن إخلاصي
والطرف بعدكمُ إذا ذُكِرَ اللِّقا
يجري المدامع طائعًا كالعاصي

(رجع)، ثم سافرْتُ إلى مدينة المعرة التي يُنْسَب إليها الشاعر أبو العلاء المعري وكثير سواه من الشعراء، قال ابن جزي: وإنما سميت بمعرة النعمان؛ لأن النعمان بن بشير الأنصاري صاحب رسول الله توفي له وَلَدٌ أيامَ إمارته على حمص فدفنه بالمعرة فعُرِفَتْ به، وكانت قبل ذلك تُسَمَّى ذات القصور، وقيل: إن النعمان جبل مُطِلٌّ عليها سُمِّيَت به (رجع)، والمعرة مدينة كبيرة حسنة أَكْثَر شجرها التين والفستق، ومنها يُحْمَل إلى مصر والشام، وبخارجها على فرسخٍ منها قبر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ولا زاوية عليه ولا خديم له، وسبب ذلك أنه وَقَعَ في بلادٍ صِنْف من الرافضة أرجاس يبغضون العشرة من الصحابة رضي الله عنهم ولعن مبغضهم، ويبغضون كل من اسمه عمر، وخصوصًا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه؛ لِمَا كان مِنْ فِعْله في تعظيم علي رضي الله عنه، ثم سِرْنا منها إلى مدينة سرمين، وهي حسنة كثيرة البساتين، وأكثر شجرها الزيتون، وبها يُصْنَع الصابون الآجري ويُجْلَب إلى مصر والشام، ويُصْنَع بها أيضًا الصابون المطيب لغسل الأيدي ويصبغونه بالحمرة والصفرة، ويُصْنَع بها ثياب قطن حسان تُنْسَب إليها، وأهلها سَبَّابُون يبغضون العَشَرَة، ومن العجب أنهم لا يَذْكُرون لفظ العشرة، وينادي سماسرتهم بالأسواق على السلع، فإذا بلغوا إلى العشرة قالوا تسعة وواحد، وحَضَرَ بها بعض الأتراك يومًا فسمع سمسارًا ينادي تسعة وواحد، فضربه بالدبوس على رأسه وقال: قل: عشرة بالدبوس، وبها مسجد جامع فيه تسع قباب، ولم يجعلوها عشرة قيامًا بمذهبهم القبيح.

ثم سِرْنا إلى مدينة حلب المدينة الكبرى والقاعدة العظمى، قال أبو الحسين بن جبير في وَصْفِها: قَدْرها خطير وذِكْرها في كل زمان يطير، خطابها من الملوك كثير، ومحلها من النفوس أثير، فكم هاجت من كفاح وسل عليها من بيض الصفاح، لها قلعة شهيرة الامتناع بائنة الارتفاع، فنزهت حصانة من أن ترام أو تستطاع، منحوتة الأجزاء موضوعة على نسبة اعتدال واستواء، قد طاولت الأيام والأعوام، ووسعت الخواص والعوام، أين أمراؤها الحمدانيون وشعراؤها؟ فني جميعهم ولم يَبْقَ إلا بناؤها، فيا عجبًا لبلاد تبقى ويذهب ملاكها ويهلكون ولا يقضي هلاكها وتخطب بعدهم فلا يتعذر أملاكها وترام فيتيسر بأهون شيء إدراكها! هذه حلب كم أدخلت ملوكها في خبر كان ونسخت صرف الزمان بالمكان، أنث اسمها فتحلت بحلية الغوان وأتت بالعذر فيمن دان وانجلت عروسًا بعد سيف دولتها ابن حمدان، هيهات سيهرم شبابها ويعدم خطابها ويسرع فيها بعد حين خرابها، وقلعة حلب تسمى الشهباء، وبداخلها جبلان ينبع منهما الماء فلا تخاف الظمأ، ويطيف بها سوران وعليها خندق عظيم ينبع منه الماء وسورها متداني الأبراج، وقد انتظمت بها العلالي العجيبة المفتحة الطيقان، وكل برج منها مسكون، والطعام لا يتغير بهذه القلعة على طول العهد، وبها مشهد يقصده بعض الناس يقال: إن الخليل عليه السلام كان يَتَعَبَّد به، وهذه القلعة تُشْبِه قلعة رحبة مالك بن طوق التي على الفرات بين الشمال والعراق، ولما قصد قازان طاغية التتر مدينة حلب حاصر هذه القلعة أيامًا ونكص عنها خائبًا، قال ابن جزي: وفي هذه القلعة يقول الخالدي شاعر سيف الدولة:

وخرقاء قد قامت على من يرومها
بمرقبها العالي وجانبها الصعبِ
يجر عليها الجواجيب غمامة
ويلبثها عقدًا بأنجمه الشهبِ
إذا ما سرى برق بَدَتْ من خلاله
كما لاحت العذراء من خلل السحبِ
فكم من جنود قد أماتت بغصة
وذي سطوات قد أبانت على عقبِ

وفيها يقول أيضًا وهو من بديع النظم (بسيط):

وقلعة عانَقَ العنقاء سافلُها
وجاز منطقة الجوزاء عاليها
لا تَعْرِف القطرُ إذ كان الغمام لها
أرضًا توطا قطريه مواشيها
إذا الغمامة راحت غاضَ ساكنها
حياضها قبل أن تهمى عواليها
يعد من أنجم الأفلاك مرقبها
لو أنه كان يجري في مجاريها
ردت مكايِدَ أقوام مكايدها
ونصرت لدواهيهم دواهيها

وفيها يقول جمال الدين علي بن أبي المنصور (كامل):

كادت لبون سموها وعلوها
تستوقف الفلك المحيط الدائرَا
وردت قواطنها المجرة منهلًا
ورعت سوابقها النجوم زواهرَا
ويظل صَرْف الدهر منها خائفًا
رجلًا فما يمسي لديها حاضرَا

(رجع)، ويقال في مدينة حلب: حلب إبراهيم؛ لأن الخليل صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه كان يسكنها، وكانت له الغنم الكثيرة، فكان يسقي الفقراء والمساكين والوارد والصادر من ألبانها، فكانوا يجتمعون ويسألون حلب إبراهيم فسميت بذلك، وهي من أعز البلاد التي لا نظير لها في حسن الوضع وإتقان الترتيب واتساع الأسواق وانتظام بعضها ببعض وأسواقها مسقفة بالخشب، فأهلها دائمًا في ظل ممدود وقيساريتها لا تماثل حسنًا وكبرًا، وهي تحيط بمسجدها وكل سماط منها محاذٍ لباب من أبواب المسجد، ومسجدها الجامع من أجمل المساجد في صحنه بركة ماء، ويطيف به بلاط عظيم الاتساع، ومنبرها بديع العمل مُرَصَّع بالعاج والآبنوس، وبقرب جامعها مدرسة مناسبة له في حُسْن الوضع وإتقان الصنعة يُنْسَب لأمراء بني حمدان، وبالبلد سواها ثلاث مدارس، وبها مارستان، وأما خارج المدينة فهو بسيط أفيح عريض به المزارع العظيمة وشجرات الأعناب منتظمة به والبساتين على شاطئ نهرها، وهو النهر الذي يمر بحماة ويسمى العاصي، وقيل: إنه سمي بذلك؛ لأنه يخيل لناظره أن جريانه من أسفل إلى علو والنفس تجد في خارج مدينة حلب انشراحًا وسرورًا ونشاطًا لا يكون في سواها، وهي من المدن التي تصلح للخلافة، قال ابن جزي: أطنبت الشعراء في وصف محاسن حلب وذكر داخلها وخارجها، وفيها يقول أبو عبادة البحتري (كامل):

يا بَرْقُ أَسْفِر عن فويق مطالبي
حلب فأعلى القصر من بطياس
عن منبت الورد المعصفر صبغة
في كل ضاحية ومجني الآس
أرض إذا استوحشتكم بتذكُّرٍ
حشدت علي فأكثرت إيناسي

وقال فيها الشاعر المجيد أبو بكر الصنوبري (متقارب):

سقى حلب المزن مغنى حلبْ
فكم وصلت طربًا بالطربْ
وكم مستطاب من العيش لذ
بها إذ بها العيش لم يُسْتَطَبْ
إذا نشر الزهر أعلامه
بها ومطارفه والعذبْ
غدا وحواشيه من فضة
تروق وأوساطه من ذهبْ

وقال فيها أبو العلاء المعري (خفيف):

حلب للوراد جنة عدن
وهْي للغادرين نار سعير
والعظيم العظيم يكبر في عَيْـ
ـنيه منها قدر الصغير الصغير
فقويق في أنفس القوم بحر
وحصاة منه مكان ثبير

وقال فيها أبو الفتيان بن جبوس:

يا صاحبيَّ إذا أعياكما سقمي
فلَقِّيَاني نَسِيمَ الريح من حلبِ
من البلاد التي كان الصبا سكنًا
فيها وكان الهوا العذري من أَرَبِي

وقال فيها أبو الفتح كشاجم (متقارب):

وما أَمْتَعَتْ جارَها بلدةٌ
كما أَمْتَعَتْ حلبٌ جارَها
بها قد تَجَمَّعَ ما تشتهي
فزرها فطوبى لمن زارها

وقال فيها أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد الغرناطي العنسي (خفيف):

حادي العيس كم تنيخ المطايا
سق بروحي من بعدهم في سياقِ
حلب إنها مقر غرامي
ومرامي وقِبْلة الأشواقِ
لا خلا جوشن وبطياس والعبـ
ـد ومِنْ كل وابل غيداقِ
كم بها مرتع لطرْفٍ وقَلْبٍ
فيه سَقْي المنى بكاس دهاقِ
وتغني طيورها لارتياحٍ
وتثني غصونها للعناقِ
وعُلُوُّ الشهباء حيث استدارت
أَنْجُمُ الأفْق حَوْلَهَا كالنطاقِ

(رجع)، وبحلب ملك الأمراء أرغون الدوادار أكبر أمراء الملك الناصر، وهو من الفقهاء موصوف بالعدل لكنه بخيل، والقضاة بحلب أربعة للمذاهب الأربعة، فمنهم القاضي كمال الدين بن الزملكاني شافعي المذهب عالي الهمة كبير القدر كريم النفس حَسَن الأخلاق متفنن بالعلوم، وكان الملك الناصر قد بَعَثَ إليه لِيُوَلِّيَه قضاء القضاة بحضرة مُلْكِه، فلم يُقْضَ له ذلك، وتوفي ببلبيس وهو متوجِّهٌ إليها، ولما ولي قضاء حلب قَصَدَتْه الشعراء من دمشق وسواها، وكان فيمن قَصَدَهُ شاعر الشام شهاب الدين أبو بكر محمد ابن الشيخ المحدث شمس الدين أبي عبد الله محمد بن نباتة القرشي الأموي الفارقي، فامتدحه بقصيدة طويلة حافلة أولها (كامل):

أَسِفَتْ لِفَقْدِكَ جلق الفيحاءُ
وتباشرَتْ لقدومك الشهباءُ
وعلا دمشقَ وقد رَحَلْتَ كآبةٌ
وعلا رُبَا حَلَبٍ سنًا وسناءُ
قد أَشْرَقَتْ دارٌ سَكَنْتَ فِنَاءَها
حتى غَدَتْ ولنورها لألاءُ
يا سائرًا سَقْي المكارم والعلى
ممن يبخل عنده الكرماءُ
هذا كمال الدين لذَّ بجنابه
تنعم فثَمَّ الفضلُ والنعماءُ
قاضي القضاة أجل من أيامه
تغني بها الأيتام والفقراءُ
قاضٍ زكا أصلًا وفرعًا فاعتلى
شَرُفَتْ به الآباءُ والأبناءُ
مَنَّ الإله على بَنِي حَلَبٍ به
لله وَضْعُ الفضلِ حيث يشاءُ
كشف المُعَمَّى فَهْمُه وبيانُهُ
فكأنما ذاك الذكاءُ ذكاءُ
يا حاكِمَ الحكام قَدْرُكَ سابقٌ
عن أن تَسُرَّكَ رتبةٌ شماءُ
إن المناصب دون هِمَّتِكَ التي
في الفضل دون محلها الجوزاءُ
لَكَ في العلوم فضائلٌ مشهورة
كالصبح شقَّ له الظلامَ ضياءُ
ومناقبٌ شَهِدَ العدوُّ بفضلها
والفضلُ ما شَهِدَتْ به الأعداءُ

وهي أَزْيَدُ من خمسين بيتًا، وأجازه عليها بكسوة ودراهم، وانتقد عليه الشعراء ابتداءه بلفظ أَسِفَتْ، قال ابن جزي: وليس كلامه في هذه القصيدة بذاك، وهو في المقطعات أجود منه في القصائد، وإليه انتهت الرياسة في الشعر على هذا العهد في جميع بلاد المشرق، وهو من ذرية الخطيب أبي يحيى عبد الرحيم بن نباتة منشئ الخطب الشهيرة، ومن بديع مُقَطَّعَاته في التورية قوله (كامل):

علَّقْتُها غيداء حالية العلى
تجني على عَقْل المُحِبِّ وقَلْبِهِ
بَخِلَتْ بلؤلؤ ثَغْرِها عن لاثمٍ
فَغَدَتْ مطوَّقة بما بَخِلَتْ بِهِ

(رجع)، ومن قضاة حلب قاضي قضاة الحنفية الإمام المدرس ناصر الدين بن العديم حسن الصورة والسيرة أصيل مدينة حلب (طويل):

تراه إذا ما جِئْتَه متهلِّلًا
كأنك تُعْطِيهِ الذي أَنْتَ سائِلُهْ

ومنهم قاضي قضاة المالكية لا أَذْكُرُه، كان من الموثقين بمصر، وأخذ الخطة عن غير استحقاق، ومنهم قاضي قضاة الحنابلة لا أَذْكُرُ اسمه، وهو من أهل صالحية دمشق ونقيب الأشراف بحلب بدر الدين بن الزهراء، ومن فقهائها شرف الدين بن العجمي وأقاربه هم كبراء مدينة حلب، ثم سافرْتُ منها إلى مدينة تِيزِين وهي على طريق قنسرين (وضبط اسمها بتاء معلوة مكسورة وياء مد وزاي مكسورة وياء مد ثانية ونون)، وهي حديثة اتخذها التركمان، وأسواقها حسان ومساجدها في نهاية من الإتقان، وقاضيها بدر الدين العسقلاني، وكانت مدينة قنسرين قديمة كبيرة، ثم خَرِبَتْ ولم يَبْقَ إلا رسومها.

ثم سافرت إلى مدينة أنطاكية، وهي مدينة عظيمة أصلية، وكان عليها سور مُحْكَم لا نظير له في أسوار بلاد الشام، فلما فَتَحَها الملك الظاهر هَدَمَ سورها، وأنطاكية كثيرة العمارة ودورها حسنة البناء كثيرة الأشجار والمياه، وبخارجها نهر العاصي، وبها قبر حبيب النجار رضي الله عنه، وعليه زاوية فيها الطعام للوارد والصادر، شيخها الصالح المعمر محمد بن علي، سِنُّه ينيف على المائة وهو مُمَتَّع بقوَّته، دَخَلْتُ عليه مرة في بستانٍ له وقد جمع حطبًا ورَفَعَهُ على كاهله؛ ليأتي به منزله بالمدينة، ورأيت ابنه قد أناف على الثمانين، إلا أنه محدودب الظهر لا يستطيع النهوض، ومن يراهما يظن الوالد منهما ولدًا والولد والدًا، ثم سافَرْتُ إلى حصنِ بُغْراس (وضبط اسمه بباء موحدة مضمومة وغين معجمة مسكنة وراء وآخره سين مهمل)، وهو حِصْن منيع لا يرام عليه البساتين والمزارع، ومنه يُدْخَل إلى بلاد سيس، وهي بلاد كفار الأرمن، وهم رعية للملك الناصر يؤدون إليه مالًا، ودراهمهم فضة خالصة تُعْرَف بالبغلية، وبها تُصْنَع الثياب الدبيزية، وأمير هذا الحصن صارم الدين بن الشيباني، وله وَلَدٌ فاضل اسمه علاء الدين وابنُ أخٍ اسمه حسام الدين فاضل كريم يسكن الموضع المعروف بالرصص (بضم الراء والصاد المهمل الأول)، ويحفظ الطريق إلى بلاد الأرمن.

حكاية

شكا الأرمن مرة إلى الملك الناصر من الأمير حسام الدين، وزَوَّرُوا عليه أمورًا لا تليق، فنفذ أمره لأمير الأمراء بحلب أن يخنقه، فلما تَوَجَّه الأمير بَلَّغَ ذلك صديقًا له من كبار الأمراء، فدخل على الملك الناصر وقال: يا خوند إن الأمير حسام الدين هو من خيار الأمراء؛ ينصح للمسلمين ويحفظ الطريق وهو من الشجعان، والأرمن يريدون الفساد في بلاد المسلمين فيمنعهم ويقهرهم، وإنما أرادوا إضعاف شوكة المسلمين بقتله، ولم يَزَلْ به حتى أنفذ أمرًا ثانيًا بسراحه والخلع عليه ورَدِّه لموضعه، ودعا الملك الناصر بريديًّا يُعْرَف بالأفوش، وكان لا يُبْعَث إلا في مُهِمِّ أَمْرِه بالإسراع والجد في السير، فسار من مصر إلى حلب في خمس وهي مسيرة شهر، فوَجَدَ أمير حلب قد أحضر حسام الدين وأَخْرَجَه إلى الموضع الذي يُخْنَق به الناس، فخَلَّصَه الله تعالى وعاد إلى موضعه، ولَقِيتُ هذا الأمير ومعه قاضي بغراس شرف الدين الحموي بموضع يقال له: العمق، متوسط بين أنطاكية وتيزين وبغراس ينزله التركمان بمواشيهم لخصبه وسعته.

ثم سافرت إلى حصن القُصَيْرِ (تصغير قصر) وهو حِصْن حَسَنٌ أميره علاء الدين الكردي، وقاضيه شهاب الدين الأرمنتي من أهل الديار المصرية، ثم سافرت إلى حصن الشُّغْرُ بُكاس (وضبط اسمه بضم الشين المعجم وإسكان الغين المعجم وضم الراء والباء الموحدة وآخره سين مهملة)، وهو منيع في رأس شاهق، أميره سيف الدين الطنطاش فاضل، وقاضيه جمال الدين بن شجرة من أصحاب ابن تيمية.

ثم سافرت إلى مدينة صهيون، وهي مدينة حسنة بها الأنهار المطردة والأشجار المورقة، ولها قلعة جيدة، وأميرها يُعْرَف بالإبراهيمي وقاضيها محيي الدين الحمصي، وبخارجها زاوية في وسط بستان فيها الطعام للوارد والصادر، وهي على قبر الصالح العابد عيسى البدوي رحمه الله، وقد زرت قبره ثم سافرت منها فمررت بحصن القدموس (وضبط اسمه بفتح القاف وإسكان الدال المهمل وضم الميم وآخره سين مهمل)، ثم بحصن المينقة (وضبط اسمه بفتح الميم وإسكان الياء وفتح النون والقاف)، ثم بحصن العليقة واسمه على لفظ واحدة العليق، ثم بحصن مصياف (وصاده مهملة)، ثم بحصن الكهف.

وهذه الحصون لطائفة يقال لهم الإسماعيلية، ويقال لهم الفداوية، ولا يدخل عليهم أحد من غيرهم، وهم سهام الملك الناصر بهم يُصِيبُ من يعدو عنه من أعدائه بالعراق وغيرها ولهم المرتبات، وإذا أراد السلطان أن يبعث أَحَدَهُم إلى اغتيال عدوٍّ له أعطاه دِيَتَه، فإن سَلِمَ بعد تأني ما يراد منه فهي له، وإن أُصِيبَ فهي لولده، ولهم سكاكين مسمومة يضربون بها من بُعِثُوا إلى قَتْله، وربما لم تَصِحَّ حِيَلُهُمْ فقُتِلُوا كما جرى لهم مع المير قراسنقور، فإنه لما هَرَبَ إلى العراق بعث إليه الملك الناصر جملة منهم فقُتِلُوا، ولم يقدروا عليه لأخذه بالحزم.

حكاية

كان قراسنقور من كبار الأمراء، وممن حضر قَتْلَ الملك الأشرف أخي الملك الناصر وشارك فيه، ولما تَمَهَّدَ المُلْك للملك الناصر وقَرَّ به القرار واشتدت أواخي سلطانه جَعَلَ يتتبَّع قَتَلَة أخيه فيقتلهم واحدًا واحدًا إظهارًا للأخذ بثأر أخيه وخوفًا أن يتجاسروا عليه بما تجاسروا على أخيه، وكان قراسنقور أمير الأمراء بحلب، فكتب الملك الناصر إلى جميع الأمراء أن ينفروا بعساكرهم، وجعل لهم ميعادًا يكون فيه اجتماعهم بحلب ونزولهم عليها حتى يقبضوا عليه، فلما فعلوا ذلك خاف قراسنقور على نفسه، وكان له ثمانمائة مملوك، فركب فيهم وخرج على العساكر صباحًا فاخترقهم وأَعْجَزَهُم سبقًا، وكانوا في عشرين ألفًا، وقصد منزل أمير العرب مهنا بن عيسى وهو على مسيرة يومين من حلب، وكان مهنا في قنص له فقصد بيته ونزل عن فرسه وألقى العمامة في عنق نفسه ونادى: الجوار يا أمير العرب، وكانت هنالك أم الفضل زوج مهنا وبنت عمه فقالت له: قد أَجَرْناك وأَجَرْنا مَنْ معك، فقال: إنما أَطْلُب أولادي ومالي، فقالت له: لك ما تحب فانزل في جوارنا، ففعل ذلك، وأتى مهنا فأحْسَنَ نُزُلَه وحَكَّمه في ماله، فقال: إنما أحب أهلي ومالي الذي تَرَكْتُه بحلب، فدعا مهنا بإخوته وبني عمه فشَاوَرَهُم في أَمْره، فمنهم من أجابه إلى ما أراد، ومنهم من قال له: كيف نحارب الملك الناصر ونحن في بلاده بالشام، فقال لهم مهنا: أما أنا فأفعل لهذا الرجل ما يريده، وأذهب معه إلى سلطان العراق، وفي أثناء ذلك وَرَدَ عليهم الخبر بأن أولاد قراسنقور سيروا على البريد إلى مصر، فقال مهنا لقراسنقور: أما أولادك فلا حيلة فيهم، وأما مالُك فنجتهد في خلاصه، فركب فيمن أطاعه من أهله، واستنفر من العرب نحو خمسة وعشرين ألفًا، وقصدوا حلب فأحرقوا باب قلعتها وتَغَلَّبُوا عليها واستخلصوا منها مال قراسنقور ومن بقي من أهله ولم يَتَعَدَّوْا إلى سوى ذلك.

وقَصَدُوا مَلِك العراق وصَحِبَهم أمير حمص الأفرم، ووصلوا إلى الملك محمد خدابنده سلطان العراق وهو بموضع مصيفه المسمى قراباغ (بفتح القاف والراء والباء الموحدة والغين المعجمة)، وهو ما بين السلطانية وتبريز، فأَكْرَمَ نُزُلَهُم وأعطى مهنا عراق العرب، وأعطى قراسنقور مدينة مراغة من عراق العجم (وتُسَمَّى دمشق الصغيرة) وأعطى الأفرم همدان، وأقاموا عنده مدةً مات فيها الأفرم، وعاد مهنا إلى الملك الناصر بعد مواثيق وعهود أَخَذَهَا منه، وبقي قراسنقور على حاله، وكان الملك الناصر يبعث له الفداوية مرة بعد مرة، فمنهم من يدخل عليه داره فيُقْتَل دونه ومنهم من يرمي بنفسه عليه وهو راكب فيضربه، وقتل بسببه من الفداوية جماعة، وكان لا يفارق الدرع أبدًا، ولا ينام إلا في بيت العود والحديد، فلما مات السلطان محمد وولي ابنه أبو سعيد وَقَعَ ما سنذكره مِنْ أَمْر الجو بأن كبير أمرائه وفرار ولده الدمرطاش إلى الملك الناصر، ووقعت المراسلة بين الملك الناصر وبين أبي سعيد، واتفقا على أنْ يبعث أبو سعيد إلى الملك الناصر برأس قراسنقور ويبعث إليه الملك الناصر برأس الدمرطاش، فبعث الملك الناصر برأس الدمرطاش إلى أبي سعيد، فلما وَصَلَهُ أَمْرٌ بحمل قراسنقور إليه، فلما عرف قراسنقور بذلك أخذ خاتمًا كان له مجوفًا في داخله سم ناقع، فنزع فصه وامتص ذلك السم، فمات لحينه فعَرَّفَ أبو سعيد بذلك الملكَ الناصر ولم يبعث له برأسه، ثم سافرْتُ من حصون الفداوية إلى مدينة جبلة، وهي ذات أنهار مطردة وأشجار، والبحر على نحو ميل منها، وبها قبر الولي الصالح الشهير إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه، وهو الذي نَبَذَ المُلْك وانقطع إلى الله تعالى حسبما شُهِرَ ذلك، ولم يكن إبراهيم من بيت مُلْك كما يظنه الناس، إنما وَرِثَ المُلْك عن جده أبي أمه، وأما أبوه أدهم، فكان من الفقراء الصالحين السائحين المتعبدين الورعين المنقطعين.

حكاية أدهم

يُذْكَر أنه مرَّ ذات يوم ببساتين مدينة بخارى وتوضأ من بعض الأنهار التي تتخللها، فإذا بتفاحة يحملها ماء النهر فقال: هذه لا خطر لها فأكلها، ثم وَقَعَ في خاطره من ذلك وسواس، فعزم على أن يستحل من صاحب البستان فقرع باب البستان، فخرجت إليه جارية، فقال لها: ادعي لي صاحب المنزل، فقالت: إنه لامرأة، فقال: استأذني لي عليها، ففَعَلَتْ، فأخبر المرأة بخبر التفاحة، فقالت له: إن هذا البستان نصفه لي ونصفه للسلطان، والسلطان يومئذٍ ببلخ، وهي مسيرة عشرة من بخارى، وأَحَلَّتْه المرأة من نصفها، وذَهَبَ إلى بلخ، فاعترض السلطانَ في موكبه، فأخبره الخبر واستحله، فأمره أن يعود إليه من الغد، وكان للسلطان بنت بارعة الجمال قد خَطَبَهَا أبناء الملوك، فتمنَّعَتْ وحببت إليها العبادة وحب الصالحين، وهي تحب أن تتزوج من وَرِع زاهد في الدنيا، فلما عاد السلطان إلى منزله أخبر بنته بخبر أدهم وقال: ما رأيت أَوْرَعَ من هذا، يأتي من بخارى إلى بلخ لأجل نصف تفاحة! فرَغِبَتْ في تزوُّجه، فلما أتاه من الغد قال: لا أُحِلُّكَ إلا أن تتزوج ببنتي، فانقاد لذلك بعد استعصاء وتمنُّع فتزوَّج منها، فلما دَخَلَ عليها وَجَدَهَا متزينة والبيت مزين بالفرش وسواها، فعمد إلى ناحية من البيت وأقبل على صلاته حتى أصبح، ولم يَزَلْ كذلك سبع ليال، وكان السلطان ما أحله قبلُ فبعث إليه أن يحله، فقال: لا أحلك حتى يَقَعَ اجتماعك بزوجتك، فلما كان الليل واقَعَها ثم اغتسل وقام إلى الصلاة، فصاح صيحةً وسجد في مصلاه فوُجِدَ ميِّتًا رحمه الله، وحَمَلَتْ منه فولدت إبراهيم ولم يكن لجده ولد فأُسْنِد المُلْك إليه، وكان مِنْ تَخَلِّيه عن الملك ما اشْتُهِر.

وعلى قبر إبراهيم بن أدهم زاوية حسنة فيها بِرْكة ماء وبها الطعام للصادر والوارد، وخادمها إبراهيم الجمحي من كبار الصالحين، والناس يقصدون هذه الزاوية ليلة النصف من شعبان من سائر أقطار الشام ويقيمون بها ثلاثًا ويقوم بها خارِجَ المدينة سوق عظيم فيه من كل شيء ويَقْدِم الفقراء المتجردون من الآفاق بحضور هذا الموسم، وكل من يأتي من الزوار لهذه التربة يعطي لخادمها شمعة فيجتمع من ذلك قناطير كثيرة، وأكثر أهل هذه السواحل هم الطائفة النصيرية الذين يعتقدون أن علي بن أبي طالب إله، وهم لا يُصَلُّون ولا يتطهرون ولا يصومون، وكان الملك الظاهر أَلْزَمَهُمْ بناء المساجد بقراهم، فبَنَوْا بكل قريةٍ مسجدًا بعيدًا عن العمارة، ولا يدخلونه ولا يعمرونه، وربما آوت إليه مواشيهم ودوابهم، وربما وَصَلَ الغريب إليهم فينزل بالمسجد ويؤذن للصلاة فيقولون له: لا تنهق علفك يأتيك. وعددهم كثير.

حكاية

ذُكِرَ لي أن رجلًا مجهولًا وَقَعَ ببلاد هذه الطائفة فادعى الهداية وتكاثروا عليه فوعدهم بتملك البلاد وقسم بينهم بلاد الشام، وكان يعين لهم البلاد ويأمرهم بالخروج إليها ويعطيهم من ورق الزيتون، ويقول لهم: استظهروا بها فإنها كالأوامر لكم، فإذا خرج أحدهم إلى بلد أَحْضَرَهُ أميرها، فيقول له: إن الإمام المهدي أعطاني هذا البلد، فيقول له: أين الأمر، فيخرج ورق الزيتون فيضرب ويحبس، ثم إنه أَمَرَهُمْ بالتجهيز لقتال المسلمين، وأن يَبْدَءوا بمدينة جبلة وأمرهم أن يأخذوا عوض السيوف قضبان الآس، ووعدهم أنها تصير في أيديهم سيوفًا عند القتال، فغدروا مدينة جبلة وأهلها في صلاة الجمعة، فدخلوا الدور وهتكوا الحريم وثار المسلمون من مسجدهم، فأخذوا السلاح وقتلوهم كيف شاءوا، واتصل الخبر باللاذقية فأقبل أميرها بهادر عبد الله بعسكره وطيرت الحمام إلى طرابلس، فأتى أمير الأمراء بعساكره واتبعوهم حتى قتلوا منهم نحو عشرين ألفًا، وتحصن الباقون بالجبال وراسلوا ملك الأمراء، والتزموا أن يعطوه دينارًا عن كل رأس إن هو حَاوَلَ إبقاءهم، وكان الخبر قد طُيِّرَ به الحمام إلى الملك الناصر، وصدر جوابه أن يحمل عليهم السيف، فراجعه ملك الأمراء وألقى له أنهم عمال المسلمين في حراثة الأرض، وأنهم إن قُتِلُوا ضَعُفَ المسلمون لذلك فأمر بالإبقاء عليهم. ثم سافرْتُ إلى مدينة اللاذقية، وهي مدينة عتيقة على ساحل البحر يزعمون أنها مدينة الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبًا، وكنت إنما قَصَدْتُها لزيارة الولي الصالح عبد المحسن الإسكندري، فلما وَصَلْتُها وَجَدْتُه غائبًا بالحجاز الشريف، فلقيت مِنْ أصحابه الشيخين الصالحين سعيد البجائي ويحيى السلاوي، وهما بمسجد علاء الدين بن البهاء أحد فضلاء الشام وكبرائها صاحب الصدقات والمكارم، وكان قد عَمَرَ لهما زاوية بقرب المسجد، وجعل بها الطعام للوارد والصادر، وقاضيها الفقيه الفاضل جلال الدين عبد الحق المصري المالكي فاضل كريم تعلق بطيلان ملك الأمراء فَوَلَّاه قضاءها.

حكاية

كان باللاذقية رجل يُعْرَف بابن المؤيد، هجَّاء لا يسلم أحد من لسانه، مُتَّهَم في دينه مُسْتَخَفٌّ يتكلم بالقبائح من الإلحاد، فعَرَضَتْ له حاجة عند طيلان ملك الأمراء فلم يَقْضِها له، فقَصَدَ مصر وتَقَوَّل عليه أمورًا شنيعة، وعاد إلى اللاذقية، فكتب طيلان إلى القاضي جلال الدين أنْ يَتَحَيَّل في قَتْله بوجه شرعي، فدعاه القاضي إلى منزله وباحَثَه واستخرج كامِنَ إلحاده، فتكلم بعظائم أَيْسَرُها يُوجِب القتل، وقد أعدَّ القاضي الشهود خَلْف الحجاب، فكتبوا عقدًا بمقاله، وثُبِّتَ عند القاضي وسُجِنَ، وأُعْلِم ملك الأمراء بقضيته.

ثم أُخْرِجَ من السجن وخُنِقَ على بابه، ثم لم يلبث ملك الأمراء طيلان أن عُزِلَ عن طرابلس ووَلِيَها الحاج قرطية من كبار الأمراء وممن تَقَدَّمَت له فيها الولاية، وبينه وبين طيلان عداوة فجعل يَتْبع سقطاته، وقام لديه إخوة ابن المؤيد شاكين من القاضي جلال الدين، فأُمِرَ به وبالشهود الذين شهدوا على ابن المؤيد، فأُحْضِروا وأُمِرَ بخنقهم وأُخْرِجوا إلى ظاهر المدينة، حيث يُخْنَق الناس، وأُجْلِس كل واحد منهم تحت مُخْتَنَقه ونُزِعَت عمائمهم، ومن عادة أمراء تلك البلاد أنه متى أُمِرَ أحدهم بقتل أحد من الناس يمر الحاكم من مجلس الأمير سبقًا على فرسه إلى حيث المأمور بقتله، ثم يعود إلى الأمير فيكرر استئذانه، يفعل ذلك ثلاثًا، فإذا كان بعد الثلاث أُنْفِذَ الأمر، فلما فعل الحاكم ذلك قامت الأمراء في المرة الثالثة وكشفوا رءوسهم وقالوا: أيها الأمير هذه سبة في الإسلام، يُقْتَل القاضي والشهود! فقَبِلَ الأمير شفاعتهن وخلى سبيلهم.

وبخارج اللاذقية الدير المعروف بدير الفاروص، وهو أعظم دير بالشام ومصر يسكنه الرهبان ويقصده النصارى من الآفاق، وكُلُّ من نَزَلَ به من المسلمين فالنصارى يضيفونه، وطعامهم الخبز والجبن والزيتون والخل والكبر، وميناء هذه المدينة عليها سلسلة بين برجين لا يدخلها أحد ولا يخرج منها حتى تُحَطَّ له السلسلة، وهي من أحسن المراسي بالشام، ثم سافرْتُ إلى حسن المرقب، وهو من الحصون العظيمة يماثل حصْن الكرك، ومبناه على جبلٍ شامخ وخارجه ربض ينزله الغرباء ولا يدخلون قَلْعَتَه، وافتَتَحَه من أيدي الروم الملك المنصور قلاوون، وعليه ولد ابنه الملك الناصر، وكان قاضيه برهان الدين المصري من أفاضل القضاة وكرمائهم، ثم سافرْتُ إلى الجبل الأقرع، وهو أعلى جبل بالشام وأول ما يظهر منها من البحر، وسكانه التركمان، وفيه العيون والأنهار، وسافرت منه إلى جبل لبنان، وهو من أخصب جبال الدنيا، فيه أصناف الفواكه وعيون الماء والظلال الوافرة، ولا يخلو من المنقطعين إلى الله تعالى والزهاد والصالحين، وهو شهير بذلك، ورأيت به جماعة من الصالحين قد انقطعوا إلى الله تعالى ممن لم يشتهر اسمه.

حكاية

أخبرني بعض الصالحين الذين لقيتهم به، قال: كنا بهذا الجبل مع جماعة من الفقراء أيام البرد الشديد، فأوقدنا نارًا عظيمة وأحدَقْنا بها، فقال بعض الحاضرين: يصلح لهذه النار ما يشوى فيها، فقال أحد الفقراء ممن تزدريه الأعين ولا يُعْبأ به: إني كنت عند صلاة العصر بمتعبد إبراهيم بن أدهم، فرأيت بمقربة منه حمار وحْش قد أَحْدَقَ الثلج به من كل جانب، وأظنه لا يقدر على الحراك، فلو ذَهَبْتُم إليه لَقَدَرْتُم عليه وشويتم لحمه في هذه النار، قال: فقمنا إليه في خمسة رجال فلقيناه كما وصف إلينا، فقبضناه وأتينا به أصحابنا وذبحناه وشوينا لحمه في تلك النار، وطلبنا الفقير الذي نَبَّهَ عليه فلم نَجِدْهُ ولا وَقَعْنَا له على أَثَرٍ، فطال عَجَبُنا منه، ثم وَصَلْنا من جبل لبنان إلى مدينة بعلبك، وهي حسنة قديمة من أطيب مدن الشام تحدق بها البساتين الشريفة والجنات المنيفة، وتخترق أرضها الأنهار الجارية، وتضاهي دمشق في خيراتها المتناهية، وبها من حب الملوك ما ليس في سواها، وبها يُصْنَع الدِّبس المنسوب إليها، وهو نوع من الرُّب يصنعونه من العنب، ولهم تربة يضعونها فيه فيجمد وتُكْسَر القلة التي يكون بها فيبقى قطعة واحدة، وتُصْنَع منه الحلواء ويُجْعَل فيها الفستق واللوز ويسمونها حلواء بالملبن ويسمونها أيضًا بجلد الفرس، وهي كثيرة الألبان وتُجْلَب منها إلى دمشق، وبينهما مسيرة يوم للمجد، وأما الرفاق فيخرجون من بعلبك فيبيتون ببلدة صغيرة تُعْرَف بالزبداني كثيرة الفواكه ويغدون منها إلى دمشق، ويصنع ببعلبك الثياب المنسوبة إليها من الإحرام وغيره، ويُصْنَع بها أواني الخشب وملاعقه التي لا نظير لها في البلاد، وهم يُسَمُّون الصحاف بالدسوت، وربما صنعوا الصحفة وصنعوا صحفة أخرى تَسَعُ في جوفها وأخرى في جوفها إلى أن يبلغوا العشرة يُخَيَّل لرائيها أنها صحفة واحدة، وكذلك الملاعق يصنعون منها عشرة واحدة في جوف واحدة يصنعون لها غشاء من جلد ويمسكها الرجل في حزامه، وإذا حضر طعامًا مع أصحابه أخرج ذلك، فيظن رائيه أنها ملعقة واحدة، ثم يخرج من جوفها تسعة.

وكان دخولي لبعلبك عشية النهار، وخَرَجْتُ منها بالغدو لفرط اشتياقي إلى دمشق، ووصَلْتُ يوم الخميس التاسع من شهر رمضان المعظم عام ستة وعشرين إلى مدينة دمشق الشام، فنزلْتُ منها بمدرسة المالكية المعروفة بالشرابشية، ودمشق هي التي تَفْضُل جميع البلاد حُسْنًا وتَتَقَدَّمُها جمالًا، وكل وَصْف وإن طال فهو قاصر عن محاسنها، ولا أبدع مما قاله أبو الحسين بن جبير رحمه الله تعالى في ذِكْرها، قال: وأما دمشق فهي جنة المشرق، ومَطْلع نورها المُشرق، وخاتمة بلاد الإسلام التي استقريناها، وعروس المدن التي اجتليناها، قد تَحَلَّتْ بأزاهير الرياحين، وتَجَلَّتْ في حلل سندسية من البساتين، وحَلَّتْ موضع الحُسْن بالمكان المكين، وتزينَتْ في منصتها أَجْمَلَ تزيين، وتشرفَتْ بأن آوى المسيح عليه السلام وأمه منها إلى ربوة ذات قرار ومعين، ظل ظليل، وماء سلسبيل، تنساب مذانبه انسياب الأراقم بكل سبيل، ورياض يحيي النفوس نسيمها العليل، تتبرج لناظريها بمجتلًى صقيل، وتناديهم: هَلُمُّوا إلى معرس للحُسْن ومَقِيل، وقد سئمتْ أرضُها كثرة الماء، حتى اشتاقت إلى الظماء، فتكاد تناديك بها الصم الصلاب، ارْكُضْ برجْلِك هذا مغتسل بارد وشراب، وقد أحدقت البساتين بها إحداق الهالة بالقمر، والأكمام بالثمر، وامتدت بشرقيِّها غوطتها الخضراء امتداد البصر، وكل موضع لحظت بجهاتها الأربع نضْرَتَه اليانعة قيد البصر، ولله صِدْق القائلين عنها: إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك فيها، وإن كانت في السماء فهي تساميها وتحاذيها، قال ابن جزي وقد نَظَمَ بعض شعرائها في هذا المعنى، فقال (خفيف):

إن تَكُنْ جنةُ الخلودِ بأرضٍ
فدمشق ولا تكون سِوَاهَا
أو تَكُنْ في السماء فهْي عَلَيْهَا
قد أَبَدَّتْ هواءها وهواها
بلد طيب ورب غفور
فاغتنمها عشيةً وضحاها

وذكرها شيخنا المحدث الرحَّال شمس الدين أبو عبد الله محمد بن جابر بن حسان القيسي الوادي أشي نزيل تونس، ونص كلام ابن جبير، ثم قال: ولقد أَحْسَنَ فيما وَصَفَ منها وأجاد، وتَوَّقَ الأنفس للتطلع على صورتها بما أفاد، هذا وإن لم تكن له بها إقامة، فيُعْرِب عنها بحقيقة علامة، ولا وصف ذهبيات أصيلها، وقد حان من الشمس غروبها، ولا أزمان جفولها المنوعات، ولا أوقات سرورها المنبهات، وقد اختص من قال: أَلْفَيْتُها كما تصف الألسن، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، قال ابن جزي: والذي قالَتْه الشعراء في وَصْف محاسن دمشق لا يُحْصَر كَثْرَةً، وكان والدي رحمه الله كثيرًا ما يُنْشِد في وَصْفها هذه الأبيات، وهي لشرف الدين بن محسن رحمه الله تعالى (طويل):

دمشق بنا شَوْقٌ إليها مبرح
وإن لَجَّ واشٍ أو أَلَحَّ عذولُ
بلاد بها الحصباء دُرٌّ وتربها
عبير وأنفاس الشمال شمولُ
تَسَلْسَلَ فيها ماؤها وهْو مطلق
وصح نسيم الروض وهْو عليل

وهذا من النمط العالي من الشعر، وقال فيها عرقلة الدمشقي الكلبي (كامل):

الشام شامةُ وَجْنَةِ الدنيا كما
إنسانُ مُقْلَتِها الغضيضة جلق
من آسها لَكَ جنة لا تنقضي
ومن الشقيق جهنم لا تحرق

وقال أيضًا فيها:

أما دمشق فجنات معجلة
للطالبين بها الولدان والحورُ
ما صاح فيها على أوتاره قمرٌ
إلا يغنيه قمريٌّ وشحرورُ
يا حبذا ودروع الماء تنسجها
أنامل الريح إلا أنها زورُ

وله فيها أشعار كثيرة سوى ذلك، وقال فيها أبو الوحش سبع بن خلف الأسدي (رجز):

سقى دمشق الله غيثًا محسنًا
من مستهل ديمة دهاقها
مدينة ليس يضاهى حسنها
في سائر الدنيا ولا آفاقها
تَوَدُّ زوراء العراق أنها
منها ولا تعزى إليَّ عراقها
فأرضها مثل السماء بهجة
وزهرها كالزهر في إشراقها
نسيم روضها متى ما قد سرى
فَكَّ أخا الهموم من وثاقها
قد رتع الربيع في ربوعها
وسيقت الدنيا إلى أسواقها
لا تسأم العيون والأنوف من
رؤيتها يومًا ولا استنشاقها

ومما يناسب هذا للقاضي الفاضل عبد الرحمن البيساني فيها من قصيدة، وقد نُسِبَتْ أيضًا لابن المنير (كامل):

يا برق هل لكَ في احتمال تحية
عَذُبَتْ فصارت مثل مائك سَلْسَلَا
باكِرْ دمشق بمشق الحيا
زهر الرياض مرصعًا ومُكَلَّلَا
واجرر بجيرون ذيولك واخْتَصِصْ
مغنًى تأَزَّرَ بالعلا وتَسَرْبَلَا
حيث الحيا الربعي محلول الحبا
والوابل الربعي مفري الكلَا

وقال فيها أبو الحسن علي بن موسى بن سعد العنسي الغرناطي المدعو نور الدين (بسيط):

دمشقُ مَنْزِلُنا حيث النعيم بَدَا
مكملًا وهْو في الآفاق مختصرُ
القصْب راقصة والطير صادحة
والزَّهْر مرتفعٌ والماء مُنْحَدِرُ
وقد تَجَلَّتْ من اللذات أَوْجُهُهَا
لكنها بظلال الدَّوْح تَسْتَتِرُ
وكل وادٍ به موسى يُفَجِّرُه
وكل روضٍ على حافاته الخُضَرُ

وقال أيضًا فيها:

خَيِّمْ بجلق بين الكأس والوترِ
في جنة هي ملء السمع والبصرِ
ومَتِّعِ الطرف في مرأى محاسنه
ورَوِّض الفكر بين الروضِ والنهرِ
وانظر إلى ذهبيات الأصيل بها
واسمع إلى نغمات الطير في الشجرِ
وقل لمن لام في لذاته بشرًا
دَعْنِي فإنك عندي من سوقة البشرِ

وقال فيها أيضًا (كامل):

أما دمشق فجنةٌ
ينسى بها الوطنَ الغريبْ
لله أيام السبو
ت بها ومنظرها العجيبْ
انظر بعينك هل ترى
إلا محبًّا أو حبيبْ
في مَوْطِنٍ غَنَّى الحما
م به على رَقْصِ القضيبْ
وغدت أَزَاهِرُ رَوْضِهِ
تختال في فرج وطيبْ

وأهل دمشق لا يعملون يوم السبت عملًا، إنما يخرجون إلى المتنزهات وشطوط الأنهار ودوحات الأشجار بين البساتين النضرة والمياه الجارية، فيكونون بها يومهم إلى الليل، وقد طال بنا الكلام في محاسن دمشق، فلنرجع إلى كلام الشيخ أبي عبد الله.

ذِكْر جامع دمشق المعروف بجامع بني أمية

وهو أعظم مساجد الدنيا احتفالًا وأَتْقَنُها صناعةً وأَبْدَعُها حسنًا وبهجة وكمالًا، ولا يُعْلَم له نظير ولا يوجد له شبيه، وكان الذي تولى بناءه وإتقانه أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بن مروان، ووَجَّهَ إلى ملك الروم بقسطنطينية يأمره أن يَبْعَثَ إليه الصناع، فبعث إليه اثني عشر ألف صانع، وكان موضع المسجد كنيسة، فلما افتتح المسلمون دمشق دَخَلَ خالد بن الوليد رضي الله عنه من إحدى جهاتها بالسيف، فانتهى إلى نصف الكنيسة، ودخل أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه من الجهة الغربية صُلْحًا، فانتهى إلى نصف الكنيسة، فصَنَعَ المسلمون من نِصْف الكنيسة الذي دَخَلُوه عنوة مسجدًا، وبقي النصف الذي صالحوا عليه كنيسة، فلما عزم الوليد على زيادة الكنيسة في المسجد، طَلَبَ من الروم أن يبيعوا منه كنيستهم تلك بما شاءوا من عوض، فأبوا عليه، فانتزعها من أيديهم، وكانوا يزعمون أن الذي يهدمها يُجَنُّ، فذكروا ذلك للوليد فقال: أنا أول من يُجَنُّ في سبيل الله، وأَخَذَ الفأس وجَعَلَ يهدم بنفسه، فلما رأى المسلمون ذلك تتابعوا على الهدم، وأَكْذَبَ الله زَعْم الروم. وزُيِّنَ هذا المسجد بفصوص الذهب المعروفة بالفسيفساء تخالطها أنواع الأصبغة الغريبة الحُسْن، وذرع المسجد في الطول من الشرق إلى الغرب مائتا خطوة، وهي ثلاثمائة ذراع وعَرْضُه من القبلة إلى الجوف مائة وخمس وثلاثون خطوة وهي مائتا ذراع، وعدد شمسات الزجاج الملونة التي فيه أربع وسبعون، وبلاطاته ثلاثة مستطيلة من شرق إلى غرب سعة كل بلاط منها ثمان عشرة خطوة، وقد قامت على أربع وخمسين سارية وثماني أرجل حصية تتخللها، وست أرجل مرخمة مرصعة بالرخام الملون، قد صُوِّرَ فيها أشكال محاريب وسواها، وهي ثقل قبة الرصاص التي أمام المحراب المسماة بقبة النسر، كأنهم شبهوا المسجد نسرًا طائرًا والقبة رأسه، وهي من أعجب مباني الدنيا.

ومن أي جهة اسْتَقْبَلْتَ المدينة بَدَتْ لك قبة النسر ذاهبة في الهواء منيفة على جميع مباني البلد، وتستدير بالصحن بلاطات ثلاثة من جهاته الشرقية والغربية والجوفية، سعة كل بلاط منها عشر خطًا، وبها من السواري ثلاث وثلاثون ومن الأرجل أربع عشرة، وسعة الصحن مائة ذراع، وهو من أجمل المناظر وأَتَمِّها حُسْنًا، وبها يَجْتَمِع أهل المدينة بالعشايا، فمِنْ قارئ ومُحَدِّث وذاهب، ويكون انصرافهم بعد العشاء الأخيرة، وإذا لقي أحد كبراءهم من الفقهاء وسواهم صاحبًا له أَسْرَعَ كلٌّ منهما نحو صاحبه وحَطَّ رأسه، وفي هذا الصحن ثلاث من القباب، إحداها في غربيه وهي أكبرها، وتسمى قبة عائشة أم المؤمنين، وهي قائمة على ثماني سَوارٍ من الرخام مزخرفة بالفصوص والأصبغة الملونة مسقفة بالرصاص، يقال: إن مال الجامع كان يُخْتَزَن بها، وذُكِرَ لي أن فوائد مستغلات الجامع وجبايته نحو خمسة وعشرين ألف دينار ذهبًا في كل سنة، والقبة الثانية من شرقي الصحن على هيئة الأخرى، إلا أنها أصغر منها قائمة على ثمانٍ من سواري الرخام، وتُسَمَّى قبة زين العابدين، والقبة الثالثة في وسط الصحن، وهي صغيرة مثمنة من رخام عجيب مُحْكَم الإلصاق، قائمة على أربع سواري من الرخام الناصع، وتحتها شباك حديد في وسطه أنبوب نحاس يَمُجُّ الماء إلى علو، فيرتفع ثم ينثني كأنه قضيب لجين، وهم يسمونه قَفَصَ الماء، ويَسْتَحْسِن الناس وَضْع أفواههم فيه للشرب، وفي الجانب الشرقي من الصحن باب يُفْضِي إلى مسجدٍ بديع الوضع، يسمى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويقابله من الجهة الغربية؛ حيث يلتقي البلاطان الغربي والجوفي موضعٌ يقال إن عائشة رضي الله عنها سمعت الحديث هنالك.

وفي قبلة المسجد المقصورةُ العظمى التي يؤم فيها إمام الشافعية، وفي الركن الشرقي منها إزاء المحراب خزانة كبيرة فيها المصحف الكريم الذي وَجَّهَه أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى الشام، وتُفْتَح تلك الخزانة كلَّ يوم جمعة بعد الصلاة، فيزدحم الناس على لَثْم ذلك المصحف الكريم، وهنالك يُحَلِّف الناسُ غرماءهم ومن ادَّعَوْا عليه شيئًا، وعن يسار المقصورة محراب الصحابة، ويَذْكُر أهل التاريخ أنه أول محراب وُضِعَ في الإسلام، وفيه يؤم إمام المالكية، وعن يمين المقصورة محراب الحنفية، وفيه يؤم إمامهم، ويليه محراب الحنابلة، وفيه يؤم إمامهم. ولهذا المسجد ثلاث صوامع إحداها بشرقيِّه وهي من بناء الروم، وبابها داخل المسجد، وبأسفلها مَطْهَرَة وبيوت للوضوء، يغتسل فيها المعتكفون والملتزمون للمسجد ويتوضئون، والصومعة الثانية بغربيِّه وهي أيضًا من بناء الروم، والصومعة الثالثة بشماله وهي من بناء المسلمين، وعدد المؤذنين به سبعون مؤذنًا، وفي شرقي المسجد مقصورة كبيرة فيها صهريج ماء، وهي لِطائفة الزيالعة السودان، وفي وسط المسجد قَبْر زكريا عليه السلام، وعليه تابوت معترض بين أسطوانتين مكسو بثوب حرير أسود معلم فيه مكتوب بالأبيض: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى، وهذا المسجد شهير الفضل، وقَرَأْتُ في فضائل دمشق عن سفيان الثوري: أن الصلاة في مسجد دمشق بثلاثين ألف صلاة، وفي الأثر عن النبي أنه قال: «يُعْبَد الله فيه بعد خراب الدنيا أربعين سنة.»

ويقال: إن الجدار القبلي منه وَضَعَه نبي الله هود عليه السلام وأن قَبْرَه به، وقد رأيت على مقربة من مدينة ظفار اليمن بموضع يقال له الأحقاف بِنْية فيها قَبْر مكتوب عليه: هذا قبر هود بن عابر ، ومن فضائل هذا المسجد أنه لا يخلو عن قراءة القرآن والصلاة إلا قليلًا من الزمان كما سنذكره، والناس يجتمعون به كل يوم إثر صلاة الصبح، فيقرءون سبعًا من القرآن، ويجتمعون بعد صلاة العصر لقراءة تسمى الكوثرية، يقرءون فيها من سورة الكوثر إلى آخر القرآن، وللمجتمعين على هذه القراءة مرتبات تُجْرَى لهم وهم نحو ستمائة إنسان، ويدور عليهم كاتب الغيبة، فمن غاب منهم قَطَعَ له عند دفع المرتب بقدر غيبته، وفي هذا المسجد جماعة كبيرة من المجاورين لا يخرجون منه مُقْبِلون على الصلاة والقراءة والذكر لا يفترون عن ذلك، ويتوضئون من المطاهر التي بداخل الصومعة الشرقية التي ذكرناها، وأهل البلد يعينونهم بالمطاعم والملابس من غير أن يسألوهم شيئًا من ذلك، وفي هذا المسجد أربعة أبواب: باب قبلي يُعْرَف بباب الزيادة، وبأعلاه قطعة من الرمح الذي كانت فيه راية خالد بن الوليد رضي الله عنه؛ ولهذا الباب دهليز كبير مُتَّسِع فيه حوانيت السقاطين وغيرهم، ومنه يُذْهَب إلى دار الخيل، وعن يسار الخارج منه سماط الصفارين، وهي سوق عظيمة ممتدة مع جدار المسجد القبلي من أحسن أسواق دمشق، وبموضع هذه السوق كانت دار معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ودور قومه، وكانت تُسَمَّى الخضراء، فهدمها بنو العباس رضي الله عنهم وصار مكانها سوقًا، وباب شرقي وهو أعظم أبواب المسجد، ويسمى بباب جيرون، وله دهليز عظيم يُخْرَج منه إلى بلاط عظيم طويل أمامه خمسة أبواب لها ستة أعمدة طوال، وفي جهة اليسار منه مشهد عظيم، كان فيه رأس الحسين رضي الله عنه، وبإزائه مسجد صغير يُنْسَب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وبه ماء جارٍ.

وقد انتظمت أمام البلاط دَرَجَ يُنْحَدَر فيها إلى الدهليز، وهو كالخندق العظيم، يتصل ببابٍ عظيمِ الارتفاع تحته أعمدة كالجذوع طوال، وبجانِبَي هذا الدهليز أعمدة، قد قامت عليها شوارع مستديرة فيها دكاكين البزازين وغيرهم، وعليها شوارع مستطيلة فيها حوانيت الجوهريين والكتبيين وصناع أواني الزجاج العجيبة، وفي الرحبة المتصلة بالباب الأول دكاكين لكبار الشهود منها دكانان للشافعية وسائرها لأصحاب المذاهب يكون في الدكان منها الخمسة والستة من العدول والعاقد للأنكحة من قِبَل القاضي، وسائر الشهود مفترقون في المدينة، وبمقربة من هذه الدكاكين سوق الوراقين الذين يبيعون الكاغد والأقلام والمداد، وفي وسط الدهليز المذكور حوض من الرخام كبير مستدير عليه قبة لا سَقْف لها تُقِلُّها أعمدة رخام، وفي وسط الحوض أنبوب نحاس يزعج الماء بقوة فيرتفع في الهواء أزيد من قامة الإنسان يسمونه الفوارة منظره عجيب، وعن يمين الخارج من باب جيرون وهو باب الساعات غرفة لها هيئة طاق كبير فيه طيقان صغار مفتحة لها أبواب على عدد ساعات النهار والأبواب، مصبوغ باطنها بالخضرة وظاهرها بالصفرة، فإذا ذَهَبَت ساعة من النهار انقلب الباطن الأخضر ظاهرًا والظاهر الأصفر باطنًا، ويقال: إن بداخل الغرفة من يتولى قلبها بيده عند مضي الساعات، والباب الغربي يُعْرَف بباب البريد، وعن يمين الخارج منه مدرسة للشافعية، وله دهليز فيه حوانيت للمشاعين وسماط لبيع الفواكه، وبأعلاه باب يُصْعَد إليه في دَرَج له أعمدة سامية في الهواء، وتحت الدَّرَج سقايتان عن يمين وشمال مستديرتان، والباب الجوفي يُعْرَف بباب النطفانيين، وله دهليز عظيم، وعن يمين الخارج منه خانقاة تُعْرَف بالشميعانية في وسطها صهريج ماء، ولها مَطَاهر يجري فيها الماء، ويقال: إنها كانت دارَ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وعلى كل بابٍ من أبواب المسجد الأربعة دار وضوء يكون فيها نحو مائة بيت تجري فيها المياه الكثيرة.

ذكر الأئمة بهذا المسجد

وأئمته ثلاثة عشر إمامًا، أولهم إمام الشافعية، وكان في عهد دخولي إليها إمامهم قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني من كبار الفقهاء، وهو الخطيب بالمسجد، وسكناه بدار الخطابة، ويخرج من باب الحديد إزاء المقصورة، وهو الباب الذي كان يخرج منه معاوية رضي الله عنه، وقد تولى جلال الدين بعد ذلك قضاء القضاة بالديار المصرية بعد أن أَدَّى عنه الملك الناصر نحو مائة ألف درهم كانت عليه دينًا بدمشق، وإذا سلم إمام الشافعية من صلاته أقام الصلاة أمام مشهد علي ثم أمام مشهد الحسين ثم أمام الكلاسة ثم أمام مشهد أبي بكر ثم أمام مشهد عمر ثم أمام مشهد عثمان رضي الله عنهم أجمعين، ثم أمام المالكية، وكان إمامهم في عهد دخولي إليها الفقيه أبو عمر بن أبي الوليد بن الحاج التجيبي القرطبي الأصل الغرناطي المولد نزيل دمشق، وهو يتناوب الإمامة مع أخيه رحمهما الله، ثم إمام الحنفية، وكان إمامهم في عهد دخولي إليها الفقيه عماد الدين الحنفي المعروف بابن الرومي، وهو من كبار الصوفية، وله شياخة الخانقاة الخاتونية، وله أيضًا خانقاة بالشرف الأعلى، ثم إمام الحنابلة، وكان في ذلك العهد الشيخ عبد الله الكفيف أحد شيوخ القراءة بدمشق، ثم بعد هؤلاء خمسة أئمة لقضاء الفوائت فلا تزال الصلاة في هذا المسجد من أول النهار إلى ثلث الليل، وكذلك قراءة القرآن، وهذا من مفاخر هذا الجامع المبارك.

ذكر المدرسين والمعلمين به

ولهذا المسجد حلقات التدريس في فنون العلم، والمحدثون يقرءون كتب الحديث على كراسي مرتفعة، وقراء القرآن يقرءون بالأصوات الحسنة صباحًا ومساء، وبه جماعة من المعلمين لكتاب الله، يَسْتَنِد كل واحد منهم إلى سارية من سواري المسجد يُلَقِّن الصبيان ويُقْرِئهم، وهم لا يكتبون القرآن في الألواح تنزيهًا لكتاب الله تعالى، وإنما يقرءون القرآن تلقينًا، ومُعَلِّم الخط غير مُعَلِّم القرآن، يُعَلِّمهم بكتب الأشعار وسواها، فينصرف الصبي من التعليم إلى التكتيب وبذلك جاد خطه؛ لأن المعلم للخط لا يَعْلَم غيره، ومن المدرسين بالمسجد المذكور العالم الصالح برهان الدين بن الفركاح الشافعي، ومنهم العالم الصالح نور الدين أبو اليسر بن الصائغ من المشتهرين بالفضل والصلاح، ولما وَلِيَ القضاء بمصر جلال الدين القزويني وَجَّهَ إلى أبي اليسر الخلعة والأمر بقضاء دمشق فامتنع من ذلك، ومنهم الإمام العالِم شهاب الدين بن جهيل من كبار العلماء، هَرَبَ من دمشق لَمَّا امتنع أبو اليسر من قضائها خوفًا من أن يُقَلَّدَ القضاء، فاتصل ذلك بالملك الناصر، فولي قضاء دمشق شيخ الشيوخ بالديار المصرية قطب العارفين لسان المتكلمين علاء الدين القونوي، وهو من كبار الفقهاء، ومنهم الإمام الفاضل بدر الدين علي السخاوي المالكي، رحمة الله عليهم أجمعين.

ذكر قضاة دمشق

قد ذكرنا قاضي القضاة الشافعي بها جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني، وأما قاضي المالكية فهو شرف الدين بن خطيب الفيوم، حسن الصورة والهيئة، من كبار الرؤساء، وهو شيخ شيوخ الصوفية، والنائب عنه في القضاء شمس الدين بن القفصي ومجلس حكمه بالمدرسة الصمصامية، وأما قاضي قضاة الحنفية فهو عماد الدين الحوراني، وكان شديد السطوة وإليه يتحاكم النساء وأزواجهن، وكان الرجل إذا سَمِعَ اسم القاضي الحنفي أَنْصَفَ من نفسه قبل الوصول إليه، وأما قاضي الحنابلة فهو الإمام الصالح عز الدين بن مسلم من خيار القضاة، ينصرف على حمار له، ومات بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا لَمَّا تَوَجَّهَ للحجاز الشريف.

حكاية

وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيمية كبير الشام، يتكلم في الفنون إلا أن في عقله شيئًا، وكان أهل دمشق يُعَظِّمُونه أَشَدَّ التعظيم ويعظهم على المنبر، وتكلم مرة بأمر أَنْكَرَه الفقهاء ورفعوه إلى الملك الناصر، فأَمَرَ بإشخاصه إلى القاهرة وجمع القضاة والفقهاء بمجلس الملك الناصر، وتكلم شرف الدين الزواوي المالكي وقال: إن هذا الرجل قال كذا وكذا وعَدَّدَ ما أَنْكَرَ على ابن تيمية وأحضر العقود بذلك ووضعها بين يدي قاضي القضاة، وقال قاضي القضاة لابن تيمية: ما تقول؟ قال: لا إله إلا الله، فأعاد عليه فأجاب بمثل قوله، فأَمَرَ الملك الناصر بسجنه فسُجِنَ أعوامًا، وصَنَّفَ في السجن كتابًا في تفسير القرآن سماه بالبحر المحيط في نحو أربعين مجلدًا، ثم إن أمه تَعَرَّضَتْ للملك الناصر وشَكَتْ إليه فأمر بإطلاقه إلى أن وَقَعَ منه مثل ذلك ثانية، وكنْتُ إذ ذاك بدمشق فحَضَرْتُه يوم الجمعة وهو يَعِظُ الناس على منبر الجامع ويُذَكِّرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر، فعارَضَهُ فقيهٌ مالكيٌّ يُعْرَف بابن الزهراء، وأَنْكَرَ ما تَكَلَّمَ به، فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضربًا كثيرًا حتى سَقَطَتْ عمامته وظَهَرَ على رأسه شاشية حرير، فأنكروا عليه لباسها واحتملوه إلى دار عز الدين بن مسلم قاضي الحنابلة، فأَمَرَ بسجنه وعَزَّرَه بعد ذلك، فأنكر فقهاء المالكية والشافعية ما كان من تعزيزه، ورفعوا الأمر إلى ملك الأمراء سيف الدين تنكيز، وكان من خيار الأمراء وصلحائهم، فكتب إلى الملك الناصر بذلك وكتب عقدًا شرعيًّا على ابن تيمية بأمور منكرة، منها: أن المطلق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمه إلا طلقة واحدة، ومنها: المسافر الذي ينوي بسفره زيارة القبر الشريف — زاده الله طيبًا — لا يقصر الصلاة، وسوى ذلك مما يشبهه، وبعث العقد إلى الملك الناصر، فأمر بسجن ابن تيمية بالقلعة، فسُجِنَ بها حتى مات في السجن.

ذكر مدارس دمشق

اعلم أن للشافعية بدمشق جملة من المدارس أعظمها العادلية وبها يحكم قاضي القضاة، وتُقَابِلُها المدرسة الظاهرية وبها قَبْر الملك الظاهر وبها جلوس نواب القاضي، ومن نوابه فخر الدين القبطي، كان والده من كُتَّاب القبط وأسلم، ومنهم جمال الدين بن جملة، وقد تولى قضاء قضاة الشافعية بعد ذلك وعُزِلَ لأمر أَوْجَبَ عزله.

حكاية

كان بدمشق الشيخ الصالح ظهير الدين العجمي، وكان سيف الدين تنكيز ملك الأمراء يتتلمذ له ويُعَظِّمه، فحضر يومًا بدار العدل عند ملك الأمراء، وحضر القضاة الأربعة، فحكى قاضي القضاة جمال الدين بن جملة حكايةً، فقال له ظهير الدين: كَذَبْتَ، فأنف القاضي من ذلك وامتعض له، فقال للأمير: كيف يُكَذِّبُني بحضرتك؟ فقال له الأمير: احكم عليه، وسَلَّمَهُ إليه وظَنَّه أنه يرضى بذلك فلا يناله بسوء، فأحضره القاضي بالمدرسة العادلية وضَرَبَهُ مائتي سوط، وطِيفَ به على حمار في مدينة دمشق، ومنادٍ ينادي عليه، فمتى فَرَغَ من ندائه ضَرَبَهُ على ظهره ضربة، وهكذا العادة عندهم، فبلغ ذلك ملك الأمراء فأنكره أشد الإنكار، وأحضر القضاة والفقهاء، فأجمعوا على خطأ القاضي وحُكْمه بغير مذهبه، فإن التعزير عند الشافعي لا يبلغ به الحد، وقال قاضي القضاة المالكية شرف الدين: قد حَكَمْت بتفسيقه، فكتب إلى الملك الناصر بذلك فعَزَلَهُ.

وللحنفية مدارس كثيرة، وأكبرها مدرسة السلطان نور الدين، وبها يحكم قاضي القضاة الحنفية، وللمالكية بدمشق ثلاث مدارس، إحداها الصمصامية، وبها سَكَنَ قاضي القضاة المالكية وقعوده للأحكام، والمدرسة النورية، عَمَرَها السلطان نور الدين محمود بن زنكي، والمدرسة الشرابشية، عمرها شهاب الدين الشرابشي التاجر، وللحنابلة مدارس كثيرة، أعظمها المدرسة النجمية.

ذكر أبواب دمشق

ولمدينة دمشق ثمانية أبواب، منها باب الفراديس، ومنها باب الجابية، ومنها الباب الصغير، وفيما بين هذين البابين مقبرة فيها العدد الجم من الصحابة والشهداء فمن بعدهم، قال محمد بن جزي: لقد أحسن بعض المتأخرين من أهل دمشق في قوله (رجز):

دمشق في أوصافها
جنة خُلْدٍ رَاضِيَهْ
أما ترى أبوابَهَا
قد جُعِلَتْ ثَمَانِيَهْ

ذِكْر بعض المشاهد والمزارات بها

فمنها بالمقبرة التي بين البابين؛ باب الجابية والباب الصغير قبر أم حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين، وقبر أخيها أمير المؤمنين معاوية، وقبر بلال مؤذن رسول الله ورضي الله عنهم أجمعين، وقبر أويس القرني، وقبر كعب الأحبار رضي الله عنهما، ووَجَدْتُ في كتاب المعلم في شرح صحيح مسلم للقرطبي: أن جماعة من الصحابة صَحِبَهُم أويس القرني من المدينة إلى الشام، فتوفي في أثناء الطريق في بريةٍ لا عمارة فيها ولا ماء، فتَحَيَّرُوا في أمْره، فنزلوا فوجدوا حنوطًا وكفنًا وماء، فعجبوا من ذلك وغسلوه وكفنوه وصَلَّوْا عليه ودفنوه، ثم ركبوا، فقال بعضهم: كيف نترك قبره بغير علامة؟ فعادوا للموضع فلم يجدوا للقبر من أَثَرٍ، قال ابن جزي: ويقال: إن أويسًا قُتِل بصفين مع علي عليه السلام، وهو الأصح إن شاء الله، ويلي باب الجابية باب شرقي عنده جبانة فيها قبر أبي بن كعب صاحب رسول الله ، وفيها قبر العابد الصالح أرسلان المعروف بالباز الأشهب.

حكاية في سبب تسميته بذلك

يحكى أن الشيخ الوالي أحمد الرفاعي رضي الله عنه كان مسكنه بأم عبيدة بمقربة من مدينة واسط، وكانت بين ولي الله تعالى أبي مدين شعيب بن الحسين وبينه مؤاخاة ومراسلة، ويقال: إن كل واحد منهما كان يُسَلِّم على صاحبه صباحًا ومساء فيرد عليه الآخر.

وكانت للشيخ أحمد نُخَيْلَات عند زاويته، فلما كان في إحدى السنين جذها على عادته وترك عذقًا منها وقال: هذا برسم أخي شعيب، فحج الشيخ أبو مدين تلك السنة، واجتمعا بالموقف الكريم بعرفة، ومع الشيخ أحمد خديمه رسلان، فتفاوَضا الكلام، وحكى الشيخ حكاية العذق، فقال له رسلان: عن أمرك يا سيدي آتيه به، فأذن له فذهب من حينه وأتاه به ووضعه بين أيديهما، فأخبر أهل الزاوية أنهم رأوا عشية يوم عرفة بازًا أشهب قد انْقَضَّ على النخلة فقطع ذلك العذق وذهب به في الهواء، وبغربي دمشق جُبَّانة تُعْرَف بقبور الشهداء، فيها قبر أبي الدرداء وزوجه أم الدرداء، وقبر فضالة بن عبيد، وقبر واثلة بن الأسقع، وقبر سهل بن حنظلة من الذين بايعوا تحت الشجرة رضي الله عنهم أجمعين، وبقرية تُعْرَف المنيحة شرقي دمشق وعلى أربعة أميال منها قبر سعد بن عبادة رضي الله عنه، وعليه مسجد صغير حَسَن البناء، وعلى رأسه حجر فيه مكتوب: هذا قبر سعد بن عبادة رأس الخزرج صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا، وبقربه قبلي البلد وعلى فرسخ منها مشهد أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب من فاطمة عليهم السلام، ويقال: إن اسمها زينب وكناها النبي أم كلثوم لشَبَهِها بخالتها أم كلثوم بنت رسول الله ، وعليه مسجد كريم، وحوله مساكن، وله أوقاف، ويسميه أهل دمشق قبر الست أم كلثوم، وقبر آخر يقال: إنه قبر سكينة بنت الحسين بن علي عليه السلام، وبجامع النيرب من قرى دمشق في بيت بِشَرْقِيِّه قبر يقال إنه قبر أم مريم عليها السلام، وبقرية تُعْرَف بداريا غربي البلد وعلى أربعة أميال منها قبر أبي مسلم الخولاني، وقبر أبي سليمان الداراني رضي الله عنهما.

ومن مشاهد دمشق الشهيرة البركة مسجد الأقدام، وهو في قبلي دمشق على ميلين منها على قارعة الطريق الأعظم الآخذ إلى الحجاز الشريف والبيت المقدس وديار مصر، وهو مسجد عظيم كثير البركة وله أوقاف كثيرة، ويُعَظِّمه أهل دمشق تعظيمًا شديدًا، والأقدام التي يُنْسَب إليها هي أقدام مصوَّرة في حجر هنالك يقال: إنها أَثَر قَدَم موسى عليه السلام، وفي هذا المسجد بيت صغير فيه حجر مكتوب عليه: كان بعض الصالحين يرى المصطفى في النوم، فيقول له: ها هنا قبر أخي موسى عليه السلام، وبمقربة من هذا المسجد على الطريق موضع يُعْرَف بالكثيب الأحمر، وبمقربة من بيت المقدس وأريحاء موضع يُعْرَف بالكثيب الأحمر تُعَظِّمه اليهود.

حكاية

شاهدْتُ أيامَ الطاعون الأعظم بدمشق في أواخر شهر ربيع الثاني سنة تسع وأربعين من تعظيم أهل دمشق لهذا المسجد ما يُعْجَب منه، وهو أن ملك الأمراء نائب السلطان أرغون شاه أَمَرَ مناديًا ينادي بدمشق أن يصوم الناس ثلاثة أيام ولا يَطْبُخ أحد بالسوق ما يؤكل نهارًا، وأكثر الناس بها إنما يأكلون الطعام الذي يُصْنَع بالسوق، فصام الناس ثلاثة أيام متوالية كان آخرها يوم الخميس، ثم اجتمع الأمراء والشرفاء والقضاة والفقهاء وسائر الطبقات على اختلافها في الجامع حتى غصَّ بهم وباتوا ليلة الجمعة به ما بين مُصَلٍّ وذاكرٍ وداعٍ، ثم صلوا الصبح وخرجوا جميعًا على أقدامهم وبأيديهم المصاحف والأمراء حفاة، وخرج جميع أهل البلد ذكورًا وإناثًا صغارًا وكبارًا، وخرج اليهود بتوراتهم والنصارى بإنجيلهم ومعهم النساء والولدان وجميعهم باكون متضرعون متوسلون إلى الله بكتبه وأنبيائه، وقصدوا مسجد الأقدام، وأقاموا به في تَضَرُّعهم ودعائهم إلى قُرْب الزوال، وعادوا إلى البلد فصلوا الجمعة وخَفَّفَ الله تعالى عنهم ما انتهى عدد الموتى إلى ألفين في اليوم الواحد، وقد انتهى عددهم بالقاهرة ومصر إلى أربعة وعشرين ألفًا في يوم واحد، وبالباب الشرقي من دمشق منارة بيضاء، يقال: إنها التي ينزل عيسى عليه السلام عندها حسبما وَرَدَ في صحيح مسلم.

ذكر أرباض دمشق

وتدور بدمشق من جهاتها — ما عدا الشرقية — أرباض فسيحة الساحات دواخلها أملح من داخل دمشق لأجل الضيق الذي في سُكَكها، وبالجهة الشمالية منها ربض الصالحية، وهي مدينة عظيمة لها سوق لا نظير لحسنه، وفيها مسجد جامع ومارستان وبها مدرسة تُعْرَف بمدرسة ابن عمر موقوفة على من أراد أن يَتَعَلَّمَ القرآن الكريم من الشيوخ والكهول، وتجري لهم ولمن يُعَلِّمُهم كفايتهم من المآكل والملابس، وبداخل البلد أيضًا مدرسة مثل هذه تُعْرَف بمدرسة ابن منجا، وأهل الصالحية كلهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه.

ذكر قاسيون ومشاهده المباركة

وقاسيون جبل في شمال دمشق والصالحية في سفحه وهو شهير البركة؛ لأنه مصعد الأنبياء عليهم السلام، ومن مشاهده الكريمة الغار الذي وُلِدَ فيه إبراهيم الخليل عليه السلام، وهو غار مستطيل ضيق عليه مسجد كبير وله صومعة عالية، ومن ذلك الغار رأى الكوكبَ والقمرَ والشمسَ حسبما وَرَدَ في الكتاب العزيز، وفي ظَهْر الغار مقامه الذي كان يخرج إليه، وقد رأيت ببلاد العراق قرية تُعْرَف ببرص (بضم الباء الموحدة وآخرها صاد مهمل) ما بين الحلة وبغداد، يقال: إن مولد إبراهيم عليه السلام كان بها، وهي بمقربة من بلد ذي الكفل عليه السلام وبها قبره، ومن مشاهده بالغرب منه مغارة الدم وفوقها بالجبل دم هابيل بن آدم عليه السلام، وقد أبقى الله منه في الحجارة أثرًا محمرًّا، وهو الموضع الذي قَتَلَهُ أخوه به واجتره إلى المغارة، ويُذْكَر أن تلك المغارة صلى فيها إبراهيم وموسى وعيسى وأيوب ولوط صلى الله عليهم أجمعين، وعليها مسجد مُتْقَن البناء يُصْعَد إليه على دَرَج وفيه بيوت ومرافق للسكنى، ويُفْتَح في كل يوم اثنين وخميس، والشمع والسرج تُوقَد في المغارة، ومنها كَهْف بأعلى الجبل يُنْسَب لآدم عليه السلام، وعليه بناء، وأسفل منه مغارة تُعْرَف بمغارة الجوع، يُذْكَر أنه آوى إليها سبعون من الأنبياء عليهم السلام، وكان عندهم رغيف فلم يَزَلْ يدور عليهم وكُلٌّ منهم يُؤْثِر صاحبه به حتى ماتوا جميعًا صلى الله عليهم، وعلى هذه المغارة مسجد مبنيٌّ والسرج تُوقَد به ليلًا ونهارًا، ولكل مسجد من هذه المساجد أوقاف كثيرة معينة، ويُذْكَر أن فيما بين الفراديس وجامع قاسيون مدفن سبعمائة نبي، وبعضهم يقول: سبعين ألفًا، وخارج المدينة المقبرة العتيقة، وهي مدفن الأنبياء والصالحين، وفي طرفها مما يلي البساتين أرض منخفضة غلب عليها الماء يقال: إنها مدفن سبعين نبيًّا، وقد عادت قرارًا للماء ونزهت من أن يُدْفَن فيها أحد.

ذِكْر الربوة والقرى التي تواليها

وفي آخر جبل قاسيون الربوة المباركة المذكورة في كتاب الله ذات القرار والمعين، ومأوى المسيح عيسى وأمه عليهما السلام، وهي من أجمل مناظر الدنيا ومتنزهاتها، وبها القصور المشيدة والمباني الشريفة والبساتين البديعة، والمأوى المبارك مغارة صغيرة في وسطها كالبيت الصغير وإزاءها بيت يقال: إنه مصلى الخضر عليه السلام، يبادِر الناس إلى الصلاة فيها، وللمأوى باب حديد صغير والمسجد يدور به وله شوارع دائرة وسقاية حسنة ينزل لها الماء من عُلُوٍّ وينصب في شاذروان في الجدار يتصل بحوض من رخام ويقع فيه الماء ولا نظير له في الحسن وغرابة الشكل، وبقرب ذلك مَطَاهر للوضوء يجري فيها الماء، وهذه الربوة المباركة هي رأس بساتين دمشق وبها منابع مياهها، وينقسم الماء الخارج منها على سبعة أنهار، كلُّ نَهْر آخذ في جهة، ويُعْرَف ذلك الموضع بالمقاسم، وأكبر هذه الأنهار النهر المسمى بتورة، وهو يَشُقُّ تحت الربوة وقد نَحَتَ له مجرًى في الحجر الصلد كالغار الكبير، وربما انغمس ذو الجسارة من العوامين في النهر من أعلى الربوة واندفع في الماء حتى يشق مجراه ويخرج من أسفل الربوة وهي مخاطرة عظيمة، وهذه الربوة تشرف على البساتين الدائرة بالبلد، ولها من الحسن واتساع مسرح الأبصار ما ليس لسواها، وتلك الأنهار السبعة تذهب في طرق شتى، فتحار الأعين في حُسْن اجتماعها وافتراقها واندفاعها وانصبابها.

وجمال الربوة وحسنها التام أعظم من أن يُحِيطَ به الوصف، ولها الأوقاف الكثيرة من المزارع والبساتين والرباع تقام منها وظائفها للإمام والمؤذن والصادر والوارد، وبأسفل الربوة قرية النيرب، وقد تَكَاثَرَتْ بساتينها وتكاثَفَتْ ظلالها وتدانَتْ أشجارها، فلا يَظْهَر من بنائها إلا ما سما ارتفاعه، ولها حمام مليح، ولها جامع بديع مفروش صحنه بفصوص الرخام، وفيه سقاية ماء رائقة الحسن ومطهَّرة فيها بيوت عدة يجري فيها الماء، وفي القبلي من هذه القرية قرية المِزَّة وتُعْرَف بمِزَّة كلب نسبة إلى قبيلة كلب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وكانت إقطاعًا لهم، وإليها يُنْسَب الإمام حافظ الدنيا جمال الدين يوسف بن الزكي الكلبي المزي، وكثير سواه من العلماء، وهي من أعظم قرى دمشق، بها جامع كبير عجيب وسقاية معينة، وأكثر قرى دمشق فيها الحمامات والمساجد الجامعة والأسواق، وسكانها كأهل الحاضرة في مناحيهم، وفي شرقي البلد قرية تُعْرَف ببيت الأهية، وكانت فيها كنيسة يقال: إن آزر كان ينحب فيها الأصنام فيكسرها الخليل عليه السلام، وهي الآن مسجد جامع بديع مزيَّن بفصوص الرخام الملوَّنة المنظَّمة بأعجب نظام وأزين الْتئام.

ذِكْر الأوقاف بدمشق وبعض فضائل أهلها وعوائدهم

والأوقاف بدمشق لا تُحْصَر أنواعها ومصارفها لكثرتها، فمنها أوقافٌ على العاجزين عن الحج يُعْطَى لمن يحج عن الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أزواجهن، وهي اللواتي لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن، ومنها أوقاف لفكاك الأسارى، ومنها أوقاف لأبناء السبيل يُعْطَوْن منها ما يأكلون ويلبسون ويتزودون لبلادهم، ومنها أوقاف على تعديل الطريق ورَصْفها؛ لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليهما المترجلون ويمر الركبان بين ذلك، ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير.

حكاية

مررت يومًا ببعض أزقة دمشق، فرأيت به مملوكًا صغيرًا قد سَقَطَتْ من يده صحفة من الفخار الصيني وهم يُسَمُّونها الصحن، فتَكَسَّرَتْ واجتمع عليه الناس، فقال له بعضهم: اجْمَعْ شقفها واحْمِلْها معك لصاحب أوقاف الأواني، فجَمَعَهَا وذَهَبَ الرجل معه إليه، فأراه إياها فدَفَعَ له ما اشترى به مثل ذلك الصحن، وهذا من أحسن الأعمال، فإن سيد الغلام لا بد له أن يَضْرِبَه على كَسْر الصحن أو يَنْهَره، وهو أيضًا ينكسر قلبه ويتغير لأجل ذلك، فكان هذا الوقف جبرًا للقلوب، جزى الله خيرًا من تَسَامَتْ هِمَّتُهُ في الخير إلى مثل هذا، وأهل دمشق يتنافسون في عمارة المساجد والزوايا والمدارس والمشاهد، وهم يُحْسِنون الظن بالمغاربة ويطمئنون إليهم بالأموال والأهلين والأولاد، وكل من انقطع بجهة من جهات دمشق لا بد أن يتأتى له وَجْه من المعاش من إمامة مسجد أو قراءة بمدرسة أو مُلَازَمة مسجد يجيء إليه فيه رِزْقُه أو قراءة القرآن أو خدمة مشهد من المشاهد المباركة، أو يكون كجملة الصوفية بالخوانق تجرى له النفقة والكسوة، فمن كان بها غريبًا على خيرٍ لم يَزَلْ مصونًا عن بَذْل وَجْهِه محفوظًا عما يُزْرِي بالمروءة، ومن كان من أهل المهنة والخدمة، فله أسبابٌ أُخَرَ من حراسة بستان أو أمانة طاحونة أو كفالة صبيان يَغْدُو معهم إلى التعليم ويروح، ومن أراد طَلَبَ العلم أو التفرغ للعبادة وَجَدَ الإعانة التامة على ذلك.

ومن فضائل أهل دمشق أنه لا يُفْطِر أحد منهم في ليالي رمضان وحده البتة، فمن كان من الأمراء والقضاة والكبراء فإنه يدعو أصحابه والفقراء يفطرون عنده، ومن كان من التجار وكبار السوقة صَنَعَ مثل ذلك، ومن كان من الضعفاء والبادية فإنهم يجتمعون كل ليلة في دار أحدهم أو في مسجد ويأتي كلُّ أحدٍ بما عنده فيفطرون جميعًا، ولما وَرَدْتُ دمشق وَقَعَتْ بيني وبين نور الدين السخاوي مُدَرِّس المالكية صُحْبَة، فرَغِبَ مني أن أفطر عنده في ليالي رمضان، فحضرْتُ عنده أربع ليالي، ثم أصابتني الحمى فغِبْتُ عنه فبَعَثَ في طلبي فاعتذرْتُ بالمرض، فلم يَسَعْنِي عذرًا، فرجعت إليه وبِتُّ عنده، فلما أردت الانصراف بالغد منعني من ذلك، وقال لي: احسب داري كأنها دارك أو دار أبيك أو أخيك، وأَمَرَ بإحضار طبيب، وأن يُصْنَع لي بداره كل ما يشتهيه الطبيب من دواء أو غذاء، وأقمت كذلك عنده إلى يوم العيد، وحضرْتُ المصلى، وشفاني الله تعالى مما أصابني، وقد كان ما عندي من النفقة نفد، فعلم بذلك فاكترى لي جمالًا وأعطاني الزاد وسواه وزادني دراهم، وقال لي: تكون لما عسى أن يعتريك من أَمْر مهم — جزاه الله خيرًا — وكان بدمشق فاضل من كتاب الملك الناصر يسمى عماد الدين القيصراني، من عادته أنه متى سمع أن مغربيًّا وَصَلَ إلى دمشق بحث عنه وأضافه وأحسن إليه، فإن عَرَفَ منه الدين والفضل أَمَرَهُ بملازمته وكان يلازمه منهم جماعة، وعلى هذه الطريقة أيضًا كاتب السر الفاضل علاء الدين بن غانم وجماعة غيره، وكان بها فاضل من كبرائها وهو الصاحب عز الدين القلانسي، له مآثر ومكارم وفضائل وإيثار وهو ذو مال عريض، وذكروا أن الملك الناصر لما قَدِمَ دمشق أضافه وجميع أهل دولته ومماليكه وخواصه ثلاثة أيام فسماه إذ ذاك بالصاحب.

ومما يُؤْثَر من فضائلهم أن أحد ملوكهم السالفين لما نزل به الموت أوصى أن يُدْفَن بقبلة الجامع المكرَّم ويُخْفَى قبره، وعَيَّنَ أوقافًا عظيمة لقُرَّاء يقرءون سبعًا من القرآن الكريم في كل يوم إثر صلاة الصبح بالجهة الشرقية من مقصورة الصحابة رضي الله عنهم حيث قبره، فصارت قراءة القرآن على قبره لا تنقطع أبدًا، وبقي ذلك الرسم الجميل بعده مخلَّدًا، ومن عادة أهل دمشق وسائر تلك البلاد أنهم يخرجون بعد صلاة العصر من يوم عرفة فيقفون بصحون المساجد كبيت المقدس وجامع بني أمية وسواها، ويقف بهم أئمتهم كاشفي رءوسهم داعين خاضعين خاشعين ملتمسين البركة ويتوخون الساعة التي يَقِفُ فيها وَفْد الله تعالى وحجاج بيته بعرفات، ولا يزالون في خضوع ودعاء وابتهال وتوسُّل إلى الله تعالى بحجاج بيته إلى أن تغيب الشمس، فينفرون كما ينفر الحاج باكين على ما حُرِمُوه من ذلك الموقف الشريف بعرفات، داعين إلى الله تعالى أن يوصلهم إليها ولا يخيبهم من بركة القبول فيما فعلوه، ولهم أيضًا في اتباع الجنائز رتبة عجيبة، وذلك أنهم يمشون أمام الجنازة والقراء يقرءون القرآن بالأصوات الحسنة والتلاحين المبكية التي تكاد النفوس تطير لها رِقَّةً، وهم يصلون على الجنائز بالمسجد الجامع قبالة المقصورة، فإن كان الميت من أئمة الجامع أو مؤذنيه أو خُدَّامِه أَدْخَلُوه بالقراءة إلى موضع الصلاة عليه، وإن كان من سواهم قَطَعُوا القراءة عند باب المسجد وأدخلوا الجنازة، وبعضهم يَجْتَمِع له بالبلاط الغربي من الصحن بمقربة من باب البريد فيجلسون وأمامهم ربعات القرآن يقرءون فيها ويرفعون أصواتهم بالنداء لكل من يصل للعزاء من كبار البلدة وأعيانها، ويقولون: باسم الله فلان الدين من كمال وجمال وشمس وبدر وغير ذلك، فإذا أتموا القراءة قام المؤذنون فيقولون: افْتَكِروا واعتبروا صلاتكم على فلان الرجل الصالِح العالِم، ويصفونه بصفات من الخير ثم يصلون عليه ويذهبون به إلى مدفنه.

ولأهل الهند رتبة عجيبة في الجنائز أيضًا زائدة على ذلك، وهي أنهم يجتمعون بروضة الميت صبيحة الثالث مِنْ دَفْنه، وتُفْرَش الروضة بالثياب الرفيعة ويُكْسَى القبر بالأكسية الفاخرة وتُوضَع حوله الرياحين من الورد والنسرين والياسمين، وذلك النوار لا ينقطع عندهم، ويأتون بأشجار الليمون والأترج ويجعلون فيها حبوبها إن لم تكن فيها، ويجعل صيوان يظلل الناس نحوه، ويأتي القضاة والأمراء ومن يماثلهم فيقعدون ويقابِلُهم القُرَّاء ويؤتى بالربعات الكرام فيأخذ كل واحد منهم جزءًا، فإذا تَمَّت القراءة من القراء بالأصوات الحسان يدعو القاضي ويقوم قائمًا ويخطب خطبة مُعَدَّة لذلك ويَذْكُر فيها الميت ويرثيه بأبيات شِعْر ويَذْكُر أقاربه ويُعَزِّيهم عنه ويَذْكُر السلطان داعيًا له، وعند ذِكْر السلطان يقوم الناس ويحطون رءوسهم إلى سمت الجهة التي بها السلطان، ثم يقعد القاضي ويأتون بماء الورد فيُصَبُّ على الناس صبًّا، يُبْدَأ بالقاضي ثم من يليه كذلك، إلى أن يعم الناس أجمعين، ثم يؤتى بأواني السكر، وهو الجلاب محلولًا بالماء فيسقون الناس منه ويبدءون بالقاضي ومن يليه، ثم يؤتى بالتنبول وهم يعظمونه ويُكْرِمُون من يأتي لهم به، فإذا أعطى السلطان أحدًا منه فهو أَعْظَم من إعطاء الذهب والخُلَع، وإذا مات الميت لم يأكل أهله التنبول إلا في ذلك اليوم، فيأخذ القاضي أو من يقوم مقامه أوراقًا منه فيعطيها لولي الميت فيأكلها وينصرفون حينئذ، وسيأتي ذِكْر التنبول إن شاء الله تعالى.

ذكر سماعي بدمشق وَمَنْ أجازني من أهلها

سمِعْتُ بجامع بني أمية — عمره الله بذكره — جميع صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري رضي الله عنه، على الشيخ المعمر رحلة الآفاق ملحق الأصاغر بالأكابر شهاب الدين أحمد بن أبي طالب بن أبي النعم بن حسن بن علي بن بيان الدين مقرئ الصالحي المعروف بابن الشحنة الحجازي في أربعة عشر مجلسًا، أولها يوم الثلاثاء منتصف شهر رمضان المعظم سنة ست وعشرين وسبعمائة، وآخرها يوم الإثنين الثامن والعشرين منه بقراءة الإمام الحافظ مؤرخ الشام علم الدين أبي محمد القاسم بن محمد بن يوسف البرزالي الإشبيلي الأصل الدمشقي، في جماعة كبيرة كتب أسماءهم محمد بن طغريل بن عبد الله بن الغزال الصيرفي، بسماع الشيخ أبي العباس الحجازي لجميع الكتاب من الشيخ الإمام سراج الدين أبي عبد الله الحسين بن أبي بكر المبارك بن محمد بن يحيى بن علي بن المسيح بن عمران الربيعي البغدادي الزبيدي الحنبلي، في أواخر شوال وأوائل ذي القعدة من سنة ثلاثين وستمائة بالجامع المظفري بسفح جبل قاسيون ظاهر دمشق، وبإجازته في جميع الكتاب من الشيخين أبي الحسن محمد بن أحمد بن عمر بن الحسين بن الخلف القطيعي المؤرخ، وعلي بن أبي بكر بن عبد الله بن روبة القلانسي العطار البغدادي، ومن باب غيرة النساء ووجدهن إلى آخر الكتاب من أبي المنجا عبد الله بن عمر بن علي بن زيد بن اللتي الخزاعي البغدادي، بسماع أربعتهم من الشيخ سديد الدين أبي الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب بن إبراهيم السجزي الهروي الصوفي، في سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة ببغداد، قال: أخبرنا الإمام جمال الإسلام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود بن أحمد بن معاذ بن سهل بن الحكم الداودي قراءة عليه وأنا أسمع ببوشنج سنة خمس وستين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حوية بن يوسف بن أيمن السرخسي قراءة عليه وأنا أسمع في صفر سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، قال: أخبرنا عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر بن إبراهيم الفربري قراءة عليه وأنا أسمع سنة ست عشرة وثلاثمائة بفربر، قال: أخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رضي الله عنه سنة ثمانٍ وأربعين ومائتين بفربر، ومرة ثانية بعدها سنة ثلاث وخمسين، وممن أجازني من أهل دمشق إجازة عامة الشيخ أبو العباس الحجازي المذكور سبق إلى ذلك وتَلَفَّظَ لي به.

ومنهم الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي، ومولده في ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وستمائة. ومنهم الشيخ الإمام الصالح عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن النجدي. ومنهم إمام الأئمة جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف المزني الكلي حافظ الحفاظ. ومنهم الشيخ الإمام علاء الدين علي بن يوسف بن محمد بن عبد الله الشافعي، والشيخ الإمام الشريف محيي الدين يحيى بن محمد بن علي العلوي. ومنهم الشيخ الإمام المحدث مجد الدين القاسم بن عبد الله بن أبي عبد الله بن المعلي الدمشقي، ومولده سنة أربع وخمسين وستمائة. ومنهم الشيخ الإمام العالم شهاب الدين أحمد بن إبراهيم بن فلاح بن محمد الإسكندري. ومنهم الشيخ الإمام ولي الله تعالى شمس الدين بن عبد الله بن تمام، والشيخان الأخوان شمس الدين محمد وكمال الدين عبد الله ابنا إبراهيم بن عبد الله بن أبي عمر المقدسي، والشيخ العابد شمس الدين محمد بن أبي الزهراء بن سالم الهكاري، والشيخة الصالحة أم محمد عائشة بنت محمد بن مسلم بن سلامة الحراني، والشيخة الصالحة رحلة الدنيا زينب بنت كمال الدين أحمد بن عبد الرحيم بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي، كل هؤلاء أجازني إجازة عامة في سنة ست وعشرين بدمشق، ولما استهلَّ شوال من السنة المذكورة خَرَجَ الركب الحجازي إلى خارج دمشق ونزلوا القرية المعروفة بالكسوة، فأخَذْتُ في الحركة معهم، وكان أمير الركب سيف الدين الجوبان من كبار الأمراء، وقاضيه شرف الدين الأذرعي الحوراني، وحج في تلك السنة مدرس المالكية صدر الدين الغماري، وكان سفري مع طائفة من العرب تدعى العجارمة، أميرهم محمد بن رافع كبير القدر في الأمراء، وارتحلنا من الكسوة إلى قرية تُعْرَف بالصنمين عظيمة.

ثم ارتحلنا منها إلى بلدة زرعة، وهي صغيرة من بلاد حوران نزلنا بالقرب منها، ثم ارتحلنا إلى مدينة بصرى وهي صغيرة، ومن عادة الركب أن يقيم بها أربعًا لِيَلْحَقَ بهم من تَخَلَّفَ بدمشق لقضاء مآربه، وإلى بصرى وَصَلَ رسول الله قبل البعث في تجارة خديجة، وبها مبرك ناقته قد بُنِيَ عليه مسجد عظيم، ويجتمع أهل حوران لهذه المدينة، ويتزود الحاج منها ثم يرحلون إلى بركة زيرة (زيرا) ويقيمون عليها يومًا ثم يرحلون إلى اللجون وبها الماء الجاري، ثم يرحلون إلى حصن الكرك، وهو من أعجب الحصون وأَمْنَعِها وأشهرها ويُسَمَّى بحصن الغراب، والوادي يطيف به من جميع جهاته، وله باب واحد قد نحت المدخل إليه في الحجر الصلد ومدخل دهليزه كذلك، وبهذا الحصن يَتَحَصَّن الملوك وإليه يَلْجَئُون في النوائب، وله لجأ الملك الناصر؛ لأنه وَلِيَ المُلْكَ وهو صغير السن، فاستولى على التدبير مملوكه سلار النائب عنه، فأظهر الملك الناصر أنه يريد الحج ووافقه الأمراء على ذلك فتَوَجَّهَ إلى الحج، فلما وَصَلَ عقبة أيلة لجأ إلى الحصن وأقام به أعوامًا إلى أن قَصَدَهُ أمراء الشام واجتمعت عليه المماليك، وكان قد ولي الملك في تلك المدة بيبرس الششنكير وهو أمير الطعام وتَسَمَّى بالملك المظفر، وهو الذي بنى الخانقاه البيبرسية بمقربة من خانقاة سعيد السعداء التي بناها صلاح الدين بن أيوب، فقصده الملك الناصر بالعساكر ففَرَّ بيبرس إلى الصحراء فتبعته العساكر وقُبِضَ عليه وأُتِيَ به إلى الملك الناصر، فأَمَرَ بقتله فقُتِلَ، وقُبِضَ على سلار وحُبِسَ في جُبٍّ حتى مات جوعًا، ويقال: إنه أكل جيفة من الجوع، نعوذ بالله من ذلك، وأقام الركب بخارج الكرك أربعة أيام بموضع يقال له: الثنية، وتجهزوا لدخول البرية، ثم ارتحلنا إلى معان وهو آخر بلاد الشام، ونزلنا من عقبة الصوان إلى الصحراء التي يقال فيها: داخِلُها مفقود وخارِجُها مولود، وبعد مسيرة يومين نزلنا ذات حج وهي حسيان لا عمارة بها، ثم إلى وادي بلدح ولا ماء به، ثم إلى تبوك وهو الموضع الذي غزاه رسول الله وفيها عين ماء كانت تَبِضُّ بشيء من الماء، فلما نزلها رسول الله وتوضأ منها جادت بالماء المعين، ولم يَزَلْ إلى هذا العهد ببركة رسول الله .

ومن عادة حجاج الشام إذا وصلوا منزل تبوك أخذوا أسلحتهم وجَرَّدُوا سيوفهم وحملوا على المنزل وضربوا النخيل بسيوفهم، ويقولون: هكذا دَخَلَهَا رسول الله ، وينزل الركب العظيم على هذه العين فيروى منها جميعهم ويقيمون أربعة أيام للراحة وإرواء الجمال واستعداد الماء للبرية المخوفة التي بين العلا وتبوك، ومن عادة السقائين أنهم ينزلون على جوانب هذه العين ولهم أحواض مصنوعة من جلود الجواميس كالصهاريج الضخام يسقون منها الجمال ويملئون الروايا والقرب، ولكل أمير أو كبير حوض يَسْقِي منه جِمَاله وجِمَال أصحابه ويملأ رواياهم وسواهم من الناس يتفق مع السقائين على سقي جمله وملء قربته بشيء معلوم من الدراهم، ثم يرحل الركب من تبوك ويجدُّون السير ليلًا ونهارًا خوفًا من هذه البرية، وفي وسطها الوادي الأخيضر كأنه وادي جهنم — أعاذنا الله منها — وأصاب الحجاج به في بعض السنين مشقة بسبب ريح السموم التي تهبُّ فانتشفت المياه وانتهت شربة الماء إلى ألف دينار ومات مشتريها وبائعها، وكتب ذلك في بعض صخر الوادي، ومن هنالك ينزلون بركة المعظم وهي ضخمة نسبتها إلى الملك المعظم من أولاد أيوب ويجتمع بها ماء المطر في بعض السنين وربما جَفَّ في بعضها، وفي الخامس من أيام رحيلهم عن تبوك يصلون إلى بئر الحجر حجر ثمود، وهي كثيرة الماء، ولكن لا يَرِدُها أحدٌ من الناس مع شدة عطشهم؛ اقتداءً بفعل رسول الله حين مر بها في غزوة تبوك فأسرع براحلته وأَمَرَ أن لا يسقى منها أحد، ومن عَجَنَ به أَطْعَمَهُ الجمال، وهنالك ديار ثمود في جبال من الصخر الأحمر منحوتة لها عتب منقوشة يظن رائيها أنها حديثة الصنعة وعظامهم نخرة في داخل تلك البيوت، إن في ذلك لعبرة، ومبرك ناقة صالح عليه السلام بين جبلين هنالك وبينهما إثر مسجد يصلي الناس فيه، وبين الحجر والعلا نصف يوم أو دونه، والعلا قرية كبيرة حسنة لها بساتين النخل والمياه المعينة، يقيم بها الحجاج أربعًا يتزودون ويغسلون ثيابهم ويدعون بها ما يكون عندهم من فَضْل زاد ويستصحبون قَدْر الكفاية، وأهل هذه القرية أصحاب أمانة وإليها ينتهي تجار نصارى الشام لا يَتَعَدَّوْنها ويبايعون الحجاج بها الزاد وسواه، ثم يرحل الركب من العلا فينزلون في غدر حيلهم الوادي المعروف بالعطاس، وهو شديد الحر تهب فيه السموم المهلكة، هبت بعض السنين على الركب فلم يَخْلُص منهم إلا اليسير، وتُعْرَف تلك السنة سنة الأمير الجالقي، ومنه ينزلون هدية وهي حسيان ماء بوادٍ يحفرون به فيخرج الماء وهو زعاق، وفي اليوم الثالث ينزلون بظاهر البلد المقدس الكريم الشريف.

طيبة مدينة رسول الله وشرف وكرم

وفي عشي ذلك اليوم دَخَلْنَا الحرم الشريف، وانتهينا إلى المسجد الكريم، فوقفنا بباب السلام مُسَلِّمين، وصَلَّيْنَا بالروضة الكريمة بين القبر والمنبر الكريم، واستلمنا القطعة الباقية من الجذع الذي حَنَّ إلى رسول الله ، وهي ملصقة بعمود قائم بين القبر والمنبر عن يمين مستقبل القبلة، وأَدَّيْنَا حق السلام على سيد الأولين والآخرين وشفيع العصاة والمذنبين الرسول النبي الهاشمي الأبطحي محمد صلى الله عليه وسلم تسليمًا، وشرف وكرم وحق السلام على ضجيعيه وصاحبيه أبي بكر الصديق وأبي حفص عمر الفاروق رضي الله عنهما، وانصرفنا إلى رحلنا مسرورين بهذه النعمة العظمى مستبشرين بنَيْل هذه المنة الكبرى، حامدين الله تعالى على البلوغ إلى معاهد رسوله الشريفة ومشاهده العظيمة المنيفة، داعين أن لا يَجْعَلَ ذلك آخر عَهْدِنا بها، وأن يَجْعَلَنَا ممن قُبِلَتْ زيارته وكُتِبَتْ في سبيل الله سفرته.

ذكر مسجد رسول الله وروضته الشريفة

المسجد المعظم مستطيل تَحُفُّه من جهاته الأربع بلاطات دائرة به ووسطه صحن مفروش بالحصى والرمل، ويدور بالمسجد الشريف شارع مبلط بالحجر المنحوت، والروضة المقدسة صلوات الله وسلامه على ساكنها في الجهة القبلية مما يلي الشرق من المسجد الكريم، وشكلها عجيب لا يتأتى تمثيله، وهي مدوَّرة بالرخام البديع النحت الرائق النعت، قد علاها تضميخ المسك والطيب مع طول الأزمان، وفي الصفحة القبلية منها مسمار فضة هو قبالة الوجه الكريم، وهنالك يَقِفُ الناس للسلام مستقْبِلِينَ الوجه الكريم مستديرين القبلة فيسلمون وينصرفون يمينًا إلى وَجْه أبي بكر الصديق، ورأس أبي بكر رضي الله عنه عند قَدَمَيْ رسول الله ، ثم ينصرفون إلى عمر بن الخطاب، ورأس عمر عند كتفي أبي بكر رضي الله عنهما، وفي الجو من الروضة المقدسة — زادها الله طيبًا — حوض صغير مُرَخَّم في قبلته شكل محراب، يقال: إنه كان بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا، ويقال أيضًا: هو قبرها، والله أعلم، وفي وسط المسجد الكريم دفة مطبقة على وجه الأرض مقفلة على سرداب له دَرَج يُفْضِي إلى دار أبي بكر رضي الله عنه خارج المسجد، وعلى ذلك السرداب كان طريق بنته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إلى داره، ولا شك أنه هو الخوخة التي وَرَدَ ذِكْرُها في الحديث وأَمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا بإبقائها وسَدِّ ما سواها، وبإزاء دار أبي بكر رضي الله عنه دار عمر ودار ابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وبشرقي المسجد الكريم دار إمام المدينة أبي عبد الله مالك بن أنس رضي الله عنه، وبمقربة من باب السلام سقاية يُنْزَل إليها على دَرَج ماؤها مَعِينٌ وتُعْرَف بالعين الزرقاء.

ذكر ابتداء بناء المسجد الكريم

قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا المدينة الشريفة دار الهجرة يوم الإثنين الثالث عشر من شهر ربيع الأول، فنزل على بني عمرو بن عوف، وأقام عندهم ثنتين وعشرين ليلة، وقيل: أربع عشرة ليلة، وقيل: أربع ليال، ثم تَوَجَّهَ إلى المدينة فنزل على بني النجار بدار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وأقام عنده سبعة أشهر حتى بنى مساكنه ومَسْجِدَه، وكان موضع المسجد مربدًا لِسَهْلٍ وسُهَيْلٍ ابني رافع بن أبي عمر بن عاند بن ثعلبة بن غانم بن مالك بن النجار، وهما يتيمان في حجر أسعد بن زرارة رضي الله عنهم أجمعين، وقيل: كانا في حجر أبي أيوب رضي الله عنه، وقيل: إنهما وهباه لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا، فبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا المسجد وعمل فيه مع أصحابه وجَعَلَ عليه حائطًا ولم يجعل له سقفًا ولا أساطين وجعله مربعًا طوله مائة ذراع وعَرْضُه مثل ذلك، وقيل: إن عرضه كان دون ذلك، وجعل ارتفاع حائطه قَدْر القامة، فلما اشتد الحر تَكَلَّمَ أصحابه في تسقيفه، فأقام له أساطين من جذوع النخل، وجَعَلَ سقفه من جريدها، فلما أمطرت السماء وكف المسجد فكلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا رسول الله في عمله بالطين، فقال: «لا عريش كعريش موسى أو ظلة كظلة موسى والأمر أقرب من ذلك»، قيل: وما ظلة موسى؟ قال : «كان إذا قام أصاب السقف رأسه»، وجعل للمسجد ثلاثة أبواب ثم سَدَّ الجنوبي منها حين حُوِّلَت القبلة، وبقي المسجد على ذلك حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا وحياة أبي بكر رضي الله عنه.

فلما كانت أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه زاد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا، وقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا يقول: ينبغي أن نزيد في المسجد، ما زدت فيه، فأنزل أساطين الخشب وجَعَلَ مكانها أساطين اللبن، وجعل الأساس حجارة إلى القامة، وجعل الأبواب ستة منها في كل جهة ما عدا القبلة بابان، وقال في باب منها: ينبغي أن يُتْرَك هذا للنساء، فما ريء فيه حتى لقي الله عز وجل، وقال: لو زدنا في هذا المسجد حتى يبلغ الجبانة لم يزل مسجد رسول الله ، وأراد عمر أن يُدْخِل في المسجد موضعًا للعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا ورضي الله عنهما فمنعه منه، وكان فيه ميزان يَصُبُّ في المسجد، فنَزَعَه عمر وقال: إنه يؤذي الناس، فنَازَعَهُ العباس وحَكَّمَا بينهما أبيَّ بن كعب رضي الله عنهما، فأتيا داره فلم يأذن لهما إلا بعد ساعة، ثم دخلا إليه فقال: كانت جاريتي تغسل رأسي، فذهب عمر ليتكلم فقال له أُبَيٌّ: دع أبا الفضل يتكلم لمكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا، فقال العباس: خطة خطها لي رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا وبنيتها معه وما وضعت الميزاب إلا ورجلاي على عاتقي رسول الله ، فجاء عمر فطرحه وأراد إدخالها في المسجد، فقال أُبَيٌّ: إن عندي من هذا علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا يقول: «أراد داود عليه السلام أن يبني بيت الله المقدس، وكان فيه بيت ليتيمين فَرَاوَدَهُمَا على البيع فأَبَيَا، ثم رادهما فبَاعَاهُ ثم قَامَا بَالِغَيْنِ فرُدَّ البيع واشتراه منهما ثم رداه كذلك فاستعظم داود الثمن فأوحى الله إليه: إن كُنْتَ تعطي من شيء هو لك فأنت أعلم، وإن كنت تعطيهما من رِزْقِنا، فأَعْطِهِمَا حتى يَرْضَيَا، وإنَّ أغنى البيوت عن مَظْلَمَةٍ بيتٌ هو لي، وقد حَرَّمْتُ عليك بناءه، قال: يا رَبِّ فأَعْطِهِ سليمان فأعطاه سليمان عليه السلام.»

فقال عمر: من لي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا قاله، فخرج أُبَيٌّ إلى قوم من الأنصار فأثبتوا له ذلك، فقال عمر رضي الله عنه: أما إني لو لم أَجِدْ غَيْرَكَ أَخَذْتُ قَوْلَكَ، ولكنني أحببت أن أثبت، ثم قال للعباس رضي الله عنه: والله لا تَرِدُ الميزاب إلا وقدماك على عاتقي، ففعل العباس ذلك، ثم قال: أما إذا أثبتْتَ لي فهي صدقة لله، فهَدَمَهَا عمر وأَدْخَلَهَا في المسجد، ثم زاد فيه عثمان رضي الله عنه وبَنَاهُ بقوة وباشَرَهُ بنفسه، فكان يظل فيه نهاره، وبَيَّضَه وأَتْقَنَ محله بالحجارة المنقوشة ووَسَّعَه من جهاته إلا جهة الشرق منها، وجعل له سواري حجارة مثبتة بأعمدة الحديد والرصاص، وسقفه بالساج، وصَنَعَ له محرابًا، وقيل: إن مروان هو أول من بنى المحراب، وقيل: عمر بن عبد العزيز في خلافة الوليد، ثم زاد فيه الوليد بن عبد الملك، تولى ذلك عمر بن عبد العزيز، فوسَّعَه وحَسَّنَه وبَالَغَ في إتقانه وعَمِلَه بالرخام والساج المُذَهَّب، وكان الوليد بَعَثَ إلى ملك الروم: إني أريد أن أبني مسجد نبينا صلى الله عليه وسلم تسليمًا، فأَعِنِّي فيه، فبعث إليه الفَعَلَة وثمانين ألف مثقال من الذهب، وأَمَرَ الوليدُ بإدخال حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا فيه، فاشترى عمر من الدور ما زاده في ثلاث جهات من المسجد، فلما صار إلى القبلة امتنع عبيد الله بن عبد الله بن عمر من بَيْع دار حفصة وطال بينهما الكلام حتى ابتاعها عمر على أنَّ لهم ما بقي منها، وعلى أن يُخْرِجوا من باقيها طريقًا إلى المسجد وهي الخوخة التي في المسجد، وجَعَلَ عمر للمسجد أربع صوامع في أربعة أركانه، وكانت إحداها مُطِلَّة على دار مروان، فلما حج سليمان بن عبد الملك نَزَلَ بها فأطل عليه المؤذن حين الأذان، فأَمَرَ بهدمها، وجعل عمر للمسجد محرابًا، ويقال: هو من أَحْدَثَ المحراب.

ثم زاد في المهدي بن أبي جعفر المنصور وكان أبوهم بذلك ولم يُقْضَ له، وكتب إليه الحسن بن زيد يُرَغِّبه في الزيارة فيه من جهة الشرق ويقول: إنه إن زِيدَ في شرقيه تَوَسَّطَت الروضة الكريمة المسجد الكريم، فاتهمه أبو جعفر بأنه إنما أراد هَدْمَ دار عثمان رضي الله عنه، فكتب إليه: إني قد عَرَفْتُ الذي أردْتَ فاكْفُفْ عن دار عثمان، وأَمَرَ أبو جعفر أن يُظَلَّلَ الصحن أيام القيظ بستور تُنْشَر على حبال ممدودة على خشب تكون في الصحن لِتُكِنَّ المصلين من الحر، وكان طول المسجد في بناء الوليد مائتي ذراع، فبلغه المهدي إلى ثلاثمائة ذراع، وسوَّى المقصورة بالأرض، وكانت مرتفعة عنها بمقدار ذراعين، وكتب اسمه على مواضع من المسجد، ثم أَمَرَ الملك المنصور قلاوون ببناء دار للوضوء عند باب السلام، فتولى بناءها الأمير الصالح علاء الدين المعروف بالأقمر، وأقامها مُتَّسِعَة الفناء تستدير بها البيوت وأجرى إليها الماء، وأراد أن يبني بمكة — شَرَّفَها الله تعالى — مِثْلَ ذلك فلم يَتِمَّ له، فبناه ابنه الملك الناصر بين الصفا والمروة، وسيُذْكَر إن شاء الله، وقبلة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا قبلة قطع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تسليمًا أقامها، وقيل: أقامها جبريل عليه السلام، وقيل: كان يشير جبريل له إلى سمتها وهو يقيمها، وروي أن جبريل عليه السلام أشار إلى الجبال فتَوَاضَعَتْ فتَنَحَّتْ حتى بَدَت الكعبة، فكان صلى الله عليه وسلم تسليمًا يبني وهو ينظر إليها عيانًا، وبكل اعتبار فهي قبلة قطع، وكانت القبلة أول ورود النبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا المدينة إلى بيت المقدس، ثم حُوِّلَت إلى الكعبة بعد ستة عشر شهرًا، وقيل بعد سبعة عشر شهرًا.

ذكر المنبر الكريم

وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا كان يَخْطُبُ إلى جذع نخلة بالمسجد، فلما صُنِعَ له المنبر وتَحَوَّلَ إليه حَنَّ الجذع حنين الناقة إلى حوارها، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا نَزَلَ إليه فالْتَزَمَهُ فسَكَنَ، وقال: «لو لم أَلْتَزِمْهُ لَحَنَّ إلى يوم القيامة»، واختلفت الروايات فيمن صَنَعَ المنبر الكريم، فرُوِيَ: أن تميمًا الداري رضي الله عنه هو الذي صنعه، وقيل: إن غلامًا للعباس رضي الله عنه صَنَعَهُ، وقيل: غلام لامرأة من الأنصار، ووَرَدَ ذلك في الحديث الصحيح. وصُنِعَ من طرفاء الغابة، وقيل: من الأثل، وكان له ثلاث درجات، فكان رسول الله يقعد على عُلْيَاهُنَّ ويَضَعُ رجليه الكريمتين في وسطاهن، فلما ولي أبو بكر الصديق رضي الله عنه قعد على وسطاهن وجعل رجليه على أولاهن، فلما ولي عمر رضي الله عنه جلس على أولاهن وجَعَلَ رجليه على الأرض، وفَعَلَ ذلك عثمان رضي الله عنه صدرًا من خلافته ثم ترقى إلى الثالثة.

ولما أن صار الأمر إلى معاوية رضي الله عنه أراد نَقْلَ المنبر إلى الشام، فضَجَّ المسلمون وعَصَفَتْ ريح شديدة وخسفت الشمس وبدت النجوم نهارًا وأَظْلَمَت الأرض، فكان الرجل يصادم الرجل ولا يتبين مسلكٌ، فلما رأى ذلك معاوية تَرَكَهُ وزاد فيه ست درجات من أسفله فبلغ تِسْعَ درجات.

ذكر الخطيب والإمام بمسجد رسول الله

وكان الإمام بالمسجد الشريف في عهد دخولي إلى المدينة بهاء الدين بن سلامة من كبار أهل مصر، وينوب عنه العالِم الصالح الزاهد بغية المشايخ عز الدين الواسطي نَفَعَ الله به، وكان يخطب قبله، ويقضي بالمدينة الشريفة سراج الدين عمر المصري.

حكاية

يُذْكَر أن سراج الدين هذا أقام في خطة القضاء بالمدينة والخطابة بها نحو أربعين سنة، ثم إنه أراد الخروج بعد ذلك إلى مصر، فرأى رسول الله في النوم ثلاث مرات في كل مرة ينهاه عن الخروج منها وأخبره باقتراب أَجَلِهِ فلم يَنْتَهِ عن ذلك، وخرج فمات بموضع يقال له: سويس، على مسيرة ثلاث من مصر قبل أن يصل إليها، نعوذ بالله من سوء الخاتمة، وكان ينوب عنه الفقيه أبو عبد الله محمد بن فرحون رحمه الله، وأبناؤه الآن بالمدينة الشريفة أبو محمد عبد الله مدرس المالكية ونائب الحكم، وأبو عبد الله محمد وأصلهم من مدينة تونس ولهم بها حَسَبٌ وأصالة، وتولى الخطابة والقضاء بالمدينة الشريفة بعد ذلك جمال الدين الأسيوطي من أهل مصر، وكان قبل ذلك قاضيًا بحصن الكرك.

ذِكْر خُدَّام المسجد الشريف والمؤذنين به

وخُدَّام هذا المسجد الشريف وسَدَنَتُه فتيان من الأحابيش وسواهم، وهم على هيئات حسان وصور نظاف وملابس ظراف، وكبيرهم يُعْرَف بشيخ الخدام وهو في هيئة الأمراء الكبار، ولهم المُرَتَّبَات بديار مصر والشام، ويؤتى إليهم بها في كل سنة، ورئيس المؤذنين بالحرم الشريف الإمام المحدث الفاضل جمال الدين المطري من مطرية (قرية بمصر)، وولده الفاضل عفيف الدين عبد الله، والشيخ المجاور الصالح أبو عبد الله محمد بن محمد الغرناطي المعروف بالتراس، قديم المجاوَرة، وهو الذي جَبَّ نفسه خوفًا من الفتنة.

حكاية

يُذْكَر أن أبا عبد الله الغرناطي كان خديمًا لشيخ يُسَمَّى عبد الحميد العجمي، وكان الشيخ حَسَنَ الظن به يَطْمَئِنُّ إليه بأهله وماله ويتركه متى سافر بداره، فسَافَرَ مَرَّةً وتَرَكَهُ على عادته بمنزله، فعلقت به زوجة الشيخ عبد الحميد وراودته عن نفسه فقال: إني أخاف الله ولا أخون من ائتمنني على أهله وماله، فلم تَزَلْ تراوده وتعارِضُه حتى خاف على نفسه الفتنة، فجَبَّ نفسه وغُشِيَ عليه ووجده الناس على تلك الحالة، فعَالَجُوهُ حتى برئ وصار من خدام المسجد الكريم ومؤذنًا به ورأس الطائفتين، وهو باقٍ بقيد الحياة إلى هذا العهد.

ذكر المجاورين بالمدينة الشريفة

منهم الشيخ الصالح الفاضل «أبو العباس أحمد بن محمد مرزوق»، كثير العبادة والصوم والصلام بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا صابرًا محتسبًا، وكان ربما جَاوَرَ بمكة المُعَظَّمَة، رَأَيْتُه بها في سنة ثمانٍ وعشرين، وهو أكثر الناس طوافًا، وكنت أَعْجَبُ من ملازمته الطواف مع شدة الحر بالمطاف، والمَطَاف مفروش بالحجارة السود، وتَصِيرُ بِحَرِّ الشمس كأنها الصفائح المحماة، ولقد رأيت السقائين يصبون الماء عليها، فما يجاوز الموضع الذي يُصَبُّ فيه إلا ويلتهب الموضع من حينه، وأكثر الطائفين في ذلك الوقت يلبسون الجوارب، وكان أبو العباس بن مرزوق يطوف حافيَ القدمين، ورأيته يومًا يطوف فأحببت أن أطوف معه فَوَصَلْتُ المطاف وأردْتُ استلام الحجر الأسود، فلَحِقَنِي لهب تلك الحجارة وأرَدْتُ الرجوع بعد تقبيل الحجر، فما وَصَلْتُه إلا بعد جهد عظيم، ورجعت فلم أَطُفْ وكنت أجعل بجادي على الأرض وأمشي عليه حتى بلغْتُ الرواق، وكان في ذلك العهد بمكة وزير غرناطة وكبيرها أبو القاسم محمد بن محمد بن الفقيه أبي الحسن سهل بن مالك الأزدي، وكان يطوف كل يوم سبعين أسبوعًا، ولم يكن يطوف في وقت القائلة لشدة الحر، وكان «ابن مرزوق» يطوف في شدة القائلة زيادة عليه.

ومن المجاورين بالمدينة كَرَّمَها الله الشيخ الصالح العابد سعيد المراكشي الكفيف، ومنهم الشيخ أبو مهدي عيسى بن حزرون المكناسي.

حكاية

جَاوَرَ الشيخ أبو مهدي بمكة سنة ثمانٍ وعشرين وخرج إلى جبل حراء مع جماعة من المجاورين، فلما صعدوا الجبل ووصلوا لمتعبَّد النبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا ونزلوا عنه تَأَخَّرَ أبو مهدي عن الجماعة، ورأى طريقًا في الجبل فظَنَّه قاصرًا، فسلك عليه ووصل أصحابه إلى أسفل الجبل، فانتظروه فلم يأتِ فتَطَلَّعُوا فيما حولهم فلم يَرَوْا له أثرًا، فظنوا أنه سبقهم فمضوا إلى مكة شرفها الله تعالى، ومَرَّ عيسى على طريقه فأفضى به إلى جَبَل آخر وتاه عن الطريق وأَجْهَدَهُ العطش والحر وتمزقت نعله، فكان يقطع من ثيابه ويلف على رجليه إلى أن ضَعُفَ عن المشي واستظل بشجرة أم غيلان، فبعث الله أعرابيًّا على جَمَلٍ حتى وَقَفَ عليه فأَعْلَمَهُ بحاله فأركبه وأوصله إلى مكة وكان على وسطه هميان فيه ذَهَبٌ فسلمه إليه وأقام نحو شهر لا يستطيع القيام على قدميه وذَهَبَتْ جلدتهما ونبتَتْ لهما جلدة أخرى، وقد جرى مثل ذلك لصاحب لي أَذْكُرُه إن شاء الله، ومن المجاورين بالمدينة الشريفة أبو محمد الشروي من القراء المحسنين، وجاوَرَ بمكة في السنة المذكورة، وكان يقرأ بها كتاب الشفاء للقاضي عياض بعد صلاة الظهر وأَمَّ في التراويح بها. ومن المجاورين الفقيه أبو العباس الفاسي مدرس المالكية بها، وتزوَّجَ ببنت الشيخ الصالح شهاب الدين الزرندي.

حكاية

يُذْكَر أن أبا العباس الفاسي تَكَلَّمَ يومًا مع بعض الناس، فانتهى به الكلام إلى أن تَكَلَّمَ بعظيمة ارتكب فيها بسبب جَهْلِه بعلم النسب وعدم حِفْظه للسانه مركبًا صعبًا — عفا الله عنه — فقال: إن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام لم يعقب، فبلغ كلامه إلى أمير المدينة طفيل بن منصور بن جماز الحسني، فأَنْكَرَ كَلَامَهُ وبحق إنكاره وأراد قَتْلَه، فكُلِّمَ فيه فنفاه عن المدينة، ويُذْكَر أنه بَعَثَ من اغتاله، وإلى الآن لم يَظْهَرْ له أَثَرٌ، نعوذ بالله من عثرات اللسان وزللـه.

ذكر أمير المدينة الشريفة

كان أمير المدينة كبيش بن منصور بن جماز وكان قد قتل عمه مقبلًا، ويقال: إنه توضأ بدمه، ثم إن كبيشًا خرج سنة سبع وعشرين إلى الفلاة في شدة الحر ومعه أصحابه فأدركتهم القائلة في بعض الأيام، فتفرقوا تحت ظلال الأشجار فما راعهم إلا وأبناء مقبل في جماعة من عبيدهم ينادون: يا لثارات مقبل، فقتلوا كبيش بن منصور صبرًا ولعقوا دمه وتولى بعده أخوه طفيل بن منصور الذي ذكرنا أنه نفى أبا العباس الفاسي.

ذِكْر بعض المشاهد الكريمة بخارج المدينة الشريفة

فمنها بقيع الغرقد، وهو بشرقي المدينة المكرمة، ويُخْرَج إليه على باب يُعْرَف بباب البقيع، فأول ما يَلْقى الخارج إليه على يساره عند خروجه من الباب قبر صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنهما، وهي عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا، وأم الزبير بن العوام رضي الله عنه، وأمامها قبر إمام المدينة أبي عبد الله مالك بن أنس رضي الله عنه، وعليه قبة صغيرة مختصرة البناء، وأمامه قبر السلالة الطاهرة المقدسة النبوية الكريمة إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا وعليه قبة بيضاء، وعن يمينها تربة عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهو المعروف بأبي شحمة، وبإزائه قبر عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه، وقبر عبد الله بن ذي الجناحين جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما، وبإزائهم روضة يُذْكَر أن قبور أمهات المؤمنين بها رضي الله عنهن، ويليها روضة فيها قَبْرُ العباس بن عبد المطلب عم رسول الله ، وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وهي قبة ذاهبة في الهواء بديعة الإحكام عن يمين الخارج من باب البقيع، ورأس الحسن إلى رجلي العباس عليهما السلام، وقبراهما مرتفعان عن الأرض متسعان مغشيان بألواح بديعة الإلصاق مرصعة بصفائح الصفر البديعة العمل، وبالبقيع قبور المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة رضي الله عنهم، إلا أنها لا يُعْرَف أكثرها، وفي آخر البقيع قبر أمير المؤمنين أبي عمر عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعليه قبة كبيرة، وعلى مقربة منه قبر فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب رضي الله عنها وعن ابنها.

ومن المشاهد الكريمة قباء، وهو قبلي المدينة على نحو ميلين منها، والطريق بينهما في حدائق النخل، وبه المسجد الذي أُسِّسَ على التقوى والرضوان، وهو مسجد مربع فيه صومعة بيضاء طويلة تَظْهَر على البعد وفي وسطه مبرك الناقة بالنبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا يتبرك الناس بالصلاة فيه، وفي الجهة القبلية من صحنه محراب على مسطبة هو أول موضع رَكَعَ فيه النبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا، وفي قبلي المسجد دار كانت لأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، ويليها دور تُنْسَب لأبي بكر وعمر وفاطمة وعائشة رضي الله عنهم، وبإزائه بئر أريس، وهي التي عاد ماؤها عذبًا لما تَفُلَ فيه النبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا بعد أن كان أجاجًا، وفيها وَقَعَ الخاتم الكريم من عثمان رضي الله عنه، ومن المشاهد قبة حجر الزيت بخارج المدينة الشريفة، يقال: إن الزيت رشح من حجر هنالك للنبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا، وإلى جهة الشمال منه بئر بضاعة، وبإزائها جبل الشيطان حيث صَرَخَ يوم أحد وقال: قُتِلَ نبيكم، وعلى شفيرِ الخندقِ الذي حَفَرَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا عند تَحَزُّب الأحزاب حِصْنٌ خرب يُعْرَف بحصن العزاب، يقال: إن عمر بناه لعزاب المدينة، وأمامه إلى جهة الغرب بئر رومة التي اشترى أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه نِصْفها بعشرين ألفًا.

ومن المشاهد الكريمة أُحُد، وهو الجبل المُبَارَك الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا: «إن أحدًا جبل يُحِبُّنا ونُحِبُّه»، وهو بجوار المدينة الشريفة على نحو فرسخ منها، وبإزائه الشهداء المكرمون رضي الله عنهم، وهنالك قبر حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا ورضي الله عنه، وحوله الشهداء المستشهدون في أحد رضي الله عنهم، وقبورهم لقبلي أحد، وفي طريق أحد مسجد يُنْسَب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومسجد يُنْسَب إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه، ومسجد الفتح حيث أُنْزِلَت سورة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا، وكانت إقامتنا بالمدينة الشريفة في هذه الوجهة أربعة أيام، وفي كل ليلة نبيت بالمسجد الكريم والناس قد حلقوا في صحنه حلقًا وأوقدوا الشمع الكثير وبينهم ربعات القرآن الكريم يتلونه وبعضهم يَذْكُرون الله وبعضهم في مشاهدة التربة الطاهرة — زادها الله طيبًا — والحداة بكل جانب يترنمون بمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا، وهكذا دَأَبَ الناس في تلك الليالي المباركة ويجودون بالصدقات الكثيرة على المجاورين والمحتاجين، وكان في صحبتي في هذه الوجهة من الشام إلى المدينة الشريفة رجل من أهلها فاضل يُعْرَف بمنصور بن شكل وأضافني بها واجتمعنا بعد ذلك بحلب وبخارى، وكان في صحبتي أيضًا قاضي الزيدية شرف الدين قاسم بن سنان، وصَحِبَنِي أيضًا أحد الصلحاء الفقراء من أهل غرناطة يُسَمَّى ﺑ «عَلِيِّ بن حجر الأموي».

حكاية

لما وَصَلْنَا إلى المدينة — كَرَّمها الله — على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام ذَكَرَ لي علي بن حجر المذكور أنه رأى تلك الليلة في النوم قائلًا يقول له: اسمع مني واحفظ عني (طويل):

هنيئًا لكم يا زائرين ضريحه
أَمِنْتُم به يوم المعاد من الرجسِ
وَصَلْتُم إلى قبر الحبيب بطيبة
فطوبى لمن يَضْحَى بطيبة أو يُمْسِي

وجَاوَرَ هذا الرجل بعد صحبه بالمدينة، ثم رحل إلى مدينة دهلي قاعدة بلاد الهند في سنة ثلاث وأربعين، فنزل في جواري، وذَكَرْتُ حكاية رؤياه بين يدي ملك الهند، فأَمَرَ بإحضاره فحضر بين يديه، وحكى له ذلك فأعجبه واستحسنه، وقال له كلامًا جميلًا بالفارسية، وأَمَرَ بإنزاله وأعطاه ثلاثمائة تنكة من ذهب ووزن التنكة من دنانير المغرب ديناران ونصف دينار، وأعطاه فرسًا محلي السرج واللجام وخلعة وعَيَّنَ له مرتبًا في كل يوم، وكان هنالك فقيه طيب من أهل غرناطة، ومولده ببجاية يُعْرَف هنالك بجمال الدين المغربي، فصحبه علي بن حجر المذكور، ووعده على أن يُزَوِّجَه بنته وأنزله بدويرة خارج داره واشترى جارية وغلامًا، وكان يترك الدنانير في مفرش ثيابه ولا يطمئن بها لأحد، فاتفق الغلام والجارية على أَخْذ ذلك الذهب وأخذاه وهربا، فلما أتى الدار لم يَجِدْ لهما أثرًا ولا للذهب، فامتنع من الطعام والشراب واشتد به المرض أسفًا على ما جرى عليه، فعُرِضَتْ قضيته بين يدي الملك، فأَمَرَ أن يُخْلَفَ له ذلك، فبَعَثَ ذلك إليه من يُعْلِمه بذلك فوجده قد مات رحمه الله تعالى.

وكان رحيلنا من المدينة نريد مكة — شرفهما الله تعالى — فنزلنا بقرب مسجد ذي الحليفة الذي أَحْرَمَ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا وبالمدينة منه على خمسة أميال وهو منتهى حرم المدينة وبالقرب منه وادي العقيق، وهنالك تَجَرَّدْتُ من مخيط الثياب واغتسلت ولبست ثوب إحرامي وصَلَّيْتُ ركعتين وأَحْرَمْتُ بالحج مُفْرِدًا، ولم أَزَلْ ملبيًا في كل سهْلٍ وجبل وصعودٍ وحدورٍ إلى أن أتيت شِعْب علي عليه السلام وبه نزلت تلك الليلة، ثم رحلنا منه ونزلنا بالروحاء وبها بئر تُعْرَف ببئر ذات العلم، ويقال: إن عليًّا عليه السلام قاتَلَ بها الجن، ثم رحلنا ونزلنا بالصفراء، وهو وادٍ معمورٌ فيه ماء ونخل وبنيان وقصر يَسْكُنه الشرفاء الحسنيون وسواهم، وفيها حِصْن كبير وتواليه حصون كثيرة وقرًى متصلة، ثم رحلنا منه ونزلنا ببدر حيث نَصَرَ الله رسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا وأَنْجَزَ وَعْدَه الكريم واستأصل صناديد المشركين، وهي قرية فيها حدائق نَخْل متصلة، وبها حِصْن منيع يُدْخَل إليه من بَطْن وادٍ بين جبال وببدر عين فوارة يجري ماؤها، وموضع القليب الذي سُحِبَ به أعداء الله المشركون هو اليوم بستان، وموضع الشهداء رضي الله عنهم خلفه، وجبل الرحمة الذي نزلت به الملائكة على يسار الداخل منه إلى الصفراء، وبإزائه جبل الطبول وهو شبه كثيب الرمل ممتد.

ويزعم أهل تلك البلدة أنهم يسمعون هنالك مثل أصوات الطبول في كل ليلة جمعة، وموضع عريش رسول الله الذي كان به يوم بدر يناشد ربه جلَّ وتعالى متصل بسفح جبل الطبول، وموضع الوقيعة أمامه وعند نخل القليب مسجد، يقال له: مبرك ناقة النبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا، وبين بدر والصفراء نحو بريد في وادٍ بين جبال تَطَّرِد فيه العيون وتَتَّصِل حدائق النخل، ورحلنا من بدر إلى الصحراء المعروفة بقاعِ البزواء وهي برية يضل بها الدليل، ويذهل عن خليله الخليل، مسيرة ثلاث وفي منتهاها وادي رابغ يتكون فيه بالمطر غدران يبقى بها الماء زمانًا طويلًا ومنه يُحْرِم حُجَّاج مصر والمغرب وهو دون الجحفة، وسِرْنا من رابغ ثلاثًا إلى خليص، ومررنا بعَقَبة السويق، وهي على مسافة نصف يوم من خليص كثيرة الرمل، والحجاج يقصدون شرب السويق بها ويستصحبونه من مصر والشام برسم ذلك ويسقونه الناس مخلطًا بالسكر، والأمراء يملئون منه الأحواض ويسقونها الناس، ويُذْكَر أن رسول الله مَرَّ بها ولم يكن مع أصحابه طعام فأَخَذَ من رَمْلِها فأعطاهم إياه فشربوه سويقًا، ثم نزلنا بركة خليص وهي في بسيط من الأرض كثيرة حدائق النخل لها حصن مشيد في قنة جبل، وفي البسيط حصن خرب وبها عين فوارة قد صنعت لها أخاديد في الأرض وسربت إلى الضياع، وصاحب خليص شريفٌ حَسَنِيُّ النسب، وعرب تلك الناحية يقيمون هنالك سوقًا عظيمًا يَجْلِبُون إليها الغنم والثمر والإدام.

ثم رحلنا إلى عسفان وهي في بسيط من الأرض بين جبال وبها آبار معين تُنْسَب إحداها إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، والمدرج المنسوب إلى عثمان أيضًا على مسافة نصف يوم من خليص، وهو مضيق بين جبلين، وفي موضع منه بلاط على صورة دَرَج وأَثَر عمارة قديمة، وهنالك بئر تُنْسَب إلى علي عليه السلام، ويقال: إنه أَحْدَثَهَا، وبعسفان حصن عتيق وبرج مَشِيد قد أَوْهَنَهُ الخراب وبه من شجر المقل كثير. ثم رحلنا من عسفان ونزلنا بطن مرو يسمى أيضًا مر الظهران، وهو وادٍ مخصب كثير النخل ذو عين فوارة سيالة تسقي تلك الناحية، ومن هذا الوادي تُجْلَب الفواكه والخضر إلى مكة شَرَّفَها الله تعالى، ثم أَدْلَجْنَا من هذا الوادي المبارك والنفوس مستبشرة ببلوغ آمالها مسرورة بحالها ومآلها، فوصَلْنا عند الصباح إلى البلد الأمين مكة شرفها الله تعالى، فوردنا منها على حرم الله تعالى ومبوَّأ خليله إبراهيم ومبعث صفيِّه محمد ، ودخلنا البيت الحرام الشريف الذي مَنْ دَخَلَهُ كان آمنًا من باب بني شيبة، وشاهدنا الكعبة الشريفة زادها الله تعظيمًا، وهي كالعروس تَجَلَّى على منصة الجلال وترفل في برود الجمال محفوفة بوفود الرحمن موصلة إلى جنة الرضوان، وطُفْنَا بها طواف القدوم، واستلمنا الحجر الكريم وصَلَّيْنَا ركعتين بمقام إبراهيم وتَعَلَّقْنا بأستار الكعبة عند الملتزم بين الباب والحجر الأسود حيث يستجاب الدعاء، وشَرِبْنا من ماء زمزم وهو لما شُرِبَ له حسبما وَرَدَ عن النبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا.

ثم سعينا بين الصفا والمروة ونزلنا هنالك بدار بمقربة من باب إبراهيم، والحمد لله الذي شَرَّفَنا بالوفادة على هذا البيت الكريم وجَعَلَنَا ممن بَلَغَتْهُ دعوة الخليل عليه الصلاة والتسليم ومَتَّعَ أعيننا بمشاهدة الكعبة الشريفة والمسجد العظيم والحجر الكريم وزمزم والحطيم، ومن عجائب صُنْع الله تعالى أنه طَبَعَ القلوب على النزوع إلى هذه المشاهد المنيفة والشوق إلى المثول بمعاهدها الشريفة وجَعَلَ حُبَّهَا متمكنًا في القلوب؛ فلا يَحُلُّها أحد إلا أَخَذَتْ بمجامع قلبه، ولا يفارقها إلا أسفًا لفراقها متولهًا لبعاده عنها شديد الحنين إليها ناويًا لتكرار الوفادة عليها، فأرْضها المباركة نصب الأعين، ومَحَبَّتُها حشو القلوب حكمة من الله بالغة وتصديقًا لدعوة خليله عليه السلام، والشوق يحضرها وهي نائبة، ويمثلها وهي غائبة، ويهون على قاصدها ما يلقاه من المشاقِّ ويعانيه من العناء، وكم من ضعيف يرى الموت عيانًا دونها ويشاهد التلف في طريقها، فإذا جَمَعَ الله بها شمله تلقَّاها مسرورًا مستبشرًا كأنه لم يَذُقْ لها مرارة ولا كابَدَ محنة ولا نصبًا، إنه لَأَمْرٌ إلهي وصُنْع رباني، ودلالة لا يشوبها لبس ولا تغشاها شبهة ولا يطرقها تمويه، وتعزُّ في بصيرة المستبصرين وتبدو في فكرة المتفكرين، ومَنْ رَزَقَهُ الله تعالى الحلول بتلك الأرجاء والمثول بذلك الفناء فقد أَنْعَمَ الله عليه النعمة الكبرى وخَوَّلَه خير الدارين الدنيا والأخرى، فحقَّ عليه أن يُكْثِر الشكر على ما خَوَّلَه ويُدِيم الحمد على ما أولاه، جَعَلَنَا الله تعالى ممن قُبِلَتْ زيارتُه، ورَبِحَتْ في قَصْدها تجارتُه، وكُتِبَتْ في سبيل الله آثاره، ومحيت بالقبول أوزارُه بمَنِّه وكَرَمِهِ.

ذكر مدينة مكة المعظمة

وهي مدينة كبيرة متصلة البنيان مستطيلة في بطن وادٍ تحفُّ به الجبال، فلا يراها قاصدها حتى يصل إليها، وتلك الجبال المطلة عليها ليست بمفرطة الشموخ، والأخشبان من جبالها هما جبل أبي قبيس وهو في جهة الجنوب منها، وجبل قعيقعان وهو في جهة منها، وفي الشمال منها الجبل الأحمر، ومن جهة أبي قبيس أجياد الأكبر وأجياد الأصغر، وهما شِعْبان، والحندمة وهي جبل وستُذْكَر، والمناسك كلها — منى وعرفة والمزدلفة — بشرقي مكة شرفها الله، ولمكة من الأبواب ثلاثة: باب المعلى بأعلاها، وباب الشبيكة من أسفلها ويُعْرَف أيضًا بباب الزاهر، وباب العمرة وهو إلى جهة المغرب وعليه طريق المدينة الشريفة، ومصر والشام وجدة ومنه يُتَوَجَّه إلى التنعيم وسيُذْكَر ذلك، وباب المسفل وهو من جهة الجنوب، ومنه دخل خالد بن الوليد رضي الله عنه يوم الفتح، ومكة — شرفها الله — كما أخبر الله في كتابه العزيز حاكيًا عن نبيه الخليل: بوادٍ غير ذي زرع، ولكن سبقت لها الدعوة المباركة، فكل طرفة تُجْلَب إليها وثمرات كل شيء تجبى لها، ولقد أَكَلْتُ بها من الفواكه العنب والتين والخوخ والرطب ما لا نظير له في الدنيا، وكذلك البطيخ المجلوب إليها لا يماثله سواه طيبًا وحلاوة، واللحوم بها سمان لذيذات الطعوم، وكل ما يفترق في البلاد من السلع فيها اجتماعه، وتُجْلَب لها الفواكه والخُضَر من الطائف ووادي نخلة وبطن مر لطفًا من الله بسكان حَرَمِه الأمين ومجاوري بيته العتيق.

ذكر المسجد الحرام شَرَّفه الله وكَرَّمه

والمسجد الحرام في وسط البلد، وهو مُتَّسِع الساحة طوله من شرق إلى غرب أزيد من أربعمائة ذراع، حكى ذلك الأزرقي، وعرضه يقرب من ذلك، والكعبة العظمى في وسطه، ومنظره بديع ومرآه جميل لا يتعاطى اللسان وَصْف بدائعه ولا يحيط الواصف بحسن كماله، وارتفاع حيطانه نحو عشرين ذراعًا، وسقفه على أعمدة طوال مُصْطَفَّة ثلاث صفوف بأتقن صناعة وأجملها، وقد انتظمت بلاطاته الثلاثة انتظامًا عجيبًا كأنها بلاط واحد، وعدد سواريه الرخامية أربعمائة وإحدى وتسعون سارية ما عدا الجصية التي في دار الندوة المزيدة في الحرم، وهي داخلة في البلاط الآخذ في الشمال، ويقابلها المقام مع الركن العراقي، وفضاؤها مُتَّصِل يدخل من هذا البلاط إليه ويتصل بجدار هذا البلاط مساطب تحت قُسِيِّ حنايا يجلس بها المقرئون والنساخون والخياطون، وفي جدار البلاط الذي يقابله مساطب تماثلها وسائر البلاطات تحت جداراتها مساطب بدون حنايا، وعند باب إبراهيم مَدْخَل من البلاط الغربي فيه سواري جصية، وللخليفة المهدي محمد بن الخليفة أبي جعفر المنصور رضي الله عنهما آثار كريمة في توسيع المسجد الحرام وإحكام بنائه، وفي أعلى جدار البلاط الغربي مكتوب: أَمَرَ عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين أصلحه الله بتوسعة المسجد الحرام لحاج بيت الله وعمارته في سنة سبع وستين ومائة.

ذكر الكعبة المعظمة الشريفة زادها الله تعظيمًا وتكريمًا

والكعبة ماثلة في وسط المسجد، وهي بنية مربعة ارتفاعها في الهواء من الجهات الثلاث ثمانٍ وعشرون ذراعًا، ومن الجهة الرابعة التي بين الحجر الأسود والركن اليماني تسع وعشرون ذراعًا، وعَرْض صفحتها التي من الركن العراقي إلى الحجر الأسود أربعة وخمسون شبرًا، وكذلك عرض الصفحة التي تقابلها من الركن اليماني إلى الركن الشامي، وعرض صفحتها التي من الركن العراقي إلى الركن الشامي من داخل الحجر ثمانية وأربعون شبرًا، وكذلك عرض الصفحة التي تقابلها من الركن الشامي إلى الركن العراقي، وأما خارج الحجر فإنه مائة وعشرون شبرًا، والطواف إنما هو خارج الحجر، وبناؤها بالحجارة الصم السمر قد أُلْصِقَتْ بأبدع الإلصاق وأَحْكَمِه وأشهده، فلا تغيرها الأيام ولا تؤثر فيها الأزمان، وباب الكعبة المعظمة في الصفح الذي بين الحجر الأسود والركن العراقي، وبينه وبين الحجر الأسود عشرة أشبار، وذلك الموضع هو المسمى بالملتزم، حيث يستجاب الدعاء، وارتفاع الباب عن الأرض أحد عشر شبرًا ونصف شبر، وسعته ثمانية أشبار، وطوله ثلاثة عشر شبرًا، وعرض الحائط الذي ينطوي عليه خمسة أشبار، وهو مصفح بصفائح الفضة بديع الصنعة وعضادتاه وعتبته العليا مصفحات بالفضة وله نقارتان كبيرتان من فضة عليهما قفل.

ويُفْتَح الباب الكريم في كل يوم جمعة بعد الصلاة، ويُفْتَح في يوم مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا، ورسمهم في فتحه أن يضعوا كرسيًّا شبه المنبر له درج وقوائم خشب لها أربع بكرات يجري الكرسي عليها ويلصقونه إلى جدار الكعبة الشريفة، فيكون درجه الأعلى متصلًا بالعتبة الكريمة ثم يصعد كبير الشيبيين وبيده المفتاح الكريم ومعه السدنة فيمسكون الستر المسبل على باب الكعبة المسمى بالبرقع بخلال ما يفتح رئيسهم الباب، فإذا فتحه قبل العتبة الشريفة ودخل البيت وحده وسد الباب، وأقام قدر ما يركع ركعتين، ثم يدخل سائر الشيبيين ويسدون الباب أيضًا ويركعون، ثم يفتح الباب ويبادر الناس بالدخول، وفي أثناء ذلك يقفون مستقبلين الباب الكريم بأبصار خاشعة وقلوب ضارعة وأيد مبسوطة إلى الله تعالى، فإذا فتح كبروا ونادوا: اللهم افتح لنا أبواب رحمتك ومغفرتك يا أرحم الراحمين، وداخل الكعبة الشريفة مفروش بالرخام المجزع وحيطانه كذلك، وله أعمدة ثلاثة طوال مفرطة الطول من خشب الساج، بين كل عمود منها وبين الآخر أربع خُطًا، وهي متوسطة في الفضاء داخل الكعبة الشريفة يقابل الأوسط منها نِصْف عَرْض الصفح الذي بين الركنين العراقي والشامي، وستور الكعبة الشريفة من الحرير الأسود مكتوب فيها بالأبيض وهي تتلألأ عليها نورًا وإشراقًا وتكسو جميعها من الأعلى إلى الأرض.

ومن عجائب الآيات في الكعبة الكريمة أن بابها يُفْتَح والحرم غاصٌّ بأمم لا يحصيها إلا الله الذي خَلَقَهُم ورَزَقَهُم فيدخلونها أجمعين ولا تضيق عنهم، ومن عجائبها أنها لا تخلو عن طائف أبدًا ليلًا ولا نهارًا، ولم يَذْكُر أحد أنه رآها قط دون طائف، ومن عجائبها أن حَمام مكة على كَثْرَتِه وسواه من الطير لا ينزل عليها ولا يعلوها في الطيران، وتجد الحمام يطير على أعلى الحرم كله، فإذا حاذى الكعبة الشريفة عرج عنها إلى إحدى الجهات ولم يَعْلُها، ويقال: إنه لا ينزل عليها طائر إلا إذا كان به مرض، فإما أن يموت لحينه أو يبرأ من مرضه، فسبحان الذي خَصَّها بالتشريف والتكريم، وجَعَلَ لها المهابة والتعظيم.

ذكر الميزاب المبارك

والميزاب في أعلى الصفح الذي على الحِجْر، وهو من الذهب، وسعته شبر واحد، وهو بارز بمقدار ذراعين، والموضع الذي تحت الميزاب مظنة استجابة الدعاء، وتحت الميزاب في الحِجْر هو قبر إسماعيل عليه السلام، وعليه رخامة خضراء مستطيلة على شكل محراب متصلة برخامة خضراء مستديرة وكلتاهما سعتها مقدار شبر ونصف شبر، وكلتاهما غريبة الشكل رائقة المنظر، وإلى جانبه مما يلي الركن العراقي قبر أمه هاجر عليها السلام، وعلامته رخامة خضراء مستدير سعتها مقدار شبر ونصف، وبين القبرين سبعة أشبار.

ذكر الحجر الأسود

وأما الحجر الأسود، فارتفاعه عن الأرض ستة أشبار، فالطويل من الناس يتطامن لتقبيله، والصغير يَتَطَاول إليه وهو ملصق في الركن الذي إلى جهة المشرق، وسعته ثُلُثَا شبر، وطوله شبر وعقد، ولا يُعْلَم قَدْر ما دخل منه في الركن، وفيه أربع قطع ملصقة، ويقال: إن القرمطي لعنه الله كسره، وقيل إن الذي كسره سِواه، ضربه بدبوس فكسره وتبادر الناس إلى قتله وقُتِلَ بسببه جماعة من المغاربة، وجوانب الحجر مشدودة بصفيحة من فضة يلوح بياضها على سواد الحجر الكريم فتجتلي منه العيون حسنًا باهرًا، ولتقبيله لذة يتنعم بها الفم ويَوَدُّ لاثمه أن لا يفارق لثمه خاصية مودعة فيه وعناية ربانية به، وكفى قول رسول الله : «إنه يمين الله في أرضه»، نَفَعَنَا الله باستلامه ومصافحته، وأَوْفَدَ عليه كل شيِّق إليه، وفي القطعة الصحيحة من الحجر الأسود مما يلي جانبه المُوالي ليمين مُسْتَلِمه نقطة بيضاء صغيرة مشرقة كأنها خال في تلك الصحيفة البهية، وترى الناس إذا طافوا بها يتساقط بعضهم على بعض ازدحامًا على تقبيله، فقَلَّمَا يتمكن أحد من ذلك إلا بعد المزاحمة الشديدة، وكذلك يصنعون عند دخول البيت الكريم، ومن عند الحجر الأسود ابتداء الطواف، وهو أول الأركان التي يلقاها الطائف، فإذا استلمه تقهقر عنه قليلًا، وجعل الكعبة الشريفة عن يساره ومضى في طوافه، ثم يلقى بعده الركن العراقي وهو إلى جهة الشمال، ثم يلقى الركن الشامي وهو إلى جهة الغرب، ثم يلقى الركن اليماني وهو إلى جهة الجنوب، ثم يعود إلى الحجر الأسود وهو إلى جهة الشرق.

ذكر المقام الكريم

اعلم أن بين باب الكعبة شرَّفها الله وبين الركن العراقي موضعًا طوله اثنا عشر شبرًا وعرضه نحو النصف من ذلك وارتفاعه نحو شبرين، وهو موضع المقام في مدة إبراهيم عليه السلام، ثم صَرَفَهُ النبي إلى الموضع الذي هو الآن مصلًّى، وبقي ذلك الموضع شبه الحوض وإليه ينصبُّ ماء البيت الكريم إذا غُسِلَ، وهو موضع مبارك يزدحم الناس للصلاة فيه، وموضع المقام الكريم يقابل ما بين الركن العراقي والباب الكريم، وهو إلى الباب أميل، وعليه قبة تحتها شباك حديد متجافٍ عن المقام الكريم قَدْر ما تصل أصابع الإنسان إذا أدخل يده من ذلك الشباك إلى الصندوق، والشباك مقفل ومن ورائه موضع محوز قد جعل مصلًّى لركعتي الطواف، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا لما دَخَلَ المسجد أتى البيت فطاف به سبعًا ثم أتى المقام فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، ورَكَعَ خَلْفَه ركعتين، وخَلْف المقام مصلَّى إمام الشافعية في الحطيم الذي هنالك.

ذكر الحجر والمطاف

ودور جدار الحجر تسع وعشرون خطوة وهي أربعة وتسعون شبرًا من داخل الدائرة وهو بالرخام البديع المجزع المحكَم الإلصاق، وارتفاعه خمسة أشبار ونصف شبر، وسعته أربعة أشبار ونصف شبر، وداخل الحجر بلاط واسع مفروش بالرخام المجزع المنظم المعجز الصنعة البديع الإتقان، وبين جدار الكعبة الشريفة الذي تحت الميزاب وبين ما يقابله من جدار الحجر على خط استواء أربعون شبرًا، وللحجر مدخلان: أحدهما بينه وبين الركن العراقي، وسعته ستة أذرع، وهذا الموضع هو الذي تَرَكَتْه قريش من البيت حين بَنَتْه كما جاءت الآثار الصحاح، والمدخل الآخر عند الركن الشامي، وسعته أيضًا ستة أذرع، وبين المدخلين ثمانية وأربعون شبرًا، وموضع الطواف مفروش بالحجارة السود محكمة الإلصاق، وقد اتسعت عن البيت بمقدار تسع خُطًا إلا في الجهة التي تقابل المقام الكريم، فإنها امتدت إليه حتى أحاطت به، وسائر الحرم مع البلاطات مفروش برمل أبيض، وطواف النساء في آخر الحجارة المفروشة.

ذكر زمزم المباركة

وقبة بئر زمزم تقابل الحجر الأسود وبينهما أربع وعشرون خطوة، والمقام الكريم عن يمين القبة ومن ركنها إليه عشر خُطًا، وداخل القبة مفروش بالرخام الأبيض، وتنور البئر المباركة في وسط القبة مائلًا إلى الجدار المقابل للكعبة الشريفة، وهو من الرخام البديع الإلصاق مفروغ بالرصاص، ودوره أربعون شبرًا، وارتفاعه أربعة أشبار ونصف شبر، وعمق البئر إحدى عشرة قامة، وهم يَذْكُرون أن ماءها يتزايد في كل ليلة جمعة، وباب القبة إلى جهة الشرق، وقد استدارت بداخل القبة سقاية سعتها شبر وعمقها مثل ذلك، وارتفاعها عن الأرض نحو خمسة أشبار تملأ ماء للوضوء وحولها مسطبة يقعد الناس عليها للوضوء، ويلي قبة زمزم قبة الشراب المنسوبة إلى العباس رضي الله عنه، وبابها إلى جهة الشمال، وهي الآن يُجْعَل بها ماء زمزم في قلال يسمونها الدوارق، وكل دورق له مقبض واحد، وتترك بها ليبرد فيها الماء فيشربه الناس، وبها اختزان المصاحف الكريمة والكتب التي للحرم الشريف، وبها خزانة تحتوي على تابوت مبسوط مُتَّسِع فيه مصحف كريم بخط زيد بن ثابت رضي الله عنه، منتسَخ سنة ثمان عشرة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا، وأهل مكة إذا أصابهم قحط أو شدة أخرجوا هذا المصحف الكريم وفتحوا باب الكعبة الشريفة ووضعوه على العتبة الشريفة ووضعوه في مقام إبراهيم عليه السلام واجتمع الناس كاشفين رءوسهم داعين متضرعين متوسلين بالمصحف العزيز والمقام الكريم، فلا ينفصلون إلا وقد تَدَارَكَهُم الله برحمته وتَغَمَّدَهُم بلطفه، ويلي قبة العباس رضي الله تعالى عنه على انحراف منها القبة المعروفة بقبة اليهودية.

ذكر أبواب المسجد الحرام وما دار به من المشاهد الشريفة

وأبواب المسجد الحرام شرفه الله تعالى تسعة عشر بابًا، وأكثرها مُفَتَّحة على أبواب كثيرة، فمنها باب الصفا وهو مُفَتَّح على خمسة أبواب، وكان قديمًا يُعْرَف بباب بني مخزوم، وهو أكبر أبواب المسجد ومنه يُخْرَج إلى المسعى، ويُسْتَحَبُّ للوافد على مكة أن يَدْخُل المسجد الحرام — شَرَّفَه الله — من باب بني شيبة، ويَخْرُج بعد طوافه من باب الصفا جاعلًا طريقه بين الأسطوانتين اللتين أقامهما أمير المؤمنين المهدي رحمه الله، علمًا على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا إلى الصفا، ومنها باب أجياد الأصغر مُفَتَّح على بابين، ومنها باب الخياطين مُفَتَّح على بابين، ومنها باب العباس رضي الله عنه مُفَتَّح على ثلاثة أبواب، ومنها باب النبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا مفتَّح على بابين، ومنها باب بني شيبة وهو في ركن الجدار الشرقي من جهة الشمال أمام باب الكعبة الشريفة متياسرًا وهو مُفَتَّح على ثلاثة أبواب، وهو باب بني عبد شمس ومنه كان دخول الخلفاء، ومنها بابٌ صغير إزاء باب بني شيبة لا اسم له، وقيل: يُسَمَّى باب الرباط؛ لأنه يُدْخَل منه لرباط السدرة، ومنها باب الندوة، ويسمى بذلك ثلاثة أبواب؛ اثنان منتظمان والثالث في الركن الغربي من دار الندوة، ودار الندوة قد جُعِلَتْ مسجدًا شارعًا في الحرم مضافًا إليه وهي تقابل الميزاب، ومنها باب صغير لدار العجلة محدث، ومنها باب السدرة واحد، ومنها باب العمرة واحد، وهو من أجامل أبواب الحرم، ومنها باب إبراهيم واحد والناس مختلفون في نسبته، فبعضهم يَنْسِبُه إلى إبراهيم الخليل عليه السلام، والصحيح أنه منسوب إلى إبراهيم الخوزي من الأعاجم، ومنها باب الحزورة مُفَتَّح على بابين، ومنها باب أجياد الأكبر مُفَتَّح على بابين، ومنها بابٌ يُنْسَب إلى أجياد أيضًا مُفَتَّح على بابين، وباب ثالث يُنْسَب إليه مُفَتَّح على بابين ويتصل لباب الصفا، ومن الناس من يَنْسِب البابين من هذه الأربعة المنسوبة لأجياد إلى الدقاقين.

وصوامع المسجد الحرام خمسٌ؛ إحداهن على ركن أبي قبيس عند باب الصفا، والأخرى على ركن باب بني شيبة، والثالثة على باب دار الندوة، والرابعة على ركن باب السدرة، والخامسة على ركن أجياد، وبمقربة من باب العمرة مدرسة عمرها السلطان المعظم يوسف بن رسول ملك اليمن المعروف بالملك المظفر الذي تُنْسَب إليه الدراهم المظفرية باليمن، وهو كان يكسو الكعبة إلى أن غَلَبَهُ على ذلك الملك المنصور قلاوون، وبخارج باب إبراهيم زاوية كبيرة فيها دار إمام المالكية الصالح أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المدعو بخليل، وعلى باب إبراهيم قبة عظيمة مفرطة السمو قد صُنِعَ في داخلها من غرائب صُنْع الجص ما يَعْجز عنه الوصف، وبإزاء هذا الباب عن يمين الداخل إليه كان يَقْعُد الشيخ العابد جلال الدين محمد بن أحمد الأفشهري، وخارج باب إبراهيم بئر تُنْسَب كنسبته وعنده أيضًا دار الشيخ الصالح دانيال العجمي الذي كانت صدقات العراق في أيام السلطان أبي سعيد تأتي على يديه، وبمقربة منه رباط الموفق وهو من أحسن الرباطات، سَكَنْتُه أيام مُجَاوَرَتِي بمكة المعظمة، وكان به في ذلك العهد الشيخ الصالح أبو عبد الله الزواوي المغربي.

وسَكَنَ به أيضًا الشيخ الصالح الطيار سعادة الجراني، ودخل يومًا إلى بيته بعد صلاة العصر، فوُجِدَ ساجدًا مستقبل الكعبة الشريفة ميتًا من غير مرضٍ كان به — رضي الله عنه — وسَكَنَ به الشيخ الصالح شمس الدين محمد الشامي نحوًا من أربعين سنة، وسكن به الشيخ الصالح شعيب المغربي من كبار الصالحين، دخلْتُ عليه يومًا فلم يَقَعْ بصري في بيته على شيء سوى حصير، فقلت له في ذلك، فقال لي: اسْتُرْ عليَّ ما رأيت، وحَوْل الحرم الشريف دُور كثيرة لها مناظر وسطوح يُخْرَج منها إلى سطح الحرم، وأهلها في مشاهدة البيت الشريف على الدوام، ودُور لها أبواب تفضي إلى الحرم، منها دار زبيدة زوج الرشيد أمير المؤمنين، ومنها دار العجلة ودار الشرابي وسواها.

ومن المشاهد الكريمة بمقربة من المسجد الحرام قبة الوحي وهي في دار خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بمقربة من باب النبي ، وفي البيت قبة صغيرة حيث وُلِدَتْ فاطمة عليها السلام، وبمقربة منها دار أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ويقابلها جدارٌ مباركٌ فيه حَجَرٌ مبارك بارِزٌ طَرْفُه من الحائط يستلمه الناس، ويقال: إنه كان يُسَلِّم على النبي ، ويُذْكَر أن النبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا جاء يومًا إلى دار أبي بكر الصديق ولم يكن حاضرًا، فنادى به النبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا، فنَطَقَ ذلك الحجر وقال: يا رسول الله، إنه ليس بحاضر.

ذكر الصفا والمروة

ومن باب الصفا الذي هو أحد أبواب المسجد الحرام إلى الصفا ست وسبعون خطوة، وسعة الصفا سبع عشرة خطوة، وله أربع عشرة درجة، علياهن كأنها مسطبة، وبين الصفا والمروة أربعمائة وثلاث وتسعون خطوة، منها من الصفا إلى الميل الأخضر ثلاث وتسعون خطوة، ومن الميل الأخضر إلى الميلين الأخضرين خمس وسبعون خطوة، ومن الميلين الأخضرين إلى المروة ثلاثمائة وخمس وعشرون خطوة، وللمروة خمس درجات وهي ذات قوس واحد كبير، وسعة المروة سبع عشرة خطوة، والميل الأخضر هو سارية خضراء مثبتة مع ركن الصومعة التي على الركن الشرقي من الحرم عن يسار الساعي إلى المروة، والميلان الأخضران هما ساريتان خضراوان إزاء باب علي من أبواب الحرم، أحدهما في جدار الحرم عن يسار الخارج من الباب والأخرى تقابلها، وبين الميل الأخضر والميلين الأخضرين يكون الرمل ذاهبًا وعائدًا، وبين الصفا والمروة مسيل فيه سوق عظيمة يباع فيها الحبوب واللحم والتمر والسمن وسواها من الفواكه، والساعون بين الصفا والمروة لا يكادون يخلصون لازدحام الناس على حوانيت الباعة، وليس بمكة سوق منتظمة سوى هذه إلا البزازون والعطارون عند باب بني شيبة، وبين الصفا والمروة دار العباس رضي الله عنه، وهي الآن رباط يسكنه المجاورون عَمَرَهُ الملك الناصر رحمه الله، وبنى أيضًا دار وضوء فيما بين الصفا والمروة سنة ثمان وعشرين، وجَعَلَ لها بابين أحدهما في السوق المذكور والآخر في سوق العطارين وعليها ربع يسكنه خدامها، وتولى بناء ذلك الأمير علاء الدين بن هلال، وعن يمين المروة دار أمير مكة سيف الدين عطيفة بن أبي نمي، وسنذكره.

ذكر الجبانة المباركة

وجبانة مكة خارجها باب المعلى، ويُعْرَف ذلك الموضع أيضًا بالحجون، وإياه عنى الحارث بن مضاض الجرهمي بقوله (طويل):

كأنْ لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيسٌ ولم يَسْمُرْ بمكة سَامِرُ
بلى نحن كنا أَهْلَهَا فأبادنا
صروف الليالي والجدود العواثرُ

وبهذه الجبانة مدفن الجم الغفير من الصحابة والتابعين والعلماء والصالحين والأولياء، إلا أن مَشاهدهم دَثَرَتْ وذَهَبَ عن أهل مكة عِلْمُها، فلا يُعْرَف منها إلا القليل، فمن المعروف منها قبر أم المؤمنين ووزير سيد المرسلين خديجة بنت خويلد أم أولاد النبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا كلهم — ما عدا إبراهيم — وجدة السبطين الكريمين صلوات الله وسلامه على النبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا وعليهم أجمعين، وبمقربة منه قبر الخليفة أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور وعبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهم أجمعين، وفيها الموضع الذي صُلِبَ فيه عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وكان به بنية هَدَمَها أهل الطائف غيرة منهم لِمَا كان يَلْحَق حَجَّاجَهُم المبير من اللعن، وعن يمين مستقبل الجبانة مسجد خراب يقال إنه المسجد الذي بايَعَت الجن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا، وعلى هذه الجبانة طريق الصاعد إلى عرفات وطريق الذاهب إلى الطائف وإلى العراق.

ذكر بعض المشاهد خارج مكة

فمنها الحجون وقد ذكرناه، ويقال أيضًا: إن الحجون هو الجبل المطل على الجبانة، ومنها المحصب، وهو أيضًا الأبطح، وهو يلي الجبانة المذكورة، وفيه خيف بني كنانة الذي نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا، ومنها ذو طوًى وهو وادٍ يَهْبِط على قبور المهاجرين التي بالحصحاص دون ثنية كداء، ويُخْرَج منه إلى الأعلام الموضوعة حجزًا بين الحل والحرم، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه إذا قَدِمَ مكة — شَرَّفَها الله تعالى — يبيت بذي طوى ثم يغتسل منه ويغدو إلى مكة، ويُذْكَر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا فَعَلَ ذلك، ومنها ثنية كُدًى (بضم الكاف)، وهي بأعلى مكة، ومنها دخل رسول الله في حجة الوداع إلى مكة ومنها ثنية كَداء (بفتح الكاف)، ويقال لها: الثنية البيضاء، وهي بأسفل مكة، ومنها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا عام الوداع، وهي بين جبلين وفي مضيقها كوم حجارة موضوع على الطريق وكل من يمر به يرجمه بحجر، ويقال: إنه قبر أبي لهب وزوجه حمالة الحطب، وبين هذه الثنية وبين مكة بسيط سهل ينزله الركب إذا صدروا عن منى، وبمقربة من هذا الموضع على نحو ميل من مكة شَرَّفَها الله مسجد بإزائه حجر موضوع على الطريق كأنه مسطبة يعلوه حجر آخر كان فيه نقش فدُثِرَ رَسْمُه، يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا قَعَدَ بذلك الموضع مستريحًا عند مجيئه من عمرته فيتبرك الناس بتقبيله ويستندون إليه، ومنها التنعيم وهو على فرسخ من مكة، ومنه يَعْتَمِرُ أهل مكة، وهو أدنى الحل إلى الحرم، ومنه اعتمرتْ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا في حجة الوداع مع أخيها عبد الرحمن رضي الله عنه، وأَمَرَهُ أن يُعْمِرَها من التنعيم، وبُنِيَتْ هنالك مساجد ثلاثة على الطريق تُنْسَب كلها إلى عائشة رضي الله عنها، وطريق التنعيم طريق فسيح والناس يتحرَّوْن كنسه في كل يوم رغبة في الأجر والثواب؛ لأن من المعتمرين من يمشي فيه حافيًا، وفي هذا الطريق الآبار العذبة التي تُسَمَّى الشبيكة ومنها الزاهر وهو على نحو ميلين من مكة على طريق التنعيم وهو موضع على جانِبَي الطريق، فيه أثر دور وبساتين وأسواق، وعلى جانب الطريق دكان مستطيل تُصَفُّ عليه كيزان الشرب وأواني الوضوء يملؤها خديم ذلك الموضع من آبار الزاهر، وهي بعيدة القعر جدًّا، والخديم من الفقراء المجاورين وأهل الخير يعينونه على ذلك لما فيه من المرفقة للمعتمرين من الغسل والشرب والوضوء، وذو طوًى يتصل بالزاهر.

ذكر الجبال المطيفة بمكة

فمنها جبل أبي قبيس وهو في جهة الجنوب والشرق من مكة حَرَسَها الله، وهو أحد الأخشبين وأدنى الجبال من مكة شَرَّفَها الله، ويقابل ركن الحجر الأسود، وبأعلاه مسجد وأثر رباط وعمارة، وكان الملك الظاهر رحمه الله أراد أن يعمره، وهو مُطِلٌّ على الحرم الشريف وعلى جميع البلد، ومنه يظهر حُسْن مكة — شرفها الله — وجمال الحرم واتساعه والكعبة المعظمة، ويُذْكَر أن جبل أبي قبيس هو أول جبل خَلَقَهُ الله تعالى وفيه استودع الحجر زمان الطوفان، وكانت قريش تسميه الأمين؛ لأنه أدى الحجر الذي استُودِعَ فيه إلى الخليل إبراهيم عليه السلام، ويقال: إن قَبْر آدم عليه السلام به، وفي جبل أبي قبيس موضعُ موقف النبي حين انشق له القمر، ومنها قعيقعان وهو أحد الأخشبين، ومنها الجبل الأحمر وهو في جهة الشمال من مكة شرفها الله، ومنها الخندمة وهو جبل عند الشعبين المعروفين بأجياد الأكبر وأجياد الأصغر، ومنها جبل الطير وهو على أربعة عن جهتَي طريق التنعيم، يقال: إنها الجبال التي وَضَعَ عليها الخليل عليه السلام أجزاء الطير ثم دعاها حسبما نصَّ الله في كتابه العزيز وعليها أعلام من حجارة، ومنها جبل حراء وهو في الشمال من مكة — شرفها الله تعالى — على نحو فرسخ منها، وهو مُشْرِف على منًى ذاهب في الهواء عالي القنة، وكان رسول الله يتعبد فيه كثيرًا قبل المبعث، وفيه أتاه الحق من ربه وبدا الوحي، وهو الذي اهتزَّ تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا، فقال رسول الله : «اثبت، فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد»، واخْتُلِفَ فيمن كان معه يومئذ، وروي أن العشرة كانوا معه، وقد رُوِيَ أيضًا أن جبل ثبير اهتز تحته أيضًا، ومنها جبل ثور وهو على مقدار فرسخ من مكة — شرفها الله تعالى — على طريق اليمن، وفيه الغار الذي آوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا حين خروجه مهاجرًا من مكة — شرفها الله — ومعه الصِّدِّيق رضي الله عنه حسبما ورد في الكتاب العزيز.

وذكر الأزرقي في كتابه أن الجبل المذكور نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا وقال: إلي يا محمد إلي إلي، فقد آويتُ قبلك سبعين نبيًّا، فلما دَخَلَ رسول الله الغار، واطمأن به وصاحبه الصديق معه نَسَجَت العنكبوت من حينها على باب الغار، وصَنَعَت الحمامة عشًّا وفَرَّخَتْ فيه بإذن الله تعالى، فانتهى المشركون ومعهم قُصَّاص الأثر إلى الغار، فقالوا: ها هنا انقطع الأثر، ورأوا العنكبوت قد نَسَجَ على فم الغار والحمام مفرخة، فقالوا: ما دَخَلَ أحد هنا وانصرفوا، فقال الصديق: يا رسول الله، لو ولجوا علينا منه، قال: كنا نخرج من هنا، وأشار بيده المباركة إلى الجانب الآخر ولم يكن فيه باب فانفتح فيه باب للحين بقدرة الملك الوهاب، والناس يقصدون زيارة هذا الغار المبارك فيرومون دخوله من الباب الذي دخل منه النبي تبركًا بذلك، فمنهم من يتأتى له ومنهم من لا يتأتى له وينشب فيه حتى يتناول بالجذب العنيف، ومن الناس من يصلي أمامه ولا يدخله، وأهل تلك البلاد يقولون: إنه من كان لرشدة دخله ومن كان لزنية لم يقدر على دخوله؛ ولهذا يتحاماه كثير من الناس؛ لأنه مُخْجِل فاضح، قال ابن جزي: أخبرني بعض أشياخنا الحُجَّاج الأكياس أن سبب صعوبة الدخول إليه هو أن بداخله مما يلي هذا الشق الذي يُدْخَل منه حجرًا كبيرًا معترضًا، فمن دخل من ذلك الشق منبطحًا على وجهه وَصَلَ رأسه إلى ذلك الحجر، فلم يمكنه التولج ولا يمكنه أن ينطوي إلى العلو، ووجهه وصدره يليان الأرض، فذلك هو الذي ينشب ولا يخلص إلا بعد الجهد والجبذ إلى خارج، ومن دخل منه مستلقيًا على ظهره أمكنه؛ لأنه إذا وَصَلَ رأسه إلى الحجر المعترض رفع رأسه واستوى قاعدًا، فكان ظهره مستندًا إلى الحجر المعترض وأوسطه في الشق ورجلاه من خارج الغار، ثم يقوم قائمًا بداخل الغار (رجع).

حكاية

ومما اتفق بهذا الجبل لصاحبين من أصحابي، أحدهما الفقيه المكرم أبو محمد عبد الله بن فرحان الإفريقي التوزري، والآخر أبو العباس أحمد الأندلسي الوادي آشي أنهما قصدا (الغار) في حين مُجَاوَرَتهما بمكة — شَرَّفها الله تعالى — في سنة ثمانٍ وعشرين وسبعمائة، وذهبا منفردَيْن لم يَسْتَصْحِبَا دليلًا عارفًا بطريقه، فتاها وضَلَّا طَرِيقَ الغار وسلكا طريقًا سواها منقطعة، وذلك في أوانِ اشتداد الحر وحمي القيظ، فلما نفد ما كان عندهما من الماء وهما لم يصلا إلى الغار أخذا في الرجوع إلى مكة شرفها الله تعالى، فوجدا طريقًا فاتبعاه، وكان يفضي إلى جبل آخر واشتد بهما الحر وأجهدهما العطش وعاينا الهلاك وعجز الفقيه أبو محمد بن فرحان عن المشي جملةً وألقى بنفسه إلى الأرض ونجا الأندلسي بنفسه، وكان فيه فضل قوة، ولم يَزَلْ يسلك تلك الجبال حتى أفضى به الطريق إلى أجياد، فدخل إلى مكة شرفها الله تعالى، وقصدني وأعلمني بهذه الحادثة وبما كان من أمر عبد الله التوزري وانقطاعه في الجبل، وكان ذلك في آخر النهار، ولعبد الله المذكور ابن عم اسمه حسن وهو من سكان وادي نخلة، وكان إذ ذاك بمكة فأَعْلَمْتُه بما جرى على ابن عمه.

وقصدت الشيخ الصالح الإمام أبا عبد الله محمد بن عبد الرحمن المعروف بخليل إمام المالكية نفع الله به، فأَعْلَمْتُه بخبره، فبعث جماعة من أهل مكة عارفين بتلك الجبال والشعاب في طلبه، وكان من أمر عبد الله التوزري أنه لما فارقه رفيقه لجأ إلى حجر كبير، فاستظل بظله، وأقام على هذه الحالة من الجهد والعطش والغربان تطير فوق رأسه وتنتظر موته، فلما انصرم النهار وأتى الليل وجد في نفسه قوة ونعشه برد الليل فقام عند الصباح على قدميه ونزل من الجبل إلى بطن وادٍ حَجَبَت الجبال عنه الشمس، فلم يزل ماشيًا إلى أن بَدَتْ له دابة فقَصَدَ قَصْدَها فوجد خيمة للعرب، فلما رآها وَقَعَ إلى الأرض ولم يستطع النهوض، فرأَتْه صاحبة الخيمة، وكان زوجها قد ذَهَبَ إلى ورد الماء فسقته ما كان عندها من الماء، فلم يُرْوَ وجاء زوجها فسقاه قربة ماء فلم يُرْوَ وأَرْكَبَه حمارًا له وقَدِمَ به مكة فوصلها عند صلاة العصر من اليوم الثاني متغيرًا كأنه قام من قبر.

ذكر أميري مكة

وكانت إمارة مكة في عهد دخولي إليها للشريفين الأجلين الأخوين أسد الدين رميثة وسيف الدين عطيفة ابني الأمير أبي نمي بن أبي سعد بن علي بن قتادة الحسنيين، ورميثة أكبرهما سنًّا، ولكنه كان يُقَدِّم اسم عطيفة في الدعاء له بمكة لعدله، ولرميثة من الأولاد أحمد وعجلان وهو أمير مكة في هذا العهد، وتقية وسند وأم قاسم، ولعطيفة من الأولاد محمد ومبارك ومسعود، ودار عطيفة عن يمين المروة، ودار أخيه رميثة برباط الشرابي عند باب بني شيبة، وتُضْرَب الطبول على باب كل واحد منهما عند صلاة المغرب من كل يوم.

ذِكْر أهل مكة وفضائلهم

ولأهل مكة الأفعال الجميلة والمكارم التامة والأخلاق الحسنة والإيثار إلى الضعفاء والمنقطعين وحُسْن الجوار للغرباء، ومن مَكَارمهم أنهم متى صنع أحدهم وليمة يبدأ فيها بإطعام الفقراء المنقطعين المجاورين ويستدعيهم بتلطُّف ورِفْق وحُسْن خُلُق، ثم يطعمهم وأكثر المساكين المنقطعين يكونون بالأفران حيث يطبخ الناس أخبازهم، فإذا طَبَخَ أحدهم خُبْزَه واحتمله إلى منزله، فيتبعه المساكين فيعطي لكل واحد منهم ما قسم له ولا يردهم خائبين ولو كانت له خبزة واحدة، فإنه يعطي ثلثها أو نصفها طَيِّبَ النفس بذلك من غير ضجر، ومن أفعالهم الحسنة أن الأيتام الصغار يقعدون بالسوق ومع كل واحد منهم قفتان كبرى وصغرى، وهم يُسَمُّون القفة مكتلًا فيأتي الرجل من أهل مكة إلى السوق فيشتري الحبوب واللحم والخضر ويعطي ذلك للصبي فيجعل الحبوب في إحدى قفتيه واللحم والخضر في الأخرى، ويوصل ذلك إلى دار الرجل ليهيئ له طعامه منها، ويذهب الرجل إلى طوافه وحاجته، فلا يُذْكَر أن أحدًا من الصبيان خان الأمانة في ذلك قط، بل يؤدي ما حمل على أتم الوجوه، ولهم على ذلك أجرة معلومة من فلوس، وأهل مكة لهم ظرف ونظافة في الملابس، وأكثر لباسهم البياض، فترى ثيابهم أبدًا ناصعة ساطعة ويستعملون الطِّيب كثيرًا ويكتحلون ويكثرون السواك بِعِيدان الأراك الأخضر، ونساء مكة فائقات الحسن بارعات الجمال ذوات صلاح وعفاف، وهن يُكْثِرْن التطيب حتى إن إحداهن لتبيت طاوية وتشتري بِقُوتِها طيبًا، وهن يقصدن الطواف بالبيت في كل ليلة جمعة، فيأتين في أحسن زي، وتغلب على الحرم رائحة طيبهن، وتذهب المرأة منهن فيبقى أَثَر الطيب بعد ذهابها عبقًا، ولأهل مكة عوائد حسنة في الموسم وغيره، سنذكرها إن شاء الله تعالى إذا فَرَغْنا من ذِكْر فضلائها ومجاوريها.

ذكر قاضي مكة وخطيبها وإمام الموسم وعلمائها وصلحائها

قاضي مكة العالم الصالح العابد نجم الدين محمد، ابن الإمام العالم محيي الدين الطبري، وهو فاضل كثير الصدقات والمواساة للمجاورين حسن الأخلاق كثير الطواف والمشاهدة للكعبة الشريفة، يطعم الطعام الكثير في المواسم المعظمة، وخصوصًا في مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا، فإنه يطعم فيه شرفاء مكة وكبراءها وفقراءها وخدام الحرم الشريف وجميع المجاورين، وكان سلطان مصر الملك الناصر رحمه الله يعظمه كثيرًا وجميع صدقاته وصدقات أمرائه تجري على يديه، وولده شهاب الدين فاضل وهو الآن قاضي مكة — شرفها الله — وخطيب مكة الإمام بمقام إبراهيم عليه السلام الفصيح المصقع وحيد عصره بهاء الدين الطبري، وهو أحد الخطباء الذين ليس بالمعمور مثلهم بلاغة وحُسْن بيان، وذُكِرَ لي أنه ينشئ لكل جمعة خطبة ثم لا يكررها فيما بعد، وإمام الموسم وإمام المالكية بالحرم الشريف هو الشيخ الفقيه العالِم الصالح الخاشع الشهير أبو عبد الله محمد ابن الفقيه الإمام الصالح الورع أبي زيد عبد الرحمن، وهو المشتهر بخليل، نفع الله به وأَمْتَعَ ببقائه وأهله من تلاد الجريد من إفريقية، ويُعْرَفون بها ببني حيون وهم من كبارها، ومولده ومولد أبيه بمكة — شرفها الله — وهو أحد الكبار من أهل مكة، بل واحدها وقطبها بإجماع الطوائف على ذلك، مستغرق العبادة في جميع أوقاته حييٌّ كريم النفس حسن الأخلاق كثير الشفقة لا يَرُدُّ من سأله خائبًا.

حكاية مباركة

رأيت أيام مجاورتي بمكة شرفها الله — وأنا إذ ذاك ساكن منها بالمدرسة المظفرية — رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا في النوم وهو قاعد بمجلس التدريس من المدرسة المذكورة بجانب الشباك الذي تُشَاهَد منه الكعبة الشريفة والناس يبايعونه، فكنت أرى الشيخ أبا عبد الله المدعو بخليل قد دَخَلَ وقعد القرفصاء بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا، وجعل يده في يد رسول الله وقال: أبايعك على كذا وكذا، وعدد أشياء منها: وأن لا أَرُدَّ من بيتي مسكينًا خائبًا، وكان ذلك آخر كلامه، فكنت أعجب من قوله، وأقول في نفسي: كيف يقول هذا ويقدر عليه مع كثرة فقراء مكة واليمن والزيالعة والعراق والعجم ومصر والشام، وكنت أراه حين ذلك لابسًا جبة بيضاء قصيرة من ثياب القطن المدعوة بالقفطان، كان يلبسها في بعض الأوقات، فلما صليت الصبح غدوت عليه وأعلمته برؤياي فسُرَّ بها وبكى، وقال لي: تلك الجبة أهداها بعض الصالحين لجدي، فأنا ألبسها تبركًا، وما رأيته بعد ذلك يرد سائلًا خائبًا، وكان يأمر خُدَّامه يخبزون الخبز ويطبخون الطعام ويأتون به إلي بعد صلاة العصر من كل يوم، وأهل مكة لا يأكلون في اليوم إلا مرة واحدة بعد العصر ويقتصرون عليها إلى مثل ذلك الوقت، ومن أراد الأكل في سائر النهار أكل التمر؛ ولذلك صَحَّتْ أبدانهم وقَلَّتْ فيهم الأمراض والعاهات، وكان الشيخ خليل متزوجًا بنت القاضي نجم الدين الطبري، فشَكَّ في طلاقها وفارقها وتزوجها بعده الفقيه شهاب الدين النويري من كبار المجاورين وهو من صعيد مصر، وأقامت عنده أعوامًا وسافر بها إلى المدينة الشريفة ومعها أخوها شهاب الدين فحنث في يمين بالطلاق ففَارَقَها على ضنانته بها وراجعها الفقيه خليل بعد سنين عدة.

ومن أعلام مكة إمام الشافعية شهاب الدين بن البرهان، ومنهم إمام الحنفية شهاب الدين أحمد بن علي من كبار أئمة مكة وفضلائها، يُطْعم المجاورين وأبناء السبيل، وهو أكرم فقهاء مكة، ويُدَان في كل سنة أربعين ألف درهم وخمسين ألفًا، فيؤديها الله عنه، وأمراء الأتراك يعظمونه ويُحْسِنون الظن به؛ لأنه إمامهم، ومنهم إمام الحنابلة المحدث الفاضل محمد بن عثمان البغدادي الأصل المكي المولد، وهو نائب القاضي نجم الدين والمحتسب بعد قتل تقي الدين المصري، والناس يهابونه لسطوته.

حكاية

كان تقي الدين المصري محتسبًا بمكة، وكان له دخول فيما يعنيه وفيما لا يعنيه، فاتَّفَق في بعض السنين أن أُتِيَ أمير الحاج بصبي من ذوي الدعارة بمكة قد سَرَقَ بعض الحجاج فأمر بقطع يده، فقال له تقي الدين: إن لم نقطعها بحضرتك وإلا غلب أهل مكة خدامك عليه فاستنقذوه منهم وخلصوه فأمر بقطع يده في حضرته فقُطِعَتْ وحَقَدَها لتقي الدين ولم يَزَلْ يتربص به الدوائر ولا قدرة له عليه؛ لأن له حسبًا من الأمير بن رميثة وعطيفة والحسب عندهم أن يعطى أحدهم هدية من عماية أو شاشية بمحضر الناس تكون جوارًا لمن أُعْطِيَتْه ولا نزول حرمتها معه حتى يريد الرحلة والتحول عن مكة، فأقام تقي الدين بمكة أعوامًا ثم عزم على الرحلة وودع الأميرين وطاف طواف الوداع وخرج من باب الصفا فلقيه صاحبه الأقطع وتَشَكَّى له ضَعْف حاله وطَلَبَ منه ما يستعين به على حاجته فانتهره تقي الدين وزَجَرَهُ فاستل خنجرًا له يُعْرَف عندهم بالجنبية وضربه ضربة واحدة كان فيها حَتْفُه.

ومنهم الفقيه الصالح زين الدين الطبري شقيق نجم الدين المذكور من أهل الفضل والإحسان للمجاورين. ومنهم الفقيه المبارك محمد بن فهد القرشي من فضلاء مكة، وكان ينوب عن القاضي نجم الدين بعد وفاة الفقيه محمد بن عثمان الحنبلي. ومنهم العدل الصالح محمد بن البرهان زاهدٌ وَرِع مبتلًى بالوسواس، رأيتُه يومًا يتوضأ من بركة المدرسة المظفرية فيغسل ويكرر، ولما مَسَحَ رأسه أعاد مسحه مرات، ثم لم يقنعه ذلك فغطس رأسه في البركة، وكان إذا أراد الصلاة ربما صلى الإمام الشافعي وهو يقول: نويت نويت، فيصلي مع غيره، وكان كثير الطواف والاعتمار والذكر.

ذكر المجاورين بمكة

فمنهم الإمام العالم الصالح الصوفي المحقق العابد عفيف الدين عبد الله بن أسعد اليمني الشافعي الشهير باليافعي كثير الطواف آناء الليل وأطراف النهار، وكان إذا طاف من الليل يصعد إلى سطح المدرسة المظفرية فيقعد مُشَاهِدًا للكعبة الشريفة إلى أن يغلبه النوم فيجعل تحت رأسه حجرًا وينام يسيرًا ثم يجدد الوضوء ويعود لحاله من الطواف حتى يصلي الصبح، وكان متزوجًا ببنت الفقيه العابد شهاب الدين بن البرهان، وكانت صغيرة السن، فلا تزال تشكو إلى أبيها حالها فيأمرها بالصبر، فأقامت معه على ذلك سنين ثم فارَقَتْه، ومنهم الصالح العابد نجم الدين الأصفوني كان قاضيًا ببلاد الصعيد فانقطع إلى الله تعالى وجاوَرَ بالحرم الشريف، وكان يعتمر في كل يوم من التنعيم ويعتمر في رمضان مرتين في اليوم، اعتمادًا على ما في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا أنه قال: «عمرة في رمضان تعدل حجة معي»، ومنهم الشيخ الصالح العابد شمس الدين محمد الحلبي كثير الطواف والتلاوة من قدماء المجاورين، مات بمكة شَرَّفَها الله. ومنهم الصالح أبو بكر الشيرازي المعروف بالصامت كثير الطواف أقام بمكة أعوامًا لا يتكلم فيها.

ومنهم الصالح خضر العجمي كثير الصوم والتلاوة والطواف. ومنهم الشيخ الصالح برهان الدين العجمي الواعظ، كان يُنْصَب له كرسي تجاه الكعبة الشريفة فيَعِظ الناس ويُذَكِّرهم بلسان فصيح وقَلْب خاشع يأخذ بمجامع القلوب. ومنهم الصالح المجود برهان الدين إبراهيم المصري مقرئ مجيد ساكن رباط السدرة ويقصده أهل مصر والشام بصدقاتهم، ويُعَلِّم الأيتام كتاب الله تعالى ويقوم بمؤنهم ويكسوهم. ومنهم الصالح العابد عز الدين الواسطي من أصحاب الأموال الطائلة يُحْمَل إليه من بلده المال الكثير في كل سنة، فيبتاع الحبوب والتمر ويفرقها على الضعفاء والمساكين، ويتولى حَمْلها إلى بيوتهم بنفسه، ولم يَزَلْ ذلك دأبه إلى أن تُوُفِّيَ. ومنهم الفقيه الصالح الزاهد أبو الحسن علي بن رزق الله الأنجري من أهل قطر طنجة من كبار الصالحين، جَاوَرَ بمكة أعوامًا وبها وفاته، كانت بينه وبين والدي صحبة قديمة، ومتى أتى بلدنا طنجة نزل عندنا، وكان له بيت بالمدرسة المظفرية يُعَلِّم العلم فيها نهارًا ويأوي بالليل إلى مسكنه برباط ربيع، وهو من أحسن الرباطات بمكة، بداخله بئر عذبة لا تماثلها بئر مكة، وسكانه الصالحون وأهل ديار الحجاز يعظمون هذا الرباط تعظيمًا شديدًا وينذرون له النذور وأهل الطائف يأتونه بالفواكه، ومن عادتهم أن كل من له بستان من النخيل والعنب والفرسك وهو الخوج والتين، وهم يسمونه الخمط يخرج منه العشر لهذا الرباط، ويوصلون ذلك إليه على جِمَالهم، ومسيرة ما بين مكة والطائف يومان، ومن لم يفِ بذلك نَقَصَتْ فواكهه في السنة الآتية وأصابتها الجوائح.

حكاية في فضله

أتى يومًا غلمان الأمير أبي نمي صاحب مكة إلى هذا الرباط ودخلوا بِخَيْل الأمير وسَقَوْها من تلك البئر، فلما عادوا بالخيل إلى مرابطها أصابتها الأوجاع وضَرَبَتْ بأنفسها الأرض وبرءوسها وأرجلها، واتصل الخبر بالأمير أبي نمي، فأتى باب الرباط بنفسه واعتذر إلى المساكين الساكنين به، واستصحب واحدًا منهم فمسح على بطون الدواب بيده فأراقت ما كان في أجوافها من ذلك الماء وبرئت مما أصابها ولم يتعرضوا بعدها للرباط إلا بالخير. ومنهم الصالح المبارك أبو العباس الغماري من أصحاب أبي الحسن بن رزق الله، وسكن رباط ربيع، ووفاته بمكة شرفها الله. ومنهم الصالح أبو يعقوب يوسف من بادية سبتة كان خديمًا للشيخين المذكورين، فلما تُوُفِّيَا صار شيخ الرباط بعدهما. ومنهم الصالح السائح السالك أبو الحسن علي بن فرغوس التلمساني، ومنهم الشيخ سعيد الهندي شيخ رباط كلالة.

حكاية

كان الشيخ سعيد قد قصد ملك الهند محمد شاه فأعطاه مالًا عظيمًا قَدِمَ به مكة، فسَجَنَه الأمير عطيفة وطلبه بأداء المال، فامتنع فعُذِّبَ بعصر رجليه، فأعطى خمسة وعشرين ألف درهم نقرة، وعاد إلى بلاد الهند ورأيته بها، ونزل بدار الأمير سيف الدين غدا بن هبة الله بن عيسى بن مهنى أمير عرب الشام، وكان غدا ساكنًا ببلاد الهند، متزوجًا بأخت ملكها، وسيُذْكَر أَمْرُه، فأعطى ملكُ الهند للشيخ سعيد جملةَ مال وتوجَّه صحبة حاجٍّ يُعْرَف بوشل من ناس الأمير غدا وجَّهَهُ الأمير المذكور ليأتيه ببعض ناسه ووَجَّهَ معه أموالًا وتحفًا منها الخلعة التي خلعها عليه ملك الهند ليلة زفافه بأخته، وهي من الحرير الأزرق مزركشة بالذهب ومرصعة بالجوهر بحيث لا يظهر لونها لغلبة الجوهر عليها وبعث معه خمسين ألف درهم ليشتري له الخيل العتاق، فسافر الشيخ سعيد صحبة وشل واشتريا سلعًا بما عندهما من الأموال، فلما وصلا جزيرة سقطرة المنسوب إليها الصبر السقطري خرج عليهما لصوص الهند في مراكب كثيرة فقاتلوهم قتالًا شديدًا مات فيه من الفريقين جملة، وكان وشل راميًا فقَتَلَ منهم جماعة ثم تَغَلَّبَ السُّرَّاق عليهم وطعنوا وشلًا طعنة مات منها بعد ذلك، وأخذوا ما كان عندهم، وتركوا لهم مركبهم بآلة سفره وزادِه فذهبوا إلى عدن ومات بها وشل.

وعادة هؤلاء السُّرَّاق أنهم لا يقتلون أحدًا إلا حين القتال ولا يغرقونه، وإنما يأخذون ماله ويتركونه يذهب بمركبه حيث شاء ولا يأخذون المماليك؛ لأنهم من جنسهم، وكان الحاج سعيد قد سَمِعَ من ملك الهند أنه يريد إظهار الدعوة العباسية ببلده كمثل ما فَعَلَهُ ملوك الهند ممن تقدمه مثل السلطان شمس الدين لَلْمِش واسمه «بفتح اللام الأولى وإسكان الثانية وكسر الميم وشين معجم»، وولده ناصر الدين ومثل السلطان جلال الدين فيروز شاه والسلطان غياث الدين بلبن وكانت الخلع تأتي إليهم من بغداد، فلما تُوُفِّيَ وشل قَصَدَ الشيخ سعيد إلى الخليفة أبي العباس ابن الخليفة أبي الربيع سليمان العباسي بمصر وأعلمه بالأمر، فكتب له كتابًا بِخَطِّه بالنيابة عنه ببلاد الهند، فاستصحب الشيخ سعيد الكتاب، وذهب إلى اليمن، واشترى بها ثلاث خلع سودًا، وركب البحر إلى الهند، فلما وصل كنبايت وهي على مسيرة أربعين يومًا من دهلي حضرة ملك الهند كتب صاحب الخبر إلى الملك يُعْلِمُه بقدوم الشيخ سعيد، وأن معه أَمْر الخليفة وكتابه فوَرَدَ الأمْرُ ببعثه إلى الحضرة مكرَّمًا، فلما قَرُبَ من الحضرة بعث الأمراء والقضاة والفقهاء لِتَلَقِّيه، ثم خرج هو بنفسه لتلقيه فتلقاه وعانقه ودَفَعَ له الأمر فقبله ووضعه على رأسه ودفع له الصندوق الذي فيه الخلع، فاحتمله الملك على كاهله خطوات، ولبس إحدى الخلع وكسا الأخرى الأمير غياث الدين محمد بن عبد القادر بن يوسف بن عبد العزيز بن الخليفة المنتصر العباسي، وكان مقيمًا عنده وسيُذْكَر خبره، وكسا الخلعة الثالثة الأمير قبولة الملقب بالملك الكبير، وهو الذي يقوم على رأسه ويشرد عنه الذباب.

وأَمَرَ السلطان فخلع على الشيخ سعيد ومن معه وأركبه على الفيل ودخل المدينة كذلك والسلطان أمامه على فرسه وعن يمينه وشماله الأميران اللذان كساهما الخلعتين العباسيتين، والمدينة قد زُيِّنَتْ بأنواع الزينة وصُنِعَ بها إحدى عشرة قبة من الخشب، كل قبة منها أربع طبقات، في كل طبقة طائفة من المُغَنِّين رجالًا ونساء، والراقصات وكلهم مماليك السلطان والقبة مزينة بثياب الحرير المُذَهَّب أعلاها وأسفلها، وداخلها وخارجها وفي وسطها ثلاثة أحواض من جلود الجواميس مملوءة ماء قد حُلَّ فيه الجلاب، يشربه كل وارد وصادر لا يُمْنَع منه أحد، وكل من يشرب منه يعطى بعد ذلك خمس عشرة ورقة من أوراق التنبول والفوفل والنورة، فيأكلها فتطيب نكهته وتزيد في حمرة وجهه ولثاته وتقمع عنه الصفراء وتهضم ما أكل من الطعام، ولما ركب الشيخ سعيد على الفيل فُرِشَتْ له ثياب الحرير بين يدي الفيل، يطأ عليها الفيل من باب المدينة إلى دار السلطان وأنزل بدار تقرب من دار الملك وبعث له أموالًا طائلة، وجميع الأثواب المعلقة والمفروشة بالقباب والموضوعة بين يدي الفيل لا تعود إلى السلطان، بل يأخذها أهل الطرب وأهل الصناعات الذين يصنعون القباب وخدام الأحواض وغيرهم، وهكذا فِعْلهم متى قَدِمَ السلطان من سفر، وأَمَرَ الملك بكتاب الخليفة أن يُقْرَأ على المنبر بين الخطبتين في كل يوم جمعة، وأقام الشيخ سعيد شهرًا ثم بَعَثَ معه الملك هدايا إلى الخليفة، فوصل كنبايت وأقام بها حتى تَيَسَّرَتْ أسباب حركته في البحر.

وكان ملك الهند قد بعث أيضًا من عنده رسولًا إلى الخليفة، وهو الشيخ رجب البرقعي أحد شيوخ الصوفية، وأصله من مدينة القرم من صحراء قبجق، وبعث معه هدايا للخليفة منها حجر ياقوت قيمته خمسون ألف دينار، وكتب له يطلب منه أن يَعْقِد له النيابة عنه ببلاد الهند والسند، ويبعث لها سواه من يظهر له، هكذا نص عليه كتابه اعتقادًا منه في الخلافة وحسن نية، وكان للشيخ رجب أخٌ بديار مصر يدعى بالأمير سيف الدين الكاشف، فلما وَصَلَ رجب إلى الخليفة أبى أن يَقْرَأ الكتاب ويَقْبَل الهدية إلا بمحضر الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الناصر، فأشار سيف الدين على أخيه رجب ببيع الحجر فباعه واشترى بثمنه — وهو ثلاثمائة ألف درهم — أربعة أحجار، وحضر بين يدي الملك الصالح ودَفَعَ له الكتاب وأحد الأحجار، ودَفَعَ سائرها لأمرائه، واتفقوا على أن يكتب الملك الهند بما طلبه فوجَّهُوا الشهود إلى الخليفة وأشهد على نفسه أنه قدمه نائبًا عنه ببلاد الهند وما يليها.

وبعث الملك الصالح رسولًا من قبله، وهو شيخ الشيوخ بمصر ركن الدين العجمي، ومعه الشيخ رجب وجماعة من الصوفية، وركبوا بحر فارس من الإبلة إلى هرمز، وسلطانها يومئذٍ قطب الدين تمتهن طوران شاه فأكرم مثواهم وجَهَّزَ لهم مركبًا إلى بلاد الهند، فوصلوا مدينة كتبايت والشيخ سعيد بها، وأميرها يومئذٍ مقبول التلتكي أحد خواص ملك الهند، فاجتمع الشيخ رجب بهذا الأمير وقال له: إن الشيخ سعيد إنما جاءكم بالتزوير والخلع التي ساقها إنما اشتراها بعدن، فينبغي أن تُثْقِفوه وتبعثوه لخوند عالم وهو السلطان، فقال له الأمير: الشيخ سعيد معظَّم عند السلطان، فما يفعل به هذا إلا بأمره ولكني أبعثه معكم ليرى فيه السلطان رأيه، وكتب الأمير بذلك كله إلى السلطان وكتب به أيضًا صاحب الأخبار، فوقع في نفس السلطان تغيُّر، وانقبض عن الشيخ رجب لكونه تَكَلَّم بذلك على رءوس الأشهاد بعدما صدر من السلطان للشيخ سعيد من الإكرام ما صدر، فمنع رجب من الدخول عليه وزاد في إكرام الشيخ سعيد، ولما دخل الشيوخ على السلطان قام إليه وعانقه وأكرمه، وكان متى دخل إليه يقوم له، وبقي الشيخ سعيد المذكور بأرض الهند معظَّمًا مُكَرَّمًا، وبها تَرَكْتُه سنة ثمانٍ وأربعين، وكان بمكة أيام مجاورتي بها حسن المغربي المجنون، وأَمْرُه غريب وشأنه عجيب، وكان قبل ذلك صحيح العقل خديمًا لولي الله تعالى نجم الدين الأصبهاني أيام حياته.

حكايته

كان حسن المجنون كثير الطواف بالليل، وكان يرى في طوافه بالليل فقيرًا يكثر الطواف ولا يراه بالنهار، فلقيه ذلك الفقير ليلة وسأله عن حاله، وقال له: يا حسن، إن أمك تبكي عليك، وهي مشتاقة إلى رؤيتك، وكانت من إماء الله الصالحات، أفتحب أن تراها؟ قال له: نعم، ولكني لا قدرة لي على ذلك، فقال له: نجتمع ها هنا في الليلة المقبلة إن شاء الله تعالى، فلما كانت الليلة المقبلة وهي ليلة الجمعة وجده حيث وَاعَدَهُ فطافا بالبيت ما شاء الله، ثم خرج وهو في أثره إلى باب المعلي، فأمره أن يسد عينيه ويمسك بثوبه ففعل ذلك، ثم قال بعد ساعة: أَتَعْرِف بلدك؟ قال: نعم، قال: ها هو هذا ففتح عينيه، فإذا به على دار أمه فدخل عليها ولم يُعْلِمْها بشيء مما جرى وأقام عندها نصف شهر، وأظن أن بلده مدينة أسفي، ثم خرج إلى الجبانة فوجد الفقير صاحبه فقال له: كيف أنت؟ فقال: يا سيدي إني اشتقت إلى رؤية الشيخ نجم الدين وكنت خرجت على عادتي وغِبْتُ عنه هذه الأيام وأحب أن تَرُدَّنِي إليه، فقال له: نعم، وواعده الجبانة ليلًا، فلما وافاه بها أَمَرَهُ أن يفعل كفِعْله في مكة — شرفها الله — من تغميض عينيه والإمساك بذيله، ففَعَل ذلك، فإذا به في مكة — شرفها الله — وأوصاه أن لا يُحَدِّث نجم الدين بشيء مما جرى ولا يُحَدِّث به غيره، فلما دَخَلَ على نجم الدين قال له: أين كنت يا حسن في غيبتك؟ فأبى أن يُخْبِرَه، فعزم عليه فأخبره بالحكاية فقال: أَرِنِي الرجل، فأتى معه ليلًا وأتى الرجل على عادته، فلما مر بهما قال له: يا سيدي، هو هذا، فسمعه الرجل فضرب بيده على فمه، وقال: اسكت أَسْكَتَكَ الله، فخُرِسَ لسانه وذَهَبَ عقله وبقي بالحرم مولهًا يطوف بالليل والنهار من غير وضوء ولا صلاة، والناس يتبركون به ويكسونه، وإذا جاع خرج إلى السوق التي بين الصفا والمروة، فقصد حانوتًا من الحوانيت فيأكل منها ما أحب لا يصده أحد ولا يمنعه، بل يُسَرُّ كل من أَكَلَ له شيئًا وتظهر له البركة والنماء في بيعه وربحه، ومتى أتى السوق تَطَاوَلَ أهلها بأعناقهم إليه، كلٌّ منهم يَحْرِص على أن يأكل مِنْ عنده لِمَا جربوه من بركته، وكذلك فِعْله مع السقائين متى أحب أن يشرب، ولم يَزَلْ دأبه كذلك إلى سنة ثمانٍ وعشرين، فحج فيها الأمير سيف الدين يلملك فاستصحبه معه إلى ديار مصر، فانقطع خبره — نَفَعَ الله تعالى به.

ذكر عادة أهل مكة في صلواتهم ومواضع أئمتهم

فمن عادتهم أن يصلي أول الأئمة إمام الشافعية وهو المُقَدَّم من قبل أولي الأمر، وصلاته خلف المقام الكريم مقام إبراهيم الخليل عليه السلام في حطيم له هنالك بديع، وجمهور الناس بمكة على مذهبه، والحطيم خشبتان موصول ما بينهما بأذرع شبه السلم تقابلهما خشبتان على صفتهما، وقد عُقِدَتْ على أرجل مجصصة وعُرِضَ على أعلى الخشب خشبة أخرى فيها خطاطيف حديد يعلق منها قناديل زجاج، فإذا صلى الإمام الشافعي صلى بعده إمام المالكية في محراب قبالة الركن اليماني، ويصلي إمام الحنبلية معه في وقت واحد مقابلًا ما بين الحجر الأسود والركن اليماني، ثم يصلي إمام الحنفية قبال الميزاب المكرم تحت حطيم له هنالك، ويوضع بين أيدي الأئمة في محاريبهم الشمع، وترتيبهم هكذا في الصلوات الأربع، وأما صلاة المغرب فإنهم يصلونها في وقت واحد كل إمام يصلي بطائفته، ويدخل على الناس من ذلك سهو وتخليط، فربما ركع المالكي بركوع الشافعي، وسجد الحنفي بسجود الحنبلي، وتراهم مصيخين كلُّ واحد إلى صوت المؤذن الذي يسمع طائفته؛ لئلا يدخل عليه السهو.

ذكر عادتهم في الخطبة وصلاة الجمعة

وعادتهم في يوم الجمعة أن يلصق المنبر المبارك إلى صفح الكعبة الشريفة فيما بين الحجر الأسود والركن العراقي، ويكون الخطيب مستقبلًا المقام الكريم، فإذا خرج الخطيب أقبل لابسًا ثوب سواد معتمًّا بعمامة سوداء وعليه طيلسان أسود، كل ذلك من كسوة الملك الناصر، وعليه الوقار والسكينة، وهو يتهادى بين رايتين سوداوين يتمسكهما رجلان من المؤذنين وبين يديه أحد القومة في يده الفرقعة، وهي عود في طرفه جلد رقيق مفتول ينقضه في الهواء، فيُسْمَع له صوتٌ عالٍ يَسْمَعه من بداخل الحرم وخارجه، فيكون إعلامًا بخروج الخطيب، ولا يزال كذلك إلى أن يقرب من المنبر فيُقَبِّل الحجر الأسود ويدعو عنده، ثم يقصد المنبر والمؤذن الزمزمي — وهو رئيس المؤذنين — بين يديه لابسًا السواد وعلى عاتقه السيف ممسكًا له بيده.

وتُرْكَز الرايتان عن جانبي المنبر، فإذا صعد أول درج من درج المنبر قلده المؤذن السيف فيَضْرِب بنصل السيف ضربة في الدرج يُسْمِع بها الحاضرين، ثم يضرب في الدرج الثاني ضربة ثم في الثالث أخرى، فإذا استوى في عليا الدرجات ضَرَبَ ضربة رابعة ووقف داعيًا بدعاء خفيٍّ مستقبل الكعبة، ثم يُقْبِل على الناس فيسلم عن يمينه وشماله ويرد عليه الناس ثم يقعد، ويؤذن المؤذنون في أعلى قبة زمزم في حين واحد، فإذا فرغ الأذان خطب الخطيب خطبة يكثر بها من الصلاة على النبي ويقول في أثنائها: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد ما طاف بهذا البيت طائف، ويشير بإصبعه إلى البيت الكريم، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد ما وَقَفَ بعرفة واقف، ويَتَرَضَّى عن الخلفاء الأربعة وعن سائر الصحابة وعن عَمَّيِ النبي وسبطيه وأمهما وخديجة جدتهما على جميعهم السلام، ثم يدعو للملك الناصر، ثم للسلطان المجاهد نور الدين علي ابن الملك المؤيد داود ابن الملك المظفر يوسف بن علي بن رسول، ثم يدعو للسيدين الشريفين الحسنيين أميري مكة: سيف الدين عطيفة — وهو أصغر الأخوين ويُقَدِّم اسمه لِعَدْله — وأسد الدين رميثة ابني أبي نمي بن أبي سعد بن علي بن قتادة، وقد دعا لسلطان العراق مرة ثم قَطَعَ ذلك، فإذا فرغ من خطبته صلى وانصرف، والرايتان عن يمينه وشماله والفرقعة أمامه إشعارًا بانقضاء الصلاة ثم يعاد المنبر إلى مكانه إزاء المقام الكريم.

ذِكْر عادتهم في استهلال الشهور

وعادتهم في ذلك أن يأتي أمير مكة في أول يوم من الشهر وقواده يحفون به وهو لابس البياض معتمٌّ متقلد سيفًا وعليه السكينة والوقار، فيصلي عند المقام الكريم ركعتين، ثم يُقَبِّل الحجر ويشرع في طواف أسبوع، ورئيس المؤذنين على أعلى قبة زمزم، فعندما يُكْمل الأمير شوطًا واحدًا ويقصد الحجر لتقبيله يندفع رئيس المؤذنين بالدعاء له والتهنئة بدخول الشهر رافعًا بذلك صوته، ثم يَذْكُر شِعْرًا في مدحه ومَدْح سلفه الكريم، ويفعل به هكذا في السبعة أشواط، فإذا فرغ منها رَكَعَ عند الملتزم ركعتين ثم رَكَعَ خلف المقام أيضًا ركعتين ثم انصرف، ومثل هذا سواء يفعل إذا أراد سفرًا وإذا قَدِمَ من سفر أيضًا.

ذكر عادتهم في شهر رجب

وإذا هَلَّ هلال رجب أمر أمير مكة بضرب الطبول والبوقات إشعارًا بدخول الشهر، ثم يخرج في أول يوم منه راكبًا ومعه أهل مكة فرسانًا ورجالًا على ترتيب عجيب، وكلهم بالأسلحة يلعبون بين يديه، والفرسان يجولون ويجرون، والرجالة يتواثبون ويرمون بحرابهم إلى الهواء ويلقفونها، والأمير رميثة والأمير عطيفة معهما أولادهما وقوادهما مثل محمد بن إبراهيم وعلي وأحمد ابني صبيح وعلي بن يوسف وشداد بن عمر وعامر الشرق ومنصور بن عمر وموسى المزرق وغيرهم من كبار أولاد الحسن ووجوه القواد، وبين أيديهم الرايات والطبول والدبادب وعليهم السكينة والوقار، ويصيرون حتى ينتهوا إلى الميقات، ثم يأخذون في الرجوع على معهود ترتيبهم إلى المسجد الحرام، فيطوف الأمير بالبيت والمؤذن الزمزمي بأعلى قبة زمزم يدعو له عند كل شوط على ما ذكرناه من عادته، فإذا طاف صلى ركعتين عند الملتزم وصلى عند المقام وتَمَسَّحَ به وخرج إلى المسعى فسعى راكبًا والقواد يَحُفُّون به والحرابة بين يديه، ثم يسير إلى منزله، وهذا اليوم عندهم عيد من الأعياد، ويلبسون فيه أحسن الثياب ويتنافسون في ذلك.

ذكر عمرة رجب

وأهل مكة يحتفلون لعمرة رجب الاحتفال الذي لا يُعْهَد مِثْلُه، وهي متصلة ليلًا ونهارًا وأوقات الشهر كلها معمورة بالعبادة وخصوصًا أول يوم منه ويوم خمسة عشر والسابع والعشرين، فإنهم يستعدون لها قبل ذلك بأيام، شاهدتهم في ليلة السابع والعشرين منه وشوارع مكة قد غصت بالهوادج عليها كساء الحرير والكتان الرفيع كل أحد يفعل بقدر استطاعته، والجِمال مزيَّنة مُقَلَّدة بقلائد الحرير، وأستار الهوادج ضافية تكاد تَمَسُّ الأرض فهي كالقباب المضروبة، ويخرجون إلى ميقات التنعيم فتسيل أباطح مكة بتلك الهوادج، والنيران مشعلة بجنبتي الطريق، والشمع والمشاعل أمام الهوادج، والجبال تجيب بصداها إهلال المُهَلِّلِين، فترق النفوس وتنهمل الدموع، فإذا قضوا العمرة وطافوا بالبيت خرجوا إلى السعي بين الصفا والمروة بعد مضي شيء من الليل، والمسعى متقد السرج، غاصٌّ بالناس، والساعيات في هوادجهن، والمسجد الحرام يتلألأ نورًا، وهم يُسَمُّون هذه العمرة بالعمرة الأكمية؛ لأنهم يُحْرِمُون بها من أكمةٍ أمام مسجد عائشة رضي الله عنها بمقدار غلوة على مقربة من المسجد المنسوب إلى علي رضي الله عنه.

والأصل في هذه العمرة أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لما فَرَغَ من بناء الكعبة المقدسة خرج ماشيًا حافيًا معتمرًا ومعه أهل مكة، وذلك في اليوم السابع والعشرين من رجب، وانتهى إلى الأكمة فأَحْرَمَ منها وجَعَلَ طريقه على ثنية الحجون إلى المعلى من حيث دَخَلَ المسلمون يوم الفتح، فبَقِيَتْ تلك العمرة سُنَّة عند أهل مكة إلى هذا العهد، وكان يوم عبد الله مذكورًا أهدى فيه بدنًا كثيرة وأهدى أشراف مكة وأهل الاستطاعة منهم وأقاموا أيامًا يطعمون ويطعمون شكرًا لله تعالى على ما وَهَبَهُمْ من التيسير والمعونة في بناء بيته الكريم على الصفة التي كان عليها في أيام الخليل صلوات الله عليه، ثم لما قُتِلَ ابن الزبير نَقَضَ الحَجَّاج الكعبة ورَدَّهَا إلى بنائها في عهد قريش، وكانوا قد اقتصروا في بنائها وأبقاها رسول الله على ذلك لحدثان عهدهم بالكفر، ثم أراد الخليفة أبو جعفر المنصور أن يُعِيدَها إلى بناء ابن الزبير، فنهاه مالك رحمه الله عن ذلك، وقال: يا أمير المؤمنين لا تَجْعَل البيت ملعبة للملوك متى أراد أحدهم أن يُغَيِّرَه فَعَلَ، فتَرَكَهُ على حاله سدًّا للذريعة، وأهل الجهات الموالية لمكة مثل بجيلة وزهران وغامد يبادرون لحضور عمرة رجب ويَجْلِبُون إلى مكة الحبوب والسمن والعسل والزبيب والزيت واللوز، فتَرْخُص الأسعار بمكة ويرغد عيش أهلها وتعمهم المرافق، ولولا أهل هذه البلاد لكان أهل مكة في شظف من العيش، ويُذْكَر أنهم متى أقاموا ببلادهم ولم يأتوا بهذه الميرة أَجْدَبَتْ بلادهم ووَقَعَ الموت في مواشيهم ومتى أوصلوا الميرة أخصبت بلادهم وظَهَرَتْ فيها البركة ونَمَتْ أموالهم، فهم إذا حان وقْت ميرتهم وأَدْرَكَهُم كسل عنها اجتمعت نساؤهم فَأَخْرَجْنَهُمْ، وهذا من لَطَائف صُنْع الله تعالى وعنايته ببلده الأمين.

وبلاد السرو التي يسكنها بجيلة وزهران وغامد وسواهم من القبائل مخصبة كثيرة الأعناب وافرة الغلات، وأهلها فصحاء الألسن لهم صِدْق نية وحُسن اعتقاد، وهم إذا طافوا بالكعبة يتطارحون عليها لائذين بجوارها متعلقين بأستارها داعين بأدعية تتصعد لرقتها القلوب وتدمع العيون الجامدة، فترى الناس حولهم باسطي أيديهم مُؤَمِّنِين على أَدْعِيَتِهِمْ، ولا يتمكن لغيرهم الطواف معهم ولا استلام الحجر لتزاحُمِهم على ذلك، وهم شجعان أنجاد ولباسهم الجلود، وإذا وردوا مكة هابت أعرابُ الطريق مَقْدِمَهُمْ وتجنبوا اعتراضهم، ومَنْ صَحِبَهُم من الزوار حَمِدَ صُحْبَتَهُمْ، وذُكِرَ أن النبي ذَكَرَهُمْ وأثنى عليهم خيرًا، وقال: «علموهم الصلاة يعلموكم الدعاء»، وكفاهم شرفًا دخولهم في عموم قوله : «الإيمان يمان والحكمة يمانية»، وذُكِرَ أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يتحرى وَقْت طوافهم ويَدْخُل في جملتهم تبركًا بدعائهم، وشأنهم عجيب كله، وقد جاء في أثر: زاحِمُوهم في الطواف؛ فإن الرحمة تَنْصَبُّ عليهم صبًّا.

ذكر عادتهم في ليلة النصف من شعبان

وهذه الليلة من الليالي المعظمة عند أهل مكة، يبادرون فيها إلى أعمال البر من الطواف والصلاة جماعاتٍ وأفذاذًا والاعتمار، ويجتمعون في المسجد الحرام جماعات لكل جماعة إمام، ويوقدون السُّرُج والمصابيح والمشاعل ويقابل ذلك ضوء القمر يتلألأ الأرض والسماء نورًا، ويُصَلُّون مائة ركعة يقرءون في كل ركعة بأم القرآن وسورة الإخلاص يكررونهما عشرًا، وبعض الناس يُصَلُّون في الحجر منفردين، وبعضهم يطوفون بالبيت الشريف، وبعضهم قد خرجوا للاعتمار.

ذِكْر عادتهم في شهر رمضان المعظم

وإذا أهل هلال رمضان تُضْرَب الطبول والدبادب عند أمير مكة، ويقع الاحتفال بالمسجد الحرام من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعل حتى يتلألأ الحرم نورًا ويسطع بهجةً وإشراقًا، وتَتَفَرَّق الأئمة فرقًا وهم الشافعية والحنفية والحنبلية والزيدية، وأما المالكية فيجتمعون على أربعة من القراء يتناوبون القراءة ويوقدون الشمع، ولا تبقى في الحرم زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلي بجماعته، فيرتجُّ المسجد لأصوات القراء وترق النفوس وتحضر القلوب وتهمل الأعين، ومن الناس من يقتصر على الطواف والصلاة في الحجر منفردًا، والشافعية أكثر الأئمة اجتهادًا، وعاداتهم أنهم إذا أكملوا التراويح المعتادة — وهي عشرون ركعة — يطوف إمامهم وجماعته، فإذا فرغ من الأسبوع ضُرِبَت الفرقعة التي ذَكَرْنا أنها تكون بين يدي الخطيب يوم الجمعة، كأن ذلك إعلامًا بالعودة إلى الصلاة، ثم يصلي ركعتين ثم يطوف أسبوعًا، هكذا إلى أن يُتِمَّ عشرين ركعة أخرى، ثم يصلون الشفع والوتر وينصرفون، وسائر الأئمة لا يزيدون على العادة شيئًا، وإذا كان وقْت السحور يتولى المؤذن الزمزمي التسحير في الصومعة التي بالركن الشرقي من الحرم، فيقوم داعيًا ومذكرًا ومحرضًا على السحور، والمؤذنون في سائر الصوامع، فإذا تكلم أحد منهم أجابه صاحبه، وقد نُصِبَتْ في أعلى كل صومعة خشبة على رأسها عود معترض قد عُلِّقَ فيه قنديلان من الزجاج كبيران يقدان، فإذا قَرُبَ الفجر ووَقَعَ الإيذان بالقطع مرة بعد مرة حط القنديلان وابتدأ المؤذنون بالأذان، وأجاب بعضهم بعضًا.

ولديار مكة — شَرَّفَها الله — سطوح، فمن بَعُدَتْ داره بحيث لا يسمع الأذان يُبْصِر القنديلين المذكورين فيتسحر، حتى إذا لم يُبْصِرْهما أَقْلَعَ عن الأكل، وفي كل ليلة وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان يختمون القرآن، ويحضر الختم القاضي والفقهاء والكبراء، ويكون الذي يختم بهم أحد أبناء كبراء أهل مكة، فإذا ختم نُصِبَ له منبر مُزَيَّن بالحرير وأُوْقِد الشمع وخَطَبَ، فإذا فرغ من خطبته استدعى أبوه الناس إلى منزله فأطعمهم الأطعمة الكثيرة والحلاوات، وكذلك يصنعون في جميع ليالي الوتر، وأعظم تلك الليالي عندهم ليلة سبع وعشرين، واحتفالهم لها أعظم من احتفالهم لسائر الليالي، ويختم بها القرآن العظيم خلف المقام الكريم، وتقام إزاء حطيم الشافعية خشب عظام توصل بالحطيم وتُعْرَض بينها ألواح طوال وتُجْعَل ثلاث طبقات وعليها الشمع وقنديل الزجاج، فيكاد يغشي الأبصار شعاع الأنوار، ويتقدم الإمام فيصلي فريضة العشاء الآخرة، ثم يبتدئ قراءة سورة القدر وإليها يكون انتهاء قراءة الأئمة في الليلة التي قبلها، وفي تلك الساعة يمسك جميع الأئمة عن التراويح تعظيمًا لختمة المقام ويحضرونها متبركين، فيختم الإمام في تسليمتين، ثم يقوم خطيبًا مستقبل المقام، فإذا فَرَغَ من ذلك عاد الأئمة إلى صلاتهم، وانفض الجمع، ثم يكون الختم ليلة تسع وعشرين في المقام المالكي في منظر مختصر، وعن المباهاة مُنَزَّه موقَّر، فيختم ويخطب.

ذكر عادتهم في شوال

وعادتهم في شَوَّال وهو مفتتح أشهر الحج المعلومات أن يوقدوا المشاعل ليلة استهلاله ويسرجون المصابيح والشمع على نحو فِعْلهم في ليلة سبع وعشرين من رمضان، وتوقد السرج في الصوامع من جميع جهاتها، ويوقد سطح الحرم كله، وسطح المسجد الذي بأعلى أبي قبيس، ويقيم المؤذنون ليلتهم تلك في تهليل وتكبير وتسبيح، والناس ما بين طواف وصلاة وذِكْر ودعاء، فإذا صلوا صلاة الصبح أخذوا في أهبة العيد ولبسوا أحسن ثيابهم وبادَرُوا لأخذ مجالسهم بالحرم الشريف به يصلون صلاة العيد؛ لأنه لا موضع أفضل منه، ويكون أول من يُبَكِّر إلى المسجد الشيبيون فيفتحون باب الكعبة المقدسة ويقعد كبيرهم في عتبتها وسائرهم بين يديه إلى أن يأتي أمير مكة فيتلقونه ويطوف بالبيت أسبوعًا، والمؤذن الزمزمي فوق سطح قبة زمزم على العادة رافعًا صوته بالثناء عليه والدعاء له ولأخيه كما ذُكر، ثم يأتي الخطيب بين الرايتين السوداوين والفرقعة أمامه وهو لابس السواد فيصلي خلف المقام الكريم ثم يصعد المنبر ويخطب خطبة بليغة، ثم إذا فرغ منها أقبل الناس بعضهم على بعض بالسلام والمصافحة والاستغفار، ويقصدون الكعبة الشريفة فيدخلونها أفواجًا، ثم يخرجون إلى مقبرة باب المعلى؛ تبركًا بمن فيها من الصحابة وصدور السلف، ثم ينصرفون.

ذكر إحرام الكعبة

وفي اليوم السابع والعشرين من شهر ذي القعدة تشمر أستار الكعبة الشريفة — زادها الله تعظيمًا — إلى نحو ارتفاع قامة ونصف من جهاتها الأربع؛ صونًا لها من الأيدي أن تنتهبها، ويسمون ذلك إحرام الكعبة، وهو يوم مشهود بالحرم الشريف، ولا تُفْتَح الكعبة المقدسة من ذلك اليوم حتى تنقضي الوقفة بعرفة.

ذكر شعائر الحج وأعماله

وإذا كان في أول يوم شهر ذي الحجة تُضْرَب الطبول والدبادب في أوقات الصلوات بكرة وعشية إشعارًا بالموسم المبارك، ولا تزال كذلك إلى يوم الصعود إلى عرفات، فإذا كان اليوم السابع من ذي الحجة خطب الخطيب إثر صلاة الظهر خطبة بليغة يُعَلِّم الناس فيها مناسكهم ويُعْلِمُهم بيوم الوقفة، فإذا كان اليوم الثامن بَكَّرَ الناس بالصعود إلى منًى، وأمراء مصر والشام والعراق وأهل العلم يبيتون تلك الليلة بمنًى، وتقع المباهاة والمفاخرة بين أهل مصر والشام والعراق في إيقاد الشمع، ولكن الفضل في ذلك لأهل الشام دائمًا، فإذا كان اليوم التاسع رحلوا من منًى بعد صلاة الصبح إلى عرفة، فيمرون في طريقهم بوادي محسر، ويهرولون وذلك سُنَّة، ووادي محسر هو الحد ما بين مزدلفة ومنًى، ومزدلفة بسيط من الأرض فسيح بين جبلين وحولها مصانع وصهاريج للماء مما بنته زبيدة ابنة جعفر بن أبي جعفر المنصور زوجة أمير المؤمنين هارون الرشيد، وبين منًى وعرفة خمسة أميال، وكذلك بين منًى ومكة أيضًا خمسة أميال، ولعرفة ثلاثة أسماء وهي: عرفة، وجمع، والمشعر الحرام، وعرفات بسيط من الأرض فسيح أفيح تحدق به جبال كثيرة، وفي آخر بسيط عرفات جبل الرحمة، وفيه الموقف وفيما حوله والعلمان قبله بنحو ميل وهما الحد ما بين الحل والحرم، وبمقربة منهما مما يلي عرفة بطن عرنة الذي أَمَرَ النبي بالارتفاع عنه ويجب التحفظ منه، ويجب أيضًا الإمساك عن النفور حتى يتمكن سقوط الشمس، فإن الجَمَّالين ربما استحثوا كثيرًا من الناس وحَذَّرُوهم الزحام في النفر واستدرجوهم إلى أن يصلوا بهم بطن عرنة فيَبْطُل حِجُّهم.

وجبل الرحمة الذي ذكرناه قائم في وسط بسيط جمع منقطع عن الجبال، وهو من حجارة منقطع بعضها عن بعض، وفي أعلاه قبة تُنْسَب إلى أم سلمة رضي الله عنها، وفي وسطها مسجد يتزاحم الناس للصلاة فيه، وحوله سطح فسيح يُشْرِف على بسيط عرفات، وفي قبليه جدار فيه محاريب منصوبة يصلي فيه الناس، وفي أسفل هذا الجبل عن يسار المستقبل للكعبة دار عتيقة البناء تُنْسَب إلى آدم عليه السلام، وعن يسارها الصخرات التي كان موقف النبي عندها، وحول ذلك صهاريج وجباب للماء، وبمقربة منه الموضع الذي يقف فيه الإمام ويخطب ويجمع بين الظهر والعصر، وعن يسار العلمين للمستقبل أيضًا وادي الأراك وبه أراك أخضر يمتد في الأرض امتدادًا طويلًا، وإذا حان وقت النفر أشار الإمام المالكي بيده ونزل عن موقفه فدفع الناسَ بالنفر دفعة ترتج لها الأرض وترجف الجبال، فيا له موقفًا كريمًا ومشهدًا عظيمًا ترجو النفوس حُسْن عقباه، وتطمح الآمال إلى نفحات رحماه، جَعَلَنا الله ممن خصه فيه برضاه، وكانت وقفتي الأولى يوم الخميس سنة ست وعشرين وأمير الركب المصري يومئذ أرغون الدوادار نائب الملك الناصر.

وحجَّتْ في تلك السنة ابنة الملك الناصر وهي زوجة أبي بكر بن أرغون المذكور، وحجَّتْ فيها زوجة الملك الناصر المسماة بالخوندة، وهي بنت السلطان المعظم محمد أوزبك ملك السرا وخوارزم وأمير الركب الشامي سيف الدين الجوبان، ولما وَقَعَ النفر بعد غروب الشمس وصلنا مزدلفة عند العشاء الآخرة، فصلَّيْنا بها المغرب والعشاء جمعًا بينهما حسبما جَرَتْ سنة رسول الله ، ولما صَلَّيْنا الصبح بمزدلفة غَدَوْنَا منها إلى منًى بعد الوقوف والدعاء بالمشعر الحرام، ومزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر، ففيه تقع الهرولة حتى يخرج عنه، ومن مزدلفة يستصحب أكثر الناس حصيات الجمار وذلك مستحب، ومنهم من يلقطها حول مسجد الخيف والأمر في ذلك واسع، ولما انتهى الناس إلى منًى بادَروا لرمي جمرة العقبة، ثم نحروا وذبحوا، ثم حلقوا وحلُّوا من كل شيء إلا النساء والطيب حتى يطوفوا طواف الإفاضة، ورمي هذه الجمرة عند طلوع الشمس من يوم النحر، ولما رموها تَوَجَّه أكثر الناس بعد أن ذبحوا وحلقوا إلى طواف الإفاضة، ومنهم من أقام إلى اليوم الثاني، وفي اليوم الثاني رمى الناس عند زوال الشمس بالجمرة الأولى سبع حصيات، وبالوسطى كذلك، ووقفوا للدعاء بهاتين الجمرتين اقتداء بفعل رسول الله ، ولما كان اليوم الثالث تَعَجَّلَ الناس الانحدار إلى مكة شَرَّفَها الله بعد أن كَمُلَ لهم رَمْي تسع وأربعين حصاة، وكثير منهم أقام اليوم الثالث بعد يوم النحر حتى رمى سبعين حصاة.

ذكر كسوة الكعبة

وفي يوم النحر بُعِثَتْ كسوة الكعبة الشريفة من الركب المصري إلى البيت الكريم فوُضِعَتْ في سطحه، فلما كان اليوم الثالث بعد يوم النحر أخذ الشيبيون في إسبالها على الكعبة الشريفة، وهي كسوة سوداء حالكة من الحرير مبطنة بالكتان وفي أعلاها طراز مكتوب فيه بالبياض: جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا … الآية، وفي سائر جهاتها طرز مكتوب بالبياض فيها آيات من القرآن، وعليها نور لائح مُشْرِق من سوادها، ولما كُسِيَتْ شُمِّرَتْ أذيالها صونًا من أيدي الناس، والملك الناصر هو الذي يتولى كسوة الكعبة الكريمة ويبعث مرتبات القاضي والخطيب والأئمة والمؤذنين والفراشين والقومة وما يَحتاج له الحرم الشريف من الشمع والزيت في كل سنة، وفي هذه الأيام تُفْتَح الكعبة الشريفة في كل يوم للعراقيين والخراسانيين وسواهم ممن يصل مع الركب العراقي، وهم يقيمون بمكة بعد سفر الركبين الشامي والمصري أربعة أيام، فيُكْثِرون فيها الصدقات على المجاورين وغيرهم، ولقد شاهَدْتُهُم يطوفون بالحرم ليلًا، فمن لقوه في الحرم من المجاورين أو المكيين أَعْطَوْه الفضة والثياب، وكذلك يعطون للمشاهدين الكعبة الشريفة، وربما وجدوا إنسانًا نائمًا، فجعلوا في فيه الذهب والفضة حتى يفيق، ولما قدمت معهم من العراق سنة ثمانٍ وعشرين فعلوا من ذلك كثيرًا وأكثروا الصدقة حتى رخص سوم الذهب بمكة وانتهى صَرْف المثقال إلى ثمانية عشر درهمًا نقرة لكثرة ما تصدقوا به من الذهب، وفي هذه السنة ذُكِرَ اسم السلطان أبي سعيد ملك العراق على المنبر وقبة زمزم.

ذكر الانفصال عن مكة شرفها الله تعالى

وفي الموفي عشرين لذي الحجة خَرَجْتُ من مكة صحبة أمير ركب العراق البهلوان محمد الحويح — بحاءين مهملين — وهو من أهل الموصل، وكان يلي إمارة الحاج بعد موت الشيخ شهاب الدين قلندر، وكان شهاب الدين سخيًّا فاضلًا عظيم الحرمة عند سلطانه يَحْلِق لحيته وحاجبيه على طريقة القلندرية، ولما خرجْتُ من مكة شرفها الله تعالى في صحبة الأمير البهلوان المذكور اكترى لي شقة محارة إلى بغداد ودفع إجارتها من ماله وأنزلني في جواره، وخرجنا بعد طواف الوداع إلى بطن مر في جَمْع من العراقيين والخراسانيين والفارسيين والأعاجم لا يحصى عديدهم تموج بهم الأرض موجًا، ويسيرون سير السحاب المتراكم، فمن خَرَجَ عن الركب لحاجة، ولم تكن له علامة يستدل بها على موضع ضَلَّ عنه لكثرة الناس، وفي هذا الركب نواضح كثيرة لأبناء السبيل يستقون منها الماء، وجِمال لرفع الزاد للصدقة ورفع الأدوية والأشربة والسكر لمن يصيبه مرض، وإذا نزل الركب طُبِخَ الطعام في قدور نحاس عظيمة تسمى الدسوت وأُطْعِم منها أبناء السبيل ومن لا زاد معه، وفي الركب جملة من الجِمال يُحْمَل عليها مَنْ لا قدرة له على المشي، كل ذلك من صدقات السلطان أبي سعيد ومكارمه.

قال ابن جزي: كرم الله هذه الكنية الشريفة، فما أعجب أمرها في الكرم وحسبك بمولانا بحر المكارم ورافع رايات الجود الذي هو آية في الندى والفضل أمير المسلمين أبي سعيد ابن مولانا قامع الكفار والآخذ للإسلام بالثأر أمير المسلمين أبي يوسف قدس الله أرواحهم الكريمة وأبقى الملك في عقبهم الطاهر إلى يوم الدين (رجع)، وفي هذا الركب الأسواق الحافلة والمرافق العظيمة وأنواع الأطعمة والفواكه، وهم يسيرون بالليل ويوقدون المشاعل أمام القطار والمحارات فترى الأرض تتلألأ نورًا والليل قد عاد نهارًا ساطعًا، ثم رحلنا من بطن مر إلى عسفان ثم إلى خليص، ثم رحلنا أربع مراحل ونزلنا وادي السمك، ثم رحلنا خمسًا ونزلنا في بدر، وهذه المراحل ثنتان في اليوم إحداهما بعد الصبح والأخرى بالعشي، ثم رحلنا من بدر فنزلنا الصفراء وأقمنا بها يومًا مستريحين، ومنها إلى المدينة الشريفة مسيرة ثلاث، ثم رحلنا فوصلنا إلى طيبة مدينة رسول الله وحصلت لنا زيارة رسول الله ثانيًا، وأقمنا بالمدينة كرمها الله تعالى ستة أيام، واستصحبنا منها الماء لمسيرة ثلاث، ورحلنا عنها فنزلنا في الثالثة بوادي العروس فتزودنا منه الماء من حسيات يحفرون عليها في الأرض فينبطون ماء عذبًا معينًا.

ثم رحلنا إلى وادي العروس ودَخَلْنَا أرض نجد، وهو بسيط من الأرض مد البصر فتنسمنا نسيمة الطيب الأرج، ونزلنا بعد أربع مراحل على ماء يُعْرَف بالعسيلة، ثم رحلنا عنه ونزلنا ماء يُعْرَف بالنقرة فيه آثار مصانع كالصهاريج العظيمة، ثم رحلنا إلى ماء يُعْرَف بالقارورة وهي مصانع مملوءة بماء المطر مما صَنَعَتْه زبيدة ابنة جعفر رحمها الله ونفعها، وهذا الموضع هو وسط أرض نجد فسيح طيب النسيم صحيح الهواء نقي التربة معتدل في كل فصل، ثم رحلنا من القارورة ونزلنا بالحاجر، وفيه مصانع للماء وربما جَفَّتْ فحُفِرَ عن الماء في الجفار، ثم رحلنا ونزلنا سميرة، وهي أرض غائرة في بسيط فيه شبه حصن مسكون وماؤها كثير في آبار إلا أنه زعاق، ويأتي عرب تلك الأرض بالغنم والسمن واللبن فيبيعون ذلك من الحجاج بالثياب الخام ولا يبيعون بسوى ذلك، ثم رحلنا ونزلنا بالجبل المخروق، وهو في بيداء من الأرض وفي أعلاه ثقب نافذ تخرقه الريح، ثم رحلنا منه إلى وادي الكروش ولا ماء به، ثم أسرينا ليلًا وصبحنا حصن فيد، وهو حصن كبير في بسيط من الأرض يدور به سور وعليه ربض وساكنوه عرب يتعيشون مع الحاج في البيع والتجارة، وهنالك يترك الحجاج بعض أزوادهم حين وصولهم من العراق إلى مكة شرَّفَها الله تعالى، فإذا عادوا وجدوه وهو نصف الطريق من مكة إلى بغداد ومنه إلى الكوفة مسيرة اثني عشر يومًا في طريق سهل به المياه في المصانع، ومن عادة الركب أن يدخلوا هذا الموضع على تعبئة وأهبة للحرب إرهابًا للعرب المجتمعين هنالك وقطعًا لأطماعهم عن الركب، وهنالك لقينا أميري العرب وهما فياض وحِيَار واسمه (بكسر الحاء وإهماله وياء آخر الحروف)، وهما أبناء الأمير مهنى بن عيسى ومعهما من خيل العرب ورجالهم من لا يحصون كثرة، فظهر منهما المحافظة على الحاج والرحال والحوطة لهم، وأتى العرب بالجِمال والغنم فاشترى منهم الناس ما قدروا عليه.

ثم رحلنا ونزلنا الموضع المعروف الأجفر ويشتهر باسم العاشِقَيْن جميل وبثينة، ثم رحلنا ونزلنا بالبيداء ثم أسرينا ونزلنا زرود وهي بسيط من الأرض فيه رمال منهالة وبه دور صغار قد أداروها شبه الحصن وهنالك آبار ماء ليست بالعذبة، ثم رحلنا ونزلنا الثعلبية ولها حصن خَرِب بإزائه مصنع هائل يُنْزَل إليه في دَرَج وبه من ماء المطر ما يَعُمُّ الركب، ويجتمع من العرب بهذا الموضع جَمْع عظيم فيبيعون الجِمال والغنم والسمن واللبن، ومن هذا الموضع إلى الكوفة ثلاث مراحل، ثم رحلنا فنزلنا ببركة المرجوم، وهو مشهد على الطريق عليه كوم عظيم من حجارة، وكل من مر به رجمه، ويُذْكَر أن هذا المرجوم كان رافضيًّا فسافر مع الركب يريد الحج، فوقعت بينه وبين أهل السنة الأتراك مشاجرة فسَبَّ بعض الصحابة فقتلوه بالحجارة، وبهذا الموضع بيوت كثيرة للعرب ويقصدون الركب بالسمن واللبن وسوى ذلك، وبه مصنع كبير يعم جميع الركب مما بَنَتْه زبيدة رحمة الله عليها، وكل مصنع أو بِرْكة أو بئر بهذه الطريق التي بين مكة وبغداد فهي من كريم آثارها جزاها الله خيرًا ووفى لها أجرها، ولولا عنايتها بهذه الطريق ما سلكها أحد، ثم رحلنا ونزلنا موضعًا يُعْرَف بالمشقوق فيه مصنعان بهما الماء العذب الصافي وأراق الناس ما كان عندهم من الماء وتزودوا منهما، ثم رحلنا ونزلنا موضعًا يُعْرَف بالتنانير وفيه مصنع ممتلئ بالماء، ثم أسرينا منه واجتزنا ضحوة بزمالة، وهي قرية معمورة بها قصر للعرب ومصنعان للماء وآبار كثيرة وهي من مناهل هذا الطريق، ثم رحلنا فنزلنا الهيثمين وفيه مصنعان للماء.

ثم رحلنا فنزلنا دون العقبة المعروفة بعقبة الشيطان وصعدنا العقبة في اليوم الثاني وليس بهذا الطريق وعر سواها على أنها ليست بصعبة ولا طائلة، ثم نزلنا موضعًا يُسَمَّى واقصة، فيه قَصْر كبير ومصانع للماء معمور بالعرب، وهو آخِر مناهل هذا الطريق، وليس فيما بعده إلى الكوفة منهل مشهور إلا مشارع ماء الفرات، وبه يتلقى كثير من أهل الكوفة الحاج ويأتون بالدقيق والخبز والتمر والفواكه، ويهنئ الناس بعضهم بعضًا بالسلامة، ثم نزلنا موضعًا يُعْرَف بلورة، فيه مصنع كبير للماء، ثم نزلنا موضعًا يُعْرَف بالمساجد فيه ثلاث مصانع، ثم نزلنا موضعًا يُعْرَف بمنارة القرون وهي منارة في بيداء من الأرض بائنة الارتفاع مُجَلَّلَة بقرون الغزلان ولا عمارة حولها، ثم نزلنا موضعًا يُعْرَف بالعذيب، وهو وادٍ مخصب عليه عمارة وحوله فلاة خصبة فيها مسرح للبصر، ثم نزلنا القادسية حيث كانت الوقعة الشهيرة على الفرس التي أَظْهَرَ الله فيها دين الإسلام وأَذَلَّ المجوس عَبَدَة النار، فلم تَقُمْ لهم بعدها قائمة، واستأصل الله شَأْفَتَهُمْ، وكان أمير المسلمين يومئذٍ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وكانت القادسية مدينةً عظيمة افتتحها سعد رضي الله عنه وخربت، فلم يَبْقَ منها الآن إلا مقدار قرية كبيرة وفيها حدائق النخل وبها مشارع من ماء الفرات، ثم رحلنا منها فنزلنا مدينة مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنجف، وهي مدينة حسنة في أرض فسيحة صلبة من أحسن مدن العراق وأكثرها ناسًا وأتقنها بناء، ولها أسواق حسنة نظيفة، دخلناها من باب الحضرة فاستقبلْنا سوق البقالين والطباخين والخبازين، ثم سوق الفاكهة، ثم سوق الخياطين والقسارية، ثم سوق العطارين، ثم باب الحضرة؛ حيث القبر الذي يزعمون أنه قبر علي عليه السلام، وبإزائه المدارس والزوايا والخوانق معمورة أحسن عمارة، وحيطانها بالقاشاني وهو شبه الزليج عندنا، لكن لونه أشرق ونقشه أحسن.

ذكر الروضة والقبور التي بها

ويُدْخَل من باب الحضرة إلى مدرسة عظيمة يسكنها الطلبة والصوفية من الشيعة، ولكل وارد عليها ضيافة ثلاثة أيام من الخبز واللحم والتمر مرتين في اليوم، ومن تلك المدرسة يُدْخَل إلى باب القبة، وعلى بابها الحجاب والنقباء والطواشية، فعندما يصل الزائر يقوم إليه أحدهم أو جميعهم وذلك على قدر الزائر، فيقفون معه على العتبة ويستأذنون له ويقولون: عن أمركم يا أمير المؤمنين، هذا العبد الضعيف يستأذن على دخوله للروضة العلية، فإن أذنتم له وإلا رَجَعَ، وإن لم يكن أهلًا لذلك فأنتم أهل المكارم والستر، ثم يأمرونه بتقبيل العتبة، وهي من الفضة، وكذلك العضادتان، ثم يدخل القبة وهي مفروشة بأنواع البسط من الحرير وسواه وبها قناديل الذهب والفضة منها الكبار والصغار، وفي وسط القبة مسطبة مربعة مكسوة بالخشب عليه صفائح الذهب المنقوشة المحكمة العمل مسمرة بمسامير الفضة قد غلبت على الخشب بحيث لا يظهر منه شيء وارتفاعها دون القامة، وفوقها ثلاثة من القبور يزعمون أن أحدها قبر آدم عليه الصلاة والسلام، والثاني قبر نوح عليه الصلاة والسلام والثالث قبر علي رضي الله تعالى عنه، وبين القبور طسوت ذهب وفضة فيها ماء الورد والمسك وأنواع الطيب يغمس الزائر يده في ذلك ويدهن به وجهه تبركًا، وللقبة باب آخر عَتَبَتُه أيضًا من الفضة وعليه ستور من الحرير الملوَّن يفضي إلى مسجد مفروش بالبسط الحِسان مستورة حيطانه وسقفه بستور الحرير، وله أربعة أبواب عتباتها فضة وعليها ستور الحرير.

وأهل هذه المدينة كلهم رافضية، وهذه الروضة ظَهَرَتْ لها كرامات ثَبَتَ بها عندهم أن بها قبر علي رضي الله عنه، فمنها أن في ليلة السابع والعشرين من رجب — وتسمى عندهم ليلة المحيا — يؤتى إلى تلك الروضة بكل مقعد من العراقَيْن وخراسان وبلاد فارس والروم، فيجتمع منهم الثلاثون والأربعون ونحو ذلك، فإذا كان بعد العشاء الآخرة جعلوا فوق الضريح المقدس والناس ينتظرون قيامهم وهم ما بين مُصَلٍّ وذاكر وتالٍ ومُشَاهِد للروضة، فإذا مضى من الليل نصفه أو ثلثاه أو نحو ذلك قام الجميع أَصِحَّاء من غير سوء وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله، وهذا أَمْر مستفيض عندهم سَمِعْتُه من الثقات، ولم أَحْضُر تلك الليلة، لكني رأيت بمدرسة الضياف ثلاثة من الرجال أحدهم من أرض الروم، والثاني من أصبهان، والثالث من خراسان، وهم مُقْعَدُون، فاستخبرْتُهم عن شأنهم فأخْبَرُوني أنهم لم يُدْرِكوا ليلة المحيا، وأنهم منتظرون أوانها من عام آخر، وهذه الليلة يجتمع لها الناس من البلاد ويقيمون سوقًا عظيمة مدة عشرة أيام، وليس بهذه المدينة مغرم ولا مَكَّاس ولا والٍ، وإنما يحكم عليهم نقيب الأشراف، وأهلها تُجَّار يسافرون في الأقطار، وهم أهل شجاعة وكرم، ولا يُضَامُ جَارُهم، صَحِبْتُهم في الأسفار فحَمِدْتُ صُحْبَتَهُمْ، لكنهم غَلَوْا في علي رضي الله عنه، ومن الناس في بلاد العراق وغيرها من يصيبه المرض فيَنْذُر للروضة نَذْرًا إذا برئ، ومنهم من يمرض رأسه فيصنع رأسًا من ذهب أو فضة ويأتي به إلى الروضة فيجعله النقيب في الخزانة، وكذلك اليد والرجل وغيرهما من الأعضاء، وخزانة الروضة عظيمة فيها من الأموال ما لا يُضْبَط لكثرته.

ذكر نقيب الأشراف

ونقيب الأشراف مُقَدَّم من ملك العراق، ومكانه عنده مَكِين، ومنزلته رفيعة، وله ترتيب الأمراء الكبار في سفره، وله الأعلام والأطبال وتُضْرَب الطبلخانة عند بابه مساء وصباحًا، وإليه حُكْم هذه المدينة ولا والي بها سواه، ولا مغرم فيها للسلطان ولا لغيره، وكان النقيب في عهد دخولي إليها نظام الدين حسين بن تاج الدين الآوي نسبة إلى بلده آوة من عراق العجم أهلها رافضة، وكان قبله جماعة يلي كل واحد منهم بعد صاحبه منهم جلال الدين بن الفقيه، ومنهم قوام الدين بن طاووس، ومنهم ناصر الدين مطهر ابن الشريف الصالح شمس الدين محمد الأوهري من عراق العجم، وهو الآن بأرض الهند من ندماء ملكها، ومنهم أبو غرة بن سالم بن مهنى بن جماز بن شيحة الحسيني المدني.

حكاية

كان الشريف أبو غرة قد غَلَبَ عليه في أول أَمْرِه العبادةُ وتَعَلُّم العلم، واشْتُهِر بذلك، وكان ساكنًا بالمدينة الشريفة — كرمها الله — في جِوَارِ ابن عمه منصور بن جماز أمير المدينة، ثم إنه خرج عن المدينة واستوطن العراق وسكن منها بالحلة، فمات النقيب قوام الدين بن طاوس فاتفق أهل العراق على تولية أبي غرة نقابة الأشراف، وكتبوا بذلك إلى السلطان أبي سعيد فأمضاه ونَفَّذَ له اليرليغ وهو الظهير بذلك، وبُعِثَتْ له الخلعة والأعلام والطبول على عادة النقباء ببلاد العراق، فغَلَبَتْ عليه الدنيا وتَرَكَ العبادة والزهد وتَصَرَّفَ في الأموال تصرفًا قبيحًا، فرُفِعَ أَمْرُه إلى السلطان، فلما عَلِمَ بذلك أعمل السفر مُظْهِرًا أنه يريد خراسان قاصدًا زيارة قبر علي بن موسى الرضا بطوس وكان قَصْدُه الفرار، فلما زار قبر علي بن موسى قَدِمَ هراة وهي آخر بلاد خراسان، وأعلم أصحابه أنه يريد بلاد الهند، فرَجَعَ أَكْثَرُهم عنه وتَجَاوَز هو أرض خراسان إلى السند، فلما جاز وادي السند المعروف ببنج آب ضَرَبَ طبوله وأنفاره فراع ذلك أهل القرى وظنوا أن التتر أتوا للإغارة عليهم وأجفلوا إلى المدينة المسماة بأوجا وأعلموا أميرها بما سمعوه، فركب في عساكره واستعد للحرب وبعث الطلايع فرأوا نحو عشرة من الفرسان وجماعة من الرجال والتجار ممن صحب الشريف في طريقه معهم الأطبال والأعلام، فسألوهم عن شأنهم فأخبروهم أن الشريف نقيب العراق أتى وافدًا على ملك الهند فرجع الطلايع إلى الأمير وأخبروه بكيفية الحال فاستضعف عقل الشريف لِرَفْعه العلامات وضَرْبه الطبول في غير بلاده، ودخل الشريف مدينة أوجا وأقام بها مدة تُضْرَب الأطبال على باب داره غُدْوَة وعشيًّا وكان مُولَعًا بذلك.

ويُذْكَر أنه كان في أيام نقابته بالعراق تُضْرَب الأطبال على رأسه، فإذا أَمْسَكَ النَّقَّارُ عن الضرب يقول له: زِدْ نقرة يا نقار حتى لُقِّبَ بذلك، وكتب صاحب مدينة أوجا إلى ملك الهند بخبر الشريف وضَرْبه الأطبال بالطريق وعلى باب داره غدوة وعشيًّا ورفعه الأعلام، وعادة أهل الهند أن لا يَرْفَع علمًا ولا يَضْرِب طبلًا إلا من أعطاه الملك ذلك ولا يفعله إلا في السفر، وأما في حال الإقامة فلا يُضْرَب الطبل إلا على باب الملك خاصة، بخلاف مصر والشام والعراق، فإن الطبول تُضْرَب على أبواب الأمراء، فلما بَلَغَ خبره ملك الهند كَرِهَ فِعْلَه وأَنْكَرَهُ وفَعَلَ في نفسه، ثم خرج الأمير إلى حضرة الملك، وكان الأمير كشلي خان، والخان عندهم أعظم الأمراء، وهو الساكن بملتان كرسي بلاد السند، وهو عظيم القدر عند ملك الهند يدعوه بالعم؛ لأنه كان ممن أعان أباه السلطان غياث الدين تغلق شاه على قتال السلطان ناصر الدين خسرو شاه قد قدم على حضرة ملك الهند فخرج الملك إلى لقائه فاتفق أن كان وصول الشريف في ذلك اليوم، وكان الشريف قد سبق الأمير بأميال وهو على حاله من ضَرْب الأطبال، فلم يَرُعْه إلا السلطان في موكبه، فتَقَدَّمَ الشريف إلى السلطان فسَلَّمَ عليه وسأله السلطان عن حاله وما الذي جاء به فأخبره، ومضى السلطان حتى لقي الأمير كشلي خان وعاد إلى حضرته ولم يلتفت إلى الشريف ولا أَمَرَ له بإنزال ولا غيره.

وكان الملك عازمًا على السفر إلى مدينة دولة أباد وتسمى أيضًا بالكَتَكَة (بفتح الكافين والتاء المعلوة التي بينهما)، وتسمى أيضًا بالدويجر (دوكير)، وهي على مسيرة أربعين يومًا من مدينة دهلي حضرة الملك، فلما شرع في السفر بعث إلى الشريف بخمسمائة دينار دراهم وصرفها من ذهب المغرب مائة وخمسة وعشرون دينارًا، وقال لرسوله إليه: قُل له: إن أراد الرجوع إلى بلاده فهذا زاده، وإن أراد السفر معنا فهي نفقته في الطريق، وإن أراد الإقامة بالحضرة فهي نفقته حتى نرجع، فاغتم الشريف لذلك وكان قَصْدُه أن يجزل له العطاء كما هي عادته مع أمثاله، واختار السفر صحبة السلطان، وتَعَلَّقَ بالوزير أحمد بن إياس المدعو بخواجة جهان، وبذلك سماه الملك، وبه يدعوه هو وبه يدعوه سائر الناس، فإن من عادتهم أنه متى سَمَّى الملك أحدًا بِاسْمٍ مضافٍ إلى الملك من عماد أو ثقة أو قُطْب، أو بِاسْمٍ مضافٍ إلى الجهان من صدر وغيره، فبذلك يخاطبه الملك وجميع الناس، ومَنْ خَاطَبَهُ بسوى ذلك لَزِمَتْه العقوبة، فأكدت المودة بين الوزير والشريف، فأحسن إليه ورَفَعَ قَدْرَه ولَاطَفَ الملك حتى حسن فيه رأيه وأمر له بقريتين من قرى دولة أباد، وأَمَرَهُ أن تكون إقامته بها، وكان هذا الوزير من أهل الفضل والمروءة ومكارم الأخلاق والمحبة في الغرباء والإحسان إليهم وفِعْل الخير وإطعام الطعام وعمارة الزوايا، فأقام الشريف يستغل القريتين ثمانية أعوام، وحَصَّلَ من ذلك مالًا عظيمًا، ثم أراد الخروج فلم يُمْكِنه، فإنه مَنْ خَدَمَ السلطان لا يمكنه الخروج إلا بإذنه، وهو مُحِبٌّ في الغرباء، فقليلًا ما يأذن لأحدهم في السراح، فأراد الفرار من طريق الساحل فرُدَّ منه وقدم الحضرة ورغب من الوزير أن يحاول قضية انصرافه.

فتَلَطَّفَ الوزير في ذلك حتى أَذِنَ له السلطان في الخروج عن بلاد الهند، وأعطاه عشرة آلاف دينار من دراهمهم وصرفها من ذهب المغرب ألفان وخمسمائة دينار، فأتى بها في بدرة فجعلها تحت فراشه ونام عليها لمحبته في الدنانير وفَرَحِه بها وخَوْفِه أن يتصل لأحد من أصحابه شيء منها؛ فإنه كان بخيلًا، فأصابه وَجَعٌ في جنبه بسبب رقاده عليها، ولم يَزَلْ يتزايد به وهو آخذ في حركة سفره إلى أن توفي بعد عشرين يومًا من وصول البدرة إليه، وأوصى بذلك المال للشريف حسن الجراني فتَصَدَّقَ بجملته على جماعة من الشيعة المقيمين بدهلي من أهل الحجاز والعراق، وأهل الهند لا يورثون بيت المال ولا يتعرضون لمال الغرباء ولا يسألون عنه ولو بَلَغَ ما عسى أن يَبْلُغَ، وكذلك السودان لا يتعرضون لمال الأبيض ولا يأخذونه، إنما يكون عند الكبار من أصحابه حتى يأتي مستحقه، وهذا الشريف أبو غرة له أخ اسمه قاسم، سَكَنَ غرناطة مدةً وبها تَزَوَّجَ بنت الشريف أبي عبد الله بن إبراهيم الشهير بالمكي، ثم انتقل إلى جبل طارق فسكنه إلى أن استشهد بوادي كرة من نظر الجزيرة الخضراء، وكان بهمة من البهم لا يصطلي بناره، خَرَقَ المعتاد في الشجاعة، وله فيها أخبار شهيرة عند الناس، وترك ولدين هما في كفالة ربيبهما الشريف الفاضل أبي عبد الله محمد بن أبي القاسم بن نفيس الحسيني الكربلائي الشهير ببلاد المغرب بالعراقي، وكان تزوج أمهما بعد موت أبيهما، وهو محسن لهما، جزاه الله خيرًا.

ولما تَحَصَّلَتْ لنا زيارة أمير المؤمنين علي عليه السلام سَافَرَ الرَّكْبُ إلى بغداد وسافرْتُ إلى البصرة صحبة رفقة كبيرة من عرب خفاجة وهم أهل تلك البلاد، ولهم شوكة عظيمة وبأس شديد، ولا سبيل للسفر في تلك الأقطار إلا في صُحْبَتهم، فاكتريتُ جَملًا على يد أمير تلك القافلة شامر بن دراج الخفاجي، وخرجنا من مشهد علي عليه السلام، فنزلنا الخورنق — موضع سكنى النعمان بن المنذر وآبائه من ملوك بني ماء السماء — وبه عمارة وبقايا قباب ضخمة في فضاء فسيح على نهر يخرج من الفرات، ثم رَحَلْنَا عنه فنزلنا موضعًا يُعْرَف بقائم الواثق، وبه أَثَر قرية خربة ومسجد خرب لم يَبْقَ منه إلا صومعته، ثم رحلنا عنه آخذين مع جانب الفرات بالموضع المعروف بالعذار، وهو غابة قصب في وسط الماء يسكنها أعراب يُعْرَفون بالمعادي وهم قطاع الطريق رافضية المذهب، خرجوا على جماعة من الفقراء تَأَخَّرُوا عن رفقتنا فَسَلَبُوهُمْ حتى النعال والكشاكل، وهم يتحصنون بتلك الغابة ويمتنعون بها ممن يريدهم، والسباع بها كثيرة، ورحلنا مع هذا الغدار ثلاث مراحل، ثم وصلنا مدينة واسط.

مدينة واسط

وهي حسنة الأقطار كثيرة البساتين والأشجار، بها أعلام يهدي الخير شاهدهم وتهدي الاعتبار مشاهدهم، وأهلها من خيار أهل العراق، بل هم خيرهم على الإطلاق، أكثرهم يحفظون القرآن الكريم ويجيدون تجويده بالقراءة الصحيحة، وإليهم يأتي أهل بلاد العراق برسم تَعَلُّم ذلك، وكان في القافلة التي وَصَلْنَا فيها جماعة من الناس أتوا برسم تجويد القرآن على من بها من الشيوخ، وبها مدرسة عظيمة حافلة فيها نحو ثلاثمائة خلوة ينزلها الغرباء القادمون لتعلُّم القرآن، عَمَرَهَا الشيخ تقي الدين عبد المحسن الواسطي، وهو من كبار أهلها وفقهائها، ويعطي لكل متعلِّم بها كسوة في السنة، ويُجْرِي له نفقته في كل يوم ويقعد هو وإخوانه وأصحابه لتعليم القرآن بالمدرسة، ولقد لَقِيتُه وأضافني وزودني تمرًا ودراهم.

ولما نزلنا مدينة واسط أقامت القافلة ثلاثًا بخارجها للتجارة فسنح لي زيارة قبر الولي أبي العباس أحمد الرفاعي، وهو بقرية تُعْرَف بأم عبيدة على مسيرة يوم من واسط، فطلَبْتُ من الشيخ تقي الدين أن يَبْعَثَ معي من يوصلني إليها، فبعث معي ثلاثة من عرب بني أسد وهم قُطَّان تلك الجهة، وأركبني فرسًا له، وخرجت ظُهْرًا فبتُّ تلك الليلة بحوش بني أسد، ووَصَلْنا في ظُهْر اليوم الثاني إلى الرواق، وهو رباط عظيم فيه آلاف من الفقراء، وصادَفْنا به قدوم الشيخ أحمد كوجك حفيد ولي الله أبي العباس الرفاعي الذي قَصَدْنا زيارته وقد قدم من موضع سكناه من بلاد الروم برسم زيارته قبر جده وإليه انتهت الشياخة بالرواق، ولما انقضت صلاة العصر ضُرِبَت الطبول والدفوف وأَخَذَ الفقراء في الرقص، ثم صَلَّوا المغرب وقدموا السماط وهو خبز الأرز والسمك واللبن والتمر فأكَّلُوا الناس، ثم صلوا العشاء الآخرة وأخذوا في الذكر والشيخ أحمد قاعد على سجادة جَدِّه المذكور، ثم أخذوا في السماع وقد أعدوا أحمالًا من الحطب فأججوها نارًا ودخلوا في وسطها يرقصون، ومنهم من يتمرَّغ فيها، ومنهم من يأكلها بفمه حتى أطفئوها جميعها وهذا دأبهم، وهذه الطائفة الأحمدية مخصوصون بهذا، وفيهم من يأخذ الحية العظيمة فيعض بأسنانه على رأسها حتى يقطعه.

حكاية

كنت مررت بموضع يقال له أفقانبور من عمالة هزار أمروها وبينهما وبين دهلي حضرة الهند مسيرة خمس، وقد نزلنا بها على نهر يُعْرَف بنهر السرور وذلك في أوان الشكال، والشكال عندهم هو المطر وينزل في إبان القيظ، وكان السيل ينحدر في هذا النهر من جبال قراجيل، فكلُّ مَنْ يَشْرَب منه من إنسان أو بهيمة يموت لنزول المطر على الحشائش المسمومة، فأقمنا على النهر أربعة أيام لا يقربه أحد، ووصل إلى هنالك جماعة من الفقراء في أعناقهم أطواق الحديد وفي أيديهم، وكبيرهم رجل أسود حالك اللون وهم من الطائفة المعروفة بالحيدرية، فباتوا عندنا ليلة، وطَلَبَ مني كبيرهم أن آتيه بالحطب ليوقدوه عند رَقْصهم، فكَلَّفْت والي تلك الجهة وهو عزيز المعروف بالخمار (وسيأتي ذِكْره) أن يأتي بالحطب، فوجه منه نحو عشرة أحمال فأضرموا فيه النار بعد صلاة العشاء الآخرة حتى صارت جمرًا وأخذوا في السماع، ثم دخلوا في تلك النار فما زالوا يرقصون ويتمرغون فيها، وطلب مني كبيرهم قميصًا فأعطيته قميصًا في النهاية من الرقة فلبسه وجعل يتمرغ به في النار ويضربها بأكمامه حتى طُفِئَتْ تلك النار وخمدت، وجاء إلي بالقميص والنار لم تؤثر فيه شيًّا البتة فطال عجبي منه، ولما حصلتْ لي زيارة الشيخ أبي العباس الرفاعي — نفع الله به — عُدْتُ إلى مدينة واسط فوجدت الرفقة التي كُنْتُ فيها قد رَحَلَتْ فلحقْتُها في الطريق، ونزلنا ماء يُعْرَف بالهضيب، ثم رحلنا ونزلنا بوادي الكراع وليس به ماء، ثم رحلنا ونزلنا موضعًا يُعْرَف بالمشيرب، ثم رحلنا منه ونزلنا بالقرب من البصرة، ثم رحلنا فدخلنا ضحوة النهار إلى مدينة البصرة.

مدينة البصرة

فنزلنا بها رباط مالك بن دينار، وكنت رأيت عند قدومي عليها على نحو مِيلَيْنِ منها بناء عاليًا مثل الحصن، فسألت عنه، فقيل لي: هو مسجد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكانت البصرة من اتساع الخطة وانفساح الساحة بحيث كان هذا المسجد في وسطها وبينه الآن وبينها ميلان، وكذلك بينه وبين السور الأول المحيط بها نحو ذلك فهو مرتبط بينهما، ومدينة البصرة إحدى أمهات العراق الشهيرة الذِّكْر في الآفاق الفسيحة الأرجاء المؤنقة الأفناء ذات البساتين الكثيرة والفواكه الأثيرة توفر قسمها من النضارة والخصب لما كانت مَجْمَعَ البحرين الأُجَاج والعَذْب، وليس في الدنيا أكثر نخلًا منها فيباع التمر في سوقها بحساب أربعة عشر رطلًا عراقية بدرهم، ودرهمهم ثلث النقرة، ولقد بُعِثَ إلى قاضيها حجة الدين بقوصرة تمرٌ يحملها الرجل على تَكَلُّف، فأردْتُ بيعها فبيعت بتسعة دراهم، أخذ الحمال منها ثلثها عن أجرة حَمْلِها من المنزل إلى السوق، ويُصْنَع بها من التمر عسل يسمى السيلان وهو طَيِّب كأنه الجلاب، والبصرة ثلاث محلات: إحداها محلة هذيل، وكبيرها الشيخ الفاضل علاء الدين بن الأثير من الكرماء الفضلاء، أضافني وبعث إلي بثيابٍ ودراهم، والمحلة الثانية محلة بني حرام، كبيرها السيد الشريف مجد الدين موسى الحسني ذو مكارم وفواضل، أضافني وبعث إلي التمر والسيلان والدراهم، والمحلة الثالثة محلة العجم، كبيرها جمال الدين ابن اللوكي، وأهل البصرة لهم مكارم أخلاق وإيناس للغريب وقيام بحقه فلا يستوحش فيما بينهم غريب، وهم يُصَلُّون الجمعة في مسجد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه الذي ذَكَرْتُهُ، ثم يُسَدُّ فلا يأتونه إلا في الجمعة، وهذا المسجد من أحسن المساجد، وصحنه متناهي الانفساح مفروش بالحصباء الحمراء التي يؤتى بها من وادي السباع، وفيه المصحف الكريم الذي كان عثمان رضي الله عنه يقرأ فيه لما قُتِلَ وأثر تغييره الدم في الورقة التي فيه قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.

حكاية اعتبار

شهدت مرة بهذا المسجد صلاة الجمعة، فلما قام الخطيب به إلى الخطبة وسردها لحن فيها لحنًا كثيرًا جليًّا، فعجبت مِنْ أَمْرِه وذَكَرْتُ ذلك للقاضي حجة الدين، فقال لي: إن هذا البلد لم يَبْقَ به من يَعْرِف شيئًا من علم النحو، وهذه عبرة لمن تَفَكَّرَ فيها، سبحان مغير الأشياء ومقلب الأمور، هذه البصرة التي إلى أهلها انتهت رياسة النحو وفيها أَصْلُهُ وفَرْعُه ومن أهلها إمامه الذي لا يُنْكَر سبقه، لا يقيم خطيبُها خطبةَ الجمعة على دءوبه عليها؛ ولهذا المسجد سبع صوامع إحداها الصومعة التي تتحرك — بزعمهم — عند ذِكْر علي بن أبي طالب رضي الله عنه، صعدْتُ إليها من أعلى سطح المسجد ومعي بعض أهل البصرة، فوجدت في ركن من أركانها مقبض خشب مسمرًا فيها كأنه مقبض مملسة البناء فجعل الرجل الذي كان معي يده في ذلك المقبض وقال: بحق رأس أمير المؤمنين علي رضي الله عنه تحركي، وهَزَّ المقبض فتحرَّكَت الصومعة، فجعلْتُ أنا يدي في المقبض، وقلت له: وأنا أقول: بحق رأس أبي بكر خليفة رسول الله تحركي، وهززت المقبض، فتحرَّكَت الصومعة، فعجبوا من ذلك، وأهل البصرة على مذهب السنة والجماعة.

ولا يَخَاف من يَفْعَلُ مثل فعلي عندهم، ولو جرى مثل هذا بمشهد علي أو مشهد الحسين أو بالحلة أو بالبحرين أو قم أو قاشان أو ساوة أو آوة أو طوس لَهَلَكَ فَاعِلُه؛ لأنهم رافضة غالية، قال ابن جزي: قد عاينْتُ بمدينة برشانة من وادي المنصورة من بلاد الأندلس — حاطها الله — صومعة تَهْتَزُّ من غير أن يُذْكَرَ لها أحد من الخلفاء أو سواهم، وفي صومعة المسجد الأعظم بها، وبناؤها ليس بالقديم، وهي كأحسن ما أنت راءٍ من الصوامع حُسْنَ منظر واعتدالًا وارتفاعًا، لا ميل فيها ولا زيغ، صعدْتُ إليها مرة ومعي جماعة من الناس، فأخذ بعض من كان معي بجوانب جامورها وهزوها فاهتزت حتى أَشَرْتُ إليهم أن يكفوا فكفوا عن هزها (رجع).

ذكر المشاهد المباركة بالبصرة

فمنها مشهد طلحة بن عبيد الله أحد العشرة رضي الله عنهم وهو بداخل المدينة وعليه قبة ومسجد وزاوية، فيها الطعام للوارد والصادر، وأهل البصرة يعظمونه تعظيمًا شديدًا — وحَقَّ له. ومنها مشهد الزبير بن العوام حواري رسول الله وابن عمته رضي الله عنهما وهو بخارج البصرة ولا قبة عليه، وله مسجد وزاوية فيها الطعام لأبناء السبيل.

ومنها قبر حليمة السعدية أم رسول الله من الرضاعة رضي الله عنها، وإلى جانبها قبر ابنها رضيع رسول الله ، ومنها قبر أبي بكرة صاحب رسول الله وعليه قبة، وعلى ستة أميال منها بقرب وادي السباع قبر أنس بن مالك خادم رسول الله ، ولا سبيل لزيارته إلا في جَمْع كثيف لكثرة السباع وعدم العمران، ومنها قبر الحسن بن أبي الحسن البصري سيد التابعين رضي الله عنه، ومنها قبر محمد بن سيرين رضي الله عنه، ومنها قبر محمد بن واسع رضي الله عنه، ومنها قبر عتبة الغلام رضي الله عنه، ومنها قبر مالك بن دينار رضي الله عنه، ومنها قبر حبيب العجمي رضي الله عنه، ومنها قبر سهل بن عبد الله التستري رضي الله عنه، وعلى كل قبر منها قبة مكتوب فيها اسم صاحب القبر ووفاته، وذلك كله داخل السور القديم وهي اليوم بينها وبين البلد نحو ثلاثة أميال وبها سوى ذلك قبور الجم الغفير من الصحابة والتابعين المستشهدين يوم الجمل، وكان أمير البصرة حين ورودي عليها يُسَمَّى بركن الدين العجمي التوريزي أضافني فأحسن إلي، والبصرة على ساحل الفرات والدجلة وبها المد والجزر كمثل ما هو بوادي سلا من بلاد المغرب وسواه والخليج المالح الخارج من بحر فارس على عشرة أميال منها، فإذا كان المدُّ غَلَبَ الماء المالح على العذب، وإذا كان الجزر غَلَبَ الماء الحلو على المالح فيستسقي أهل البصرة الماء لدورهم؛ ولذلك يقال: إن ماءهم زعاق، وقال ابن جزي: وبسبب ذلك كان هواء البصرة غير جيد وألوان أهلها مصفرة كاسفة حتى ضُرِبَ بهم المثل، وقال بعض الشعراء — وقد أحضرت بين يدي الصاحب أترجة (سريع):

لله أترج غدا بيننا
معبرًا عن حال ذي عبرة
لما كسا الله ثياب الضنا
أهل الهوى وساكني البصرة

(رجع)، ثم رَكِبْتُ من ساحل البصرة في صنبوق — وهو القارب الصغير — إلى الأبلة وبينها وبين البصرة عشرة أميال في بساتين متصلة ونخيل مظللة عن اليمين واليسار، والبياعة في ظلال الأشجار يبيعون الخبز والسمك والتمر واللبن والفواكه، وفيما بين البصرة والأبلة متعبَّد سهل بن عبد الله التستري، فإذا حاذاه الناس بالسفن تراهم يشربون الماء مما يحاذيه من الوادي، ويَدْعُون عند ذلك تبركًا بهذا الولي رضي الله عنه، والنواتية يحرفون في هذه البلاد وهم قيام، وكانت الأبلة مدينة عظيمة يقصدها تجار الهند وفارس فخربت، وهي الآن قرية بها آثار قصور وغيرها دالة على عظمها، ثم رَكِبْنَا في الخليج الخارج من بحر فارس في مركب صغير لرجل من أهل الأبلة يسمى بمغامس، وذلك فيما بعد المغرب فصبحنا عبادان وهي قرية كبيرة في سبخة لا عمارة بها، وفيها مساجد كثيرة ومتعبدات ورباطات للصالحين، وبينها وبين الساحل ثلاثة أميال، قال ابن جزي: عبادان كانت بلدًا فيما تَقَدَّمَ وهي مُجْدِبة لا زَرْع بها، وإنما يُجْلَب إليها، والماء أيضًا بها قليل، وقد قال فيها بعض الشعراء (سريع):

من مُبْلِغ أندلسًا أنني
حلَلْتُ عبادان أقصى الثرا
أوحش ما أبصرت لكنني
قصدت فيها ذِكْرَها في الورى
الخبز فيها يتهادَوْنَه
وشربة الماء بها تُشْتَرَى

(رجع)، وعلى ساحل البحر منها رابطة تُعْرَف بالنسبة إلى الخَضِر وإلياس عليهما السلام وبإزائها زاوية يسكنها أربعة من الفقراء بأولادهم يخدمون الرابطة والزاوية ويتعيشون من فتوحات الناس، وكل مَنْ يَمُرُّ بهم يتصدق عليهم، وذَكَرَ لي أهل هذه الزاوية أن بعبادان عابدًا كبير القدر ولا أنيس له يأتي هذا البحر مرة في الشهر، فيصطاد فيه ما يقوته شهرًا، ثم لا يُرَى إلا بعد تمام شهر، وهو على ذلك منذ أعوام، فلما وَصَلْنَا عبادان لم يَكُن لي شأن إلا طلبه، فاشتغل من كان معي بالصلاة في المساجد والمتعبدات وانطلقت طالبًا له فجئت مسجدًا خربًا فوجدته يصلي فيه فجلست في جانبه فأوجز في صلاته، ولما سلم أخذ بيدي وقال لي: بَلَّغَكَ الله مرادك في الدنيا والآخرة، فقد بلغت — بحمد الله — مرادي في الدنيا، وهو السياحة في الأرض، وبلغت من ذلك ما لم يَبْلُغْه غيري فيما أعلمه، وبَقِيَت الأخرى، والرجاء قوي في رحمة الله وتجاوُزه وبلوغ المراد من دخول الجنة، ولما أَتَيْتُ أصحابي أَخْبَرْتُهُمْ خَبَرَ الرجل وأَعْلَمْتُهُم بموضعه، فذهبوا إليه فلم يجدوه ولا وقعوا له على خبر، فعَجِبُوا من شأنه وعُدْنَا بالعشي إلى الزاوية، فبتنا بها ودَخَلَ علينا أحد الفقراء الأربعة بعد صلاة العشاء الآخرة، ومن عادة ذلك الفقير أن يأتي عبادان كل ليلة فيسرج السرج بمساجدها ثم يعود إلى زاويته، فلما وَصَلَ إلى عبادان وَجَدَ الرجل العابد فأعطاه سمكة طرية، وقال له: أَوْصِل هذه إلى الضيف الذي قَدِمَ اليوم، فقال لنا الفقير عند دخوله علينا: من رأى منكم الشيخ اليوم؟ فقلت له: أنا رأيته، فقال: يقول لك: هذه ضيافتك، فشَكَرْتُ الله على ذلك، وطَبَخَ لنا الفقير تلك السمكة فأكلنا منها أجمعون، وما أَكَلْتُ قط سمكًا أطيب منها، وهجس في خاطري الإقامة بقية العمر في خدمة ذلك الشيخ، ثم صَرَفَتْني النفس اللَّجُوج عن ذلك، ثم رَكِبْنا البحر عند الصبح بقَصْد بلدة ماجول، ومن عادتي في سفري أن لا أعود على طريقٍ سَلَكْتُها ما أمكنني ذلك، وكنت أُحِبُّ قَصْد بغداد العراق، فأشار علي بعض أهل البصرة بالسفر إلى أرض اللور ثم إلى عراق العجم ثم إلى عراق العرب، فعملت بمقتضى إشارته.

ووصلنا بعد أربعة أيام إلى بلدة ماجول على وزن فاعول وجيمها معقودة، وهي صغيرة على ساحل هذا الخليج الذي ذَكَرْنا أنه يخرج من بحر فارس، وأرضها سبخة لا شجر فيها ولا نبات، ولها سوق عظيمة من أكبر الأسواق، وأقمت بها يومًا واحدًا، ثم اكتريت دابة لركوبي من الذين يَجْلِبُون الحبوب من رامز إلى ماجول، وسِرْنا ثلاثًا في صحراء يسكنها الأكراد في بيوت الشعر، ويقال: إن أصلهم من العرب، ثم وَصَلْنا إلى مدينة رامز، وأول حروفها (راء وآخرها زاي وميمها مكسورة)، وهي مدينة حسنة ذات فواكه وأنهار، ونزلنا بها عند القاضي حسام الدين محمود، ولقيت عنده رجلًا من أهل العلم والدين والورع هندي الأصل يُدْعى بهاء الدين ويُسَمَّى إسماعيل، وهو من أولاد الشيخ بهاء الدين أبي زكريا الملتاني، وقرأ على مشايخ توريز وغيرها، وأقمْتُ بمدينة رامز ليلة واحدة، ثم رحلنا منها ثلاثًا في بسيط فيه قرًى يسكنها الأكراد، وفي كل مرحلة منها زاوية فيها للوارد الخبز واللحم والحلواء، وحلواؤهم من رب العنب مخلوط بالدقيق والسمن، وفي كل زاوية الشيخ والإمام والمؤذنون والخادم للفقراء والعبيد، والخدم يطبخون الطعام، ثم وَصَلْتُ إلى مدينة تستر وهي آخر البسيط من بلاد أتابك وأول الجبال، مدينة كبيرة رائقة نضرة وبها البساتين الشريفة والرياض المنيفة، ولها المحاسن البارعة والأسواق الجامعة، وهي قديمة البناء افتتحها خالد بن الوليد، ووالي هذه المدينة ينسب سهل بن عبد الله، ويحيط بها النهر المعروف بالأزرق، وهو عجيب في نهاية من الصفا شديد البرودة في أيام الحر، ولم أَرَ كزُرْقَتِهِ إلا نهر بلخشان، ولها باب واحد للمسافرين يُسَمَّى دروازة دسبول، والدروازة عندهم الباب، ولها أبواب غيره شارعة إلى النهر، وعلى جانِبَي النهر البساتين والدواليب، والنهر عميق، وعلى باب المسافرين منه جسر على القوارب كجسر بغداد والحلة، قال ابن حزي: وفي هذا النهر يقول بعضهم (كامل):

انظر لشاذر وأن تستر واعجب
من جمعه ماء لري بلادِهِ
كَمَيْتِ قوم جُمِّعَتْ أمواله
فغدا يُفَرِّقه على أجنادِهِ

والفواكه بتستر كثيرة والخيرات متيسرة غزيرة ولا مِثْل لأسواقها في الحسن، وبخارجها تربة معظمة يقصدها أهل تلك الأقطار للزيارة ويَنْذُرون لها النذور، ولها زاوية بها جماعة من الفقراء، وهم يزعمون أنها تربة زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان نزولي من مدينة تستر في مدرسة الشيخ الإمام الصالح المتفنن شرف الدين بن موسى ابن الشيخ الصالح الإمام العالم صدر الدين سليمان وهو من ذرية سهل بن عبد الله، وهذا الشيخ ذو مكارم وفضائل جامع بين العلم والدين والصلاح والإيثار، وله مدرسة وزاوية وخدامها فتيان له أربعة: سنبل وكافور وجوهر وسرو، أحدهم موكل بأوقاف الزاوية، والثاني متصرِّف فيما يحتاج إليه من النفقات في كل يوم، والثالث خديم السماط بين أيدي الواردين ومرتِّب الطعام لهم، والرابع موكل بالطباخين والسقائين والفراشين، فأقمت عنده ستة عشر يومًا، فلم أرَ أعجب من ترتيبه ولا أَرْغَدَ من طعامه، يُقَدِّم بين يدي الرجل ما يكفي الأربعة من طعام الأرز المفلفل المطبوخ في السمن والدجاج المقلي والخبز واللحم والحلواء، وهذا الشيخ من أحسن الناس صورة وأقومهم سيرة، وهو يَعِظُ الناس بعد صلاة الجمعة بالمسجد الجامع، ولَمَّا شاهَدْتُ مَجَالِسَه في الوعظ صغر لدي كل واعظ رأيته قبله بالحجاز والشام ومصر، ولم ألْقَ فيمن لقيتهم مثله، حضرت يومًا عنده ببستان له على شاطئ النهر، وقد اجتمع فقهاء المدينة وكبراؤها وأتى الفقراء من كل ناحية فأَطْعَمَ الجميع، ثم صلى بهم صلاة الظهر، وقام خطيبًا وواعظًا بعد أن قرأ القراء أمامه بالتلاحين المبكية والنغمات المحركة المهيجة، وخَطَبَ خطبة بسكينة ووقار وتصرف في فنون العلم من تفسير كتاب الله وإيراد حديث رسول الله والتكلم على معانيه، ثم تَرَامَتْ عليه الرقاع من كل ناحية، ومن عادة الأعاجم أن يكتبوا المسائل في رقاع ويرمونها إلى الواعظ فيجيب عنها، فلما رُمِيَ إليه بتلك الرقاع جَمَعَهَا في يده وأَخَذَ يجيب عنها واحدة بعد واحدة بأبدع جواب وأحسنه، وحان وقت صلاة العصر فصلى بالقوم وانصرفوا، وكان مجلسه مَجْلِسَ عِلْم ووَعْظ وبركة، وتَبَادَرَ التائبون فأَخَذَ عليهم العهد وجَزَّ نواصيهم، وكانوا خمسة عشر رجلًا من الطلبة، قَدِمُوا من البصرة برسم ذلك، وعشرة رجال من عوام تستر.

حكاية

لما دخلت هذه المدينة أصابني مرض الحمى، وهذه البلاد يحم داخلها في زمان الحر كما يعرض في دمشق وسواها من البلاد الكثيرة المياه والفواكه، وأصابت الحمى أصحابي أيضًا، فمات منهم شيخ اسمه يحيى الخراساني، وقام الشيخ بتجهيزه من كل ما يحتاج إليه الميت وصلى عليه، وتركت بها صاحبًا لي يُدْعَى بهاء الدين الخثني فمات بعد سفري، وكنت حين مرضي لا أشتهي إلا طعمته التي تُصْنَع لي بمدرسته، فذكر لي الفقيه شمس الدين السندي من طلبتها طعامًا، فاشتهيته ودَفَعْتُ له دراهم وطَبَخَ لي ذلك الطعام بالسوق، وأتى به إلي فأكلت منه.

وبَلَغَ ذلك الشيخ فشَقَّ عليه وأتى إلي وقال لي: كيف تَفْعَل هذا وتطبخ الطعام في السوق، وهلا أَمَرْتَ الخدم أن يصنعوا لك ما اشتهيتَه، ثم أَحْضَرَ جميعهم وقال لهم: جميع ما يَطْلُب منكم من أنواع الطعام والسكر وغير ذلك، فأتوا إليه به واطبخوا له ما يشاؤه وأَكَّدَ عليهم في ذلك أَشَدَّ التأكيد جزاه الله خيرًا، ثم سافَرْنَا من مدينة تستر ثلاثًا في جبال شامخة، وبكل منزل زاوية كما تَقَدَّمَ ذِكْر ذلك، ووصلنا إلى مدينة إيذَج (وضبْط اسمها بكسر الهمزة وياء مد وذال معجم مفتوح وجيم)، وتُسَمَّى أيضًا مال الأمير وهي حضرة السلطان أتابك، وعند وصولي إليها اجتمعت بشيخ شيوخها العالِم الورِع نور الدين الكرماني، وله النظر في جميع الزوايا وهم يُسَمُّونَها المدرسة، والسلطان يعظمه ويقصد زيارته، وكذلك أرباب الدولة وكبراء الحضرة يزورونه غدوًّا وعشيًّا، فأكْرَمَني وأضافني وأنزلَنِي بزاوية تُعْرَف باسم الدينوري، وأقمت بها أيامًا، وكان وصولي في أيام القيظ وكنا نصلي صلاة الليل ثم ننام بأعلى سطحها ثم ننزل إلى الزاوية ضحوة، وكان في صحبتي اثنا عشر فقيرًا منهم إمام وقارئان مُجِيدان وخادم ونحن على أحسن ترتيب.

ذِكْر ملك إيذج وتستر

ومَلِك إيذج في عهد دخولي إليها السلطان أتباك أفراسياب ابن السلطان أتابك أحمد، وأتابك عندهم سمة لكل من يلي هذه البلاد من ملك، وتُسَمَّى هذه البلاد بلاد اللور، ووَلِيَ هذا السلطان بعد أخيه أتابك يوسف، ووَلِيَ يوسف بعد أبيه أتابك أحمد، وكان أحمد المذكور ملكًا صالحًا، سَمِعْتُ من الثقات ببلاده أنه عَمَرَ أربعمائة وستين زاوية ببلاده منها بحضرة إيذج أربع وأربعون وقسم خراج بلاده أثلاثًا، فالثلث منه لنفقة الزوايا والمدارس، والثلث منه لمرتب العساكر، والثلث لنفقته ونفقة عياله وعبيده وخُدَّامه، ويبعث منه هدية لملك العراق في كل سنة، وربما وفد عليه بنفسه، وشاهدت من آثاره الصالحة ببلاده أن أكثرها في جبال شامخة وقد نُحِتَت الطرق في الصخور والحجارة وسُوِّيَتْ ووُسِّعَتْ بحيث تَصْعَدها الدواب بأحمالها، وطول هذه الجبال مسيرة سبعة عشر في عَرْض عشرة، وهي شاهقة مُتَّصِل بعضها ببعض، تشقها الأنهار وشجر البلوط، وهم يصنعون من دقيقه الخبز، وفي كل منزل من منازلها زاوية يسمونها المدرسة، فإذا وَصَلَ المسافر إلى مدرسة منها أتى بما يكفيه من الطعام والعلف لدابته، سواء طَلَبَ ذلك أو لم يَطْلُبْه، فإن عادتهم أن يأتي خادم المدرسة فيَعُدُّ مَنْ نَزَلَ بها من الناس ويعطي كل واحد منهم قرصين من الخبز ولحمًا وحلواء، وكل ذلك من أوقاف السلطان عليها، وكان السلطان أتابك أحمد زاهدًا صالحًا كما ذكرناه، يلبس تحت ثيابه مما يلي جسده ثوب شعر.

حكاية

قَدِمَ السلطان أتابك أحمد مرةً على مَلِك العراق أبي سعيد، فقال له بعض خواصه: إن أتابك يدخل عليك وعليه الدرع وظن ثوب الشعر الذي تحت ثيابه درعًا، فأَمَرَهُم باختبار ذلك على جهة من الانبساط ليَعْرِف حقيقته، فدخل عليه يومًا، فقام إليه الأمير الجوبان عظيم أمراء العراق والأمير سويته أمير ديار بكر والشيخ حسن الذي هو الآن سلطان العراق وأمسكوا بثيابه كأنهم يمازحونه ويضاحكونه فوجدوا تحت ثيابه ثوب الشعر، ورآه السلطان أبو سعيد وقام إليه وعانقه وأجلسه إلى جانبه وقال له: سن آطا، ومعناه بالتركية: أنت أبي، وعَوَّضَه عن هديته بأضعافها، وكتب له اليرليغ وهو الظهير أن لا يطالبه بهدية بعدها هو ولا أولاده، وفي تلك السنة تُوُفِّيَ ووَلِيَ ابنه أتابك يوسف عشرة أعوام ثم وَلِيَ أخوه أفراسياب، ولما دَخَلْتُ مدينة إيذج أردْتُ رؤية السلطان أفراسياب المذكور فلم يَتَأَتَّ لي ذلك بسبب أنه لا يخرج إلا يومَ الجمعة لإدمانه على الخمر، وكان له ابنٌ هو ولي عهده وليس له سواه، فمرض في تلك الأيام، ولما كان في إحدى الليالي أتاني أحد خدامه وسألني عن حالي فعَرَّفْتُه، وذهب عني ثم جاء بعد صلاة المغرب ومعه طيفوران كبيران أحدهما بالطعام والآخر بالفاكهة وخريطة فيها دراهم ومعه أهل السماع بآلاتهم، فقال: اعملوا السماع حتى يرهج الفقراء ويدعون لابن السلطان، فقلت له: إن أصحابي لا يدرون بالسماع ولا بالرقص، ودَعَوْنَا للسلطان ولولده، وقسمت الدراهم على الفقراء، ولما كان نصف الليل سمعنا الصراخ والنواح وقد مات المريض المذكور، ولما كان من الغد دخل علي شيخ الزاوية وأهل البلد وقالوا: إن كبراء المدينة من القضاة والفقهاء والأشراف والأمراء قد ذهبوا إلى دار السلطان للعزاء، فينبغي لك أن تذهب في جملتهم، فأبيت عن ذلك، فعزموا علي، فلم يكن لي بد من المسير، فسِرْتُ معهم فوجدت مشور دار السلطان ممتلئًا رجالًا وصبيانًا من المماليك وأبناء الملوك والوزراء والأجناد، وقد لبسوا التلاليس وجلال الدواب، وجعلوا فوق رءوسهم التراب والتبن، بعضهم قد جَزَّ ناصيته، وانقسموا فرقتين: فرقة بأعلى المشور، وفرقة بأسفله، وتزحف كل فرقة إلى جهة الأخرى وهم ضاربون بأيديهم على صدورهم قائلون خوند كارما، ومعناه: مولاي أنا (مولانا) فرأيت من ذلك أمرًا هائلًا ومنظرًا فظيعًا لم أَعْهَدْ مِثْلَه.

حكاية

ومن غريب ما اتَّفَقَ لي يومئذٍ أني دخلت فرأيت القضاة والخطباء والشرفاء قد استندوا إلى حيطان المشور وهو غاصٌّ بهم من جميع جهاته، وهم بين باكٍ ومتباكٍ ومطرق، وقد لَبِسُوا فوق ثيابهم ثيابًا خامة من غليظ القطن غير محكمة الخياطة، بطائنها إلى أعلى ووجوهها مما يلي أجسادهم، وعلى رأس كل وحد منهم قطعة خرقة أو مئزر أسود، وهكذا يكون فِعْلُهم إلى تمام أربعين يومًا، وهي نهاية الحزن عندهم، وبعدها يَبْعَث السلطان لكل مَنْ فَعَلَ ذلك كسوة كاملة، فلما رأيت جهات المشور غاصة بالناس نَظَرْتُ يمينًا وشمالًا أرتاد موضعًا لجلوسي، فرأيت هنالك سقيفة مرتفعة عن الأرض بمقدار شبر، وفي إحدى زواياها رجل منفرد عن الناس قاعد عليه ثوب صوف شبه اللبد يلبسه بتلك البلاد ضعفاء الناس أيام المطر والثلج وفي الأسفار، فتقدمت إلى حيث الرجل وانقطع عني أصحابي لما رأوا إقدامي نحوه، وعجبوا مني وأنا لا علم عندي بشيء من حاله، فصعدت السقيفة وسلمت على الرجل فرد علي السلام وارتفع عن الأرض كأنه يريد القيام وهم يسمون ذلك نصف القيام، وقعدت في الركن المقابل له، ثم نظرت إلى الناس وقد رموني بأبصارهم جميعًا، فعجبت منهم، ورأيت الفقهاء والمشايخ والأشراف مستندين إلى الحائط تحت السقيفة، وأشار إلي أحد القضاة أن انْحَطَّ إلى جانبه فلم أَفْعَلْ، وحينئذٍ استشعرت أنه السلطان، فلما كان بعد ساعة أتى شيخ المشايخ نور الدين الكرماني الذي ذكرناه قبلُ، فصعد إلى السقيفة وسَلَّمَ على الرجل، فقام إليه وجلس فيما بيني وبينه، فحينئذٍ علمت أن الرجل هو السلطان، ثم جيء بالجنازة وهي بين أشجار الأترج والليمون والنارنج، وقد مَلَئُوا أغصانها بثمارها والأشجار بأيدي الرجال، فكأن الجنازة تمشي في بستان، والمشاعل في رماح طوال بين يديها والشمع كذلك، فصُلِّيَ عليها وذهبت الناس معها إلى مدفن الملوك، وهو بموضع يقال له: هلا فيحان، على أربعة أميال من المدينة.

وهنالك مدرسة عظيمة يشقها النهر وبداخلها مسجد تقام فيه الجمعة وبخارجها حمام ويحفُّ بها بستان عظيم وبها الطعام للوارد والصادر، ولم أَسْتَطِع أن أذهب معهم إلى مدفن الجنازة لِبُعْد الموضع فعُدْتُ إلى المدرسة، فلما كان بعد أيام بعث إلي السلطان رسوله الذي أتاني بالضيافة أولًا يدعوني إليه، فذهبت معه إلى باب يُعْرَف بباب السر وصعدنا في دَرَج كثيرة إلى أن انتهينا إلى موضع لا فرش به لأجل ما هُمْ فيه من الحزن، والسلطان جالس فوق مخدة وبين يديه آنيتان قد غُطِّيَتَا، حداهما من الذهب والأخرى من الفضة، وكانت بالمجلس سجادة خضراء ففُرِشَتْ لي بالقرب منه وقَعَدْتُ عليها وليس بالمجلس إلا حاجبه الفقيه محمود ونديم له لا أعرف اسمه، فسألني عن حالي وبلادي، وسألني عن الملك الناصر وبلاد الحجاز فأجبته عن ذلك، ثم جاء فقيه كبير هو رئيس فقهاء تلك البلاد، فقال لي السلطان: هذا مولانا فضيل، والفقيه ببلاد الأعاجم كلها إنما يخاطَب بمولانا، وبذلك يدعوه السلطان وسواه، ثم أَخَذَ في الثناء على الفقيه المذكور، وظَهَرَ لي أن السكر غَالِبٌ عليه، وكُنْتُ قد عَرَفْتُ إدمانه على الخمر، ثم قال لي باللسان العربي وكان يحسنه: تَكَلَّمْ، فقلت له: إن كنت تسمع مني أقول لك: أنت من أولاد السلطان أتابك أحمد المشهور بالصلاح والزهد، وليس فيك ما يَقْدَح في سلطنتك غير هذا، وأَشَرْتُ إلى الآنيتين، فخَجِلَ من كلامي وسَكَتَ، وأَرَدْتُ الانصراف فأمرني بالجلوس وقال لي: الاجتماع مع أمثالك رحمة، ثم رأيته يتمايل ويريد النوم.

فانصرَفْتُ وكُنْتُ تركْتُ نعلي بالباب فلم أجده، فنزل الفقيه محمود في طلبه وصعد الفقيه فضيل يطلبه في داخل المجلس فوجده في طاقٍ هنالك، فأتى إلي به فأخجلني بره واعتذرت إليه فقَبَّلَ نعلي حينئذٍ ووَضَعَهُ على رأسه، وقال لي: بارَكَ الله فيك، هذا الذي قُلْتَه لسلطاننا لا يَقْدِر أحد أن يقوله له غيرك، والله إني لأرجو أن يؤثر ذلك فيه، ثم كان رحيلي من حضرة إيذج بعد أيام، فنزلت بمدرسة السلاطين التي بها قبورهم وأقمت بها أيامًا، وبعث إلي السلطان بجملة دنانير وبعث بمثلها لأصحابي، وسافرنا في بلاد هذا السلطان عشرة أيام في جبال شامخة، وفي كل ليلة نَنْزِل بمدرسة فيها الطعام، فمنها ما هو في العمارة، ومنها ما لا عمارة حوله، ولكنه يُجْلَب إليها جَمِيعُ ما تحتاج إليه، وفي اليوم العاشر نزلنا بمدرسة تُعْرَف بمدرسة كريو الرخ وهي آخر بلاد هذا الملك، وسافرنا منها في بسيط من الأرض كثيرِ المياه من عمالة مدينة أصفهان، ثم وصلنا إلى بلدة أشتركان (وضبط اسمها بضم الهمزة وإسكان الشين المعجم وضم التاء المعلوة وإسكان الراء وآخره نون)، وهي بلدة حسنة كثيرة المياه والبساتين ولها مسجد بديع يشقه النهر، ثم رحلنا منها إلى مدينة فيروزان واسمها كأنه تثنية فيروز، وهي مدينة صغيرة ذات أنهار وأشجار وبساتين، وصلناها بعد صلاة العصر فرأينا أهلها قد خرجوا لتشييع جنازة وقد أوقدوا خَلْفَها وأمامها المشاعل وأتبعوها بالمزامير والمغنيين بأنواع الأغاني المُطْرِبة فعجبنا من شأنهم، وبتنا بها ليلة.

ومَرَرْنا بالغد بقرية يقال لها: نبلان، وهي كبيرة على نهر عظيم وإلى جانبه مسجد في النهاية من الحُسْن، يُصْعَد إليه في درج وتحفُّه البساتين، وسِرْنا يومنا فيما بين البساتين والمياه والقرى الحسان الكثيرة أبراج الحمام، ووصلنا بعد العصر إلى مدينة أصفهان من عراق العجم (واسمها يقال بالفاء الخالصة، ويقال بالفاء المعقودة المفخمة)، ومدينة أصفهان من كبار المدن وحسانها، إلا أنها الآن قد خرب أكثرها بسبب الفتنة التي بين أهل السنة والروافض، وهي متصلة بينهم حتى الآن، فلا يزالون في قتال، وبها الفواكه الكثيرة ومنها المشمش الذي لا نظيرَ له يسمونه بقمر الدين، وهم ييبسونه ويدخرونه ونواه ينكسر عن لوز حلو، ومنها السفرجل الذي لا مثل له في طِيب المطعم وعِظَم الجرم، والأعناب الطيبة والبطيخ العجيب الشأن الذي ليس في الدنيا مثله إلا ما كان من بطيخ بخارى وخوارزم، وقشره أخضر وداخله أحمر ويدخر كما ندخر الشريحة بالمغرب، وله حلاوة شديدة، ومَنْ لم يكن أَلِفَ أَكْلَه فإنه في أول أَمْرِه يُسْهِله، وكذلك اتفق لي لَمَّا أكلته بأصفهان.

وأهل أصفهان حسان الصور وألوانهم بيض زاهرة مشوبة بالحمرة، والغالب عليهم الشجاعة والنجدة، وفيهم كَرَم وتنافُس عظيم فيما بينهم في الأطعمة تُؤْثَر عنهم في أخبار غريبة، وربما دعا أحدهم صاحبه فيقول له: اذهب معي لنأكل نان وماس، والنان بلسانهم الخبز والماس اللبن، فإذا ذهب معه أَطْعَمَهُ أنواع الطعام العجيب مباهيًا له بذلك، وأهل كل صناعة يقدمون على أنفسهم كبيرًا منهم يسمونه الكلو، وكذلك كبار المدينة من غير أهل الصناعات، وتكون الجماعة من الشبان الأعزاب وتفاخر تلك الجماعات ويضيف بعضهم بعضًا مُظْهِرين لما قدروا عليه من الإمكان محتفلين في الأطعمة وسواها الاحتفال العظيم، ولقد ذُكِرَ لي أن طائفة منهم أضافت أخرى فطَبَخُوا طعامهم بنار الشمع، ثم أضافتها الأخرى فطبخوا طعامهم بالحرير، وكان نزولي بأصفهان في زاوية تُنْسَب للشيخ علي بن سهل تلميذ الجنيد، وهي مُعَظَّمة يقصدها أَهْلُ تلك الآفاق ويَتَبَرَّكُون بزيارتها، وفيها الطعام للوارد والصادر، وبها حَمَّام عجيب مفروش بالرخام وحيطانه بالقاشاني وهو موقوف في السبيل لا يلزم أحدًا في دخوله شيء، وشيخ هذه الزاوية الصالح العابد الورِع قطب الدين حسين ابن الشيخ الصالح ولي الله شمس الدين محمد بن محمود بن علي المعروف بالرجاء، وأخوه العالم المفتي شهاب الدين أحمد، أَقَمْتُ عند الشيخ قطب الدين بهذه الزاوية أربعة عشر يومًا، فرأيت من اجتهاده في العبادة وحُبِّه في الفقراء والمساكين وتواضُعِه لهم ما قضيت منه العجب، وبالَغَ في إكرامي وأَحْسَنَ ضيافتي وكساني كسوة حسنة، وساعة وصولي الزاوية بعث إلي بالطعام وبثلاث بطيخات من البطيخ الذي وَصَفْنَاه آنفًا، ولم أَكُنْ رأيتُه قبل ولا أَكَلْتُه.

كرامة لهذا الشيخ

دخل علي يومًا بموضع نزولي من الزاوية، وكان ذلك الموضع يُشْرِف على بستان للشيخ، وكانت ثيابه قد غُسِلَت في ذلك اليوم ونُشِرَت في البستان، ورأيت في جملتها جبة بيضاء مبطَّنة تُدْعَى عندهم هزرميخي فأعجبتني، وقلت في نفسي: مثل هذه كنت أريد، فلما دَخَلَ عليَّ الشيخ نَظَرَ في ناحية البستان، وقال لبعض خدامه: ائتني بذلك الثوب الهزرميخي فأتوا به فكساني إياه فأَهْوَيْتُ إلى قدميه أقبلهما، وطَلَبْتُ منه أن يلبسني طاقية من رأسه ويجيزني في ذلك بما أجازه والده عن شيوخه، فألبسني إياها في الرابع عشر لجمادى الأخيرة سنة سبع وعشرين وسبعمائة بزاويته المذكورة كما لَبِسَ من والده شمس الدين، ولَبِسَ والده من أبيه تاج الدين محمود، ولَبِسَ محمود من أبيه شهاب الدين علي الرجاء، ولبس علي من الإمام شهاب الدين أبي حفص عمر بن محمد بن عبد الله السهروردي، ولبس عمر من الشيخ الكبير ضياء الدين أبي النجيب السهروردي، ولبس أبو النجيب من عمه الإمام وحيد الدين عمر، ولبس عُمَر من والده محمد بن عبد الله المعروف بعمويه، ولبس محمد من الشيخ أخي فرج الزنجاني، ولبس أخو فرج من الشيخ أحمد الدينوري، ولبس أحمد من الإمام ممشاد الدينوري، ولبس ممشاد من الشيخ المحقق علي بن سهل الصوفي، ولبس علي من أبي القاسم الجنيد، ولبس الجنيد من سرى السقطي، ولبس سرى السقطي من داود الطائي، ولبس داود من الحسن بن أبي الحسن البصري، ولبس الحسن بن أبي الحسن البصري من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، قال ابن جزي: هكذا أورد الشيخ أبو عبد الله هذا السند، والمعروف فيه أن سريا السقطي صَحِبَ معروفًا الكرخي، وصحب معروف داود الطائي، وكذلك داود الطائي بينه وبين الحسن حبيب العجمي وأخو فرج الزنجاني، إنما المعروف أنه صَحِبَ أبا العباس النهاوندي، وصحب النهاوندي أبا عبد الله بن خفيف، وصحب ابن خفيف أبا محمد رويمًا، وصحب رويم أبا القاسم الجنيد.

وأما محمد بن عبد الله عمويه فهو الذي صَحِبَ الشيخ أحمد الدينوري الأسود وليس بينهما أحد والله أعلم، والذي صحب أخا فرج الزنجاني هو عبد الله بن محمد بن عبد الله والد أبي النجيب (رجع)، ثم سافرنا من أصفهان بقصد زيارة الشيخ مجد الدين بشيراز وبينها مسيرة عشرة أيام، فوصلنا إلى بلدة كليل (وضبطها بفتح الكاف وكسر اللام وياء مد)، وبينهما وبين أصفهان مسيرة ثلاثة، وهي بلدة صغيرة ذات أنهار وبساتين وفواكه، رأيت التفاح يباع في سوقها خمسة عشر رطلًا عراقية بدرهم ودرهمهم ثلث النقرة، ونزلنا منها بزاوية عَمَرَها كبيرُ هذه البلدة المعروف بخواجة كافي، وله مال عريض قد أعانه الله على إنفاقه في سبيل الخيرات من الصدقة وعمارة الزوايا وإطعام الطعام لأبناء السبيل، ثم سرنا من كليل يومين ووصلنا إلى قرية كبيرة تُعْرَف بصوماء وبها زاوية فيها الطعام للوارد والصادر عَمَرَها خواجة كافي المذكور، ثم سرنا منها إلى يزد حاص (وضبط اسمها بفتح الياء آخر الحروف وإسكان الزاي وضم الدال المهمل وخاء مُعْجَم وألف وصاد مُهْمَل)، بلدة صغيرة مُتْقَنة العمارة حَسَنَة السوق، والمسجد الجامع بها عجيب مبني بالحجارة مسقف بها والبلدة على ضفة خندق فيه بساتينها ومياهها، وبخارجها رباط ينزل به المسافرون، عليه باب حديد، وهو في النهاية من الحَصَانة والمَنَعة، وبداخله حوانيت يباع فيها كل ما يحتاجه المسافرون، وهذا الرباط عَمَرَه الأمير محمد شاه ينجو والد السلطان أبي إسحاق ملك شيراز، وفي يزد خاص يُصْنع الجبن اليزدخاصي ولا نظير له في طيبه وزن الجبنة منه من أوقيتين إلى أربع.

ثم سرنا منها على طريق دشت الروم وهي صحراء يسكنها الأتراك، ثم سافرنا إلى مايِين (واسمها بياءين مسفولتين أولاهما مكسورة)، وهي بلدة صغيرة كثيرة الأنهار والبساتين حسنة الأسواق وأكثر أشجارها الجوز، ثم سافرنا منها إلى مدينة شيراز وهي مدينة أصلية البناء فسيحة الأرجاء شهيرة الذكر منيفة القدر لها البساتين المونقة والأنهار المتدفقة والأسواق البديعة والشوارع الرفيعة، وهي كثيرة العمارة متقنة المباني عجيبة الترتيب، وأهل كل صناعة في سوقها لا يخالطهم غيرهم، وأهلها حسان الصور نظاف الملابس، وليس في المشرق بلدة تُدَاني مدينة دمشق في حُسْن أسواقها وبساتينها وأنهارها وحُسْن صُوَر ساكنيها إلا شيراز، وهي من بسيط من الأرض تحفُّ بها البساتين من جميع الجهات وتشقها خمسة أنهار؛ أحدها النهر المعروف بركن آباد، وهو عذب الماء شديد البرودة في الصيف سخن في الشتاء فينبعث من عين في سفح جبل هنالك يُسَمَّى القليعة، ومسجدها الأعظم يسمى بالمسجد العتيق وهو من أكبر المساجد ساحة وأحسنها بناء، وصحنه متسع مفروش بالمرمر ويغسل في أوان الحر كل ليلة، ويجتمع فيه كبار أهل المدينة كل عشية، ويصلون به المغرب والعشاء، وبشماله باب يُعْرَف بباب حسن يفضي إلى سوق الفاكهة، وهي من أبدع الأسواق، وأنا أقول بتفضيلها على سوق باب البريد من دمشق، وأهل شيراز أهل صلاح ودين وعفاف وخصوصًا نساءها، وهن يلبسن الخفاف ويخرجن ملتحفات متبرقعات فلا يظهر منهن شيء ولهن الصدقات والإيثار، ومن غريب حالهن أنهن يجتمعن لسماع الواعظ في كل يوم إثنين وخميس وجمعة بالجامع الأعظم، فربما اجتمع منهن الألف والألفان بأيديهن المراوح يُرَوِّحْنَ بها على أنفسهن من شدة الحر.

ولم أرَ اجتماع النساء في مثل عَدَدِهِنَّ في بلدة من البلاد، وعند دخولي إلى مدينة شيراز لم يكن لي هَمٌّ إلا قَصْد الشيخ القاضي الإمام قُطْب الأولياء فريد الدهر ذي الكرامات الظاهرة مجد الدين إسماعيل بن محمد بن خداد ومعنى خداد عطية الله، فوصلت إلى المدرسة المجدية المنسوبة إليه وبها سكناه وهي من عمارته، فدخلت إليه رابع أربعة من أصحابي ووجدت الفقهاء وكبار أهل المدينة في انتظاره فخرج إلى صلاة العصر ومعه محب الدين وعلاء الدين ابنا أخيه شقيقه روح الدين، أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، وهما نائباه في القضاء لِضَعْف بصره وكِبَر سنه، فسلَّمْتُ عليه وعانقني وأَخَذَ بيدي إلى أن وَصَلَ إلى مُصَلَّاه، فأرسل يدي وأومأ إليَّ أن أصلي إلى جانبه ففعلت، وصلى صلاة العصر ثم قرئ بين يديه من كتاب المصابيح وشوارق الأنوار للصاغاني، وطالعاه نائباه بما جرى لديهما من القضايا، وتَقَدَّمَ كبار المدينة للسلام عليه، وكذلك عادتهم معه صباحًا ومساء، ثم سألني عن حالي وكيفية قدومي، وسألني عن المغرب ومصر والشام والحجاز فأخبرته بذلك، وأمر خُدَّامه فأنزلوني بدويرة صغيرة بالمدرسة، وفي غد ذلك اليوم وَصَلَ إليه رسول ملك العراق السلطان أبي سعيد وهو ناصر الدين الدرقندي من كبار الأمراء خراساني الأصل، فعند وصوله إليه نَزَعَ شاشيته عن رأسه وهم يسمونها الكلا وقَبَّلَ رِجْل القاضي وقَعَدَ بين يديه ممسكًا أذن نفسه بيده، وهكذا فَعَلَ أمراء التتر عند ملوكهم، وكان هذا الأمير قد قدم في نحو خمسمائة فارس من مماليكه وخُدَّامِه وأصحابه ونزل خارج المدينة، ودخل إلى القاضي في خمسة نفر، ودخل مجلسه وحده منفردًا تأدبًا.

حكاية هي السبب في تعظيم هذا الشيخ وهي من الكرامات الباهرة

كان ملك العراق السلطان محمد خدابنده قد صحبه في حال كُفْرِه فقيه من الروافض الإمامية يسمى جمال الدين بن مطهر، فلما أَسْلَمَ السلطان المذكور وأَسْلَمَتْ بإسلامه التتر زاد في تعظيم هذا الفقيه، فزَيَّنَ له مذهب الروافض وفضله على غيره وشرح له حال الصحابة والخلافة، وقرر لديه أن أبا بكر وعمر كانا وزيرين لرسول الله، وأن عليًّا ابن عمه وصهره فهو وارث الخلافة، ومَثَّلَ له ذلك بما هو مألوف عنده من أن المُلْك الذي بيده إنما هو إِرْث عن أجداده وأقاربه مع حدثان عهد السلطان بالكفر وعدم معرفته بقواعد الدين، فأمر السلطان بحمل الناس على الرفض، وكتب بذلك إلى العراقين وفارس وأذربيجان وأصفهان وكرمان وخراسان وبعث الرسل إلى البلاد، فكان أول بلاد وَصَلَ إليها ذلك بغداد وشيراز وأصفهان، فأما أهل بغداد فامتنع أهل باب الإزج منهم وهم أهل السنة وأكثرهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وقالوا: لا سمع ولا طاعة، وأتوا المسجد الجامع يوم الجمعة في السلاح وبه رسول السلطان، فلما صعد الخطيب المنبر قاموا إليه وهم نحو اثني عشر ألفًا في سلاحهم وهم حماة بغداد والمشار إليهم فيها، فحلفوا له: إنه إنْ غَيَّر الخطبة المعتادة أو زاد فيها أو نقص منها فإنهم قاتِلوه وقاتِلو رسول الملك ومستسلمون بعد ذلك لما شاءه الله.

وكان السلطان أَمَرَ بأن تُسْقَط أسماء الخلفاء وسائر الصحابة من الخطبة ولا يُذْكَر إلا اسم علي ومن تَبِعَه كعمار رضي الله عنهم، فخاف الخطيب من القتل، وخطب الخطبة المعتادة وفَعَلَ أهل شيراز وأصفهان كفعل أهل بغداد، فرجعت الرسل إلى الملك فأخبروه بما جرى في ذلك، فأمر أن يؤتى بقضاة المدن الثلاث، فكان أول من أتى به منهم القاضي مجد الدين قاضي شيراز، والسلطان إذ ذاك في موضع يُعْرَف بقراباغ وهو موضع مصيفه، فلما وَصَلَ القاضي أَمَرَ أن يُرْمَى به إلى الكلاب التي عنده، وهي كلاب ضخام في أعناقها السلاسل معدة لأكل بني آدم، فإذا أوتي بمن يسلط عليه الكلاب جُعِلَ في رحبة كبيرة مطلَقًا غير مقيَّد، ثم بُعِثَت تلك الكلاب عليه فيفر أمامها ولا مَفَرَّ له، فتُدْرِكُه فتمزقه وتأكل لحمه، فلما أُرْسِلَت الكلاب على القاضي مجد الدين ووصلت إليه بصبصَتْ إليه وحَرَّكَتْ أذنابها بين يديه ولم تهجم عليه بشيء، فبلغ ذلك السلطان، فخرج من داره حافي القدمين فأكب على رجلي القاضي يقبلهما، وأَخَذَ بيده وخلع عليه جميع ما كان عليه من الثياب وهي أعظم كرامات السلطان عندهم، وإذا خَلَعَ ثيابه كذلك على أحدٍ كانت شرفًا له ولبنيه وأعقابه يتوارثونه ما دامت تلك الثياب أو شيء منها وأعظمها في ذلك السراويل، ولما خلع السلطان ثيابه على القاضي مجد الدين أخذ بيده وأدخله إلى داره وأمر نساءه بتعظيمه والتبرك به، ورَجَع السلطان عن مذهب الرفض، وكتب إلى بلاده أن يُقَرَّ الناس على مذهب أهل السنة والجماعة، وأَجْزَلَ العطاء للقاضي وصَرَفَه إلى بلاده مُكَرَّمًا مُعَظَّمًا، وأعطاه في جملة عطاياه مائة قرية من قرى جمكان، وهو خندق بين جبلين طوله أربعة وعشرون فرسخًا يشقه نهر عظيم، والقرى منتظمة بجانبيه، وهو أحسن موضع بشيراز.

ومن قراه العظيمة التي تضاهي المدن قرية ميمن وهي للقاضي المذكور، ومن عجائب هذا الموضع المعروف بجمكان أن نصفه مما يلي شيراز وذلك مسافة اثني عشر فرسخًا شديد البرد وينزل فيه الثلج، وأكثر شجره الجوز، والنصف الآخر مما يلي بلاد هنج وبال وبلاد اللار في طريق هرمز شديد الحر وفيه شجر النخيل، وقد تَكَرَّرَ لي لقاء القاضي مجد الدين ثانيةً حين خروجي من الهند، قَصَدْتُه من هرمز متبركًا بلقائه وذلك سنة ثمانٍ وأربعين، وبين هرمز وشيراز مسيرة خمسة وثلاثين يومًا، فدخلتُ عليه وهو قد ضَعُفَ عن الحركة، فسَلَّمْتُ عليه فعرفني وقام إليَّ فعانقني، ووقعت يدي على مرفقه وجلده لاصق بالعظم لا لحم بينهما، وأنزلني بالمدرسة حيث أنزلني أول مرة، وزرته يومًا فوجدْتُ ملك شيراز السلطان أبا إسحاق — وسيقع ذِكْرُهُ — قاعدًا بين يديه ممسكًا بأذن نفسه، وذلك هو غاية الأدب عندهم، ويفعله الناس إذا قعدوا بين يدي الملك، وأتيته مرة أخرى إلى المدرسة فوجدت بابها مسدودًا، فسألت عن سبب ذلك فأُخْبِرْتُ أن أم السلطان وأخته نشأت بينهما خصومة في ميراث فصرفهما إلى القاضي مجد الدين فوَصَلَتَا إليه إلى المدرسة وتَحَاكَمَتَا عنده وفصل بينهما بواجب الشرع وأهل شيراز لا يدعونه بالقاضي، وإنما يقولون له مولانا أعظم، وكذلك يكتبون في التسجيلات والعقود التي تفتقر إلى ذِكْر اسمه فيها، وكان آخر عهدي به في شهر ربيع الثاني من عام ثمانية وأربعين وسبعمائة، ولاحت عليَّ أنواره وظَهَرَتْ لي بركاته — نَفَعَ الله به وبأمثاله.

ذكر سلطان شيزار

وسلطان شيراز في عهد قدومي عليها الملك الفاضل أبو إسحاق بن محمد شاه ينجو، سَمَّاه أبوه باسم الشيخ أبي إسحاق الكازروني نفع الله به، وهو من خيار السلاطين حَسَن الصورة والسيرة والهيئة كريم النفس جميل الأخلاق متواضعٌ صاحبُ قوةٍ ومُلْكٍ كبير وعسكَرُه ينيف على خمسين ألفًا من الترك والأعاجم وبطانته الأدنون إليه أهل أصفهان، وهو لا يأتمن أهل شيراز على نفسه ولا يستخدمهم ولا يقربهم ولا يبيح لأحد منهم حَمْل السلاح؛ لأنهم أهل نجدة وبأس شديد وجراءة على الملوك ومن وُجِدَ بيده السلاح منهم عُوقِبَ، ولقد شاهَدْتُ مرة رجلًا تجره الجنادرة — وهم الشرط — إلى الحاكم وقد ربطوه في عنقه، فسألت عن شأنه فأُخْبِرْتُ أنه وُجِدَتْ في يده قوس بالليل، فذهب السلطان المذكور إلى قهر أهل شيراز وتفضيل الأصفهانيين عليهم؛ لأنه يَخَافُهُم على نَفْسِه، وكان أبوه محمد شاه ينجو واليًا على شيراز من قِبَل ملك العراق، وكان حَسَنَ السيرة محبَّبًا إلى أهلها، فلما تُوُفِّيَ وَلَّى السلطان أبو سعيد مكانَه الشيخَ حسينًا وهو ابن الجوبان أمير الأمراء — وسيأتي ذِكْرُه — وبعث معه العساكر الكثيرة، فوصل إلى شيراز وملكها وضبط مجابيها وهي من أعظم بلاد الله مجبًى، ذَكَرَ لي الحاج قوام الدين الطمغجي — وهو والي المجبى بها — أنه ضمنها بعشرة آلاف دينار دراهم في كل يوم وصرفها من ذهب المغرب ألفان وخمسمائة دينار ذهبًا، وأقام بها الأمير حسين مدة ثم أراد القدوم على ملك العراق فقُبِضَ على أبي إسحاق بن محمد شاه ينجو وعلى أخويه ركن الدين ومسعود بك وعلى والدته طاش خاتون، وأراد حَمْلَهُم إلى العراق ليطلبوا بأموال أبيهم، فلما توسطوا السوق بشيراز كشفت طاش خاتون وجهها وكانت متبرقعةً حياءَ أن تُرى في تلك الحال، فإن عادة نساء الأتراك أن لا يغطين وجوههن، واستغاثت بأهل شيراز وقالت: أهكذا يا أهل شيراز أَخْرُجُ من بينكم وأنا فلانة زوجة فلان؟ فقام رجل من النجارين يسمى بهلوان محمود قد رأيته بالسوق حين قدومي على شيراز، فقال: لا نتركها تخرج من بلدنا ولا نرضى بذلك، فتابعه الناس على قوله وثارت عامَّتُهم ودخلوا في السلاح وقتلوا كثيرًا من العسكر، وأخذوا الأموال وخَلَّصُوا المرأة وأولادها.

وفَرَّ الأمير حسين ومَنْ معه وقدم على السلطان أبي سعيد مهزومًا فأعطاه العساكر الكثيفة وأَمَرَهُ بالعود إلى شيراز والتَّحَكُّم في أهلها بما شاء، فلما بلغ أهلها ذلك علموا أنهم لا طاقة لهم به، فقصدوا القاضي مجد الدين وطلبوا منه أن يحقن دماء الفريقين ويوقع الصلح، فخرج إلى الأمير حسن، فترجل له الأمير عن فرسه وسلم عليه ووقع الصلح ونزل الأمير حسين ذلك اليوم خارج المدينة، فلما كان من الغد برز أهلها للقائه في أجمل ترتيب وزينوا البلد وأوقدوا الشمع الكثير، ودخل الأمير حسين في أُبَّهة وحفل عظيم وسار فيهم بأحسن سيرة، فلما مات السلطان أبو سعيد وانقرض عقبه وتَغَلَّبَ كل أمير على ما بيده خافَهُم الأمير حسين على نفسه وخَرَجَ عنهم، وتَغَلَّبَ السلطان أبو إسحاق عليها وعلى أصفهان وبلاد فارس وذلك مسيرة شهر ونصف شهر، واشتدت شوكته وطمحت هِمَّتُه إلى تَمَلُّك ما يليه من البلاد، فبدأ بالأقرب منها وهي مدينة بزد، مدينة حسنة نظيفة عجيبة الأسواق ذات أنهار مطردة وأشجار نضيرة وأهلها تجار شافعية المذهب، فحاصَرَها وتَغَلَّبَ عليها وتَحَصَّنَ الأمير مظفر شاه ابن الأمير محمد شاه ابن مظفر بقلعة على ستة أميال منها منيعة تحدق بها الرمال، فحاصره بها فظَهَرَ من الأمير مظفر من الشجاعة ما خَرَقَ المعتاد ولم يُسْمَع بمثله، فكان يَضْرِب على عسكر السلطان أبي إسحاق ليلًا ويَقْتُل ما شاء ويخرق المضارب والفساطيط ويعود إلى قلعته فلا يقدر على النَّيْل منه، وضرب ليلة على دوار السلطان وقَتَلَ هنالك جماعة وأخذ من عتاق خيله عشرة وعاد إلى قلعته، فأمر السلطان أن تركب في كل ليلة خمسة آلاف فارس ويصنعون له الكمائن ففعلوا ذلك، وخرج على عادته في مائة من أصحابه فضرب على العسكر وأحاطت به الكمائن وتلاحَقَتْ العساكر فقاتلهم وخلص إلى قلعته، ولم يصب من أصحابه إلا واحدًا أُتِيَ به إلى السلطان أبي إسحاق فخلع عليه وأطلقه وبعث معه أمانًا لمظفر لينزل إليه فأبى ذلك، ثم وقعت بينهما المراسلة، ووقعت له محبة في قلب السلطان أبي إسحاق لِمَا رأى من شجاعته فقال: أريد أن أراه، فإذا رأيتُهُ انصرفْتُ عنه.

فوقف السلطان في خارج القلعة ووقف هو ببابها وسلم عليه، فقال له السلطان: انزل على الأمان، فقال له: أفعل ذلك، فدخل إليه السلطان في عشرة من أصحابه الخواص، فلما وصل باب القلعة تَرَجَّلَ مظفر وقبل ركابه ومشى بين يديه مترجلًا فأدخله داره وأَكَلَ من طعامه ونزل معه إلى المحلة راكبًا فأجلسه السلطان إلى جانبه وخلع عليه ثيابه وأعطاه مالًا عظيمًا، ووَقَعَ الاتفاق بينهما أن تكون الخطبة باسم السلطان أبي إسحاق وتكون البلاد لمظفر وأبيه وعاد السلطان إلى بلاده، وكان السلطان أبو إسحاق طمح ذات مرة إلى بناء إيوان كإيوان كسرى، وأمر أهل شيراز أن يتولوا حَفْر أساسه فأخذوا في ذلك، وكان أهل كل صناعة يباهون كل من عداهم، فانتهوا في المباهاة إلى أن صنعوا القفاف لنقل التراب من الجلد وكسوها ثياب الحرير المزركش، وفعلوا نحو ذلك في براذع الدواب وإخراجها، وصَنَعَ بعضهم الفئوس من الفضة وأوقدوا الشمع الكثير، وكانوا حين الحفر يلبسون أجمل ثيابهم ويربطون فوط الحرير على أوساطهم والسلطان يشاهد أفعالهم من منظرة له، وقد شاهدت هذا المبنى وقد ارتفع عن الأرض نحو ثلاثة أذرع، ولما بُنِيَ أساسه رُفِعَ عن أهل المدينة التخديم فيه وصارت الفَعَلَة تَخْدُم فيه بالأجرة ويُحْشَر لذلك آلاف منهم، وسمعْتُ والي المدينة يقول: إن معظم مجباها يُنْفَق في ذلك البناء، وقد كان الموكل به الأمير جلال الدين بن الفلكي التوريزي وهو من الكبار، كان أبوه نائبًا عن وزير السلطان أبي سعيد المسمى علي شاه جيلان، ولهذا الأمير جلال الدين الفلكي أخٌ فاضل اسمه هبة الله ويُلَقَّب بهاءَ الملك، وفد على ملك الهند حين وفودي عليه، ووفد معنا شرف الملك أمير يخت فخلع ملك الهند علينا جميعًا وقَدَّم كل واحد في شغل يليق به وعَيَّنَ لنا المرتب والإحسان وسنذكر ذلك، وهذا السلطان أبو إسحاق يريد التشبه بمَلِك الهند المذكور في الإيثار وإجزال العطايا، ولكن أين الثريا من الثرى؟ أو أعظم ما تَعَرَّفْنا من عطيات أبي إسحاق أنه أعطى الشيخ زاده الخراساني الذي أتاه رسولًا عن ملك هراة سبعين ألف دينار، وأما ملك الهند فلم يَزَلْ يعطي أضعاف ذلك لمن لا يُحْصى كثرةً من أهل خراسان وغيرهم.

حكاية

ومن عجيب فِعْل ملك الهند مع الخراسانيين أنه قَدِمَ عليه رجل من فقهاء خراسان هروي الدار من سكان خوارزم يسمى بالأمير عبد الله، بعثته الخاتون ترابك زوج الأمير قطلودمور صاحب خوارزم بهدية إلى ملك الهند المذكور فقَبِلَها وكافَأَ عنها بأضعافها وبعث ذلك إليها، واختار رسولُها المذكورُ الإقامةَ عنده فصيره في ندمائه، فلما كان ذات يوم قال له: ادخل إلى الخزانة فارفع منها قدر ما تستطيع أن تحمله من الذهب، فذهب إلى داره فأتى بثلاث عشرة خريطة، وجعل في كل خريطة قَدْر ما وسعته، وربط كل خريطة بعضو من أعضائه، وكان صاحب قوة وقام بها، فلما خرج عن الخزانة وَقَعَ ولم يستطع النهوض، فأَمَرَ السلطان بوزن ما خرج به، فكان جُمْلَتُه ثلاثة عشر منًّا بمنان دهلي، والمن الواحد منها خمسة وعشرون رطلًا مصرية، فأمره أن يأخذ جميع ذلك فأخذه وذَهَبَ به.

حكاية تُنَاسِبها

اشتكى مرة أمير يخت الملقب بشرف الملك الخراساني، وهو الذي تَقَدَّمَ ذِكْره آنفًا بحضرة ملك الهند فأتاه الملك عائدًا، ولما دخل عليه أراد القيام فحلف له الملك أن لا ينزل عن كته — والكت هو السرير — ووُضِعَ للسلطان متكأة يسمونها المورة فقعد عليها، ثم دعا بالذهب والميزان فجيء بذلك، وأمر المريض أن يقعد في إحدى كفَّتي الميزان فقال: يا خوند عالم لو عَلِمْتُ أنك تفعل هذا للبست علي ثيابًا كثيرة، فقال له: الْبَسِ الآن جميعَ ما عندك من الثياب، فلبس ثيابه المعدَّة للبرد المحشوة بالقطن وقعد في كفة الميزان ووضع الذهب في الكفة الأخرى حتى رجحه الذهب، وقال له: خذ هذا فتصدق به على رأسك وخرج عنه.

حكاية تناسبهما

وفد عليه الفقير عبد العزيز الأردويلي وكان قد قرأ علم الحديث بدمشق وتَفَقَّهَ فيه، فجعل مرتبه مائة دينار دراهم في اليوم، وصرف ذلك خمسة وعشرون دينارًا ذهبًا، وحضر مجلسه يومًا فسأله السلطان عن حديث، فسرد له أحاديث كثيرة في ذلك المعنى، فأعجبه حفظه وحلف له برأسه أنه لا يزول من مجلسه حتى يفعل معه ما يراه، ثم نزل الملك عن مجلسه فقبَّل قدميه وأَمَرَ بإحضار صينية من ذَهَبٍ وهي مثل الطيفور الصغير، وأَمَرَ أن يأتي فيها ألف دينار من الذهب، وأخذها السلطان بيده فصبها عليه، وقال: هي لك من الصينية، ووفد عليه مرةً رجل خراساني يُعْرَف بابن الشيخ عبد الرحمن الإِسْفَرَايِيني، وكان أبوه نزل بغداد، فأعطاه خمسين ألف دينار دراهم وخيلًا وعبيدًا وخلعًا، وسنذكر كثيرًا من أخبار هذا المَلِك عند ذِكْر بلاد الهند، وإنما ذَكَرْنَا هذا لما قَدَّمْنَاه من أن السلطان أبا إسحاق يريد التشبه به في العطايا، وهو وإن كان كريمًا فاضلًا، فلا يلحق بطبقة ملك الهند في الكرم والسخاء.

ذِكْر بعض المشاهد بشيراز

فمنها مشهد أحمد بن موسى أخي علي الرضا بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، وهو مشهد معظم عند أهل شيراز يتبركون به ويتوسلون إلى الله تعالى بفضله، وبَنَتْ عليه طاش خاتون أم السلطان أبي إسحاق مدرسة كبيرة وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر، والقراء يقرءون القرآن على التربة دائمًا، ومن عادة الخاتون أنها تأتي إلى هذا المشهد في كل ليلة اثنين، ويجتمع في تلك الليلة القضاة والفقهاء والشرفاء، وشيراز من أكثر بلاد الله شرفاء، سَمِعْتُ من الثقات أن الذين لهم بها المرتبات من الشرفاء ألف وأربعمائة ونيف بين صغير وكبير، ونقيبهم عضد الدين الحسيني، فإذا حَضَرَ القوم بالمشهد المبارك المذكور ختموا القرآن قراءة في المصاحف، وقرأ القراء بالأصوات الحسنة وأُتِيَ بالطعام والفواكه والحلواء، فإذا أكل القوم وَعَظَ الواعظ، ويكون ذلك كله من بعد صلاة الظهر إلى العشي، والخاتون في غرفة مطلة على المسجد لها شباك، ثم تُضْرَب الطبول والأنفار والبوقات على باب التربة كما يُفْعَل عند أبواب الملوك، ومن المَشَاهد بها مشهد الإمام القطب الولي أبي عبد الله بن خفيف المعروف عندهم الشيخ، وهو قدوةُ بلاد فارس كلها، ومشهده معظم عندهم، يأتون إليه بكرة وعشيًّا فيتمسحون به، وقد رأيت القاضي مجد الدين أتاه زائرًا واستلمه، وتأتي الخاتون إلى هذا المسجد في كل ليلة جمعة، وعليه زاوية ومدرسة ويجتمع به القضاة والفقهاء ويفعلون به كفعلهم في مشهد أحمد بن موسى، وقد حضرت الموضعين جميعًا، وتربة الأمير محمد شاه ينجو والد السلطان أبي إسحاق متصلة بهذه التربة، والشيخ أبو عبد الله بن خفيف كبير القدر في الأولياء شهير الذكر، وهو الذي أظهر طريق جبل سرنديب بجزيرة سيلان من أرض الهند.

كرامة لهذا الشيخ

يحكى أنه قصد مرة جبل سرنديب ومعه نحو ثلاثين من الفقراء، فأصابتهم مجاعة في طريق الجبل، حيث لا عمارة وتاهوا عن الطريق، وطلبوا من الشيخ أن يأذن لهم في القبض على بعض الفيلة الصغار، وهي في ذلك المحل كثيرة جدًّا، ومنه تُحْمَل إلى حضرة ملك الهند، فنهاهم الشيخ عن ذلك، فغلب عليهم الجوع فتعدوا قول الشيخ وقبضوا على فيل صغير منها وذكوه وأكلوا لحمه وامتنع الشيخ من أكله، فلما ناموا تلك الليلة اجتمعت الفيلة من كل ناحية وأَتَتْ إليهم فكانت تشم الرجل منهم وتقتله حتى أتت على جميعهم، وشمت الشيخ ولم تتعرض له، وأخذه فيل منها ولَفَّ عليه خرطومه ورمى به على ظهره، وأتى به الموضع الذي فيه العمارة، فلما رآه أهل تلك الناحية عَجِبُوا منه واستقبلوه؛ ليتعرفوا أَمْره، فلما قرب منهم أَمْسَكَه الفيل بخرطومه ووَضَعَهُ عن ظَهْره إلى الأرض بحيث يرونه، فجاءوا إليه وتمسحوا به وذهبوا به إلى ملكهم فعَرَّفُوه خبره وهم كفار وأقام عندهم أيامًا، وذلك الموضع على خور يسمى خور الخيزران، والخور هو النهر، وبذلك الموضع مغاص الجوهر، ويُذْكَر أن الشيخ غاص في بعض تلك الأيام بمحضر ملكهم، وخرج وقد ضم يديه معًا، وقال للملك: اختر ما في إحداهما، فاختار ما في اليمنى فرمى إليه بما فيها، وكانت ثلاثة أحجار من الياقوت لا مثل لها، وهي عند ملوكهم في التاج يتوارثونها، وقد دخلت جزيرة سيلان هذه وهم مقيمون على الكفر إلا أنهم يُعَظِّمون فقراء المسلمين ويؤوونهم إلى دُورِهم ويُطْعِمونهم الطعام ويكونون في بيوتهم بين أهليهم وأولادهم خلافًا لسائر كفار الهند، فإنهم لا يقربون المسلمين ولا يُطْعِمونهم في آنيتهم ولا يُسْقونهم فيها، مع أنهم لا يؤذونهم ولا يهجونهم، ولقد كنا نضطر إلى أن يطبخ لنا بعضهم اللحم فيأتون به في قدورهم ويقعدون على بُعْدٍ مِنَّا، ويأتون بأوراق الموز فيجعلون عليها الأرز وهو طعامهم ويصبون عليه الكوشان وهو الإدام، ويذهبون فنأكل منه وما فضل علينا تأكله الكلاب والطير، وإن أكل منه الولد الصغير الذي لا يعقل ضَرَبُوه وأطعموه روث البقر وهو الذي يُطَهِّر ذلك في زعمهم.

ومن المَشَاهد بها مشهد الشيخ الصالح القطب روزجهان القبلي من كبار الأولياء، وقبره في مسجدٍ جامعٍ يخطب فيه، وبذلك المسجد يصلي القاضي مجد الدين الذي تَقَدَّمَ ذِكْرُه رضي الله عنه، وبهذا المسجد سمعت عليه كتاب مسند الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، قال: أخبرتنا به وزيرة بنت عمر بن المنجا قالت: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن أبي بكر بن المبارك الزبيدي، قال: أخبرنا أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، قال: أخبرنا أبو الحسن المكي بن محمد بن منصور بن علان العرضي، قال: أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن الحرشي عن أبي العباس بن يعقوب الأصم عن الربيع بن سليمان المرادي عن الإمام أبي عبد الله الشافعي، وسمعت أيضًا عن القاضي مجد الدين بهذا المسجد المذكور كتاب مشارق الأنوار للإمام رضي الدين أبي الفضائل الحسن بن محمد بن الحسن الصاغاني بحق سماعه له من الشيخ جلال الدين أبي هاشم محمد بن محمد بن أحمد الهاشمي الكوفي بروايته عن الإمام نظام الدين محمود بن محمد بن عمر الهروي عن المصنف، ومن المَشاهد بها مشهد الشيخ الصالح زركوب وعليه زاوية لإطعام الطعام، وهذه المَشاهد كلها بداخل المدينة، وكذلك معظم قبور أهلها، فإن الرجل منهم يموت ولده أو زوجه فيتخذ له تربة من بعض بيوت داره ويدفنه هناك ويفرش البيت بالحُصْر والبسط ويجعل الشمع الكثير عند رأس الميت ورجليه ويصنع للبيت بابًا إلى ناحية الزقاق وشباك حديد فيدخل منه القراء يقرءون بالأصوات الحسان وليس في معمور الأرض أحسن أصواتًا بالقرآن من أهل شيراز، ويقوم أهل الدار بالتربة ويفرشونها ويوقدون السرج بها، فكأن الميت لم يبرح، وذُكِرَ لي أنهم يطبخون في كل يوم نصيب الميت من الطعام ويتصدقون به عنه.

حكاية

مررت يومًا ببعض أسواق مدينة شيراز، فرأيت بها مسجدًا مُتْقَن البناء جميل الفرش، وفيه مصاحف موضوعة في خرائط حرير موضوعة فوق كرسي، وفي الجهة الشمالية من المسجد زاوية فيها شباك مُفَتَّح إلى جهة السوق، وهنالك شيخ جميلُ الهيئة واللباس وبين يديه مصحف يقرأ فيه، فسَلَّمْتُ عليه وجَلَسْتُ إليه، فسألني عن مَقْدِمي فأخبرته، وسألته عن شأن هذا المسجد فأخبرني أنه هو الذي عَمَرَهُ ووَقَفَ عليه أوقافًا كثيرة للقراء وسواهم، وأن تلك الزاوية التي جلست إليه فيها هي موضع قبره إن قضى الله موته بتلك المدينة ثم رَفَعَ بساطًا كان تحته، والقبر مغطًّى عليه ألواح خشب، وأراني صندوقًا كان بإزائه فقال: في هذا الصندوق كفني وحنوطي ودراهم كنت استأجرت بها نفسي في حفر بئر لرجل صالح، فدفع لي هذه الدراهم، فتركتها لتكون نفقة مواراتي وما فضل منها يُتَصَدَّق بها، فعجبت من شأنه وأردت الانصراف فحلف علي وأضافني بذلك الموضع، ومن المَشَاهد بخارج شيراز قبر الشيخ الصالح المعروف بالسعدي، وكان أشعر أهل زمانه باللسان الفارسي، وربما ألمع في كلامه بالعربي وله زاوية كان قد عَمَرَهَا بذلك الموضع حسنة بداخلها بستان مليح، وهي بقرب رأس النهر الكبير المعروف بركن آباد، وقد صَنَعَ الشيخ هنالك أحواضًا صغارًا من المرمر لغسل الثياب، فيخرج الناس من المدينة لزيارته، ويأكلون من سماطه ويغسلون ثيابهم بذلك النهر وينصرفون وكذلك فعَلْتُ عنده رحمه الله، وبمقربة من هذه الزاوية زاوية أخرى تتصل بها مدرسة مبنية على قبر شمس الدين السمناني، وكان من الأمراء الفقهاء، ودُفِنَ هنالك بوصية منه بذلك، وبمدينة شيراز من كبار الفقهاء الشريف مجيد الدين وأَمْرُه في الكرم عجيب، وربما جاد بكل ما عنده وبالثياب التي كانت عليه ويلبس مرقعة له فيدخل عليه كبراء المدينة فيجدونه على تلك الحال فيكسونه، ومُرَتَّبه في كل يوم من السلطان خمسون دينارًا دراهم، ثم كان خروجي من شيراز برسم زيارة قبر الشيخ الصالح أبي إسحاق الكازروني بكازرون وهي على مسيرة يومين من شيراز، فنزلنا أول يوم ببلاد الشول، وهم طائفة من الأعاجم يسكنون البرية، وفيهم الصالحون.

كرامة لبعضهم

كنت يومًا ببعض المساجد بشيراز، وقد قَعَدْتُ أتلو كتاب الله عز وجل إثر صلاة الظهر، فخطر بخاطري أنه لو كان لي مصحف كريم لتلوت فيه، فدخل علي في أثناء ذلك شابٌّ وقال لي بكلام قوي: خُذْ، فرفعت رأسي إليه فألقى في حِجْري مصحفًا كريمًا وذَهَبَ عني فختمته ذلك اليوم قراءة وانتظرته لأرده له فلم يَعُدْ إلي، فسألت عنه فقيل لي: ذلك بهلول الشولي ولم أَرَهُ بعد، ووصلنا في عشي اليوم الثاني إلى كازرون، فقصدنا زاوية الشيخ أبي إسحاق نفع الله به وبِتْنَا بها تلك الليلة، ومن عادتهم أن يطعموا الوارد كائنًا من كان من الهريسة المصنوعة من اللحم والقمح والسمن وتؤكل بالرقاق، ولا يتركون الوارد عليهم للسفر حتى يقيم في الضيافة ثلاثة أيام، ويعرض على الشيخ الذي بالزاوية حوائجه ويَذْكُرها الشيخ للفقراء الملازمين للزاوية وهم يزيدون على مائة منهم المتزوجون ومنهم الأعزاب المتجردون فيختمون القرآن ويَذْكُرون الذكر ويدعون له عند ضريح الشيخ أبي إسحاق فتقضى حاجته بإذن الله، وهذا الشيخ أبو إسحاق مُعَظَّم عند أهل الهند والصين، ومن عادة ركاب بحر الصين أنهم إذا تَغَيَّرَ عليهم الهواء وخافوا اللصوص نذورا لأبي إسحاق نذورًا، وكتب كل منهم على نفسه ما نذره، فإذا وصلوا برَّ السلامة صعد خُدَّام الزاوية إلى المركب وأخذوا الزمام وقبضوا مِنْ كُلِّ ناذرٍ نَذْره، وما من مركب يأتي من الصين أو الهند إلا وفيه آلاف من الدنانير، فيأتي الوكلاء من جهة خادم الزاوية فيقبضون ذلك، ومن الفقراء من يأتي طالبًا صدقة الشيخ فيُكْتَبُ له أَمْرٌ بها، وفيه علامة الشيخ منقوشة في قالب من الفضة، فيضعون القالب في صبغ أحمر ويلصقونه بالأمر، فيبقى أثر الطابع فيه ويكون مُضَمَّنه أنَّ مَنْ عِنْده نَذْر للشيخ أبي إسحاق فَلْيُعْطِ منه لفلانٍ كذا، فيكون الأمر بالألف والمائة وما بين ذلك ودونه على قَدْر الفقير، فإذا وَجَدَ من عنده شيء من النذر قَبَضَ منه وكَتَبَ له رسمًا في ظَهْر الأمر بما قَبَضَهُ.

ولقد نَذَرَ مَلِكُ الهند مرة للشيخ أبي إسحاق بعشرة آلاف دينار فبلغ خبرها إلى فقراء الزاوية فأتى أحدهم إلى الهند وقبضها وانصرف بها إلى الزاوية، ثم سافرنا من كازرون إلى مدينة الزيدين، وسُمِّيَتْ بذلك لأن فيها قبر زيد بن ثابت وقبر زيد بن أرقم الأنصاريَّيْنِ صاحِبَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا ورضي الله عنهما، وهي مدينة حسنة كثيرة البساتين والمياه مليحة الأسواق عجيبة المساجد، ولأهلها صلاح وأمانة وديانة، ومن أهلها القاضي نور الدين الزيداني وكان وَرَدَ على أهل الهند فوَلِيَ القضاء منها بذيبة المهل، وهي جزائر كثيرة ملكها جلال الدين بن صلاح الدين صالح وتَزَوَّجَ بأخت هذا الملك وسيأتي ذِكْرُه وذِكْر بنته خديجة التي تَوَلَّت المُلْك بعده بهذه الجزائر، وبها تُوُفِّيَ القاضي نور الدين المذكور، ثم سافرنا منها إلى الحويزاء (بالزاي)، وهي مدينة صغيرة يسكنها العجم بينها وبين البصرة مسيرة أربع وبينها وبين الكوفة مسيرة خمس، ومن أهلها الشيخ الصالح العابد جمال الدين الحويزاني شيخ خانقاه سعيد السعداء بالقاهرة، ثم سافرنا منها قاصدين الكوفة في بَرِّيَّة لا ماءَ بها إلا في موضع واحد يسمى الطرفاوي، وَرَدْناه في اليوم الثالث من سفرنا، ثم وَصَلْنَا بعد اليوم الثاني مِنْ وُرُودِنا عليه إلى مدينة الكوفة.

مدينة الكوفة

وهي إحدى أمهات البلاد العراقية المتميزة فيها — بفضل المزية — مثوى الصحابة والتابعين ومنزل العلماء والصالحين وحضرة علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، إلا أن الخراب قد استولى عليها بسبب أيدي العدوان التي امتدت إليها وفسادها من عرب خفاجة المجاورين لها؛ فإنهم يقطعون طريقها، ولا سور عليها، وبناؤها بالآجر وأسواقها حسان، وأكثر ما يباع فيها التمر والسمك، وجامِعُها الأعظم جامعٌ كبير شريف بلاطاته سبعة قائمة على سواري حجارة ضخمة منحوتة قد صُنِعَتْ قطعًا ووُضِعَ بعضها على بعض وأُفْرِغَتْ بالرصاص وهي مُفْرِطة الطول، وبهذا المسجد آثار كريمة، فمنها بيتٌ إزاء المحراب عن يمين مستقبل القبلة، يقال: إن الخليل صلوات الله عليه كان له مصلًّى بذلك الموضع، وعلى مقربة منه محراب مُحَلَّق عليه بأعواد الساج مرتفع، وهو محراب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهنالك ضَرَبَهُ الشقي ابن ملجم والناس يقصدون الصلاة به، وفي الزاوية من آخر هذا البلاط مسجد صغير مُحَلَّق عليه أيضًا بأعواد الساج يُذْكَر أنه الوضع الذي فار منه التنور حين طوفان نوح عليه السلام، وفي ظهره خارج المسجد بيت يزعمون أنه بيت نوح عليه السلام، وإزاءه بيت يزعمون أنه متعبَّد إدريس عليه السلام، ويتصل بذلك فضاء متصل بالجدار القبلي من المسجد يقال: إنه موضع إنشاء سفينة نوح عليه السلام، وفي آخر هذا الفضاء دار علي بن أبي طالب رضي الله عنه والبيت الذي غُسِّلَ فيه، ويتصل به بيت يقال أيضًا: إنه بيت نوح عليه السلام والله أعلم بصحة ذلك كله، وفي الجهة الشرقية من الجامع بيت مرتفع يُصْعَد إليه، فيه قبر مسلم بن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه، وبمقربة منه خارج المسجد قبر عاتكة وسكينة بنت الحسين عليه السلام.

وأما قصر الإمارة بالكوفة الذي بناه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فلم يَبْقَ منه إلا أساسه، والفرات من الكوفة على مسافة نصف فرسخ في الجانب الشرقي منها، وهو منتظم بحدائق النخل الملتفة المتصل بعصها ببعض، ورأيت بغربي جبانة الكوفة موضعًا مسودًّا شديد السواد في بسيط أبيض، فأُخْبِرْتُ أنه قبر الشقي ابن ملجم، وأن أهل الكوفة يأتون في كل سنة بالحطب الكثير فيوقدون النار على موضع قبره سبعة أيام، وعلى قُرْبٍ منه قبة أُخْبِرْتُ أنها على قبر المختار بن أبي عبيد، ثم رَحَلْنَا ونزلنا بئر ملاحة وهي بلدة حسنة بين حدائق نخل ونزلت بخارجها وكرهت دخولها؛ لأن أهلها روافض، ورحلنا منها الصبح فنزلنا مدينة الحلة، وهي مدينة كبيرة مستطيلة مع الفرات وهو بشرقيها ولها أسواق حسنة جامعة للمرافق والصناعات، وهي كثيرة العمارة وحدائق النخل منتظمة بها داخلًا وخارجًا، ودورها بين الحدائق، ولها جسر عظيم معقود على مراكب متصلة منتظمة فيما بين الشَّطَّيْنِ تحفُّ بها من جانبيها سلاسل من حديد مربوطة في كلا الشطين إلى خشبة عظيمة مثَبَّتَة بالساحل، وأهل هذه المدينة كلها إمامية اثنا عشرية، وهم طائفتان؛ إحداهما تُعْرَف بالأكراد، والأخرى تُعْرَف بأهل الجامعين، والفتنة بينهم متصلة والقتال قائم أبدًا، وبمقربة من السوق الأعظم بهذه المدينة مسجد على بابه ستر حرير مسدول وهم يسمونه مشهد صاحب الزمان.

ومن عاداتهم أنه يخرج في كل ليلة مائة رجل من أهل المدينة عليهم السلاح وبأيديهم سيوف مشهورة، فيأتون أمير المدينة بعد صلاة العصر فيأخذون منه فرسًا مُسَرَّجًا ملجَّمًا أو بغلة كذلك ويضربون الطبول والأنفار والبوقات أمام تلك الدابة ويتقدمها خمسون منهم ويتبعها مثلهم ويمشي آخرون عن يمينها وشمالها ويأتون مشهد صاحب الزمان، فيقفون بالباب ويقولون: باسم الله يا صاحب الزمان، باسم الله اخرج قد ظَهَر الفساد وكَثُرَ الظلم، وهذا أوان خروجك فيَفْرِق الله بك بين الحق والباطل، ولا يزالون كذلك وهم يضربون الأبواق والأطبال والأنفار إلى صلاة المغرب، وهم يقولون: إن محمد بن الحسن العسكري دَخَلَ ذلك المسجد وغاب فيه وأنه سيخرج، وهو الإمام المنتظر عندهم، وقد كان غلب على مدينة الحلة بعد موت السلطان أبي سعيد الأمير أحمد بن رميثة بن أبي نمي أمير مكة وحَكَمَها أعوامًا، وكان حَسَن السيرة يحمده أهل العراق إلى أن غَلَبَ عليه الشيخ حسن سلطان العراق فعَذَّبَه وقتله وأخذ الأموال والذخائر التي كانت عنده، ثم سافرنا منها إلى مدينة كربلاء مشهد الحسين بن علي عليهما السلام، وهي مدينة صغيرة تحفها حدائق النخل ويسقيها ماء الفرات والروضة المقدسة داخلها وعليها مدرسة عظيمة وزاوية كريمة فيها الطعام للوارد والصادر، وعلى باب الروضة الحجاب والقومة لا يدخل أحد إلا عن إذنهم فيُقَبِّل العتبة الشريفة وهي من الفضة، وعلى الضريح المقدس قناديل الذهب والفضة، وعلى الأبواب أستار الحرير، وأهل هذه المدينة طائفتان أولاد رخيك وأولاد فائز وبينهما القتال أبدًا، وهم جميعًا إمامية يرجعون إلى أب واحد، ولِأَجْل فِتَنِهِمْ تَحَرَّيْتُ هذه المدينة، ثم سافرنا منها إلى بغداد.

مدينة بغداد

مدينة دار السلام، وحضرة الإسلام، ذات القدر الشريف، والفضل المنيف، مثوى الخلفاء، ومَقَرُّ العلماء، قال أبو الحسين بن جبير رضي الله عنه: وهذه المدينة العتيقة وإن لم تَزَلْ حضرة الخلافة العباسية، ومثابة الدعوة الإمامية القرشية، فقد ذَهَبَ رسمها، ولم يَبْقَ إلا اسمها، وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها والْتِفَات أعين النوائب إليها كالطلل الدارس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حُسْن فيها يستوقف البصر ويستدعي من المستوفز الغفلة والنظر، إلا دجلتها التي هي بين شَرْقِيِّها وغَرْبِيِّها كالمرآة المجلوة بين صفحتين، أو العقد المنتظم بين لبتين، فهي تَرِدُها ولا تظمأ، وتتطلع منها في مرآة صقيلة لا تصدأ، والحسن الحريمي بين هوائها ومائها ينشأ، قال ابن جزي: وكأن أبا تمام حبيب بن أوس اطَّلَعَ على ما آلَ إليه أَمْرُها حين قال فيها (بسيط):

لقد أقام على بغداد ناعيها
فلْيَبْكِها لِخَرَابِ الدهر باكيها
كانت على مائها والحرب موقدة
والنار تطفأ حسنًا في نواحيها
ترجى لها عودةٌ في الدهر صالحة
فالآن أَضْمَرَ منها اليأسَ راجيها
مثل العجوز التي وَلَّتْ شبيبتها
وبان عنها جمالٌ كان يحظيها

وقد نظم الناس في مَدْحِها وذِكْر محاسنها فأطنبوا، ووجدوا مكان القول ذا سعة فأطالوا وأطابوا، وفيها قال الإمام القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي البغدادي وأنشدنيه والدي رحمه الله مرات (بسيط):

طِيبُ الهواء ببغدادٍ يُشَوِّقُنِي
قربًا إليها وإن عاقتْ مقاديرِ
وكيف أَرْحَلُ عنها اليومَ إذ جَمَعَتْ
طِيبَ الهواءيْنِ ممدودٍ ومقصورِ

وفيها يقول أيضًا رحمه الله تعالى ورضي عنه (طويل):

سلامٌ على بَغْدَاد في كل مَوْطِنٍ
وحَقَّ لها مني السلام المضاعفُ
فوالله ما فارَقْتُها عن قلى لها
وإني بِشَطَّيْ جانبيها لَعَارِفُ
ولكنها ضاقَتْ عَلَيَّ برحْبِها
ولم تكن الأقدار فيها تساعفُ
وكانت كَخِلٍّ كُنْتُ أهوى دُنُوَّهُ
وأخلاقه تنأى به وتخالفُ

وفيها يقول أيضًا مغاضبًا لها وأنشدنيه والدي رحمه الله غير مرة (بسيط):

بغدادُ دارٌ لأهل المال واسعةٌ
وللصعاليك دار الضنك والضيقِ
ظللت أمشي مضافًا في أَزُقَّتِها
كأنني مُصْحَفٌ في بَيْتِ زِنْدِيقِ

وفيها يقول القاضي أبو الحسن علي بن النبيه من قصيدة (خفيف):

آنست بالعراق بدرًا منيرَا
فطوت غيهبًا وخاضت هجيرَا
واستطابت ريا نسائم بغدا
د فكادت لولا البرى أن تطيرَا
ذَكَرْتُ من مسارح الكرخ روضًا
لم يَزَلْ ناضرًا وماءً نميرَا
واجتنت من ربا المحول نورًا
واجتلت من مطالع التاج نورَا

ولبعض نساء بغداد في ذِكْرِها (كامل):

آهًا على بغدادها وعراقها
وظبائها والسحر في أحداقها
ومجالها عند الفرات بأَوْجُهٍ
تبدو أَهِلَّتُها على أطواقها
متبختراتٍ في النعيم كأنما
خُلِقَ الهوى العذريِّ من أخلاقها
نفسي الفداء لها فأي محاسن
في الدهر تُشْرِق من سنا إشراقها

(رجع)، ولبغداد جسران اثنان معقودان على نحو الصفة التي ذَكَرْنَاها في جسر مدينة الحلة والناس يعبرونهما ليلًا ونهارًا رجالًا ونساء، فهم في ذلك في نزهة متصلة، وببغداد من المساجد التي يُخْطَب فيها وتقام فيها الجمعة أحد عشر مسجدًا، منها بالجانب الغربي ثمانية وبالجانب الشرقي ثلاثة، والمساجد سواها كثيرة جدًّا وكذلك المدارس إلا أنها خربت، وحمامات بغداد كثيرة وهي من أبدع الحمامات وأكثرها مطلية بالقار مسطحة به فيُخَيَّل لرائيه أنه رخام أسود، وهذا القار يُجْلَب من عَيْنٍ بين الكوفة والبصرة تنبع أبدًا به ويصير في جوانبها كالصلصال فيُجْرَف منها ويُجْلَب إلى بغداد، وفي كل حمام منها خلوات كثيرة كل خلوة منها مفروشة بالقار مطلي نصف حائطها مما يلي الأرض به والنصف الأعلى مطلي بالجص الأبيض الناصع، فالضدان مجتمعان متقابل حسنهما، وفي داخل كل خلوة حوض من الرخام فيه أنبوبان أحدهما يجري بالماء الحار والآخر بالماء البارد، فيدخل الإنسان الخلوة منها منفردًا لا يشاركه أحد إلا إن أراد ذلك، وفي زاوية كل خلوة أيضًا حوض آخر للاغتسال فيه أيضًا أنبوبان يجريان بالحار والبارد وكل داخل يعطى ثلاثًا من الفوط إحداهما يَتَّزِرُ بها عند دخوله والأخرى يتزر بها عند خروجه والأخرى يُنَشِّف بها الماءَ عن جسده، ولم أرَ هذا الإتقان كله في مدينة سوى بغداد وبعض البلاد تقاربها في ذلك.

ذكر الجانب الغربي من بغداد

الجانب الغربي منها هو الذي عُمِرَ أولًا وهو الآن خراب أكثره، وعلى ذلك فقد بَقِيَ منه ثلاث عشرة محلة، كل محلة كأنها مدينة بها الحمَّامان والثلاثة، وفي ثمانٍ منها المساجد الجامعة، ومن هذه المحلات: محلة باب البصرة وبها جامع الخليفة أبي جعفر المنصور رحمه الله، والمارستان فيما بين محلة باب البصرة، ومحلة الشارع على الدجلة وهو قصر كبير خَرِبٌ بقيت منه الآثار، وفي هذا الجانب الغربي من المشاهد قبرُ معروفٍ الكرخي رضي الله عنه وهو في محلة باب البصرة، وبطريق باب البصرة مشهد حافل البناء في داخله قبر متسع السنام عليه مكتوب: هذا قبر عون من أولاد علي بن أبي طالب، وفي هذا الجانب قبر موسى الكاظم بن جعفر الصادق والد علي بن موسى الرضا، وإلى جانبه قبر الجواد، والقبران داخل الروضة عليهما دكانة ملبسة بالخشب عليه ألواح الفضة.

ذكر الجانب الشرقي منها

وهذه الجهة الشرقية من بغداد حافلة الأسواق عظيمة الترتيب، وأعظم أسواقها سوق يُعْرَف بسوق الثلاثاء كل صناعة فيها على حدة، وفي وسط هذا السوق المدرسة النظامية العجيبة التي صارت الأمثال تُضْرَب بحسنها، وفي آخره المدرسة المستنصرية ونسبتها إلى أمير المؤمنين المستنصر بالله أبي جعفر ابن أمير المؤمنين الظاهر ابن أمير المؤمنين الناصر، وبها المذاهب الأربعة، لكل مذهبٍ إيوانٌ فيه المسجد وموضع التدريس، وجلوس المدرس في قبة خشب صغيرة على كرسي عليه البسط، ويقعد المدرس وعليه السكينة والوقار لابسًا ثياب السواد معتمًّا وعلى يمينه ويساره مُعِيدَانِ يُعِيدَان كلَّ ما يمليه، وهكذا ترتيب كل مجلس من هذه المجالس الأربعة، وفي داخل هذه المدرسة الحمام للطلبة ودار الوضوء.

وبهذه الجهة الشرقية من المساجد التي تقام فيها الجمعة ثلاثة؛ أحدها جامع الخليفة، وهو المتصل بقصور الخلفاء ودورهم، وهو جامع كبير فيه سقايات ومطاهر كثيرة للوضوء والغسل، لقيت بهذا المسجد الشيخ الإمام العالم الصالح مسند العراق سراج الدين أبا حفص عمر بن علي بن عمر القزويني، وسَمَّعْتُ عليه فيه جميع مسند أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي، وذلك في شهر رجب الفرد عام سبعة وعشرين وسبعمائة، قال ابن علي بن أبي البدر، قال: أَخْبَرَنَا الشيخ أبو بكر محمد بن مسعود بن بهروز الطبيب المارستاني، قال: أَخْبَرَنَا أبو الوقت عبد الأول بن شعيب السنجري الصوفي، قال: أخبرنا الإمام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداودي، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي عن أبي عمران عيسى بن عمر بن العباس السمرقندي، عن أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل الدارمي. والجامع الثاني جامع السلطان، وهو خارج البلد، وتتصل به قصور تُنْسَب للسلطان. والجامع الثالث جامع الرصافة، وبينه وبين جامع السلطان نحو الميل.

ذكر قبور الخلفاء ببغداد وقبور بعض العلماء والصالحين بها

وقبور الخلفاء العباسيين رضي الله عنهم بالرصافة، وعلى كل قبر منها اسم صاحبه فمنهم قَبْر المهدي، وقبر الهادي، وقبر الأمين، وقبر المعتصم، وقبر الواثق، وقبر المتوكل، وقبر المنتصر، وقبر المستعين، وقبر المعتز، وقبر المهتدي، وقبر المعتمد، وقبر المعتضد، وقبر المكتفي، وقبر المقتدر، وقبر القاهر، وقبر الراضي، وقبر المنفي، وقبر المستكفي، وقبر المطيع لله، وقبر الطائع، وقبر القائم، وقبر القادر، وقبر المستظهر، وقبر المسترشد، وقبر الراشد، وقبر المقتفي، وقبر المستنجد، وقبر المستضيء، وقبر الناصر، وقبر الظاهر، وقبر المستنصر، وقبر المستعصم، وهو آخرهم، وعليه دَخَلَ التتر ببغداد بالسيف وذبحوه بعد أيام من دخولهم، وانقطع من بغداد اسم الخلافة العباسية، وذلك في سنة أربع وخمسين وستمائة، وبقرب الرصافة قبر الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وعليه قبة عظيمة وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر، وليس بمدينة بغداد اليوم زاوية يُطْعَم الطعام فيها ما عدا هذه الزاوية، فسبحان مبيد الأشياء ومغيرها، وبالقرب منها قبر الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه ولا قبة عليه، ويُذْكَر أنها بُنِيَتْ على قبره مرارًا فتَهَدَّمَتْ بقدرة الله تعالى، وقبره عند أهل بغداد مُعَظَّم وأكثرهم على مذهبه، وبالقرب منه قبر أبي بكر الشبلي من أئمة المتصوفة رحمه الله، وقبر سري السقطي وقبر بشر الحافي وقبر داود الطائي وقبر أبي القاسم الجنيد رضي الله عنهم أجمعين، وأهل بغداد لهم يوم في كل جمعة لزيارة شيخ من هؤلاء المشايخ ويوم لشيخ آخر يليه … هكذا إلى آخر الأسبوع، وببغداد كثير من قبور الصالحين والعلماء رضي الله تعالى عنهم، وهذه الجهة الشرقية من بغداد ليس بها فواكه، وإنما تُجْلَب إليها من الجهة الغربية؛ لأن فيها البساتين والحدائق، ووَافَقَ وصولي إلى بغداد كَوْن ملك العراق بها، فلنذكره ها هنا.

ذِكْر سلطان العراقين وخراسان

وهو السلطان الجليل أبو سعيد بها درخان، وخان عندهم الملك (وبهادر بفتح الباء الموحدة وضم الدال المهمل وآخره راء) ابن السلطان الجليل محمد خذابنده وهو الذي أَسْلَمَ من ملوك التتر، وضبط اسمه مختلف فيه، فمنهم من قال: إن اسمه خذابنده (بخاء معجمة مضمومة وذال معجم مفتوح)، وبنده لم يُخْتَلَف فيه (وهو بباء موحدة مفتوحة ونون مسكنة ودال مهمل مفتوح وهاء استراحة)، وتفسيره على هذا القول عبد الله؛ لأن خذا بالفارسية اسم الله عز وجل، وبنده غلام أو عبد أو ما في معناهما، وقيل: إنما هو خرُبنده (بفتح الخاء المعجم وضم الراء المهمل)، وتفسير خر بالفارسية الحمار، فمعناه على هذا غلام الحمار، فشذ ما بين القولين من الخلاف على أن هذا الأخير هو المشهور، وكان الأول غيره إليه من تعصب، وقيل: إن سبب تسميته بهذا الأخير هو أن التتر يسمون المولود باسم أول داخل على البيت عند ولادته، فلما ولد هذا السلطان كان أول داخل الزمال وهم يسمونه خربنده فسمي به، وأخو خربنده هو قازغان، الذي يقول فيه الناس: قازان وقازغان، هو القدر، وقيل سمي بذلك لأنه لما وُلِدَ دخلت الجارية ومعها القِدْر، وخذابنده هو الذي أسلم وقَدَّمْنَا قِصَّتَه وكيف أراد أن يَحْمِل الناس — لما أَسْلَمَ — على الرفض، وقصة القاضي مجد الدين معه.

ولما مات وَلِيَ المُلْكَ ولده أبو سعيد بهادرخان، وكان ملكًا فاضلًا كريمًا ملك وهو صغير السن ورأيته ببغداد، وهو شابٌّ أجملُ خَلْق الله صورةً لا نبات بعارضيه، ووزيره إذ ذاك الأمير غياث الدين محمد بن خواجة رشيد، وكان أبوه من مهاجِرَة اليهود، واستوزره السلطان محمد خذابنده والد أبي سعيد، رأيتهما يومًا بحرافة في الدجلة وتسمى عندهم الشيارة وهي شبه سلورة وبين يديه دمشق خواجة ابن الأمير جوبان المتغلب على أبي سعيد، وعن يمينه وشماله شبارتان فيهما أهل الطرب والغناء، ورأيت من مكارمه في ذلك اليوم أنه تَعَرَّضَ له جماعة من العميان فشَكَوْا ضَعْف حالهم، فأَمَرَ لكل واحد منهم بكسوةٍ وغلامٍ يقوده ونفقة تُجْرَى عليه، ولما وَلِيَ السلطان أبو سعيد وهو صغير كما ذكرناه استولى على أَمْرِه أمير الأمراء الجوبان وحَجَرَ عليه التصرفات حتى لم يكن بيده من الملك إلا الاسم، ويُذْكَر أنه احتاج في بعض الأعياد إلى نفقة يُنْفِقُها فلم يكن له سبيل إليها، فبعث إلى أحد التجار فأعطاه من المال ما أَحَبَّ، ولم يَزَلْ كذلك إلى أن دَخَلَتْ عليه يومًا زوجةُ أبيه دنيا خاتون، فقالت له: لو كنا نحن الرجالَ ما تركنا الجوبان وولده على ما هما عليه، فاستفهَمْها عن مرادها بهذا الكلام، فقالت له: لقد انتهى أَمْر دمشق خواجة بن الجوبان أن يفتك بحرم أبيك وأنه بات البارحة عند طغى خاتون، وقد بعث إليَّ وقال لي: الليلة أبيت عندك، وما الرأي إلا أن تَجَمَّعَ الأمراء والعساكر، فإذا صعد إلى القلعة مختفيًا برسم المبيت أَمْكَنَكَ القبض عليه، وأبوه يكفي الله أمره، وكان الجوبان إذ ذاك غائبًا بخراسان، فغلبته الغيرة وبات يُدَبِّر أَمْره، فلما عَلِمَ أن دمشق خواجة بالقلعة أَمَرَ الأمراء والعساكر أن يطيفوا بها من كل ناحية، فلما كان بالغدو خرج دمشق ومعه جندي يُعْرَف بالحاج المصري فوَجَدَ سلسلة معرضة على باب القلعة وعليها قُفْل لم يُمْكِنْه الخروج راكبًا، فضرب الحاج المصري السلسلة بسيفه فقطعها وخرجا معًا، فأحاطت بهما العساكر ولحق أمير من الأمراء الخاصكية يُعْرَف بمصر خواجة وفتًى يُعْرَف بلؤلؤ دمشق خواجة فقتلاه وأتيا الملك أبا سعيد برأسه فرموا به بين يدي فرسه، وتلك عادتهم أن يفعلوا برأس كبار أعدائهم.

وأَمَرَ السلطان بنهب داره وقَتْل من قَاتَلَ من خدامه ومماليكه، واتصل الخبر بأبيه الجوبان وهو بخراسان ومعه أولاده أمير حسن وهو الأكبر وطالش وجلوخان وهو أصغرهم، وهو ابن أخت السلطان أبي سعيد أمه ساطي بك بنت السلطان خذابنده ومعه عساكر التتر وحاميتها، فاتفقوا على قتال السلطان أبي سعيد وزحفوا إليه، فلما الْتَقَى الجمعان هَرَبَ التتر إلى سلطانهم وأفردوا الجوبان، فلما رأى ذلك نَكَصَ على عقبيه وفَرَّ إلى صحراء سجستان وأوغل فيها وأَجْمَعَ على اللحاق بملك هراة غياث أولدين مستجيرًا به ومتحصنًا بمدينته، وكانت له عليه أيادٍ سابقة فلم يوافقه ولده حسن وطالش على ذلك، وقالا له: إنه لا يفي بالعهد، وقد غَدَرَ فيروزشاه بعد أن لجأ إليه وقتله فأبى الجوبان إلا أن يلحق به ففارقه ولداه وتَوَجَّهَ ومعه ابنه الأصغر جلوخان فخرج غياث الدين لاستقباله وترجل له وأَدْخَلَهُ المدينة على الأمان، ثم غَدَرَهُ بعد أيام وقَتَلهُ وقَتَلَ ولده وبعث برأسيهما إلى السلطان أبي سعيد، وأما حسن وطالش فإنهما قَصَدَا خوارزم وتوجَّهَا إلى السلطان محمد أوزبك فأكرم مثواهما، وأَنْزَلَهُمَا إلى أن صدر منهما ما أَوْجَبَ قَتْلَهُما فقَتَلَهُما، وكان للجوبان ولد رابع اسمه الدمرطاش فهرب إلى ديار مصر فأكرمه الملك الناصر وأعطاه الإسكندرية فأبى من قبولها، وقال: إنما أريد العساكر لأقاتل أبا سعيد، وكان متى بَعَثَ إليه الملك الناصر بكسوة أعطى هو للذي يوصلها إليه أَحْسَنَ منها ازدراء على الملك الناصر، وأَظْهَرَ أمورًا أَوْجَبَتْ قَتْلَه فقَتَلَهُ وبعث برأسه إلى أبي سعيد، وقد ذكرنا قصته وقصة قراسنقور فيما تَقَدَّمَ.

ولما قتل الجوبان جيء به وبولده مَيِّتَيْن، فوُقِفَ بهما على عرفات وحُمِلَا إلى المدينة ليُدْفَنا في التربة التي اتخذها الجوبان بالقرب من مسجد رسول الله ، فمُنِعَ من ذلك ودُفِنَ بالبقيع، والجوبان هو الذي جَلَبَ الماء إلى مكة — شَرَّفَها الله تعالى — ولما استقل السلطان أبو سعيد بالمُلْك أراد أن يتزوج بنت الجوبان، وكانت تسمى بغداد خاتون، وهي من أجمل النساء، وكانت تحت الشيخ حسن الذي تَغَلَّبَ بعد موت أبي سعيد على المُلْك وهو ابن عمته، فأمره فنزل عنها وتزوجها أبو سعيد، وكانت أحظى النساء لديه، والنساء لدى الأتراك والتتر لهن حظ عظيم، وهم إذا كتبوا أمرًا يقولون فيه عن أمر السلطان والخواتين، ولكل خاتون من البلاد والولايات والمجابي العظيمة، وإذا سافرت مع السلطان تكون في محلة على حدة، وغلبت هذه الخاتون على أبي سعيد وفضلها على سواها، وأقامت على ذلك مدة أيام، ثم إنه تزوَّجَ امرأةً تُسَمَّى بدلشاد فأحبها حبًّا شديدًا وهجر بغداد خاتون فغارت لذلك وسَمَّتْه في منديل مَسَحَتْه به بعد الجماع فمات، وانقرض عقبه وغلبت أمراؤه على الجهات كما سنذكره، ولما عَرَفَ الأمراء أن بغداد خاتون هي التي سَمَّتْه أجمعوا على قَتْلِها، وبدر لذلك الفتى الرومي خواجة لؤلؤ وهو من كبار الأمراء وقدمائهم، فأتاها وهي في الحمام فضَرَبَها بدبوسه وقَتَلَها وطُرِحَتْ هنالك أيامًا مستورة العورة بقطعة تليس، واستقل الشيخ حسن بملك عراق العرب وتزود دلشاد امرأة السلطان أبي سعيد كمثل ما كان أبو سعيد فَعَلَه مِنْ تَزَوُّج امرأته.

ذكر المتغلبين على المُلْك بعد موت السلطان أبي سعيد

فمنهم الشيخ حسن ابن عمته الذي ذكرناه آنفًا، تَغَلَّبَ على عراق العرب جميعًا ومنهم إبراهيم شاه ابن الأمير سنيتة، تَغَلَّبَ على الموصل وديار بكر، ومنهم الأمير أرتنا، تَغَلَّبَ على بلاد التركمان المعروفة أيضًا ببلاد الروم، ومنهم حسن خواجة بن الدمرطاش بن الجوبان، تغلب على تبريز والسلطانية وهمدان وقم وقاشان والري ورامين وفرغان والكرج، ومنهم الأمير طغيتمور، تَغَلَّبَ على بعض بلاد خراسان، ومنهم الأمير حسين ابن الأمير غياث الدين، تَغَلَّبَ على هراة ومعظم بلاد خراسان، ومنهم ملك دينار، تَغَلَّبَ على بلاد مكران وبلاد كبج، ومنهم محمد شاه بن مظفر، تَغَلَّبَ على بزد وكرمان وورقو، ومنهم الملك قطب الدين تمهتن، تَغَلَّبَ على هرمز وكيش والقطيف والبحرين وقلهات، ومنهم السلطان أبو إسحاق الذي تَقَدَّمَ ذِكْرُه، تَغَلَّبَ على شيراز وأصفهان وملك فارس وذلك مسيرة خمس وأربعين، ومنهم السلطان أفراسياب أتابك، تَغَلَّبَ على إيذج وغيرها من البلاد وقد تَقَدَّمَ ذِكْرُه، (ولنعد إلى ما كنا بسبيله)، ثم خرجْتُ من بغداد في محلة السلطان أبي سعيد وغرضي أن أشاهد ترتيب ملك العراق في رحيله ونزوله وكيفية تنقُّله وسفره، وعادتهم أنهم يرحلون عند طلوع الفجر وينزلون عند الضحى، وترتيبهم أن يأتي كل أمير من الأمراء بعسكره وطبوله وأعلامه، فيقف في موضع لا يتعداه قد عُيِّنَ له إما في الميمنة أو الميسرة، فإذا توافَوْا جميعًا وتكامَلَتْ صفوفهم رَكِبَ الملك وضُرِبَتْ طبول الرحيل وبُوقاته وأنفاره، وأتى كل أمير منهم فسَلَّمَ على الملك وعاد إلى موقفه، ثم يتقدم أمام الملك الحُجَّاب والنقباء، ثم يليهم أهل الطرب وهم نحو مائة رجل عليهم الثياب الحسنة وتحتهم مراكب السلطان، وأمام أهل الطرب عشرة من الفرسان قد تقلدوا عشرة من الطبول وخمسة من الفرسان لديهم خمس صرنايات وهي تسمى عندنا بالغيطات، فيضربون تلك الأطبال والصرنايات ثم يمسكون ويغني عشرة من أهل الطرب نوبتهم، فإذا قَضَوْها ضُرِبَتْ تلك الأطبال والصرنايات ثم أمسكوا وغنى عشرة آخرون نوبتهم … هكذا إلى أن تتم عشر نوبات، فعند ذلك يكون النزول، ويكون عن يمين السلطان وشماله حين سيره كبار الأمراء وهم نحو خمسين ومن ورائه أصحاب الأعلام والأطبال والأنفار والبوقات ثم مماليك السلطان ثم الأمراء على مراتبهم.

وكل أمير له أعلام وطبول وبوقات، ويتولى ترتيب ذلك كله أمير جندر وله جماعة كبيرة، وعقوبة من تَخَلَّفَ عن فوجه وجماعته أن يؤخذ تماقه فيملأ رملًا ويُعَلَّق في عنقه ويمشي على قدميه حتى يبلغ المنزل فيؤتى به إلى الأمير فيُبْطَح على الأرض ويُضْرَب خمسًا وعشرين مقرعة على ظهره، سواء كان رفيعًا أو وضيعًا لا يحاشون من ذلك أحدًا، وإذا نزلوا ينزل السلطان ومماليكه في محلة على حدة، وتنزل كل خاتون من خواتينه في محلة على حدة، ولكل واحدة منهن الإمام والمؤذنون والقراء والسوق، وينزل الوزراء والكتاب وأهل الأشغال على حدة، وينزل كل أمير على حدة ويأتون جميعًا إلى الخدمة بعد العصر ويكون انصرافهم بعد العشاء الأخيرة والمشاعل بين أيديهم، فإذا كان الرحيل ضُرِبَ الطبل الكبير ثم يُضْرَب طبل الخاتون الكبرى التي هي الملكة، ثم أطبال سائر الخواتين ثم طبل الوزير ثم أطبال الوزراء دفعة واحدة، ثم يركب أمير المقدمة في عسكره ثم يتبعه الخواتين ثم أثقال السلطان وزاملته وأثقال الخواتين، ثم أمير ثانٍ في عسكر له يمنع الناس من الدخول فيما بين الأثقال والخواتين ثم سائر الناس. وسافرْتُ في هذه المحلة عشرة أيام، ثم صحبت الأمير علاء الدين محمد إلى بلدة تبريز وكان من الأمراء الكبار الفضلاء فوصلنا بعد عشرة أيام إلى مدينة تبريز ونزلنا بخارجها في موضع يُعْرَف بالشام، وهنالك قبر قازان ملك العراق وعليه مدرسة حسنة وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر من الخبز واللحم والأرز المطبوخ بالسمن والحلواء، وأَنْزَلَنِي الأمير بتلك الزاوية وهي ما بين أنهار متدفقة وأشجار مورقة.

وفي غدِ ذلك اليوم دَخَلْتُ المدينة على باب يُعْرَف بباب بغداد، ووصلنا إلى سوق عظيمة تُعْرَف بسوق قازان من أحسن سوق رأيتها في بلاد الدنيا، كل صناعة فيها على حدة لا تخالطها أخرى، واجْتَزْتُ بسوق الجوهريين فَحَارَ بَصَرِي مما رأيته من أنواع الجواهر وهي بأيدي مماليك حسان الصور عليهم الثياب الفاخرة وأوساطهم مشدودة بمناديل الحرير وهم بين أيدي التجار يعرضون الجواهر على نساء الأتراك وهن يشترينه كثيرًا ويتنافسن فيه، فرأيت من ذلك كله فتنة يستعاذ بالله منها، ودخلنا سوق العنبر والمسك فرأينا مثل ذلك أو أعظم، ثم وصلنا إلى المسجد الجامع الذي عَمَرَه الوزير علي شاه المعروف بجيلان وبخارجه عن يمين مستقبل القبلة مدرسة، وعن يساره زاوية وصحنه مفروش بالمرمر وحيطانه بالقاشاني وهو شبه الزليج ويشقه نهر ماء، وبه أنواع الأشجار ودوالي العنب وشجر ياسمين، ومن عاداتهم أنهم يقرءون به كل يوم سورة يس وسورة الفتح وسورة عم بعد صلاة العصر في صحن المسجد ويجتمع لذلك أهل المدينة، وبِتْنا ليلة بتبريز ثم وصل بالغد أَمْر السلطان أبي سعيد إلى الأمير علاء الدين بأن يَصِلَ إليه فعُدْتُ معه، ولم أَلْقَ بتبريز أحدًا من العلماء، ثم سافرنا إلى أن وصلنا محلة السلطان فأعلمه الأمير المذكور بمكاني وأدخلني عليه فسألني عن بلادي وكساني وأركبني، وأعلمه الأمير أني أريد السفر إلى الحجاز الشريف، فأمر لي بالزاد والركوب في السبيل من المحمل وكتب لي بذلك إلى أمير بغداد خواجة معروف، فعدت إلى مدينة بغداد واستوفيت ما أَمَرَ لي به السلطان، وكان قد بقي لأوان سفر الركب أزيد من شهرين، فظهر لي أن أسافر إلى الموصل وديار بكر لأشاهد تلك البلاد وأعود إلى بغداد في حينِ سَفَرِ الرَّكْب فأتوجه إلى الحجاز الشريف، فخرجت من بغداد إلى منزلٍ على نهر دجيل وهو يتفرع عن دجلة فيسقي قرًى كثيرة، ثم نزلنا بعد يومين بقرية كبيرة تُعْرَف بحربة، مخصبة فسيحة.

ثم رحلنا فنزلنا موضعًا على شط دجلة بالقرب من حصنٍ يُسَمَّى المعشوق وهو مبني على الدجلة، وفي العدوة الشرقية من هذا الحصن مدينة سُرَّ مَنْ رأى، وتُسَمَّى أيضًا سامرا، ويقال لها: سام راه، ومعناه بالفارسية طريق سام، وراه هو الطريق، وقد استولى الخراب على هذه المدينة فلم يَبْقَ منها إلا القليل، وهي معتدلة الهواء رائقة الحسن على بلائها ودروس معالمها، وفيها أيضًا مشهد صاحب الزمان كما بالحلة، ثم سرنا منها مرحلةً ووصلنا إلى مدينة تكريت، وهي مدينة كبيرة فسيحة الأرجاء مليحة الأسواق كثيرة المساجد وأهلها موصوفون بحسن الأخلاق، والدجلة في الجهة الشمالية منها، ولها قلعة حصينة على شط الدجلة، والمدينة عتيقة البناء عليها سور يطيف بها، ثم رحلنا منها مرحلتين ووصلنا إلى قرية تُعْرَف بالعقر على شط الدجلة وبأعلاها ربوة كان بها حصن وبأسفلها الخان المعروف بخان الحديد، له أبراج وبناؤه حافل والقرى والعمارة متصلة من هنالك إلى الموصل، ثم رحلنا ونزلنا موضعًا يُعْرَف بالقيارة بمقربة من دجلة، وهنالك أرض سوداء فيها عيون تنبع بالقار ويُصْنَع له أحواض ويجتمع فيه فتراه شبه الصلصال على وجه الأرض حالِك اللون صقيلًا رطبًا وله رائحة طيبة، وحول تلك العيون بركة كبيرة سوداء يعلوها شبه الطحلب الرقيق فتقذفه إلى جوانبها فيصير أيضًا قارًّا، وبمقربة من هذا الموضع عين كبيرة، فإذا أرادوا نقل القار منها أوقدوا عليها النار فتُنَشِّف النار ما هنالك من رطوبة مائية ثم يقطعونه قطعًا وينقلونه، وقد تَقَدَّمَ لنا ذِكْر العين التي بين الكوفة والبصرة على هذا النحو، ثم سافرنا من هذه العيون مرحلتين ووصلنا بعدهما إلى الموصل.

مدينة الموصل

وهي مدينة عتيقة كثيرة الخصب، وقلعتها المعروفة بالحدباء عظيمة الشأن شهيرة الامتناع عليها سور مُحْكَم البناء مُشَيَّد البروج وتتصل بها دُور السلطان، وقد فَصَلَ بينها وبين البلد شارع مُتَّسِع مستطيل من أعلى البلد إلى أسفله، وعلى البلد سوران اثنان وثيقان أبراجهما كثيرة متقاربة، وفي باطن السور بيوت بعضها على بعض مستديرة بجداره قد تَمَكَّن فَتْحها فيه لِسَعَتِه، ولم أَرَ في أسوار البلاد مثله إلا السور الذي على مدينة دهلي حضرة ملك الهند، وللموصل ربض كبير فيه المساجد والحمامات والفنادق والأسواق، وبه مسجد جامع على شط الدجلة تدور به شبابيك حديد وتتصل به مساطب تُشْرِف على دجلة، في النهاية من الحسن والإتقان وأمامه مارستان، وبداخل المدينة جامعان أحدهما قديم والآخر حديث، وفي صَحْن الحديث منهما قبة في داخلها خصة رخام مثمنة مرتفعة على سارية رخام يخرج منها الماء بقوة وانزعاج فيرتفع مقدار القامة ثم ينعكس فيكون له مرأًى حسن، وقيسارية الموصل مليحة لها أبواب حديد ويدور بها دكاكين وبيوت بعضها فوق بعض متقنة البناء، وبهذه المدينة مشهد جرجيس النبي عليه السلام وعليه مسجد والقبر في زاوية منه عن يمين الداخل إليه، وهو فيما بين الجامع الجديد وباب الجسر، وقد حصلت لنا زيارته والصلاة بمسجده والحمد لله تعالى، وهنالك تل يونس عليه السلام، وعلى نحو ميل منه العين المنسوبة إليه، يقال إنه أَمَرَ قومه بالتطهير فيها ثم صعدوا التل ودعا ودعوا فكَشَفَ الله عنهم العذاب، وبمقربة منه قرية كبيرة يقرب منها خراب يقال إنه موضع المدينة المعروفة بنينوى مدينة يونس عليه السلام، وأثر السور المحيط بها ظاهر ومواضع الأبواب التي هي متبينة، وفي التل بناء عظيم ورباط فيه بيوت كثيرة ومقاصر ومطاهر وسقايات يضم الجميع باب واحد وفي وسط الرباط بيت عليه ستر حرير وله باب مُرَصَّع يقال إنه الموضع الذي به موقف يونس عليه السلام، ومحراب المسجد الذي بهذا الرباط يقال إنه كان بيتَ مُتَعَبَّدِه عليه السلام، وأهل الموصل يخرجون في كل ليلة جمعة إلى هذا الرباط يتعبدون فيه.

وأهل الموصل لهم مكارم أخلاق ولِين كلام وفضيلة ومحبة في الغريب وإقبال عليه، وكان أميرها حين قدومي عليها السيد الشريف الفاضل علاء الدين علي بن شمس الدين محمد الملقب بحيدر، وهو من الكرماء الفضلاء، أنزلني بداره وأجرى علي الإنفاق مدة مقامي عنده، وله الصدقات والإيثار المعروف، وكان السلطان أبو سعيد يُعَظِّمه وفَوَّضَ إليه أَمْر هذه المدينة وما يليها، ويركب في موكب عظيم من مماليكه وأجناده، ووجوهُ أهل المدينة وكبراؤها يأتون للسلام عليه غدوًّا وعشيًّا، وله شجاعة ومهابة وولده في حين كتب هذا في حضرة فاس مستقر الغرباء ومأوى الفرق ومحط رحال الوفود، زادها الله بسعادة أيام مولانا أمير المؤمنين بهجة وإشراقًا وحرس أرجاءها ونواحيها، ثم رحلنا من الموصل ونزلنا قرية تُعْرَف بعين الرصد، وهي على نهر عليه جسر مبني وبهاخان كبير ثم رحلنا ونزلنا قرية تُعْرَف بالمويلحة، ثم رحلنا منها ونزلنا جزيرة ابن عمر، وهي مدينة كبيرة حسنة محيطة بها الوادي ولذلك سُمِّيَتْ جزيرة، أكثرها خراب ولها سوق حسنة ومسجد عتيق مبني بالحجارة مُحْكَم العمل، وسورها مبني بالحجارة أيضًا وأهلها فضلاء لهم محبة في الغرباء، ويوم نزولنا بها رأينا جبل الجودي المذكور في كتاب الله عز وجل الذي استوت عليه سفينة نوح عليه السلام، وهو جبل عالٍ مستطيل، ثم رحلنا منها مرحلتين ووصلنا إلى مدينة نصيبين، وهي مدينة عتيقة متوسطة قد خرب أكثرها، وهي في بسيط أفيح فسيح فيه المياه الجارية والبساتين الملتفَّة والأشجار المنتظِمة والفواكه الكثيرة، وبها يُصْنَع ماء الورد الذي لا نظير له في العطارة والطِّيب، ويدور بها نهر يعطف عليها انعطاف السوار، منبعه من عيون في جبل قريب منها، وينقسم انقسامًا فيتخلل بساتينها، ويدخل منه نهر إلى المدينة فيجري في شوارعها ودورها ويخترق صَحْن مسجدها الأعظم وينصب في صهريجين أحدهما في وسط الصحن والآخر عند الباب الشرقي، وبهذه المدينة مارستان ومدرستان، وأهلها أهل صلاح ودين وصِدْق وأمانة، ولقد صدق أبو نواس في قوله:

طابت نصيبين لي يومًا وطِبْتُ لها
يا ليت حظي من الدنيا نصيبينُ

قال ابن جزي: والناس يصفون مدينة نصيبين بفساد الماء والوخامة، وفيها يقول بعض الشعراء:

لنصيبين قد عَجِبْتُ وما في
دارها لي داعٍ إلى العلاتِ
يعدم الورد أحمرًا في ذراها
لسقام حتى من الوجناتِ

ثم رحلنا إلى مدينة سنجار، وهي مدينة كبيرة كثيرة الفواكه والأشجار والعيون المطردة والأنهار مبنية في سفح جبل تُشَبَّه بدمشق في كثرة أنهارها وبساتينها، ومسجدها الجامع مشهور البركة، يُذْكَر أن الدعاء به مستجاب، ويدور به نهر ماءٍ ويَشُقُّه، وأهل سنجار أكراد ولهم شجاعة وكَرَمٌ، ممن لقيته بها الشيخ الصالح العابد الزاهد عبد الله الكردي أحد المشايخ الكبار صاحب كرامات، يُذْكَر عنه أنه لا يُفْطِر إلا بعد أربعين يومًا، ويكون إفطاره على نِصْف قُرْص من الشعير، لقيته برابطة بأعلى جبل سنجار ودعا لي وزودني بدراهم لم تَزَلْ عندي إلى أن سلبني كفار الهنود، ثم سافرنا إلى مدينة دارا وهي عتيقة كبيرة بيضاء المنظر لها قلعة مشرفة وهي الآن خراب لا عمارة بها، وفي خارجها قرية معمورة بها كان نزولنا، ثم رحلنا منها فوصلنا إلى مدينة ماردين، وهي عظيمة في سطح جبل من أحسن مُدُن الإسلام وأبدعها وأتقنها وأحسنها أسواقًا، بها تُصْنَع الثياب المنسوجة إليها من الصوف المعروف بالمرعز، ولها قلعة شماء من مشاهير القلاع في قنة جبلها، قال ابن جزي: قلعة ماردين هذه تُسَمَّى الشهباء، وإياها عنى شاعر العراق صفي الدين عبد العزيز بن سراي الحلي بقوله في سمطه (سريع):

فدع ربوع الحلة الفيحاء
وازور بالعيس عن الزوراء
ولا تقف بالموصل الحدباء
إن شهاب القلعة الشهباء
محرق شيطان صروف الدهر

وقلعة حلب تسمى الشهباء أيضًا، وهي المسمطة بديعة مُدِحَ بها الملك المنصور سلطان ماردين، وكان كريمًا شهير الصيت، وَلِيَ الملك بها نحو خمسين سنة، وَأَدْرَكَ أيام قازان مَلِك التتر وصاهَرَ السلطان خذابنده بابنته دنيا خاتون.

ذكر سلطان ماردين في عهد دخولي إليها

وهو الملك الصالح ابن الملك المنصور الذي ذَكَرْنَاه آنفًا، وَرِثَ المُلْك عن أبيه، وله المكارم الشهيرة، وليس بأرض العراق والشام ومصر أكرم منه، يقصده الشعراء والفقراء فيجزل لهم العطايا جَرْيًا على سَنَن أبيه، قصده أبو عبد الله محمد بن جابر الأندلسي المروي الكفيف مادحًا فأعطاه عشرين ألف درهم، وله الصدقات والمدارس والزوايا لإطعام الطعام، وله وزير كبيرُ القدر، وهو الإمام العالم وحيد الدهر وفريد العصر جمال الدين السنجاري، قرأ بمدينة تبريز وأدرك العلماء الكبار، وقاضي قضاته الإمام الكامل برهان الدين الموصلي، وهو ينتسب إلى الشيخ الولي فتح الموصلي، وهذا القاضي من أهل الدين والورع والفضل، يَلْبَس الخشن من ثياب الصوف الذي لا تَبْلُغ قيمته عشرة دراهم ويَعْتَمُّ بنحو ذلك، وكثيرًا ما يجلس للأحكام بصحن مسجد خارج المدرسة كان يتعبد فيه، فإذا رآه من لا يَعْرِفه ظَنَّه بعض خدام القاضي وأعوانه.

حكاية

ذُكِرَ لي أن امرأة أتت هذا القاضي وهو خارج من المسجد ولم تكن تَعْرِفُه، فقالت له: يا شيخ أين يجلس القاضي؟ فقال لها: وما تريدين منه؟ فقالت له: إن زوجي ضربني وله زوجة ثانية وهو لا يعدل بيننا في القسم، وقد دعوته إلى القاضي فأبى، وأنا فقيرة ليس عندي ما أعطيه لرجال القاضي حتى يُحْضِروه بمجلسه، فقال لها: وأين منزل زوجك؟ فقالت: بقرية الملاحين خارج المدينة، فقال لها: أنا أذهب معك إليه، فقالت: والله ما عندي شيء أعطيك إياه، فقال لها: وأنا لا آخذ منك شيئًا، ثم قال لها: اذهبي إلى القرية وانتظريني خارجها فإني على أثرك، فذهبت كما أَمَرَهَا وانتظرَتْه فوصل إليها وليس معه أحد، وكانت عادته أن لا يَدَعَ أحدًا يتْبَعُه، فجاءت به إلى منزل زوجها، فلما رآه قال لها: ما هذا الشيخ النحس الذي معك؟ فقال له: نعم والله أنا كذلك، ولكن أَرْضِ زوجتك، فلما طال الكلام جاء الناس فعرفوا القاضي وسلموا عليه وخاف ذلك الرجل وخَجِلَ، فقال له القاضي: لا عليك، أَصْلِحْ ما بينك وبين زوجتك، فأرضاها الرجل من نفسه وأعطاهما القاضي نفقةَ ذلك اليوم وانصرف. لقيتُ هذا القاضي وأضافني بداره، ثم رحلت عائدًا إلى بغداد فوصلت إلى مدينة الموصل التي ذكرناها فوجدْتُ ركبها بخارجها متوجهين إلى بغداد وفيهم امرأة صالحة عابدة تسمى بالست زاهدة، وهي من ذرية الخلفاء حَجَّتْ مرارًا وهي ملازمة الصوم، سَلَّمْتُ عليها وكنت في جوارها ومعها جملة من الفقراء يخدمونها، وفي هذه الوجهة تُوُفِّيَتْ رحمة الله عليها، وكانت وفاتها بزرود ودُفِنَتْ هنالك.

ثم وصلنا إلى مدينة بغداد فوجدت الحاجَّ في أهبة الرحيل، فقَصَدْتُ أميرها معروف خواجة فطلبت منه ما أَمَرَ لي به السلطان فعَيَّنَ لي شقة محارة وزاد أربعة من الرجال وماءهم، وكتب لي بذلك ووَجَّهَ إلى أمير الركب وهو البهلوان محمد الحويج فأوصاه بي، وكانت المعرفة بيني وبينه متقدمة فزادها تأكيدًا، ولم أَزَلْ في جواره وهو يُحْسِن إلي ويزيدني على ما أَمَرَ لي به، وأصابني عند خروجنا من الكوفة إسهالٌ، فكانوا ينزلونني من أعلى المحمل مرات كثيرة في اليوم، والأمير يتفقد حالي ويوصي بي، ولم أَزَلْ مريضًا حتى وَصَلْتُ مكة حرم الله تعالى — زادها الله شرفًا وتعظيمًا — وطُفْتُ بالبيت الحرام — كَرَّمَه الله تعالى — طواف القدوم وكنت ضعيفًا بحيث أؤدي المكتوبة قاعدًا، فطُفْتُ وسعيت بين الصفا والمروة راكبًا على فرس الأمير الحويج المذكور، ووقَفْنَا تلك السنة يومَ الإثنين، فلما نزلنا مِنًى أَخَذْتُ في الراحة والاستقلال من مرضي، ولما انقضى الحاج أقمْتُ مجاورًا بمكة تلك السنة وكان بها الأمير علاء الدين بن هلال مشيد (مشد) الدواوين مقيمًا لعمارة دار الوضوء بظاهر العطارين من باب بني شيبة وجاوَرَ في تلك السنة من المصريين جماعة من كبرائهم، منهم تاج الدين بن الكويك ونور الدين القاضي وزين الدين بن الأصيل وابن الخليلي وناصر الدين الأسيوطي، وسكنْتُ تلك السنة بالمدرسة المظفرية وعافاني الله من مرضي، فكنت في أنعم عيش، وتفرغْتُ للطواف والعبادة والاعتمار، وأتى في أثناء تلك السنة حُجَّاج الصعيد، وقَدِمَ معهم الشيخ الصالح نجم الدين الأصفوني وهي أول حجة حَجَّهَا، والأخوان علاء الدين علي وسراج الدين عمر ابنا القاضي الصالح نجم الدين البالسي قاضي مصر وجماعة غيرهم.

وفي منتصف ذي القعدة وصل الأمير سيف الدين يلملك وهو من الفضلاء، ووصل في صحبته جماعة من أهل طنجة بلدي حرسها الله، منهم الفقيه أبو عبد الله محمد ابن القاضي أبي العباس ابن القاضي الخطيب أبي القاسم الجراوي، والفقيه أبو عبد الله بن عطاء الله، والفقيه أبو محمد عبد الله الحضري، والفقيه أبو عبد الله المرسي وأبو العباس بن الفقيه أبي علي البلنسي، وأبو محمد ابن القابلة، وأبو الحسن البياري، وأبو العباس بن نافوت، وأبو الصبر أيوب الفخار، وأحمد بن حكامة، ومن أهل قصر المجاز الفقيه أبو زيد عبد الرحمن ابن القاضي أبي العباس بن خلوف، ومن أهل القصر الكبير الفقيه أبو محمد بن مسلم، وأبو إسحاق إبراهيم بن يحيى وولده، ووصل في تلك السنة الأمير سيف الدين تقز دمور من الخاصكية، والأمير موسى بن قرمان، والقاضي فخر الدين ناظر الجيش كاتب المماليك، والتاج أبو إسحاق، والست حدق مربية الملك الناصر، وكانت لهم صدقات عميمة بالحرم الشريف وأكثرهم صدقة القاضي فخر الدين، وكانت وَقْفَتُنا في تلك السنة في يوم الجمعة من عام ثمانٍ وعشرين، ولما انقضى الحج أقمت مجاورًا بمكة — حرسها الله — سنة تسع وعشرين، وفي هذه السنة وصل أحمد بن الأمير رميثة ومبارك بن الأمير عطيفة من العراق صحبة الأمير محمد الحويج والشيخ زاده الحرباوي والشيخ دانيال، وأتوا بصدقات عظيمة للمجاورين وأهل مكة من قبل السلطان أبي سعيد ملك العراق، وفي تلك السنة ذُكِرَ اسمه في الخطبة بعد ذِكْر الملك الناصر ودَعَوْا له بأعلى قبة زمزم، وذَكَرُوا بعده سلطان اليمن الملك المجاهد نور الدين، ولم يوافق الأمير عطيفة على ذلك وبعث شقيقه منصورًا ليُعْلِم الملك الناصر بذلك، فأَمَرَ رميثة برده فرَدَّ فبعثه ثانية على طريق جدة حتى أعلم الملك الناصر بذلك، ووقفنا تلك السنة وهي سنة تسع وعشرين يوم الثلاثاء.

ولما انقضى الحج أقمت مجاورًا بمكة حرسها الله سنة ثلاثين، وفي موسمها وَقَعَت الفتنة بين أمير مكة عطيفة وبين أيدمور أمير جندار الناصري؛ وسبب ذلك أن تجارًا من أهل اليمن سرقوا فتشكوا إلى أيدمور بذلك، فقال أيدمور لمبارك بن الأمير عطيفة: ائْتِ بهؤلاء السراق، فقال: لا أعرفهم، فكيف نأتي بهم، وبعد فأهل اليمن تحت حكمنا ولا حُكْم عليهم لك، إن سُرِقَ لأهل مصر والشام شيء فاطلبني به، فشتمه أيدمور وقال له: يا قواد، تقول لي هكذا، وضربه على صدره فسقط ووقعت عمامته على رأسه وغضب له عبيده وركب أيدمور يريد عسكره فلحقه مبارك وعبيده فقتلوه وقتلوا ولده ووقعت الفتنة بالحرم، وكان به الأمير أحمد ابن عم الملك الناصر ورمى الترك بالنشاب فقتلوا امرأة قيل: إنها كانت تحرض أهل مكة على القتال، وركب من الركب من الأتراك وأميرهم خاص ترك فخرج إليهم القاضي والأئمة والمجاورون وفوق رءوسهم المصاحف، وحاولوا الصلح ودخل الحُجَّاج مكة فأخذوا ما لهم بها وانصرفوا إلى مصر، وبلغ الخبر إلى الملك الناصر فشق عليه، وبعث العساكر إلى مكة ففر الأمير عطيفة وابنه مبارك وخرج أخوه رميثة وأولاده إلى وادي نخلة، فلما وصل العسكر إلى مكة بعث الأمير رميثة أحد أولاده يطلب له الأمان ولولده فأمنوا وأتى رميثة وكفنه في يده إلى الأمير فخلع عليه وسلمت إليه مكة وعاد العسكر إلى مصر، وكان الملك الناصر رحمه الله حليمًا فاضلًا، فخرجْتُ في تلك الأيام من مكة شرفها الله تعالى قاصدًا بلاد اليمن، فوصلت إلى حدة (بالحاء المهمل المفتوح)، وهي نصب الطريق ما بين مكة وجُدَّة (بالجيم المضموم)، ثم وَصَلْتُ إلى جدة، وهي بلدة قديمة على ساحل البحر يقال: إنها من عمارة الفرس وبخارجها مصانع قديمة وبها جباب للماء منقورة في الحجر الصلد يتصل بعضها ببعض تفوت الإحصاء كثرة، وكانت هذه السنة قليلة المطر وكان الماء يُجْلَب إلى جدة على مسيرة يوم، وكان الحجاج يسألون الماء من أصحاب البيوت.

حكاية

ومن غريب ما اتفق لي بجدة أنه وَقَفَ على بابي سائل أعمى يطلب الماء يقوده غلام، فسلم علي وسماني باسمي وأخذ بيدي ولم أكن عَرَفْتُه قط ولا عرفني فعجبت من شأنه، ثم أمسك أصبعي بيده وقال: أين الفتخة؟ وهي الخاتم، وكنت حين خروجي من مكة قد لقيني بعض الفقراء، وسألني ولم يكن عندي في ذلك الحين شيء فدفعت له خاتمي، فلما سألني عنه هذا الأعمى قلت له: أعطيته لفقير، فقال: ارجع في طلبه، فإن فيه أسماء مكتوبة فيها سر من الأسرار، فطال تعجُّبي منه ومن معرفته بذلك كله والله أعلم بحاله، وبجدة جامع يُعْرَف بجامع الأبنوس معروف البركة يستجاب فيه الدعاء، وكان الأمير بها أبا يعقوب بن عبد الرزاق وقاضيها وخطيبها الفقيه عبد الله من أهل مكة، شافعي المذهب، وإذا كان يوم الجمعة واجتمع الناس للصلاة أتى المؤذن وعد أهل جدة المقيمين بها، فإن كملوا أربعين خطب وصلى بهم الجمعة، وإن لم يبلغ عددهم أربعين صلى ظهرًا أربعًا، ولا يعتبر من ليس من أهلها وإن كانوا عددًا كثيرًا، ثم ركبنا البحر من جدة في مركب يسمونه الجلبة، وكان لرشيد الدين الألفي اليمني الحبشي الأصل، وركب الشريف منصور بن أبي نمي في جلبة أخرى ورغب مني أن أكون معه، فلم أفعل لكونه كان معه في جلبته الجِمَال، فخِفْتُ من ذلك ولم أكن ركبت البحر قبلها، وكان هنالك جملة من أهل اليمن قد جعلوا أزوادهم وأمتعتهم في الجلب وهم متأهبون للسفر.

حكاية

ولما ركبنا البحر أَمَرَ الشريف منصور أَحَدَ غلمانه أن يأتيه بعديلة دقيق وهي نصف حمل وبطة سمن يأخذهما من جلب أهل اليمن، فأخذهما وأتى بهما إليه، فأتاني التُّجَّار بَاكِينَ وذكروا لي أن في جوف تلك العديلة عشرة آلاف درهم نقرة، ورغبوا مني أن أكلمه في ردها وأن يأخذ سواها، فأتيته وكلمته في ذلك، وقلت له: إن للتجار في جوف هذه العديلة شيئًا، فقال: إن كان سكرًا فلا أرده إليهم، وإن كان سوى ذلك فهو لهم، ففتحوها فوجدوا الدراهم فردها عليهم وقال لي: لو كان عجلان ما ردها، وعجلان هو ابن أخيه رميثة، وكان قد دخل في تلك الأيام دارَ تاجر من أهل دمشق قاصدًا لليمن فذهب بمعظم ما كان فيها، وعجلان هو أمير مكة على هذا العهد وقد صلح حاله وأظهر العدل والفضل، ثم سافرنا في هذا البحر بالريح الطيبة يومين، وتغيرت الريح بعد ذلك وصَدَّتْنا عن السبيل التي قصدناها، ودَخَلَتْ أمواج البحر معنا في المركب واشتد الميد بالناس، ولم نَزَلْ في أهوالٍ حتى خرجنا في مرسى يُعْرَف برأس دوائر فيما بين عيذاب وسواكن، فنزلنا به ووجدنا بساحله عريشَ قَصَبٍ على هيئة مسجد، وفيه كثير من قشور بيض النعام مملوءة ماء فشربنا منه وطبخنا، ورأيت بذلك المرسى عجبًا، وهو خور مثل الوادي يخرج من البحر، فكان الناس يأخذون الثوب ويمسكون بأطرافه ويخرجون به، وقد امتلأ سمكًا كل سمكة منها قدر الذراع ويَعْرِفُونه بالبوري، فطَبَخَ منه الناس كثيرًا واشتروا، وقَصَدَتْ إلينا طائفة من البجاة وهم سكان تلك الأرض سود الألوان لباسهم الملاحف الصفر ويشدون على رءوسهم عصائب حمرًا في عَرْض الأصبع، وهم أهل نجدة وشجاعة، وسلاحهم الرماح والسيوف، ولهم جِمَال يُسَمُّونها الصهب يركبونها بالسروج، فاكترينا منهم الجمال وسافرنا معهم في برية كثيرة الغزلان والبجاة لا يأكلونها فهي تأنس بالآدمي ولا تنفر منه، وبعد يومين من مسيرنا وصلنا إلى حيٍّ من العرب يُعْرَفون بأولاد كاهل مُخْتَلِطِين بالبجاة عارفين بلسانهم، وفي ذلك اليوم وَصَلْنَا إلى جزيرة سواكن وهي على نحو ستة أميال من البر ولا ماء بها ولا زَرْع ولا شجر، والماء يُجْلَب إليها في القوارب وفيها صهاريج يجتمع بها ماء المطر، وهي جزيرة كبيرة وبها لحوم النعام والغزلان وحمر الوحش، والمعزى عندهم كثير والألبان والسمن ومنها يُجْلَب إلى مكة، وحبوبهم الجرجور وهو نوع من الذرة كبير الحب يُجْلَب منها أيضًا إلى مكة.

ذِكْر سلطانها

وكان سلطان جزيرة سواكن حين وصولي إليها الشريف زيد بن أبي نمى وأبوه أمير مكة وأخواه أميراها بعده، وهما عطيفة ورميثة اللذان تَقَدَّمَ ذِكْرُهما، وصارت إليه من قِبَل البجاة، فإنهم أخواله ومعه عسكر من البجاة وأولاده كاهل وعرب جهينة، وركبنا البحر من جزيرة سواكن نريد أرض اليمن، وهذا البحر لا يُسَافَر فيه بالليل لكثرة أحجاره، وإنما يسافرون فيه من طلوع الشمس إلى غروبها ويرسون وينزلون إلى البر، فإذا كان الصباح صعدوا إلى المركب، وهم يُسَمُّون رئيس المركب الربان، ولا يزال أبدًا في مقدم المركب ينبه صاحب السكان على الأحجار وهم يسمونها النبات، وبعد ستة أيام من خروجنا عن جزيرة سواكن وَصَلْنَا إلى مدينة حَلِي (وضبط اسمها بفتح الحاء المهمل وكسر اللام وتخفيفها)، وتُعْرَف باسم ابن يعقوب، وكان من سلاطين اليمن ساكنًا بها قديمًا، وهي كبيرة حسنة العمارة يسكنها طائفتان من العرب: وهم بنو حرام، وبنو كنانة، وجامع هذه المدينة من أحسن الجوامع، وفيه جماعة من الفقراء المنقطعين إلى العبادة، منهم الشيخ الصالح العابد الزاهد قبولة الهندي من كبار الصالحين، لباسه مرقعة وقلنسوة لبدوله خلوة متصلة بالمسجد فرشها الرمل لا حصير بها ولا بساط، ولم أرَ بها حين لقائي له شيئًا إلا إبريق الوضوء وسفرة من خوص النخيل فيها كسر شعير يابسة وصحيفة فيها ملح وسعتر، فإذا جاءه أحد قَدَّمَ بين يديه ذلك، ويسمع به أصحابه فيأتي لكل واحد منهم بما حضر من غير تكلُّفِ شيء، وإذا صلوا العصر اجتمعوا للذكر بين يدي الشيخ إلى صلاة المغرب، وإذا صلوا المغرب أخذ كل واحد منهم موقفه للتنقل فلا يزالون كذلك إلى صلاة العشاء الآخرة، فإذا صلوا العشاء الآخرة أقاموا على الذكر إلى ثلث الليل ثم انصرفوا ويعودون في أول الثلث الثالث إلى المسجد فيتهجدون إلى الصبح، ثم يَذْكُرون إلى أن تحين صلاة الإشراق فينصرفون بعد صلاتها، ومنهم من يقيم إلى أن يصلي صلاة الضحى بالمسجد، وهذا دأبهم أبدًا، ولقد كُنْتُ أَرَدْتُ الإقامة معهم باقي عمري، فلم أُوَفَّقْ لذلك، والله تعالى يتداركنا بلطفه وتوفيقه.

ذِكْر سلطان حلي

وسلطانها عامر بن ذؤيب من بني كنانة، وهو من الفضلاء الأدباء الشعراء، صَحِبْتُه من مكة إلى جدة، وكان قد حَجَّ في سنة ثلاثين، ولما قَدِمْتُ مدينته أنزلَني وأكرمَني، وأَقَمْتُ في ضيافته أيامًا، وركبت البحر في مركب له فوصلت إلى بلدة السرجة (وضبط اسمها بفتح السين المهمل وإسكان الراء وفتح الجيم)، بلدة صغيرة يسكنها جماعة من أولاد الهبي، وهم طائفة من تجار اليمن أكثرهم ساكنون بصعداء، ولهم فَضْل وكَرَم وإطعام لأبناء السبيل ويعينون الحجاج ويُرْكِبُونهم في مراكبهم ويزودونهم من أموالهم، وقد عُرِفُوا بذلك واشتهروا به، وكَثَّرَ الله أموالهم وزادهم من فضله وأعانهم على فِعْل الخير، وليس بالأرض من يماثلهم في ذلك إلا الشيخ بدر الدين النقاش الساكن ببلدة القحمة، فله مثل ذلك من المآثر والإيثار، وأقمنا بالسرجة ليلة واحدة في ضيافة المذكورين.

ثم رحلنا إلى مرسى الحادث ولم ننزل به ثم إلى مرسى الأبواب ثم إلى مدينة زبيد؛ مدينة عظيمة باليمن بينها وبين صنعاء أربعون فرسخًا، وليس باليمن بعد صنعاء أكبر منها ولا أغنى من أهلها، واسعة البساتين كثيرة المياه والفواكه من الموز وغيره، وهي بَرِّيَّة لا شَطِّيَّة إحدى قواعد بلاد اليمن (وهي بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة)، مدينة كبيرة كثيرة العمارة بها النخل والبساتين والمياه أملح بلاد اليمن وأَجْمَلها، ولأهلها لطافة الشمائل وحُسْن الأخلاق وجمال الصور، ولنسائها الحسن الفائق الفائت، وهي وادي الخصيب الذي يُذْكَر في بعض الآثار أن رسول الله قال لمعاذ في وصيته: «يا معاذ، إذا جِئْتَ وادي الخصيب فهَرْوِلْ»، ولأهل هذه المدينة سبوت النخل المشهورة، وذلك أنهم يخرجون في أيام البسر والرطب في كل سبت إلى حدائق النخل ولا يبقى بالمدينة أحد من أهلها ولا من الغرباء، ويخرج أهل الطرب وأهل الأسواق لبيع الفواكه والحلاوات، وتخرج النساء ممتطيات الجِمَال في المحامل، ولهن مع ما ذكرناه من الجَمالِ الفائتِ الأخلاقُ الحسنةُ والمكارم، وللغريب عندهم مزية ولا يمتنعن من تزوجه كما يفعله نساء بلادنا، فإذا أراد السفر خَرَجْتُ معه وودعته وإن كان بينهما ولد فهي تَكْفُله وتقوم بما يجب له إلى أن يرجع أبوه، ولا تطالبه في أيام الغيبة بنفقة ولا كسوة ولا سواها، وإذا كان مقيمًا فهي تقنع منه بقليل النفقة والكسوة، لكنهن لا يخرجن عن بلدهن أبدًا، ولو أُعْطِيَتْ إحداهن ما عسى أن تعطاه على أن تخرج من بلدها لم تفعل.

وعلماء تلك البلاد وفقهاؤها أهل صلاح ودين وأمانة ومكارم وحُسْن خلق، لقيت بمدينة زبيد الشيخ العالم الصالح أبا محمد الصنعاني والفقيه الصوفي المحقق أبا العباس الأبياني والفقيه المحدث أبا علي الزبيدي، ونزلت في جوارهم فأكرَموني وأضافوني ودخلت حدائقهم، واجتمعت عند بعضهم بالفقيه القاضي العالم أبي زيد عبد الرحمن الصوفي أحد فضلاء اليمن، ووقع عنده ذِكْر العابد الزاهد الخاشع أحمد بن العجيل اليمني، وكان من كبار الرجال وأهل الكرامات.

كرامة

ذَكَرُوا أن فقهاء الزيدية وكبراءهم أتوا مرة إلى زيارة الشيخ أحمد بن العجيل، فجلس لهم خارج الزاوية واستقْبَلَهم أصحابه، ولم يَبْرَح الشيخ عن موضعه، فسلموا عليه وصافحهم ورَحَّبَ بهم، ووَقَعَ بينهم الكلام في مسألة القدر، وكانوا يقولون أن لا قَدَرَ وأن المكلَّف يَخْلُق أفعاله، فقال لهم الشيخ: فإن كان الأمر على ما تقولون فقوموا على مكانكم هذا، فأرادوا القيام فلم يستطيعوا، وتركهم الشيخ على حالهم ودخل الزاوية وأقاموا كذلك واشتد بهم الحر ولحقهم وَهَجُ الشمس وضجوا مما نَزَلَ بهم، فدخل أصحاب الشيخ إليه وقالوا له: إن هؤلاء القوم قد تابوا إلى الله ورجعوا عن مذهبهم الفاسد، فخرج عليهم الشيخ فأخذ بأيديهم وعاهدهم على الرجوع إلى الحق وتَرْك مذهبهم السيئ، وأَدْخَلَهُم زاويته فأقاموا في ضيافته ثلاثًا وانصرفوا إلى بلادهم، وخَرَجْتُ لزيارة قبر هذا الرجل الصالح وهو بقرية يقال لها غسانة خارج زبيد، ولقيت ولده الصالح أبا الوليد إسماعيل فأضافني وبِتُّ عنده، وزُرْتُ ضريح الشيخ وأقمت معه ثلاثًا، وسافرت في صُحْبَته إلى زيارة الفقيه أبو الحسن الزيلعي، وهو من كبار الصالحين ويُقَدِّم حجاج اليمن إذا توجهوا للحج، وأهل تلك البلاد وأعرابها يعظمونه ويحترمونه، فوصلنا إلى جبلة وهي بلدة صغيرة حسنة ذات نخل وفواكه وأنهار، فلما سَمِعَ الفقيه أبو الحسن الزيلعي بقدوم الشيخ أبي الوليد استقبله وأنزله بزاويته وسلَّمْتُ عليه معه وأقمنا عنده ثلاثة أيام في خير مقام ثم انصرفنا، وبعث معنا أحد الفقراء فتوجهنا إلى مدينة تَعِز حضرة ملك اليمن (وضبط اسمها بفتح التاء المعلوة وكسر العين المهملة وزاء)، وهي من أحسن مدن اليمن وأعظمها وأهلها ذوو تجبُّر وتكبُّر وفظاظة، وكذلك الغالب على البلاد التي يسكنها الملوك، وهي ثلاث محلات؛ إحداها يسكنها السلطان ومماليكه وحاشيته وأرباب دولته وتسمى باسم لا أذكره، والثانية يسكنها الأمراء والأجناد وتسمى عدينة، والثالثة يسكنها عامة الناس وبها السوق العظمى وتسمى المحالب.

ذكر سلطان اليمن

وهو السلطان المجاهد نور الدين علي ابن السلطان المؤيَّد هزبر الدين داود ابن السلطان المظفر يوسف بن علي بن رسول شُهِرَ جده برسول؛ لأن أحد خلفاء بني العباس أرسله إلى اليمن ليكون بها أميرًا، ثم استقل أولاده بالمُلك، وله ترتيب عجيب في قعوده وركوبه، وكنت لما وصَلْتُ هذه المدينة مع الفقير الذي بعثه الشيخ الفقيه أبو الحسن الزيلعي في صحبتي قصد بي إلى قاضي القضاة الإمام المحدث صفي الدين الطبري المكي، فسلمنا عليه ورَحَّبَ بنا، وأقمنا بداره في ضيافته ثلاثًا، فلما كان في اليوم الرابع، وهو يوم الخميس وفيه يجلس السلطان لعامة الناس، دَخَلَ بي عليه فسلمت عليه، وكيفية السلام عليه أن يَمَسَّ الإنسان الأرض بسبابته ثم يرفعها إلى رأسه ويقول: أدام الله عزك، ففَعَلْتُ كمثل ما فَعَلَهُ القاضي، وقعد القاضي عن يمين الملك وأَمَرَنِي فقعدت بين يديه فسألني عن بلادي وعن مولانا أمير المسلمين جواد الأجواد أبي سعيد رضي الله عنه وعن ملك مصر وملك العراق وملك اللور، فأجبته عما سأل من أحوالهم، وكان وزيره بين يديه فأَمَرَهُ بإكرامي وإنزالي، وترتيب قعود هذا الملك أنه يجلس فوق دكانة مفروشة مزينة بثياب الحرير وعن يمينه ويساره أهل السلاح ويليه منهم أصحاب السيوف والدرق ويليهم أصحاب القِسِيِّ وبين أيديهم في الميمنة والميسرة الحاجب وأرباب الدولة وكاتب السر وأمير جندار على رأسه والشاوشية — وهم من الجنادرة — وقوف على بعد، فإذا قَعَدَ السلطان صاحوا صيحة واحدة: باسم الله، فإذا قام فعلوا مثل ذلك فيعلم جميع من بالمشور وقْتَ قيامه ووقت قعوده، فإذا استوى قاعدًا دَخَلَ كلُّ مَنْ عادته أن يُسَلِّم عليه فسلم ووَقَفَ حيث رُسِمَ له في الميمنة أو الميسرة لا يتعدى أحد موضعه، ولا يقعد إلا من أُمِرَ بالقعود، يقول السلطان للأمير جندار: مُرْ فلانًا يقعد، فيتقدم ذلك المأمور بالقعود عن موقفه قليلًا ويقعد على بساط هناك بين أيدي القائمين في الميمنة والميسرة.

ثم يؤتى بالطعام، وهو طعامان؛ طعام العامة، وطعام الخاصة، فأما الطعام الخاص فيأكل منه السلطان وقاضي القضاة والكبار من الشرفاء ومن الفقهاء والضيوف، وأما الطعام العام فيأكل منه سائر الشرفاء والفقهاء والقضاة والمشايخ والأمراء ووجوه الأجناد، ومجلس كل إنسان للطعام معيَّن لا يتعداه ولا يزاحِمُ أحد منهم أحدًا، وعلى مثل هذا الترتيب سواء هو ترتيب ملك الهند في طعامه، فلا أعلم أن سلاطين الهند أخذوا ذلك عن سلاطين اليمن، أم سلاطين اليمن أخذوه عن سلاطين الهند، وأقمت في ضيافة سلطان اليمن أيامًا وأَحْسَنَ إلي وأركبني وانصرفت مسافرًا إلى مدينة صنعاء وهي قاعدة بلاد اليمن الأولى، مدينة كبيرة حسنة العمارة بناؤها بالآجر والجص كثيرة الأشجار والفواكه والزرع معتدلة الهواء طيبة الماء، ومن الغريب أن المطر ببلاد الهند واليمن والحبشة إنما ينزل في أيام القيظ، وأكثر ما يكون نزوله بعد الظهر من كل يوم في ذلك الأوان، فالمسافرون يستعجلون عند الزوال لئلا يصيبهم المطر، وأهل المدينة ينصرفون إلى منازلهم لأن أمطارها وابلة متدفقة، ومدينة صنعاء مفروشة كلها، فإذا نَزَلَ المطر غَسَلَ جميع أَزِقَّتها وأنقاها، وجامِعُ صنعاء من أحسن الجوامع، وفيه قبر نبي من الأنبياء عليهم السلام، ثم سافرت منها إلى مدينة عدن مرسى بلاد اليمن على ساحل البحر الأعظم والجبال تحفُّ بها، ولا مدخل إليها إلا من جانب واحد وهي مدينة كبيرة ولا زَرْع بها ولا شجر ولا ماء، وبها صهاريج يجتمع فيها الماء أيام المطر، والماء على بُعْد منها، فربما مَنَعَتْه العرب وحالوا بين أهل المدينة وبينه حتى يصانعوهم بالمال والثياب، وهي شديدة الحر، وهي مرسى أهل الهند تأتي إليها المراكب العظيمة من كنبايت وتانه وكولم وقالقوط وفندراينه والشاليات ومنجرور وفاكنور وهنور وسندابور وغيرها، وتجار الهند ساكنون بها وتجار مصر أيضًا، وأهل عدن ما بين تُجَّار وحمالين وصيادين للسمك، وللتجار منهم أموال عريضة، وربما يكون لأحدهم المركب العظيم بجميع ما فيه لا يشاركه فيه غيره لسعة ما بين يديه من الأموال، ولهم في ذلك تفاخُر ومباهاة.

حكاية

ذُكِرَ عَلَيَّ أن بعضهم بَعَثَ غلامًا له ليشتري له كبشًا وبعث آخر منهم غلامًا له برسم ذلك أيضًا، فاتفق أنه لم يكن بالسوق في ذلك اليوم إلا كبش واحد، فوقعت المزايدة فيه بين الغلامين فأنهى ثمنه إلى أربعمائة دينار فأخذه أحدهما وقال: إن رأس مالي أربعمائة دينار، فإن أعطاني مولاي ثمنه فحسن، وإلا دفعت فيه رأس مالي ونَصَرْتُ نفسي وغَلَبْتُ صاحبي، وذَهَبَ بالكبش إلى سيده، فلما عَرَفَ سيده بالقضية أَعْتَقَهُ وأعطاه ألف دينار وعاد الآخر إلى سيده خائبًا فضَرَبَهُ وأَخَذَ ماله ونفاه عنه. ونزلْتُ في عدن عند تاجر يُعْرَف بناصر الدين القارئ، فكان يَحْضُر طعامَه كل ليلة نحوُ عشرين من التجار، وله غِلْمان وخُدَّام أكثر من ذلك، ومع هذا كله فهم أهل دين وتواضُع وصلاح ومكارم أخلاق؛ يحسنون إلى الغريب ويؤثرون على الفقير ويعطون حق الله من الزكاة على ما يجب، ولقيت بهذه المدينة قاضيها الصالح سالم بن عبد الله الهندي، وكان والده من العبيد الحمالين، واشتغل ابنه بالعلم فرَأَسَ وَسَادَ، وهو من خيار القضاة وفضلائهم أَقَمْتُ في ضيافته أيامًا، وسافَرْتُ من مدينة عدن في البحر أربعة أيام، ووصلت إلى مدينة زيلع وهي مدينة البربرة، وهم طائفة من السودان شافعية المذهب، وبلادهم صحراء مسيرة شهرين أولها زيلع وآخرها مقدشو، ومواشيهم الجِمال ولهم أغنام مشهورة السمن، وأهل زيلع سود الألوان وأكثرهم رافضة، وهي مدينة كبيرة لها سوق عظيمة، إلا أنها أَقْذَر مدينة في المعمور وأوحشها وأكثرها نتنًا، وسبب نَتَنِها كثرة سمكها ودماء الإبل التي ينحرونها في الأزقة، ولما وَصَلْنا إليها اخترنا المبيت بالبحر على شِدَّة هَوْله ولم نَبِتْ بها لقذرها.

ثم سافرنا منها في البحر خمس عشرة ليلة، ووصلنا مَقْدَشو (وضبط اسمها بفتح الميم وإسكان القاف وفتح الدال المهمل والشين المعجم وإسكان الواو)، وهي مدينة متناهية في الكِبَر وأهلها لهم جِمال كثيرة ينحرون منها المئين في كل يوم ولهم أغنام كثيرة، وأهلها تجار أقوياء وبها تُصْنَع الثياب المنسوبة إليها التي لا نَظِير لها، ومنها تُحْمَل إلى ديار مصر وغيرها، ومن عادة أهل هذه المدينة أنه متى وَصَلَ مركب إلى المرسى تُصْعَد الصنابق — وهي القوارب الصغار — إليه، ويكون في كل صنبوق جماعة من شُبَّان أَهْلِها، فيأتي كل واحد منهم بطبق مغطًّى فيه الطعام فيقدمه لتاجر من تجار المركب ويقول: هذا نزيلي، وكذلك يَفْعَل كلُّ واحد منهم، ولا ينزل التاجر من المركب إلا إلى دار نزيله من هؤلاء الشبان، إلا مَنْ كان كَثِيرَ التردد إلى البلد وحصلت له معرفة أهله فإنه ينزل حيث شاء، فإذا نَزَلَ عند نزيله باع له ما عنده واشترى له، ومن اشترى منه ببَخْسٍ أو باع منه بغير حضور نزيله فذلك البيع مردود عندهم ولهم منفعة في ذلك، ولما صعد الشبان إلى المركب الذي كنت فيه جاء إليَّ بعضهم فقال له أصحابه: ليس هذا بتاجر، وإنما هو فقيه، فصاح بأصحابه وقال لهم: هذا نزيل القاضي، وكان فيها أحد أصحاب القاضي فعرفه بذلك فأتى إلى ساحل البحر في جملة من الطلبة وبعث إليَّ أحدهم فنزلت أنا وأصحابي وسلمت على القاضي وأصحابه وقال لي: باسم الله نتوجه للسلام على الشيخ، فقلت: ومن الشيخ؟ فقال: السلطان، وعادتهم أن يقولوا للسلطان الشيخ، فقلت له: إذا نزلْتُ توجَّهْتُ إليه، فقال لي: إن العادة إذا جاء الفقيه أو الشريف أو الرجل الصالح لا ينزل حتى يرى السلطان، فذهبْتُ معهم إليه كما طلبوا.

ذِكْر سلطان مقدشو

وسلطان مقدشو كما ذكرناه إنما يقولون له الشيخ، واسمه أبو بكر ابن الشيخ عمر، وهو في الأصل من البربرة، وكلامه بالمقدشي ويَعْرِف اللسان العربي، ومن عوائده أنه متى وَصَلَ مركب يصعد إليه صنبوق السلطان فيسأل عن المركب من أين قَدِمَ ومَنْ صاحِبُه ومَنْ ربانه وهو الرئيس، وما وسقه ومن قدم فيه من التجار وغيرهم، فيعرف بذلك كله ويعرض على السلطان، فمن استحق أن يُنْزِله عنده أَنْزَلَه، ولما وَصَلْتُ مع القاضي المذكور — وهو يُعْرَف بابن البرهان — المصري الأصل إلى دار السلطان خرج بعض الفتيان فسَلَّمَ على القاضي، فقال له: بَلِّغ الأمانة وعَرِّفْ مولانا الشيخ أن هذا الرجل قد وَصَلَ من أرض الحجاز، فبَلَّغَ ثم عاد وأتى بطبق من أوراق التنبول والفوفل فأعطاني عشرة أوراق مع قليل من الفوفل وأعطى للقاضي كذلك وأعطى لأصحابي ولطلبة القاضي ما بقي في الطبق وجاء بقمقم من ماء الورد الدمشقي فسكب علي وعلى القاضي وقال: إن مولانا أَمَرَنَا أن ينزل بدار الطلبة، وهي دار مُعَدَّة لضيافة الطلبة، فأخذ القاضي بيدي وجئنا إلى تلك الدار، وهي بمقربة من دار الشيخ مفروشة مرتَّبة بما تحتاج إليه، ثم أتى بالطعام من دار الشيخ ومعه أحد وزرائه وهو الموكل بالضيوف فقال: مولانا يسلم عليكم، ويقول لكم: قَدِمْتُم خَيْرَ مَقْدِم، ثم وَضَعَ الطعام فأكلنا، وطَعَامُهُم الأرز المطبوخ بالسمن يجعلونه في صحفة خشب كبيرة ويجعلون فوقه صحاف الكوشان وهو الإدام من الدجاج واللحم والحوت والبقول، ويطبخون الموز قبل نضجه في اللبن الحليب، ويجعلونه في صحفة، ويجعلون اللبن المريب في صحفة، ويجعلون عليه الليمون المصبر وعناقيد الفلفل المصبر المخلل والمملوح والزنجبيل الأخضر والعنبا وهي مثل التفاح ولكن لها نواة، وهي إذا نضجت شديدة الحلاوة وتؤكل كالفاكهة، وقبل نُضْجِها حامضة كالليمون يصبرونها في الخل، وهم إذا أكلوا لقمة من الأرز أَكَلُوا بعدها من هذه الموالح والمخللات، والواحد من أهل مقدشو يأكل قَدْر ما تأكله الجماعة منا عادة لهم، وهم في نهاية من ضخامة الجسوم وسمنها، ثم لَمَّا طَعِمْنا انصرف عنا القاضي وأقمنا ثلاثة أيام يؤتى إلينا بالطعام ثلاث مرات في اليوم وتلك عادتهم.

فلما كان في اليوم الرابع وهو يوم الجمعة جاءني القاضي والطلبة وأحد وزراء الشيخ وأتوني بكسوة، وكسوتهم فوطة خز يشدها الإنسان في وسطه عوض السراويل فإنهم لا يَعْرِفونها، ودراعة من المقطع المصري معلَّمة، وفرجية من القدسي مبطَّنة وعمامة مصرية معلَّمة، وأتوا لأصحابي بكسًى تناسبهم، وأتينا الجامع فصلينا خلف المقصورة، فلما خَرَجَ الشيخ من باب المقصورة سلَّمْتُ عليه مع القاضي، فرحَّبَ وتَكَلَّمَ بلسانهم مع القاضي، ثم قال باللسان العربي: قَدِمْتَ خير مَقْدِم وشَرَّفْتَ بلادنا وآنستنا، وخرج إلى صحن المسجد فوقف على قبر والده وهو مدفون هناك فقرأ ودعا، ثم جاء الوزراء والأمراء ووجوه الأجناد فسَلَّمُوا، وعادتهم في السلام كعادة أهل اليمن؛ يضع سبابته في الأرض ثم يجعلها على رأسه ويقول: أدام الله عزك، ثم خرج الشيخ من باب المسجد فلبس نعليه وأَمَرَ القاضي أن ينتعل وأمرني أن أنتعل، وتوجَّهَ إلى منزله ماشيًا وهو بالقرب من المسجد ومشى الناس كلهم حفاة، ورُفِعَتْ فوق رأسه أربع قباب من الحرير الملون وعلى أعلى كل قبة صورة طائر من ذهب وكان لباسه في ذلك اليوم فرجية قدسي أخضر وتحتها من ثياب مصر وطروحاتها الحسان، وهو متقلد بفوطة حرير وهو معتم بعمامة كبيرة، وضُرِبَتْ بين يديه الطبول والأبواق والأنفار وأمراء الأجناد أمامه وخلفه، والقاضي والفقهاء والشرفاء معه، ودَخَلَ إلى مشوره على تلك الهيئة وقَعَدَ الوزراء والأمراء ووجوه الأجناد في سقيفة هنالك، وفُرِشَ للقاضي بساط لا يجلس معه غيره عليه والفقهاء والشرفاء معه، ولم يزالوا كذلك إلى صلاة العصر، فلما صلوا العصر مع الشيخ أتى جميع الأجناد ووقفوا صفوفًا على قَدْر مراتبهم.

ثم ضُرِبَتْ الأطبال والأنفار والأبواق والصرنايات، وعند ضَرْبها لا يتحرك أحد ولا يتزحزح عن مقامه، ومن كان ماشيًا وَقَفَ فلم يتحرك إلى خلْفٍ ولا إلى أمام، فإذا فُرِغَ من ضرب الطبلخانة سلموا بأصابعهم كما ذكرناه وانصرفوا، وتلك عادةٌ لهم في كل يوم جمعة، وإذا كان يوم السبت يأتي الناس إلى باب الشيخ فيقعدون في سقائفَ خارجَ الدار، ويدخل القاضي والفقهاء والشرفاء والصالحون والمشايخ والحجاج إلى المشور الثاني فيقعدون على دكاكين خشب مُعَدَّة لذلك، ويكون القاضي على دكانة وحده، وكل صنف على دكانة تحصنهم لا يشاركهم فيها سواهم، ثم يجلس الشيخ بمجلسه ويبعث إلى القاضي فيجلس عن يساره، ثم يدخل الفقهاء فيقعد كبراؤهم بين يديه وسائرهم يُسَلِّمون وينصرفون، ثم يدخل الشرفاء فيقعد كبراؤهم بين يديه ويسلم سائرهم وينصرفون، وإن كانوا ضيوفًا جلسوا عن يمينه، ثم يدخل المشايخ والحُجَّاج فيجلس كبراؤهم ويسلم سائرهم وينصرفون، ثم يدخل الوزراء ثم الأمراء ثم وجوه الأجناد طائفة بعد طائفة أخرى فيسلمون وينصرفون ويؤتى بالطعام فيأكل بين يدي الشيخ القاضي والشرفاءُ ومن كان قاعدًا بالمجلس، ويأكل الشيخ معهم، وإن أراد تشريف أحد من كبار أمرائه بَعَثَ إليه فأكل معهم، ويأكل سائر الناس بدار الطعام، وأَكْلُهم على ترتيب مثل ترتيبهم في الدخول على الشيخ، ثم يدخل الشيخ إلى داره ويقعد القاضي والوزراء وكاتب السر وأربعة من كبار الأمراء للفصل بين الناس وأهل الشكايات، فما كان متعلقًا بالأحكام الشرعية حَكَمَ فيه القاضي، وما كان مِنْ سوى ذلك حَكَمَ فيه أهل الشورى وهم الوزراء والأمراء، وما كان مفتقرًا إلى مشاوَرَة السلطان كتبوا إليه فيه فيخرج لهم الجواب من حينه على ظهر البطاقة بما يقتضيه نظره وتلك عادتهم دائمًا.

ثم رَكِبْتُ البحر من مدينة مقدشو متوجهًا إلى بلاد السواحل قاصدًا مدينة كلوا من بلاد الزنوج، فوصلنا إلى جزيرة مَنْبَسَى (وضبط اسمها مفتوح ونون مسكن وباء موحدة مفتوحة وسين مهمل مفتوح وياء)، وهي جزيرة كبيرة بينها وبين أرض السواحل مسيرة يومين في البحر ولا بَرَّ لها، وأشجارها الموز والليمون والأترج، ولهم فاكهة يسمونها الجمون وهي شبه الزيتون ولها نَوًى كنواه، إلا أنها شديدة الحلاوة، ولا زَرْعَ عند أهل هذه الجزيرة، وإنما يُجْلَب إليهم من السواحل، وأكثر طعامهم الموز والسمك، وهم شافعية المذهب، أهل دين وعفاف وصلاح، ومساجدهم من الخشب مُحْكَمة الإتقان، وعلى كل باب من أبواب المساجد البئر والثنتان، وعمق آبارهم ذراع أو ذراعان، فيستقون منها الماء بقدح خشب قد غُرِزَ فيه عود رقيق في طول الزراع، والأرض حول البئر والمسجد مسطحة، فمن أراد دخول المسجد غَسَلَ رجليه ودخل، ويكون على بابه قطعة حصير غليظ يَمْسَحُ بها رجليه، من أراد الوضوء أَمْسَكَ القدح بين فخذيه وصَبَّ على يديه ويتوضأ، وجميع الناس يمشون حفاة الأقدام، وبتنا بهذه الجزيرة ليلة وركبنا البحر إلى مدينة كُلْوَا (وضبط اسمها بضم الكاف وإسكان اللام وفتح الواو)، وهي مدينة عظيمة ساحلية أكثر أهلها الزنوج المستحكمو السواد ولهم شرطات في وجوههم كما هي في وجوه الليميين من جنادة، وذَكَرَ لي بعض التجار أن مدينة سفالة على مسيرة نصف شهر من مدينة كُلْوَا، وأن بين سفالة ويوفى من بلاد الليميين مسيرة شهر، ومن يوفي يؤتى بالتبر إلى سفالة، ومدينة كلوا مِنْ أحسن المدن وَأَتْقَنِها عمارة، وكلها بالخشب وسَقْف بيوتها الديس، والأمطار بها كثيرة، وهم أهل جهاد؛ لأنهم في بَرٍّ واحد متصل مع كفار الزنوج، والغالب عليهم الدين والصلاح، وهم شافعية المذهب.

ذكر سلطان كلوا

وكان سلطانها في عهد دخولي إليها أبو المظفر حسن ويكنى أيضًا أبو المواهب لكثرة مواهبه ومكارمه، وكان كثير الغزو إلى أرض الزنوج يغير عليهم ويأخذ الغنائم فيُخْرج خُمْسها ويَصْرِفه في مصارفه المعينة في كتاب الله تعالى، ويَجْعَل نصيب ذوي القربى في خزانة على حدة، فإذا جاءه الشرفاء دَفَعَهُ إليهم، وكان الشرفاء يقصدونه من العراق والحجاز وسواها، ورأيت عنده من شرفاء الحجاز جماعة منهم محمد بن جماز ومنصور بن لبيدة بن أبي نمي ومحمد بن شميلة بن أبي نمي ولقيت بمقد شواتيل بن كبيش بن جماز وهو يريد القدوم عليه، وهذا السلطان له تواضع شديد ويجلس مع الفقراء ويأكل معهم ويُعَظِّم أهل الدين والشرف.

حكاية من مكارمه

حَضَرْتُه يومَ جمعة وقد خرج من الصلاة قاصدًا إلى داره، فتعرَّض له أحد الفقراء اليمنيين فقال له: يا أبا المواهب، فقال: لبيك يا فقير ما حاجتك؟ قال: أعطني هذه الثياب التي عليك، فقال له: نَعَم أعطيكها، قال: الساعة، قال: نعم الساعة، فرجع إلى المسجد ودخل بيت الخطيب فلبس ثيابًا سواها وخلع تلك الثياب، وقال للفقير: ادخل فخُذْها، فدخل الفقير وأَخَذَها ورَبَطَها في منديل وجعلها فوق رأسه وانصرف، فعظم شكر الناس للسلطان على ما ظَهَرَ من تواضعه وكرمه وأَخَذَ ابنه ولي عهده تلك الكسوة من الفقير وعَوَّضَه عنها بعشرة من العبيد، وبلغ السلطان ما كان مِنْ شُكْر الناس له على ذلك، فأمر للفقير أيضًا بعشرة رءوس من الرقيق وحِمْلَيْن من العاج، ومُعْظَم عطاياهم العاج، وقَلَّمَا يعطون الذهب، ولما توفي هذا السلطان الفاضل الكريم رحمة الله عليه ولي أخوه داود، فكان على الضد من ذلك؛ إذا أتاه سائل يقول له: مات الذي كان يعطي ولم يَتْرُك من بعده ما يعطى، ويقيم الوفود عنده الشهور الكثيرة، وحينئذٍ يعطيهم القليل حتى انقطع الوافدون عن بابه، وركبنا البحر من كلوا إلى مدينة ظفار الحموض (وضبط اسمها بفتح الظاء المعجم والفاء وآخره راء مبنية على الكسر)، وهي آخر بلاد اليمن على ساحل البحر الهندي، ومنها تُحْمَل الخيل العتاق إلى الهند ويُقْطَع البحر فيما بينها وبين بلاد الهند مع مساعدة الريح في شهر كامل، قد قَطَعْتُه مرة من قالقوط من بلاد الهند إلى ظفار في ثمانية وعشرين يومًا بالريح الطيبة لم ينقطع لنا جري بالليل ولا بالنهار، وبين ظفار وعدن في البر مسيرة شهر في صحراء، وبينها وبين حضرموت ستة عشر يومًا، وبينها وبين عمان عشرون يومًا.

ومدينة ظفار في صحراء منقطة لا قرية بها ولا عمالة لها، والسوق خارج المدينة بربض يُعْرَف بالحرجاء، وهي من أقذر الأسواق وأشدها نتنًا وأكثرها ذبابًا لكثرة ما يباع بها من الثمرات والسمك، وأكثر سمكها النوع المعروف بالسردين وهو بها في النهاية من السِّمَن، ومن العجائب أن دوابهم إنما علفها من هذا السردين وكذلك غنمهم، ولم أرَ ذلك في سواها، وأكثر باعتها الخدم وهُنَّ يلبسن السواد، وزَرْع أهلها الذرة وهم يسقونها من آبار بعيدة الماء، وكيفية سقيهم أنهم يصنعون دلوًا كبيرة ويجعلون لها حبالًا كثيرة، ويتحزم بكل حبل عبد أو خادم ويجرُّون الدلو على عود كبير مرتفع عن البئر ويصبونها في صهريج يسقون منه، ولهم قمح يسمونه العلس وهو في الحقيقة نوع من السلت، والأرز يُجْلَب إليهم من بلاد الهند وهو أكثر طعامهم، ودراهم هذه المدينة من النحاس والقصدير ولا تُنْفَق في سواها، وهم أهل تجارة لا عَيْشَ لهم إلا منها، ومن عادتهم أنه إذا وَصَلَ مركب من بلاد الهند أو غيرها خرج عبيد السلطان إلى الساحل وصعدوا في صنبوق إلى المركب ومعهم الكسوة الكاملة لصاحب المركب أو وكيله وللربان وهو الرئيس وللكراني وهو كاتب المركب، ويؤتى إليهم بثلاثة أفراس فيركبونها وتُضْرَب أمامهم الأطبال والأبواق من ساحل البحر إلى دار السلطان، فيُسَلِّمون على الوزير وأمير جندار وتُبْعَث الضيافة لكلِّ مَنْ بالمركب ثلاثًا، وبعد الثلاث يأكلون بدار السلطان وهم يفعلون ذلك استجلابًا لأصحاب المراكب، وهم أهل تواضُع وحُسْن أخلاق وفضيلة ومحبة للغرباء، ولباسهم القطن وهو يُجْلَب إليهم من بلاد الهند ويشدون الفوط في أوساطهم عِوَضَ السروال وأكثرهم يشد فوطة في وسطه ويَجْعَل فوق ظهره أخرى من شدة الحر، ويغتسلون مرات في اليوم، وهي كثيرة المساجد، ولهم في كل مسجد مطاهر كثيرة مُعَدَّة للاغتسال ويُصْنَع بها ثياب من الحرير والقطن والكتان حسان جدًّا، والغالب على أهلها رجالًا ونساء المرض المعروف بداء الفيل وهو انتفاخ القدمين، وأكثر رجالهم مُبْتَلُون بالأدر والعياذ بالله.

ومن عوايدهم الحسنة التصافح في المسجد إثر صلاة الصبح والعصر؛ يَسْتَنِد أهل الصف الأول إلى القبلة ويصافحهم الذين يلونهم، وكذلك يفعلون بعد صلاة الجمعة يتصافحون أجمعون، ومن خواصِّ هذه المدينة وعجائبها أنه لا يقصدها أحد بسوء إلا عاد عليه مكروه وحِيلَ بينه وبينها، وذُكِرَ لي أن السلطان قطب الدين تمهتن بن طوران شاه صاحب هرمز نازَلَهَا مرة في البر والبحر، فأرسل الله سبحانه عليه ريحًا عاصفًا كسَّرَتْ مراكبه، ورَجَعَ عن حصارها وصالِحَ مَلِكَها، وكذلك ذُكِرَ لي أن الملك المجاهد سلطان اليمن عَيَّنَ ابن عم له بعسكر كبير برسم انتزاعها من يد ملكها وهو أيضًا ابن عمه، فلما خرج ذلك الأمير عن داره سَقَطَ عليه حائط وعلى جماعة من أصحابه فهلكوا جميعًا، ورَجَعَ الملك عن رأيه وتَرَكَ حصارها وطلبها، ومن الغرائب أن أهل هذه المدينة أشبه الناس بأهل المغرب في شئونهم، نَزَلْتُ بدار الخطيب بمسجدها الأعظم وهو عيسى بن علي كبير القدر كريم النفْس، فكان له جَوَارٍ مُسَمَّيَات بأسماء خدم المغرب، إحداهن اسمها بخيتة، والأخرى زاد المال، ولم أَسْمَعْ هذه الأسماء في بلد سواها، وأكثر أهلها رءوسهم مكشوفة لا يجعلون عليها العمائم، وفي كل دار من دُورِهِم سجادة الخوص معلقة في البيت يصلي عليها صاحب البيت كما يفعل أهل المغرب، وأكلهم الذرة، وهذا التشابه كله مما يقوي القول بأن صنهاجة وسواهم من قبائل المغرب أصلهم من حمير.

ويقرب من هذه المدينة بين بساتينها زاوية الشيخ الصالح العابد أبي محمد بن أبي بكر بن عيسى من أهل ظفار، وهذه الزاوية مُعَظَّمة عندهم، يأتون إليها غدوًّا وعشيًّا ويستجيرون بها، فإذا دَخَلَها المستجير لم يَقْدِر السلطان عليه، رأيت بها شخصًا ذُكِرَ لي أن له بها مدة سنين مستجيرًا لم يَتَعَرَّض له السلطان، وفي الأيام التي كُنْتُ بها استجار بها كاتِبُ السلطان، وأقام فيها حتى وَقَعَ بينهما الصلح، أتيت هذه الزاوية فبت بها في ضيافة الشيخين أبي العباس أحمد وأبي عبد الله محمد ابني الشيخ أبي بكر المذكور، وشاهدْتُ لهما فضلًا عظيمًا، ولما غَسَلْنَا أيدينا من الطعام أَخَذَ أبو العباس منهما ذلك الماء الذي غسلنا به فشرب منه وبعث الخادم بباقيه إلى أهله وأولاده فشربوه، وكذلك يفعلون بمن يتوسمون فيه الخير من الواردين عليهم، وكذلك أضافني قاضيها الصالح أبو هاشم عبد الملك الزبيدي، وكان يتولى خدمتي وغسل يدي بنفسه ولا يَكِلُ ذلك إلى غيره، وبمقربة من هذه الزاوية تربةُ سَلَفِ السلطان الملك المغيث وهي مُعَظَّمَة عندهم، ويستجير بها مَنْ طَلَبَ حاجةً فتقضى له، ومِنْ عادة الجند أنه إذا تَمَّ الشهر ولم يأخذوا أرزاقهم استجاروا بهذه التربة وأقاموا في جوارها إلى أن يُعْطَوْا أرزاقهم، وعلى مسيرة نصف يوم من هذه المدينةِ الأحقافُ، وهي منازل عادٍ، وهنالك زاوية ومسجد على ساحل البحر وحوله قرية لصيادي السمك، وفي الزاوية قبر مكتوب عليه: هذا قبر هود بن عابر عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد ذَكَرْتُ أن بمسجد دمشق موضعًا عليه مكتوب: هذا قبر هود بن عابر، والأشبه أن يكون قَبْرُه بالأحقاف لأنها بلاده والله أعلم، ولهذه المدينة بساتين فيها موز كثير كبير الجرم وزَنْتُ بمحضري حَبَّةً منه، فكان وزنها اثنتي عشرة أوقية، وهو طَيِّب المطعم شديد الحلاوة، وبها أيضًا التنبول والنارجيل المعروف بجوز الهند، ولا يكونان إلا ببلاد الهند وبمدينة ظفار هذه لشبهها بالهند وقُرْبِها منها، اللهم إلا أن في مدينة زبيد في بستان السلطان شجيرات من النارجيل، وإذ قد وَقَعَ ذِكْر التنبول والنارجيل فلنذكرهما ولنذكر خصائصهما.

ذكر التنبول

والتنبول شجر يُغْرَس كما تُغْرَس دوالي العنب، ويُصْنَع له معرشات من القصب كما يُصْنَع لدوالي العنب، أو يُغْرَس في مجاوَرَة شجر النارجيل فيَصْعَد فيها كما تَصْعَد الدوالي وكما يَصْعَد الفلفل، ولا ثمر للتنبول وإنما المقصود منه ورقه وهو يشبه ورق العليق وأطيبه الأصفر، وتُجْتَنى أوراقه في كل يوم، وأهل الهند يعظمون التنبول تعظيمًا شديدًا، وإذا أتى الرجل دارَ صاحبه فأعطاه خمس ورقات منه فكأنما أعطاه الدنيا وما فيها، لا سيما إن كان أميرًا أو كبيرًا، وإعطاؤه عندهم أعظم شأنًا وأدل على الكرامة من إعطاء الفضة والذهب، وكيفية استعماله أن يُؤْخَذ قبله الفوفل — وهو شبه جوز الطيب — فيُكْسَر حتى يصير أطرافًا صغارًا ويجعله الإنسان في فَمِه يعلكه، ثم يأخذ ورق التنبول فيجعل عليها شيئًا من النورة ويمضغها مع الفوفل، وخاصيته أنه يُطَيِّب النكهة ويَذْهَب بروائح الفم ويهضم الطعام ويقطع ضرر شُرْب الماء على الريق ويفرخ أكله ويعين على الجماع، ويجعله الإنسان عند رأسه ليلًا فإذا استيقظ من نومه أو أَيْقَظَتْه زوجَتُه أو جارِيَتُه أخذ منه فيذهب بما في فمه من رائحة كريهة، ولقد ذُكِرَ لي أن جواري السلطان والأمراء ببلاد الهند لا يأكلن غيره، وسنذكره عند ذِكْر بلاد الهند.

ذكر النارجيل

وهو جوز الهند وهذا الشجر من أغرب الأشجار شأنًا وأعجبها أمرًا، وشجره شبه شجر النخل، لا فَرْقَ بينهما إلا أن هذه تثمر جوزًا وتلك تثمر ثمرًا، وجوزها يشبه رأس ابن آدم؛ لأن فيها شبه العينين والفم وداخلها شبه الدماغ إذا كانت خضراء وعليها ليف شبه الشعر، وهم يصنعون به حبالًا يخيطون بها المراكب عوضًا من مسامير الحديد ويصنعون منه الحبال للمراكب، والجوزة منها وخصوصًا التي بجزائر ذيبة المهل تكون بمقدار رأس الآدمي، ويزعمون أن حكيمًا من حكماء الهند في غابر الزمان كان متصلًا بملك من الملوك ومُعَظَّمًا لديه، وكان للملك وزير بينه وبين هذا الحكيم معاداة، فقال الحكيم للملك: إن رأس هذا الوزير إذا قُطِعَ ودُفِنَ تخرج منه نخلة تُثْمِر بثمر عظيم يعود نفعه على أهل الهند وسواهم من أهل الدنيا، فقال له الملك: فإن لم يَظْهَر من رأس الوزير ما ذَكَرْتَه، قال: إن لم يظهر فاصنع برأسي كما صَنَعْتُ برأسه، فأمر الملك برأس الوزير فقُطِعَ وأخذه الحكيم وغرس نواة تَمْرٍ في دماغه وعالَجَهَا حتى صارت شجرة وأَثْمَرَتْ بهذا الجوز، وهذه الحكاية من الأكاذيب، ولكن ذَكَرْنَاهَا لشهرتها عندهم.

ومن خواصِّ هذا الجوز تقوية البدن وإسراع السمن والزيادة في حمرة الوجه، وأما الإعانة على الباءة ففعله فيها عجيب، ومن عجائبه أنه يكون في ابتداء أَمْرِه أخضر فمن قطع بالسكين قطعة من قشره وفَتَحَ رأس الجوزة شرب منها ماء في النهاية من الحلاوة والبرودة، ومزاجه حارٌّ معين على الباءة، فإذا شرب ذلك الماء أخذ قطعة القشرة وجعلها شبه الملعقة وجرد بها ما في داخل الجوزة من الطعم فيكون طعمه كطعم البيضة إذا شُوِيَتْ ولم يَتِمَّ نضجها كل التَّمام ويتغذى به، ومنه كان غذائي أيام إقامتي بجزائر ذيبة المهل مدة من عام ونصف عام، وعجائبه أنه يُصْنَع منه الزيت والحليب والعسل، فأما كيفية صناعة العسل منه فإن خدام النخل منه ويسمون الفازانية يصعدون إلى النخلة غدوًّا وعشيًّا إذا أرادوا أَخْذ مائها الذي يصنعون منه العسل، وهم يُسَمُّونه الأطواق فيقطعون العذق الذي يَخْرُج منه الثمر ويتركون منه مقدار أصبعين ويربطون عليه قدرًا صغيرة فيقطر فيها الماء الذي يسيل من العذق، فإذا ربطها غدوة صعد إليها عشيًّا ومعه قدحان من قشر الجوز المذكور، أحدهما مملوء ماء فيصب ما اجتمع من ماء العذق في أحد القدحين ويغسله بالماء الذي في القدح الآخر، وينجر من العذق قليلًا ويربط عليه القدر ثانية، ثم يفعل غدوة كفعله عشيًّا، فإذا اجتمع له الكثير من ذلك الماء طبخه كما يُطْبَخ ماء العنب إذا صُنِعَ منه الرُّبُّ فيصير عسلًا عظيم النفع طيبًا، فيشتريه تجار الهند واليمن والصين ويحملونه إلى بلادهم ويصنعون منه الحلواء، وأما كيفية صُنْع الحليب منه فإن بكل دار شبه الكرسي تَجْلِس فوقه المرأة ويكون بيدها عصًى في أحد طرفيها حديدة مشرفة، فيفتحون في الجوزة مقدار ما تدخل تلك الحديدة ويجرشون ما في باطن الجوزة، وكل ما ينزل منها يجتمع في صحفة حتى لا يبقى في داخل الجوزة شيء، ثم يمرس ذلك الجريش بالماء فيصير كلون الحليب بياضًا ويكون طعمه كطعم الحليب ويأتدم به الناس، وأما كيفية صُنْع الزيت فإنهم يأخذون الجوز بعد نضجه وسقوطه عن شجره فيُزِيلُون قِشْرَه ويقطعونه قطعًا ويُجْعَل في الشمس، فإذا ذبل طبخوه في القدور واستخرجوا زيته، وبه يستصبحون ويأتدمون به، ويجعله النساء في شعورهن، وهو عظيم النفع.

ذكر سلطان ظفار

وهو السلطان الملك المغيث بن الملك الفائز بن عم ملك اليمن، وكان أبوه أميرًا على ظفار من قِبَل صاحب اليمن وله عليه هدية يبعثها له في كل سنة، ثم استبد الملك المغيث بمُلْكِها وامتنع من إرسال الهدية، وكان من عزم ملك اليمن على محاربته وتعيين ابن عمه لذلك ووقوع الحائط عليه ما ذكرناه آنفًا، وللسلطان قصر بداخل المدينة يُسَمَّى الحصن عظيم فسيح والجامع بإزائه، ومن عادته أن تُضْرَب الطبول والبوقات والأنفار والصرنايات على بابه كل يوم بعد صلاة العصر، وفي كل يوم إثنين وخميس تأتي العساكر إلى بابه فيقفون خارج المشور ساعة وينصرفون، والسلطان لا يخرج ولا يراه أحد إلا في يوم الجمعة، فيخرج للصلاة ثم يعود إلى داره ولا يَمْنَع أحدًا من دخول المشور، وأمير جندار قاعد على بابه وإليه ينتهي كلُّ صاحبِ حاجة أو شكاية، وهو يطالع السلطان ويأتيه الجواب للحين، وإذا أراد السلطان الركوب خَرَجَتْ مراكبه من القصر وسلاحه ومماليكه إلى خارج المدينة، وأُتِيَ بجمل عليه محمل مستور بستر أبيض منقوش بالذهب فيركب السلطان ونديمه في المحمل بحيث لا يُرَى، وإذا خَرَجَ إلى بستانه وأَحَبَّ ركوب الفرس رَكِبَه ونزل عن الجمل، وعادته أن لا يعارضه أحد في طريقه ولا يقف لرؤيته ولا لشكاية ولا غيرها، ومن تَعَرَّضَ لذلك ضُرِبَ أشد الضرب، فتجد الناس إذا سمعوا بخروج السلطان فَرُّوا عن الطريق وتحاموها، ووزير هذا السلطان الفقيه محمد العدني، وكان معلم صبيان، فعَلَّمَ هذا السلطان القراءة والكتابة وعاهده على أن يستوزره إن مَلَكَ، فلما مَلَكَ استوزره فلم يكن يحسنها، فكان الاسم له والحكم لغيره.

ومن هذه المدينة ركبنا البحر نريد عُمَان في مركب صغير لرجل يُعْرَف بعلي بن إدريس المصيري من أهل جزيرة مصيرة، وفي الثاني لركوبنا نزلنا بمرسى حاسك وبه ناس من العرب صيادون للسمك ساكنون هنالك وعندهم شجر الكندر وهو رقيق الورق، وإذا شُرِطَت الورقة منه قَطَرَ منها ماءٌ شبه اللبن ثم عاد صمغًا، وذلك الصمغ هو اللبان وهو كثير جدًّا هنالك، ولا معيشة لأهل ذلك المرسى إلا من صيد السمك، وسَمَكُهُمْ يُعْرَف باللَّخَم (بخاء معجم مفتوح)، وهو شبيه كلب البحر يُشَرَّح ويُقَدَّد ويُقْتَات به، وبيوتهم من عظام السَّمَك وسقفها من جلود الجمال، وسِرْنا من مرسى حاسك أربعة أيام ووصلنا إلى جبل لُمْعان (بضم اللام) وهو في وسط البحر وبأعلاه رابطة مبنية بالحجارة وسقفها من عظام السمك وبخارجها غدير ماء يجتمع من المطر.

ذِكْر وليٍّ لقيناه بهذا الجبل

ولما أرسينا تحت هذا الجبل صعدناه إلى هذه الرابطة فوجدنا بها شيخًا نائمًا فسَلَّمْنَا عليه فاستيقظ وأشار برد السلام، فكلمناه فَلَمْ يُكَلِّمْنا وكان يحرك رأسه، فأتاه أهل المركب بطعام فأبى أن يَقْبَلَه، فطلبنا منه الدعاء فكان يحرك شفتيه ولا نَعْلَم ما يقول، وعليه مُرَقَّعة وقلنسوة لبد وليس معه ركوة ولا إبريق ولا عكاز ولا نعل، وقال أهل المركب: إنهم ما رأوه قط بهذا الجبل، وأقمنا تلك الليلة بساحل هذا الجبل وصلينا معه العصر والمغرب وجئناه بطعام فرده وأقام يصلي إلى العشاء الآخرة ثم أَذَّنَ وصليناها معه، وكان حسن الصوت بالقراءة مجيدًا لها، ولما فرغ من صلاة العشاء الآخرة أومأ إلينا بالانصراف فودَّعْنَاه وانصرفنا ونحن نعجب مِنْ أَمْرِهِ، ثم إني أردْتُ الرجوع إليه لما انصرفنا، فلما دنوت منه هِبْتُهُ وغَلَبَ عليَّ الخوف ورجعت إلى أصحابي وانصرفْتُ معهم، ورَكِبْنا البحر ووصلنا بعد يومين إلى جزيرة الطير، وليست بها عمارة فَأَرْسَيْنَا وصعدنا إليها فوجدناها ملآنة بطيور تشبه الشقاشق إلا أنها أعظم منها، وجاءت الناس ببيضِ تلك الطيور فطبخوها وأكلوها، واصطادوا جملة من تلك الطيور فطبخوها دون ذكاة وأكلوها، وكان يجالسني تاجر من أهل جزيرة مصيرة ساكن بظفار اسمه مسلم، فرأيته يأكل معهم تلك الطيور، فأنكَرْتُ ذلك عليه فاشتدَّ خجله، وقال لي: ظَنَنْتُ أنهم ذبحوها، وانقطع عني بعد ذلك من الخجل، فكان لا يَقْرَبُني حتى أدعو به، وكان طعامي في تلك الأيام بذلك المركب التمر والسمك، وكانوا يصطادون بالغدوِّ والعشى سمكًا يسمى بالفارسية شير ماهي ومعناه أسد السمك؛ لأن شير هو الأسد وماهي السمك، وهو يُشْبِه الحوت المسمَّى عندنا بتازرت، وهم يقطعونه قطعًا ويشوونه ويعطون كل من في المركب قطعة، لا يُفَضِّلُون أحدًا على أحد ولا صاحب المركب ولا سواه، ويأكلونه بالتمر، وكان عندي خبز وكعك استصحبتهما من ظفار، فلما نفدا كنت أقتات من تلك السمك في جملتهم، وعيدنا عيد الأضحى على ظهر البحر، وهبَّتْ علينا في يومه ريح عاصف بعد طلوع الفجر ودامت إلى طلوع الشمس وكادت تغرقنا.

كرامة

وكان معنا في المركب حاج من أهل الهند يُسَمَّى بخضر ويُدْعَى بمولانا؛ لأنه يحفظ القرآن ويُحْسِن الكتابة، فلما رأى هول البحر لَفَّ رأسه بعباءة كانت له وتَنَاوَمَ، فلما فَرَّجَ الله ما نَزَلَ بنا قُلْتُ له: يا مولانا خضر كيف رأيت؟ قال: قد كنت عند الهول أفتح عيني أنظر هل أرى الملائكة الذين يقبضون الأرواح جاءوا فلا أراهم فأقول: الحمد لله لو كان الغرق لأتوا لِقَبْض الأرواح، ثم أُغْلِق عيني، ثم أفتحها فأنظر كذلك إلى أن فَرَّجَ الله عنا، وكان قد تَقَدَّمَنَا مركب لبعض التجار فغرق ولم يَنْجُ منه إلا رجل واحد خَرَجَ عومًا بعد جهد شديد، وأكلت في ذلك المركب نوعًا من الطعام لم آكله قبله ولا بعده صَنَعَهُ بعض تجار عمان وهو من الذرة طبخها من غير طحن وصب عليها السيلان وهو عسل التمر وأكلناه، ثم وصلنا إلى جزيرة مصيرة التي منها صاحب المركب الذي كنا فيه، وهي على لفظ مصير وزيادة تاءة التأنيث؛ جزيرة كبيرة لا عيش لأهلها إلا من السمك، ولم ننزل إليها لبُعْد مرساها عن الساحل، وكنت قد كرهتهم لَمَّا رأيتهم يأكلون الطير من غير ذكاة، وأقمنا بها يومًا وتَوَجَّهَ صاحب المركب فيه إلى داره وعاد إلينا ثم سرنا يومًا وليلة فوصلنا إلى مرسى قرية كبيرة على ساحل البحر تُعْرَف بصور، ورأينا منها مدينة قلهاة في سفح جبل، فخُيِّلَ لنا أنها قريبة، وكان وصولنا إلى المرسى وقْتَ الزوال أو قبله، فلما ظَهَرَتْ لنا المدينة أحببت المشي إليها والمبيت بها.

وكنت قد كَرِهْتُ صحبة أهل المركب، فسألت عن طريقها فأُخْبِرْتُ أني أَصِلُ إليها عند العصر فاكتريت أحد البحريين ليدلني على طريقها، وصحبني خضر الهندي الذي تَقَدَّمَ ذِكْرُه، وتَرَكْتُ أصحابي مع ما كان لي بالمركب ليلحقوا بي في غدِ ذلك اليوم، وأخذت أثوابًا كانت لي فدفعْتُها لذلك الدليل ليكفيني مؤنة حَمْلِها وحملت في يدي رمحًا، فإذا ذلك الدليل يحب أن يستولي على أثوابي فأتى بنا إلى خليج يخرج من البحر فيه المد والجزر، فأراد عبوره بالثياب فقلت له: إنما تَعْبُر وحدك وتترك الثياب عندنا، فإن قَدَرْنَا على الجواز جُزْنَا، وإلا صعدنا نطلب المجاز، فرجع ثم رأينا رجالًا جازوه عومًا فتحققنا أنه كان قَصْدُه أن يُغْرِقَنا ويذهب بالثياب، فحينئذٍ أظهرْتُ النشاط وأخذْتُ بالحزم وشددت وسطي وكنت أهز الرمح فهابني ذلك الدليل، وصعدنا حتى وجدنا مجازًا ثم خرجنا إلى صحراء لا ماء بها وعطسنا واشتد بنا الأمر، فبعث الله لنا فارسًا في جماعة من أصحابه وبيد أحدهم ركوة ماء فسقاني وسقى صاحبي، وذهبنا نحسب المدينة قريبة منا وبيننا وبينها خنادق نمشي فيها الأميال الكثيرة، فلما كان العشي أراد الدليل أن يميل بنا إلى ناحية البحر وهو لا طريق له لأن ساحله حجارة، فأراد أن ننشب فيها ويذهب بالثياب، فقلت له: إنما نمشي على هذه الطريق التي نحن عليها وبينها وبين البحر نحو ميل، فلما أَظْلَمَ الليل قال لنا: إن المدينة قريبة منا فتعالوا نمشي حتى نبيت بخارجها إلى الصباح، فخفت أن يتعرض لنا أحد في طريقنا، ولم أُحَقِّق مقدار ما بقي إليها، فقلت له: إنما الْحَقُّ أن نخرج عن الطريق فننام، فإذا أصبحنا أتينا المدينة إن شاء الله.

وكنت قد رأيت جملة من الرجال في سفح جبل هنالك، فخِفْتُ أن يكونوا لصوصًا وقلت: التَّسَتُّر أَوْلَى، وغلب العطش على صاحبي فلم يوافق على ذلك، فخرجْتُ عن الطريق وقصدْتُ شجرة من شجر أم غيلان وقد أعييت وأدركني الجهد لكني أظهرت قوة وتجلدًا خوف الدليل، وأما صاحبي فمريض لا قوة له، فجعلْتُ الدليل بيني وبين صاحبي، وجعلت الثياب بين ثوبي وجسدي وأمسكْتُ الرمح بيدي ورقد صاحبي ورقد الدليل وبقيت ساهرًا، فكلما تحرك الدليل كَلَّمْتُه وأَرَيْتُه أني مستيقظ، ولم نَزَلْ كذلك حتى أصبح، فخرجنا إلى الطريق فوجدنا الناس ذاهبين بالمرافق إلى المدينة، فبعثت الدليل ليأتينا بماء وأخذ صاحبي الثياب، وكان بيننا وبين المدينة مهاوٍ وخنادق، فأتانا بالماء فشربنا، وذلك أوان الحر، ثم وصلنا إلى مدينة قلهات (وضبط اسمها بفتح القاف وإسكان اللام وآخره تاء مثناة)، فأتيناها ونحن في جهد عظيم، وكنت قد ضاقت نعلي على رجليَّ حتى كاد الدم أن يخرج من تحت أظفارها، فلما وصلنا باب المدينة كان ختام المشقة أن قال لنا الموكل بالباب: لا بد لك أن تذهب معي إلى أمير المدينة ليَعْرِفَ قضيتك ومِنْ أين قَدِمْتَ، فذهبت معه إليه فرأيته فاضلًا حسن الأخلاق، وسألني عن حالي وأنزلني وأقمت عنده ستة أيام لا قدرة لي فيها على النهوض على قدمي لما لحقها من الآلام، ومدينة قلهات على الساحل وهي حسنة الأسواق ولها مسجد من أحسن المساجد، حيطانه بالقشاني وهو شبه الزليج، وهو مرتفع يُنْظَر منه إلى البحر والمرسى وهو من عمارة الصالحة بيبي مريم، ومعنى بيبي عندهم الحرة، وأكلْتُ بهذه المدينة سمكًا لم آكُلْ مثله في إقليم من الأقاليم، وكُنْتُ أُفَضِّلُه على جميع اللحوم فلا آكل سواه، وهم يشوونه على ورق الشجر ويجعلونه على الأرز ويأكلونه، والأرز يُجْلَب إليهم من أرض الهند، وهم أهل تجارة، ومعيشتهم مما يأتي إليهم في البحر الهندي، وإذا وصل إليهم مركب فرحوا به أَشَدَّ الفرح.

وكلامهم ليس بالفصيح مع أنهم عَرَبٌ، وكل كلمة يتكلمون بها يصلونها بلا فيقولون مثلًا: تأكل لا، تمشي لا، تفعل كذا لا، وأكثرهم خوارج لكنهم لا يقدرون على إظهار مذهبهم لأنهم تحت طاعة السلطان قطب الدين تمهتن ملك هرمز وهو من أهل السنة، وبمقربة من قلهات قرية طيبي واسمها على نحو اسم الطيب إذا أضافه المتكلم لنفسه، وهي من أجمل القرى وأبدعها حُسْنًا، ذات أنهار جارية وأشجار ناضرة وبساتين كثيرة، ومنها تُجْلَب الفواكه إلى قلهات وبها الموز المعروف بالمرواري، والمرواري بالفارسية هو الجوهري (المروار الجوهر) وهو كثير بها ويُجْلَب منها إلى هرمز وسواها، وبها أيضًا التنبول لكن ورقته صغيرة، والتمر يُجْلَب إلى هذه الجهات من عمان، ثم قصدنا بلاد عمان فسِرْنا ستة أيام في صحراء، ثم وَصَلْنا بلاد عمان في اليوم السابع وهي خصبة ذات أنهار وأشجار وبساتين وحدائق نخل وفاكهة كثيرة مختلفة الأجناس، ووصلنا إلى قاعدة هذه البلاد وهي مدينة نزوا (وضبط اسمها بنون مفتوح وزاي مسكن وواو مفتوح)، مدينة في سفح جبل تَحُفُّ بها البساتين والأنهار، ولها أسواق حسنة ومساجد معظمة نقية، وعادة أهلها أنهم يأكلون في صحون المساجد، يأتي كل إنسان بما عنده ويجتمعون للأكل في صحن المسجد، ويأكل معهم الوارد والصادر، ولهم نجدة وشجاعة والحرب قائمة فيما بينهم أبدًا، وهم إباضية المذهب ويصلون الجمعة ظهرًا أربعًا، فإذا فرغوا منها قرأ الإمام آيات من القرآن ونثر كلامًا شبه الخطبة يرضى فيه عن أبي بكر وعمر ويسكت عن عثمان وعلي، وهم إذا أرادوا ذِكْر علي رضي الله عنه كَنَّوْا عنه فقالوا: ذُكِرَ عن الرجل أو قال الرجل، ويَرْضَوْن عن الشقي اللعين ابن ملجم ويقولون فيه: العبد الصالح قامع الفتنة، ونساؤهم يُكْثِرْن الفساد ولا غيرة عندهم ولا إنكار لذلك، وسنذكر حكاية إثر هذا مما يَشْهَدُ بذلك.

ذِكْر سلطان عمان

وسلطانها عربي من قبيلة الأزد بن الغوث ويُعْرَف بأبي محمد بن نبهان، وأبو محمد عندهم سمة لكل سلطان يلي عمان كما هي أتابك عن ملوك اللور، وعادته أن يجلس خارج باب داره في مجلس هنالك، ولا حاجب له ولا وزير، ولا يمنع أحدًا من الدخول إليه من غريب أو غيره، ويُكْرِم الضيف على عادة العرب ويعين له الضيافة ويعطيه على قدره، وله أخلاق حسنة ويؤكل على مائدته لحم الحمار الإنسي ويباع بالسوق؛ لأنهم قائلون بتحليله، ولكنهم يخفون ذلك عن الوارد عليهم ولا يُظْهِرُونه بمحضره، ومن مدن عمان مدينة زكي لم أَدْخُلْهَا، وهي على ما ذُكِرَ لي مدينة عظيمة ومنها القريات وشبا وكلبا وخور فكان وصحار، وكلها ذات أنهار وحدائق وأشجار ونخل، وأكثر هذه البلاد في عمالة هرمز.

حكاية

كنت يومًا عند هذا السلطان أبي محمد بن نبهان فأتَتْه امرأة صغيرة السن حسنة الصورة بادية الوجه، فوقَفَتْ بين يديه وقالت له: يا أبا محمد طغى الشيطان في رأسي، فقال لها: اذهبي واطردي الشيطان، فقالت له: لا أستطيع وأنا في جوارك يا أبا محمد، فقال لها: اذهبي فافعلي ما شئت، فذكر لي لما انصرفت عنه أن هذه ومَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِها تكون في جِوَارِ السلطان وتذهب للفساد ولا يقدر أبوها ولا ذو قرابتها أن يغيروا عليها وإن قتلوها قُتِلُوا بها؛ لأنها في جِوَارِ السلطان، ثم سافرت من بلاد عمان إلى بلاد هرمز، وهرمز مدينة على ساحل البحر وتسمى أيضًا موغ استان، وتقابلها في البحر هرمز الجديدة، وبينهما في البحر ثلاثة فراسخ، ووصلنا إلى هرمز الجديدة وهي جزيرة مدينتها تسمى جرون (بفتح الجيم والراء وآخرها نون)، وهي مدينة حسنة كبيرة لها أسواق حافلة وهي مرسى الهند والسند ومنها تُحْمَل سلع الهند إلى العراقين وفارس وخراسان، وهذه المدينة سكنى السلطان، والجزيرة التي فيها المدينة مسيرة يوم وأكثرها سباخ وجبال ملح وهو الملح الداراني ومنه يصنعون الأواني للزينة والمنارات التي يضعون السرج عليها، وطعامهم السمك والتمر المجلوب إليهم من البصرة وعمان، ويقولون بلسانهم: خرما وما هي لوت بادشاهي، معناه بالعربي التمر والسمك طعام الملوك، والماء في هذه الجزيرة له قيمة، وبها عيون ماء وصهاريج مصنوعة يجتمع فيها ماء المطر وهي على بُعْد من المدينة ويأتون إليها بالقِرَب فيملئونها ويرفعونها على ظهورهم إلى البحر يوسقونها في القوارب ويأتون بها إلى المدينة، ورأيت من العجائب عند باب الجامع فيما بينه وبين السوق رأس سمكة كأنه رابية وعيناه كأنهما بابان، فترى الناس يدخلون من إحداهما ويخرجون من الأخرى.

ولقيت بهذه المدينة الشيخ الصالح السائح أبا الحسن الأقصاراني وأصله من بلاد الروم، فأضافني وزارني وألْبَسَنِي ثوبًا وأعطاني كمر الصحبة، وهو يحتبى به فيعين الجالس فيكون كأنه مستند، وأكثر فقراء العجم يتقلدونه، وعلى ستة أميال من هذه المدينة مزار يُنْسَب إلى الخضر وإلياس عليهما السلام، يُذْكَر أنهما يصليان فيه وظهرت له بركات وبراهين، وهنالك زاوية يسكنها أحد المشايخ يخدم بها الوارد والصادر، وأقمنا عنده يومًا وقصدنا من هنالك زيارة رجل صالح منقطع في آخر هذه الجزيرة قد نَحَتَ غارًا لسكناه فيه زاوية ومجلس ودار صغيرة له فيها جارية وله عبيد خارج الغار يرعون بقرًا له وغنمًا، وكان هذا الرجل من كبار التجار، فحج البيت وقطع العلائق وانقطع هنالك للعبادة، ودَفَعَ ماله لرجل من إخوانه يتَّجِر له به، وبتنا عنده ليلة فأحسن القرى وأجمل رضي الله تعالى عنه وسيمة الخير والعبادة لائحة عليه.

ذكر سلطان هرمز

وهو السلطان قطب الدين تمهتن بن طوران شاه (وضبط اسمه بفتح التاءين المعلوتين وبينهما ميم مفتوح وهاء مسكنة وآخره نون)، وهو من كرماء السلاطين كثير التواضع حسن الأخلاق، وعادته أن يأتي لزيارة كلِّ من يقدم عليه من فقيه أو صالح أو شريف ويقوم بحقه، ولما دخلنا جزيرته وجدناه مُهَيَّأ للحرب مشغولًا بها مع ابني أخيه نظام الدين، فكان في كل ليلة يتيسر للقتال، والغلاء مستولٍ على الجزيرة، فأتى إلينا وزيره شمس الدين محمد بن علي وقاضيه عماد الدين الشونكاري وجماعة من الفضلاء، فاعتذروا بما هم عليه من مباشرة الحرب، وأقمنا عندهم ستة عشر يومًا، فلما أَرَدْنَا الانصراف قلت لبعض الأصحاب: كيف ننصرف ولا نرى هذا السلطان؟ فجئنا دار الوزير وكانت في جِوَارِ الزاوية التي نزلت بها، فقلت له: إني أريد السلام على الملك، فقال: باسم الله، وأخذ بيدي فذهب بي إلى داره وهي على ساحل البحر والأجفان مجلسة عندها، فإذا شيخ عليه أقبية ضيقة دنسة وعلى رأسه عمامة وهو مشدود الوسط بمنديل، فسلم عليه الوزير وسَلَّمْتُ عليه ولم أَعْرِفْ أنه الملك، وكان إلى جانبه ابن أخته وهو علي شاه بن جلال الدين الكيجي، وكانت بيني وبينه معرفة، فأنشأت أحادثه وأنا لا أعرف المَلِكَ، فعَرَّفَني الوزير بذلك فخجلت منه لإقبالي بالحديث على ابن أخته دونه واعتذرت إليه، ثم قام فدخل داره وتَبِعَهُ الأمراء والوزراء وأرباب الدولة، ودخلت مع الوزير فوجدناه قاعدًا على سرير مُلْكِه وثيابُه عليه لم يبدلها، وفي يده سبحة جوهر لم تَرَ العيون مثلها؛ لأن مغاصات الجوهر تحت حكمه، فجلس أحد الأمراء إلى جانبه وجلسْتُ إلى جانب ذلك الأمير، وسألني عن حالي ومقدمي وعمن لقيته من الملوك، فأخبرته بذلك، وحضر الطعامُ فأكل الحاضرون ولم يأكل معهم، ثم قام فوادعته وانصرفت.

وسبب الحرب التي بينه وبين ابني أخيه أنه رَكِبَ البحر مرة من مدينته الجديدة برسم النزهة في هرمز القديمة وبساتينها، وبينهما في البحر ثلاثة فراسخ كما قدمناه، فخالف عليه أخوه نظام الدين ودعا لنفسه، وبايَعَهُ أهل الجزيرة وبايعَتْهُ العساكر، فخاف قطب الدين على نفسه وركب البحر إلى مدينة قلهات التي تَقَدَّمَ ذِكْرُها، وهي من جملة بلاده، فأقام بها شهورًا وجهز المراكب وأتى الجزيرة فقاتَلَهُ أهلها مع أخيه وهزموه وعاد إلى قلهات، وفَعَلَ ذلك مرارًا فلم تكن له حيلة إلا أن راسل بعض نساء أخيه فسَمَّتْه ومات، وأتى هو إلى الجزيرة فدخلها وفَرَّ ابنا أخيه بالخزائن والأموال والعساكر إلى جزيرة قيس حيث مغاص الجوهر، وصاروا يقطعون الطريق على من يقصد الجزيرة من أهل الهند والسند، ويُغِيرون على بلاده البحرية حتى تخرب معظمها، ثم سافرنا من مدينة جرون برسم لقاء رجل صالح ببلد خنج بال، فلما عدينا البحر اكترينا دواب من التركمان وهم سكان تلك البلاد ولا يسافر فيها إلا معهم لشجاعتهم ومعرفتهم بالطرق، وفيها صحراء مسيرة أربع يقطع بها الطريق لصوص الأعراب وتهب فيها ريح السموم في شهري تموز وحزيران فمن صادفته فيها قتلته، ولقد ذُكِرَ لي أن الرجل إذا قَتَلَتْه تلك الريح وأراد أصحابه غسله ينفصل كل عضو منه عن سائر الأعضاء، وبها قبور كثيرة للذين ماتوا فيها بهذه الريح، وكنا نسافر فيها بالليل، فإذا طلعت الشمس نزلنا تحت ظلال الأشجار من أم غيلان ونرحل بعد العصر إلى طلوع الشمس، وفي هذه الصحراء وما والاها كان يقطع الطريق بها جمال اللك (اللوك) الشهير الاسم هنالك.

حكاية

كان جمال اللك من أهل سجستان أعجمي الأصل (واللك بضم اللام) معناه الأقطع، وكانت يده قُطِعَتْ في بعض حروبه، وكانت له جماعة كثيرة من فرسان الأعراب والأعاجم يقطع بهم الطرق، وكان يبني الزوايا ويطعم الوارد والصادر من الأموال التي يسلبها من الناس، ويقال: إنه كان يدعو أن لا يُسَلَّطَ إلا على من لا يزكي ماله، وأقام على ذلك دهرًا وكان يُغِير هو وفرسانه ويسلكون براري لا يَعْرِفها سواهم ويَدْفِنُون بها قِرَب الماء ورواياه، فإذا تَبِعَهُم عسكر السلطان دخلوا الصحراء واستخرجوا المياه، ويرجع العسكر عنهم خوفًا من الهلاك.

وأقام على هذه الحالة مدة لا يقدر عليه ملك العراق ولا غيره، ثم تاب وتَعَبَّدَ حتى مات، وقبره يزار ببلده، وسلكنا هذه الصحراء إلى أن وصلنا إلى كوراستان (وضبط اسمه بفتح الكاف وإسكان الواو وراء)، وهو بلد صغير فيه الأنهار والبساتين وهو شديد الحر، ثم سرنا منه ثلاثة أيام في صحراء مثل التي تَقَدَّمَتْ ووصلنا إلى مدينة لار (وآخر اسمها راء)، مدينة كبيرة كثيرة العيون والمياه المطردة والبساتين، ولها أسواق حسان، ونزلنا منها بزاوية الشيخ العابد أبي دلف محمد، وهو الذي قصدْنا زيارته بخنج بال، وبهذه الزاوية ولده أبو زيد عبد الرحمن ومعه جماعة من الفقراء، ومن عادتهم أنه يجتمعون بالزاوية بعد صلاة العصر من كل يوم، ثم يطوفون على دور المدينة فيعطاهم من كل دار الرغيف والرغيفان فيُطْعِمون منها الوارد والصادر، وأهل الدور قد ألفوا ذلك فهُم يجعلونه في جملة قوتهم ويعدونه لهم إعانة على إطعام الطعام، وفي كل ليلة جمعة يجتمع بهذه الزاوية فقراء المدينة وصلحاؤها ويأتي كل منهم بما تيسر له من الدراهم فيجمعونها وينفقونها تلك الليلة، ويبيتون في عبادة من الصلاة والذكر والتلاوة، وينصرفون بعد صلاة الصبح.

ذكر سلطان لار

وبهذه المدينة سلطان يسمى بجلال الدين تركماني الأصل، بعث إلينا بضيافة ولم نجتمع به ولا رأيناه ثم سافرنا إلى مدينة خنج بال (وضبط اسمها بضم الخاء المعجم وقد يعوض منه هاء، وإسكان النون وضم الجيم وباء معقودة وألف ولام)، وبها سكنى الشيخ أبي دلف الذي قصدْنا زيارته وبزاويته نزلنا، ولما دخلت الزاوية رأيته قاعدًا بناحية منها على التراب وعليه جبة صوف خضراء بالية وعلى رأسه عمامة صوف سوداء، فسلَّمْتُ عليه فأحسن الرد وسألني عن مَقْدِمي وبلادي وأنزلني، وكان يبعث إليَّ الطعام والفاكهة مع ولد له من الصالحين كثير الخشوع والتواضع صائم الدهر كثير الصلاة؛ ولهذا الشيخ أبي دلف شأن عجيب وأمر غريب، فإن نفقته في هذه الزاوية عظيمة وهو يعطي العطاء الجزيل ويكسو الناس ويُرْكِبهم الخيل ويُحْسِن لكل وارد وصادر، ولم أَرَ في تلك البلاد مِثْلَه ولا يُعْلَم له جهة إلا ما يصله من الإخوان والأصحاب، حتى زعم كثير من الناس أنه يُنْفِق من الكون.

وفي زاويته المذكورة قبر الشيخ الولي الصالح القطب دانيال، وله اسم بتلك البلاد شهير وشأن في الولاية كبير، وعلى قبره قبة عظيمة بناها السلطان قطب الدين تمهتن بن طوران شاه، وأقمت عند الشيخ أبي دلف يومًا واحدًا لاستعجال الرفقة التي كنت في صُحْبَتها، وسمعت أن بالمدينة خنج بال المذكورة زاوية فيها جملة من الصالحين المتعبدين، فرُحْتُ إليها بالعشي وسلمت على شيخهم وعليهم، ورأيت جماعة مباركة قد أَثَّرَتْ فيهم العبادة فهم صُفر الألوان نحاف الجسوم كثيرو البكاء غزيرو الدموع، وعند وصولي إليهم أتوا بالطعام فقال كبيرهم: ادعوا لي ولدي محمدًا، وكان معتزلًا في بعض نواحي الزاوية، فجاء إلينا الولد وهو كأنما خرج من قبر مما نهكته العبادة فسلم وقعد فقال له أبوه: يا بني شارك هؤلاء الواردين في الأكل تَنَلْ من بركاتهم، وكان صائمًا فأفطر معنا، وهم شافعية المذهب، فلما فَرَغْنا من أكل الطعام دعوا لنا وانصرفنا، ثم سافرنا منها إلى مدينة قيس وتسمى أيضًا سيراف، وهي على ساحل بحر الهند المتصل ببحر اليمن وفارس وعدادها في كور فارس، مدينة لها انفساح وسعة طيبة البقعة في دورها بساتين عجيبة فيها الرياحين والأشجار الناضرة وشرب أهلها من عيون منبعثة من جبالها، وهم عجم من الفرس أشراف، وفيهم طائفة من عرب بني سفاف، وهم الذين يغوصون على الجوهر.

ذكر مغاص الجوهر

ومغاص الجوهر فيما بين سيراف والبحرين في خور راكد مثل الوادي العظيم، فإذا كان شهر إبريل وشهر مايو تأتي إليه القوارب الكثيرة فيها الغواصون وتجار فارس والبحرين والقطيف، ويجعل الغواص على وجهه مهما أراد أن يغوص شيئًا يكسوه من عظم الغيلم وهي السلحفاة، ويصنع من هذا العظم أيضًا شكلًا شبه المقراض يشده على أنفه ثم يربط حبلًا في وسطه ويغوص، ويتفاوتون في الصبر في الماء، فمنهم من يصبر الساعة والساعتين فما دون ذلك، فإذا وصل إلى قعر البحر يجد الصدف هنالك فيما بين الأحجار الصغار مثبتًا في الرمل فيقتلعه بيده أو يقطعه بحديدة عنده معَدَّة لذلك، ويجعلها في مخلاة جلد منوطة بعنقه، فإذا ضاق نَفَسه حرك الحبل فيحس به الرجل الممسك للحبل على الساحل فيرفعه إلى القارب فتؤخذ منه المخلاة ويفتح الصدف فيوجد في أجوافها قِطَع لحم تُقْطَع بحديدة، فإذا باشرت الهواء جمدت فصارت جواهر فيجمع جميعها من صغير وكبير، فيأخذ السلطان خُمُسَه والباقي يشتريه التجار الحاضرون بتلك القوارب، وأكثرهم يكون له الدَّيْن على الغواصين فيأخذ الجوهر في دينه أو ما وجب له منه.

ثم سافرنا من سيراف إلى مدينة البحرين وهي مدينة كبيرة حسنة ذات بساتين وأشجار وأنهار، وماؤها قريب المؤنة يحفر عليه بالأيدي فيوجد، وبها حدائق النخل والرمان والأترج ويُزْرَع بها القطن، وهي شديدة الحر كثيرة الرمال وربما غلب الرمل على بعض منازلها وكان فيما بينها وبين عمان طريق استولت عليه الرمال وانقطع فلا يوصل من عمان إليها إلا في البحر، وبالقرب منها جبلان عظيمان يسمى أحدهما بكسير وهو في غربيها ويسمى الآخر بعوير وهو في شرقيها، وبهما ضُرِبَ المثل فقيل كسير وعوير وكل غير خير، ثم سافرنا إلى مدينة القطيف (وضبط اسمها بضم القاف) كأنه تصغير قطف، وهي مدينة كبيرة حسنة ذات نخل كثير يسكنها طوائف العرب، وهم رافضية غلاة يظهرون الرفض جهارًا لا يتقون أحدًا، ويقول مؤذنهم في أذانه بعد الشهادتين: أشهد أن عليًّا ولي الله، ويزيد بعد الحيعلتين: حي على خير العمل، ويزيد بعد التكبير الأخير: محمد وعلي خير البشر من خالفهما فقد كفر، ثم سافرنا منها إلى مدينة هجر وتسمى الآن بالحسا (بفتح الحاء والسين وإهمالها)، وهي التي يُضْرَب المثل بها فيقال: كجالب التمر إلى هجر، وبها من النخيل ما ليس ببلد سواها ومنه يعلفون دوابهم، وأهلها عرب وأكثرهم من قبيلة عبد القيس بن أفصى، ثم سافرنا منها إلى مدينة اليمامة وتُسَمَّى أيضًا بحجر (بفتح الحار المهمل وإسكان الجيم)، مدينة حسنة خصبة ذات أنهار وأشجار يسكنها طوائف من العرب أكثرهم من بني حنيفة وهي بلدهم قديمًا وأميرهم طفيل بن غانم، ثم سافرت منها في صحبة هذا الأمير برسم الحج وذلك في سنة ثنتين وثلاثين، فوصلت إلى مكة شرفها الله تعالى، وحج في تلك السنة الملك الناصر سلطان مصر رحمه الله وجملة من أمرائه، وهي آخر حجة حجها، وأجزل الإحسان لأهل الحرمين الشريفين وللمجاورين، وفيها قُتِلَ الملك الناصر أمير أحمد الذي يُذْكَر أنه ولده، وقُتِلَ أيضًا كبير أمرائه بكتمور الساقي.

حكاية

ذُكِرَ أن الملك الناصر وهب لبكتمور الساقي جارية، فلما أراد الدنو منها قالت له: إني حامل من الملك الناصر، فاعتزلها وولدت ولدًا سماه بأمير أحمد ونشأ في حجره فظهرت نجابته واشتهر بابن الملك الناصر، فلما كان في هذه الحجة تعاهدا على الفتك بالملك الناصر وأن يتولى أمير أحمد الملك، وحمل بكتمور معه العلامات والطبول والكسوات والأموال، فنمى الخبر إلى الملك الناصر، فبعث إلى أمير أحمد في يوم شديد الحر فدخل عليه وبين يديه أقداح الشرب، فشرب الملك الناصر قدحًا وناول أمير أحمد قدحًا ثانيًا فيه السم فشربه، وأمر بالرسيل في تلك الساعة ليشغل الوقت، فرحل الناس ولم يبلغوا المنزل حتى مات أمير أحمد فاكترث بكتمور لموته وقطع أثوابه وامتنع من الطعام والشراب وبلغ خبره إلى الملك الناصر فأتاه بنفسه ولاطفه وسلاه، وأخذ قدحًا فيه سم فناوله إياه وقال له: بحياتي عليك إلا شربْتَ فبردتْ نار قلبك، فشربه ومات من حينه، ووجد عنده خلع السلطنة والأموال، فتحقق ما نسب إليه من الفتك بالملك الناصر، ولما انقضى الحج توجهْتُ إلى جدة برسوم ركوب البحر إلى اليمن والهند فلم يُقْضَ لي ذلك ولا تأتى لي رفيق، وأقمت بجدة نحو أربعين يومًا وكان بها مركب لرجل يُعْرَف بعبد الله التونسي يروم السفر إلى القصير من عمالة قوص، فصعدت إليه لأنظر حاله فلم يرضني ولا طابت نفسي بالسفر فيه، وكان ذلك لطفًا من الله تعالى، فإنه سافر فلما توسط البحر غرق بموضع يقال له: رأس أبي محمد، فخرج صاحبه وبعض التجار في العشارى بعد جهد عظيم، وأشرفوا على الهلاك وهلك بعضهم وغرق سائر الناس، وكان فيه نحو سبعين من الحجاج.

ثم ركبت البحر بعد ذلك في صنبوق برسم عيذاب فردَّتْنا الريح إلى مرسًى يُعْرَف برأس دواير، وسافرنا منه في البر مع البجاة فسلكنا صحراء كثيرة النعام والغزلان، فيها عرب جهينة وبني كاهل وطاعتهم للبجاة، ووردنا ماء يُعْرَف بمفرور وماء يُعْرَف بالجديد، ونفد زادنا فاشترينا من قوم من البجاة وجدناهم بالفلاة أغنامًا وتزودنا لحومها، ورأيت بهذه الفلاة صبيًّا من العرب كلمني باللسان العربي وأخبرني أن البجاة أَسَرُوه وزعم أنه منذ عام لم يأكل طعامًا إنما يقتات بلبن الإبل، ونفد لنا بعد ذلك اللحم الذي اشتريناه ولم يَبْقَ لنا زاد وكان عندي نحو حمل من التمر الصيحاني والبرني برسم الهدية لأصحابي ففرَّقْتُه على الرفقة وتزودناه ثلاثًا، وبعد مسيرة تسعة أيام من رأس دواير وصلنا إلى عيذاب، وكان قد تَقَدَّمَ إليها بعض الرفقة فتلقانا أهلها بالخبز والتمر والماء، وأقمنا بها أيامًا واكترينا الجمال وخرجنا صحبة طائفة من عرب دغيم ووردنا ماء يُعْرَف بالجنيب، ولعله «الخبيب» وحللنا بحميثرا حيث قبر ولي الله تعالى أبي الحسن الشاذلي، وحصلتْ لنا زيارته ثانية وبِتْنا في جواره.

ثم وصلنا إلى قرية العطواني وهي على ضفة النيل مقابلة لمدينة أدفو من الصعيد الأعلى وأجزنا النيل إلى مدينة إسنا ثم إلى مدينة أرمنت ثم إلى الأقصر، وزرنا الشيخ أبا الحجاج الأقصري ثانية، ثم إلى مدينة قوص ثم إلى مدينة قنا وزرنا الشيخ عبد الرحيم القناوي ثانية، ثم إلى مدينة هو، ثم إلى أخميم، ثم إلى مدينة أسيوط ثم إلى مدينة منفلوط، ثم إلى مدينة منلوي، ثم إلى مدينة الأشمونين ثم إلى مدينة منية ابن الخصيب، ثم إلى مدينة البهنسة ثم إلى مدينة بوش ثم إلى مدينة منية القائد، وقد تَقَدَّمَ لنا ذِكْر هذه البلاد، ثم إلى مصر وأقمت بها أيامًا وسافرت على طريق بلبيس إلى الشام ورافَقَني الحاج عبد الله بن أبي بكر بن الفرحان التوزري، ولم يزل في صحبتي سنين إلى أن خرجنا من بلاد الهند فتوفي بسندابور وسنذكر ذلك، فوصلنا إلى مدينة غزة ثم إلى مدينة الخليل عليه السلام، وتكرَّرَتْ لنا زيارته ثم إلى بيت المقدس ثم إلى مدينة الرملة ثم إلى مدينة عكا ثم إلى مدينة طرابلس ثم إلى مدينة جبلة وزرنا إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه ثانية، ثم إلى مدينة اللاذقية، وقد تقدم لنا ذِكْر هذه البلاد كلها، ومن اللاذقية ركبنا البحر في قرقورة كبيرة للجنويين يسمى صاحبها بمرتلمين، وقصدنا بر التركية المعروف ببلاد الروم وإنما نسبت إلى الروم؛ لأنها كانت بلادهم في القديم ومنها الروم الأقدمون واليونانية، ثم استفتحها المسلمون، وبها الآن كثير من النصارى تحت ذمة المسلمين من التركمان، وسِرْنا في البحر عشرًا بريح طيبة وأكرمنا النصراني ولم يأخذ منا نولًا.

وفي العاشر وصلنا إلى مدينة العلايا وهي أول بلاد الروم وهذا الإقليم المعروف ببلاد الروم من أحسن أقاليم الدنيا، وقد جمع الله فيه ما تفرَّق من المحاسن في البلاد فأهله أجمل الناس صورًا وأنظفهم ملابس وأطيبهم مطاعم وأكثر خلق الله شفقة؛ ولذلك يقال: البركة في الشام والشفقة في الروم، وإنما عنى به أهل هذه البلاد، وكنا متى نزلنا بهذه البلاد زاوية أو دارًا يتفقد أحوالنا جيراننا من الرجال والنساء، وهن لا يحتجبن، فإذا سافرنا عنهم ودَّعونا كأنهم أقاربنا وأهلنا وترى النساء باكيات لفراقنا متأسفات، ومن عادتهم بتلك البلاد أن يخبزوا الخبز في يوم واحد من الجمعة يُعِدُّون فيه ما يقوتهم سائرها، فكان رجالهم يأتون إلينا بالخبز الحار في يوم خبزه ومعه الإدام الطيب إطرافًا لنا بذلك، ويقولون لنا: إن النساء بَعَثْنَ هذا إليكم وهن يطلبن منكم الدعاء، وجميع أهل هذه البلاد على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه مقيمين على السنة لا قَدَرِيَّ فيهم ولا رافضي ولا معتزلي ولا خارجي ولا مبتدع، وتلك فضيلة خصهم الله تعالى بها، إلا أنهم يأكلون الحشيش ولا يعيبون ذلك، ومدينة العلايا التي ذكرناها كبيرة على ساحل البحر يسكنها التركمان وينزلها تجار مصر وإسكندرية والشام، وهي كثيرة الخشب ومنها يحمل إلى إسكندرية ودمياط ويحمل منها إلى سائر بلاد مصر، ولها قلعة بأعلاها عجيبة منيعة بناها السلطان المعظم علاء الدين الرومي، ولقيت بهذه المدينة قاضيها جلال الدين الأرزنجاني، وصعد معي إلى القلعة يوم الجمعة فصلينا بها وأضافني وأكرمني وأضافني أيضًا بها شمس الدين بن الرجيحاني الذي توفي أبوه علاء الدين بمالي من بلاد السودان.

ذكر سلطان العلايا

وفي يوم السبت ركب معي القاضي جلال الدين وتوجهنا إلى لقاء ملك العلايا وهو يوسف بك، ومعنى بك الملك ابن قرمان (بفتح القاف والراء)، ومسكنه على عشرة أميال من المدينة فوجدناه قاعدًا على الساحل وحده فوق رابية هنالك والأمراء والوزراء أسفل منه والأجناد عن يمينه ويساره وهو مخضوب الشعر بالسواد، فسلمْتُ عليه وسألني عن مقدمي فأخبرته عما سأل وانصرفت عنه وبعث إلي إحسانًا، وسافرت من هنالك إلى مدينة أنطالية (وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان النون وفتح الطاء المهمل وألف ولام مكسور وياء آخر الحروف)، وأما التي بالشام فهي أنطاكية على وزنها إلا أن الكاف عِوَض عن اللام، وهي من أحسن المدن متناهية في اتساع الساحة والضخامة أجمل ما يُرَى من البلاد وأكثره عمارة وأحسنه ترتيبًا وكل فرقة من سكانها منفردة بأنفسها عن الفرقة الأخرى، فتجار النصارى ماكثون منها بالموضع المعروف بالميناء، وعليهم سور تُسَدُّ أبوابه عليهم ليلًا وعند صلاة الجمعة، والروم الذين كانوا أهلها قديمًا ساكنون بموضع آخر منفردين به وعليهم أيضًا سور، واليهود في موضع آخر وعليهم سور، والملك وأهل دولته ومماليكه يسكنون ببلدة عليها أيضًا سور يحيط بها ويفرق بينها وبين ما ذكرناه من الفرق وسائر الناس من المسلمين يسكنون المدينة العظمى، وبها مسجد جامع ومدرسة وحمامات كثيرة وأسواق ضخمة مرتَّبة بأبدع ترتيب، وعليها سور عظيم يحيط بها وبجميع المواضع التي ذكرناها، وفيها البساتين الكثيرة والفواكه الطيبة والمشمش العجيب المسمى عندهم بقمر الدين وفي نواته لوز حلو وهو ييبس ويحمل إلى ديار مصر وهو بها مستظرَف، وفيها عيون الماء الطيب العذب الشديد البرودة في أيام الصيف، نزلنا من هذه المدينة بمدرستها وشيخها شهاب الدين الحموي، ومن عادتهم أن يقرأ جماعة من الصبيان بالأصوات الحسان بعد العصر من كل يوم في المسجد الجامع وفي المدرسة أيضًا سورة الفتح وسورة الملك وسورة عم.

ذكر الأخية الفتيان

وأحد الأخية أخي على لفظ الأخ إذا أضافه المتكلم إلى نفسه، وهم بجميع البلاد التركمانية الرومية في كل بلد ومدينة وقرية، ولا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالًا بالغرباء من الناس وأسرع إلى إطعام الطعام وقضاء الحوائج والأخذ على أيدي الظلمة وقتْل الشرط ومن لحق بهم من أهل الشر، والأخي عندهم رجل يجتمع أهل صناعته وغيرهم من الشبان الأعزاب والمتجردين ويقدمونه على أنفسهم، وتلك هي الفتوة أيضًا، ويبني زاوية ويجعل فيها الفرش والسرج وما يحتاج إليه من الآلات ويخدم أصحابه بالنهار في طلب معايشهم ويأتون إليه بعد العصر بما يجتمع لهم، فيشترون به الفواكه والطعام إلى غير ذلك مما ينفق في الزاوية، فإن وَرَدَ في ذلك اليوم مسافر على البلد أَنْزَلُوه عندهم، وكان ذلك ضيافته لديهم، ولا يزال عندهم حتى ينصرف، وإن لم يَرِدْ وارد اجتمعوا هم على طعامهم فأكلوا وغنوا ورقصوا وانصرفوا إلى صناعتهم بالغد وأتوا بعد العصر إلى مقدمهم بما اجتمع لهم ويسمون بالفتيان ويسمى مقدمهم كما ذكرنا الأخي، ولم أَرَ في الدنيا أجمل أفعالًا عنهم ويشبههم في أفعالهم أهل شيراز وأصفهان إلا أن هؤلاء أحب في الوارد والصادر وأعظم إكرامًا له وشفقة عليه، وفي الثاني من يوم وصولنا إلى هذه المدينة أتى أحد هؤلاء الفتيان إلى الشيخ شهاب الدين الحموي وتكلم معه باللسان التركي ولم أكن يومئذٍ أفهمه، وكان عليه أثواب خلقة وعلى رأسه قلنسوة لبد، فقال لي الشيخ: أتعلم ما يقول هذا الرجل؟ فقلت: لا أعلم ما قال، فقال لي: إنه يدعوك إلى ضيافته أنت وأصحابك، فعجبْتُ منه، وقلت له: نعم، فلما انصرف قلت للشيخ: هذا رجل ضعيف ولا قدرة له على تضييفنا، ولا نريد أن نكلفه، فضحك الشيخ وقال لي: هذا أحد شيوخ الفتيان الأخية وهو من الخرازين وفيه كَرَمُ نفس، وأصحابه نحو مائتين من أهل الصناعات قد قَدَّمُوه على أنفسهم وبَنَوْا زاوية للضيافة، وما يجتمع لهم بالنهار أنفقوه بالليل، فلما صليت المغرب عاد إلينا ذلك الرجل وذهبنا معه إلى زاويته فوجدناها زاوية حسنة مفروشة بالبسط الرومية الحسان وبها الكثير من ثريات الزجاج العراقي.

وفي المجلس خمسة من البياسيس، والبيسوس شبه المنارة من النحاس له أرجل ثلاث وعلى رأسه شبه جلاس من النحاس وفي وسطه أنبوب للفتيلة ويملأ من الشحم المذاب وإلى جانبه آنية نحاس ملآنة بالشحم وفيها مقراض لإصلاح الفتيل وأحدهم مُوكَل بها ويسمى عندهم الخراجي (الجراغجي)، وقد اصْطَفَّ في المجلس جماعة من الشبان ولباسهم الأقبية وفي أرجلهم الأخفاف وكل واحد منهم متحزم على وسطه سكين في طول ذراعين وعلى رءوسهم قلانس بيض من الصوف بأعلى كل قلنسوة قطعة موصولة بها في طول ذراع وعرض أصبعين، فإذا استقر بهم المجلس نزع كل واحد منهم قلنسوته ووضعها بين يديه وتبقى على رأسه قلنسوة أخرى من الزردخاني وسواه حسنة المنظر، وفي وسط مجلسهم شبه مرتبة موضوعة للواردين، ولما استقرينا المجلس عندهم أتوا بالطعام الكثير والفاكهة والحلواء، ثم أخذوا في الغناء والرقص فراقنا حالهم وطال عجبنا من سماحهم وكرم أنفسهم، وانصرفنا عنهم آخر الليل وتركناهم بزاويتهم.

ذكر سلطان أنطالية

وسلطانها خضر بك بن يونس بك، وَجَدْناه عند وصولنا إليها عليلًا، فدخلنا عليه بداره وهو في فراش المرض، فكلَّمَنا بألطف كلام وأحسنه وودَّعْنَاه وبعث إلينا بإحسان، وسافرنا إلى بلدة بردور (وضبط اسمها بضم الباء الموحدة وإسكان الراء وضم الدال المهمل وواو وراء)، وهي بلدة صغيرة كثيرة البساتين والأنهار ولها قلعة في رأس جبل شاهق نزلنا بدار خطيبها واجتمعت الأخية وأرادوا نزولنا عندهم، فأبى عليهم الخطيب فصنعوا لنا ضيافة في بستان لأحدهم وذهبوا بنا إليها، فكان من العجائب إظهارهم السرور بنا والاستبشار والفرح وهم لا يَعْرِفون لساننا ونحن لا نَعْرِف لسانهم ولا ترجمان فيما بيننا، وأَقَمْنَا عندهم يومًا وانصرفنا، ثم سافرنا من هذه البلدة إلى بلدة سبرنا (وضبط اسمها بفتح السين المهمل والباء الموحدة وإسكان الراء وفتح التاء المعلوة وألف)، وهي بلدة حسنة العمارة والأسواق كثيرة البساتين والأنهار لها قلعة في جبل شامخ وصلنا إليها بالعشي ونزلنا عند قاضيها، وسافرنا منها إلى مدينة أكريدور (وضبط اسمها بفتح الهمزة وسكون الكاف وكسر الراء وياء مد ودال مهمل مضموم وواو مد وراء)، مدينة عظيمة كثيرة العمارة حسنة الأسواق ذات أنهار وأشجار وبساتين، ولها بحيرة عذبة الماء، يسافر المركب فيها يومين إلى أقشهر وبقشهر وغيرهما من البلاد والقرى، ونزلنا منها بمدرسة تقابل الجامع الأعظم بها المدرس العالم الحاج المجاور الفاضل مصلح الدين قرأ بالديار المصرية والشام وسكن بالعراق، وهو فصيح اللسان حسن البيان أطروفة من طرف الزمان أكرمنا غاية الإكرام وقام بحقنا أحسن قيام.

ذكر سلطان أكريدور

وسلطانها أبو إسحاق بك بن الدندار بك من كبار سلاطين تلك البلاد، سكن ديار مصر أيام أبيه وحج وله سِيَر حسنة، ومن عادته أنه يأتي كل يوم إلى صلاة العصر بالمسجد الجامع، فإذا قُضِيَتْ صلاة العصر استند إلى جدار القبلة وقعد القراء بين يديه على مصطبة خشب عالية فقرءوا سورة الفتح والملك وعَمَّ بأصوات حسان فعالة في النفوس تَخْشَع لها القلوب وتقشعر الجلود وتدمع العيون، ثم ينصرف إلى داره، وأظلَّنَا عنده شهرُ رمضان، فكان يقعد في كل ليلة منه على فراش لاصق بالأرض من غير سرير ويستند إلى مخدة كبيرة ويجلس الفقيه مصلح الدين إلى جانبه وأجلس إلى جانب الفقيه ويلينا أرباب دولته وأمراء حضرته، ثم يؤتى بالطعام فيكون أول ما يفطر عليه ثريد في صحفة صغيرة عليه العدس مسقيٌّ بالسمن والسكر ويقدمون الثريد تبركًا، ويقولون: إن النبي فضَّلَه على سائر الطعام، فنحن نبدأ به لتفضيل النبي له، ثم يؤتى بسائر الأطعمة وهكذا فِعْلُهم في جميع ليالي رمضان، وتوفي في بعض تلك الأيام ولد السلطان فلم يزيدوا على بكاء الرحمة كما يفعله أهل مصر والشام خلافًا لما قدمناه من فعل أهل اللور حين مات ولد سلطانهم، فلما دُفِنَ أقام السلطان والطلبة ثلاثة أيام يخرجون إلى قبره بعد صلاة الصبح، وفي ثاني يوم مِنْ دَفْنه خرجْتُ مع الناس فرآني السلطان ماشيًا على رجلي فبعث لي بفرس واعتذر، فلما وصلْتُ المدرسة بعثت الفرس فرده وقال: إنما أعطيته عطية لا عارية، وبعث إلي بكسوة ودراهم، فانصرفنا إلى مدينةِ قُلْ حِصَار (وضبط اسمها بضم القاف وإسكان اللام ثم حاء مهمل مكسور وصاد مهمل وآخره راء)، مدينة صغيرة بها المياه من كل جانب قد نبتت فيها القصب فلا طريق لها إلا طريق كالجسر مهيأ ما بين القصب والمياه لا يسع إلا فارسًا واحدًا، والمدينة على تل في وسط المياه منيعة لا يقدر عليها، ونزلنا بزاوية أحد الفتيان الأخية بها.

ذكر سلطان قل حصار

وسلطانها محمد جلبي، وجلبي (بجيم معقود ولام مفتوحين وباء موحدة وياء)، وتفسيره بلسان الروم سيدي وهو أخو السلطان أبي إسحاق ملك أكريدور، ولما وصلنا بمدينته كان غائبًا عنها فأقمنا بها أيامًا، ثم قدم فأكرمنا وأركبنا وزدنا وانصرفنا على طريق قرا أغاج وقرا (بفتح القاف)، تفسيره أسود (وأغاج بفتح الهمزة والغين المعجم وآخره جيم)، تفسيره الخشب وهي صحراء خضرة يسكنها التركمان وبعث معنا السلطان فرسانًا يبلغوننا إلى مدينة لاذق بسبب أن هذه الصحراء يقطع الطريق فيها طائفة يقال لهم: الجرميان، يُذْكَر أنهم من ذرية يزيد بن معاوية، ولهم مدينة يقال لها كوتاهية، فعَصَمَنا الله منهم، ووصلنا إلى مدينة لاذِق (وهي بكسر الذال المعجم وبعده قاف)، وتسمى أيضًا دون غزله وتفسيره بلد الخنازير، وهي من أبدع المدن وأضخمها وفيها سبعة من المساجد لإقامة الجمعة ولها البساتين الرائقة والأنهار المطَّردة والعيون المنبعة، وأسواقها حِسَان وتُصْنَع بها ثياب قطن مُعَلَّمة بالذهب لا مثل لها، تطول أعمارها لصحة قطنها وقوة غزلها، وهذه الثياب معروفة بالنسبة إليها وأكثر الصناع بها نساء الروم، وبها من الروم كثير تحت الذمة وعليهم وظائف للسلطان من الجزية وسواها، وعلامة الروم بها القلانس الطوال منها الحمر والبيض، ونساء الروم لهن عمائم كبار، وأهل هذه المدينة لا يُغَيِّرون المنكر؛ بل كذلك أهل هذا الإقليم كله، وهم يشترون الجواري الروميات الحسان ويتركونهن للفساد، وكل واحدة عليها وظيف لمالكها تؤديه له، وسمعت هنالك أن الجواري يدخلن الحمام مع الرجال، فمن أراد الفساد فعل ذلك بالحمام من غير مُنْكِر عليه، وذُكِرَ لي أن القاضي بها له جَوَارٍ على هذه الصورة.

وعند دخولنا لهذه المدينة مررنا بسوق لها فنزل إلينا رجال من حوانيتهم وأخذوا بأعنة خلينا ونازعهم في ذلك رجال آخرون وطال بينهم النزاع حتى سل بعضهم السكاكين على بعض، ونحن لا نعلم ما يقولون، فخفنا منهم وظنَنَّا أنهم الجرميان الذين يقطعون الطرق، وأن تلك مدينتهم وحسبنا أنهم يريدون نهبنا، ثم بعث الله لنا رجلًا حاجًّا يَعْرِف اللسان العربي، فسألته عن مرادهم منا فقال: إنهم من الفتيان، وإن الذين سبقوا إلينا أولادهم أصحاب الفتى أخي سنان والآخرون أصحاب الفتى أخي طومان، وكل طائفة ترغب أن يكون نزولكم عندهم، فعجبنا من كرم نفوسهم، ثم وَقَعَ بينهم الصلح على المقارعة، فمن كانت قرعته نزلنا عنده أولًا، فوقَعَتْ قرعة أخي سنان وبلغه ذلك فأتى إلينا في جماعة من أصحابه فسلموا علينا، ونزلنا بزاوية له وأتي بأنواع الطعام ثم ذهب بنا إلى الحمام ودخل معنا وتولى خدمتي بنفسه وتولى أصحابه خدمة أصحابي يخدم الثلاثة والأربعة الواحد منهم، ثم خرجنا من الحمام فأتوا بطعام عظيم وحلواء وفاكهة كثيرة، وبعد الفراغ من الأكل قرأ القراء آيات من الكتاب العزيز، ثم أخذوا في السماع والرقص وأعلموا السلطان بخبرنا، فلما كان من الغد بعث في طلبنا بالعشي فتوجهنا إليه وإلى ولده كما نذكره، ثم عُدْنَا إلى الزاوية فألفينا الأخي طومان وأصحابه في انتظارنا، فذهبوا بنا إلى زاويتهم ففعلوا في الطعام والحمام مثل أصحابهم وزادوا عليهم أن صبوا علينا ماء الورد صبًّا بعد خروجنا من الحمام، ثم مضوا بنا إلى الزاوية ففعلوا أيضًا من الاحتفال في الأطعمة والحلواء والفاكهة وقراءة القرآن بعد الفراغ من الأكل ثم السماع والرقص كمثل ما فَعَلَهُ أصحابهم أو أحسن، وأقمنا عندهم بالزاوية أيامًا.

ذكر سلطان لاذق

وهو السلطان يننج بك (واسمه بياء آخر الحروف مفتوحة ثم نونين أولاهما مفتوحة والثانية مسكنة وجيم)، وهو من كبار سلاطين بلاد الروم، ولما نزلنا بزاوية أخي سنان كما قدمناه بَعَثَ إلينا الواعظ المذكر العالم علاء الدين القسطموني، واستصحب معه خيلًا بعددنا، وذلك في شهر رمضان، فتوجهنا إليه وسلمنا عليه، ومن عادة ملوك هذه البلاد التواضع للواردين ولِين الكلام وقلة العطاء، فصلينا معه المغرب وحضر طعامه فأفطرنا عنده وانصرفنا، وبعث إلينا بدراهم ثم بعث إلينا وَلَدَهُ مراد بك وكان ساكنًا في بستان خارج المدينة وذلك في إبان الفاكهة، وبعث أيضًا خيلًا على عددنا كما فعله أبوه فأتينا بستانه، وأقمنا عنده تلك الليلة وكان له فقيه يترجم بيننا وبينه، ثم انصرفنا غدوة وأَظَلَّنَا عيد الفطر بهذه البلدة، فخرجنا إلى المصلى وخرج السلطان في عساكره والفتيان الأخية كلهم بالأسلحة، ولأهل كل صناعة الأعلام والبوقات والطبول والأنفار، وبعضهم يفاخر بعضًا ويباهيه في حُسْن الهيئة وكمال الشكة، ويخرج أهل كل صناعة معهم البقر والغنم وأحمال الخبز فيذبحون البهائم بالمقابر ويتصدقون بها وبالخبز، ويكون خروجهم أولًا إلى المقابر ومنها إلى المصلى، ولما صلينا صلاة العيد دخلْنا مع السلطان إلى منزله وحضر الطعام فجعل للفقهاء والمشايخ والفتيان سماط على حدة، وجعل للفقراء والمساكين سماط على حدة، ولا يُرَدُّ على بابه في ذلك اليوم فقير ولا غني، وأقمنا بهذه البلدة مدة بسبب مخاوف الطريق، ثم تهيأت رفقة فسافرنا معهم يومًا وبعض ليلة ووصلنا إلى حصن طواس واسمه (بفتح الطاء وتخفيف الواو وآخره سين مهمَل)، وهو حصن كبير، ويُذْكَر أن صهيبًا صاحب رسول الله ورضي الله عنه من أهل هذا الحصن، وكان مبيتنا بخارجه ووصلنا بالغد إلى بابه فسألنا أهله من أعلى السور عن مقدمنا فأخبرناهم، وحينئذٍ خرج أمير الحصن إلياس بك في عسكره ليختبر نواحي الحصن والطريق خوفًا من إغارة السراق على الماشية، فلما طافوا بجهاته خرجت مواشيهم وهكذا فعلهم أبدًا، ونزلنا من هذا الحصن بربضة في زاوية رجل فقير وبعث إلينا أمير الحصن بضيافة وزاد.

وسافرنا منه إلى مغلة (وضبط اسمها بضم الميم وإسكان الغين المعجم وفتح اللام)، ونزلنا بزاوية أحد المشايخ بها، وكان من الكرماء الفضلاء يكثر الدخول علينا بزاويته ولا يدخل إلا بطعام أو فاكهة أو حلواء، ولقينا بهذه البلدة إبراهيم بك ولد سلطان مدينة ميلاس وسنذكره، فأكرمنا وكسانا، ثم سافرنا إلى مدينة ميلاس (وضبط اسمها بكسر الميم وياء مد وآخره سين مهمل)، وهي من أحسن بلاد الروم وأضخمها كثيرة الفواكه والبساتين والمياه، نزلنا منها بزاوية أحد الفتيان الأخية ففعل أضعاف ما فعله من قبله من الكرامة والضيافة ودخول الحمام وغير ذلك من حميد الأفعال وجميل الأعمال، ولقينا بمدينة ميلاس رجلًا صالحًا معمرًا يسمى بأبي الششتري، ذكروا أن عمره يزيد على مائة وخمسين سنة، وله قوة وحركة وعقله ثابت وذهنه جيد، دعا لنا وحصلت لنا بركته.

ذكر سلطان ميلاس

وهو السلطان المكرم شجاع الدين أرخان بك ابن المنتشا (وضبط اسمه بضم الهمزة وإسكان الراء وخاء معجم وآخره نون)، وهو من خيار الملوك حسن الصورة والسيرة جلساؤه الفقهاء وهم معظمون لديه وببابه منهم جماعة منهم الفقيه الخوارزمي عارِفٌ بالفنون فاضل، وكان السلطان في أيام لقائي له واجدًا عليه بسبب رحلته إلى مدينة أيا سلوق ووصوله إلى سلطانها وقبول ما أعطاه فسأل مني هذا الفقيه أن أتكلم عند الملك في شأنه بما يذهب ما في خاطره فأثنيت عليه عند السلطان، وذكرت ما علمته من علمه وفضله، ولم أَزَلْ به حتى ذهب ما كان يجده عليه، وأحسن إلينا هذا السلطان وأركبنا وزودنا، وسكناه في مدينة برجين وهي قريبة من ميلاس بينهما ميلان (وضبط اسمها بفتح الباء الموحدة وإسكان الراء وجيم وياء مد وآخره نون)، وهي جديدة على تل هنالك بها العمارات الحسان والمساجد، وكان قد بنى بها مسجدًا جامعًا لم يتم بناؤه بعد، وبهذه البلدة لقيناه ونزلنا منها بزاوية الفتى أخي علي، ثم انصرفنا بعدما أحسن ألينا كما قدمناه إلى مدينة قونية (وضبط اسمها بضم القاف وواو مد ونون مسكن مكسور وياء آخر الحروف)، مدينة عظيمة حسنة العمارة كثيرة المياه والأنهار والبساتين والفواكه وبها المشمش المسمى بقمر الدين وقد تَقَدَّمَ ذِكْرُه، ويُحْمَل منه أيضًا إلى ديار مصر والشام، وشوارعها متسعة جدًّا وأسواقها بديعة الترتيب، وأهل كل صناعة على حدة، ويقال: إن هذه المدينة من بناء الإسكندر وهي من بلاد السلطان بدر الدين بن قرمان وسنذكره، وقد تَغَلَّب عليها صاحب العراق في بعض الأوقات لقربها من بلاده التي بهذا الإقليم نزلنا منها بزاوية قاضيها ويُعْرَف بابن قلم شاه وهو من الفتيان، وزاويته من أعظم الزوايا وله طائفة كبيرة من التلاميذ، ولهم في الفتوة سند يتصل إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ولباسها عندهم السراويل كما تُلْبَس الصوفية الخرقة، وكان صنيع هذا القاضي في إكرامنا وضيافتنا أعظم من صنيع من قبله وأجمل وبعث ولده عوضًا عنه لدخول الحمام معنا، وبهذه المدينة تربة الشيخ الإمام الصالح القطب جلال الدين المعروف بمولانا، وكان كبيرَ القدر، وبأرض الروم طائفة ينتمون إليه ويُعْرَفون باسمه فيقال لهم: الجلالية، كما نعرف الأحمدية بالعراق والحيدرية بخراسان، وعلى تربته زاوية عظيمة فيها الطعام للوارد والصادر.

حكاية

يُذْكَر أنه كان في ابتداء أمره فقيهًا مدرسًا يَجْتَمِع إليه الطلبة بمدرسته بقونية، فدخل يومًا إلى المدرسة رجل يبيع الحلواء وعلى رأسه طبق منها وهي مقطعة قطعًا يبيع القطعة منها بفلس، فلما أتى مجلس التدريس قال له الشيخ: هات طبقك، فأخذ الحلواني قطعة منه وأعطاها للشيخ فأخذها الشيخ بيده وأكلها فخرج الحلواني ولم يطعم أحدًا سوى الشيخ، فخرج الشيخ في اتباعه وترك التدريس فأبطأ على الطلبة وطال انتظارهم إياه، فخرجوا في طلبه فلم يَعْرِفوا له مستقرًّا، ثم إنه عاد إليهم بعد أعوام وصار لا ينطق إلا بالشعر الفارسي المتعلق الذي لا يُفْهَم، فكان الطلبة يتبعونه ويكتبون ما يصدر عنه من ذلك الشعر وألفوا منه كتابًا سموه المثنوي، وأهل تلك البلاد يعظمون ذلك الكتاب ويعتبرون كلامه ويعلمونه ويقرءونه بزواياهم في ليالي الجمعات، وفي هذه المدينة أيضًا قبر الفقيه أحمد الذي يُذْكَر أنه كان مُعَلِّم جلال الدين المذكور، ثم سافرنا إلى مدينة اللارندة وهي (بفتح الراء التي بعد الألف واللام وإسكان النون وفتح الدال المهمل) مدينة حسنة كثيرة المياه والبساتين.

ذكر سلطان اللارندة

وسلطانها الملك بدر الدين بن قرمان (بفتح القاف والراء)، وكانت قبله لشقيقه موسى فنزل عنها للملك الناصر وعوضه عنها بعوض وبعث إليها أميرًا وعسكرًا، ثم تَغَلَّبَ عليها السلطان بدر الدين وبنى بهادار مملكته واستقام أمره بها ولقيت هذا السلطان خارج المدينة وهو عائد من تصيده فنزلت له عن دابتي فنزل هو عن دابته وسلمْتُ عليه وأقبل علي، ومن عادة ملوك هذه البلاد أنه إذا نزل لهم الوارد عن دابته نزلوا له وأعجبهم فعله وزادوا في إكرامه، وإن سلم عليهم راكبًا ساءهم ذلك ولم يُرْضِهِمْ ويكون سببًا لحرمان الوارد، وقد جرى لي ذلك مع بعضهم وسأذكره، ولما سلمت عليه ورَكِبَ وركبْتُ سألني عن حالي عن مقدمي ودخلت معه المدينة، فأمر بإنزالي أحسن نُزُلٍ، وكان يبعث الطعام الكثير والفاكهة والحلواء في طيافير الفضة والشمع وكسا وأركب وأحسن ولم يطل مقامنا عنده، وانصرفنا إلى مدينة أقصرا (وضبطها بفتح الهمزة وسكون القاف وفتح الصاد المهمل والراء)، وهي من أحسن بلاد الروم وأتقنها، تَحُفُّ بها العيون الجارية والبساتين من كل ناحية، ويشق المدينة ثلاثة أنهار، ويجري الماء بدورها، وفيها الأشجار ودوالي العنب، وداخلها بساتين كثيرة، وتُصْنَع بها البسط المنسوبة إليها من صوف الغنم لا مثل لها في بلد من البلاد، ومنها تُحْمَل إلى الشام ومصر والعراق والهند والصين وبلاد الأتراك، وهذه المدينة في طاعة ملك العراق، ونزلنا منها بزاوية الشريف حسين النائب بها عن الأمير أرتنا، وأرتنا هو النائب عن ملك العراق فيما تَغَلَّبَ عليه من بلاد الروم، وهذا الشريف من الفتيان وله طائفة كثيرة وأكرمنا إكرامًا متناهيًا وفعل أفعال من تقدمه.

ثم رحنا إلى مدينة نكدة (وضبط اسمها بفتح النون وإسكان الكاف ودال مهمل مفتوح)، وهي من بلاد ملك العراق مدينة كبيرة كثيرة العمارة قد تخرب بعضها، ويشقها النهر المعروف بالنهر الأسود، وهو من كبار الأنهار عليه ثلاث قناطر إحداها بداخل المدينة وثنتان بخارجها وعليه النواعير بالداخل والخارج منها تسقى البساتين والفواكه بها كثيرة، ونزلنا منها بزاوية الفتى أخي جاروق وهو الأمير بها، فأكرمَنَا — على عادة الفتيان — وأقمنا بها ثلاثًا، وسِرْنا منها بعد ذلك إلى مدينة قيسارية وهي من بلاد صاحب العراق وهي إحدى المدن العظام بهذا الإقليم بها عسكر أهل العراق وإحدى خواتين الأمير علاء الدين أرتنا المذكور، وهي من أكرم الخواتين وأفضلهن ولها نسبة من ملك العراق وتدعى أغا (بفتح الهمزة والغين المعجم)، ومعنى أغا الكبير وكل من بينه وبين السلطان نسبة يدعى بذلك واسمها طغى خاتون، ودخلنا إليها فقامت لنا وأحسنت السلام والكلام وأمرت بإحضار الطعام فأكلنا، ولما انصرفنا بعثت لنا بفرس مسرج ملجم وخلعة ودراهم مع أحد غلمانها واعتذرت، ونزلنا من هذه المدينة بزاوية الفتى الأخي أمير علي وهو أمير كبير من كبار الأخية بهذه البلاد وله طائفة تتبعه من وجوه المدينة وكبرائها، وزاويته أحسن الزوايا فرشًا وقناديل وطعامًا كثيرًا وإتقانًا، والكبراء من أصحابه وغيرهم يجتمعون كل ليلة عنده ويفعلون في إكرام الوارد أضعاف ما يفعله سواهم، ومن عوائد هذه البلاد أنه ما كان منها ليس به سلطان، فالأخي هو الحاكم به وهو يُرْكِب الوارد ويكسوه ويُحْسِن إليه على قَدْرِه وترتيبه في أمره ونهيه وركوبه ترتيب الملوك.

ثم سافرنا إلى مدينة سيواس (وضبط اسمها بكسر السين المهمل وياء مد وآخره سين مهمل)، وهي من بلاد ملك العراق وأعظم ما له بهذا الإقليم من البلاد وبها منزل أمرائه وعماله مدينة حسنة العمارة واسعة الشوارع أسواقها غاصة الناس وبها دار مثل المدرسة تسمى دار السيادة لا ينزلها إلا الشرفاء، ونقيبهم ساكن بها، وتجرى لهم فيها مدة مقامهم الفرش والطعام والشمع وغيره فيزودون إذا انصرفوا، ولما قدمنا إلى هذه المدينة خرج إلى لقائنا أصحاب الفتى آخي أحمد بجقجي وبجق بالتركية السكين وهذا منسوب إليه، والجيمان منه معقودان بينهما قاف وباؤه مكسورة، وكانوا جماعة منهم الركبان والمشاة، ثم لقينا بعدهم أصحاب الفتى أخي جلبي وهو من كبار الأخية وطبقته أعلى من طبقة أخي بجقجي، فطلبوا أن ننزل عندهم فلم يمكن لي ذلك لسبق الأولين، ودخلنا المدينة معهم جميعًا وهم يتفاخرون، والذين سبقوا إلينا قد فرحوا أشد الفرح بنزولنا عندهم، ثم كان من صنيعهم في الطعام والحمام والمبيت مثل صنيع من تقدم، وأقمنا عندهم ثلاثة في أحسن ضيافة، ثم أتانا القاضي وجماعة من الطلبة ومعهم خيل الأمير علاء الدين أرتنا نائب ملك العراق ببلاد الروم، فركبنا إليه واستقبلنا الأمير إلى دهليز داره فسلم علينا ورحب وكان فصيح اللسان بالعربية وسألني عن العراقين وأصبهان وشيراز وكرمان وعن السلطان أتابك وبلاد الشام ومصر وسلاطين التركمان، وكان مراده أن أشكر الكريم منهم وأذم البخيل فلم أفعل ذلك، بل شكرت الجميع فسر بذلك مني وشكرني عليه، ثم أحضر الطعام فأكلنا وقال: تكونون في ضيافتي، فقال له الفتى: أخي جلبي أنهم لم ينزلوا بعد بزاويتي فليكونوا عندي وضيافتك تصلهم فقال: افعل، فانتقلنا إلى زاويته وأقمنا بها ستًّا في ضيافته وفي ضيافة الأمير، ثم بعث الأمير بفرس وكسوة ودراهم وكتب لنوابه بالبلاد أن يضيفونا ويكرمونا ويزودونا.

وسافرنا إلى مدينة أماصبة، (وضبط اسمها بفتح الهمزة والميم وألف وصاد مهمل مكسور وياء آخر الحروف مفتوحة)، مدينة كبيرة حسنة ذات أنهار وبساتين وأشجار وفواكه كثيرة وعلى أنهارها النواعير تسقي جنانها ودورها وهي فسيحة الشوارع والأسواق، وملكها صاحب العراق ويقرب منها بلدة سونسي (وضبط اسمها بضم السين المهمل وواو مد ونون مضموم وسين مهمل مفتوح)، وهي لصاحب العراق أيضًا وبها سكنى أولاد ولي الله تعالى أبي العباس أحمد الرفاعي، منهم الشيخ عز الدين، وهو الآن شيخ الرواق وصاحب سجادة الرفاعي، وإخوته الشيخ علي والشيخ إبراهيم والشيخ يحيى أولاد الشيخ أحمد كوجك، ومعناه الصغير ابن تاج الدين الرفاعي، ونزلنا بزاويتهم ورأينا لهم الفضل على من سواهم، ثم سافرنا إلى مدينة كمش (وضبط اسمها بضم الكاف وكسر الميم وشين معجم)، وهي من بلاد ملك العراق، مدينة كبيرة عامرة يأتيها التجار من العراق والشام وبها معادن الفضة وعلى مسيرة يومين منها جبال شامخة وعْرَة لم أَصِل إليها، ونزلنا منها بزاوية الأخي مجد الدين وأقمنا بها ثلاثًا في ضيافته وفعل أفعال من قبله وجاء إلينا نائب الأمير أرتنا وبعث بضيافة وزاد، وانصرفنا على تلك البلاد فوصلنا إلى أرزنجان (وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان الراء وفتح الزاي وسكون النون وجيم وألف ونون)، وهي من بلاد صاحب العراق مدينة كبيرة عامرة وأكثر سكانها الأرمن والمسلمون يتكلمون بها التركية ولها أسواق حسنة الترتيب ويصنع بها ثياب حسان تنتسب إليها، وفيها معادن النحاس ويصنعون منه الأواني والبياسيس التي ذكرناها وهي شبه المنار عندنا، ونزلنا منها بزاوية الفتى أخي نظام الدين، وهي من أحسن الزوايا، وهو أيضًا من خيار الفتيان، وكبارهم أضافنا أحسن ضيافة.

وانصرفنا إلى مدينة أرز الروم وهي من بلاد ملك العراق كبيرة الساحة خرب أكثرها بسبب فتنة وقعت بين طائفتين من التركمان بها، ويشقها ثلاثة أنهار وفي أكثر دورها بساتين فيها الأشجار والدوالي، ونزلنا منها بزاوية الفتى أخي طومان وهو كبير السن، يقال: إنه أناف على مائة وثلاثين سنة، ورأيته يَتَصَرَّف على قدميه متوكئًا على عصًا ثابت الذهن مواظبًا للصلاة في أوقاتها لم نُنْكِر من نفسه شيئًا، إلا أنه لا يستطيع الصوم، وخَدَمَنَا بنفسه في الطعام وخَدَمَنَا أولاده في الحمام، وأردنا الانصراف عنه ثاني يوم نزولنا فشق عليه ذلك وأبى منه وقال: إن فعلتم نقصتم حرمتي، وإنَّ أَقَلَّ الضيافة ثلاث، فأقمنا لديه ثلاثًا.

ثم انصرفنا إلى مدينة بركي (وضبط اسمها بباء موحدة مكسورة وكاف معقود مكسور بينهما راء مسكن)، ووصلنا إليها بعد العصر فلقينا رجلًا من أهلها فسألناه عن زاوية الأخي بها فقال: أنا أدلكم علينا، فاتبعناه فذهب بنا إلى منزل نفسه في بستان له، فأنزلنا بأعلى سطح بيته والأشجار مظللة وذلك أوان الحر الشديد، وأتى إلينا بأنواع الفاكهة وأحسن في ضيافته وعلف دوابنا وبتنا عنده تلك الليلة وكنا قد تَعَرَّفْنا أن بهذه المدينة مدرسًا فاضلًا يسمى بمحيي الدين، فأتى بنا ذلك الرجل الذي بتنا عنده وكان من الطلبة إلى المدرسة وإذا بالمدرس قد أقبل راكبًا على بغلة فارهة ومماليكه وخدامه عن جانبيه والطلبة بين يديه وعليه ثياب مفرجة حسان مطرزة بالذهب، فسلمنا عليه فرحب بنا وأحسن السلام والكلام وأمسك بيدي وأجلسني إلى جانبه، ثم جاء القاضي عز الدين فرشتي ومعنى فرشتي الملك لقب بذلك لدينه وعفافه وفضله، فقعد عن يمين المدرس وأخذ في تدريس العلوم الأصلية والفرعية، ثم لما فرغ من ذلك أتى دويرة بالمدرسة فأمر بفرشها وأنزلني فيها وبعث ضيافة حافلة، ثم وجه إلينا بعد المغرب فمضيت إليه فوجدته في مجلس ببستان له وهنالك صهريج ماء ينحدر إليه الماء من خصة رخام أبيض يدور بها القاشاني وبين يديه جملة من الطلبة ومماليكه وخدامه وقوف عن جانبيه وهو قاعد على مرتبة عليها أقطاع منقوشة حسنة فخلته لما شاهدته ملكًا من الملوك، فقام إلي واستقبلني وأخذ بيدي وأجلسني إلى جانبه على مرتبته وأتي بالطعام فأكلنا وانصرفنا إلى المدرسة، وذَكَرَ لي بعض الطلبة أن جميع من حَضَر تلك الليلة من الطلبة عند المدرس فعادتهم الحضور لطعامه كل ليلة، وكتب هذا المدرس إلى السلطان بخبرنا وأثنى في كتابه، والسلطان في جبل هنالك يصيف فيه لأجل شدة الحر، وذلك الجبل بارد، وعادته أن يصيف فيه.

ذكر سلطان بركي

وهو السلطان محمد بن آيدين من خيار السلاطين وكرمائهم وفضلائهم، ولما بَعَثَ إليه المدرس يُعْلِمه بخبري وَجَّهَ نائبه إليَّ لآتيه، فأشار عليَّ المدرس أن أُقِيمَ حتى يبعث عني ثانية وكان المدرس إذ ذاك قد خرجت برجله قرحة لا يستطيع الركوب بسببها وانقطع عن المدرسة، ثم إن السلطان بعث في طلبي ثانية فشق ذلك على المدرس فقال: أنا لا أستطيع الركوب ومن غرضي التوجه معك لأقرر لدى السلطان ما يجب لك، ثم إنه تحامَلَ ولَفَّ على رجله خرقًا وركب ولم يضع رجله في الركاب ورَكِبْتُ أنا وأصحابي وصعدنا إلى الجبل في طريق قد نُحِتَتْ وسُوِّيَتْ، فوصلنا إلى موضع السلطان عند الزوال فنزلنا على نهر ماء تحت ظلال شجر الجوز وصادَفْنا السلطان في قلق وشغل بالٍ بسبب فرار ابنه الأصغر سليمان عنه إلى صهره السلطان أرخان بك، فلما بلغه خبر وصولنا بعث إلينا ولديه خضر بك وعمر بك فسَلَّمَا على الفقيه وأمرهما بالسلام عليَّ ففعلا ذلك، وسألاني عن حالي ومقدمي وانصرفا، وبعث إلي ببيت يسمى عندهم الخرقة (خركاه) وهو عصًى من الخشب تجمع شبه القبة وتُجْعَل عليها اللبود ويُفْتَح أعلاه لدخول الضوء والريح مثل البادهنج ويُسَدُّ متى احتيج إلى سَدِّه، وأتوا بالفرش ففرشوه وقَعَدَ الفقيه وقعدت معه، وأصحابه وأصحابي خارج البيت تحت ظلال شجر الجوز، وذلك الموضع شديد البرد، ومات لي تلك الليلة فرس من شدة البرد، ولما كان من الغد رَكِبَ المدرس إلى السلطان وتَكَلَّمَ في شأني بما اقتضته فضائله ثم عاد إلي وأعلمني بذلك وبعد ساعة وجه السلطان في طلبنا معًا فجئنا إلى منزله ووجدناه قائمًا فسلمنا عليه وقعد الفقيه عن يمينه وأنا مما يلي الفقيه، فسألني عن حالي ومقدمي وسألني عن الحجاز ومصر والشام واليمن والعراقين وبلاد الأعاجم، ثم حضر الطعام فأكلنا وانصرفنا وبعث الأرز والدقيق والسمن في كروش الأغنام وكذلك فعل الترك.

وأقمنا على تلك الحال أيامًا يبعث إلينا في كل يوم فنحضر طعامه، وأتى يومًا إلينا بعد الظهر وقعد الفقيه في صدر المجلس وأنا عن يساره وقعد السلطان عن يمين الفقيه وذلك لعزة الفقهاء عند الترك، وطلب مني أن أكتب له أحاديث من حديث رسول الله فكتبْتُها له وعَرَضَهَا الفقيه عليه في تلك الساعة، فأمره أن يكتب له شرحها باللسان التركي، ثم قام فخرج ورأى الخدام يطبخون لنا الطعام تحت ظلال الجوز بغير إبزار ولا خضر، فأمر بعقاب صاحب خزانته وبعث بالأبرار والسمن، وطالت إقامتنا بذلك الجبل فأدركني الملل وأردت الانصراف، وكان الفقيه أيضًا قد مل من المقام هنالك، فبعث إلى السلطان يخبره أني أريد السفر، فلما كان من الغد بعث السلطان نائبه فتكلم مع المدرس بالتركية ولم أكن إذ ذاك أفهمها، فأجابه عن كلامه وانصرف، فقال لي المدرس: أتدري ماذا قال؟ قلت: لا أعرف ما قال، قال: إن السلطان بعث إليَّ ليسألني ماذا يعطيك، فقلت له: عنده الذهب والفضة والخيل والعبيد، فلْيُعْطِه ما أحب من ذلك، فذهب إلى السلطان.

ثم عاد إلينا فقال: إن السلطان يأمر أن تقيما هنا اليوم وتنزلا معه غدًا إلى داره بالمدينة، فلما كان من الغد بعث فرسًا جيدًا من مراكبه ونزل ونحن معه إلى المدينة فخرج الناس لاستقباله وفيهم القاضي المذكور آنفًا وسواه ودخل السلطان ونحن معه، فلما نزل بباب داره ذهبْتُ مع المدرس إلى ناحية المدرسة، فدعا بنا وأَمَرَنَا بالدخول معه إلى داره، فلما وَصَلْنَا إلى دهليز الدار وجَدْنا من خدامه نحو عشرين، صُوَرُهُم فائقة الحسن وعليهم ثياب الحرير وشعورهم مفروقة مُرْسَلة وألوانهم ساطعة البياض مُشْرَبة بحمرة، فقلت للفقيه: ما هذه الصور الحسان؟ فقال: هؤلاء فتيان روميون، وصعدنا مع السلطان دَرَجًا كثيرة إلى أن انتهينا إلى مجلس حسن في وسطه صهريج ماء، وعلى كل ركن من أركانه صورة سبع من نخاس يمج ماء من فيه وتدور بهذا المجلس مصاطب متصلة مفروشة، وفوق إحداها مرتبة السلطان، فلما انتهينا إليها نحى السلطان مرتبته بيده وقعد معنا على الإقطاع وقَعَدَ الفقيه عن يمينه والقاضي مما يلي الفقيه وأنا مما يلي القاضي، وقعد القراء أسفل المصطبة والقراء لا يفارقونه حيث كان من مجالسه، ثم جاءوا بصحاف من الذهب والفضة مملوءة بالجلاب المحلول، قد عُصِرَ فيه ماء الليمون وجُعِلَ فيه كعكات صغار مقسومة وفيها ملاعق ذهب وفضة، وجاءوا معها بصحاف صيني فيها مثل ذلك وفيها ملاعق خشب، فمن تَوَرَّعَ استعمل صحاف الصيني وملاعق الخشب، وتكلمْتُ بشكر السلطان وأثنيْتُ على الفقيه وبالَغْتُ في ذلك فأَعْجَبَ ذلك السلطان وسَرَّهُ.

حكاية

وفي أثناء قعودنا مع السلطان أتى شيخ على رأسه عمامة لها ذؤابة فسلم عليه وقام له القاضي والفقيه وقَعَدَ أمام السلطان فوق المصطبة والقراء أسفل منه، فقلت للفقيه: مَنْ هذا الشيخ؟ فضَحِكَ وسَكَتَ، ثم أعدْتُ السؤال فقال لي: هذا يهودي طبيب، وكلنا محتاج إليه؛ فلأجل هذا فعلنا ما رأيت من القيام له، فأخذني ما حدث وقدم من الامتعاض، فقلت لليهودي: يا ملعون ابن ملعون، كيف تَجْلِس فوق قراء القرآن وأنت يهودي؟! وشَتَمْتُه ورفعْتُ صوتي، فعَجِبَ السلطان وسأل عن معنى كلامي، فأخْبَرَهُ الفقيه به، وغَضِبَ اليهودي فخرج عن المجلس في أسوأ حالٍ، ولما انصرفْنَا قال ليَ الفقيه: أحسنْتَ بارك الله فيك، إن أحدًا سواك لا يتجاسر على مخاطبته بذلك ولقد عَرَّفْتَه بنفسه.

حكاية أخرى

وسألني السلطان في هذا المجلس فقال لي: هل رأيتَ قط حجرًا نَزَلَ من السماء؟ فقلت: ما رأيت ذلك ولا سمعت به، فقال لي: إنه قد نزل بخارج بلدنا هذا حجر من السماء، ثم دعا رجالًا وأَمَرَهُم أن يأتوا بالحجر، فأتوا بحجر أسود أصم شديد الصلابة له بريق قُدِّرَتْ أن زنته تبلغ قنطارًا، وأَمَرَ السلطان بإحضار القطاعين فحضر أربعة منهم فأمرهم أن يضربوه فضربوا عليه ضربة رجل واحد أربع مرات بمطارق الحديد، فلم يؤثروا فيه شيئًا فعجبت مِنْ أَمْرِه، وأَمَرَ بِرَدِّه إلى حيث كان، وفي ثالث يوم من دخولنا إلى المدينة مع السلطان صنع صنيعًا عظيمًا ودعا الفقهاء والمشايخ وأعيان العسكر ووجوه أهل المدينة فطعموا وقرأ القراء القرآن بالأصوات الحسان، وعُدْنا إلى منزلنا بالمدرسة، وكان يوجه الطعام والفاكهة والحلواء والشمع في كل ليلة، ثم بَعَثَ إليَّ مائةَ مثقال ذهبًا وألف درهم وكسوة كاملة وفرسًا ومملوكًا روميًّا يسمى ميخائيل، وبعث كل من أصحابي كسوة ودراهم كل هذا بمشاركة المدرس محيي الدين — جزاه الله تعالى خيرًا — ووَدَّعَنا وانصرفنا، وكانت مدة مُقامنا عنده بالجبل والمدينة أربعة عشر يومًا، ثم قصدنا مدينة تيرة وهي من بلاد هذا السلطان (وضبط اسمها بكسر التاء المعلوة وياء مد وراء)، مدينة حسنة ذات أنهار وبساتين وفواكه، نزلنا منها بزاوية الفتى أخي محمد وهو من كبار الصالحين صائم الدهر وله أصحاب على طريقته، فأضافنا ودعا لنا.

وسِرْنا إلى مدينة أياسلوق (وضبط اسمها بفتح الهمزة والياء آخر الحروف وسين مهمل مضموم ولام مضموم وآخره قاف)، مدينة كبيرة قديمة معظمة عند الروم، وفيها كنيسة كبيرة مبنية بالحجارة الضخمة ويكون طول الحجر منها عشرة أذرع فما دونها منحوتة أبدع نحت، والمسجد الجامع بهذه المدينة من أبدع مساجد الدنيا، لا نظير له في الحسن، وكان كنيسة للروم معظمة عندهم يقصدونها من البلاد، فلما فُتِحَتْ هذه المدينة جعلها المسلمون مسجدًا جامعًا، وحيطانه من الرخام الملون وفرشه الرخام الأبيض وهو مسقف بالرصاص وفيه إحدى عشرة قبة منوعة في وسط كل قبة صهريج ماء والنهر يشقه وعن جانبي النهر الأشجار المختلفة الأجناس ودوالي العنب ومعرشات الياسمين وله خمسة عشر بابًا، وأمير هذه المدينة خضر بك ابن السلطان محمد بن آيدين، وقد كنت رأيته عن أبيه بيركي ثم لقيته بهذه المدينة خارجها فسلمت عليه وأنا راكب فَكَرِهَ ذلك مني وكان سَبَبَ حرماني لديه، فإن عادتهم إذا نَزَلَ لهم الوارد نزلوا له وأَعْجَبَهُم ذلك ولم يَبْعَثْ إلي إلا ثوبًا واحدًا من الحرير المُذَهَّب يسمونه النخ (بفتح النون وخاء معجم)، واشتريت بهذه المدينة جارية رومية بكرًا بأربعين دينارًا ذهبًا.

ثم سرنا إلى مدينة يزمير (وضبط اسمها بياء آخر الحروف مفتوحة وزاي مسكن وميم مكسورة وياء مد وراء)، مدينة كبيرة على ساحل البحر معظمها خراب، ولها قلعة متصلة بأعلاها، نزلنا منها بزاوية الشيخ يعقوب — وهو من الأحمدية — صالح فاضل، ولقينا بخارجها الشيخ عز الدين بن أحمد الرفاعي ومعه زاده الأخلاطي — من كبار المشايخ — ومعه مائة فقير من المولهين، وقد ضَرَبَ لهم الأمير الأخبية، وصَنَعَ لهم الشيخ يعقوب ضيافة وحَضَرْتها واجتمعت بهم، وأمير هذه المدينة عمر بك ابن السلطان محمد بن آيدين المذكور آنفًا وسكناه بقلعتها، وكان حين قدومنا عليها عند أبيه، ثم قدم بعد خمس من نزولنا بها، فكان من مكارمه أن أتى إليَّ بالزاوية فسلم عليَّ واعتذر وبعث ضيافة عظيمة، وأعطاني بعد ذلك مملوكًا روميًّا خماسيًّا اسمه نقوله، وثوبين من الكمخا، وهي ثياب حرير تُصْنَع ببغداد وتبريز ونيسابور وبالصين.

وذَكَرَ لي الفقيه الذي يؤم به أن الأمير لم يَبْقَ له مملوك سوى ذلك المملوك الذي أعطاني بسبب كَرَمِه رحمه الله، وأعطى أيضًا للشيخ عز الدين ثلاثة أفراس مجهزة وآنية فضة كبيرة تسمى عندهم المشربة، مملوءة دراهم وثيابًا من الملف والمرعز والقسي والكمخا وجواريَ وغلمانًا، وكان هذا الأمير كريمًا صالحًا كثير الجهاد له أجفان غزوية يَضْرِب بها على نواحي القسطنطينية العظمى فيسبي ويغنم ويفني ذلك كرمًا وجودًا، ثم يعود إلى الجهاد إلى أن اشتدتْ على الروم وطْأَتُه، فرفعوا أَمْرَهُم إلى البابا فأَمَرَ نصارى جنوة وأفرانسة بغزوه فغزوه وجَهَّزَ جيشًا من رومية، وطرقوا مدينته ليلًا في عدد كثير من الأجفان، وملكوا المرسى والمدينة ونَزَلَ إليهم الأمير عمر من القلعة، فقاتلهم فاستشهد هو وجماعة من ناسه واستقر النصارى بالبلد ولم يقدروا على القلعة لِمَنَعَتِها، ثم سافرنا من هذه المدينة مغنيسية (وضبط اسمها بميم مفتوحة وغين معجمة مسكنة ونون مكسورة وياء مد وسين مهملة مكسورة وياء آخر الحروف مشددة)، نزلنا بها عشي يوم بزاوية رجل من الفتيان، وهي مدينة كبيرة حسنة في سفح جبل وبسيطها كثير الأنهار والعيون والبساتين والفواكه.

ذكر سلطان مغنيسية

وسلطانها يسمى صاروخان، ولما وصلنا إلى هذه البلدة وجدناه بتربة ولده، وكان قد توفي منذ أشهر، فكان هو وأم الولد ليلة العيد وصبيحتها بتربته والولد قد صبر وجُعِلَ في تابوت خشب مغشًّى بالحديد المقزدر وعُلِّقَ في قبة لا سَقْفَ لها لأن تذهب رائحته، وحينئذٍ تسقف القبة ويُجْعَل تابوته ظاهرًا على وجه الأرض وتُجْعَل ثيابه عليه، وهكذا رأيت غيره أيضًا من الملوك فَعَلَ، وسَلَّمْنَا عليه بذلك الموضع وصلينا معه صلاة العيد، وعُدْنَا إلى الزاوية فأخذ الغلام الذي كان لي أفراسنا وتَوَجَّه مع غلام لبعض الأصحاب برسم سقيها فأبطأ، ثم لما كان العشي لم يَظْهَر لهما أَثَرٌ، وكان بهذه المدينة الفقيه المدرس الفاضل مُصْلِح الدين، فركب معي إلى السلطان وأعلمناه بذلك، فبعث في طلبهما فلم يوجدا، واشتغل الناس في عيدهم وقصدا مدينة للكفار على ساحل البحر تسمى فوجة على مسيرة يوم من مغنيسية، وهؤلاء الكفار في بلد حصين وهم يبعثون هدية في كل سنة إلى سلطان مغنيسية، فيقنع منهم بها لحصانة بلدهم، فلما كان بعد الظهر أتى بهما بعض الأتراك وبالأفراس.

وذكروا أنهما اجتازا بهم عشية النهار فأنكروا أمرهما واشتدوا عليهما حتى أقرا بما عزما عليه من الفرار، ثم سافرنا من مغنيسية وبتنا ليلة عند قوم من التركمان قد نزلوا في مرعى لهم ولم نجد عندهم ما نعلف به دوابنا تلك الليلة، وبات أصحابنا يحترسون مداولة بينهم خوف السرقة، فأتت نوبة الفقيه عفيف الدين التوزري فسمعته يقرأ سورة البقرة، فقلت له: إذا أردت النوم فأعْلِمْني لأنظر من يحرس، ثم نِمْتُ، فما أيقظني إلا الصياح وقد ذَهَبَ السُّرَّاق بفرس لي كان يركبه عفيف الدين بسرجه ولجامه، وكان من جياد الخيل اشتريته بأياسلوق، ثم رحلنا من الغد فوصلنا إلى مدينة برغمة (وضبط اسمها بياء موحدة مفتوحة وراء مسكنة وغين معجمة مفتوحة وميم مفتوحة)، مدينة خربة لها قلعة عظيمة منيعة بأعلى جبل، ويقال: إن أفلاطون الحكيم من أهل هذه المدينة وداره تشتهر باسمه إلى الآن، ونزلنا منها بزاوية فقير من الأحمدية، ثم جاء أحد كبراء المدينة فنَقَلَنَا إلى داره وأَكْرَمَنا إكرامًا كثيرًا.

ذِكْر سلطان برغمة

وسلطانها يسمى يخشي خان بكسر الشين، وخان عندهم هو السلطان ويخشي (بياء آخر الحروف وخاء معجم وشين معجم مكسور) ومعناه جيد، صادَفْناه في مصيف له فأُعْلِمَ بقدومنا فبَعَثَ بضيافةٍ وثوب قدسي، ثم اكترينا من يدلنا على الطريق وسِرْنا في جبال شامخة وَعْرة إلى أن وصلنا إلى مدينة بلي كَسْرِي، (وضبط اسمها بباء موحدة مفتوحة ولام مكسور وياء مد وكاف مفتوح وسين مهمل مسكن وراء مكسور وياء)، مدينة حسنة كثيرة العمارات مليحة الأسواق ولا جامع لها يُجْمَع فيه، وأرادوا بناء جامع خارجها متصل بها فبنوا حيطانه ولم يجعلوا له سقفًا، وصاروا يصلون به ويجتمعون تحت ظلال الأشجار، ونزلنا من هذه المدينة بزاوية الفتى أخي سنان وهو من أفاضلهم، وأتى إلينا قاضيها وخطيبها الفقيه موسى.

ذِكْر سلطان بلي كسري

ويسمى دمورخان، ولا خير فيه، وأبوه هو الذي بنى هذه المدينة وكثرت عمارتها بمن لا خير فيه في مدة ابنه هذا، والناس على دين الملك ورايته وبعث إلي ثوب حرير واشتريت بهذه المدينة جارية رومية تسمى مرغليطة، ثم سِرْنَا إلى مدينة برصى (وضبط اسمها بضم الباء الموحدة وإسكان الراء وفتح الصاد المهمل)، مدينة كبيرة عظيمة حسنة الأسواق فسيحة الشوارع تحفها البساتين من جميع جهاتها والعيون الجارية وبخارجها نهر شديد الحرارة يصب في بركة عظيمة، وقد بني عليها بيتان أحدهما للرجال والآخر للنساء، والمرضى يستشفون بهذه الحمة ويأتون إليها من أقاصي البلاد، وهنالك زاوية للواردين ينزلون بها ويطعمون مدة مقامهم وهي ثلاثة أيام، عَمَرَ هذه الزاوية أحد ملوك التركمان، ونزلنا في هذه المدينة بزاوية الفتى أخي شمس الدين من كبار الفتيان، ووافقنا عنده يوم عاشوراء فصنع طعامًا كثيرًا ودعا وجوه العسكر وأهل المدينة ليلًا وأفطروا عنده وقرأ القراء بالأصوات الحسنة، وحضر الفقيه الواعظ مجد الدين القونوي ووَعَظَ وذَكَّرَ وأَحْسَنَ، ثم أخذوا في السماع والرقص وكانت ليلة عظيمة الشأن، وهذا الواعظ من الصالحين يصوم الدهر ولا يفطر إلا في كل ثلاثة أيام، ولا يأكل إلا من كد يمينه، ويقال: إنه لم يأكل طعام أحد قط، ولا منزل له ولا متاع إلا ما يستتر به، ولا ينام إلا في المقبرة، ويَعِظُ في المجالس ويَذْكُر فيتوب على يديه في كل مجلس الجماعة من الناس، وطلبته بعد هذه الليلة، فلم أَجِدْه وأتيت الجبانة فلم أَجِدْهُ، ويقال: إنه يأتيها بعد هجوع الناس.

حكاية

لما حضرنا ليلة عاشوراء بزاوية شمس الدين وعظ بها مجد الدين من آخر الليل، فصاح أحد الفقراء صيحة غُشِيَ عليه منها، فصبوا عليه ماء الورد فلم يُفِقْ، فأعادوا عليه ذلك فلم يُفِقْ، واختلفت الناس فيه، فمِنْ قائلٍ: إنه ميت، ومن قائل: إنه مغشيٌّ عليه، وأتمَّ الواعظ كلامه وقرأ القراء وصلينا الصبح، وطلعت الشمس فاختبروا حال الرجل، فوجدوه فَارَقَ الدنيا رحمه الله، فاشتغلوا بغسله وتكفينه، وكنت فيمن حَضَرَ الصلاة عليه ودَفَنَهُ، وكان هذا الفقير يسمى الصَّيَّاح، وذَكَرُوا أنه كان يتعبد بغار هنالك في جبل، فمتى علم أن الواعظ مجد الدين يَعِظُ قَصَدَه وحَضَرَ وَعْظَه ولم يأكل طعام أحد، فإذا وَعَظَ مجد الدين يصيح ويغشى عليه ثم يفيق فيتوضأ ويصلي ركعتين، ثم إذا سمع الواعظ صاح، يفعل ذلك مرارًا في الليلة، وسُمِّيَ الصَّيَّاحَ لأجل ذلك، وكان أَعْذَرَ اليد والرِّجْل لا قُدْرَة له على الخدمة، وكانت له والدة تقوته من غزلها، فلما تُوُفِّيَت اقتات من نبات الأرض، ولَقِيتُ بهذه المدينة الشيخ الصالح عبد الله المصري السائح، وهو من الصالحين جالَ الأرض، إلا أنه لم يدخل الصين ولا جزيرة سرنديب ولا المغرب ولا الأندلس ولا بلاد السودان، وقد زدت عليه بدخول هذه الأقاليم.

ذكر سلطان برصا

وسلطانها اختيار الدين أرخان بك، وأرخان (بضم الهمزة وخاء معجم) ابن السلطان عثمان جوق (وجوق بجيم معقود مضموم وآخره قاف)، وتفسيره بالتركية الصغير، وهذا السلطان أكبر ملوك التركمان وأكثرهم مالًا وبلادًا وعسكرًا، له من الحصون ما يقارب مائة حصن، وهو في أكثر أوقاته لا يزال يطوف عليها ويقيم بكل حصن منها أيامًا لإصلاح شئونه وتفقُّد حاله، ويقال: إنه لم يُقِمْ قط شهرًا كاملًا ببلد، ويقاتِلُ الكفار ويحاصره، ووالده هو الذي استفتح مدينة برصا من أيدي الروم، وقَبْرُه بمسجدها، وكان مسجدها كنيسة للنصارى، ويُذْكَر أنه حاصر مدينة برتيك نحو عشرين سنة ومات قبل فتحها، فحاصرها ولده هذا الذي ذكرناه اثنتي عشرة سنة وافتتحها، وبها كان لقائي له، وبعث إلي بدراهم كثيرة، ثم سافرنا إلى مدينة يزنيك (وضبط اسمها بفتح الياء آخر الحروف وإسكان الزاي وكسر النون وياء مد وكاف)، وبتنا قبل الوصول إليها ليلة بقرية تُدْعَى كرلة بزاوية فتًى من الأخية، ثم سِرْنا من هذه القرية يومًا كاملًا في أنهار ماء على جوانبها أشجار الرمان الحلو الحامض.

ثم وَصَلْنَا إلى بحيرة ماء تُنْبِت القصب على ثمانية أميال من يزنيك لا يستطاع دخولها إلا على طريق واحد مثل الجسر لا يسلك عليها إلا فارس واحد، وبذلك امتنعت هذه المدينة والبحيرة محيطة بها من جميع الجهات وهي خاوية على عروشها، لا يسكن بها إلا أناس قليلون من خدام السلطان، وبها زوجته بيون خاتون، وهي الحاكمة عليهم — امرأة صالحة فاضلة — وعلى المدينة أسوار أربعة بين كل سورين خندق وفيه الماء ويَدْخُل إليها على جسور خشب متى أرادوا رَفْعها رفعوها، وبداخل المدينة البساتين والدور والأرض والمزارع، فلكل إنسان داره ومزرعته وبستانه مجموعة وشربها من آبار بها قريبة، وبها من جميع أصناف الفواكه والجوز والقسطل عندهم كثير جدًّا رخيص الثمن ويسمون القسطل قسطنة بالنون والجوز القوز بالقاف، وبها العنب العذارى لم أَرَ مِثْلَه في سواها متناهي الحلاوة عظيم الجرم صافي اللون رقيق القشر للحبة منه نواة واحدة، أَنْزَلَنَا بهذه المدينة الفقيه الإمام الحاج المجاور علاء الدين السلطانيوكي، وهو شيخ الفضلاء الكرماء، ما جئت قط إلى زيارته إلا أَحْضَرَ الطعام، وصورته حسنة وسيرته أحسن، وتَوَجَّهَ معي إلى الخاتون المذكورة، فأكْرَمَتْ وأضافت وأحسنت، وبعد قدومنا بأيام وَصَلَ إلى هذه المدينة السلطان أرخان بك الذي ذكرناه، وأقمت بهذه المدينة نحو أربعين يومًا بسبب مرض فَرَسٍ لي، فلما طال عليَّ المكث تَرَكْتُه وانصرفت ومعي ثلاثة من أصحابي وجارية وغلامان، وليس معنا من يُحْسِن اللسان التركي ويترجم عنا، وكان لنا ترجمان فارَقَنا بهذه المدينة.

ثم خرجنا منها فبتنا بقرية يقال لها مكجا (بفتح الميم والكاف والجيم)، بتنا عند فقيه بها أَكْرَمَنَا وأضافنا وسافرنا من عنده، وتَقَدَّمَتْنا امرأة من الترك على فَرَس ومعها خديم لها وهي قاصدة مدينة ينجا، ونحن في اتباع أثرها، فوصلْتُ إلى وادٍ كبير يقال له: سَقَرِي، كأنه نَسَبٌ إلى سَقَر أعاذنا الله منها، فذَهَبَتْ تَجُوزُ الوادي، فلما تَوَسَّطَتْه كادت الدابة تغرق بها ورمتها عن ظهرها، وأراد الخديم الذي كان معها استخلاصها فذهب الوادي بهما معًا، وكان في عدوة الوادي قوم رموا بأنفسهم في أثرهما سباحة فأخرجوا المرأة وبها من الحياة رَمَقٌ، ووجدوا الرجل قد قضى نحبه رحمه الله، وأَخْبَرَنَا أولئك الناس أن المعدية أسفل من ذلك الموضع تَوَجَّهْنَا إليها، وهي أربع خشبان مربوطة بالحبال يجعلون عليها سروج الدواب والمتاع ويجذبها الرجال من العدوة الأخرى ويركب عليها الناس، وتجاز الدواب سباحة وكذلك فَعَلْنا، ووصلنا تلك الليلة إلى كاوية، واسمها على مثال فاعلة من الكي، نزلنا منها بزاوية أحد الأخية فكلَّمْنَاه بالعربية فلم يَفْهَمْ عنا، وكَلَّمَنَا بالتركية فلم نَفْهَمْ عنه فقال: اطلبوا الفقيه، فإنه يَعْرِف العربية فأتى الفقيه فكَلَّمَنَا بالفارسية وكَلَّمْنَاه بالعربية، فلم يَفْهَمْها منا، فقال للفتى: إيشان عربي كهنا ميقوان (ميكويند ومن عربي نوا ميدانم)، وإيشان معناه هؤلاء وكهنا قديم وميقوان يقولون ومن أنا ونو جديد وميدانم تعرف، وإنما أراد الفقيه بهذا الكلام ستر نفسه عن الفضيحة حين ظنوا أنه يَعْرِف اللسان العربي وهو لا يَعْرِفه، فقال لهم: هؤلاء يتكلمون بالكلام العربي القديم، وأنا لا أعرف إلا العربي الجديد، فظن الفتى أن الأمر على ما قاله الفقيه ونَفَعَنَا ذلك عنده، وبالغ في إكرامنا وقال: هؤلاء تَجِبُ كرامتهم لأنهم يتكلمون باللسان العربي القديم، وهو لسان النبي صلى الله عليه وسلم تسليمًا وأصحابه، ولم نفهم كلام الفقيه إذ ذاك لكنني حَفِظْتُ لفظه، فلما تَعَلَّمْتُ اللسان الفارسي فَهِمْتُ مراده.

وبِتْنَا تلك الليلة بالزاوية وبعث معنا دليلًا إلى ينجا، (وضبط اسمها بفتح الياء آخر الحروف وكسر النون وجيم)، بلدة كبيرة حسنة، بَحَثْنَا بها عن زاوية الأخي فوجدنا بها أحد الفقراء المولهين، فقلت له: هذه زاوية الأخي، فقال لي: نعم، فسُرِرْتُ عند ذلك إذْ وَجَدْتُ مَنْ يفهم اللسان العربي، فلما اختبرْتُه أَبْرَزَ الغيبُ أنه لا يَعْرِف من اللسان العربي إلا كلمة نعم خاصة، ونزلنا بالزاوية وجاء إلينا أحد الطلبة بطعام ولم يكن الأخي حاضرًا وحصل الأُنْسُ بهذا الطالب ولم يكن يَعْرِف اللسان العربي، لكنه تَفَضَّلَ وتَكَلَّمَ مع نائب البلدة فأعطاني فارسًا من أصحابه وتوجَّه معنا إلى كبنوك (وضبط اسمها بفتح الكاف وسكون الباء وضم النون)، وهي بلدة صغيرة يسكنها كفار الروم تحت ذمة المسلمين، وليس بها غير بيت واحد من المسلمين وهم الحكام عليهم وهي من بلاد السلطان أرخان بك، فنزلنا بدار عجوز كافرة وذلك إبان الثلج والشتاء، فأحسنَّا إليها وبِتْنا عندها تلك الليلة، وهذه البلدة لا شجر بها ولا دوالي العنب ولا يُزْدَرَع بها إلا الزعفران، وأتتنا هذه العجوز بزعفران كثير وظَنَّتْ أننا تجار نشتريه منها.

ولما كان الصباح ركبنا وأتانا الفارس الذي بعثه الفتى معنا من كاوية، فبعث معنا فارسًا غيره ليوصلنا إلى مدينة مطرني، وقد وقع في تلك الليلة ثلج كثير عفى الطرق، فتَقَدَّمَنا ذلك الفارس فاتبعنا أثره إلى أن وصلنا في نصف النهار إلى قرية للتركمان، فأتوا بطعام فأكلنا منه، وكلمهم ذلك الفارس فركب معنا أحدهم وسلك بنا أوعارًا وجبالًا ومجرى ماء تَكَرَّرَ لنا جوازه أزيد من الثلاثين مرة، فلما خلصنا من ذلك قال لنا ذلك الفارس: أعطوني شيئًا من الدراهم، فقلنا له: إذا وصلنا إلى المدينة نعطيك ونرضيك، فلم يَرْضَ ذلك منا أو لم يفهم عنا، فأخذ قوسًا لبعض أصحابي ومضى غير بعيد ثم رجع فردَّ إلينا القوس فأعطيته شيئًا من الدراهم فأخذها وهرب عنا وتَرَكَنَا لا نعرف أين نقصد ولا طريق يظهر لنا، فكنا نتلمح أثر الطريق تحت الثلج ونسلكه إلى أن بَلَغْنَا عند غروب الشمس إلى جبل يظهر الطريق به لكثرة الحجارة، فخِفْتُ الهلاك على نفسي ومن معي وتوقعْتُ نزول الثلج ليلًا، ولا عمار هنالك، فإن نزلنا عن الدواب هلكنا، وإن سرينا ليلتنا لا نعرف أين نتوجه، وكان لي فرس من الجياد فعملت على الخلاص وقُلْتُ في نفسي: إذا سَلِمْتُ لعلِّي أحتال في سلامة أصحابي، فكان كذلك، واستودَعْتُهم الله تعالى وسِرْتُ، وأهل تلك البلاد يبنون على القبور بيوتًا من الخشب يظن رائيها أنها عمارة فيجدها قبورًا، فظهر لي منها كثير، فلما كان بعد العشاء وصلت إلى البيوت فقلت: اللهم اجعلها عامرة، فوجدتها عامرة، ووفقني الله تعالى إلى باب دار، فرأيت عليها شيخًا فكلمته بالعربي فكلمني بالتركي، وأشار إليَّ بالدخول فأخبرته بشأن أصحابي فلم يَفْهَمْ عني.

وكان مِنْ لُطْف الله أن تلك الدار زاوية للفقراء والواقف بالباب شيخها، فلما سمع الفقراء الذين بداخل الزاوية كلامي مع الشيخ خَرَجَ بعضهم، وكانت بيني وبينه معرفة فسلم عليَّ وأخبرته خبر أصحابي، وأشرت إليه بأنْ يمضي مع الفقراء لاستخلاص الأصحاب ففعلوا ذلك، وتوجهوا معي إلى أصحابي وجئنا جميعًا إلى الزاوية، وحمدنا الله تعالى على السلامة، وكانت ليلة جمعة فاجتمع أهل القرية وقطعوا ليلتهم بذكر الله تعالى، وأتى كل منهم بما تيسر له من الطعام، وارتفعت المشقة ورحلنا عند الصباح فوصلنا إلى مدينة مُطُرْنِي عند صلاة الجمعة (وضبط اسمها بضم الميم والطاء المهملة وإسكان الراء وكسر النون وياء مد)، فنزلنا بزاوية أحد الفتيان الأخية وبها جماعة من المسافرين ولم نجد مربطًا للدواب فصلينا الجمعة ونحن في فلق لكثرة الثلج والبرد وعدم المربط، فلقينا أحد الحجاج من أهلها فسلم علينا وكان يَعْرِف اللسان العربي، فسُرِرْتُ برؤيته وطلبْتُ منه أن يدلنا على مرابط للدواب بالكراء فقال: أما ربطها في منزل فلا يتأتى لأن أبواب دور هذه البلدة صغار لا تدخل منها الدواب، ولكنني أدلكم على سقيفة بالسوق يربط فيها المسافرون دوابَّهم والذين يأتون لحضور السوق، فدلنا عليها وربطْنا بها دوابنا، ونزل أحد الأصحاب بحانوت خالٍ إزاءها ليحرس الدواب.

حكاية

وكان من غريب ما اتفق لنا أني بعثْتُ أحد الخدام ليشتري التبن للدواب، وبعثت أحدهم يشتري السمن، فأتى أحدهما بالتبن والآخر دون شيء وهو يضحك، فسألناه عن سبب ضحكه فقال: إنا وقفنا على دكان بالسوق فطلبنا منه السمن فأشار إلينا بالوقوف وكلم ولدًا له، فدفَعْنا له الدراهم فأبطأ ساعة وأتى بالتبن فأخذناه منه وقلنا لنا: إنا نريد السمن، فقال: هذا السمن، وأبرز الغيب أنهم يقولون للتبن سمن بلسان الترك، وأما السمن فيُسَمَّى عندهم رباغ، ولما اجتمعنا بهذا الحاج الذي يَعْرِف اللسان العربي رغبنا منه أن يسافر معنا إلى قصطمونية، وبينها وبين هذه البلدة مسيرة عشر، وكَسَوْتُه ثوبًا مصريًّا من ثيابي، وأعطيته نفقة تركها لعياله، وعَيَّنْتُ له دابة لركوبه ووعدته الخير، وسافر معنا فظهر لنا من حاله أنه صاحب مال كثير وله ديون على الناس، غير أنه ساقط الهمة خسيس الطبع سيئ الأفعال، وكنا نعطيه الدراهم لِنَفَقَتِنا فيأخذ ما يفضل من الخبز ويشتري به الأبزار والخضر والملح، ويمسك ثمن ذلك لنفسه، وذُكِرَ لي أنه كان يسرق من دراهم النفقة دون ذلك، وكنا نحتمله لما كنا نكابده من عَدَمِ المعرفة بلسان الترك، وانتهت حاله إلى أن فضحناه، وكنا نقول له في آخر النهار: يا حاج، كم سرقت اليوم من النفقة؟ فيقول: كذا، فنضحك منه ونرضى بذلك، ومن أفعاله الخسيسة أنه مات لنا فرس في بعض المنازل فتولى سلخ جلده بيده وباعه، ومنها أنا نزلنا ليلةً عند أخت له في بعض القرى، فجاءت بطعام وفاكهة من الإِجَّاص والتفاح والمشمش والخوخ وكلها ميبسة، وتُجْعَل في الماء حتى ترطب فتؤكل ويُشْرَب ماؤها، فأَرَدْنَا أن نُحْسِنَ إليها فعلم بذلك فقال: لا تعطوها شيئًا وأعطوا ذلك لي، فأعطيناه إرضاء له وأعطيناها إحسانًا في خفية بحيث لم يعلم بذلك.

ثم وصلنا إلى مدينة بولي (وضبط اسمها بباء موحدة مضمومة وكسر اللام)، ولما انتهينا إلى قريب منها وجدنا واديًا يظهر في رأي العين صغيرًا، فلما دخله بعض أصحابنا وجدوه شديد الجرية والانزعاج فجازوه جميعًا وبقيت جارية صغيرة خافوا من تجويزها، وكان فرسي خيرًا من أفراسهم فأردفْتُها وأخذت في جواز الوادي، فلما توسطته وَقَعَ بي الفرس ووقَعَت الجارية فأخرجها أصحابي وبها رَمَقٌ وخلصت أنا، ودخلنا المدينة فقصد زاوية أحد الفتيان الأخية، ومن عوائدهم أنه لإنزال النار موقدة في زواياهم أيام الشتاء أبدًا يجعلون في كل ركن من أركان الزاوية موقدًا للنار، ويصنعون لها مَنَافِسَ يصعد منها الدخان ولا يؤذي الزاوية ويسمونها البخاري واحدها بخيري، قال ابن جزي: وقد أحسن صفي الدين عبد العزيز بن سرايا الحلي في قوله في التورية وتذكرته بذكر البخيري:

إن البخيري مذ فارقتموه غدا
يحثو الرماد على كانونه الترب
لو شئتمُ أنه يمسي أبا لَهَبٍ
جاءت بغالكمُ حمالة الحطبِ

(رجع)، قال: فلما دخلنا الزاوية وجدنا النار موقودة، فنزعت ثيابي ولبست ثيابًا سواها واصطليت بالنار، وأتى الأخي بالطعام والفاكهة وأكثر من ذلك فلله درهم من طائفة ما أكرم نفوسهم وأشد إيثارهم وأعظم شفقتهم على الغريب وألطفهم بالوارد وأحبهم فيه وأجملهم احتفالًا بأمره، فليس قدوم الإنسان الغريب عليهم إلا كقدومه على أحبِّ أهله إليه، وبتنا تلك الليلة بحال مرضية، ثم رحلنا بالغداة فوصلنا إلى مدينة كردي بولي (وضبط اسمها بكاف معقودة وفتح الراء والدال المهمل وسكون الياء وباء موحدة مضمومة وواو مد ولام مكسورة وياء)، وهي مدينة كبيرة في بسيط من الأرض حسنة متسعة الشوارع والأسواق من أشد البلاد بردًا، وهي محلات مفترقة كل محلة تسكنها طائفة لا يخالطهم غيرهم.

ذكر سلطانها

وهو السلطان شاه بك من متوسطي سلاطين هذه البلاد، حسن الصورة والسيرة جميل الخلق قليل العطاء، صلينا بهذه المدينة صلاة الجمعة ونزلنا بزاوية منها ولقيت بها الخطيب الفقيه شمس الدين الدمشقي الحنبلي وهو من مستوطنيها منذ سنين وله بها أولاد، وهو فقيه هذا السلطان وخطيبه ومسموع الكلام عنده، ودَخَلَ علينا هذا الفقيه بالزاوية فأَعْلَمَنَا أن السلطان قد جاء لزيارتنا، فشكرْتُه على فِعْله واستقبلت السلطان فسلَّمْتُ عليه، وجلس فسألني عن حالي وعن مقدمي وعمن لقيته من السلاطين، فأخبرته بذلك كله، وأقام ساعة ثم انصرف وبعث بدابة مسرجة وكسوة، وانصرفنا إلى مدينة برلو (وضبط اسمها بضم الباء الموحدة وإسكان الراء وضم اللام)، وهي مدينة صغيرة على تل تحتها خندق ولها قلعة بأعلى شاهق نزلنا منها بمدرسة فيها حسنة، وكان الحاج الذي سافر معنا يَعْرِف مُدَرِّسَها وطَلَبَتَها ويحضر معهم الدرس، وهو على علاته من الطلبة حنفي المذهب، ودعانا أمير هذه البلدة، وهو علي بك ابن السلطان المكرم سليمان بادشاه ملك قصطمونية وسنذكره، فصعدنا إليه إلى القلعة فسلمنا عليه فرحب بنا وأَكْرَمَنَا، وسألني عن أسفاري وحالي فأجبته عن ذلك، وأجلسني إلى جانبه، وحضر قاضيه وكاتبه الحاج علاء الدين محمد وهو من كبار الكتاب، وحضر الطعام فأكلنا، ثم قرأ القراء بأصوات مُبْكِيَة وألحان عجيبة.

وانصرفنا وسافرنا بالغد إلى مدينة قصطمونية (وضبط اسمها بقاف مفتوح وصاد مهمل مسكن وطاء مهمل مفتوح وميم مضمومة وواو ونون مكسور وياء آخر الحروف)، وهي من أعظم المدن وأحسنها، كثيرة الخيرات رخيصة الأسعار، نزلنا منها بزاوية شيخ يُعْرَف بالأطروش لثقل سمعه، ورأيت منه عجبًا، وهو أن أحد الطلبة كان يكتب له في الهواء وتارة في الأرض بأصبعه فيفهم عنه ويجيبه ويحكي له بذلك الحكايات فيفهمها، وأقمنا بهذه المدينة نحو أربعين يومًا، فكنا نشتري طابق اللحم الغنمي السمين بدرهمين، ونشتري خبزًا بدرهمين فيكفينا ليومنا ونحن عشرة، ونشتري حلواء العسل بدرهمين فتكفينا أجمعين، ونشتري جوزًا بدرهم وقسطلًا بمثله فنأكل منها أجمعون ويفضل باقيها، ونشتري حِمْل الحطب بدرهم واحد وذلك أوان البرد الشديد، ولم أَرَ في البلاد مدينة أرخص أسعارًا منها، ولقيت بها الشيخ الإمام العالِم المفتي المدرس تاج الدين السلطانيوكي من كبار العلماء، قرأ بالعراقين وتبريز واستوطنها مدة، وقرأ بدمشق وجاور بالحرمين قديمًا، ولقيت بها العالم المدرس صدر الدين سليمان الفنيكي من أهل فنيكة من بلاد الروم، وأضافني بمدرسته التي بسوق الخيل، ولقيت بها الشيخ المعمر الصالح دادا أمير علي دخلت عليه بزاويته بمقربة من سوق الخيل، فوجدته ملقًى على ظهره فأجلسه بعض خدامه ورَفَعَ بعضهم حاجبيه عن عينيه ففتحهما وكَلَّمَني بالعربي الفصيح وقال: قَدِمْتَ خير مَقْدِم، وسألته عن عمره فقال: كُنْتُ من أصحاب الخليفة المستنصر بالله، وتوفي وأنا ابن ثلاثين سنة، وعمري الآن مائة وثلاث وستون، فطَلَبْتُ منه الدعاء فدعا لي وانصرفت.

ذكر سلطان قصطمونية

وهو السلطان المكرم سليمان بادشاه (واسمه بباء معقودة وألف ودال مسكن)، وهو كبير السن ينيف على سبعين سنة، حسن الوجه طويل اللحية صاحب وقار وهيبة يجالسه الفقهاء والصلحاء، دَخَلْتُ عليه بمجلسه فأجلسني إلى جانبه وسألني عن حالي ومقدمي وعن الحرمين الشريفين ومصر والشام فأجبته، وأمر بإنزالي على قرب منه وأعطاني ذلك اليوم فرسًا عتيقًا قرطاسي اللون وكسوة، وعَيَّنَ لي نفقة وعلفًا وأَمَرَ لي بعد ذلك بقمح وشعير نفذ لي في قرية من قرى المدينة على مسيرة نصف يوم منها، فلم أجد من يشتريه لرخص الأسعار، فأعطيته للحاج الذي كان في صحبتنا، ومن عادة هذا السلطان أن يجلس كل يوم بمجلسه بعد صلاة العصر ويؤتى بالطعام فتفتح الأبواب ولا يُمْنَع أحد من حضريٍّ أو بدويٍّ أو غريب أو مسافر من الأكل، ويجلس في أول النهار جلوسًا خاصًّا ويأتي ابنه فيُقَبِّل يديه وينصرف إلى مجلس له، ويأتي أرباب الدولة فيأكلون عنده وينصرفون.

ومن عادته في يوم الجمعة أن يركب إلى المسجد وهو بعيد عن داره، والمسجد المذكور وهو ثلاث طبقات من الخشب فيصلي السلطان وأرباب دولته والقاضي والفقهاء ووجوه الأجناد في الطبقة السفلى، ويصلي الأفندي وهو أخو السلطان وأصحابه وخدامه وبعض أهل المدينة في الطبقة الوسطى، ويصلي ابن السلطان وليُّ عهده — وهو أصغر أولاده ويُسَمَّى الجواد — وأصحابه ومماليكه وخُدَّامه وسائر الناس في الطبقة العليا، ويجتمع القراء فيقعدون حلقة أمام المحراب ويقعد معهم الخطيب والقاضي، ويكون السلطان بإزاء المحراب، ويقرءون سورة الكهف بأصوات حسان ويكررون الآيات بترتيب عجيب، فإذا فرغوا من قراءتها صعد الخطيب المنبر فخطب ثم صلى، فإذا فرغوا من الصلاة تنقلوا وقرأ القارئ بين يدي السلطان عشرًا وانصرف السلطان ومَنْ مَعَهُ، ثم يقرأ القارئ بين يدي أخي السلطان، فإذا أَتَمَّ قراءته انصرف هو ومن معه، ثم يقرأ القارئ بين يدي ابن السلطان، فإذا فَرَغَ من قراءته قام المعرف وهو المذكر فيمدح السلطان بشعر تركي ويمدح ابنه ويدعو لهما وينصرف، ويأتي ابن الملك إلى دار أبيه بعد أن يُقَبِّل يد عَمِّه في طريقه وعَمُّه واقف في انتظاره، ثم يدخلان إلى السلطان فيتقدم أخوه ويُقَبِّل يده ويجلس بين يديه، ثم يأتي ابنه فيُقَبِّل يده وينصرف إلى مجلسه فيقعد به مع ناسه، فإذا حانت صلاة العصر صلوها جميعًا، وقَبَّل أخو السلطان يَدَه وانصرف عنه فلا يعود إليه إلا في الجمعة الأخرى، وأما الولد فإنه يأتي كل يوم غدوة كما ذكرناه.

ثم سافرنا من هذه المدينة ونزلنا في زاوية عظيمة بإحدى القرى من أحسن زاوية رأيتها في تلك البلاد بناها أمير كبير تاب إلى الله تعالى يُسَمَّى فخر الدين، وجعل النظر فيها لولده والأشراف ولمن أقام بالزاوية من الفقراء، وفوائد القرية وَقْف عليها، وبنى بإزاء الزاوية حمامًا للسبيل يدخله الوارد والصادر من غير شيء يلزمه، وبنى سوقًا بالقرية ووقفه على المسجد الجامع، وعَيَّنَ من أوقاف هذه الزاوية لكل فقير يَرِدُ من الحرمين الشريفين أو من الشام ومصر والعراقين وخراسان وسواها كسوة كاملة ومائة درهم يوم قدومه وثلاثمائة درهم يوم سفره، والنفقة أيام مقامه وهي الخبز واللحم والأرز المطبوخ بالسمن والحلواء، ولكل فقير من بلاد الروم عشرة دراهم وضيافة ثلاثة أيام، ثم انصرفنا وبِتْنا ليلةً ثانية بزاوية في جبل شامخ لا عمارة فيه، عمرها بعض الفتيا الأخية ويُعْرَف بنظام الدين من أهل قصطمونية، ووَقَفَ عليها قرية يُنْفَق خراجها على الوارد والصادر بهذه الزاوية، وسافرنا من هذه الزاوية إلى مدينة صنوب (وضبط اسمها بفتح الصاد وضم النون وآخره باء)، وهي مدينة حافلة جَمَعَتْ بين التحصين والتحسين، يحيط بها البحر من جميع جهاتها إلا واحدة وهي جهة الشرق، ولها هنالك باب واحد لا يَدْخُل إليها أحد إلا بإذن أميرها، وأميرها إبراهيم بك ابن السلطان سليمان بادشاه الذي ذكرناه، ولما استؤذن لنا عليه دَخَلْنَا البلد، ونزلنا بزاوية عز الدين أخي جلبي وهي خارج باب البحر.

ومن هناك يُصْعَد إلى جبل داخل في البحر كمينا سبتة فيه البساتين والمزارع والمياه وأكثر فواكه التين والعنب، وهو جبل مانع لا يستطاع الصعود إليه وفيه إحدى عشرة قرية يسكنها كفار الروم تحت ذمة المسلمين وبأعلاه رابطة تُنْسَب للخضر وإلياس عليهما السلام لا تخلو عن متعبِّد، وعندها عين ماء والدعاء فيها مستجاب، وبسفح هذا الجبل قبر الولي الصالح الصحابي بلال الحبشي، وعليه زاوية فيها الطعام للوارد والصادر، والمسجد الجامع بمدينة صنوب من أحسن المساجد، وفي وسطه بِرْكة ماء عليها قبة تُقِلُّها أربع أرجل، ومع كل رجل ساريتان من الرخام وفوقها مجلس يُصْعَد له على دَرَج خشب، وذلك من عمارة السلطان بروانة ابن السلطان علاء الدين الرومي، وكان يصلي الجمعة بأعلى تلك القبة، ومَلَكَ بعده ابنه غازي جلبي فلما مات تَغَلَّبَ عليها السلطان سليمان المذكور، وكان غازي جلبي المذكور شجاعًا مقدامًا، ووهبه الله خاصية في الصبر تحت الماء وفي قوة السباحة، وكان يسافر في الأجفان الحربية لحرب الروم، فإذا كانت الملاقاة واشتغل الناس بالقتال غاص تحت الماء وبيده آلة حديد يخرق بها أجفان العدو فلا يشعرون بما حل بهم حتى يدهمهم الغرق، وطرقت مرسى بَلَدِهِ مرة أجفان العدو فخَرَقَها وأَسَرَ من كان فيها، وكانت فيه كفاية لا كفاء لها؛ إلا أنهم يَذْكُرون أنه كان يُكْثِر أَكْل الحشيش وبسببه مات، فإنه خرج يومًا للتصيد وكان مولعًا به، فاتبع غزالة ودَخَلَتْ له بين أشجار وزاد في رَكْض فرسه فعارضته شجرة فضربت رأسه فشدخته فمات، وتَغَلَّبَ السلطان سليمان على البلد وجَعَلَ به ابنه إبراهيم، ويقال: إنه أيضًا يأكل ما كان يأكله صاحبه على أن أهل بلاد الروم كلها لا ينكرون أكلها، ولقد مررْتُ يومًا على باب الجامع بصنوب وبخارجه دكاكين يقعد الناس عليها، فرأيت نفرًا من كبار الأجناد وبين أيديهم خديم لهم بيده شكارة مملوءة بشيء يشبه الحناء، وأحدهم يأخذ منها بمعلقة ويأكل وأنا أنظر إليه ولا عِلْمَ لي بما في الشكارة، فسألت مَنْ كان معي، فأخبرني أنه الحشيش، وأضافنا بهذه المدينة قاضيها ونائب الأمير بها ومعلمه ويُعْرَف بابن عبد الرزاق.

حكاية

لما دخلنا هذه المدينة رآنا أهلها ونحن نصلي مُسْبِلي أيدينا، وهم حنفية لا يَعْرِفون مذهب مالك ولا كيفية صلاته، والمختار من مذهبه هو إسبال اليدين، وكان بعضهم يرى الروافض بالحجاز والعراق يصلون مُسْبِلي أيديهم، فاتهمونا بمذهبهم، وسألونا عن ذلك فأخبرناهم أننا على مذهب مالك، فلم يقنعوا بذلك منا، واستقرت التهمة في نفوسهم حتى بعث إلينا نائب السلطان بأرنب وأوصى بَعْضَ خُدَّامه أن يلازمنا حتى يرى ما نفعل به، فذبحناه وطبخناه وأكلناه، وانصرف الخديم إليه وأَعْلَمَهُ بذلك، فحينئذٍ زالت عنا التُّهمة وبعثوا لنا بالضيافة، والراوفض لا يأكلون الأرنب، وبعد أربعة أيام من وصولنا إلى صنوب تُوُفِّيَتْ أم الأمير إبراهيم فخرجْتُ في جنازتها، وخرج ابنها على قدميه كاشفًا شعره، وكذلك الأمراء والمماليك وثيابهم مقلوبة، وأما القاضي والخطيب والفقهاء فإنهم قلبوا ثيابهم ولم يكشفوا رءوسهم، بل جعلوا عليها مناديل من الصوف الأسود عوضًا عن العمائم، وأقاموا يطعمون الطعام أربعين يومًا وهي مدة العزاء عندهم، وكانت إقامتنا بهذه المدينة نحو أربعين يومًا ننتظر تيسير السفر في البحر إلى مدينة القرم، فاكترينا مركبًا للروم وأقمنا أحد عشر يومًا ننتظر مساعدة الريح، ثم رَكِبْنَا البحر فلما توسطناه بعد ثلاثٍ هالَ علينا واشتد بنا الأمر ورأينا الهلاك عيانًا، وكنت بالطارمة ومعي رجل من أهل المغرب يسمى أبا بكر، فأمرْتُه أن يصعد إلى أعلى المركب لينظر كيف البحر ففعل ذلك وأتاني بالطارمة، فقال لي: أستودعكم الله، ودهمنا من الهول ما لم يُعْهَد مثله، ثم تغيرت الريح وردَّتْنا إلى مقربة من مدينة صنوب التي خرجنا منها، وأراد بعض التجار النزول إلى مرساها فمَنَعْتُ صاحب المركب من إنزاله ثم استقامت الريح وسافرنا، فلما توسطنا البحر هالَ علينا وجرى لنا مثل المرة الأولى.

ثم ساعدت الريح ورأينا جبال البر وقصدنا مرسًى يسمى الكرش، فأردنا دخوله فأشار إلينا أناس كانوا بالجبل أن لا تدخلوا، فخِفْنَا على أنفسنا وظننا أن هنالك أجفانًا للعدو فرجعنا مع البر، فلما قربناه قلت لصاحب المركب أريد أن أنزل ها هنا فأنزلني بالساحل، ورأيت كنيسة فقصدْتُها فوجدت بها راهبًا، ورأيت في أحد حيطان الكنيسة صورة رجل عربي عليه عمامة متقلد سيفًا وبيده رمح وبين يديه سراج يوقد، فقلت للراهب: ما هذه الصورة؟ فقال: هذه صورة النبي علي، فأُعْجِبْتُ من قوله، وبِتْنَا تلك الليلة بالكنيسة وطبخنا دجاجًا فلم نَسْتَطِعْ أكلها إذ كانت مما استصحبناه في المركب ورائحة البحر قد غَلَبَتْ على كل ما كان فيه، وهذا الموضع الذي نزلنا به هو من الصحراء المعروفة بدشت قفجق (والدشت بالشين المعجم والتاء المثناة) بلسان الترك هو الصحراء، وهذه الصحراء خضرة نضرة لا شجر بها ولا جبل ولا تل ولا أبنية ولا حطب، وإنما يوقدون الأرواث ويسمونها الترك (بالزاي المفتوح) فترى كبراءهم يلقطونها ويجعلونها في أطراف ثيابهم، ولا يسافَر في هذه الصحراء إلا في العجل وهي مسيرة ستة أشهر؛ ثلاثة منها في بلاد السلطان محمد أوزبك وثلاثة في بلاد غيره، ولما كان الغد من يوم وصولنا إلى هذه المرسى تَوَجَّهَ بعض التجار من أصحابنا إلى مَنْ بهذه الصحراء من الطائفة المعروفة بقفجق وهم على دين النصرانية، فاكترى منهم عجلة يجرها الفرس فركبناها، ووصلنا إلى مدينة الكفا (واسمها بكاف وفاء مفتوحتين)، وهي مدينة عظيمة مستطيلة على ضفة البحر يسكنها النصارى وأكثرهم الجنويون ولهم أمير يُعْرَف بالدندير، ونزلنا منها بمسجد المسلمين.

حكاية

ولما نزلنا بهذا المسجد أقمنا ساعة ثم سمعنا أصوات النواقيس من كل ناحية، ولم أكن سَمِعْتُها قطُّ فهالني ذلك، وأمرت أصحابي أن يصعدوا الصومعة ويقرءوا القرآن ويَذْكُروا الله ويؤذنوا ففعلوا ذلك، فإذا برجل قد دَخَلَ علينا وعليه الدرع والسلاح فسَلَّمَ علينا واستفهمناه عن شأنه، فأخبرنا أنه قاضي المسلمين هنالك، وقال: لما سمعت القراءة والأذان خِفْتُ عليكم فجئت كما ترون، ثم انصرف عنا وما رأينا إلا خيرًا، ولما كان من الغد جاء إلينا الأمير وصنع طعامًا فأكلنا عنده، وطفنا بالمدينة فرأيناها حسنة الأسواق وكُلُّهم كُفَّار، ونزلنا إلى مرساها فرأينا مرسًى عجيبًا به نحو مائتي مركب ما بين حَرْبِيٍّ وسَفَرِيٍّ صغيرًا وكبيرًا، وهو من مراسي الدنيا الشهيرة، ثم اكترينا عجلة وسافرنا إلى مدينة القرم وهي (بكسر القاف وفتح الراء)، مدينة كبيرة حسنة من بلاد السلطان المعظم محمد أوزبك خان وعليها أمير من قِبَلِه اسمه تلكتمور، وضبط اسمه (بتاء مثناة مضمومة ولام مضموم وكاف مسكن وتاء كالأولى مضمومة وميم مضمومة وواو وراء)، وكان أَحَدَ خُدَّام هذا الأمير قد صَحِبَنَا في طريقنا، فعَرَّفَه بقدومنا فبعث إلي مع إمامه سعد الدين بفرس، ونزلنا بزاوية شيخها زاده الخراساني، فأَكْرَمَنَا هذا الشيخ ورَحَّبَ بنا وأَحْسَنَ إلينا وهو مُعَظَّم عندهم، ورأيت الناس يأتون للسلام عليه من قاضٍ وخطيب وفقيه وسواهم، وأخبرني هذا الشيخ زاده أنَّ بخارج هذه المدينة راهبًا من النصارى في دير يُتَعَبَّد به ويُكْثَر الصوم، وأنه انتهى إلى أن يواصل أربعين يومًا ثم يفطر على حبة فول، وأنه يكاشف بالأمور، ورغب مني أن أصحبه في التوجه إليه فأَبَيْتُ، ثم ندمت بعد ذلك على أن لم أكن رأيته وعرفْتُ حقيقة أَمْرِه، ولقيتُ بهذه المدينة قاضيها الأعظم شمس الدين السائلي قاضي الحنفية، ولقيت بها قاضي الشافعية وهو يُسَمَّى بخضر والفقيه المدرس علاء الدين الأصي وخطيب الشافعية أبا بكر وهو الذي يخطب بالمسجد الجامع الذي عَمَرَهُ الملك الناصر رحمه الله بهذه المدينة، والشيخ الحكيم الصالح مظفر الدين وكان من الروم فأَسْلَمَ وحَسُنَ إسلامه، والشيخ الصالح العابد مظهر الدين وهو من الفقهاء المعظمين، وكان الأمير تلكتمور مريضًا فدخلنا عليه فأَكْرَمَنا وأَحْسَنَ إلينا، وكان عليَّ التوجه إلى مدينة السرا حضرة السلطان محمد أوزبك فعَمِلْتُ في السير في صحبته واشتريت العجلات برسم ذلك.

ذكر العجلات التي يسافَر عليها بهذه البلاد

وهم يُسَمُّون العجلة عربة (بعين مهملة وراء وباء موحدة مفتوحات)، وهي عجلات تكون للواحدة منهن أربع بكرات كبار، ومنها ما يجره فرسان ومنها ما يجره أكثر من ذلك، وتَجُرُّها أيضًا البقر والجِمال على حال العربة في ثقلها أو خِفَّتِها، والذي يخدم العربة يَرْكَب إحدى الأفراس التي تجرها ويكون عليه سرج وفي يده سوط يحركها للمشي، وَعُود كبير يصوبها به إذا عاجت عن القصد، ويجعل على العربة شبه قبة من قضبان خشب مربوط بعضها إلى بعض بسور جلد رقيق وهي خفيفة الحمل وتُكْسى باللبد أو بالملف، ويكون فيها طيقان مشبكة ويرى الذي بداخلها الناس ولا يرونه ويتقلب فيها كما يحب وينام ويأكل ويقرأ ويكتب وهو في حال سيره، والتي تحمل الأثقال والأزواد وخزائن الأطعمة من هذه العربات يكون عليها شبه البيت — كما ذكرنا — وعليها قفل، وجَهَّزْتُ لما أردت السفر عربة لركوبي مغشاة باللبد، ومعي بها جارية لي، وعربة صغيرة لرفيقي عفيف الدين التوزري، وعجلة كبيرة لسائر الأصحاب يَجُرُّها ثلاثة من الجِمال، يَرْكَب أَحَدَهما خادم العربة، وسِرْنا في صحبة الأمير تلكتمور وأخيه عيسى وولديه قطلو دمور وصارر بك، وسافر أيضًا معه في هذه الوجهة أمامه سعد الدين والخطيب أبو بكر، والقاضي شمس الدين، والفقيه شرف الدين موسى، والمعرف علاء الدين، وخطة هذا المعرف أن يكون بين يدي الأمير في مجلسه، فإذا أتى القاضي يقف له هذا المعرف ويقول بصوت عالٍ: بسم الله سيدنا ومولانا قاضي القضاةِ والحُكَّامِ، مُبِين الفتاوى والأحكام، بسم الله. وإذا أتى فقيه مُعَظَّم أو رجل مشار إليه قال: بسم الله سيدنا فلان الدين بسم الله، فيتهيأ مَنْ كان حاضر الدخول للداخل ويقوم إليه ويفسح له في المجلس.

وعادة الأتراك أن يسيروا في هذه الصحراء سيرًا كَسَيْرِ الحُجَّاج في دَرْب الحجاز، يَرْحَلون بعد صلاة الصبح وينزلون ضحًى ويرحلون بعد الظهر وينزلون عشيًّا، وإذا نزلوا حَلُّوا الخيل والإبل والبقر عن العربات وسَرَّحُوها للرعي ليلًا ونهارًا، ولا يعلف أحد دابة لا للسلطان ولا غيره، وخاصية هذه الصحراء أن نباتها يقوم مقام الشعير للدواب وليست لغيرها من البلاد هذه الخاصية؛ ولذلك كثرت الدواب بها، ودوابهم لا رعاة لها ولا حُرَّاسَ وذلك لشدة أحكامهم في السرقة وحُكْمِهم فيها أنه مَنْ وُجِدَ عنده فرس مسروق كُلِّفَ أن يَرُدَّه إلى صاحبه ويعطيه معه تسعة مثله، فإن لم يَقْدِرْ على ذلك أُخِذَ أولاده في ذلك، فإن لم يكن له أولاد ذُبِحَ كما تُذْبَح الشاة، وهؤلاء الأتراك لا يأكلون الخبز ولا الطعام الغليظ، وإنما يصنعون طعامًا من شيء عندهم شبه الآنلي يسمونه الدوقي (بدال مهمل مضموم واو وقاف مكسور معقود) يجعلون على النار الماء، فإذا غلى صَبُّوا عليه شيئًا من الدوقي وإن كان عندهم لحم قطعوه قطعًا صغارًا وطبخوه معه، ثم يُجْعَل لكل رجل نصيبه في صحفة ويصبون عليه اللبن الرائب ويشربونه ويشربون عليه لبن الخيل وهم يسمونه القمز (بكسر القاف والميم والزاي المشددة)، وهم أهل قوة وشدة وحُسْن مزاج، ويستعملون في بعض الأوقات طعامًا يسمونه البورخاني، وهو عجين يقطعونه قطيعات صغارًا ويثقبون أوساطها ويجعلونها في قدر، فإذا طُبِخَتْ صبوا عليها اللبن الرائب وشربوها، ولهم نبيذ يصنعونه من حب الدوقي الذي تَقَدَّمَ ذِكْرُه وهم يرون أكل الحلواء عيبًا.

ولقد حضرت يومًا عند السلطان أوزبك في رمضان فأُحْضِرَتْ لحوم الخيل وهي أكثر ما يأكلون من اللحم، ولحوم الأغنام والرشتا وهو شبه الأطرية يُطْبَخ ويُشْرَب باللبن، وأتيته تلك الليلة بطبق حلواء صَنَعَها بعض أصحابي، فقَدَّمْتُها بين يديه فجَعَلَ أصبعه عليها وجعله على فيه ولم يَزِدْ على ذلك، وأخبرني الأمير تلكتمور أن أحد الكبار من مماليك هذا السلطان — وله من أولاده وأولاد أولاده نحو أربعين ولدًا — قال له السلطان يومًا: كُلِ الحلواء وأعتقكم جميعًا، فأبى وقال: لو قَتَلْتَنِي ما أَكَلْتُها، ولما خرجنا من مدينة القرم نزلنا بزاوية الأمير تلكتمور في موضع يُعْرَف بسجان، فبعث إلي أن أحضر عنده فركبت إليه وكان لي فرس معد لركوبي يقوده خديم العربة، فإذا أردت ركوبه ركبته وأتيت الزاوية فوجدت الأمير قد صَنَعَ بها طعامًا كثيرًا فيه الخبز ثم أتوا بماء أبيض في صحاف صغار فشرب القوم منه، وكان الشيخ مُظَفَّر الدين يلي الأميرَ في مجلسه وأنا إليه فقلت له: ما هذا؟ فقال: هذا ماء الدهن، فلم أَفْهَم ما قال، فذُقْتُه فوجدت له حموضة فتركته، فلما خرجت سألت عنه فقالوا: هو نبيذ يصنعونه من حب الدوقي، وهم حنفية المذهب والنبيذ عندهم حلال ويسمون هذا النبيذ المصنوع من الدوقي البوزة (بضم الباء الموحدة وواو مد وزاي مفتوح)، وإنما قال لي الشيخ مظفر الدين ماء الدخن ولسانه فيه اللكنة الأعجمية فظننت أنه يقول ماء الدهن، وبعد مسيرة ثمانية عشر منزلًا من مدينة القرم وصلنا إلى ماء كثير نخوضه يومًا كاملًا، وإذا كثر خوض الدواب والعربات في هذا الماء اشتد وَحْله وزاد صعوبةً فذهب الأمير إلى راحلتي وقَدَّمَنِي أمامه مع بعض خدامه، وكتب لي كتابًا إلى أمير أزاق يُعْلِمه أني أريد القدوم على الملك ويَحُضُّه على إكرامي، وسِرْنا حتى انتهينا إلى ماء آخر نخوضه نِصْف يوم.

ثم سِرْنا بعده ثلاثًا ووَصَلْنَا إلى مدينة أزاق (وضبط اسمها بفتح الهمزة والزاي وآخره قاف)، وهي على ساحل البحر حسنة العمارة يقصدها الجنويون وغيرهم بالتجارات وبها من الفتيان أخي بجقجي وهو من العظماء يطعم الوارد والصادر، ولما وصل كتاب القاضي تلكتمور إلى أمير أزاق وهو محمد خواجة الخوارزمي خرج إلى استقبالي ومعه القاضي والطلبة وأخرج الطعام فلما سَلَّمْنَا عليه نزلنا بموضع أكلنا فيه، ووصلنا إلى المدينة ونزلنا بخارجها بمقربة من رابطة هنالك تُنْسَب للخضر وإلياس عليهما السلام، وخرج شيخ من أهل أزاق يسمى برجب النهر ملكي نسبة إلى قرية بالعراق فأضافنا بزاوية له ضيافة حسنة، وبعد يومين من قدومنا قدم الأمير تلكتمور وخرج الأمير محمد للقائه ومعه الأمير والطلبة وأعدوا له الضيافة وضربوا ثلاث قباب متصلًا بعضها ببعض إحداها من الحرير الملون عجيبة والثنتان من الكتان وأداروا عليها سراجه وهي المسماة عندنا أفراج وخارجها الدهليز وهو على هيئة البرج عندنا، ولما نزل الأمير بسطت بين يديه شقاق الحرير يمشي عليها، فكان من مكارمه وفضله أن قدمني أمامه ليرى ذلك الأمير منزلتي عنده.

ثم وصلنا إلى الخباء الأولى وهي المعدة لجلوسه وفي صدرها كرسي من الخشب لجلوسه كبير مرصع وعليه مرتبة حسنة فقد مني الأمير أمامه وقدم الشيخ مظفر الدين وصعد هو فجلس فيما بيننا ونحن جميعًا على المرتبة، وجلس قاضيه وخطيبه وقاضي هذه المدينة وطَلَبَتها عن يسار الكرسي على فرش فاخرة، ووقف ولدا الأمير تلكتمور وأخوه والأمير محمد وأولاده في الخدمة، ثم أتوا بالأطعمة من لحوم الخيل وسِوَاها وأتوا بألبان الخيل، ثم أتوا بالبوزة، وبعد الفراغ من الطعام قرأ القرآن بالأصوات الحسان، ثم نُصِبَ منبر وصعده الواعظ وجلس القراء بين يديه وخطب خطبة بليغة ودعا للسلطان وللأمير وللحاضرين يقول ذلك بالعربي ثم يفسره لهم بالتركي، وفي أثناء ذلك يكرر القراء آيات من القرآن بترجيع عجيب، ثم أخذوا في الغناء يغنون بالعربي ويسمونه القول ثم بالفارسي والتركي ويسمونه الملمع، ثم أتوا بطعام آخر ولم يزالوا على ذلك إلى العشي وكلما أردت الخروج منعني الأمير، ثم جاءوا بكسوة للأمير وكساوٍ لولديه وأخيه وللشيخ مظفر الدين ولي وأتوا بعشرة أفراس للأمير ولأخيه ولولديه بستة أفراس ولكل كبير من أصحابه بفرس ولي بفرس، والخيل بهذه البلاد كثيرة جدًّا وثمنها نزر قيمة الجيد منها خمسون درهمًا أو ستون من دراهمهم، وذلك صرف دينار من دنانيرنا أو نحوه وهذه الخيل هي التي تُعْرَف بمصر بالأكاديش ومنها معاشهم وهي ببلادهم كالغنم ببلادنا بل أكثر، فيكون للتركي منهم آلاف منها.

ومن عادة الترك المستوطِنين تلك البلاد أصحاب الخيل أنهم يضعون في العربات التي تَرْكَب فيها نساؤهم قطعة لبد في طول الشبر مربوطة إلى عود رقيق في طول الذراع في ركن العربة، ويُجْعَل لكل ألف فرس قطعة، ورأيت منهم من يكون له عشر قطع ومن له دون ذلك، وتُحْمَل هذه الخيل إلى بلاد الهند فيكون في الرفقة منها ستة آلاف وما فوقها وما دونها، لكل تاجر المائة والمائتان فما دون ذلك وما فوقه، ويستأجر التاجر لكل خمسين منها راعيًا يقوم عليها ويرعاها كالغنم ويسمى عندهم القشي، ويَرْكَب أحدَها وبيده عصًا طويلة فيها حبل، فإذا أراد أن يقبض على فرس منها حاذاه بالفرس الذي هو راكبه ورمى الحبل في عنقه وجذبه فيركبه ويترك الآخر للرعي، وإذا وصلوا بها إلى أَرْض السند أطعموها العلف؛ لأن نبات أرض السند لا يقوم مقام الشعير، ويموت لهم منها الكثير ويُسْرَق، ويغرمون عليها بأرض السند سبعة دنانير فضة على الفرس بموضع يقال له ششنقار، ويغرمون عليها بملتان قاعدة بلاد السند، وكانوا — فيما تَقَدَّمَ — يغرمون ربع ما يَجْلِبُونه، فرفع ملك الهند إلى السلطان محمد ذلك وأَمَرَ أن يؤخذ من تجار المسلمين الزكاة ومن تجار الكفار العشر، ومع ذلك يبقى للتجار فيها فضل كبير؛ لأنهم يبيعون الرخيص منها ببلاد الهند بمائة دينار دراهم وصرفها من الذهب المغربي خمسة وعشرون دينارًا، وربما باعوها بضعف ذلك وضعفه وضعفيه، والجياد منها تساوي خمسمائة دينار وأكثر من ذلك.

وأهل الهند لا يبتاعونها للجري والسبق؛ لأنهم يلبسون في الحرب الدروع ويدرعون الخيل، وإنما يبتغون قوة الخيل واتساع خطاها والخيل التي يبتغونها للسبق تُجْلَب إليهم من اليمن وعمان وفارس، ويباع الفرس منها بألف دينار إلى أربعة آلاف، ولما سافر الأمير تلكتمور عن هذه المدينة أقمت بعده ثلاثة أيام حتى جَهَّزَ لي الأمير محمد خواجة آلات سفري وسافرت إلى مدينة الماجر وهي (بفتح الميم وألف وجيم مفتوح معقود وراء)، مدينة كبيرة من أحسن مدن الترك على نهر كبير وبها البساتين والفواكه الكثيرة، نَزَلْنَا منها بزاوية الشيخ الصالح العابد المعمر محمد البطائحي من بطائح العراق، وكان خليفة الشيخ أحمد الرفاعي رضي الله عنه، وفي زاويته نحو سبعين من فقراء العرب والفرس والترك والروم، منهم المتزوج والعزب وعيشهم من الفتوح، ولأهل تلك البلاد اعتقاد حَسَن في الفقراء، وفي كل ليلة يأتون إلى الزاوية بالخيل والبقر والغنم، ويأتي السلطان والخواتين لزيارة الشيخ والتبرك به ويجزلون الإحسان ويُعْطُون العطاء الكثير وخصوصًا النساء، فإنهن يُكْثِرْن الصدقة ويتحرَّيْن أفعال الخير، وصَلَّيْنَا بمدينة الماجر صلاة الجمعة، فلما قُضِيَت الصلاة صعد الواعظ عز الدين المنبر وهو من فقهاء بخارى وفضلائها، وله جماعة من الطلبة والقراء يقرءون بين يديه ووَعْظ وذِكْر، وأمير المدينة حاضر وكبراؤها، فقام الشيخ محمد البطائحي وقال: هذه مني إليه، فكان الحاضرون بين من خَلَعَ ثوبه ومن أعطى فرسًا ومن أعطى دراهم، واجتمع له كثير من ذلك كله.

ورأيت بقيسارية هذه المدينة يهوديًّا سَلَّمَ عليَّ وكَلَّمَني بالعربي فسألته عن بلاده، فذكر أنه من بلاد الأندلس وأنه قَدِمَ منها في البر ولم يَسْلُك بحرًا وأتى على طريق القسطنطينية العظمى وبلاد الروم وبلاد الجرجس، وذَكَرَ أن عهده بالأندلس منذ أربعة أشهر، وأَخْبَرَنِي التُّجَّار المسافرون الذين لهم المعرفة بذلك بصحة مقاله، ورأيت بهذه البلاد عجبًا من تعظيم النساء عندهم وهن أعلى شأنًا من الرجال، فأما نساء الأمراء فكانت أول رؤيتي لهن عند خروجي من القرم رؤية الخاتون زوجة الأمير سلطية في عربة لها وكلها مجللة بالملف الأزرق الطيب، وطيقان البيت مفتوحة وأبوابه وبين يديها أربع جوارٍ فائتات الحسن بديعات اللباس، وخلفها جملة من العربات فيها جَوَارٍ يتبعنها، ولما قربت من منزل الأمير نَزَلَتْ عن العربة إلى الأرض، ونزل معها نحو ثلاثين من الجواري يرفعن أذيالها، ولأثوابها عُرًى تأخذ كل جارية بعروة ويرفعن الأذيال عن الأرض من كل جانب ومَشَتْ كذلك متبخترة، فلما وصلت إلى الأمير قام إليها وسلم عليها وأجلسها إلى جانبه ودار بها جواريها، وجاءوا بروايا القمز فصَبَّتْ منه في قدح وجَلَسَتْ على رُكْبَتِها قدام الأمير وناوَلَتْه القدح فشَرِبَ، ثم سقت أخاه وسقاها الأمير، وحضر الطعام فأكلت معه وأعطاه كسوة وانصرفت، وعلى هذا الترتيب نساء الأمراء، وسنذكر نساء الملك فيما بعد.

وأما نساء الباعة والسوقة فرأيتهن وإحداهن تكون في العربة والخيل تَجُرُّها، وبين يديها الثلاث والأربع من الجواري يَرْفَعْن أذيالها وعلى رأسها البغطاق، وهو أقروف مرصَّع بالجوهر وفي أعلاه ريش الطواويس، وتكون طيقان البيت مفتحة وهي بادية الوجه؛ لأن نساء الأتراك لا يحتجبن وتأتي إحداهن على هذا الترتيب ومعها عبيدها بالغنم واللبن فتبيعه من الناس بالسلع العطرية، وربما كان مع المرأة منهن زوجها فيظنه من يراه بَعْضَ خدامها، ولا يكون عليه من الثياب إلا فروة من جِلْد الغنم وفي رأسه قلنسوة تُنَاسِبُ ذلك يسمونها الكلأ، وتَجَهَّزْنا من مدينة الماجر نَقْصِد معسكر السلطان وكان على أربعة أيام من الماجر بموضع يقال له: بش دغ، ومعنى بش عندهم خمسة وهو (بكسر الباء وشين معجم) ومعنى دغ الجبل وهو (بفتح الدال المهمل وغين معجم)، وبهذه الجبال الخمسة عين ماء حارٍّ يَغْتَسِل منها الأتراك، ويزعمون أنه من اغتسل منها لم تُصِبْه عاهة مَرَضٍ، وارتحلنا إلى موضع المحلة فوصلناه أول يوم من رمضان فوجدنا المحلة قد رحلت، فعدنا إلى الموضع الذي رحلنا منه؛ لأن المحلة تنزل بالقرب منه فضَرَبْتُ بيتي على تل هنالك، وركزت العلم أمام البيت وجعلت الخيل والعربات وراء ذلك، وأقبلت المحلة وهم يسمونها الأُرْدُو بضم الهمزة، فرأينا مدينة عظيمة تسير بأهلها، فيها المساجد والأسواق ودخان المطبخ صاعِدٌ في الهواء وهم يطبخون في حالِ رحيلهم، والعربات تجرها الخيل بهم، فإذا بلغوا المنزل نزلوا البيوت عن العربات وجعلوها على الأرض وهي خفيفة المحمل، وكذلك يصنعون بالمساجد والحوانيت، واجتاز بنا خواتين السلطان كل واحدة بناسها على حدة، ولما اجتازت الرابعة منهن وهي بنت الأمير عيسى بك وسنذكرها، رأت البيت بأعلى التل والعلم أمامه وهو علامة الوارد، فبعثت الفتيان والجواري فسَلَّمُوا عليَّ وبلغوا سلامها إلي وهي واقفة تنتظرهم، فبَعَثْتُ إليها هدية مع بعض أصحابي ومع معرف الأمير تلكتمور، فقَبِلَتْها تبركًا وأَمَرَتْ أن أَنْزِلَ في جوارها وانصَرَفَتْ وأقبل السلطان فنزل في محلته على حدة.

ذكر السلطان المعظم محمد أوزبك خان

واسمه محمد أوزبك (بضم الهمز وواو وزاي مسكن وباء موحدة مفتوحة) ومعنى خان عندهم السلطان، وهذا السلطان عظيم المملكة شديد القوة كبير الشأن رفيع المكان قاهر لأعداء الله أهل قسطنطينية العظمى مجتهد في جهادهم، وبلادهم متسعة ومدنه عظيمة منها التكفار والقرم والماجر وآزاق وسرداق (سوداق) وخوارزم وحضرته السرا، وهو أحد الملوك السبعة الذين هم كبراء الدنيا وعظماؤها، وهم مولانا أمير المؤمنين ظل الله في أرضه إمام الطائفة المنصورة الذين لا يزالون ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة، أَيَّدَ الله أَمْره وأَعَزَّ نَصْرَهُ وسلطان مصر والشام وسلطان العراق، والسلطان أوزبك هذا وسلطان بلاد تركستان وما وراء النهر وسلطان الهند وسلطان الصين، ويكون هذا السلطان إذا سافر في محلة على حدة معه مماليكه وأرباب دولته وتكون كل خاتون من خواتينه على حدة في محلتها، فإذا أراد أن يكون عند واحدة منهن بَعَثَ إليها يعلمها بذلك فتتهيأ له، وله في قعوده وسَفَرِهِ وأموره ترتيب عجيب بديع، ومن عادته أن يجلس يوم الجمعة بعد الصلاة في قبة تُسَمَّى قبة الذهب مزينة بديعة، وهي من قضبان خشب مكسوة بصفائح الذهب وفي وسطها سرير من الخشب مكسوة بصفائح الفضة المذهبة وقوائمه فضة خالصة ورءوسها مرصعة بالجواهر، ويَقْعُد السلطان على السرير وعلى يمينه الخاتون طيطغلي وتليها الخاتون كبك، وعلى يساره الخاتون بيلون وتليها الخاتون أردجي ويقف أسفل السرير على اليمين ولد السلطان تين بك، وعن الشمال ولده الثاني جان بك، وتجلس بين يديه ابنته إيت كججك، وإذا أَتَتْ إحداهن قام لها السلطان وأَخَذَ بيدها حتى تصعد على السرير، وأما طيطغلي — وهي الملكة وأحظاهن عنده — فإنه يستقبلها إلى باب القبة فيسلم عليها ويأخذ بيدها، فإذا صعدتْ على السرير وجلستْ حينئذٍ يجلس السلطان وهذا كله على أعين الناس دون احتجاب، ويأتي بعد ذلك كبار الأمراء فتُنْصَب لهم كراسيهم عن اليمين والشمال.

وكل إنسان منهم إذا أتى مجلس السلطان يأتي معه غلام بكرسيه، ويقف بين يدي السلطان أبناء الملوك من بني عمه وإخوته وأقاربه، ويقف في مقابلتهم عند باب القبة أولاد الأمراء الكبار، ويقف خلفهم وجوه العساكر عن يمين وشمال، ثم يدخل الناس للسلام بالأمثل فالأمثل ثلاثة ثلاثة فيسلمون وينصرفون فيجلسون على بعد، فإذا كان بعد صلاة العصر انصرفت الملكة من الخواتين ثم ينصرف سائرهن فيتبعها إلى محلتها، فإذا دَخَلَتْ إليها انصرفت كل واحدة إلى محلتها راكبة عربتها، ومع كل واحدة نحو خمسين جارية راكبات على الخيل وأمام العربات نحو عشرين من قواعد النساء راكبات على الخيل فيما بين الفتيان والعربة، وخلف الجميع نحو مائة مملوك من الصبيان وأمام الفتيان نحو مائة من المماليك الكبار ركبانًا ومثلهم مشاة بأيديهم القضبان والسيوف مشدودة على أوساطهم، وهم بين الفرسان والفتيان، وهكذا ترتيب كل خاتون منهن في انصرافها ومجيئها، وكان نزولي من المحلة في جِوَارِ ولد السلطان جان بك الذي يَقَعُ ذِكْره فيما بعد، وفي الغد من يوم وصولي دَخلْتُ إلى السلطان بعد صلاة العصر، وقد جَمَعَ المشايخ والقضاة والفقهاء والشرفاء والفقراء، وقد صَنَعَ طعامًا كثيرًا وأَفْطَرْنا بمحضره، وتَكَلَّمَ السيد الشريف نقيب الشرفاء ابن عبد الحميد والقاضي حمزة في شأني بالخير وأشاروا على السلطان بإكرامي، وهؤلاء الأتراك لا يَعْرِفون إنزال الوارد ولا إجراء النفقة، وإنما يبعثون له الغنم والخيل للذبح وروايا القمز وتلك كرامتهم، وبعد هذا بأيام صَلَّيْتُ صلاة العصر مع السلطان، فلما أردْتُ الانصراف أمرني بالقعود وجاءوا بالطعام من المشروبات كما يصنع من الدوقي ثم باللحوم المصلوقة من الغنم والخيل، وفي تلك الليلة أتيت السلطان بطبق حلواء فجعل أصبعه عليه وجعله على فيه ولم يَزِدْ على ذلك.

ذكر الخواتين وترتيبهن

وكل خاتون منهن تَرْكَب في عربة، وللبيت الذي تكون فيه قبة من الفضة المموهة بالذهب أو من الخشب المرصع، وتكون الخيل التي تَجُرُّ عربتها مجللة بأثواب الحرير المذهب وخديم العربة الذي يركب أحد الخيل فتًى يدعى القشي، والخاتون قاعدة في عربتها وعن يمينها امرأة من القواعد تُسَمَّى أولو خاتون (بضم الهمزة واللام) ومعنى ذلك الوزيرة، وعن شمالها امرأة من القواعد أيضًا تسمى كُجُك خاتون (بضم الكاف والجيم) ومعنى ذلك الحاجبة، وبين يديها ستٌّ من الجواري الصغار يقال لهن البنات؛ فائقات الجمال متناهيات الكمال، ومن ورائها ثنتان منهن تستند إليهن، وعلى رأس الخاتون البغطاق وهو مثل التاج الصغير مكلَّل بالجواهر، وبأعلاها ريش الطواويس وعليها ثياب حرير مرصعة بالجوهر شبه المنوت (الملوطة) التي يلبسها الروم، وعلى رأس الوزيرة والحاجبة مقنعة حرير مزركشة الحواشي بالذهب والجوهر، وعلى رأس كل واحدة من البنات الكلأ وهو شبه الأقروف، وفي أعلاها دائرة ذهب مرصعة بالجوهر وريش الطواويس من فوقها، وعلى كل واحدة ثوب حرير مُذَهَّب يسمى النخ، ويكون بين يدي الخاتون عشرة أو خمسة عشر من الفتيان الروميين والهنديين، وقد لبسوا ثياب الحرير المُذَهَّب المرصعة بالجواهر، وبِيَدِ كل واحد منهم عمودُ ذهبٍ أو فضة، أو يكون من عود ملبس بهما، وخلف عربة الخاتون نحو مائة عربة في كل عربة الثلاث والأربع من الجواري الكبار والصغار، ثيابهن الحرير وعلى رءوسهن الكلأ، وخَلْف هذه العربات نحو ثلاثمائة عربة تَجُرُّها الجِمال والبقر، تَحْمِل خزائن الخاتون وأموالها وثيابها وأثاثها وطعامها، ومع كل عربةٍ غلامٌ مُوكَل بها متزوج بجارية من الجواري التي ذكرنا، فإن العادة عندهم أنه لا يدخل بين الجواري من الغلمان إلا مَنْ كان له بَيْنَهُنَّ زوجة، وكل خاتون فهي على هذا الترتيب، ولنذكرهن على الانفراد.

ذكر الخاتون الكبرى

والخاتون الكبرى هي الملكة أولدي السلطان جان بك وتين بك وسنذكرهما وليست أم ابنته إيت كججك وأمها كانت الملكة قبل هذه، واسم هذه الخاتون طيطغلي (بفتح الطاء المهملة الأولى وإسكان الياء آخر الحروف وضم الطاء الثانية وإسكان الغين المعجمة وكسر اللام وياء مد)، وهي أحظى نساء هذا السلطان عنده، وعندها يبيت أكثر لياليه ويُعَظِّمها الناس بسبب تعظيمه لها، وإلا فهي أبخل الخواتين، وحَدَّثَنِي مَنْ أَعْتَمِدُه مِن العارفين بأخبار هذه الملكة أن السلطان يحبها للخاصية التي فيها، وهي أنه يَجِدُها كُلَّ ليلة كأنها بِكْر، وذَكَرَ لي غيره أنها من سلالة المرأة التي يُذْكَر أن المُلْكَ زال عن سليمان عليه السلام بسببها، ولما عاد إليه مُلْكُه أَمَرَ أن توضع بصحراء لا عمارة فيها فوُضِعَتْ بصحراء قفجق، وأن رحم هذه الخاتون شبه الحلقة خِلْقَةً، وكذلك كل مَنْ هو من نسل المرأة المذكورة، ولم أَرَ بصحراء قفجق ولا غيرها من أخبر أنه رأى امرأة على هذه الصورة ولا سَمِعَ بها إلا هذه الخاتون، اللهم إلا أن بعض أهل الصين أخبرني أن بالصين صنفًا من نسائها على هذه الصورة، ولم يقع بيدي ذلك ولا عرفت له حقيقة، وفي غَدِ اجتماعي بالسلطان دَخَلْتُ إلى هذه الخاتون، وهي قاعدة فيما بين عشر من النساء القواعد كأنهن خديمات لها، وبين يديها نحو خمسين جارية صغارًا يُسَمَّوْن البنات، وبين أيديهن طيافير الذهب والفضة مملوءة يحب الملوك وهن ينقينه، وبين يدي الخاتون صينية ذهب مملوءة منه وهي تُنَقِّيه، فسَلَّمْنا عليها وكان في جملة أصحابي قارئ يقرأ القرآن على طريقة المصريين بطريقة حسنة وصوت طيب فقرأ، ثم أَمَرَتْ أن يؤتى بالقمز فأُتِيَ به في أقداح خشب لطاف خفاف، فأخذت القدح بيدها وناوَلَتْنِي إياه، وتلك الكرامة عندهم، ولم أكن شَرِبْتُ القمز قبلها، ولكن لم يمكني إلا قبوله، وذُقْتُه ولا خير فيه ودَفَعْتُه لأحد أصحابي، وسألَتْنِي عن كثيرٍ مِنْ حال سفرنا فأجبناها ثم انصرفنا عنها، وكان ابتداؤنا بها لأجل عظمتها عند الملك.

ذكر الخاتون الثانية التي تلي الملكة

واسمها كبك خاتون (بفتح الكاف الأولى وكسر الباء الموحدة) ومعناه بالتركية النخالة، وهي بنت الأمير نغطي (واسمه بنون وغين معجمة وطاء مهملة مفتوحات وياء مسكنة)، وأبوها حي مُبْتَلًى بعلة النقرس، وقد رأيته وفي غد دخولنا على الملكة دخلنا على هذه الخاتون فوجدناها على مرتبة تقرأ في المصحف الكريم وبين يديها نحو عشر من النساء القواعد ونحو عشرين من البنات يُطَرِّزْن ثيابًا، فسَلَّمْنا عليها وأَحْسَنَت في السلام والكلام، وقرأ قارئنا فاستحْسَنَتْه، وأمرت بالقمز فأُحْضِرَ وناوَلَتْنِي القدح بيدها كمثل ما فَعَلَتْه الملكة وانصرفنا عنها.

ذكر الخاتون الثالثة

واسمها بيلون (بباء موحدة وياء آخر الحروف كلاهما مفتوح ولام مضموم وواو مد ونون)، وهي بنت ملك القسطنطينية العظمى السلطان تكفور، ودخلنا على هذه الخاتون وهي قاعدة على سرير مرصع قوائمه فضة وبين يديها نحو مائة جارية روميات وتركيات ونوبيات منهن قائمات وقاعدات والفتيان على رأسها والحُجَّاب بين يديها من رجال الروم، فسألَتْ عن حالنا ومقدمنا وبُعْد أوطاننا وبَكَتْ ومَسَحَتْ وجْهَهَا بمنديل كان بين يديها رِقَّة منها وشفقة، وأَمَرَتْ بالطعام فأُحْضِرَ وأَكَلْنَا بين يديها وهي تنظر إلينا، ولما أردنا الانصراف قالت: لا تنقطعوا عنا وترددوا إلينا وطالبونا بحوائجكم، وأَظْهَرَتْ مكارم الأخلاق وبعثت في أثرنا بطعام وخبز كثير وسمن وغنم ودراهم وكسوة جيدة وثلاثة من جياد الخيل وعشرة من سائرها، ومع هذه الخاتون كان سفري إلى القسطنطينية العظمى كما نذكره بعد.

ذكر الخاتون الرابعة

واسمها أردوجا (بضم الهمزة وإسكان الراء وضم الدال المهمل وجيم وألف)، وأردو بلسانهم المحلة، وسُمِّيَتْ بذلك لولادتها في المحلة، وهي بنت الأمير الكبير عيسى بك أمير الألوس (بضم الهمزة واللام)، ومعناه أمير الأمراء وأدركته حيًّا وهو متزوج ببنت السلطان إيت كججك، وهذه الخاتون من أفضل الخواتين وألطفهن شمائل وأشفقهن، وهي التي بعثتْ إلي لما رأت بيتي على التل عند جواز المحلة كما قدمناه دخلنا عليها فرأينا من حُسْن خلقها وكَرَمِ نفسها ما لا مزيد عليه، وأَمَرتْ بالطعام فأكلنا بين يديها، ودعت بالقمز فشرب أصحابنا وسألت عن حالنا فأجبناها ودخلنا أيضًا إلى أختها زوجة الأمير علي بن أرزق.

ذكر بنت السلطان المعظم أوزبك

واسمها إيت كججك وإيت (بكسر الهمزة وياء مد وتاء مثناة)، وكججك بضم الكاف وضم الجيمين ومعنى اسمها الكلب الصغير، فإن إيت هو الكلب وكججك هو الصغير، وقد قَدَّمْنَا أن الترك يُسَمُّون بالفأل كما تَفْعَل العرب، وتوجَّهْنا إلى هذه الخاتون بنت الملك وهي في محلة منفردة على نحو ستة أميال من محلة والدها، فأمرت بإحضار الفقهاء والقضاة والسيد الشريف ابن عبد الحميد وجماعة الطلبة والمشايخ والفقهاء، وحضر زوجها الأمير عيسى الذي بنته زوجة السلطان، فقعد معها على فراش واحد وهو معتل بالنقرس فلا يستطيع التصرف على قدميه ولا ركوب الفرس، وإنما يركب العربة، وإذا أراد الدخول على السلطان أنزله خدامه وأدخلوه إلى المجلس محمولًا، وعلى هذه الصورة رأيت أيضًا الأمير نغطي وهو أبو الخاتون الثانية وهذه العلة فاشية في هؤلاء الأتراك، ورأينا من هذه الخاتون بنت السلطان من المكارم وحسن الأخلاق ما لم نَرَهُ مِنْ سواها، وأَجْزَلَتْ الإحسان وأفضلت جزاها الله خيرًا.

ذكر ولدي السلطان

وهما شقيقان وأمهما جميعًا الملكة طيطغلي التي قدمنا ذكرها والأكبر منهما اسمه تين بك (بتاء معلوة مكسورة وياء مد ونون مفتوح) وبك معناه الأمير وتين معناه الجسد فكأن اسمه أمير الجسد، واسم اخيه جان بك (بفتح الجيم وكسر النون)، ومعنى جان الروح فكأنه يسمى أمير الروح، وكل واحد منهما له محلة على حدة، وكان تين بك من أجمل خلق الله صورة وعهد له أبوه بالملك، وكانت له الحظوة والتشريف عنده ولم يرد الله ذلك، فإنه لما مات أبوه ولي يسيرًا ثم قُتِلَ لأمور قبيحة جرت له، وولي أخوه جان بك وهو خير منه وأفضل، وكان السيد الشريف ابن عبد الحميد هو الذي تولى تربية جان بك وأشار علي هو والقاضي حمزة والإمام بدر الدين القوامي والإمام المقرئ حسام الدين البخاري وسواهم حين قدومي أن يكون نزولي بمحلة جان بك المذكور لفضله ففعلت ذلك.

ذكر سفري إلى مدينة بلغار

وكنت سمعت بمدينة بلغار فأردت التوجه إليها لأرى ما ذُكِرَ عنها من انتهاء قِصَر الليل بها وقصر النهار أيضًا في عكس ذلك الفصل، وكان بينها وبين محلة السلطان مسيرة عشر فطلبت منه من يوصلني إليها فبعث معي مَنْ أَوْصَلَنِي إليها ورَدَّنِي إليه، ووصلتها في رمضان فلما صَلَّيْنَا المغرب أفطرنا، وأُذِّنَ بالعشاء في أثناء إفطارنا فصليناها وصلينا التراويح والشفع والوتر وطَلَعَ الفجر إثر ذلك، وكذلك يقصر النهار بها في فصل قِصَرِه أيضًا وأقمت بها ثلاثًا.

ذكر أرض الظلمة

وكُنْتُ أردت الدخول إلى أرض الظلمة، والدخول إليها من بلغار وبينهما أربعون يومًا، ثم أَضْرَبْتُ عن ذلك لعظم المؤنة فيه وقلة الجدوى، والسفر إليها لا يكون إلا في عجلات صغار تَجُرُّها كلاب كبار، فإن تلك المفازة فيها الجليد، فلا يَثْبُت قدم الآدمي ولا حافر الدابة فيها، والكلاب لها الأظفار فتثبت أقدامها في الجليد، ولا يدخلها إلا الأقوياء من التجار الذين يكون لأحدهم مائة عجلة أو نحوها موفرة بطعامه وشرابه وحطبه، فإنها لا شجر فيها ولا حجر ولا مدر، والدليل بتلك الأرض هو الكلب الذي قد سار فيها مرارًا كثيرة، وتنتهي قيمته إلى ألف دينار ونحوها، وتربط العربة إلى عنقه ويقرن معه ثلاثة من الكلاب ويكون هو المقدم وتتبعه سائر الكلاب بالعربات، فإذا وَقَفَ وقفَتْ وهذا الكلب لا يضربه صاحبه ولا ينهره، وإذا حضر الطعام أطعم الكلاب أولًا قبل بني آدم، وإلا غَضِبَ الكلب وفَرَّ وتَرَكَ صاحبه للتلف، فإذا كملت للمسافرين بهذه الفلاة أربعون مرحلة نزلوا عند الظلمة وترك كل واحد منهم ما جاء به من المتاع هنالك وعادوا إلى منزلهم المعتاد، فإذا كان من الغد عادوا لِتَفَقُّد متاعهم فيجدون بإزائه من السمور والسنجاب والقاقم، فإن أرضى صاحب المتاع ما وجده إزاء متاعه أَخَذَهُ، وإن لم يُرْضِه تَرَكَهُ فيزيدونه، وربما رفعوا متاعهم — أعني أهل الظلمة — وتركوا متاع التجار، وهكذا بيعهم وشراؤهم، ولا يَعْلَم الذين يتوجهون إلى هنالك مَنْ يبايعهم ويشاريهم أَمِن الجن هو أم من الأنس، ولا يرون احدًا، والقاقم هو أحسن أنواع الفراء، وتساوي الفروة منه ببلاد الهند ألف دينار وصرفها من ذهبنا مائتان وخمسون، وهي شديدة البياض من جلد حيوان صغير في طول الشبر وذنبه طويل يتركونه في الفروة على حاله، والسمور دون ذلك تساوي الفروة منه أربعمائة دينار فما دونها، ومن خاصية هذه الجلود أنه لا يدخلها القمل، وأمراء الصين وكبارها يجعلون منه الجلد الواحد متصلًا بفرواتهم عند العنق، وكذلك تجار فارس والعراقين، وعُدْتُ من مدينة بلغار مع الأمير الذي بعثه السلطان في صحبتي فوَجَدْتُ محلة السلطان على الموضع المعروف ببش دغ، وذلك في الثامن والعشرين من رمضان، وحَضَرْتُ معه صلاة العيد وصادف يوم العيد يوم الجمعة.

ذكر ترتيبهم في العيد

ولما كان صباح يوم العيد رَكِبَ السلطان في عساكره العظيمة ورَكِبَتْ كل خاتون عَرَبَتَهَا ومعها عساكرها، ورَكِبَتْ بنت السلطان والتاج على رأسها، إذ هي الملكة على الحقيقة؛ وَرِثَت المُلْكَ من أمها، وركب أولاد السلطان كل واحد في عسكره، وكان قد قَدِمَ لحضور العيد قاضي القضاة شهاب الدين السايلي ومعه جماعة من الفقهاء والمشايخ فركبوا وركب القاضي حمزة والإمام بدر الدين القوامي والشريف ابن عبد الحميد، وكان ركوب هؤلاء الفقهاء مع تين بك وَلِيِّ عهد السلطان ومعهم الأطبال والأعلام، فصلى بهم القاضي شهاب الدين وخطب أحسن خطبة، ورَكِبَ السلطان وانتهى إلى برج خشب يُسَمَّى عندهم الكشك فجلس فيه ومعه خواتينه، ونُصِب بُرْجٌ ثانٍ دونه فجلس فيه وليُّ عهده وابنته صاحبة التاج، ونُصِبَ برجان دونهما عن يمينه وشماله فيهما أبناء السلطان وأقاربه، ونُصِبَت الكراسي للأمراء وأبناء الملوك — وتُسَمَّى الصندليات — عن يمين البرج وشماله، فجَلَسَ كُلُّ واحد على كرسيه، ثم نُصِبَتْ طبلات للرمي لكل أمير طومان طبلة مختصة به، وأمير طومان عندهم هو الذي يركب له عشرة آلاف فكان الحاضرون من أمراء طومان سبعة عشر يقودون مائة وسبعين ألفًا وعسكره أكثر من ذلك، ونُصِبَ لكل أمير شِبْهُ منبر فقَعَدَ عليه وأصحابه يلعبون بين يديه، فكانوا على ذلك ساعة، ثم أُتِيَ بالخِلَعِ فخُلِعَتْ على كل أمير خِلْعة، وعندما يلبسها يأتي إلى أسفل برج السلطان فيَخْدِم، وخِدْمَتُه أن يَمَسَّ الأرض بركبته اليمني ويمد رجله تحتها والأخرى قائمة ثم يؤتى بفرس مُسَرَّج مُلَجَّم فيرفع حافره ويقبل فيه الأمير ويقوده بنفسه إلى كرسيه، وهنالك يرتبه ويقف مع عسكره ويفعل هذا الفعل مع كل أمير منهم.

ثم ينزل السلطان على البرج ويركب الفرس وعن يمينه ابنه ولي العهد وتليه بنته الملكة إيت كججك وعن يساره ابنه الثاني وبين يديه الخواتين الأربع في عربات مكسوة بأثواب الحرير المذهب والخيل التي تجرها مجللة بالحرير المذهب، وينزل جميع الأمراء الكبار والصغار وأبناء الملوك والوزراء والحجاب وأرباب الدولة فيمشون بين يدي السلطان على أقدامهم إلى أن يصل إلى الوطاق والوطاق (بكسر الواو) وهو أفراج، وقد نصبت هنالك باركة (باركاه) عظيمة والباركة عندهم بيت كبير له أربعة أعمدة من الخشب مكسوة بصفائح الفضة المموهة بالذهب، وفي أعلى كل عمود جامور من الفضة المذهبة له بريق وشعاع وتظهر هذه الباركة على البعد كأنها ثنية ويوضع عن يمينها ويسارها سقائف من القطن والكتان ويفرش ذلك كله بفرش الحرير، وينصب في وسط الباركة السرير الأعظم وهم يسمونه التخت وهو من خشب مُرَصَّع وأعواده مكسوة بصفائح فضة مذهبة وقوائمه من الفضة الخالصة المموهة وفوقه فرش عظيم وفي وسط هذا السرير الأعظم مرتبة يجلس بها السلطان والخاتون الكبرى، وعن يمينه مرتبة جلست بها بنته إيت كججك ومعها الخاتون أردواجا وعن يساره مرتبة جلست بها الخاتون بيلون ومعها الخاتون كبك، ونُصِبَ عن يمين السرير كرسي قَعَدَ عليه تين بك ولد السلطان ونُصِبَ عن شماله كرسي قعد عليه جان بك ولده الثاني، ونُصِبَتْ كَرَاسِيُّ عن اليمين والشمال جَلَسَ فوقها أبناء الملوك والأمراء الكبار ثم الأمراء الصغار مثل أمراء هزارة وهم الذين يقودون ألفًا، ثم أُتِيَ بالطعام على موائد الذهب والفضة، وكل مائدة يحملها أربعة رجال وأكثر من ذلك، وطعامهم لحوم الخيل والغنم مسلوقة، وتُوضَع بين يدي كل أمير مائدة ويأتي الباورجي وهو مُقَطِّع اللحم وعليه ثياب حرير وقد رَبَطَ عليها فوطة حرير، وفي حزامه جملة سكاكين في أغمادها.

ويكون لكل أمير باورجي فإذا قُدِّمَت المائدة قَعَدَ بين يدي أميره، ويؤتى بصحفة صغيرة من الذهب أو الفضة فيها ملح محلول بالماء فيقطع الباورجي اللحم قطعًا صغارًا ولهم في ذلك صنعة في قطع اللحم مختلطًا بالعظم، فإنهم لا يأكلون منه إلا ما اختلط بالعظم، ثم يؤتى بأواني الذهب والفضة للشرب، وأكثر شربهم نبيذ العسل، وهم حنفية المذهب يحللون النبيذ، فإذا أراد السلطان أن يشرب أَخَذَتْ بنته القدح بيدها وخدمت برجلها، ثم ناولته القدح فشرب ثم تأخذ قدحًا آخر فتناوله للخاتون الكبرى فتشرب منه، ثم تناول لسائر الخواتين على ترتيبهن، ثم يأخذ ولي العهد القدح ويخدم ويناوله أباه فيشرب، ثم يناول الخواتين، ثم أخته ويخدم جميعهن، ثم يقوم الولد الثاني فيأخذ القدح ويسقي أخاه ويخدم له، ثم يقوم الأمراء الكبار فيسقي كل واحد منهم ولي العهد ويخدم له، ثم يقوم أبناء الملوك فيسقي كل واحد منهم هذا الابن الثاني ويخدم له، ثم يقوم الأمراء الصغار فيسقون أبناء الملوك ويغنون أثناء ذلك بالموالية، وكانت قد نُصِبَتْ قبة كبيرة أيضًا إزاء المسجد للقاضي والخطيب والشريف وسائر الفقهاء والمشايخ وأنا معهم، فأوتينا بموائد الذهب والفضة يحمل كل واحدة أربعة من كبار الأتراك ولا يَتَصَرَّف في ذلك اليوم بين يدي السلطان إلا الكبار، فيأمرهم برفع ما أراد من الموائد إلى من أراد، فكان من الفقهاء مَنْ أَكَلَ ومنهم من تَوَرَّعَ عن الأكل في موائد الفضة والذهب، ورأيت مد البصر عن اليمين والشمال من العربات عليها روايا القمز، فأمر السلطان بتفريقها على الناس فأتوا إليَّ بعربة منها فأعطيتها لجيراني من الأتراك.

ثم أتينا المسجد ننتظر صلاة الجمعة فأبطأ السلطان، فمن قائل: إنه لا يأتي لأن السكر قد غَلَبَ عليه، ومن قائل: إنه لا يترك الجمعة، فلما كان بَعْدَ تَمَكُّن الوقت أتى وهو يتمايل فسَلَّمَ على السيد الشريف، وتَبَسَّمَ له وكان يخاطبه بآطا وهو الأب بلسان التركية، ثم صلينا الجمعة وانصرف الناس إلى منازلهم وانصرف السلطان إلى الباركة فبقي على حاله إلى صلاة العصر، ثم انصرف الناس أجمعون وبقي مع الملك تلك الليلة خواتينه وبنته، ثم كان رحيلنا مع السلطان والمحلة لما انقضى العيد، فوصلنا إلى مدينة الحاج ترخان، ومعنى ترخان عندهم الموضع المحرر من المغارم (وهو بفتح المثناة وسكون الراء وفتح الخاء المعجم وآخره نون)، والمنسوب إليه هذه المدينة هو حاج من الصالحين تركي نزل بموضعها وحرر له السلطان ذلك الموضع فصار قرية ثم عظمت وتمدنت، وهي من أحسن المدن عظيمة الأسواق مبنية على نهر أثل، وهو من أنهار الدنيا الكبار وهنالك يقيم السلطان حتى يشتد البرد، ويجمد هذا النهر وتجمد المياه المتصلة به ثم يأمر أهل تلك البلاد فيأتون بالآلاف من أحمال التين فيجعلونها على الجليد المنعقد فوق النهر، والتين هنالك لا تأكله الدواب؛ لأنه يضرها وكذلك ببلاد الهند وإنما أكلها الحشيش الأخضر لخصب البلاد، ويسافرون بالعربات فوق هذا النهر، والمياه المتصلة به ثلاث مراحل وربما جازت القوافل فوقه مع آخر فصل الشتاء فيغرقون ويهلكون، ولما وصلنا مدينة الحاج ترخان رغبت الخاتون بيلون ابنة ملك الروم من السلطان أن يأذن لها في زيارة أبيها لتضع حملها عنده وتعود إليه، فأذن لها ورغبت منه أن يأذن لي في التوجه صحبتها لمشاهدة القسطنطينية العظمى فمنعني خوفًا عليَّ فلاطفته، وقلت له: إنما أدخلها في حرمتك وجوارك فلا أخاف من أحدٍ، فَأَذِنَ لي وَوَدَّعْنَاه، ووصلني بألف وخمسمائة دينار وخلعة وأفراس كثيرة وأعطتني كل خاتون منهن سبائك الفضة وهم يسمونها مصوم (بفتح الصاد المهمل) واحدتها صومة، وأعطت بنته أكثر منهن وكستني وأركبتني واجتمع لي من الخيل والثياب وفروات السنجاب والسمور جملة.

ذكر سفري إلى القسطنطينية

وسافرنا في العاشر من شوال في صحبة الخاتون بيلون وتحت حرمتها، ورحل السلطان في تشييعها مرحلة ورجع هو والملكة وولي عهده وسافر سائر الخواتين في صحبتها مرحلة ثانية ثم رجعن وسافر صحبتها الأمير بيدرة في خمسة آلاف من عسكره، وكان عسكر الخاتون نحو خمسمائة فارس منهم خدامها من المماليك والروم نحو مائتين والباقون من الترك، وكان معها من الجواري نحو مائتين وأكثرهن روميات، وكان لها من العربات نحو أربعمائة عربة ونحو ألفي فرس لجرها وللركوب ونحو ثلاثمائة من البقر ومائتين من الجمال لجرها وكان معها من الفتيان الروميين عشرة ومن الهنديين مثلهم وقائدهم الأكبر يسمى بسنبل الهندي، وقائد الروميين يسمى بميخائيل ويقول له الأتراك لؤلؤ، وهو من الشجعان الكبار وتركت أكثر جواريها وأثقالها بمحلة السلطان؛ إذ كانت قد توجهت برسم الزيارة ووضع الحمل وتوجهنا إلى مدينة أكك وهي (بضم الهمزة وفتح الكاف الأولى)، مدينة متوسطة حسنة العمارة كثيرة الخيرات شديدة البرد وبينها وبين السرا حضرة السلطان مسيرة عشر وعلى يوم من هذه المدينة جبال الروس وهم نصارى شقر الشعور زرق العيون قباح الصور أهل غدر، وعندهم معادن الفضة ومن بلادهم يؤتى بالصوم وهي سبائك الفضة التي بها يباع ويشترى في هذه البلاد ووزن الصومعة منها خمس أوقي، ثم وصلنا بعد عشر من هذه المدينة إلى مدينة سرادق (وضبط اسمها بضم السين المهمل وسكون الراء وفتح الدال المهمل وآخره قاف)، وهي من مدن دشت قفجق على ساحل البحر ومرساها من أعظم المراسي وأحسنها وبخارجها البساتين والمياه وينزلها الترك وطائفة من الروم تحت ذمتهم وهم أهل الصنائع وأكثر بيوتها خشب، وكانت هذه المدينة كبيرة فخرب معظمها بسبب فتنة وقعت بين الروم والترك، وكانت الغلبة للروم فانتصر للترك أصحابهم وقتلوا الروم شر قتلة ونفوا أكثرهم وبقي بعضهم تحت الذمة إلى الآن، وكانت الضيافة تحمل إلى الخاتون في كل منزل من تلك البلاد من الخيل والغنم والبقر والدوقي والقمز وألبان البقر والغنم والسفر في هذه البلاد مضحى ومعشى.

وكل أمير بتلك البلاد يصحب الخاتون بعساكره إلى آخر حد بلاده تعظيمًا لها لا خوفًا عليها؛ لأن تلك البلاد آمنة، ثم وصلنا إلى البلدة المعروفة باسم بايا سلطوق وبايا عندهم بمعناه عند البربر سواء إلا أنهم يفخمون الباء وسلطوق (بفتح السين المهمل وإسكان اللام وضم الطاء المهمل وآخره قاف)، ويَذْكُرون أن سلطوق هذا كان مكاشفًا لكن يُذْكَر عنه أشياء يُنْكِرها الشرع وهذه البلدة آخر بلاد الأتراك بينها وبين أول عمالة الروم ثمانية عشر يومًا في برية غير معمورة منها ثمانية أيام لا ماء بها يتزود لها الماء ويحمل في الروايا القرب على العربات، وكان دخولنا إليها في أيام البرد فلم نحتج إلى كثير من الماء والأتراك يرفعون الألبان في القرب ويخلطونها بالدوقي المطبوخ ويشربونها فلا يعطشون، وأخذنا من هذه البلدة في الاستعداد للبرية واحتجت إلى زيادة أفراس فأتيت الخاتون فأعلمتها بذلك، وكنت أسلم عليها صباحًا ومساء ومتى أتتها ضيافة تبعث إلي بالفرسين والثلاثة وبالغنم فكنت أترك الخيل لأذبحها، وكان من معي من الغلمان والخدام يأكلون مع أصحابنا الأتراك، فاجتمع لي نحو خمسين فرسًا وأمرت لي الخاتون بخمسة عشر فرسًا وأمرت وكيلها ساروجة الرومي أن يختارها سمانًا من خيل للمطبخ وقالت: لا تخف، فإن احتجت إلى غيرها زدناك ودخلنا البرية في منتصف ذي القعدة، فكان سيرنا من يوم فارقنا السلطان إلى أول البرية تسعة عشر يومًا وإقامتنا خمسة ورحلنا من هذه البرية ثمانية عشر يومًا مضحى ومعشى، وما رأينا إلا خيرًا والحمد لله، ثم وصلنا بعد ذلك إلى حصن مهتولي وهو أول عمالة الروم (وضبط اسمه بفتح الميم وسكون الهاء وضم التاء المعلوة وواو مد ولام مكسور وياء).

وكانت الروم قد سَمِعَتْ بقدوم هذه الخاتون على بلاد فوصلنا إلى هذا الحصن كفالي نقوله الرومي في عسكر عظيم وضيافة عظيمة وجاءت الخواتين والدايات من دار أبيها ملك القسطنطينية، وبين ومهتولي والقسطنطينية مسيرة اثنين وعشرين يومًا منها ستة عشر يومًا إلى الخليج وستة منه إلى القسطنطينية، ولا يسافر من هذا الحصن إلا بالخيل والبغال وتترك العربات به لأجل الوعر والجبال، وجاء كفالي المذكور ببغال كثيرة وبعثت إلي الخاتون بستة منها وأوصت أمير ذلك الحصن بمن تركته من أصحابي وغلماني مع العربات والأثقال فأمر لهم بدار، ورجع الأمير بيدرة بعساكر ولم يسافر مع الخاتون إلا ناسها وتركت مسجدها بهذا الحصن وارتفع حكم الأذان، وكان يؤتى إليها بالخمور في الضيافة فتشربها وبالخنازير، وأخبرني بعض خواصها أنها أكلتها ولم يبق معها من يصلي إلا بعض الأتراك كان يصلي معنا وتغيرت البواطن لدخولنا في بلاد الكفر، ولكن الخاتون أوصت الأمير كفالي بإكرامي، ولقد ضرب مرة بعض مماليكه لما ضحك من صلاتنا، ثم وصلنا حِصْنَ مسلمة بن عبد الملك وهو بسفح جَبَل على نهر زخار يقال له اصطفيلي، ولم يَبْقَ من هذا الحصن إلا آثاره، وبخارجه قرية كبيرة.

ثم سرنا يومين ووصلنا إلى الخليج وعلى ساحله قرية كبيرة فوجدنا فيه المد فأقمنا حتى كان الجزر وخضناه وعرضه نحو ميلين ومشينا أربعة أميال في رمال، ووصلنا الخليج الثاني فخضناه وعرضه نحو ثلاثة أميال، ثم مشينا نحو ميلين في حجارة ورمل، ووصلنا الخليج الثالث وقد ابتدأ المد فتبعنا فيه وعرضه ميل واحد فعرض الخليج كله مائية ويابسه اثنا عشر ميلًا وتصير ماء كلها في أيام المطر فلا تخاض إلا في القوارب، وعلى ساحل هذا الخليج الثالث مدينة الفنيكة (واسمها بفاء مفتوحة ونون وياء مد وكاف مفتوح)، وهي صغيرة لكنها حسنة مانعة، وكنائسها وديارها حسان والأنهار تخرقها والبساتين تحفها ويدخر بها العنب والإجَّاص والتفاح والسفرجل من السنة إلى الأخرى، وأقمنا بهذه المدينة ثلاثًا والخاتون في قصر لأبيها هنالك، ثم قدم أخوها شقيقها واسمه كفالي قراس في خمسة آلاف فارس شاكين السلاح، ولما أرادوا لقاء الخاتون ركب أخوها المذكور فرسًا أشهب ولبس ثيابًا بيضاء وجعل على رأسه مظللًا مكللًا بالجواهر وجعل عن يمينه خمسة من أبناء الملوك وعن يساره مثلهم لابسين البياض أيضًا وعليهم مظللات مزركشة بالذهب وجعل بين يديه مائة من المشائين ومائة فارس قد أسبغوا الدروع على أنفسهم وخيلهم وكل واحد منهم يقود فرسًا مسرجًا مدرعًا عليه شكة فارس من البيضة المجوهرة والدروع والتركش والقوس والسيف وبيده رمح في طرف رأسه راية، وأكثر تلك الرماح مكسوة بصفائح الذهب والفضة وتلك الخيل المقودة هي مراكب ابن السلطان، وقسم فرسانه على أفواج كل فوج فيه مائتا فارس، ولهم أمير قد قدم أمامه عشرة من الفرسان شاكين في السلاح، وكل واحد منهم يقود فرسًا وخلفه عشرة من العلامات ملونة بأيدي عشرة من الفرسان وعشرة أطبال يتقلدها عشرة من الفرسان ومعهم ستة يضربون الأبواق والأنفار والصرنايات وهي الغيطات.

ورَكِبَت الخاتون في مماليكها وجواريها وفتيانها وخدامها وهم نحو خمسمائة عليهم ثياب الحرير المزركشة بالذهب المرصعة، وعلى الخاتون حلة يقال لها النخ، ويقال لها أيضًا النسيج، مُرَصَّعَة بالجوهر، وعلى رأسها تاجٌ مُرَصَّع، وفرسها مُجَلَّل بجل حرير مزركش بالذهب، وفي يده ورجليه خلاخل الذهب، وفي عنقه قلائد مرصعة وعظم السرج مكسو ذهبًا مكلل جوهرًا، وكان الْتقاؤهما في بسيط من الأرض على نحو ميل من البلد، وتَرَجَّلَ لها أخوها لأنه أصغر سنًّا منها، وقَبَّلَ ركابها وقَبَّلَتْ رأسه وترجل الأمراء وأولاد الملوك وقَبَّلُوا جميعًا ركابها وانصرفَتْ مع أخيها، وفي غدِ ذلك اليوم وَصَلْنا إلى مدينة كبيرة على ساحل البحر لا أثبت الآن اسمها، ذات أنهار وأشجار، نَزَلْنَا بخارجها، ووصل أخو الخاتون ولي العهد في ترتيب عظيم وعسكر ضخم من عشرة آلاف مدرع، وعلى رأسه تاج وعن يمينه نحو عشرين من أبناء الملوك، وعن يساره مثلهم وقد رتب فرسانه على ترتيب أخيه سواء إلا أن الحفل أعظم والجمع أكثر، وتلاقت معه أخته في مثل زيها الأول وترجلا جميعًا وأوتي بخباء حرير فدخلا فيه فلا أعلم كيفية سلامهما، ونزلنا على عشرة أميال من القسطنطينية، فلما كان بالغد خرج أهلها من رجال ونساء وصبيان ركبانًا ومشاة في أحسن زي وأجمل لباس وضربت عند الصبح الأطبال والأبواق والأنفار وركبت العساكر وخرج السلطان وزوجته أم هذه الخاتون وأرباب الدولة والخواص، وعلى رأس الملك رواق يحمله جملة من الفرسان ورجال بأيديهم عصي طوال في أعلى كل عصى شبه كرة من جلد يرفعون بها الرواق وفي وسط الرواق مثل القبة يرفعها الفرسان بالعصى.

ولما أقبل السلطان اختلطت العساكر وكثر العجاج ولم أقدر على الدخول فيما بينهم فلزمت أثقال الخاتون وأصحابها خوفًا على نفسي، وذكر لي أنها لما قربت من أبويها ترجلت وقبلت الأرض بين أيديهما ثم قبلت حافري فرسيهما وفعل كبار أصحابها مثل فعلها في ذلك، وكان دخولنا عند الزوال أو بعده إلى القسطنطينية العظمى وقد ضربوا نواقيسهم حتى ارتجت الآفاق لاختلاط أصواتها، ولما وصلنا الباب من أبواب قصر الملك وجدنا به مائة رجل معهم قائد لهم فوق دكانه وسمعتهم يقولون سرا كنوا سرا كنوا، ومعناه المسلمون ومنعونا من الدخول فقال لهم أصحاب الخاتون: إنهم من جهتنا، فقالوا: لا يدخلون إلا بإذن، فأقمنا بالباب وذهب بعض أصحاب الخاتون فبعث من أعلمها بذلك وهي بين يدي والدها فذكرت له شأننا فأمر بدخولنا وعين لنا دارًا بمقربة من دار الخاتون وكتب لنا أمرًا بأن لا نعترض حيث نذهب من المدينة ونودي بذلك في الأسواق، وأقمنا بالدار ثلاثًا تبعث إلينا الضيافة من الدقيق والخبز والغنم والدجاج والسمن والفاكهة والحوت والدراهم والفرش، وفي اليوم الرابع دخلنا على السلطان.

ذكر سلطان القسطنطينية

واسمه تكفور (بفتح التاء المثناة وسكون الكاف وضم الفاء وواو وراء)، ابن السلطان جرجيس وأبوه السلطان جرجيس بقيد الحياة لكنه تَزَهَّدَ وتَرَهَّبَ وانقطع للعبادة في الكنائس وتَرَكَ المُلْكَ لولده وسنذكره، وفي اليوم الرابع من وصولنا إلى القسطنطينية بَعَثَتْ إلي الخاتون الفتى سنبل الهندي فأخذ بيدي وأدخلني إلى القصر فجزنا أربعة أبواب في كل باب سقائف بها رجال وأسلحتهم وقائدهم على دكانة مفروشة، فلما وَصَلْنا إلى الباب الخامس تَرَكَنِي الفتى سنبل ودَخَلَ ثم أتى ومعه أربعة من الفتيان الروميين، ففتشوني لئلا يكون معي سِكِّين، وقال لي القائد: تلك عادة لهم، لا بد من تفتيش كل من يدخل على الملك من خاصٍّ أو عامٍّ، غريبٍ أو بلديٍّ، وكذلك الفعل بأرض الهند، ثم لما فتشوني قام الموكل بالباب فأخذ بيدي وفتح الباب وأحاط بي أربعة من الرجال؛ أمسك اثنان بكمي واثنان من ورائي، فدخلوا بي إلى مشور كبير حيطانه بالفسيفساء قد نُقِشَ فيها صور المخلوقات من الحيوانات والجماد، وفي وسطه ساقية ماء، ومن جهتيها الأشجار والناس واقفون يمينًا ويسارًا سكوتًا لا يتكلم أحد منهم، وفي وسط المشور ثلاثة رجال وقوف أسلمني أولئك الأربعة إليهم فأمسكوا بثيابي كما فعل الآخرون، وأشار إليهم رجل فتقدموا بي وكان أحدهم يهوديًّا، فقال لي بالعربي: لا تَخَفْ، فهكذا عادتهم أن يفعلوا بالوارد، وأنا الترجمان، وأَصْلِي من بلاد الشام، فسألته: كيف أُسَلِّمُ؟ فقال: قل: السلام عليكم.

ثم وَصَلْتُ إلى قبة عظيمة والسلطان على سريره، وزوجته أم هذه الخاتون بين يديه، وأسفل السرير الخاتون وإخوتها، وعن يمينه ستة رجال، وعن يساره أربعة وكلهم بالسلاح، فأشار إلي قَبْلَ السلام والوصول إليه بالجلوس هنية ليسكن روعي ففعلْتُ ذلك، ثم وصلْتُ إليه فسلَّمْتُ عليه، وأشار إليَّ أن اجْلِسْ فلم أفعل، وسألني عن بيت المقدس وعن الصخرة المقدسة وعن القمامة وعن مهد عيسى وعن بيت لحم وعن مدينة الخليل عليه السلام، ثم عن دمشق ومصر والعراق وبلاد الروم فأجبته عن ذلك كله، واليهودي يترجم بيني وبينه، فأعجبه كلامي وقال لأولاده: أَكْرِموا هذا الرجل وأَمِّنُوه، ثم خَلَعَ علي خلعة وأَمَرَ لي بفرس مُسَرَّج مُلْجَم ومِظَلَّة من التي يجعلها المَلِك فوق رأسه وهي علامة الأمان، وطلبت منه أن يُعَيِّن من يركب معي بالمدينة في كل يوم حتى أُشَاهِدَ عجائبها وغرائبها وأَذْكُرَها في بلادي فعَيَّنَ لي ذلك، ومن العوائد عندهم أن الذي يلبس خلعة الملك ويركب فرسه يطاف به في أسواق المدينة بالأبواق والأنفار والأطبال ليراه الناس، وأكثر ما يَفْعَل ذلك بالأتراك الذين يأتون من بلاد السلطان أوزبك؛ لئلا يُؤْذَوْنَ، فطافوا بي في الأسواق.

ذكر المدينة

وهي متناهية في الكِبَر منقسمة بقسمين بينهما نهر عظيم المد والجزر على شكل وادي سلا من بلاد المغرب، وكانت عليه فيما تَقَدَّمَ قنطرة مبنية فخربت، وهو الآن يعبر في القوارب، واسم هذا النهر أبسمي (بفتح الهمزة وإسكان الباء الموحدة وضم السين المهمل وكسر الميم وياء مد) وأحد القسمين من المدينة يسمى أصطنبول (بفتح الهمزة وإسكان الصاد وفتح الطاء المهملتين وسكون النون وضم الباء الموحدة وواو مد ولام)، وهو بالعدوة الشرقية من النهر وفيه سكنى السلطان وأرباب دولته وسائر الناس، وأسواقه وشوارعه مفروشة بالصفاح متسعة، وأهل كل صناعة على حدة لا يشاركهم سواهم، وعلى كل سوق أبواب تسد عليه بالليل، وأكثر الصناع والباعة بها النساء، والمدينة في سفح جبل داخل في البحر نحو تسعة أميال وعرضه مثل ذلك أو أكثر، وفي أعلاه قلعة صغيرة وقصر السلطان، والسور يحيط بهذا الجبل وهو مانع لا سبيل لأحد إليه من جهة البحر وفيه نحو ثلاث عشرة قرية عامرة، والكنيسة العظمى هي في وسط هذا القسم من المدينة، وأما القسم الثاني منها فيسمى الغلطة (بغين معجمة ولام وطاء مهمل مفتوحات) وهو بالعدوة الغربية من النهر شبيه برباط الفتح في قرية من النهر، وهذا القسم خاص بنصارى الإفرنج يسكنونه، وهم أصناف: فمنهم الجنويون والبنادقة وأهل رومية وأهل أفرانسة وحكمهم إلى ملك القسطنطينية يقدم عليهم منهم من يرتضونه ويسمونه القمص، وعليهم وظيفة في كل عام لملك القسطنطينية، وربما استعصوا عليه فيحاربهم حتى يصلح بينهم البابا وجميعهم أهل تجارة، ومرساهم من أعظم المراسي رأيت به نحو مائة جفن من القراقر وسواها من الكبار، وأما الصغار فلا تحصى كثرةً، وأسواق هذا القسم حسنة، إلا أن الأقذار غالبة عليها ويشقها نهر صغير قذر نجس، وكنائسهم قذرة لا خير فيها.

ذكر الكنيسة العظمى

وإنما نذكر خارجها، وأما داخلها فلم أشاهده، وهي تسمى عندهم أيا صوفيا (بفتح الهمزة والياء آخر الحروف وألف وصاد مضموم وواو مد وفاء مكسورة وياء كالأولى وألف)، ويُذْكَر أنها من بناء آصف بن برخيا وهو ابن خالة سليمان عليه السلام، وهي من أعظم كنائس الروم وعليها سور يطيف بها فكأنها مدينة، وأبوابها ثلاثة عشر بابًا، ولها حَرَم هو نحو ميل عليه باب كبير ولا يُمْنَع أحد من دخوله، وقد دَخَلْتُه مع والد الملك الذي يَقَعُ ذِكْرُه وهو شبه مشور مسطح بالرخام وتشقه ساقية تخرج من الكنيسة لها حائطان مرتفعان نحو ذراع مصنوعان بالرخام المجزع المنقوش بأحسن صنعة، والأشجار منتظمة عن جهتي الساقية، ومن باب الكنيسة إلى باب هذا المشور معرش من الخشب مرتفع، عليه دوالي العنب وفي أسفله الياسمين والرياحين، وخارج باب هذا المشور قبة خشب كبيرة فيها طبلات خشب يجلس عليها خدام ذلك الباب، وعن يمين القبة مساطب وحوانيت أكثرها من الخشب يجلس بها قضاتهم وكُتَّاب دواوينهم، وفي وسط تلك الحوانيت قبة خشب يُصْعَد إليها على دَرَج خشب وفيها كرسي كبير مطبق بالملف يجلس فوقه قاضيهم وسنذكره، وعن يسار القبة التي على باب المشور سوق العطارين، والساقية التي ذكرناها تنقسم قسمين؛ أحدهما يمر بسوق العطارين، والآخر يمر بالسوق حيث القضاة والكتاب، وعلى باب الكنيسة سقائف يجلس بها خُدَّامها الذين يقمون طرقها ويوقدون سرجها ويغلقون أبوابها، ولا يدعون أحدًا يدخلها حتى يسجد للصليب الأعظم عندهم الذي يزعمون أنه بقية من الخشبة التي صُلِبَ عليها شبيه عيسى عليه السلام، وهو على باب الكنيسة مجعول في جعبة ذهب طولها نحو عشرة أذرع، وقد عرضوا عليها جعبة ذهب مثلها حتى صارت صليبًا، وهذا الباب مصفح بصفائح الفضة والذهب وحلقتاه من الذهب الخالص، وذُكِرَ لي أن عَدَدَ مَنْ بهذه الكنيسة من الرهبان والقسيسين ينتهي إلى آلاف، وأن بعضهم من ذرية الحواريين، وأن بداخلها كنيسة مختصة بالنساء فيها من الأبكار المنقطعات للعبادة أزيد من ألف، وأما القواعد من النساء فأكثر من ذلك كله، ومن عادة الملك وأرباب دولته وسائر الناس أن يأتوا كل يوم صباحًا إلى زيارة هذه الكنيسة ويأتي إليها البابا مرة في السنة وإذا كان على مسيرة أربع من البلد يخرج الملك إلى لقائه ويترجل له، وعند دخول المدينة يمشي بين يديه على قدميه، ويأتيه صباحًا ومساء للسلام عليه طول مقامه بالقسطنطينية حتى ينصرف.

ذكر المانستارات بقسطنطينية

والمانستار على مثل لفظ المارستان، إلا أن نونه متقدمة وراءه متأخرة، وهو عندهم شبه الزاوية عند المسلمين، وهذه المانستارات بها كثيرة فمنها مانستار عمره الملك جرجيس والدملك القسطنطينية وسنذكره وهو بخارج أصطنبول مقابل الغلطة، ومنها مانستاران خارج الكنيسة العظمى عن يمين الداخل إليها وهما في داخل بستان يشقهما نهر ماء واحدهما للرجال والآخر للنساء وفي كل واحد منهما كنيسة ويدور بهما البيوت للمتعبدين والمتعبدات وقد حبس على كل واحد منهما أحباس لكسوة المتعبدين ونفقتهم بناهما أحد الملوك، ومنها مانستاران عن يسار الداخل إلى الكنيسة العظمى على مثل هذين الآخرين ويطيف بهما بيوت وأحدهما يسكنه العميان والثاني يسكنه الشيوخ الذين لا يستطيعون الخدمة ممن بلغ الستين أو نحوها، ولكل واحد منهم كسوته ونفقته من أوقاف معينة لذلك، وفي داخل كل مانستار منها دويرة لتعبد الملك الذي بناه وأكثر هؤلاء الملوك إذا بلغ الستين أو السبعين بنى مانستارًا ولبس المسوح وهي ثياب الشعر وقلد ولده الملك واشتغل بالعبادة حتى يموت، وهم يحتفلون في بناء هذه المانستارات ويعملونها بالرخام والفسيفساء وهي كثيرة بهذه المدينة، ودخلت مع الرومي الذي عَيَّنَهُ الملك للركوب معي إلى مانستار يشقه نهر وفيه كنيسة فيها نحو خمسمائة بكر عليهن المسوح ورءوسهن محلوقة فيها قلانيس اللبد ولهن جمال فائق وعليهن أثر العبادة وقد قعد صبي على منبر يقرأ لهن الإنجيل بصوت لم أسمع قط أحسن منه وحوله ثمانية من الصبيان على منابر ومعهم قسيسهم، فلما قرأ هذا الصبي قرأ صبي آخر، وقال لي الرومي: إن هؤلاء البنات من بنات الملوك وهبن أنفسهن لخدمة هذه الكنيسة، وكذلك الصبيان القراء ولهم كنيسة أخرى خارج تلك الكنيسة، ودخلت معه أيضًا إلى كنيسة في بستان فوجدنا بها نحو خمسمائة بكر أو أزيد وصبي يقرأ لهن على منبر وجماعة صبيان معه على منابر مثل الأولين، فقال لي الرومي: هؤلاء بنات الوزراء والأمراء يتعبدن بهذه الكنيسة، ودخلت معه إلى كنائس فيها أبكار من وجوه أهل البلد وإلى كنائس فيها العجائز والقواعد من النساء وإلى كنائس فيها الرهبان يكون في الكنيسة منها مائة رجل وأكثر وأقل، وأكثر أهل هذه المدينة رهبان ومتعبدون وقسيسون وكنائسها لا تحصى كثرة، وأهل المدينة من جندي وغيره صغير وكبير يجعلون على رءوسهم المظلات الكبار شتاء وصيفًا والنساء لهن عمائم كبار.

ذكر الملك المترهب جرجيس

وهذا الملك وَلَّى المُلْك لابنه وانقطع للعبادة وبنى مانستارًا — كما ذكرناه — خارج المدينة على ساحلها، وكنت يومًا مع الرومي المُعَيَّن للركوب معي؛ فإذا بهذا الملك ماشٍ على قدميه وعليه المسوح وعلى رأسه قلنسوة لبد، وله لحية بيضاء طويلة ووجهه حسن عليه أثر العبادة وخلفه وأمامه جماعة من الرهبان وبيده عكاز وفي عنقه سبحة، فلما رآه الرومي نزل وقال لي: انزل فهذا والد الملك، فلما سلم عليه الرومي سأله عني، ثم وقفت وبعث لي فجئت إليه فأخذ بيدي وقال لذلك الرومي — وكان يَعْرِف اللسان العربي: قل لهذا السراكنو — يعني المسلم — أنا أصافح اليد التي دَخَلَتْ بيت المقدس والرِّجْل التي مَشَتْ داخل الصخرة والكنيسة العظمى التي تُسَمَّى قمامة وبيت لحم، وجعل يده على قدمي ومسح بها وجهه، فعَجِبْتُ من اعتقادهم فيمن دَخَلَ تلك المواضع من غير ملتهم، ثم أخذ بيدي ومشيت معه فسألني عن بيت المقدس وَمَنْ فيه من النصارى وأطال السؤال، ودخلت معه إلى حرم الكنيسة الذي وصفناه آنفًا، ولما قارب الباب الأعظم خرجت جماعة من القسيسين والرهبان للسلام عليه وهو من كبارهم في الرهبانية، ولما رآهم أَرْسَلَ يدي، فقلت له: أريد الدخول معك إلى الكنيسة، فقال للترجمان: قل له: لا بد لداخلها من السجود للصليب الأعظم، فإن هذا مما سَنَّتْهُ الأوائل ولا يمكن خلافه، فتَرَكْتُه ودَخَلَ وحده ولم أَرَهُ بعدها.

ذكر قاضي القسطنطينية

ولما فارقْتُ الملك المترهب المذكور دخلت سوق الكتاب فرآني القاضي فبعث إليَّ أَحَدَ أعوانه فسأل الرومي الذي معي، فقال له: إنه من طلبة المسلمين فلما عاد إليه وأخبره بذلك بَعَثَ إليَّ أحد أصحابه، وهم يسمون القاضي النجشي كفالي، فقال لي النجشي: كفالي يدعوك فصعدت إليه إلى القبة التي تَقَدَّمَ ذِكْرُها، فرأيت شيخًا حَسَنَ الوجه واللمة عليه لباس الرهبان وهو الملف الأسود وبين يديه نحو عشرة من الكُتَّاب يكتبون، فقام إليَّ وقام أصحابه وقال: أنت ضيف الملك ويجب علينا إكرامك وسألني عن بيت المقدس والشام ومصر، وأطال الكلام وكَثُرَ عليه الازدحام، وقال لي: لا بد لك أن تأتي إلى داري فأضيفك فانصرفْتُ عنه ولم أَلْقَهُ بعد.

ذِكْر الانصراف عن القسطنطينية

ولما ظهر لمن كان في صحبة الخاتون من الأتراك أنها على دين أبيها وراغبة في المقام معه طلبوا منها الإذن في العودة إلى بلادهم فأَذِنَتْ لهم وأَعْطَتْهُم عطاء جزيلًا وبعثَتْ معهم من يوصلهم إلى بلادهم أميرًا يسمى ساروجة الصغير في خمسمائة فارس، وبعثت عني فأعطتني ثلاثمائة دينار من ذهبهم وهم يسمونه البربرة، وليس بالطيب، وألفي درهم بندقية وشقة ملف من عمل البنات وهو أجود أنواعه، وعشرة أثواب من حرير وكتان وصوف وفرسين وذلك من عطاء أبيها، وأوصت بي ساروجة وودعتها وانصرفت، وكانت مدة مقامي عندهم شهرًا وستة أيام، وسافرنا صحبة ساروجة فكان يكرمني حتى وصلنا إلى آخر بلادهم حيث تركنا أصحابنا وعرباتنا فركبنا العربات ودخلنا البرية ووصل ساروجة معنا إلى مدينة بايا سلطوق وأقام بها ثلاثًا في الضيافة وانصرفت إلى بلاده وذلك في اشتداد البرد، وكنت ألبس ثلاث فروات وسروالين أحدهما مبطن وفي رجلي خُفٌّ من صوف وفوقه خفٌّ مبطن بثوب كتان وفوقه خفٌّ من البرغالي وهو جلد الفرس مبطَّن بجلد ذئب، وكنت أتوضأ بالماء الحار بمقربة من النار، فما تَقْطُر من الماء قطرة إلا جَمُدَتْ لحينها، وإذا غسلت وجهي يصل الماء إلى لحيتي فيجمد فأحركها فيسقط منها شبه الثلج، والماء الذي ينزل من الأنف يجمد على الشارب، وكنت لا أستطيع الركوب لكثرة ما علي من الثياب حتى يُرْكِبَني أصحابي، ثم وَصَلْتُ إلى مدينة الحاج ترخان حيث فارَقْنا السلطان أوزبك فوجدناه قد رَحَلَ واستقر بحضرة ملكه، فسافرنا على نهر أتل وما يليه من المياه ثلاثًا وهي جامدة، وكنا إذا احتجنا الماء قطعنا قطعًا من الجليد وجعلناه في القدر حتى يصير ماء فنشرب منه ونطبخ به، ووصلنا إلى مدينة السرا (وضبط اسمها بسين مهمل وراء مفتوحة وألف)، وتُعْرَف بسرابركة وهي حضرة السلطان أوزبك ودخلنا على السلطان فسألنا عن كيفية سفرنا وعن ملك الروم ومدينته فأعلمناه وأمر بإجراء النفقة علينا وأنزلنا ومدينة السرا من أحسن المدن متناهية الكبر في بسيط من الأرض، تغص بأهلها كثرة، حسنة الأسواق متسعة الشوارع.

وركبنا يومًا مع بعض كبرائها وغرضنا التطوف عليها ومعرفة مقدارها وكان منزلنا في طرف منها فركبنا منه غدوة فلما وصلنا لآخرها إلا بعد الزوال فصلينا الظهر وأكلنا طعامًا فما وصلنا إلى المنزل إلا عند المغرب ومشينا يومًا في عرضها ذاهبين وراجعين في نصف يوم وذلك في عمارة متصلة الدور لا خراب فيها ولا بساتين وفيها ثلاثة عشر مسجدًا لإقامة الجمعة أحدها للشافعية، وأما المساجد سوى ذلك فكثير جدًّا وفيها طوائف من الناس منهم المغل وهم أهل البلاد والسلاطين وبعضهم مسلمون ومنهم الأص وهم مسلمون ومنهم القفجق والجركس والروس والروم وهم نصارى وكل طائفة تسكن محلة على حدة فيها أسواقها والتجار والغرباء من أهل العراقين ومصر والشام وغيرها ساكنون بمحلة عليها سور احتياطًا على أموال التجار وقصر السلطان بها يسمى ألطون طاش وألطون (بفتح الهمزة وسكون اللام وضم الطاء المهمل وواو مد ونون)، ومعناه الذهب وطاش (بفتح الطاء المهمل وشين معجم) ومعناه حجز، وقاضي هذه الخضرة بدر الدين الأعرج من خيار القضاة وبها من مدرسي الشافعية الفقيه الإمام الفاضل صدر الدين سليمان اللكزي أحد الفضلاء، وبها من المالكية شمس الدين المصري وهو ممن يطعن في ديانته وبها زاوية الصالح الحاج نظام الدين أضافنا بها وأكرمنا وبها زاوية الفقيه الإمام العالم نعمان الدين الخوارزمي رأيته بها وهو من فضلاء المشايخ حسن الأخلاق كريم النفع شديد التواضع شديد السطوة على أهل الدنيا يأتي إليه السلطان أوزبك زائرًا في كل جمعة فلا يستقبله ولا يقوم إليه، ويقعد السلطان بين يديه ويكلمه ألطف كلام ويتواضع له والشيخ بضد ذلك وفعله مع الفقراء والمساكين والواردين خلاف فعله مع السلطان، فإنه يتواضع لهم ويكلمهم بألطف كلام ويكرمهم وأكرمني جزاه الله خيرًا، وبعث إلي بغلام تركي وشاهدت له بركة.

كرامة له

كنت أردت السفر من السرا إلى خوارزم فنهاني عن ذلك وقال لي: أَقِمْ أيامًا، وحينئذ تسافر، فنَازَعَتْنِي النفس ووجدت رفقة كبيرة آخذة في السفر فيهم تُجَّار أَعْرِفُهم، فاتفقت معهم على السفر في صحبتهم وذَكَرْتُ له ذلك فقال لي: لا بد لك من الإقامة، فعزمت على السفر، فأَبَقَ لي غلام أَقَمْتُ بسببه وهذه من الكرامات الظاهرة، ولما كان بعد ثلاثٍ وجد بعضُ أصحابي ذلك الغلام الآبق بمدينة الحاج ترخان فجاء به إلي فحينئذٍ سافرت إلى خوارزم وبينها وبين حضرة السرا صحراء مسيرة أربعين يومًا لا تسافر فيها الخيل لقلة الكلأ، وإنما تجر العربات بها الجمال فسرنا من السرا عشرة أيام فوصلنا إلى مدينة سرا جوق وجوق (بضم الجيم المعقود وواو وقاف)، ومعنى جوق صغير فكأنهم قالوا سرا الصغيرة وهي على شاطئ نهر كبير زخار يقال لهُ أُلُوصو (بضم الهمزة واللام وواو مد وضم الصاد المهمل وواو) ومعناه الماء الكبير، وعليه جسر من قوارب كجسر بغداد، وإلى هذه المدينة انتهى سفرنا بالخيل التي تجر العربات وبعناها بها تجر بحساب أربعة دنانير دراهم للفرس وأقل من ذلك لأجل ضعفها ورخصها بهذه المدينة واكترينا الجمال لجر العربات، وبهذه المدينة زاوية لرجل صالح معمر من الترك يقال له أطا (بفتح الهمزة والطاء المهمل) ومعناه الوالد، أضافنا بها ودعا لنا وأضافنا أيضًا قاضيها ولا أعرف اسمه، ثم سرنا منها ثلاثين يومًا سيرًا جادًّا لا ننزل إلا ساعتين إحداهما عند الضحى والأخرى عند المغرب، وتكون الإقامة قدر ما يطبخون الدوقي ويشربونه وهو يطبخ من غلية واحدة ويكون معهم الخليع من اللحم يجعلونه عليه ويصبون عليه اللبن وكل إنسان إنما ينام أو يأكل في عربته حال السير وكان لي في عربتي ثلاث من الجواري ومن عادة المسافرين في هذه البرية الإسراع لقلة أعشابها والجمال التي تقطعها يهلك معظمها وما يبقى منها لا ينتفع به إلا في سنة أخرى بعد أن يسمن والماء في هذه البرية في مناهل معلومة بعد اليومين والثلاثة وهو ماء المطر والحسيان.

ثم لما سلكنا هذه البرية وقَطَعْنَاها — كما ذكرناه — وَصَلْنَا إلى خوارزم، وهي أكبر مدن الأتراك وأعظمها وأجملها وأضخمها، لها الأسواق المليحة والشوارع الفسيحة والعمارة الكثيرة والمحاسن الأثيرة، وهي ترتجُّ بسكَّانها لكثرتهم وتموج بهم موج البحر، ولقد ركبت بها يومًا ودخلت السوق، فلما توسطْتُه وبلغت منتهى الزحام في موضع يقال له الشهور (بفتح الشين المعجم وإسكان الواو)، لم أستطع أن أجوز ذلك الموضع لكثرة الازدحام، وأَرَدْتُ الرجوع فما أمكنني لكثرة الناس فبقيت متحيرًا، وبعد جهد شديد رجعت، وذَكَرَ لي بعض الناس أن تلك السوق يخف زحامها يوم الجمعة؛ لأنهم يسدون سوق القيسارية وغيرها من الأسواق، فركبت يوم الجمعة وتوجهت إلى المسجد الجامع والمدرسة، وهذه المدينة تحت إمرة السلطان أوزبك، وله فيها أمير كبير يسمى قطلودمور، وهو الذي عَمَرَ هذه المدرسة وما معها من المواضع المضافة، وأما المسجد فعَمَرَتْه زوجته الخاتون الصالحة ترابك وترا (بضم التاء المعلوة وفتح الراء وألف)، وبك (بفتح الباء الموحدة والكاف).

وبخوارزم مارستان له طبيب شامي يُعْرَف بالصهيوني نسبة إلى صهيون من بلاد الشام، ولم أَرَ في بلاد الدنيا أحسن أخلاقًا من أهل خوارزم ولا أكرم نفوسًا ولا أحب في الغرباء، ولهم عادة جميلة في الصلاة لم أَرَهَا لغيرهم، وهي أن المؤذنين بمساجدها يطوف كل واحد منهم على دور جيران مسجده مُعْلِمًا لهم بحضور الصلاة، فمن لم يحضر الصلاة مع الجماعة ضَرَبَه الإمام بمحضر الجماعة، وفي كل مسجد درة معلقة برسم ذلك، ويغرم خمسة دنانير تُنْفَق في مصالح المسجد أو تُطْعَم للفقراء والمساكين، ويذكرون أن هذه العادة عندهم مستمرة على قديم الزمان، وبخارج خوارزم نهر جيحون أحد الأنهار الأربعة التي من الجنة، وهو يَجْمُد في أوان البرد كما يجمد نهر أتل، ويسلك الناس عليه وتبقى مدة جموده خمسة أشهر وربما سلكوا عليه عند أخذه في الذوبان فهلكوا، ويُسَافَر فيه أيام الصيف بالمراكب إلى ترمذ ويَجْلِبُون منها القمح والشعير وهي مسيرة عشر للمنحدر، وبخارج خوارزم زاوية مبنية على تربة الشيخ نجم الدين الكبرى وكان من كبار الصالحين، وفيها الطعام للوارد والصادر، وشيخهم المدرس سيف الدين بن عضبة من كبار أهل خوارزم، وبها أيضًا زاوية شيخها الصالح المجاور جلال الدين السمرقندي من كبار الصالحين أضافنا بها، وبخارجها قبر الإمام العلامة أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري وعليه قبة، وزمخشر قرية على مسافة أربعة أميال من خوارزم، ولما أتيت هذه المدينة نزلت بخارجها، وتَوَجَّهَ بعض أصحابي إلى القاضي الصدر أبي حفص عمر البكري، فبعث إليَّ نائبُه نور الإسلام فسَلَّمَ علي ثم عاد إليه، ثم أتى القاضي في جماعة من أصحابه فسلم عليَّ وهو فتي السن كبير الفعال، وله نائبان أحدهما نور الإسلام المذكور والآخر نور الدين الكرماني من كبار الفقهاء، وهو الشديد في أحكامه القوي في ذات الله تعالى.

ولما حصل الاجتماع بالقاضي قال لي: إن هذه المدينة كثيرة الزحام، ودخولكم نهارًا لا يتأتى، وسيأتي إليكم نور الإسلام لتدخلوا معه من آخر الليل، ففعلنا ذلك ونزلنا بمدرسة جديدة ليس بها أحد، ولما كان بعد صلاة الصبح أتى إلينا القاضي المذكور ومعه من كبار المدينة جماعة منهم مولانا همام الدين، ومولانا زين الدين المقدسي، ومولانا رضي الدين يحيى، ومولانا فضل الله الرضوي، ومولانا جلال الدين العمادي، ومولانا شمس الدين السنجري إمام أميرها، وهم أهل مكارم وفضائل، والغالب على مَذْهَبِهم الاعتزال لكنهم لا يُظْهِرُونه؛ لأن السلطان أوزبك وأميره على هذه المدينة قطلودمور من أهل السنة، وكنت أيام إقامتي بها أصلي الجمعة مع القاضي أبي حفص عمر المذكور بمسجده، فإذا فَرَغَت الصلاة ذَهَبْتُ معه إلى داره وهي قريبة من المسجد، فأَدْخُلُ معه إلى مجلسه وهو من أبدع المجالس، فيه الفرش الحافلة وحيطانه مكسوَّة بالملف، وفيه طيقان كثيرة، وفي كل طاقٍ منها أواني الفضة المموهة بالذهب والأواني العراقية، وكذلك عادة أهل تلك البلاد أن يصنعوا في بيوتهم، ثم يأتي بالطعام الكثير وهو من أهل الرفاهية والمال الكثير والرباع، وهو سلف الأمير قطلودمور متزوج بأخت امرأته واسمها جيجا أغا، وبهذه المدينة جماعة من الوعاظ والمذكرين، أكبرهم مولانا زين الدين المقدسي والخطيب مولانا حسام الدين المشاطي الخطيب المصقع أحد الخطباء الأربعة الذين لم أسمع في الدنيا أحسن منهم.

وأمير خوارزم

هو الأمير الكبير قطلودمور وقطلو (بضم القاف وسكون الطاء المهمل وضم اللام)، ودمور (بضم الدال المهمل والميم وواو مد وراء) ومعنى اسمه الحديد المبارك؛ لأن قطلو هو المبارك ودمور هو الحديد، وهذا الأمير ابن خالة السلطان المعظم محمد أوزبك وأكبر أمرائه، وهو واليه على خراسان، وولده هارون بك متزوج بابنة السلطان المذكور التي أمها الملكة طيطغلي المتَقَدِّم ذِكْرُها، وامرأته الخاتون ترابك صاحبة المكارم الشهيرة، ولما أتاني القاضي مسلمًا عليَّ كما ذكرته قال لي: إن الأمير قد عَلِمَ بقدومك وبه بقية مَرَضٍ يمنعه من الإتيان إليك، فركبت مع القاضي إلى زيارته وأتينا داره فدخلنا مشورًا كبيرًا أكثر بيوته خشب، ثم دخلنا مشورًا صغيرًا فيه قبة خشب مزخرفة قد كسيت حيطانها بالملف الملون وسقفها بالحرير المذهب والأمير على فرش له من الحرير وقد غطى رجليه لما بهما من النقرس وهي علة فاشية في الترك، فسلمت عليه وأجلسني إلى جانبه وقعد القاضي والفقهاء وسألني عن سلطانه الملك محمد أوزبك وعن الخاتون بيلون وعن أبيهما وعن مدينة القسطنطينية فأعلمته بذلك كله، ثم أتي بالموائد فيها الطعام من الدجاج المشوية والكراكي وأفراخ الحمام وخبز معجون بالسمن يسمونه الكليجا والكعك والحلوى ثم أتي بموائد أخرى فيها الفواكه من الرمان المحبب في أواني الذهب والفضة ومعه ملاعق الذهب وبعضه في أواني الزجاج العراقي ومعه ملاعق الخشب ومن العنب والبطيخ العجيب ومن عوائد هذا الأمير أن يأتي القاضي في كل يوم إلى مشوره فيجلس بمجلس معد له ومعه الفقهاء وكتابه ويجلس في مقابلته أحد الأمراء الكبراء ومعه ثمانية من كبراء أمراء الترك وشيوخهم يسمون الأرغجية (يارغوجي) ويتحاكم الناس إليهم، فما كان من القضايا الشرعية حَكَمَ فيها القاضي، وما كان من سواها حَكَمَ فيها أولئك الأمراء، وأحكامهم مضبوطة عادلة؛ لأنهم لا يُتَّهَمُون بميل ولا يَقْبَلون رشوة، ولما عدنا إلى المدرسة بعد الجلوس مع الأمير بَعَث إلينا الأرز والدقيق والغنم والسمن والأبزار وأحمال الحطب، وتلك البلاد كلها لا يُعْرَف بها الفحم، وكذلك الهند وخراسان وبلاد العجم، وأما الصين فيوقدون فيها حجارة تشتعل فيها النار كما تشتعل في الفحم، ثم إذا صارت رمادًا عجنوه بالماء وجَفَّفُوه بالشمس وطبخوا بها ثانية كذلك حتى يتلاشى.

حكاية ومكرمة لهذا القاضي والأمير

صليت في بعض أيام الجُمَع على عادتي بمسجد القاضي أبي حفص فقال لي: إن الأمير أمر لك بخمسمائة درهم وأَمَرَ أن يُصْنَع لك دعوة يُنْفَق فيها خمسمائة درهم أخرى يحضرها المشايخ والفقهاء والوجوه، فلما أَمَرَ بذلك قلت له: أيها الأمير تَصْنَع دعوة يأكل مَنْ حَضَرَها لقمة أو لقمتين، لو جَعَلْتَ له جميع المال كان أحسن له للنفع، فقال: أفعل ذلك، وقد أمر لك بالألف كاملة ثم بعثها الأمير صحبة أمامه شمس الدين السنجري في خريطة يحملها غلامه وصرفها من الذهب المغربي ثلاثمائة دينار، وكنت قد اشتريت ذلك اليوم فرسًا أدهم اللون بخمسة وثلاثين دينارًا دراهم وركبته في ذهابي إلى المسجد فما أعطيت ثمنه إلا من تلك الألف وتكاثَرَتْ عندي الخيل بعد ذلك حتى انتهت إلى عدد لا أذكره خيفة مكذب يكذب به، ولم تزل حالي في الزيادة حتى دخلت أرض الهند وكانت عندي خيل كثيرة لكني كنت أُفَضِّل هذا الفَرَسَ وأوثره وأربطه أمام الخيل، وبقي عندي إلى انقضاء ثلاث سنين، ولما هلك تغيرت حالي وبعثت إلي الخاتون جيجا أغا امرأة القاضي مائة دينار دراهم وصنعت لي أختها ترابك زوجة الأمير دعوة جمعت لها الفقهاء ووجوه المدينة بزاويتها التي بنتها، وفيها الطعام للوارد والصادر، وبعثت إلي بفروة سمور وفرس جيد، وهي من أفضل النساء وأصلحهن وأكرمهن جزاها الله خيرًا.

حكاية

ولما انفصلْتُ من الدعوة التي صَنَعَتْ لي هذه الخاتون وخرجْتُ عن الزاوية تعرضَتْ لي بالباب امرأة عليها ثياب دنسة وعلى رأسها مقنعة ومعها نسوة لا أذكر عددهن، فسلمت علي فرددت عليها السلام ولم أَقِفْ معها ولا الْتَفَتُّ إليها، فلما خرجْتُ أَدْرَكَنِي بعض الناس وقال لي: إن المرأة التي سَلَّمَتْ عليك هي الخاتون، فخجلْتُ عند ذلك وأردت الرجوع إليها، فوجدتها قد انصرفَتْ، فأبلغْتُ إليها السلام مع بعض خدامها واعتذرت عما كان مني لعدم معرفتي بها.

ذكر بطيخ خوارزم

وبطيخ خوارزم لا نظير له في بلاد الدنيا شرقًا ولا غربًا إلا ما كان من بطيخ بخارى ويليه بطيخ أصفهان، وقشره أخضر وباطنه أحمر وهو صادق الحلاوة وفيه صلابة، ومن العجائب أنه يُقَدَّد ويُيَبَّس في الشمس ويُجْعَل في القواصر كما يُصْنَع عندنا بالشريحة وبالتين المالقي، ويُحْمَل من خوارزم إلى أقصى بلاد الهند والصين، وليس في جميع الفواكه اليابسة أطيب منه، وكنت أيام إقامتي بدهلي من بلاد الهند متى قَدِمَ المسافرون بعثْتُ من يشتري لي منهم قديد البطيخ، وكان ملك الهند إذا أتى إليه بشيء منه بَعَثَ إليَّ به لِمَا يعلم من محبتي فيه، ومن عادته أنه يطرف الغرباء بفواكه بلادهم ويتفقدهم بذلك.

حكاية

كان قد صحبني من مدينة السرى إلى خوارزم شريف من أهل كربلاء يسمى علي بن منصور وكان من التجار، فكنت أكلفه أن يشتري لي الثياب وسواها، فكان يشتري لي الثوب بعشرة دنانير ويقول: اشتريته بثمانية ويحاسبني بالثمانية ويدفع الدينارين من ماله وأنا لا عِلْمَ لي بفعله، إلى أن تَعَرَّفْتُ ذلك على ألسنة الناس، وكان مع ذلك قد أسلفني دنانير، فلما وَصَلَ إلي إحسان أمير خوارزم رَدَدْتُ إليه ما أَسْلَفَنِيه، وأَرَدْتُ أن أُحْسِنَ بعده إليه مكافأةً لأفعاله الحسنة فأبى ذلك، وحَلَفَ أن لا تفعل، وأردت أن أُحْسِنَ إلى فتًى كان له اسمه كافور فحلف أن لا أفعل، وكان أَكْرَمَ من لَقِيتُه من العراقيين، وعَزَمَ على السفر معي إلى بلاد الهند، ثم إن جماعة من أهل بلده وصلوا إلى خوارزم برسم السفر إلى الصين، فأَخَذَ في السفر معهم فقلت له في ذلك فقال: هؤلاء أهل بلدي يعودون إلى أهلي وأقاربي، ويذكرون أني سافرت إلى الهند برسم الكدية فيكون سبة عليَّ، لا أفعل ذلك. وسافر معهم إلى الصين فبلغني بَعْدُ وأنا بأرض الهند أنه لما بَلَغَ إلى مدينة المالق وهي آخر البلاد التي من عمالة ما وراء النهر وأول بلاد الصين أقام بها وبعث فتًى له بما كان عنده من المتاع، فأبطأ الفتى عليه وفي أثناء ذلك وَصَلَ من بلده بعض التجار، ونزل معه في فندق واحد فطلب منه الشريف أن يسلفه شيئًا بخلال ما يصل فتاه فلم يفعل، ثم أكد قُبْحَ ما صنع في عدم التوسعة على الشريف بأن أراد الزيادة عليه في المسكن الذي كان له في الفندق، فبلغ ذلك الشريف فأغنم منه ودخل إلى بيته فذبح نفسه فأُدْرِكَ وبه رمق، واتهموا غلامًا كان له بقتله فقال لهم: لا تظلموه، فإني أنا فعلت ذلك بنفسي، ومات من يومه غفر الله له، وكان قد حكى لي عن نفسه أنه أَخَذَ مرة من بعض تجار دمشق ستة آلاف درهم قراضًا فلقيه ذلك التاجر بمدينة حماة من أرض الشام فطلبه بالمال، وكان قد باع ما اشترى به من المتاع بالدَّيْن فاستحيا من صاحب المال، ودخل إلى بيته وربط عمامته بسقف البيت وأراد أن يخنق نفسه وكان في أَجَلِه تأخير، فتَذَكَّر صاحبًا له من الصيارفة فقصده وذَكَرَ له القضية فسلفه مالًا دَفَعَهُ للتاجر.

ولما أردت السفر من خوارزم اكتريت جِمَالًا واشتريت محارة، وكان عديلي بها عفيف الدين التوزري وركب الخدام بعض الخيل وجللنا باقيها لأجل البرد، ودخلنا البرية التي بين خوارزم وبخارى وهي مسيرة ثمانية عشر يومًا في رمال لا عمارة بها إلا بلدة واحدة، فودعت الأمير قطلودمور وخلع عليَّ خلعة وخَلَعَ عليَّ القاضي أخرى وخرج مع الفقهاء لوداعي، وسرنا أربعة أيام ووصلنا إلى مدينة الكات وليس بهذه الطريق عمارة سواها (وضبط اسمها بفتح الهمزة وسكون اللام وآخره تاء مثناة)، وهي صغيرة حسنة نزلنا خارجها على بِرْكة ماء قد جَمُدَتْ من البرد، فكان الصبيان يلعبون فوقها ويزلقون عليها، وسمع بقدومي قاضي الكات ويسمى صدر الشريعة، وكنت قد لقيته بدار قاضي خوارزم، فجاء إليَّ مُسَلِّمًا مع الطَّلَبة، وشيخ المدينة الصالح العابد محمود الخيوقي، ثم عَرَضَ عليَّ القاضي الوصول إلى أمير تلك المدينة فقال له الشيخ محمود القادم: ينبغي له أن يزار، وإن كانت لنا همة نذهب إلى أمير المدينة ونأتي به، ففعلوا ذلك وأتى الأمير بعد ساعة في أصحابه وخُدَّامه، فسَلَّمْنا عليه وكان غرضنا تعجيل السفر فطلب منا الإقامة وصنع دعوة جمع لها الفقهاء ووجوه العساكر وسواهم، وقف الشعراء يمدحونه وأعطاني كسوة وفرسًا جيدًا، وسرنا على الطريق المعروفة بسيباية، وفي تلك الصحراء مسيرة ست دون ماء ووصلنا بعد ذلك إلى بلدة وبكنة (وضبط اسمها بفتح الواو وإسكان الباء الموحدة وكاف ونون)، وهي على مسيرة يوم واحد من بخارى بلدة حسنة ذات أنهار وبساتين وهم يدخرون العنب من سنة إلى سنة وعندهم فاكهة يسمونها العلو (الآلو) بالعين المهملة وتشديد اللام فييبسونه ويَجْلِبه الناس إلى الهند والصين ويُجْعَل عليه الماء ويُشْرَب ماؤه، وهو أيام كونه أخضر حلو، فإذا يبس صار فيه يسير حموضة، ولحميته كثيرة، ولم أَرَ مِثْلَه بالأندلس ولا بالمغرب ولا بالشام.

ثم سرنا في بساتين متصلة وأنهار وأشجار وعمارة يومًا كاملًا، ووصلنا إلى مدينة بخارى التي يُنْسَب إليها إمام المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وهذه المدينة كانت قاعدة ما وراء نهر جيحون من البلاد وخَرَّبَها اللعين تنكيز التتري جد ملوك العراق، فمساجدها الآن ومدارسها وأسواقها خربة إلا القليل، وأهلها أذلاء وشهادتهم لا تقبل بخوارزم وغيرها لاشتهارهم بالتعصب ودعوى الباطل وإنكار الحق، وليس بها اليوم من الناس من يَعْلَم شيئًا من العلم ولا من له عناية به.

ذِكْر أولية التتر وتخريبهم بخارى وسواها

كان تنكيز خان حدادًا بأرض الخطا، وكان له كَرَم نَفْس وقوة وبسطة في الجسم، وكان يجمع الناس ويطعمهم، ثم صارت له جماعة فقدموه على أنفسهم وغلب على بلده وقوي واشتدت شوكته واستفحل أَمْرُه، فغَلَبَ على مالِكِ الخطا ثم على ملك الصين، وعَظُمَتْ جيوشه وتَغَلَّبَ على بلاد الختن وكاشغر والمالق، وكان جلال الدين سنجر بن خوارزم شاه ملك خوارزم وخراسان وما وراء النهر له قوة عظيمة وشوكة، فهَابَهُ تنكيز وأَحْجَمَ عنه ولم يَتَعَرَّضْ له، فاتفق أن بعث تنكيز تُجَّارًا بأمتعة الصين والخطا من الثياب الحريرية وسواها إلى بلدة أُطرار (بضم الهمزة) وهي آخر عمالة جلال الدين، فبعث إليه عامله عليها مُعْلِمًا بذلك واستأذنه ما يفعل في أَمْرِهم، فكتب إليه يأمره أن يأخذ أموالهم ويُمَثِّل بهم ويقطع أعضاءهم ويردهم إلى بلادهم، لِمَا أراد الله تعالى من شقاء أهل بلاد المشرق ومحنتهم رأيًا قائلًا وتدبيرًا سيئًا مشئومًا، فلما فَعَلَ ذلك تَجَهَّزَ تنكيز بنفسه في عساكر لا تحصى كثرةً برسم غزو بلاد الإسلام، فلما سمع عامل أُطرار بحركته بعث الجواسيس ليأتوه بخبره، فذَكَرَ أن أحدهم دَخَلَ محلة بعض أمراء تنكيز في صورة سائل فلم يَجِدْ من يطعمه ونزل إلى جانب رجل منهم فلم يَرَ عنده زادًا ولا أطعمه شيئًا، فلما أمسى أخرج مصرانًا يابسة عنده فبَلَّها بالماء وفصد فرسه وملاها بدمه وعقدها وشواها بالنار فكانت طعامه، فعاد إلى أطرار فأخبر عاملها بأمرهم وأعلمه أن لا طاقة لأحد بقتالهم، فاستمد مليكه جلال الدين فأمده بستين ألفًا زيادة على من كان عنده من العساكر، فلما وَقَعَ القتال هزمهم تنكيز ودخل مدينة أطرار بالسيف فقتل الرجال وسبى الذراري وأتى جلال الدين بنفسه لمحاربته، فكانت بينهم وقائع لا يُعْلَم في الإسلام مثلها، وآلَ الأمرُ إلى أن تَمَلَّكَ تنكيز ما وراء النهر، وخَرَّبَ بخارى وسمرقند وترمذ وعبر النهر وهو نهر جيحون إلى مدينة بلخ فتَمَلَّكَها، ثم إلى الياميان (الباميان) فتملكها، وأَوْغَلَ في بلاد خراسان وعراق العجم، فثار عليه المسلمون في بلخ وفي ما وراء النهر فكَرَّ عليهم ودخل بلخ بالسيف وتَرَكَها خاوية على عروشها، ثم فَعَلَ مثل ذلك في ترمذ فخربت ولم تعمر بعد، لكنها بُنِيَتْ مدينة على ميلين منها هي التي تسمى اليوم ترمذ، وقتل أهل الياميان (الباميان) وهدمها بأسرها إلا صومعة جامعها، وعفا عن أهل بخارى وسمرقند، ثم عاد بعد ذلك إلى العراق وانتهى أمر التتر حتى دخلوا حضرة الإسلام ودار الخلافة بغداد بالسيف وذبحوا الخليفة المستعصم بالله العباسي رحمه الله.

قال ابن جزي: أخبرنا شيخنا قاضي القضاة أبو البركات ابن الحاج أعزه الله قال: سمعت الخطيب أبا عبد الله بن رشيد يقول: لقيت بمكة نور الدين بن الزجاج من علماء العراق ومعه ابن أخ له فتفاوضنا الحديث فقال لي: هَلَكَ في فتنة التتر بالعراق أربعة وعشرون ألف رجل من أهل العلم، ولم يَبْقَ منهم غيري وغير ذلك — وأشار إلى ابن أخيه.

(رجع)، قال: ونزلنا من بخارى بربضها المعروف بفتح أباد حيث قبر الشيخ العالم العابد الزاهد سيف الدين الباخرزي وكان من كبار الأولياء، وهذه الزاوية المنسوبة لهذا الشيخ حيث نزلنا عظيمة لها أوقاف ضخمة يطعم منها الوارد والصادر وشيخها من ذريته وهو الحاج السياح يحيى الباخرزي، وأضافني هذا الشيخ بداره وجمع وجوه أهل المدينة وقرأ القراء بالأصوات الحسان ووعظ الواعظ وغنى بالتركي والفارسي على طريقته حسنة، ومرت لنا هنالك ليلة بديعة من أعجب الليالي، ولقيت بها الفقيه العالم الفاضل صدر الشريعة وكان قد قدم من هراة وهو من الصلحاء الفضلاء، وزرت ببخارى قبر الإمام العالم أبي عبد الله البخاري مُصَنِّف الجامع الصحيح شيخ المسلمين رضي الله عنه وعليه مكتوب: هذا قبر محمد بن إسماعيل البخاري، وقد صَنَّفَ من الكتب كذا وكذا، وكذلك على قبور علماء بخارى أسماؤهم وأسماء تصانيفهم، وكنت قَيَّدْتُ من ذلك كثيرًا وضاع مني في جملة ما ضاع لي لما سلبني كفار الهند في البحر، ثم سافرنا من بخارى قاصدين معسكر السلطان الصالح المعظم علاء الدين طرمشيرين وسنذكره، فمررنا على نخشب البلدة التي يُنْسَب إليها الشيخ أبو تراب النخشبي، وهي صغيرة تحف بها البساتين والمياه فنزلنا بخارجها بدار لأميرها، وكان عندي جارية قد قاربت الولادة وكنت أردت حملها إلى سمرقند لتلد بها، فاتفق أنها كانت في المحمل فوضع المحمل على الجمل وسافر أصحابنا من الليل وهي معهم والزاد وغيره ومن أسبابي وأقمت أنا حتى أرتحل نهارًا مع بعض من معي فسلكوا طريقًا وسلكت طريقًا سواها، فوصلنا عشية النهار إلى محلة السلطان المذكور وقد جعلنا فنزلنا على بعد من السوق واشترى بعض أصحابنا ما سد جوعتنا وأعار بعض التجار خباء بتنا به تلك الليلة، ومضى أصحابنا من الغد في البحث عن الجمال وباقي الأصحاب فوجدوهم عشيًّا وجاءوا بهم.

وكان السلطان غائبًا عن المحلة في الصيد فاجتمعت بنائبه الأمير تقبغا فأنزلني بقرب مسجده وأعطاني خرقة (خركاه) وهي شبه الخباء وقد ذكرنا صفتها فيما تقدم، فجعلت الجارية في تلك الخرقة فولدت تلك الليلة مولودًا وأخبروني أنه ولد ذكر ولم يكن كذلك، فلما كان بعد العقيقة أخبرني بعض الأصحاب أن المولود بنت، فاستحضرت الجواري فسألتهن فأخبرنني بذلك وكانت هذه البنت مولودة في طالع سعد، فرأيت كل ما يسرني ويرضيني منذ ولدت، وتوفيت بعد وصولي إلى الهند بشهرين وسيُذْكَر ذلك، واجتمعت بهذه المحلة بالشيخ الفقيه العابد مولانا حسام الدين الياغي (بالياء آخر الحروف والغين المعجمة)، ومعناه بالتركية الثائر وهو من أهل أطرار وبالشيخ صهر السلطان.

ذكر سلطان ما وراء النهر

وهو السلطان المعظم علاء الدين طرمشيرين (وضبط اسمه بفتح الطاء المهمل وسكون الراء وفتح الميم وكسر الشين المعجم وياء مد وراء مكسور وياء مد ثانية ونون)، وهو عظيم المقدار كثير الجيوش والعساكر ضخم المملكة شديد القوة عادل الحُكْم، وبلاده متوسطة بين أربعة من ملوك الدنيا الكبار، وهم مَلِك الصين ومَلِك الهند ومَلِك العراق والمَلِك أوزبك، وكلهم يهادونه ويعظمونه ويكرمونه، وولي الملك بعد أخيه الجكطي (وضبط اسمه بفتح الجيم المعقودة والكاف والطاء المهمل وسكون الياء)، وكان الجكطي هذا كافرًا وولي بعد أخيه الأكبر كبك وكان كبك هذا كافرًا أيضًا لكنه كان عادل الحكم منصفًا للمظلومين يكرم المسلمين ويعظمهم.

حكاية

يُذْكَر أن هذا الملك كبك تَكَلَّمَ يومًا مع الفقيه الواعظ المذكور بدر الدين الميداني، فقال له: أنت تقول: إن الله ذَكَرَ كل شيء في كتابه العزيز؟ قال: نعم، فقال: أين اسمي فيه؟ فقال: هو في قوله تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ، فأعجبه ذلك وقال: يخشى، ومعناه بالتركية جيد، فأكرمه إكرامًا كثيرًا وزاد في تعظيم المسلمين.

حكاية

ومن أحكام كبك ما ذُكِرَ أن امرأة شَكَتْ له بأحد الأمراء وذَكَرَتْ أنها فقيرة ذات أولاد، وكان لها لبن تقوتهم بثمنه فاغتصبه ذلك الأمير وشربه فقال لها: أنا أوسطه، فإن خرج اللبن من جوفه مضى لسبيله وإلا وسطتك بعده، فقالت المرأة: قد حللته ولا أطلبه بشيء، فأمر به فوسط فخرج اللبن من بطنه، ولنعد لذكر السلطان طرمشيرين، ولما أقمت بالمحلة وهم يسمونها الأرد أيامًا ذهبت يومًا لصلاة الصبح بالمسجد على عادتي، فلما صليت ذكر لي بعض الناس أن السلطان بالمسجد فلما قام عن مصلاه تقدمت للسلام عليه، وقام الشيخ حسن والفقيه حسام الدين الياغي وأعلماه بحالي وقدومي منذ أيام، فقال لي بالتركية: خش ميسن يخشى ميسن قطلوا يوسن، ومعنى خش ميسن: في عافية أنت، ومعنى يخشى ميسن: جيد أنت، ومعنى قطلوا يوسن: مبارك قدومك، وكان عليه في ذلك الحين قبا قدسي أخضر وعلى رأسه شاشية مثله، ثم انصرف إلى مجلسه راجلًا والناس يتعرضون له بالشكايات فيقف لكل مشتك منهم صغيرًا أو كبيرًا ذكرًا أو أنثى، ثم بعث عني فوصلت إليه وهو في خرقة والناس خارجها ميمنة وميسرة، والأمراء منهم على الكراسي وأصحابهم وقوف على رءوسهم وبين أيديهم وسائر الجند قد جلسوا صفوفًا وأمام كل واحد منهم سلاحه، وهم أهل النوبة يقعدون هنالك إلى العصر ويأتي آخرون فيقعدون إلى آخر الليل، وقد صنعت هنالك سقائف من ثياب القطن يكونون بها.

ولما دخلت إلى الملك بداخل الخرقة وجدته جالسًا على كرسي شبه المنبر مكسو بالحرير المزركش بالذهب وداخل الخرقة ملبس بثياب الحرير المذهب والتاج المرصع بالجوهر واليواقيت معلق فوق رأس السلطان بينه وبين رأسه قدر ذراع، والأمراء الكبار على الكراسي عن يمينه ويساره، وأولاد الملوك بأيديهم المذاب بين يديه، وعند باب الخرقة النائب والوزير والحاجب وصاحب العلامة، وهم يسمون آل طمغى وآل (بفتح الهمزة) معناه الأحمر، وطمغى (بفتح الطاء المهمل وسكون الميم والغين المعجم المفتوح) ومعناه العلامة، وقام إلى أربعتهم حين دخولي ودخلوا معي فسلمت عليه وسألني وصاحب العلامة يترجم بيني وبينه عن مكة والمدينة والقدس شرفها الله وعن مدينة الخليل عليه السلام وعن دمشق ومصر والملك الناصر وعن العراقين وملكهما وبلاد الأعاجم، ثم أذن المؤذن بالظهر فانصرفنا، وكنا نحضر معه الصلوات وذلك أيام البرد الشديد المهلك، فكان لا يترك صلاة الصبح والعشاء في الجماعة ويقعد للذكر بالتركيا بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس ويأتي إليه كل من في المسجد فيصافحه ويشد بيده على يده وكذلك يفعلون في صلاة العصر، وكان إذا أوتي بهدية من زبيب أو تمر والتمر عزيز عندهم وهم يتبركون به يعطي منها بيده لكل من في المسجد.

حكاية

ومن فضائل هذا الملك أنه حضرت صلاة العصر يومًا ولم يحضر السلطان، فجاء أحد فتيانه بسجادة ووضعها قبالة المحراب حيث جَرَتْ عادته أن يصلي، وقال للإمام حسام الدين الياغي: إن مولانا يريد أن تنتظره بالصلاة قليلًا ريثما يتوضأ، فقام الإمام المذكور وقال: نماز، ومعناه الصلاة برأي خدا أو برأي طرمشيرين، أي الصلاة لله أو لطرمشيرين، ثم أمر المؤذن بإقامة الصلاة وجاء السلطان وقد صُلِّيَ منها ركعتان فصلى الركعتين الآخرتين حيث انتهى به القيام وذلك في الموضع الذي تكون فيه أنعلة الناس عند باب المسجد وقضى ما فاته وقام إلى الإمام ليصافحه وهو يضحك، وجلس قبالة المحراب والشيخ الإمام إلى جانبه، وأتى إلى جانب الإمام فقال لي: إذا مشيت إلى بلادك فحدِّثْ أن فقيرًا من فقراء الأعاجم يَفْعَلُ هكذا مع سلطان الترك، وكان هذا الشيخ يعظ الناس في كل جمعة ويأمر السلطان بالمعروف وينهاه عن المنكر وعن الظلم ويُغْلِظ عليه القول والسلطان ينصت لكلامه ويبكي، وكان لا يقبل من عطاء السلطان شيئًا، ولم يأكل قط من طعامه ولا لبس من ثيابه، وكان هذا الشيخ من عباد الله الصالحين، وكنت كثيرًا ما أرى عليه قباء قطن مبطنًا بالقطن محشوًّا به وقد بلي وتمزَّق وعلى رأسه قلنسوة لبد يساوي مثلها قيراطًا ولا عمامة عليه، فقلت له في بعض الأيام: يا سيدي ما هذا القباء الذي أنت لابسه، إنه ليس بجيد، فقال لي: يا ولدي ليس هذا القباء لي وإنما هو لابنتي، فرغبت منه أن يأخذ بعض ثيابي فقال لي: عاهدْتُ الله منذ خمسين سنة أن لا أَقْبَلَ من أحد شيئًا، ولو كنت أقبل من أحد لقبلت منك.

ولما عزمت على السفر بعد مقامي عند هذا السلطان أربعة وخمسين يومًا أعطاني السلطان سبعمائة دينار دراهم وفروة سمور تساوي مائة دينار طلبتها منه لأجل البرد، ولمَّا ذَكَرْتُها له أَخَذَ أكمامي وجعل يقبلها بيده تواضعًا منه وفضلًا وحسن خلق، وأعطاني فرسين وجملين ولما أردت وداعه أدركته في أثناء طريقه إلى متصيده وكان اليوم شديد البرد جدًّا، فوالله ما قدرت على أن أنطق بكلمة لشدة البرد، ففهم ذلك وضحك وأعطاني يده وانصرفت، وبعد سنتين من وصولي إلى أرض الهند بلغنا الخبر بأن الملأ من قومه وأمرائه اجتمعوا بأقصى بلاده المجاورة للصين وهنالك معظم عساكره وبايعوا ابن عم له اسمه بوزن أغلي وكل من كان من أبناء الملوك فهم يسمونه أغلي (بضم الهمزة وسكون الغين المعجمة وكسر اللام)، وبوزن (بضم الباء الموحدة وضم الزاي)، وكان مسلمًا إلا أنه فاسد الدين سيئ السيرة، وسبب بيعتهم له وخلعهم لطرمشيرين أن طرمشيرين خالف أحكام جدهم تنكيز اللعين الذي خرب بلاد الإسلام وقد تَقَدَّمَ ذِكْرُه، وكان تنكيز ألف كتابًا في أحكامه يسمى عندهم البساق (بفتح الباء آخر الحروف والسين المهمل وآخره قاف)، وعندهم أنه من خالف أحكام هذا الكتاب فخَلْعُه واجب، ومن جملة أحكامه أنهم يجتمعون يومًا في السنة يسمونه الطوي ومعناه يوم الضيافة، ويأتي أولاد تنكيز والأمراء من أطراف البلاد ويحضر الخواتين وكبار الأجناد، وإن كان سلطانهم قد غير شيئًا من تلك الأحكام يقوم إليه كبراؤهم فيقولون له: غيرت كذا وغيرت كذا وفعلت كذا، وقد وجب خلعك، ويأخذون بيده ويقيمونه عن سرير الملك ويقعدون غيره من أبناء تنكيز، وإن كان أحد الأمراء الكبار أذنب ذنبًا في بلاده حكموا عليه بما يستحقه، وكان السلطان طرمشيرين قد أَبْطَلَ حُكْمَ هذا اليوم ومحا رَسْمَه فأنْكَرُوه عليه أَشَدَّ الإنكار، وأنكروا عليه أيضًا كَوْنَهُ أقام أربع سنين فيما يلي خراسان من بلاده ولم يَصِلْ إلى الجهة التي توالي الصين.

والعادة أن الملك يقصد تلك الجهة في كل سنة فيختبر أحوالها وحالَ الجند بها؛ لأن أصل ملكهم منها ودار الملك هي مدينة المالق، فلما بايعوا بوزن أتى في عسكر عظيم وخاف طرمشيرين على نفسه من أمرائه ولم يأمنهم فركب في خمسة عشر فارسًا يريد بلاد غزنة وهي من عمالته، وواليها كبير أمرائه وصاحب سره برنطية وهذا الأمير محب في الإسلام والمسلمين قد عمر في عمالته نحو أربعين زاوية فيها الطعام للوارد والصادر وتحت يده العساكر العظيمة، ولم أَرَ قط فيمن رأيته من الآدميين بجميع بلاد الدنيا أعظم خلقة منه، فلما عبر نهر جيحون وقصد طريق بلخ رآه بعض الأتراك من أصحاب ينقى ابن أخيه كبك وكان السلطان طرمشيرين المذكور قتل أخاه كبك المذكور بقي ابنه ينقي ببلخ، فلما أعلمه التركي بخبره قال: ما فر إلا لأمر حدث عليه، فركب في أصحابه وقبض عليه وسجنه ووصل بوزن إلى سمرقند وبخارى فبايعه الناس وجاءه ينقي بطرمشيرين فيُذْكَر أنه لما وصل إلى نسف بخارج سمرقند قُتِلَ هنالك ودُفِنَ بها، وخدم تربته الشيخ شمس الدين كردن بريدا، وقيل: إنه لم يقتل كما سنذكره، وكردن (بكاف معقودة وراء مسكن ودال مهمل مفتوح ونون) معناه العنق، وبريدا (بضم الباء الموحدة وكسر الراء وياء مد ودال مهمل) معناه المقطوع، ويسمى بذلك لضربة كانت في عنقه وقد رأيته بأرض الهند ويقع ذكره فيما بعد، ولما ملك بوزن هرب ابن السلطان طرمشيرين وهو بشاي أغل (أغلي) وأخته وزوجها فيروز إلى ملك الهند فعظمهم وأنزلهم منزلة علية بسبب ما كان بينه وبين طرمشيرين من الود والمكاتبة والمهاداة وكان يخاطبه بالأخ.

ثم بعد ذلك أتى رجل من أرض السند وادعى أنه طرمشيرين واختلف الناس فيه فسمع بذلك عماد الملك سرتيز غلام ملك الهند ووالي بلاد السند ويسمى ملك عرض، وهو الذي تُعْرَض بين يديه عساكر الهند وإليه أَمْرها، ومقره بملتان قاعدة السند، فبعث إليه بعض الأتراك العارفين به فعادوا إليه وأخبروه أنه هو طرمشيرين حقًّا فأمر له بالسراجة وهي إفراج فضرب خارج المدينة ورتب له ما يرتب لمثله وخرج لاستقباله، وتَرَجَّلَ له وسَلَّمَ عليه وأتى في خدمته إلى السراجة، فدخلها راكبًا كعادة الملوك ولم يشك أحد أنه هو، وبعث إلى ملك الهند بخبره فبعث إليه الأمراء يستقبلونه بالضيافات، وكان في خدمة ملك الهند حكيم ممن خدم طرمشيرين فيما تقدم وهو كبير الحكماء بالهند، فقال للملك: أنا أتوجه إليه وأعرف حقيقة أمره، فإني كنت عالجت له دملًا تحت ركبته وبقي أثره وبه أعرفه، فأتى إليه ذلك الحكيم واستقبله مع الأمراء ودخل عليه ولازمه لسابقته عنده وأخذ يغمز رجليه وكشف عن الأثر فشتمه وقال له: تريد أن تنظر إلى الدمل الذي عالجته ها هو ذا، وأراه أثره فتحقق أنه هو، وعاد إلى ملك الهند فأعلمه بذلك، ثم إن الوزير خواجة جهان أحمد بن إياس وكبير الأمراء قطلو خان معلم السلطان أيام صغره دخلا على ملك الهند وقالا له: يا خوند عالم هذا السلطان طرمشيرين قد وصل وصح أنه هو وها هنا من قومه نحو أربعين ألفًا وولده وصهره، أرأيت إن اجتمعوا عليه ما يكون من العمل، فوقع هذا الكلام بموقع منه عظيم وأمر أن يؤتى بطرمشيرين معجلًا.

فلما دخل عليه أمر بالخدمة كسائر الواردين ولم يعظم وقال له السلطان باماذركاني وهي شتمة قبيحة، كيف تَكْذِب وتقول أنك طرمشيرين، وطرمشيرين قد قُتِلَ وهذا خادم تربته عندنا، والله لولا المعرة لقتلتك ولكن أعطوه خمسة آلاف دينار واذهبوا به إلى دار بشاي أغلي وأخته ولدي طرمشيرين وقولوا لهم: إن هذا الكاذب يزعم أنه والدكم، فدخل عليهم فعرفوه وبات عندهم والحراس يحرسونه وأخرج بالغد وخافوا أن يهلكوا بسببه فأنكروه، ونفي عن بلاد الهند والسند فسلك طريق كبج ومكران، وأهل البلاد يكرمونه ويضيفونه ويهادونه ووصل إلى شيراز فأكرمه سلطانها أبو إسحاق وأجرى له كفايته، ولما دخلت عند وصولي من الهند إلى مدينة شيراز ذكر لي أنه باق بها وأردت لقاءه ولم أفعل؛ لأنه كان في دار لا يدخل إليه أحد إلا بإذن من السلطان أبي إسحاق، فخفت مما يتوقع بسبب ذلك، ثم ندمت على عدم لقائه.

(رجع الحديث إلى بوزن)، وذلك أنه لما ملك ضيق على المسلمين وظلم الرعية وأباح للنصارى واليهود عمارة كنائسهم فضَجَّ المسلمون من ذلك وتربصوا به الدوائر، واتصل خبره بخليل ابن السلطان اليسور المهزوم علي خراسان فقصد ملك هراة وهو السلطان حسين ابن السلطان غياث الدين الغوري، فأعلمه بما كان في نفسه وسأل منه الإعانة بالعساكر والمال على أن يشاطره الملك إذا استقام له، فبعث معه الملك حسين عسكرًا عظيمًا وبين هراة وترمذ تسعة أيام، فلما سمع أمراء السلطان بقدوم خليل تلقوه بالسمع والطاعة والرغبة في جهاد العدو، وكان أول قادم عليه علاء الملك خداوند زاده صاحب ترمذ، وهو أمير كبير شريف حسيني النسب، فأتاه في أربعة آلاف من المسلمين فسُرَّ به ووَلَّاهُ وزارته وفوض إليه أَمْرَه وكان من الأبطال، وجاء الأُمَرَاء من كل ناحية واجتمعوا على خليل، والْتَقَى مع بوزن فمالت العساكر إلى خليل وأسلموا بوزن وأتوا به أسيرًا فقتله خنقًا بأوتار القسي وتلك عادة لهم أنهم لا يقتلون من كان من أبناء الملوك إلا خنقًا، واستقام الملك لخليل وعرض عساكره بسمرقند فكانوا ثمانين ألفًا عليهم وعلى خيلهم الدروع، فصرف العسكر الذي جاء به من هراة وقصد بلاد المالق فقدم التتر على أنفسهم واحدًا منهم وألقوه على مسيرة ثلاث من المالق بمقربة من أطراز (طراز)، وحمي القتال وصبر الفريقان فحمل الأمير خداوند زاده وزيره في عشرين ألفًا من المسلمين حملة لم يثبت لها التتر فانهزموا واشتد فيهم القتل، وأقام خليل بالمالق ثلاثًا وخرج إلى استئصال من بقي من التتر فأذعنوا له بالطاعة، وجاز إلى تخوم الخطا والصين وفتح مدينة قراقرم ومدينة بش بالغ وبعث إليه سلطان الخطا بالعساكر، ثم وقع بينهما الصلح، وعظم أمر خليل وهابته الملوك وأظهر العدل ورتب العساكر بالمالق وترك بها وزيره خداوند زاده وانصرف إلى سمرقند وبخارى.

ثم إن الترك أرادوا الفتنة فسعوا إلى خليل بوزيره المذكور وزعموا أنه يريد الثورة ويقول: إنه أحق بالملك لقرابته من النبي وكرمه وشجاعته، فبعث واليًا إلى المالق عوضًا عنه، وأَمَرَهُ أن يقدم عليه في نفر يسير من أصحابه، فلما قَدِمَ عليه قَتَلَهُ عند وصوله من غير تثبُّت فكان ذلك سَبَبَ خراب مُلْكِه، وكان خليل لما عظم أمره بغى على صاحب هراة الذي أورثه الملك وجهزه بالعساكر والمال فكتب إليه أن يخطب في بلاده باسمه ويضرب الدنانير والدراهم على سكته فغاظ ذلك الملك حسينًا وأَنِفَ منه وأجابه بأقبح جواب فتجهز خليل لقتاله فلم توافقه عساكر الإسلام ورأوه باغيًا عليه، وبلغ خبره إلى الملك حسين فجهز العساكر مع ابن عمه ملك ورنا، والْتَقَى الجمعان فانهزم خليل وأُتِيَ به إلى الملك حسين أسيرًا، فمَنَّ عليه بالبقاء وجعله في دار وأعطاه جارية وأجرى عليه النفقة، وعلى هذا الحال تَرَكْتُه عنده في أواخر سنة سبع وأربعين عند خروجي من الهند، (ولنعد إلى ما كنا بسبيله)، ولما ودعت السلطان طرمشيرين سافرْتُ إلى مدينة سمرقند، وهي من أكبر المدن وأحسنها وأتمها جمالًا، مبنية على شاطئ وادٍ يُعْرَف بوادي القصارين عليه النواعير تسقي البساتين وعنده يجتمع أهل البلد بعد صلاة العصر للنزهة والتفرج، ولهم عليه مساطب ومجالس يقعدون عليها ودكاكين تباع بها الفاكهة وسائر المأكولات، وكانت على شاطئه قصور عظيمة وعمارة تنبئ عن علو هِمَمِ أهلها فدثر أكثر ذلك، وكذلك المدينة خرب كثير منها ولا سور لها ولا أبواب عليها وفي داخلها البساتين.

وأهل سمرقند لهم مكارم أخلاق ومحبة في الغريب وهم خير من أهل بخارى، وبخارج سمرقند قبر قثم بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عن العباس وعن ابنه وهو المستشهِد حين فتحها، ويخرج أهل سمرقند كل ليلة اثنين وجمعة إلى زيارته، والتَّتَرُ يأتون لزيارته وينذرون له النذور العظيمة ويأتون إليه بالبقر والغنم والدراهم والدنانير، فيصرف ذلك في النفقة على الوارد والصادر ولخدام الزاوية والقبر المبارك، وعليه قبة قائمة على أربع أرجل، ومع كل رجل ساريتان من الرخام منها الخضر والسود والبيض والحمر، وحيطان القبة بالرخام المجزع المنقوش بالذهب وسقفها مصنوع بالرصاص، وعلى القبر خشب الآبنوس المرصع مكسو الأركان بالفضة وفوقه ثلاثة من قناديل الفضة وفرش القبة بالصوف والقطن وخارجها نهر كبير يشق الزاوية التي هنالك، وعلى حافتيه الأشجار ودوالي العنب والياسمين، وبالزاوية مساكن يسكنها الوارد والصادر، ولم يُغَيِّر التتر أيام كفرهم شيئًا من حال هذا الموضع المبارك، بل كانوا يتبركون به لما يَرَوْنَ له من الآيات، وكان الناظرُ في كل حال هذا الضريح المبارك وما يليه حين نزولنا به الأميرَ غياث الدين محمد بن عبد القادر بن عبد العزيز بن يوسف ابن الخليفة المستنصر بالله العباسي، قَدَّمَهُ لذلك السلطان طرمشيرين لما قدم عليه من العراق، وهو الآن عند ملك الهند وسيأتي ذِكْرُه، ولقيت بسمرقند قاضيها المسمى عندهم صدر الجهان، وهو من الفضلاء ذوي المكارم، وسافَرَ إلى بلاد الهند بعد سفري إليها فأدركَتْه منيته بمدينة ملتان قاعدة بلاد السند.

حكاية

لما مات هذا القاضي بملتان كتب صاحب الخبر بأمره إلى ملك الهند، وأنه قدم برسم بابه فاخترم دون ذلك، فلما بلغ الخبر إلى الملك أَمَرَ أن يُبْعَثَ إلى أولاده عدد من آلاف الدنانير لا أذكره الآن، وأمر أن يعطى لأصحابه ما كان يعطى لهم لو وصلوا معه وهو بقيد الحياة، ولملك الهند في كل بلد من بلاده صاحب الخبر يكتب له بكل ما يجري في ذلك البلد من الأمور وبمن يَرِدُ عليه من الواردين، وإذا أتى الوارد كتبوا من أي البلاد وَرَدَ وكتبوا اسمه ونَعْتَه وثيابه وأصحابه وخيله وخدامه، وهيئته من الجلوس والمأكل وجميع شئونه وتصرفاته، وما يظهر منه من فضيلة أو ضدها، فلا يصل الوارد إلى الملك إلا وهو عارِفٌ بجميع حاله، فتكون كرامته على مقدار ما يستحقه، وسافرنا من سمرقند فاجتزنا ببلدة نسف وإليها يُنْسَب أبو حفص عمر النسفي مؤلف كتاب المنظومة في المسائل الخلافية بين الفقهاء الأربعة رضي الله عنهم، ثم وصلنا إلى مدينة ترمذ التي يُنْسَب إليها الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي مؤلف الجامع الكبير في السنن، وهي مدينة كبيرة حسنة العمارة والأسواق تخترقها الأنهار، وبها البساتين الكثيرة والعنب، والسفرجل بها كثير متناهي الطِّيب، واللحوم بها كثيرة وكذلك الألبان، وأهلها يغسلون رءوسهم في الحمام باللبن عوضًا عن الطفل، ويكون عند كل صاحب حمام أوعية كبار مملوءة لبنًا، فإذا دخل الرجل الحمام أخذ منها في إناء صغير فغسل رأسه وهو يرطب الشعر ويصقله.

وأهل الهند يجعلون في رءوسهم زيت السمسم ويسمونه الشيراج ويغسلون الشعر بعده بالطفل فينعم الجسم ويصقل الشعر ويطيله، وبذلك طالت لحى أهل الهند ومن سكن معهم، وكانت مدينة ترمذ القديمة مبنية على شاطئ جيحون، فلما خربها تنكيز بُنِيَتْ هذه الحديثة على ميلين من النهر، وكان نزولنا بها بزاوية الشيخ الصالح عزيزان من كبار المشايخ وكرمائهم، كثير المال والرباع والبساتين، يُنْفِق على الوارد والصادر من ماله، واجتمعت قبل وصولي إلى هذه المدينة بصاحبها علاء الملك خداوند زاده وكتب لي إليها بالضيافة، فكانت تُحْمَل إلينا أيام مقامنا بها في كل يوم، ولقيت أيضًا قاضيها قوام الدين وهو متوجِّه لرؤية السلطان طرمشيرين وطالِبٌ للإذن له في السفر إلى بلاد الهند، وسيأتي ذِكْر لقائي له بعد ذلك، ولأخويه ضياء الدين وبرهان الدين بملتان وسفرنا جميعًا إلى الهند، وذكر أخويه الآخرين عماد الدين وسيف الدين ولقائي لهما بحضرة ملك الهند وذكر ولديه وقدومهما على ملك الهند بعد أن قتل أبيهما وتزويجهما بنتي الوزير خواجة جهان وما جرى في ذلك كله إن شاء الله تعالى، ثم أجزنا نهر جيحون إلى بلاد خراسان، وسرنا بعد انصرافنا من ترمذ وإجازة الوادي يومًا ونصف يوم في صحراء ورمال لا عمارة بها إلى مدينة بلخ وهي خاوية على عروشها غير عامرة ومن رآها ظنها عامرة لإتقان بنائها، وكانت ضخمة فسيحة ومساجدها ومدارسها باقية الرسوم حتى الآن، ونقوش مبانيها مدخلة بأصبغة اللازورد والناس يَنْسِبون اللازورد إلى خراسان وإنما يُجْلَب من جبال بدخشان التي يُنْسَب إليها الياقوت البدخشي، والعامة يقولون البلخش وسيأتي ذِكْرها إن شاء الله تعالى، وخرب هذه المدينة تنكيز اللعين، وهدم من مسجدها نحو الثلث بسبب كنز ذُكِرَ له أنه تحت سارية من سواريه، وهو من أحسن مساجد الدنيا وأفسحها، ومسجد رباط الفتح بالمغرب يشبهه في عظم سواريه، ومسجد بلخ أجمل منه في سوى ذلك.

حكاية

ذَكَرَ لي بعض أهل التاريخ أن مسجد بلخ بَنَتْه امرأة كان زوجها أميرًا ببلخ لبني العباس يسمى داود بن علي، فاتفق أن الخليفة غضب مرة على أهل بلخ لحادث أحدثوه، فبعث إليهم مَنْ يغرمهم مغرمًا فادحًا، فلما بلغ إلى بلخ أتى نساؤها وصبيانها إلى تلك المرأة التي بَنَت المسجد وهي زوج أميرهم وشَكَوْا حالهم وما لَحِقَهُم من هذا المغرم، فبعثَتْ إلى الأمير الذي قدم برسم تغريمهم بثوب لها مرصع بالجوهر قيمته أكثر مما أمر بتغريمه، فقالت له: اذهب بهذا الثوب إلى الخليفة فقد أعطيته صدقة عن أهل بلخ لضعف حالهم، فذهب به إلى الخليفة وألقى الثوب بين يديه وقَصَّ عليه القصة فخجل الخليفة، وقال: أتكون المرأة أكرم منا؟ وأَمَرَهُ برفع المغرم عن أهل بلخ وبالعودة إليها ليرد للمرأة ثوبها وأسقط عن أهل بلخ خراج سنة، فعاد الأمير إلى بلخ وأتى منزل المرأة وقَصَّ عليها مقالة الخليفة ورَدَّ عليها الثوب، فقالت له: أَوَقَعَ بصر الخليفة على هذا الثوب؟ قال: نعم، قالت: لا ألبس ثوبًا وَقَعَ عليه بصر غير ذي محرم مني، وأَمَرَتْ ببيعه فبُنِيَ منه المسجد والزاوية ورباط في مقابلته مبنًى بالكذان وهو عامر حتى الآن، وفَضَلَ مِنْ ثَمَنِ الثوب مقدار ثلثه فذُكِرَ أنها أَمَرَتْ بدفنه تحت بعض سواري المسجد ليكون هنالك متيسرًا إن احتيج إليه خرج، فأُخْبِرَ تنكيز بهذه الحكاية فأَمَرَ بهدم سواري المسجد فهُدِمَ منها نحو الثلث ولم يجد شيئًا فترك الباقي على حاله.

وبخارج بلخ قبر يُذْكَر أنه قبر عكاشة بن محصن الأسدي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا الذي يدخل الجنة بلا حساب، وعليه زاوية معظمة بها كان نزولنا، وبخارجها بِركة ماء عجيبة عليها شجرة جوز عظيمة ينزل الواردون في الصيف تحت ظلالها، وشيخ هذه الزاوية يُعْرَف بالحاج خرد وهو الصغير من الفضلاء، وركب معنا وأرانا مزارات هذه المدينة، منها قبر حزقيل النبي عليه السلام وعليه قبة حسنة، وزُرْنَا بها أيضًا قبورًا كثيرة من قبور الصالحين لا أَذْكُرها الآن، ووقفنا على دار إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه وهي دار ضخمة مبنية بالصخر الأبيض الذي يشبه الكذان وكان زرع الزاوية مقترنًا بها وقد سدت عليه فلم ندخلها وهي بمقربة من المسجد الجامع، ثم سافرنا من مدينة بلخ فسرنا في جبال قوه أستان (فهستان) سبعة أيام وهي قرى كثيرة عامرة بها المياه الجارية والأشجار المورقة وأكثرها شجر التين وبها زوايا كثيرة فيها الصالحون المنقطعون إلى الله تعالى، وبعد ذلك كان وصولنا إلى مدينة هراة وهي أكبر المدن العامرة بخراسان، ومدن خراسان العظيمة أربع ثنتان عامرتان وهما هراة ونيسابور وثنتان خربتان وهما بلخ ومرو، ومدينة هراة كبيرة عظيمة كثيرة العمارة ولأهلها صلاح وعفاف وديانة، وهم على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وبلدهم طاهر من الفساد.

ذكر سلطان هراة

وهو السلطان المعظم حسين ابن السلطان غياث الدين الغوري صاحب الشجاعة المأثورة والتأييد والسعادة، ظهر له من إنجاد الله وتأييده في موطنين اثنين ما يقضي منه العجب؛ أحدهما عند ملاقاة جيشه للسلطان خليل الذي بغى عليه وكان منتهى أمره حصوله أسيرًا في يديه، والموطن الثاني عنده ملاقاته بنفسه لمسعود سلطان الرافضة، وكان منتهى أَمْرِهِ تبديده وفراره وذهاب ملكه وولي السلطان حسين الملك بعد أخيه المعروف بالحافظ وولي أخوه بعد أبيه غياث الدين.

حكاية الرافضة

كان بخراسان رجلان أحدهما يسمى بمسعود والآخر يسمى بمحمد، وكان لهما خمسة من الأصحاب وهم من الفُتَّاك، ويُعْرَفون بالعراق بالشطار، ويُعْرَفون بخراسان بسرا بداران (سربداران)، ويُعْرَفون بالمغرب بالصقورة، فاتفق سبعتهم على الفساد وقطع الطرق وسلب الأموال، وشاع خبرهم وسكنوا جبلًا منيعًا بمقربة من مدينة بيهق، وتسمى أيضًا مدينة سيزار (سيزوار)، وكانوا يكمنون بالنهار ويخرجون بالليل والعشي فيضربون على القرى ويقطعون الطرق ويأخذون الأموال، وانثال عليهم أشباههم من أهل الشر والفساد، فكثر عددهم واشتدت شكواهم وهابهم الناس، وضربوا على مدينة بيهق فملكوها، ثم ملكوا سواها من المدن واكتسبوا الأموال وجندوا الجنود وركبوا الخيل، وتَسَمَّى مسعود بالسلطان وصار العبيد يفرون عن مواليهم إليه، فكل عَبْد فَرَّ منهم يعطيه الفرس والمال، وإن ظهرت له شجاعةٌ أَمَّرَه على جماعة، فعَظُمَ جيشه واستفحل أَمْرُه، وتَمَذْهَبَ جميعهم بمذهب الرفض وطمحوا إلى استئصال أهل السنة بخراسان وأن يجعلوها كلمة واحدة رافضية، وكان بمشهد طوس شيخ من الرافضة يسمى بحَسَن، وهو عندهم من الصلحاء فوافقهم على ذلك وسمَّوْه بالخليفة، وأَمَرَهُم بالعدل فأظهروه حتى كانت الدراهم والدنانير تسقط في معسكرهم فلا يلتقطها أحد حتى يأتي ربها فيأخذها، وغلبوا على نيسابور وبعث إليهم السلطان طغيتمور بالعساكر فهزموه، ثم بعث إليهم نائبه أرغون شاه فهزموه وأسروه ومنوا عليه، ثم غزاهم طغيتمور بنفسه في خمسين ألفًا من التتر فهزموه وملكوا البلاد وتَغَلَّبُوا على سرخس والزواه وطوس وهي من أعظم بلاد خراسان، وجعلوا خليفهم بمشهد علي بن موسى الرضي، وتغلبوا على مدينة الجام ونزلوا بخارجها وهم قاصدون مدينة هراة وبينها وبينهم مسيرة ست.

فلما بلغ ذلك الملك حسينًا جمع الأمراء والعساكر وأهل المدينة واستشارهم: هل يقيمون حتى يأتي القوم أو يمضون إليهم فيناجزونهم؟ فوقع إجماعهم على الخروج إليهم وهم قبيلة واحدة يُسَمَّوْن الغورية، ويقال: إنهم منسوبون إلى غور الشام وأن أصلهم منه، فتجهزوا أجمعون واجتمعوا من أطراف البلاد، وهم ساكنون بالقرى وبصحراء مرغيس (بدغيس) وهي مسيرة أربع لا يزال عشبها أخضر ترعى منه ماشيتهم وخيلهم، وأكثر شجرها الفستق، ومنها يُحْمَل إلى أرض العراق، وعضدهم أهل مدينة سمنان ونفروا جميعًا إلى الرافضة، وهم مائة وعشرون ألفًا ما بين رجالة وفرسان يقودهم الملك حسين، واجتمعت الرافضة في مائة وخمسين ألفًا من الفرسان، وكانت الملاقاة بصحراء بوشنج، وصبر الفريقان معًا ثم كانت الدائرة على الرافضة، وفَرَّ سلطانهم مسعود وثبت خليفتهم حسن في عشرين ألفًا حتى قُتِلَ، وقُتِلَ أكثرهم وأُسِرَ منهم نحو أربعة آلاف، وذَكَرَ لي بعض من حَضَرَ هذه الوقيعة أن ابتداء القتال كان في وقت الضحى وكانت الهزيمة عند الزوال، ونزل الملك حسين بعد الظهر فصلى وأُتِيَ بالطعام، فكان هو وكبراء أصحابه يأكلون وسائرهم يضربون أعناق الأسرى، وعاد إلى حضرته بعد هذا الفتح العظيم وقد نَصَرَ الله السنة على يديه وأطفأ نار الفتنة، وكانت هذه الوقيعة بعد خروجي من الهند عام ثمانية وأربعين، ونشأ بهراة رجل من الزهاد والصلحاء الفضلاء واسمه نظام الدين مولانا، وكان أهل هراة يحبونه ويرجعون إلى قوله، وكان يَعِظُهم ويُذَكِّرهم، وتوافقوا معه على تغيير المنكر وتعاقد معهم على ذلك خطيب المدينة المعروف بملك ورنا وهو ابن عم الملك حسين ومتزوج بزوجة والده وهي من أحسن الناس صورة وسيرة والملك يخافه على نفسه وسنذكر خبره، وكانوا متى علموا بمنكر ولو كان عند الملك غيروه.

حكاية

ذُكِرَ لي أنهم تَعَرَّفُوا يومًا أن بدار الملك حسين منكرًا فاجتمعوا لتغييره وتحصن منهم بداخل داره، فاجتمعوا على الباب في ستة آلاف رجل، فخاف منهم فاستحضر الفقيه وكبار البلد وكان قد شرب الخمر، فأقاموا عليه الحد بداخل قصره وانصرفوا عنه.

حكاية هي سبب قتل الفقيه نظام الدين المذكور

كانت الأتراك المجاورون لمدينة هراة الساكنون بالصحراء وملكهم طغيتمور الذي مَرَّ ذِكْره، وهم نحو خمسين ألفًا يخافهم الملك حسين ويهدي لهم الهدايا في كل سنة ويداريهم، وذلك قبل هزيمته للرافضة، وأما بعد هزيمته للرافضة فتَغَلَّبَ عليهم، ومن عادة هؤلاء الأتراك التردد إلى مدينة هراة، وربما شربوا بها الخمر وأتاها بعضهم وهو سكران، فكان نظام الدين يَحُدُّ من وجد منهم سكرانًا، وهؤلاء الأتراك أهل نجدة وبأس، ولا يزالون يضربون على بلاد الهند فيَسْبون ويقتلون، وربما سَبَوْا بعض المسلمات اللاتي يكن بأرض الهند ما بين الكفار، فإذا خرجوا بهن إلى خراسان يطلق نظام الدين المسلمات من أيدي الترك، وعلامة النسوة المسلمات بأرض الهند ترك ثقب الأذن والكافرات آذانهن مثقوبات، فاتفق مرة أن أميرًا من أمراء الترك يسمى تمور الطي سبى امرأة وكلف بها كلفًا شديدًا، فذَكَرتْ أنها مسلمة فانتزعها الفقيه من يده فبلغ ذلك من التركي مبلغًا عظيمًا وركب في آلاف من أصحابه وأغار على خيل هراة وهي في مرعاها بصحراء مرغيس (بدغيس) واحتملوها فلم يتركوا لأهل هراة ما يركبون ولا ما يحلبون، وصعدوا بها إلى جبل هنالك لا يقدر عليهم فيه، ولم يجد السلطان ولا جنده خيلًا يتبعونهم بها، فبعث إليهم رسولًا يَطْلُب منهم رَدَّ ما أخذوه من الماشية والخيل ويُذَكِّرهم العهد الذي بينهم، فأجابوا بأنهم لا يردون ذلك حتى يمكنوا من الفقيه نظام الدين، فقال السلطان: لا سبيل إلى هذا.

وكان الشيخ أبو أحمد الجستي حفيد الشيخ مودود الجستي له بخراسان شأن عظيم وقوله معتبر لديهم، فركب في جماعة خيل من أصحابه ومماليكه فقال: أنا أحمل الفقيه نظام الدين معي إلى الترك ليرضوا بذلك ثم أرده، فكأن الناس مالوا إلى قوله ورأى الفقيه نظام الدين اتفاقهم على ذلك، فركب مع الشيخ أبي أحمد ووصل إلى الترك فقام إليه الأمير تمور الطي، وقال له: أنت أخذت امرأتي مني وضربه بدبوسه فكسر دماغه فخر ميتًا فسقط في أيدي الشيخ أبي أحمد وانصرف من هنالك إلى بلده ورد الترك ما كانوا أخذوه من الخيل والماشية، وبعد مدة قدم ذلك التركي الذي قَتْل الفقيه على مدينة هراة، فلقيه جماعة من أصحاب الفقيه فتقدموا إليه كأنهم مُسَلِّمون عليه وتحت ثيابهم السيوف، فقتلوه وفَرَّ أصحابه، ولما كان بعد هذا بعث الملك حسين ابن عمه ملك ورنا الذي كان رفيق الفقيه نظام الدين في تغيير المنكر رسولًا إلى ملك سجستان، فلما حصل بها بَعَثَ إليه أن يقيم هنالك ولا يعود إليه، فقصد بلاد الهند ولقيته وأنا خارج منها بمدينة سيوستان من السند، وهو أحد الفضلاء، وفي طَبْعه حب الرياسة والصيد والبزاة والخيل والمماليك والأصحاب واللباس الملوكي الفاخر، ومن كان على هذا الترتيب فإنه لا يصلح حاله بأرض الهند، فكان مِنْ أَمْرِه أن ملك الهند ولاه بلدًا صغيرًا، وقَتَلَه به بعض أهل هراة المقيمين بالهند بسبب جارية، وقيل: إن ملك الهند دس عليه من قَتَلَهُ بسعي الملك حسين في ذلك، ولأجله خدم الملك حسين ملك الهند بعد موت ملك ورنا المذكور وهاداه ملك الهند وأعطاه مدينة بكار من بلاد السند ومجباها خمسون ألفًا من دنانير الذهب في كل سنة.

ولنعد إلى ما كنا بسبيله فنقول: سافرنا من هراة إلى مدينة الجام، وهي متوسطة حسنة ذات بساتين وأشجار وعيون كثيرة وأنهار وأكثر شجرها التوت والحرير بها كثير، وهي تُنْسَب إلى الولي العابد الزاهد شهاب الدين أحمد الجامي، وسنذكر حكايته، وحفيده الشيخ أحمد المعروف بزاده الذي قتله ملك الهند، والمدينة الآن لأولاده وهي محررة من قبل السلطان، ولهم بها نعمة وثروة، وذكر لي من أثق به أن السلطان أبا سعيد ملك العراق قدم خراسان مرة ونزل على هذه المدينة وبها زاوية الشيخ فأضافه ضيافة عظيمة وأعطى لكل خباء بمحلته رأس غنم، ولكل أربعة رجال رأس غنم ولكل دابة بالمحلة من فرس وبغل وحمار علف ليلة، فلم يَبْقَ في المحلة حيوان إلا وَصَلَتْه ضيافته.

حكاية الشيخ شهاب الدين الذي تُنْسَب إليه مدينة الجام

يُذْكَر أنه كان صاحب راحة مكثرًا من الشرب، وكان له من الندماء نحو ستين، وكانت لهم عادة أن يجتمعوا يومًا في منزل كل واحد منهم فتدور النوبة على أحدهم بعد شهرين، وبقوا على ذلك مدة ثم إن النوبة وصلت يومًا إلى الشيخ شهاب الدين فعقد النوبة ليلة النوبة وعزم على إصلاح حاله مع ربه، وقال في نفسه: إن قلت لأصحابي: إني قد ثبت قبل اجتماعهم عندي ظنوا ذلك عجزًا عن مؤنتهم فأحضر ما كان يحضر مثله قبل من مأكولات ومشروب وجعل الخمر في الزقاق وحضر أصحابه، فلما أرادوا الشرب فتحوا زقًّا فذاقه أحدهم فوجده حلوًا ثم فتحوا ثانيًا فوجدوه كذلك ثم ثالثًا فوجدوه كذلك، فكلموا الشيخ في ذلك فخرج لهم عن حقيقة أمره وصدقهم سن بكره وعرفهم بتوبته، وقال لهم: والله ما هذا إلا الشراب الذي كنتم تشربونه فيما تقدم فتابوا جميعًا إلى الله تعالى، وبنوا تلك الزاوية وانقطعوا بها لعبادة الله تعالى، وظهر لهذا الشيخ كثير من الكرامات والمكاشفات، ثم سافرنا من الجام إلى مدينة طوس وهي من أكبر بلاد خراسان، وأعظمها بلد الإمام الشهير أبي حامد الغزالي رضي الله عنه وبها قبره، ورحلنا منها إلى مدينة مشهد الرضا وهو علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وهي أيضًا مدينة كبيرة ضخمة كثيرة الفواكه والمياه والأرجاء الطاحنة، وكان بها الطاهر محمد شاه والطاهر عندهم بمعنى النقيب عند أهل مصر والشام والعراق وأهل الهند والسند وتركستان يقولون السيد الأجل، وكان أيضًا بهذا المشهد القاضي الشريف جلال الدين لقيته بأرض الهند والشريف علي وولداه أمير هند ودولة شاه وصحبوني من ترمذ إلى بلاد الهند وكانوا من الفضلاء، والمشهد المكرم عليه قبة عظيمة في داخل زاوية تجاورها مدرسة ومسجد وجميعها مليح البناء مصنوع الحيطان بالقاشاني وعلى القبر دكانة خشب ملبسة بصفائح الفضة وعليه قناديل فضة معلقة.

وعتب باب القبة فضة وعلى بابها ستر حرير مذهب، وهي مبسوطة بأنواع البسط، وإزاء هذا القبر قبر هارون الرشيد أمير المؤمنين رضي الله عنه، وعليه دكانة يضعون عليها الشمعدانات التي يَعْرِفها أهل المغرب بالحسك والمنائر، وإذا دخل الرافضي للزيارة ضَرَبَ قبر الرشيد برجله وسَلَّمَ على الرضا، ثم سافرنا إلى مدينة سرخس وإليها يُنْسَب الشيخ الصالح لقمان السرخسي رضي الله عنه، ثم سافرنا منها إلى مدينة زاوة وهي مدينة الشيخ الصالح قطب الدين حيدر وإليه تُنْسَب طائفة الحيدرية من الفقراء، وهم الذين يجعلون حلق الحديد في أيديهم وأعناقهم وآذانهم ويجعلونها أيضًا في ذكورهم حتى لا يتأتى لهم النكاح، ثم رحلنا منها فوصلنا إلى مدينة نيسابور وهي إحدى المدن الأربع التي هي قواعد خراسان، ويقال لها: دمشق الصغيرة؛ لكثرة فواكهها وبساتينها ومياهها وحُسْنِها، وتخترقها أربعة من الأنهار وأسواقها حسنة متسعة ومسجدها بديع وهو في وسط السوق، ويليه أربع من المدارس يجري بها الماء الغزير، وفيها من الطلبة خَلْق كثير يقرءون القرآن والفقه، وهي من حسان مدارس تلك البلاد، ومدارس خراسان والعراقين ودمشق وبغداد ومصر وإن بلغت غاية من الإتقان والحسن، فكلها تقصر عن المدرسة التي عَمَرَها مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله المجاهد في سبيل الله، عالِم الملوك واسطة عقد الخلفاء العادلين أبو عنان — وَصَلَ الله سعده ونَصَرَ جُنْدَه — وهي التي عند القصبة من حضرة فاس — حرسها الله تعالى — فإنها لا نظير لها سعة وارتفاعًا ونقش الجص بها لا قدوة لأهل المشرق عليه، ويصنع بنيسابور ثياب الحرير من النخ والكمخاء وغيرها وتحمل منها إلى الهند، وفي هذه المدينة زاوية الشيخ الإمام العالم القطب العابد قطب الدين النيسابوري أحد الوعاظ العلماء الصالحين نزلت عنده فأحسن القرى وأكرم، ورأيت له البراهين والكرامات العجيبة.

كرامة له

كنت قد اشتريت بنيسابور غلامًا تركيًّا فرآه معي، فقال لي: هذا الغلام لا يصلح لك فبِعْه، فقلت: له نعم، وبِعْتُ الغلام في غدِ ذلك اليوم واشتراه بعض التجار ووادعت الشيخ وانصرفت، فلما حللت بمدينة بسطام كتب إليَّ بعض أصحابي من نيسابور، وذكر أن الغلام المذكور قَتَلَ بعض أولاد الأتراك وقُتِلَ به، وهذه كرامة واضحة لهذا الشيخ رضي الله عنه، وسافرت من نيسابور إلى مدينة بسطام التي يُنْسَب إليها الشيخ العارف أبو يزيد البسطامي الشهير رضي الله عنه، وبهذه المدينة قبره ومعه في قبة واحدة أحد أولاد جعفر الصادق رضي الله عنه، وببسطام أيضًا قبر الشيخ الصالح الولي أبي الحسن الخرقاني، وكان نزولي من هذه المدينة بزاوية الشيخ أبي يزيد البسطامي رضي الله عنه، ثم سافرْتُ من هذه المدينة على طريق هندخير إلى قندوس وبغلان، وهي قُرًى فيها مشايخ وصالحون وبها البساتين والأنهار، فنزلنا بقندوس على نهر ماء به زاوية أحد شيوخ الفقراء من أهل مصر يسمى بشير سياه ومعنى ذلك الأسد الأسود، وأضافنا بها والي تلك الأرض وهو من أهل الموصل وسكناه ببستان عظيم هنالك، وأقمنا بخارج هذه القرية نحو أربعين يومًا لرعي الجمال والخيل وبها مراعي طيبة وأعشاب كثيرة، والأمن بها شامل بسبب شدة أحكام الأمير برنطيه، وقد قدمنا أن أحكام الترك في من سرق فرسًا أن يعطى معه تسعة مثله، فإن لم يجد ذلك أخذ فيها أولاده فإن لم يكن له أولاد ذُبِحَ ذَبْح الشاة، والناس يتركون دوابهم مهملة دون راعٍ بعد أن يسم كل واحد دوابه في أفخاذها وكذلك فعلنا في هذه البلاد، واتفق أن تفقدنا خيلنا بعد عشر من نزولنا بها ففقدنا منها ثلاثة أفراس، ولما كان بعد نصف شهر جاء التتر بها إلى منزلنا خوفًا على أنفسهم من الأحكام وكنا نربط في كل ليلة إزاء أخبيتنا فرسين لما عسى أن يقع بالليل ففقدنا الفرسين ذات ليلة، وسافرنا من هنالك وبعد ثنتين وعشرين ليلة جاءوا بهما إلينا في أثناء طريقنا، وكان أيضًا من أسباب إقامتنا خوف الثلج فإن بأثناء الطريق جبلًا يقال له: هند وكوش، ومعناه قاتل الهنود؛ لأن العبيد والجواري الذين يؤتى بهم من بلاد الهند يموت هنالك الكثير منهم لشدة البرد وكثرة الثلج، وهو مسيرة يوم كامل، وأقمنا حتى تَمَكَّنَ دخول الحر وقطعنا ذلك الجبل من آخر الليل، وسلكنا به جميع نهارنا إلى الغروب، وكنا نضع اللبوديين أيدي الجِمَال تطأ عليها لئلا تغرق في الثلج.

ثم سافرنا إلى موضع يُعْرَف بأندر، وكانت هنالك فيما تَقَدَّمَ مدينة عفى رسمها، ونزلنا بقرية عظيمة فيها زاوية لأحد الفضلاء ويسمى بمحمد المهروي ونزلنا عنده وأَكْرَمَنَا، وكان متى غسلنا أيدينا من الطعام يشرب الماء الذي غسلناها به لحسن اعتقاده وفضله، وسافَرَ معنا إلى أن صعدنا جبل هند وكوش المذكور، ووجدنا بهذا الجبل عين ماء حارة فغسلنا منها وجوهنا فتقشرت وتألَّمْنا لذلك، ثم نزلنا بموضع يُعْرَف ببنج هير، ومعنى بنج خمسة وهير الجبل فمعناه خمسة جبال، وكانت هنالك مدينة حسنة كثيرة العمارة على نهر عظيم أزرق كأنه بحر ينزل من جبال بدخشان، وبهذه الجبال يوجد الياقوت الذي يَعْرِفه الناس بالبلخش وخرب هذه البلاد تنكيز ملك التتر، فلم تعمر بعد وبهذه المدينة مزار الشيخ سعيد المكي وهو معظم عندهم، ووصلنا إلى جبل بشاي (وضبطه بفتح الباء المعقود والشين المعجم وألف وياء ساكنة)، وبه زاوية الشيخ الصالح أطا أولياء وأطا (بفتح الهمزة) معناه بالتركية الأب وأولياء باللسان العربي فمعناه أبو الأولياء، ويسمى أيضًا سيصد صاله وسيصد (بسين مهمل مكسور وياء وصاد مهمل مفتوح ودال مهمل) ومعناه بالفارسية ثلاثمائة وصاله (ساله) (بفتح الصاد المهمل واللام) معناه عام، وهم يَذْكُرون أن عمره ثلاثمائة وخمسون عامًا، ولهم فيه اعتقاد حسن ويأتون لزيارته من البلاد والقرى ويقصده السلاطين والخواتين، وأكرمنا وأضافنا ونزل على نهر عند زاويته، ودخلنا إليه فسلمت عليه وعانقني وجسمه رطب لم أَرَ أَلْيَنَ منه، ويظن رائيه أن عمره خمسون سنة، وذكر لي أنه في كل مائة سنة ينبت له الشعر والأسنان، وأنه رأى أبارهم الذي قبره بملتان من السند، وسألته عن رواية حديث فأخبرني بحكايات وشككت في حاله والله أعلم بصدقه.

ثم سافرنا إلى برون (وضبطها بفتح الباء المعقودة وسكون الراء وفتح الواو وآخرها نون)، وفيها لقيت الأمير برنطية (وضبط اسمها بضم الباء وضم الراء وسكون النون وفتح الطاء المهمل وياء آخر الحروف مسكن وهاء)، وأحسن إلي وأكرمني وكتب إلى نوابه بمدينة غزنة في إكرامي، وقد تَقَدَّمَ ذِكْرُه وذكر ما أعطي من البسطة في الجسم، وكان عنده جماعة من المشايخ والفقراء أهل الزوايا، ثم سافرنا إلى قرية الجرخ (وضبط اسمها بفتح الجيم المعقودة وإسكان الراء وخاء معجم)، وهي كبيرة لها بساتين كثيرة وفواكهها طيبة قدمناها في أيام الصيف ووجدنا بها جماعة من الفقراء والطلبة وصلينا بها الجمعة وأضافنا أميرها محمد الجرخي ولقيته بعد ذلك بالهند، ثم سافرنا إلى مدينة غزنة وهي بلد السلطان المجاهد محمود بن سبكتكين الشهير الاسم وكان من كبار السلاطين يُلَقَّب بيمين الدولة وكان كثير الغزو إلى بلاد الهند، وفَتَحَ بها المدائن والحصون، وقبره بهذه المدينة عليه زاوية وقد خَرِبَ معظم هذه البلدة ولم يَبْقَ منها إلا يسير، وكانت كبيرة وهي شديدة البرد، والساكنون بها يخرجون عنها أيام البرد إلى مدينة القندهار وهي كبيرة مخصبة ولم أدخلها وبينهما مسيرة ثلاث، ونزلنا بخارج غزنة في قرية هنالك على نهر ماء تحت قلعتها وأكرمنا أميرها مرذك أغا ومرذك (بفتح الميم وسكون الراء وفتح الذال المعجم) ومعناه الصغير وأغا (بفتح الهمزة والغين المعجم) ومعناه الكبير الأصل، ثم سافرنا إلى كابل، وكانت فيما سلف مدينة عظيمة وبها الآن قرية يسكنها طائفة من الأعاجم يقال لهم: الأفغان، ولهم جبال وشعاب وشوكة قوية وأكثرهم قطاع الطريق، وجبلهم الكبير يسمى كوة سليمان، ويُذْكَر أن نبي الله سليمان عليه السلام صعد ذلك الجبل فنظر إلى أرض الهند وهي مظلمة فرجع ولم يدخلها فسمي الجبل به وفيه يسكن ملك الأفغان، وبكابل زاوية الشيخ إسماعيل الأفغاني تلميذ الشيخ عباس من كبار الأولياء، ومنها رحلنا إلى كرماش، وهي حصن بين جبلين تقطع به الأفغان، وكنا حين جوازنا عليه نقاتلهم، وهم بسفح الجبل ونرميهم بالنشاب فيفرون وكانت رفقتنا مخفة ومعهم نحو أربعة آلاف فرس، وكانت لي جمال انقطعت عن القافلة لأجلها ومعي جماعة بعضهم من الأفغان، وطرحنا بعض الزاد وتركنا أحمال الجمال التي أعيت بالطريق وعادت إليها خيلنا بالغد فاحتملتها، ووصلنا إلى القافلة بعد العشاء الآخرة فبتنا بمنزل ششغار وهي آخر العمارة مما يلي بلاد الترك، ومن هنا دخلنا البرية الكبرى وهي مسيرة خمس عشرة لا تدخل إلا في فصل واحد وهو بعد نزول المطر بأرض السند والهند، وذلك في أوائل شهر يوليو، وتهب في هذه البرية ريح السموم القاتلة التي تعفن الجسوم حتى إن الرجل إذا مات تنفسخ أعضاؤه.

وقد ذكرنا أن هذا الريح تهب أيضًا في البرية بين هرمز وشيراز، وكانت تَقَدَّمَتْ أمامنا رفقة كبيرة فيها خداوند زاده قاضي ترمذ فمات لهم جمال وخيل كثيرة، ووصلت رفقتنا سالمة بحمد الله تعالى إلى بنج آب وهو ماء السند وبنج (بفتح الباء الموحدة وسكون النون والجيم) ومعناه خمسة وآب (بهمزة مفتوحة ممدودة وباء موحدة) ومعناه الماء فمعني ذلك الأودية الخمسة، وهي تصب في النهر الأعظم وتسقي تلك النواحي وسنذكرها إن شاء الله تعالى، وكان وصولنا لهذا النهر سلخ ذي الحجة واستهل علينا تلك الليلة هلال المحرم من عام أربعة وثلاثين وسبعمائة، ومن هنالك كتب المخبرون بخبرنا إلى أرض الهند، وعرفوا ملكها بكيفية أحوالنا، وها هنا ينتهي بنا الكلام في هذا السفر، والحمد لله رب العالمين.

تذييل

يقول مصححه: وحيث انتهينا من رحلة الشيخ المغربي المعروف بابن بطوطة إلى هذا الحد، وهو أول جلد، وقد شَرَعَ رحمه الله تعالى في ذِكْر ما شاهده من العجائب والغرائب ببلاد الهند وهو ثاني جلد، رأينا من المفيد أن نورد هنا عبارة تُوجَد في مقدمة ابن خلدون رحمه الله تعالى مما يتعلق بهذا القصد تتميمًا للفائدة وتقييدًا للشاردة، ونَصُّها بقصها وفصها:

ورد عليَّ المغرب لعهد السلطان أبي عنان من ملوك بني مرين رجل من مشيخة طنجة يُعْرَف بابن بطوطة، كان قد رحل منذ عشرين سنة قبلها إلى المشرق وتَقَلَّبَ في بلاد العراق واليمن والهند، ودخل مدينة دهلي حاضرة ملك الهند، واتصل بملكها لذلك العهد وهو السلطان محمد شاه، وكان له منه مكان، واستعمله في خطة القضاء بمذهب المالكية في عمله، ثم انقلب إلى المغرب، واتصل بالسلطان أبي عنان وكان يحدث عن شأن رحلته وما رأى من العجائب بممالك الأرض، وأكثر ما كان يحدث عن دولة صاحب الهند ويأتي من أحواله بما يستغفر به السامعون، مثل أن ملك الهند إذا خرج للسفر أحصى أهل مدينته من الرجال والنساء والولدان وفَرَضَ لهم رِزْق ستة أشهر يُدْفَع لهم من عطائه، وأنه عند رجوعه من سفره يدخل في يوم مشهود يبرز فيه الناس كافة إلى صحراء البلد ويطوفون به ويُنْصَب أمامه في ذلك المحفل منجنيقات على الظهر يرمى بها شكائر الدراهم والدنانير على الناس إلى أن يدخل إيوانه.

وأمثال هذه الحكايات، فتناجى الناس في الدولة بتكذيبه ولقيت أنا يومئذٍ في بعض الأيام وزير السلطان فارس بن ودار البعيد الصيت، ففاوَضْتُه في هذا الشأن، ورأيته أَنْكَرَ أخبار ذلك الرجل لما استفاض في الناس من تكذيبه، فقال الوزير فارس: إياك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدول بما أنك لم تَرَهُ فتكون كابن الوزير الناشئ في السجن، وذلك أن وزيرًا اعتقله سلطانه فمكث في السجن سنين ربى فيها ابنه في ذلك المحبس، فلما أدرك وعقل سأل عن اللحمان التي كان يتغذى بها، فإذا قال له أبوه: هذا لحم الغنم، يقول: وما الغنم، فيصفها له أبوه بِشِيَاتِها ونُعُوتِهَا، فيقول: يا أَبَتِ تراها مثل الفأر، فيُنْكِر عليه ويقول: أين الغنم من الفأر، وكذا في لحم البقر والإبل؛ إذ لم يعاين في محبسه إلا الفأر فيحسبها كلها أبناء جنس للفأر، وهذا كثيرًا ما يعتري الناس في الأخبار كما يعتريهم الوسواس في الزيادة عند قصد الإغراب كما قدمناه أول الكتاب، فليرجع الإنسان إلى أصوله، وليكن مهيمنًا على نفسه ومميزًا بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فطرته، فما دخل في نطاق الإمكان قبله، وما خرج عنه رفضه، وليس مرادنا الإمكان العقلي المطلق، فإن نطاقه أوسع شيء فلا يفرض حدًّا بين الواقعات، وإنما مرادنا الإمكان بحسب المادة التي للشيء، فإذا نظرنا أصل الشيء وجنسه وفصله ومقدار عظمه وقوته أجرينا الحكم في نسبة ذلك على أحواله وحكمنا بالامتناع على ما خرج عن نطاقه، وقل ربي زدني علمًا.

ا.ﻫ. بحروفه.
(تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤