الفصل الخامس

اسپينوزا والعقائد الشائعة

(١) كتاب «البحث اللاهوتي السياسي»

لما كانت آراء اسپينوزا الرئيسية في العقائد الشائعة في عصره قد عرضت في «البحث اللاهوتي السياسي»؛ فقد رأينا أن نبدأ هذا الفصل بالحديث عن هدف الكتاب والتأثيرات التي أحدثها بين معاصريه وبين الباحثين في وقتنا الحالي.

وقد كتب اسپينوزا في الرسالة رقم ٣٠ يبلغ مراسله «أولدنبرج» (في عام ١٦٦٥م) أنه بصدد تأليف بحث عن الكتاب المقدس؛ وذلك للأسباب الآتية:
  • (١)

    تحامُل رجال اللاهوت، فأنا أعلم أنهم هم الذين يَحولون بين الناس وبين استخدام عقولهم في التفلسف؛ ولذا أحاول كشف هذا التحامل وتخليص العقول الواعية منه.

  • (٢)

    رأي العامة فيَّ؛ إذ إنهم لا يكفُّون عن اتهامي بالإلحاد، وأنا مضطر إلى محاربة هذا الرأي بقدر استطاعتي.

  • (٣)

    حرية التفلسف وحرية الرأي، التي أريد الدفاع عنها بكل الوسائل؛ إذ إنَّ نفوذ رجال الدين وطبيعتهم العدوانية يقضيان عليها.

وفي مقدمة «البحث اللاهوتي السياسي» ذاته، يحدد اسپينوزا لنفسه من تأليف الكتاب أغراضًا مشابهة؛ فهو يحمل على رجال اللاهوت؛ لأنهم يتخذون من قداسة الكتب المقدسة نقطة بداية، ويجعلون ذلك مبدأ في الدراسة والتفسير، بينما هو يدعو إلى استخلاص هذه النتيجة — إذا أمكن استخلاصها — في نهاية البحث وبعد التفكير الكامل فيه. والضرر الذي يترتب على نظرة رجال اللاهوت هذه، هو أنهم يستغلُّون طابع القداسة هذا في خنق حرية الفكر وكتم أصوات خصومهم، بل وفي السيطرة السياسية أيضًا، وكأن مصالح الدين لا تتحقق إلا إذا كُبتت الحريات على هذا النحو الغاشم.

والأمر الذي يدافع عنه اسپينوزا في هذا الكتاب هو أن كفالة الحرية السياسية وحرية التفكير في الأمور الدينية — وهي الحرية التي كانت مكفولة نسبيًّا في العهد الجمهوري الذي كان يعيش فيه وقت تأليف ذلك الكتاب — لا تتعارض مع مصلحة الدولة، ولا مع مصلحة الدين ذاته، فأفضل النظم في نظره هو ذلك الذي ينفصل فيه الدين عن الدولة انفصالًا تامًّا، وتصبح الدولة هي وحدها المسئولة عن جميع المسائل المتعلقة بحياة رعاياها الاجتماعية والسياسية والفكرية. وقد أعرب اسپينوزا عن هذا الهدف في المقدمة فقال:

وإذ وجدت أننا نعيش، لحسن حظنا، في جمهورية تُكفَل فيها لكل فردٍ حريةٌ لا قيود فيها، ويعبد فيها كل فرد الله حسبما يمليه عليه ضميره، وتقدَّر الحرية فوق أي شيء آخر؛ فقد رأيت أن عملي لا يكون جحودًا ولا عقيمًا إذا ما أثبت أن هذه الحرية إذا ما مُنحت، فلن يلحق النظام العام ضرر، بل إنه بدونها لا تزدهر التقوى ولا يرتكز النظام العام على أسس متينة.

ولقد وجد بعض شُرَّاح اسپينوزا في ذلك الدفاع المتحمس الذي أورده في مقدمة ذلك الكتاب، والذي أكد فيه أن كل ما قاله لا يتعارض مع النظام الجمهوري القائم، وأنه على استعداد لإثبات ذلك، ولسحب ما يتأكد من أنه متعارض مع ذلك النظام بالفعل؛ وجدوا في ذلك مظهرًا لنوع من التملق للسلطات الحاكمة، ولكن تأمَّل دلالة الحملة الشديدة، التي سبقت كلامه هذا، على الخرافات الدينية وعلى إساءة رجال الدين استغلال سلطاتهم لمنع حرية الفكر، بل لأغراض شريرة في كثير من الأحيان، كل ذلك يجعل التفسير المرجَّح لموقفه هذا هو دعم السلطة الموجودة «لأنها» كانت تشجع الحرية الفكرية، ولا سيما في شئون الدين، وليس مجرد نفاق أو تملق لها؛ فهو لا يرمي من تأليف الكتاب إلى دعم النظام القائم لمجرد أنه هو النظام القائم، وإنما لأنَّ هذا النظام يتبع مبادئ يعدُّها سليمة، وبذلك يكون هدفه الحقيقي هو الدفاع عن المبادئ ذاتها لا عن ذلك النظام.

أما الهدف الذي أخفق اسپينوزا في تحقيقه إخفاقًا تامًّا؛ فهو ذلك الذي تحدَّث عنه في الرسالة التي أوردنا نصًّا منها في البداية، وأعني به أن يدفع عن نفسه تهمة الإلحاد التي وجهها العامة إليه؛ فالأمر المؤكَّد أن هذا الكتاب قد دعم هذه التهمة ولم يخفِّفها على الإطلاق، بل إن معظم متاعب اسپينوزا مع السلطات الدينية والثقافية القائمة عندئذٍ كانت ترجع إلى ذلك الكتاب بعينه؛ لأن كتاب «الأخلاق» لم يُنشر إلا بعد وفاته.

فأولدنبرج ذاته، الذي وجه إليه اسپينوزا هذه الرسالة، والذي كان عالمًا واسع الأفق، قد بدأ في المرحلة الأخيرة من مراسلاته مع اسپينوزا ينتقد ذلك الكتاب بطريقة ضمنية؛ فعندما طلب إليه اسپينوزا أن يحدد الأفكار التي يجوز أن تجرح المشاعر الدينية في ذلك الكتاب، ذكر، في الرسالة رقم ٧١، الأمور الآتية: الخلط بين الله وبين الطبيعة، وإنكار المعجزات التي يعتقد المسيحيون جميعهم تقريبًا أنها هي وحدها التي تضمن بقاء الإيمان، وغموض موقفه من المسيح وتجسده وتضحيته. وفي الرسالة رقم ٧٣ حدد النقاط التي يعتقد أنها تؤدي، في نظر القراء، إلى هدم الفضيلة الخلقية، بأنها هي فكرة الضرورة الصارمة التي لا يخرج عنها شيء، بحيث لا يعود هناك جدوى للثواب والعقاب؛ إذ إن ما هو ضروري — حتى لو كان شرًّا — له دائمًا مبرراته، وليس في الحتمية المفرطة مكان للخطيئة أو للجزاء.

ومثل هذا الانتقاد بالضبط يتكرر في رسالة أخرى وجَّهها «لامبرت دي ڨلتهوبزن Lambert de Velthuysen» إلى «ياكوب أوستن Jacob Osten» وتتضمن آراء الأول في الكتاب؛ فهو يردد أيضًا نفس الفكرة القائلة بخطورة فكرة الضرورة الشاملة على الدين من حيث ما تؤدي إليه من استحالة الثواب والعقاب، ونفي الخلق والمعجزات، وإنكار لقيمة الصلاة، ويضيف: «ولقد كان في ذلك كله مخلصًا لمبادئه؛ فأي مجال يمكن أن يظل باقيًا لحكم الآخرة أو احتمال الثواب أو العقاب، إذا ما أخضع كل شيء للقدر، وإذا قيل إن كل شيء يصدر عن الله بضرورة مطلقة، أو أن الله ليس سوى الكون بأكمله؟» ويضيف صاحب الرسالة أن فكرة اسپينوزا عن الله تجعل الله غير مكترث بما يعتنقه الناس من آراء دينية، وأن لكل شخص أن يعتنق من العقائد أو العبادات ما يرى أنه أقدر من غيره على تقريبه إلى ممارسة الفضيلة. وينتهي من ذلك كله — في حكم يمكن أن يُعَدَّ ممثلًا لحكم معاصري اسپينوزا على الكتاب — إلى أن هذا البحث «يهدم في رأيي كل عقيدة وكل دين ويقلب جميع الأسس؛ فهو يدعو — خلسة — إلى الإلحاد، أو يقول بإله لا يستطيع الناس أن يشعروا نحوه باحترام الألوهية: إله يخضع، هو ذاته، للقدَر، فلا يظل هناك مكان للعناية أو للمشيئة الإلهية، ولا يعود ثمة ثواب ولا عقاب … [فالمؤلف] لا يعلِّم إلا الإلحاد البحت، وذلك بحجج خفيَّة مستترة.»
هذا هو أنموذج النقد القديم لكتاب «البحث اللاهوتي السياسي»، ولكَم تغيرت النظرة إلى هذا الكتاب منذ ذلك اليوم حتى عصرنا الحالي! لقد اكتُشِفت فيه، منذ التاسع عشر، مزايا لم يكن من الممكن التنبُّه إليها في عصر اسپينوزا على الإطلاق؛ إذ إن من المستحيل كشفها إلا في عصر بلغت فيه النظرة التاريخية إلى الظواهر الاجتماعية — وضمنها الظواهر الدينية — قمَّتها. وهكذا انقلب ذلك الذم المفرط إلى مديح لا حدَّ له، وتنافس الكتاب المعاصرون في التحدث عن اسپينوزا بوصفه «رائدًا» للبحث التاريخي للعقائد، وعصاميًّا فريدًا في هذا الميدان. وهكذا قال «ڨيل Weill»: «إن فضل هذا الكتاب، في نظر أعمق النقاد المعاصرين، يرجع إلى أنه وضع نظامًا حقيقيًّا لعلم التفسير، وحدد الهدف الحقيقي الواجب بلوغه، وأعني به، قبل كل شيء، فهم النصوص بذاتها دون أية فكرة سابقة، وعلى نحو موضوعي وتاريخي تمامًا، ووصل إلى بعض النتائج التي لم تكشفها، منذ ذلك الحين، إلا جهود البحاثة المتعمقين الذين أعلنوها على الملأ.»١ ويقول برنشڨك: «إن المعقولية الوضعية في «البحث اللاهوتي السياسي»، قد استبقت أفضل نتائج النقد المعاصر.»٢ كما يقول في موضعٍ آخر: «مثلما وضع ديكارت أسس التحليل الخالص والفيزياء الرياضية، فكذلك يعد اسپينوزا واضع المنهج السيكولوجي والاجتماعي الذي هو أساس علم التفسير الحديث.»٣
الأمر الذي لا شكَّ فيه، أن هذا المنهج التفسيري الذي اتبعه اسپينوزا في هذا الكتاب، ووقوفه من النصوص الدينية موقف الباحث العلمي الموضوعي الذي لا يحكم إلا على أساس ما يمليه عقله — لا ما تمليه مشاعره أو عواطفه — كان مرتبطًا أوثق الارتباط بدعوته إلى حرية التفكير والبحث، التي جعلها هدفًا لذلك الكتاب. ونستطيع أن نقول إنه في هذه الدعوة الأخيرة أيضًا — لا في دعوته إلى التفسير العلمي للنصوص الدينية فحسب — قد استبق أشد الاتجاهات تحررًا في العصر الحديث، وأنه يُعد مبشرًا بأفكار لم تبدأ في التبلور إلا منذ عهد الثورة الفرنسية على الأقل.٤

(١-١) أسلوب البحث اللاهوتي السياسي

يبدو، لأول وهلة، أنَّ الأسلوب المسترسل الذي كتب به اسپينوزا «البحث اللاهوتي السياسي» لا يتيح له اتباع الطريقة غير المباشرة في الكتابة، التي كان يساعده عليها، إلى حدٍّ بعيد، منهجه الهندسي في كتاب «الأخلاق»، وبالفعل كانت آراء اسپينوزا في «البحث اللاهوتي السياسي» صريحة إلى حد غير قليل، وكان ذلك الكتاب، كما قلنا، هو المسئول الأول عن شهرة اسپينوزا في عصره، وفي العصر التالي له مباشرةً، بالمروق.

ومع ذلك فإن المرء يستطيع أن يدرك في هذا الكتاب أيضًا نوعًا من التحفُّظ في الكتابة. ويكاد المرء يشعر، كلما أمعن قراءة هذا الكتاب، بأن اسپينوزا لو كان قد ترك نفسه يعبِّر مباشرةً عن آرائه الحقيقية، دون أن يفرض على نفسه أي قيد، لجاء هذا الكتاب — الذي هو في صورته الراهنة من أجرأ الكتب بالنسبة إلى عصره — أشد عنفًا من ذلك بكثير، ولاختفت منه تمامًا أية مسحة لاهوتية قد تظهر فيه من آنٍ لآخر، ولسنا نحن وحدنا الذين نقول بهذا الرأي، بل إن «ليوشتراوس» — كما ذكرنا من قبلُ — يؤكده أيضًا، كما أحس «ماتيو أرنولد» بنفس الشعور حين قال معلقًا على «البحث اللاهوتي السياسي»: «من المهم أن نلاحظ أنه (أي اسپينوزا) لا يعبِّر فيه أي موضع بوضوح عن رأيه في الطابع الأساسي للإنجيل؛ فهو يأخذ الإنجيل على حاله، مثلما ينظر إلى الظواهر الطبيعية، ويناقشه كما يجده … وإذ يمضي اسپينوزا على أساس هذا المبدأ، فإنه يترك القارئ اليقظ حائرًا وساخطًا إلى حدٍّ ما … إذ نشعر بأنه يبدأ مما هو بالنسبة إليه فرض، ونريد أن نعرف رأيه الحقيقي في هذا الفرض. وكل ما يأتي به إلينا من تجديدات إنما ينحصر في الحدود التي رسمها له هذا الفرض.»٥ وفي موضعٍ آخر من المقال نفسه يقول «ماتيو أرنولد»: «لا يستطيع أي شخص ذكي أن يقرأ البحث اللاهوتي السياسي دون أن «يشعر» بأن الكتاب يفتقر، بمعنى ما، إلى أساس، ويفتقر إلى دعائم، وبأن هذا الأساس وهذه الدعائم لا توجد، على أية حال، في الكتاب نفسه، وإنما ينبغي، إذا كانت موجودة، أن تُلتمس في الكتب الأخرى للمؤلف.»٦

وبالفعل نجد أمورًا أساسية يُسلَّم بها في كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» دون مناقشة تؤديها أو تُعارضها، ولا يمكن أن يُفهم رأي اسپينوزا فيها إلا بالرجوع إلى كتاب «الأخلاق» على الأخصِّ. ونستطيع أن نقول إنَّ الكتابين، على هذا الأساس، متكاملان؛ فكتاب «الأخلاق»، وإن يكن مكتفيًا بذاته بكل ما لهذه الكلمة من معنى، يبحث في الأسس والدعائم الأولى للفكر النظري وللأخلاق، و«البحث» يعالج ميدانًا تطبيقيًّا هو موقع الدين في الدولة، ولكن كثيرًا من المشاكل التي تُركت فيه دون جواب لا يمكن أن تُفهم إلا بالرجوع إلى ما قيل عنها في الأخلاق.

ويتضمن كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» شواهد عديدة، بعضها مباشر وبعضها غير مباشر، على أن اسپينوزا بذل في هذه الحالة أيضًا مجهودًا لتخفيف وقع آرائه باصطناع لغة لاهوتية ظاهرة للتعبير عن معانٍ مخالفة تمامًا للمعاني اللاهوتية. وكما قلنا من قبلُ في صدد الكلام عن المنهج، فإذا كان قد استخدم المنهج الهندسي في الأخلاق وسيلة لتحقيق هذه الغاية، فإنه يستخدم هنا ما يمكن أن يُعَدَّ فرعًا للمنهج الهندسي، وهو ما أسميناه «بطريقة المعادلات»، للوصول إلى هذه المعاني المزدوجة.

ولنردد ها هنا، مرة أخرى، بعض أمثلة هذه الطريقة كما تُستخلص من هذا الكتاب:
  • (١)
    «أعني بمعونة الله، النظام الضروري الثابت للطبيعة أو سلسلة الحوادث الطبيعية … بحيث إن القول بأن كل شيء يحدث وفقًا للقوانين الطبيعية، والقول إن كل شيء مكتوب بأمر الله، يعنيان في رأيي شيئًا واحدًا … وعلى ذلك فإن كل ما تستطيع الطبيعة البشرية أن تزوِّد به نفسها، بجهودها الخاصة، لحفظ وجودها، يصح أن يُطلق عليه اسم المعونة الإلهية الباطنة، بينما أن كل ما يعود على الإنسان بالنفع من علل خارجية يمكن أن يُسمَّى بالمعونة الإلهية الخارجية (الظاهرة).»٧
  • (٢)
    وفي موضعٍ آخر يرى اسپينوزا أن السعي إلى معرفة الله [أي فهم استمرار الطبيعة] يمكن أن يُسمى أمرًا إلهيًّا؛ لأن الفكرة الإلهية كامنة فينا، وهي التي تدفعنا إلى هذا السعي.٨ ومعنى ذلك أن الأمر الإلهي في رأيه كامن في الإنسان، ليس له أي مصدر خارجي، وهو أمر يُصدره الإنسان لنفسه في سبيل تحقيق أشرف غاياته، وهي الفهم العقلي للأشياء.
  • (٣)
    ويعرِّف اسپينوزا الإيمان بأنه «معرفة لله، بدونها تستحيل طاعته، وقد يتمثل في هذه الطاعة وحدها.»٩ وقبل ذلك بصفحات قلائل يقول: «إن طاعة الله لا تكون إلا في حبنا للجار.»١٠ أي إن طاعة الله إنما تكون في حسن معاملة الناس فحسب؛ وعلى ذلك يكون معنى التعريف الأول هو: الإيمان معرفة لله، بدونها تستحيل المعاملة الطيبة للناس، ويتمثل في هذه المعاملة وحدها. والتعريف، في صورته الحقيقية هذه، يوحِّد بين الإيمان وحسن التعامل مع الناس، وبالتالي لا يجعل لاختلافات مضمونات العقائد أي أثر فيه. وقد يقال إن هذه أفكار توجد صراحة في كثير من العقائد. وهذا أمر لا ننكره، ولكنه ليس هو الموضوع الأساسي في هذا المجال، وإنما الموضوع الأساسي هو: هل يوحي التعريف الأول الذي أوردناه ها هنا، في ظاهره، بمثل هذه المعاني؟ ألا يبدو في مظهره تعريفًا متمشيًا مع جميع التقاليد اللاهوتية، ولا يستطيع أشد اللاهوتيين تمسكًا بالحرفية أن يأخذ عليه أي مأخذ؟
  • (٤)
    وفي الفصل الأول من الكتاب، حين يتحدث اسپينوزا عن المصادر التي سوف يستمد منها بحثه في الطرق التي يتصل بها الله بالبشر، يقول: إنَّ هذه المصادر هي كتب الأنبياء — وهو يعني بهم أنبياء اليهود بطبيعة الحال. ثم يقول: «ولمَّا لم يكن هناك، بقدر ما أعلم، أي نبي حي في هذه الأيام، فلا مفر لنا من قراءة كتاب الأنبياء الراحلين …»١١ ومن المؤكد أن هذه الجملة، ولا سيما عبارة «بقدر ما أعلم»، فيها نوع من الاستخفاف بالموضوع بأسره. وهذا الاستخفاف الذي يبديه اسپينوزا هنا، بطريقة مستترة، ينعكس على الكتاب كله؛ إذ إن ما يبدو فيه من احترام ظاهري لوجهة نظر أنبياء اليهود، إن هو إلا من قبيل «أخذ الناس بقدر عقولهم»، كما اعتاد اسپينوزا أن يفعل في كثير من مواقفه الفكرية.

ولسنا نود أن نمضي في تعديد الشواهد على اتِّباع اسپينوزا الأسلوب غير المباشر في هذا الكتاب بدوره، ويكفي أن نقول: إنَّ كلَّ حديثه عن الدين — مثل حديثه عن الله في الفصل السابق — يتخذ معنًى جديدًا كل الجِدَّة إذا كانت الطاعة الإلهية لا تعدو أن تكون حب الجار، وإذا كان الوحي الديني في نظره ثانوي الأهمية، وشعائر الدين — كما سنرى فيما بعدُ — لا تفيد من حيث قيمتها العملية، وإذا كان القانون أو الأمر الإلهي لا يعدو أن يكون تعبيرًا عن النظام الضروري للأشياء. فاستخدام اسپينوزا للفظ الدين، أو الإيمان، لم يكن بدوره إلا من قبيل المجاراة والتهدئة فحسب. أما معانيه الحقيقية فكانت في وادٍ آخر تمامًا. ومع ذلك فلا بد من التسليم بأن هذا الأسلوب غير المباشر لم يكن ناجحًا كل النجاح في هذا الكتاب؛ إذ إن طريقة الكتابة المسترسلة تؤدي إلى الكشف عن معانيه الحقيقية دون عناء كبير. وهذا ما يفسِّر الضجة الكبرى التي أحدثها الكتاب في الأوساط الدينية في عصره على الأخص، وهي الضجة التي ظل اسپينوزا يعاني آثارها طوال حياته.

(٢) موقف اسپينوزا من المسيحية

وبعد كل ما قلناه في القسم السابق، نستطيع أن نقول إنَّ الدَّليل الأكبر على اتباع اسپينوزا للأسلوب غير المباشر في التعبير عن آرائه، هو الاختلاف الشديد بين الشُّراح حول موقفه من المسائل الدينية، ولا بد لإيضاح طبيعة هذا الاختلاف من شرح رأي اسپينوزا في اليهودية والمسيحية كلٍّ على حدة، ثم عرض آرائه في الروح الدينية بوجهٍ عام. ولما كنا سنخصص فصلًا مستقلًّا لشرح موقف اسپينوزا من اليهودية، فسوف ننتقل هنا مباشرة من الحديث عن موقفه من المسيحية، إلى بحث رأيه العام في الروح الدينية.

والظَّاهرة التي تلتف النظر في كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» هي أنَّ اسپينوزا أظهر محاباة واضحة للمسيحية بالنسبة إلى اليهودية.

فتعاليم موسى في الوصايا العشر كانت في رأيه مكيفة تبعًا لأذهان اليهود، وترمي إلى تحقيق رفاه مملكتهم فحسب؛ أي إن موسى كان يخاطب اليهود بوصفه مشرعًا وقاضيًا، وكان يتناول في تشريعه الجانب الظاهر من سلوك الإنسان. أما المسيح فقد تناولت تعاليمه حياة الإنسان الباطنة، وكان الجزاء عنده روحيًّا أكثر منه دنيويًّا.١٢
وحين يحلل اسپينوزا مختلف طرق الاتصال بين الله وبين الأنبياء حسبما جاء في الأناجيل، يرى أن الأوصاف الواردة في الأناجيل لا تدل على حدوث اتصال مباشر بين الذهن الإلهي وبين أي ذهن آخر سوى المسيح؛ فالاتصال الإلهي بموسى كان مخاطبة أو كلامًا، والكلام يحتاج دائمًا إلى المخيلة لتفسيره أو فهمه. أما الاتصال ببقية الأنبياء اليهود فكان عن طريق أحلام أو علامات أو أمارات معينة؛ أي إنه كان يتم دائمًا بتوسط، والحالة الوحيدة التي تم فيها اتصال مباشر من ذهن إلى ذهن، دون توسط اللغة أو الخيال، هي حالة المسيح.١٣

ولقد أدت هذه المحاباة الواضحة للمسيحية في «البحث اللاهوتي» إلى اعتقاد بعض الشُّراح أن اسپينوزا، حين نبذ اليهودية، قد اتجه بتفكيره إلى المسيحية عن إيمان صحيح بها، أو أنه تأثر بتعاليمها وفضَّلها على سائر العقائد.

وقد ظهر هذا الرأي واضحًا في كتابات الأب «دونين بوركوڨسكي Dunin-Borkowski»، الذي جعل لتأثير التعاليم المسيحية المحل الأول في تحديد اتجاه اسپينوزا الفكري،١٤ كذلك يظهر رأي مماثل لدى «برنشڨك»، الذي أبدى اهتمامًا كبير بالنصوص التي أعرب فيها اسپينوزا عن إعجابه بشخصية المسيح، وأكد تبعًا لذلك أن المسيح قد ضرب لاسپينوزا المثل بخروجه على اليهودية، ورفضه كل عبادة ذات طابع مادي، فضلًا عن المثل الذي ضربه له بحياته الروحية وتضحيته.١٥ بل إن بعض الشُّراح اليهود ذاتهم قد وجدوا في «البحث اللاهوتي السياسي» مَيلًا واضحًا إلى المسيحية؛ فأكد «هيلر Heller» أن «بحث اسپينوزا للاهوت العهد القديم والعهد الجديد يتَّسم بتحيز واضح للمسيحية.»١٦ ورأى «ليوشتراوس» أن هذا الكتاب قد وُضع من وجهة نظر مسيحية، أو وجهة نظر تحتل فيها المسيحية المكانة الأولى، وعلَّق على ذلك بقوله: «لا يسع المرء إلا أن يعتقد أنه أراد أن يقدم إلى المسيحيين النصيحة الآتية: أن يتخلَّوا عن الآثار اليهودية المادية التي شوهت المسيحية منذ بدايتها، أو أن يعودوا إلى التعاليم الروحية الخالصة للمسيحية الأصلية … فالغرض الأساسي من «البحث اللاهوتي السياسي» هو تحرير المسيحية من تراثها اليهودي.»١٧

ولكن الاعتقاد بأن اسپينوزا كان ميالًا إلى المسيحية أو متحيزًا لها، وبأنه قد اقترب كثيرًا من الإيمان بها بعد تخلِّيه عن اليهودية، يكذبه على نحو قاطع ما قاله في رسالة رقم ٧٣ (إلى أولدنبرج)؛ ففي هذه الرسالة يتحدث عن الاختلاف بين رأيه عن الله والرأي الذي يقول به المسيحيون المحدثون، من حيث إنه يرى أن الله هو العلة الكامنة في شيء، وليس العلة العالية على الأشياء. ثم يفسِّر الفكرة المسيحية القائلة إن المسيح هو الابن الأزلي لله، بأنها تعني أن المسيح كان يعبِّر عن «الحكمة الإلهية الأزلية كما تتمثل في جميع الأشياء، ولا سيما في العقل البشري؛ وهي الحكمة المؤدية بالفعل إلى الخلاص. أما فكرة اتخاذ الله صورة بشرية، فيقول عنها: لقد أشرت صراحة إلى أنني لا أفهم المقصود منها، بل إن هذا القول لا يبدو لي أقل امتناعًا من القول بأن الدائرة قد اتخذت صورة المربع.» فإذا أدركنا أن اسپينوزا كان أصرح في تعبيره عن آرائه في رسائله منه في كتبه، وإذا علمنا أن الاعتراضات الواردة في هذه الرسالة تتعلق بأركان أساسية في العقيدة المسيحية، لتبيَّن لنا أن رأيه الحقيقي في المسيحية كان لا بُدَّ مختلفًا عن الرأي الذي عبَّر عنه في «البحث اللاهوتي» حين جعل هذه العقيدة هي الأقرب إلى التعبير عن التعاليم الإلهية، وحين سلَّم بحرفيتها وأبدى نوعًا من الإعجاب بها.

ولقد أدرك كثير من شُرَّاح اسپينوزا وجود هذا التناقض في كتابته عن المسيحية. ونَسبَه بعضهم إلى رغبة اسپينوزا في مجاملة الجماهير.١٨ وفي هذا المعنى قال «جوليان ڨيل»: «إن حرص اسپينوزا على مسايرة الآراء المسيحية ليتبدى جليًّا … في إشادته في كثير من المواضع بالمسيح والحواريين، وفي إحجامه عن دراسة الأناجيل المسيحية من وجهة النظر النقدية، وفي إصراره المتحيز على امتداحها على حسب العهد القديم.»١٩ وأخيرًا، فإن ليوشتراوس يذكر صراحةً أن اسپينوزا لم يكن يعدُّ المسيحية أفضل من اليهودية، بل كان يدرك أن السلطات الحاكمة، والأغلبية الموجودة، تؤمِن بالمسيحية، وكانت مهاجمة اليهودية في نظره أقل خطرًا من مهاجمة المسيحية؛ بينما يؤكد أن القارئ الواعي لا بُدَّ أن يدرك أن انتقاداته التي وجَّهها إلى اليهودية لا بُدَّ أن تسري في الوقت ذاته على المسيحية.٢٠

وفي اعتقادنا أن هذا الرأي الأخير صحيح، وأن ما يبدو في «البحث اللاهوتي» من محاباة للمسيحية ليس، في واقع الأمر، إلا مظهرًا من مظاهر إخفاء اسپينوزا لآرائه الحقيقية. ولنذكر هنا الرأي الذي سبق أن اقتبسناه لماتيو أرنولد، وهو الرأي القائل: إن اسپينوزا لا يناقش الإنجيل ولا يبدي رأيه فيه، بل يتناوله كما هو، ويأخذه كما لو كان يضع فرضًا معينًا، دون أن يحدد لنا موقفه من هذا الفرض. وهذا، في الواقع، هو التعليل الصحيح لما يبدو من إعجاب اسپينوزا بالمسيحية؛ فهو يتناول تعاليمها كما هي، ويفترض أنها صحيحة، ثم يستخلص التفسيرات المنطقية لما في هذه التعاليم من أفكار، ولكن الأمر لا يعدو أن يكون افتراضًا فحسب؛ إذ لو كان يؤمن بها حقًّا لما تحدَّث عنها على نحو ما رأينا في رسالة إلى «أولدنبرج»، وعلى أية حال، فإن انتقاداته التي ركزها على العهد القديم هي، في نظر كلِّ مَن يختبرها عن كثب، ذات طابع أوسع بكثير من أن تنطبق على تعاليم العهد القديم وحده؛ فهي في الواقع انتقادات موجهة إلى الروح الدينية في عمومها، كما سنرى في الأقسام التالية.

(٣) العقل والإيمان عند اسپينوزا

وضع اسپينوزا في «البحث اللاهوتي السياسي» حدًّا فاصلًا بين العقل والإيمان، أو بين الفلسفة واللاهوت، وأكد أن لكلٍّ منهما مجاله الخاص الذي لا يتعدى على مجال الآخر: «فمجال العقل هو … الحقيقة والحكمة، ومجال اللاهوت هو التقوى والطاعة، واللاهوت لا يُنبئنا بشيء، ولا يحضُّنا على شيء، ولا يأمرنا بشيء سوى الطاعة، وهو لا يتجه إلى معارضة العقل ولا يستطيع ذلك؛ وإنما يكتفي بتعريف مبادئ الإيمان … بقدر ما تكون ضرورية للطاعة، ويدع العقل يحدد حقيقتها بدقة؛ ذلك لأن العقل هو نور الذهن، وبدونه تغدو كل الأشياء أحلامًا وأوهامًا» وبالاختصار ففي وسعنا أن ننتهي من ذلك إلى النتيجة النهائية القائلة: «إن من الواجب ألا نسعى إلى إخضاع الإنجيل للعقل، ولا العقل للإنجيل.»٢١
ومثل هذا الرأي في العلاقة بين العقل والإيمان أدى بكثير من شُرَّاح اسپينوزا إلى الاعتقاد بأنه قد جعل التفكير الفلسفي والإيمان الديني متساويَين، كلٌّ في ميدانه الخاص، وأنه دافع عنهما بنفس القوة. فقال «بروشار» مثلًا: «إن أحدًا لم يدافع عن حقوق العقل بمثل هذه القوة، وإن أحدًا لم يتحدث عن الإيمان بمثل هذا الاحترام. فإذا كان يعد شكَّاكًا incrédule لأنه يرى الوحي غير كافٍ، فإنه شكَّاك يؤمن بالوحي، وروحُه دينية بعمق.»٢٢
وعلى هذا النحو نفسه فهم «برنشڨك» تفكير اسپينوزا على أنه محاولة للتوفيق بين الفلسفة — كما تتمثل لدى ديكارت — وبين الإيمان كما يتمثل في المسيحية: «فالغاية التي استهدفها هي تنقية ديكارت وتنقية الدين؛ أي تنقية ديكارت باستبعاد العنصر اللاعقلي اللامنهجي من مذهبه … وتنقية الدين … بالتشبه بالمسيح الذي جاء ليضع حدًّا لكل العبادات المتحجرة؛ لأنه لا يرى الدين إلا روحيًّا فحسب؛ فالمهمة التي أراد اسپينوزا إنجازها هي أن يضم في وحدة روحية جامعة ديكارت الحقيقي والمسيح الحقيقي.»٢٣ وفي موضعٍ آخر يعلق برنشڨك على الجزء الأول من النص الذي اقتبساه عن اسپينوزا في بداية هذا القسم فيقول: «هذه هي الفكرة الأخيرة التي انتهى إليها اسپينوزا من دراسته للدين المنزَّل بالوحي؛ فقد برر الكتاب المقدس وأكد قداسته، وبرر العقل وأكد قداسته، دون أن يجعل سلطة الأول تنال من استقلال الثاني.»٢٤

مثل هذا التفسير لموقف اسپينوزا من مشكلة العلاقة بين العقل والإيمان يُغفل، في رأينا، أهم أوجُه هذا الموقف، حقًّا إنه يرتكز على بعض نصوصٍ مستمدة من كتاب اسپينوزا نفسه، ولكن هذه النصوص، إذا ما وُضعت في سياقها الحقيقي، تكتسب في واقع الأمر دلالة مختلفة كل الاختلاف؛ فالتفسير الذي يبدو لأول وهلة لهذه النصوص هو أن اسپينوزا فصل بين مجالَي العقل والوحي لكي يحفظ لكلٍّ منهما حقوقه إزاء الآخر، ولكن الواقع هو أن هدفه الحقيقي، المستمد من ظروف عصره، كان إبعاد سلطة رجال الدين عن كل الأمور المتعلقة بالمعرفة، وهي الأمور التي كانوا يدَّعون لأنفسهم سلطة كاملة فيها، ويتدخلون فيها على أساس أن لهم الكلمة الأخيرة حتى في هذا المجال ذاته؛ ففي العصر الذي تكون سلطة رجال الدين فيه هي الغالبة، تتخذ الدعوة إلى فصل العقل عن الوحي دلالةً مختلفة كل الاختلاف؛ إذ يصبح الوجه الذي يدافع فيها عن العقل أقوى من الوجه الذي يدافع عن الوحي بكثير، ولو ظهرت مثل هذه الدعوة في القرن العشرين مثلًا، حيث يكتسح العقل كل مجالات المعرفة البشرية، لأصبحت دلالتها عكس الدلالة السابقة؛ أي لأصبحت دفاعًا عن الوحي أكثر منها دفاعًا عن العقل. وبعبارة أخرى: فتفسير الدعوة إلى فصل العقل عن الوحي ينبغي أن يُستمد من ظروف كل عصر، وأن يُعد دفاعًا عن الجانب «الأضعف» نسبيًّا منهما في ذلك العصر. ولما كان عصر اسپينوزا، رغم حرية الفكر النسبية فيه، قد ظل يتضمن كثيرًا من عناصر التعصب الديني المتخلف عن العصور الوسطى، وكانت كلمة رجال الدين فيه، رغم كل شيء، هي الغالبة، بينما يضطر أصحاب النزعات الثائرة فيه إلى التعبير عن آرائهم بطريقة حذرة مستترة، فلا بد أن يكون الاتجاه الحقيقي لفكرته هذه دفاعًا عن العقل أكثر منه دفاعًا عن الوحي.

ولكنا لسنا في حاجة إلى مثل هذه التحليلات والاستنتاجات لكي ندرك الغرض الحقيقي لاسپينوزا؛ إذ إن كتاباته ذاتها تحفل بالنصوص التي يستحيل أن يخطئ المرء فهم مرماها؛ إذ إنها كلها تمجيد صريح للعقل وإعلاء له على كل شيء.

فهو يرفض بشدة كل محاولة لإعطاء العقل مكانةً ثانوية بالنسبة إلى الوحي، ويقول: «إني لأدهش ممن يرغب في إخضاع العقل؛ تلك الموهبة الرفيعة والنور العلوي، للحرف الجامد الذي ربما كان الخبث البشري قد أفسده؛ وأدهش لأن الناس لا يرون أي جرم في التحقير من شأن العقل الذي هو التعبير الحق عن كلمة الله؛ فيسمونه فاسدًا وأعمى ومضللًا، على حين أنهم يرون من أشنع الجرائم التي تُنسب مثل هذه الصفات إلى الحرف، الذي لا يعدو أن يكون انعكاسًا وخيالًا لكلمة الله. إن الناس ليظنون أن التقوى هي ألا يثق المرء بعقله وبحكمه على الإطلاق. أما الشك في إيمان من نقلوا إلينا الكتب المقدسة فهو الفجور في نظرهم، ولكن مثل هذا السلوك ليس من التقوى في شيء، وإنما هو جنون محض.»٢٥

وفي مجموعة الرسائل التي تبادلها اسپينوزا مع «بلينبرج»، ذكر هذا الأخير (في الرسالة رقم ٢٠) أن الوحي عنده يعلو على العقل، وقال: «إذا ما اتضح لي، بعد دراسة فاحصة، أن المعرفة الطبيعية تتعارض مع كلام الله أو لا تتفق معه، فإن لكلام الله في عقلي سلطة تجعلني أشك في المفهومات الواضحة المزعومة …» وكان هذا القول سببًا في هجوم اسپينوزا عليه بعنف في الرسالة رقم ٢١ إذ قال: «إنني لأدرك الآن أن أي برهان، مهما كانت متانة الأسس التي يرتكز عليها، لا قيمة له في نظرك إذا لم يتفق مع التعاليم التي تنسبها أنت أو من تعرفهم من رجال اللاهوت إلى الكتاب المقدس. فإذا كنت تعتقد أن الله يعبِّر عن نفسه في الكتاب المقدس بطريقة أوضح وأدق من تلك التي يعبِّر بها عن نفسه في النور الطبيعي للذهن — الذي هو بدوره من صنعه والذي يحفظه بحكمته الإلهية — فإن لك كل الحق في إخضاع ذهنك لمعتقدات الكتاب المقدس. ولو كنتُ موضعك لما فعلتُ غير ذلك. أما أنا فأعترف دون مواربة بأنني لا أفهم الكتاب المقدس، وإن كنت قد كرَّست لدراسته عددًا من السنين … ولقد أصبحت، بفضل ممارسة قدرتي الطبيعية على الفهم، وهي القدرة التي لم تخذلني قط، رجلًا سعيدًا. وأنا بالفعل استمتع بها، وأقضي حياتي بعيدًا عن الحزن والهم، هادئًا مرحًا مسرورًا.» وعندما أصر «بلينبرج» في الرسالة التالية، على موقفه الذي يُخضع فيه العقل للوحي، رد عليه اسپينوزا في الرسالة رقم ٢٣ قائلًا إنه لا جدوى من استمرارهما في التراسل، طالما أنهما مختلفان على هذه المبادئ الأساسية، وكان من بين ما جاء في رده: «لقد كتبت في رسالتك الثانية أيضًا تقول إن أمنيتك ورغبتك الوحيدة هي المحافظة على الإيمان والأمل، بينما أنت لا تكترث بمختلف الآراء التي تناقشنا حولها في صدد الذهن الطبيعي. وهكذا رأيت، وما زلت أرى، أن رسائلي لا قيمة لها بالنسبة إليك … والواقع أنني عندما كتبت إليك (رسالتي الأولى) كنت أظنك فيلسوفًا خالصًا، لا تقبل (شأن عدد كبير من أتباع العقيدة المسيحية) معيارًا للحقيقة سوى الذهن الطبيعي، لا اللاهوت.»

ولما كان أي شخص يؤمن بالوحي لا يستطيع أن ينكر أن التفكير العقلي يرجع إلى الله ويُستمد منه، فإن اسپينوزا يستغل هذه الفكرة ليقول: إنَّ العقل البشري ينبغي، على هذا الأساس، أن يكون هو الأصل الأول لكل وحي إلهي، فيقول في الفصل الأول من «البحث اللاهوتي»: «ولما كنا نرى أن ذهننا ينطوي في ذاته على الطبيعة الإلهية ويشارك فيها، ويستطيع لهذا السبب وحده، أن يكوِّن أفكارًا تفسر الظواهر الطبيعية وتحضُّ على الأخلاق الحميدة، فإن ذلك يستتبع القول بأن لنا الحق في أن ننظر إلى طبيعة الذهن البشري (منظورًا إليه على هذا النحو) على أنه هو العلة الأولى للوحي الإلهي.» وهكذا يستخلص اسپينوزا من نفس منطق التدين، باستدلالٍ دقيق، نتيجةً خطيرة تجعل من العقل أساسًا للوحي ذاته.

وهكذا يكون من الخطأ، في هذا السياق أيضًا، أن نقرب بين اسپينوزا وبين فلاسفة العصور الوسطى الذين كانت مهمتهم هي التوفيق بين الفلسفة والدين، والذين ركزوا جهودهم في العثور على صورة أرسطو في النصوص الدينية؛ ففي الوقت الذي يبدو فيه لأول وهلة أن اسپينوزا يرمي إلى تحقيق نفس الهدف، مع استبدال ديكارت بأرسطو، يتضح من البحث الدقيق لآرائه أنه يجعل للعقل، في واقع الأمر، مكانةً تعلو على كل شيء، وأنه لو خُيِّر بين العقل والوحي لما تردَّد في اختيار الأول، وأنه لم يجعل للوحي مجالًا إلا حيثما يعجز الناس عن ممارسة عقولهم، وسوف تظهر هذه الحقيقة بمزيد من الوضوح عندما نتحدث عن وظيفة العقيدة الدينية كما تصوَّرها اسپينوزا.

(٣-١) وظيفة العقيدة الدينية

ليست للعقيدة الدينية، في رأي اسپينوزا، أية وظيفة نظرية تتعلق بالمعرفة؛ ففي كل الميادين المعرفية يسيطر العقل بلا منافس. بل إن للعقائد وظيفة عملية فحسب، ولا أهمية على الإطلاق للأساس النظري الذي ترتكز عليه هذه العقائد طالما أنها تؤدي وظيفتها العملية على النحو المنشود، «فالإيمان يسمح بأكبر قدر من التحرر في النظر الفلسفي، ويبيح لنا، دون لوم، أن نتصور أي شيء كما نشاء، ولا يرمي بالهرطقة والزندقة إلا من ينشرون آراء تحض على المكابرة والكراهية والتشاحن والبغضاء، بينما لا يكون المؤمنون في نظره إلا من يحضُّوننا، بقدر ما يسمح عقلهم وملكاتهم، على العدل والإحسان.»٢٦ وهو يتحدث في موضعٍ آخر حديثًا أصرح من ذلك، فيعلق على عدم أهمية المذاهب الدينية النظرية قائلًا: «ليس لأحد أن ينكر أن الإيمان بهذه المذاهب ضروري لكي يستطيع كل شخص بلا استثناء، أن يطيع الله وفقًا لما يقضي به الشرع … أما ما يكونه الله، أو المثل الأعلى للحياة الحقة، في ذاته، من حيث هو نار أو روح أو نور أو فكر أو أي شيء غير هذا، فهذا في رأيي أمر لا شأن له بالإيمان، فلكلٍّ أن يفكر في هذه الأمور كما يشاء.»٢٧ وهكذا يبدو أن اسپينوزا يبيح جميع الاختلافات النظرية حول العقيدة — وبالتالي لا يعترف بأية قيمة للأسس النظرية — طالما أن الغايات العملية للعقيدة تتحقق.
ولكن من الواضح أن المفكر الذي يتجه إلى جعل السلوك العملي — بغضِّ النظر تمامًا عن الأسس النظرية — مقياسًا وحيدًا للعقيدة قد يهدم برأيه هذا كل ما تبقَّى للعقيدة من أسس؛ إذ إن السلوك الفاضل الذي يتحقق في إطار خارج تمامًا عن العقيدة، يصبح على هذا الأساس مساويًا لذلك الذي يتحقق في الإطار الديني، أو بعبارة أخرى: إن السلوك الفاضل يصبح غاية في ذاتها، سواء تحقق بفضل الإيمان أو بدونه. وإذا كان الكثيرون من المتدينين يوافقون على المقدمة القائلة إن السلوك العملي هو أهم ما في الدين، فلا أظن أنهم جميعًا يقبلون النتيجة الضرورية التي تستخلص منها، وهي أن هذا السلوك يعد مطابقًا للغاية المنشودة سواء أقام على أسس دينية أم لم يقُم، طالما أنه ينفذ نفس الأغراض التي يدعو إليها الدين. ومع ذلك فإن اسپينوزا يستخلص هذه النتيجة صراحةً إذ يقول: «لست أرى فارقًا بين الحالات التي يدعونا الله فيها إلى مراعاة العدل والإحسان عن طريق ملكاتنا الطبيعية، وبين تلك التي يأتي إلينا فيها بوحيٍ خاص.»٢٨ أما الشعائر والطقوس الدينية فيقول عنها: «من المؤكد أنها لا تنفع ولا تضر على الإطلاق فيما يتعلق بالمعرفة الحقة لله، والحب الذي ينجم بالضرورة عنها؛ ولذا لم يكن ينبغي أن يُعزى إليها من الأهمية ما يجعل المرء يعتقد أنها تستحق أن يعكر السلام والنظام والعام من أجلها.»٢٩ ويعبِّر اسپينوزا عن موقفه تعبيرًا أصرح إذ يقول: «إذا كان شخصٌ ما جاهلًا تمامًا بالكتب المقدسة، ولديه مع ذلك آراء صحيحة ونهج سليم في الحياة، فإنه قطعًا يكون مباركًا، وتكون فيه روح الله بحق.»٣٠ وبذلك يتحقق الهدف الأعلى للدين، في نظره، إذا كان السلوك العملي فاضلًا، بغض النظر عن أساس ذلك السلوك من وجهة نظر العقيدة، ولا يكون هناك أي ارتباط حقيقي بين تعاليم الدين وروحه الحقيقية؛ أي في هذه الحالة — بين المسيحية وروح المسيح.
وهنا يحق للمرء أن يتساءل: لماذا حرص اسپينوزا كل هذا الحرص على أن يؤكد أن السلوك الفاضل، حتى دون إيمان حرفي أو دون إيمان على الإطلاق، كفيل بأن يوصل المرء إلى السعادة والبركة الدينية ذاتها؟ ألا يستطيع المرء أن يرى في ذلك نوعًا من الدفاع عن النفس أو تبريرًا لموقفه الخاص؟ ألم يكن يريد، في الواقع، أن يرد على أولئك الذين اتهموه بالخروج على الأديان الشائعة في عصره، بالقول إن ذلك لا يحول بينه وبين أسمى درجات السعادة الدينية ذاتها؟ إن الدليل على صحة هذا التفسير هو أنه ينتقل، بعد النص السابق، إلى مقارنة رأيه هذا بالرأي المضاد السائد لدى اليهود — مقارنةً تُظهر بوضوح أنه يتحدث من خلال تجربته الخاصة — فيقول: «إن لليهود طريقة في التفكير تختلف عن ذلك كل الاختلاف؛ إذ يعتقدون أن الآراء الصحيحة والنهج السليم في الحياة لا قيمة لهما في تحقيق السعادة والبركة، إذا كان من يملكونهما قد توصلوا إليهما بنور العقل وحده، لا عن طريق الوثائق التي أُوحي بها إلى موسى.»٣١ ولكن اسپينوزا كان قد تخلَّى بطبيعة الحال عن عقيدته اليهودية منذ عهد بعيد، ولم يكن يحفل كثيرًا بمثل هذه الآراء طالما أنها تتعارض مع تفكيره ومنطقه العقلي.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد؛ فهو لا يكتفي بأن يقول إن السلوك القويم يؤدي إلى تحقيق الغاية المقصودة من الدين سواء أكانت أُسُسه دينية أم غير دينية، بل إنه يمضي خطوةً أبعد من ذلك، فيقول إن العقائد تفيد في تقويم سلوك العامة وحدهم. أما الخاصة؛ أي أصحاب العقول المفكرة، ففي وسعهم الاستغناء عنها تمامًا، بل لا مفر لهم من أن يستغنوا عنها إذا ما فكروا فيها بالمنطق الدقيق.

وتظهر هذه التفرقة بين حاجات العامة والخاصة من الناس بصورة ضمنية فيما رواه «كوليروس» عن اسپينوزا من أنه كان ينصح الأطفال بالذهاب إلى الكنيسة، وبإطاعة آبائهم، وأنه عندما سألته صاحبة داره إن كان يعتقد أن العقيدة التي تؤمن بها ستجلب لها الخلاص، أجاب: «إن عقيدتك عقيدة طيبة، ولست بحاجة إلى البحث عن غيرها، أو إلى الشك في أنها ستؤدي إلى خلاصك، على شرط أن يقترن اعتصامك بالتقوى بالعيش في سلام واطمئنان.» فهذه الرواية تكشف عن عدم اهتمام اسپينوزا بنوع العقيدة التي يؤمن بها الناس طالما أنها تؤدي إلى عيشهم في اطمئنان — فضلًا عن أن موافقته على ترك العامة يؤمنون بعقائدهم كما هي تعني ضمنًا أنه يرى لهذه العقائد وظيفة نافعة بالنسبة إلى عقول هؤلاء العامة ومستواهم الفكري.

وقد أوضح اسپينوزا صراحةً رأيه هذا في التفرقة بين ما يحتاج إليه العامة والخاصة، وأكد أن الكتابات الدينية المفصلة لا تُرضي إلا العامة، بينما يستطيع المفكر أن يستغني عنها، ويصل مع ذلك إلى مرتبة لا يصل إليها المتدينون من العوام.٣٢ بل لقد أخذ يضرب أمثلة عديدة لأخطاء في المعرفة وقع فيها أنبياء اليهود، ومن بينهم موسى ذاته٣٣ — وهي أخطاء قد يقبلها العوام راضين ولكن المفكرين لا يستطيعون أن يقبلوها دون نقد.

والرأي الحقيقي الذي يؤمن به اسپينوزا في هذا الصدد هو الرأي القائل إننا إذا شئنا أن نهتدي إلى دليل على القدرة الإلهية، وأن نكون متسقين مع أنفسنا في الوقت ذاته، فلدينا في عقلنا البشري نفسه أعظم دليل. فليس ثمة داعٍ لافتراض معرفة غير مألوفة، خارجة على قوانين الطبيعة، لتكون هي مظهر هذه القدرة الإلهية. بل إن عقلنا ذاته معجزة، وكفاحنا من أجل فهم الطبيعة والسيطرة عليها معجزة، ولا معنى — في نظره — لافتراض معجزات ونبوءات تتحدى العقل وتخرج عن نطاق الطبيعة من أجل إثبات هذه القدرة.

ومع ذلك فإن العامة، الذين لا يدركون إعجاز العقل لأنهم لا يعرفون كيف يمارسونه على النحو الصحيح، ينبغي أن يخاطبوا بلغتهم الخاصة. وهكذا فإن النص الديني — كما قال اسپينوزا في رسالته رقم ١٩ إلى «بلينبرح» «لما كان يخاطب عامة الناس في المحل الأول، فإنه يستخدم على الدوام لغةً كلها تشبيه بما يحدث في عالم الإنسان؛ فالعامة عاجزون عن إدراك الحقائق العميقة؛ ولهذا السبب كانت الأوامر التي أُوحي بها إلى الأنبياء، من حيث هي لازمة للخلاص، توضع في صورة قوانين. ولهذا أيضًا ابتدع الأنبياء شتى أنواع المجازات؛ فهم أولًا قد عرضوا الوسائل المؤدية إلى الخلاص أو إلى الهلاك، والتي أوحى بها الله — وهو علتها — كما لو كانت صادرة عن إرادة شبيهة بإرادة ملك أو مشِّرع … وصوروا الخلاص والهلاك على أنهما ثواب أو عقاب، بينما هما نتيجتان ضروريتان لهذه الوسائل (التي أسموها بالقوانين). وهم أخيرًا قد صاغوا كلماتهم في صورة أقاصيص لا حقائق. وكثيرًا ما صوروا الله منفعلًا كالبشر، أو نسبوا إليه الإحساس بالغضب أو الشفقة، أو تمنِّي حادث مقبل، أو الغيرة والريبة. بل لقد ذهبوا إلى حد جعْل الشيطان يضلله! ومع ذلك فلا شك في أن الفلاسفة، وكلَّ مَن ارتفعوا فوق مرتبة القانون؛ أي كلَّ مَن يمارسون السلوك الخيِّر لا بدافع الطاعة وإنما بدافع الحب لأنه هو الخير الاسمى، يعرفون الاستخدام المألوف لهذه اللغة القائمة على التشبيه بالإنسان.»٣٤
وهكذا ينتقد اسپينوزا ما يسميه بالاتجاه العامي إلى استخدام التشبيه بالإنسان في الأمور الدينية؛ فيعبِّر منذ مقدمة «البحث اللاهوتي السياسي» عن استنكاره لمحاولة الناس دفع الشر بالقرابين أو الصلوات، وتفسير الكوارث على أنها غضب من الآلهة. ويؤكد أن معرفة الإنسان بالقوانين الطبيعية الشاملة كفيلة بتجنيبه مثل هذه الأخطاء: لأن الخرافة في رأيه ليست إلا وليدة الجهل والخوف.٣٥
وهو يحمل على الرأي القائل إن القدرة الإلهية تتمثل في خروج الطبيعة عن مجراها المنتظم، كما هي الحال في المعجزات. ويرى أن نسبة هذه الحوادث إلى القدرة الإلهية راجعة إلى الجهل بقوانينها فحسب؛ فالقول بالمعجزات ينطوي ضمنًا على الاعتقاد بوجود قوتين: الله والطبيعة، وبأن كلًّا من القوتين تعمل عندما تتوقف الأخرى عن العمل؛ فقدرة الله تظهر عندما تسكت الطبيعة، وقدرة الطبيعة تظهر عندما تسكت القدرة الإلهية،٣٦ فكيف يوفِّق أصحاب هذا الرأي بينه وبين الاعتقاد الذي يسلِّمون به حتمًا، وهو أن الله خالق الطبيعة والمسيطر على مجراها؟ إن هذا الاعتقاد الأخير معناه أن أي شيء يحدث في الطبيعة ويكون فيه خروج عن قوانينها الشاملة، يكون فيه بالضرورة خروج عن الأمر الإلهي والطبيعة والفهم، فكلُّ مَن يؤكد أن الله يسلك على نحوٍ مخالف لقوانين الطبيعة، يتحتم عليه في الوقت ذاته أن يؤكد أن الله يسلك على نحو مخالف لطبيعته هو — وهذا أمر واضح الامتناع.٣٧
ويقدم اسپينوزا لهذا الاعتقاد بالمعجزات تعليلًا يستحق أن يقتبس هنا بأكمله: «فيبدو أن هذه الفكرة قد نشأت بين اليهود الأوائل، الذين رأوا غير اليهود من حولهم يعبدون آلهة منظورة، كالشمس والقمر والأرض والماء والهواء … إلخ. ولما كانوا يريدون إقناعهم بأن هذه الآلهة ضعيفة زائلة أو متغيرة؛ فقد رووا لهم كيف أنهم يخضعون هم أنفسهم لإله غير منظور، وقصوا عليهم معجزاته، محاولين بذلك زيادة تأكيد فكرتهم القائلة إن الإله الذي يعبدونه قد نظم الطبيعة بأسرها لصالحهم. وهذه فكرة مرضية للبشر إلى حد أن الناس ما زالوا حتى اليوم يتخيلون معجزات حتى يقنعوا أنفسهم بأنهم هم المختارون عند الله، وهم العلة الغائية التي خلق الله من أجلها كل الأشياء ووجَّهها في سبيلها، فيا لتلك الادعاءات التي يسوقها الناس حين يغلبهم الحمق! إن هؤلاء قوم ليست لديهم فكرة صحيحة واحدة عن الله أو الطبيعة، وهم يخلطون الأوامر الإلهية والأوامر البشرية، ويتصورون أن الطبيعة محدودة إلى درجة أن الإنسان يكوِّن الجزء الرئيسي فيها!»٣٨
ويفسِّر اسپينوزا قصة آدم وحواء، كما رواها موسى، على أنها أسطورة ذات فائدة عملية فحسب،٣٩ وهو حين يختبر مغزى القصة، يرى أنها قد تكون تعبيرًا عن الفكرة القائلة: إنَّ الإنسان لو كان قد وُلد حرًّا لما عرف الخير ولا الشر؛ فآدم خُلق متمشيًا مع طبيعته التلقائية، ولم يعرف الخير ولا الشر إلا بعد أن أكل من شجرة المعرفة.٤٠ ولكن تفكيره الاجتماعي يقنعه بأن الخطيئة أو الشر بوجه عام لا يمكن أن توجد في الحالة الطبيعية؛ أي في الحالة السابقة على قيام مجتمع له نظمه وقوانينه؛ فالشر لا يُفهم إلا داخل مجتمع ومن خلال القيم الخاصة لهذا المجتمع؛ ولذلك «فمن المستحيل أن نتصور الخطيئة موجودة في الحالة الطبيعية، أو أن نتخيل الله قاضيًا يعاقب الإنسان على مخالفاته … إذ لم يكن من الممكن قيام العدل والإحسان في تلك الحالة.»٤١ ومن الواضح أنه حيثما لا يُتصور وجود العدل والإحسان، لا يتصور أيضًا وجود الشر والخطيئة. ومع ذلك فسوف نرى فيما بعدُ أن فكرة الشر بأسرها ليس لها في نظره كيان متميز، وأن الشر في رأيه حرمان أو عَدَمٌ بالنسبة إلى معيارٍ معيَّن يضعه الناس لأنفسهم في كل مجتمع، بينما لا يكون لمثل هذه الأحكام التقويمية أيُّ وجود في الأفعال ذاتها؛ وعلى هذا الأساس الجديد يكون «من خطأ التعبير، ومن قبيل تشبيه الأمور بصورة الإنسان، أن يقال إن المرء يرتكب خطيئة ضد الله، أو يُغضب الله.»٤٢ ذلك لأن كل ما يحدث في الطبيعة يتم بمقتضى قوانينها الضرورية. وما يُسمَّى بالشر ليس إلا تفسيرًا بشريًّا لحادث معين من وجهة نظر معينة. أما قوانين الطبيعة في مجموعها — أو الأوامر الإلهية — فلا يمكن أن يخالفها أحد، وإذن فالخطيئة لا توجد إلا من المنظور البشري وحده. أما من المنظور الإلهي، أو من حيث النظام الشامل للكون (والتعبيران عند اسپينوزا مترادفان) فمن المحال منطقيًّا أن يكون لمثل هذه الأحكام الأخلاقية وجود.

(٣-٢) نسبية الظاهرة الدينية

وضع اسپينوزا، كما أشرنا من قبلُ، نوعًا من التقابل بين الظاهرة الدينية وبين النظام العام للأشياء؛ فالظاهرة الدينية ظاهرة بشرية قبل كل شيء، يسعى الإنسان عن طريقها إلى تحقيق أمانٍ معينة وتجنُّب مخاوف خاصة. أما النظام الكلي للأشياء فهو ضروري لا يستهدف مراعاة مطالب الإنسان، أو أي كائن جزئي آخر. وهكذا ينتهي اسپينوزا إلى أن قوانين الطبيعة ليست مطابقة للظواهر الدينية؛ لأن الأولى شاملة لا تسير وفقًا لرغبات الإنسان على التخصيص، بينما الثانية تستهدف صالح البشر وحدهم،٤٣ ويصل من ذلك إلى فكرة قد تبدو مذهلة لأول وهلة، ولكن من السهل تفسيرها في ضوء المقدمات الفلسفية لمذهبه: تلك الفكرة هي أن الظاهرة الدينية ليست هي التعبير المباشر عن الإرادة الإلهية؛ فالإرادة الإلهية — بالمعنى الخاص لهذا اللفظ عند اسپينوزا — هي مجموع الطبيعة وقوانينها. هذا المجموع يضم كل عناصر الكون وأوجهه اللامتناهية. أما الظاهرة الدينية فهي ظاهرة بشرية تستهدف نفع الإنسان فحسب، وترمي إلى تنظيم أحوال البشر ومعاملاتهم، وليست لها دلالة كونية مطلقة، وبالتالي لا يمكن الربط بينها وبين النظام الضروري للأشياء.
ويؤدي هذا الطابع البشري للظاهرة الدينية إلى القول بأنها نسبية على نحو آخر؛ فهي، ككل ظاهرة بشرية أخرى، متطورة ذات تاريخ، ومن الممكن أن تُفسَّر تفسيرًا كاملًا من خلال تاريخها هذا. وقد تضمَّن «البحث اللاهوتي السياسي» محاولة مفصلة لعرض الكتب المقدسة — اليهودية على الأخص — من حيث هي تعبير عن ظاهرة تاريخية واجتماعية، ولربط تعاليمها بطبيعة العصور التي ظهرت فيها، وإنكار وجود أية دلالة مطلقة لها، تسري على كل عصر. وكما قال برنشڨك، فإن اسپينوزا «عندما طبق على الكتب اليهودية نفس الأساليب التي يطبقها الباحثون العلميون على أشعار هوميروس، لم يصل فقط إلى بعض النتائج الأساسية للعلم المعاصر، بل لقد قلب أيضًا العلاقات التي شاعت إقامتها في القرن السابع عشر بين محتوى العقائد الوضعية وبين الحقيقة ذات الطابع الفلسفي الصحيح.»٤٤
ومن الطبيعي أن يؤدي هذا الربط بين الظاهرة الدينية وبين الظروف الاجتماعية والتاريخية، إلى نوع من سعة الأفق في النظر إلى هذه الظاهرة، بحيث استطاع ذهنه أن يتأمل في تسامح كل العقائد ويفهم مغزى كلٍّ منها في ضوء ظروفه الخاصة. وقد عبَّر اسپينوزا عن هذا الأفق الواسع أوضح تعبير في مراسلاته مع «ألبرت بيرج Albert Burgh»، الذي كان يعبِّر عن وجهة النظر الدينية المتمسكة؛ ففي الرسالة رقم ٦٧ يوجه هذا الأخير إلى اسپينوزا انتقادات في صورة أسئلة، منها: هل اطلعت على مذاهب الفلاسفة جميعهم، في المشرق والمغرب، وعلى ما ظهر من الفلسفات وما سيظهر في المستقبل، حتى تدَّعي أنك اتخذت لنفسك خير الفلسفات؟ ولماذا لا تؤمن بالمسيح؟ هل ذهنك أفضل من أمة المسيح كلها، ومن كل الأنبياء والشهداء؟ وهل هو أفضل من ذهن المسيح؟ فيرد اسپينوزا على أسئلته — وعلى انتقاداته — في الرسالة رقم ٧٦ قائلًا: «إنك تسألني كيف عرفت أن فلسفتي خير الفلسفات. وأنا لا أدعي أن فلسفتي هي الأفضل، ولكني أعلم أنني أعرف الفلسفة الحقة. فإذا سألتني كيف تسنَّى لي أن أعرف ذلك، قلت إنني أعرفه على نفس النحو الذي تعرف به أن الزوايا الثلاث للمثلث يساوي مجموعها قائمتين …» ويرد على الأسئلة الأخرى على نفس النحو قائلا: أما أنت، يا من تظن أن عقيدتك خير عقيدة، فكيف عرفت ذلك؟ هل اطلعت على كل العقائد، الشرقية منها والغربية، ما ظهر وما سيظهر؟ أليس لكل صاحب عقيدة أخرى نفس الحق في أن ينظر إلى عقيدته على أنها أفضل العقائد؟
وهكذا كان من الواضح أن نظرة اسپينوزا إلى الظاهرة الدينية قد بلغت من الرحابة والاتساع حدًّا جعله يضيق بالتعصب لأي نص بعينه، أو أية تعاليم على التخصيص، وليس في وسع المرء من تأمل ظاهرة كتاباته أن يصدر حكمًا دقيقًا على مشاعره الحقيقية في هذا الصدد، ولكن إذا كان صحيحًا — كما قال نيتشه — أن النقد التاريخي هو النقد الحاسم، فلا بد أنه — كما أكد «ريڨو Rivaud» — كان «يقف، ويريد أن يقف، في الطرف المضاد لجميع الأديان، كما أدرك خصومه في القرن السابع عشر بالسليقة.»٤٥
«وإلى مثل هذا الرأي ينتهي «بيدني Bidney» حين قال عن اسپينوزا «إن عمله يُمثِّل أول محاولة — وأعظم محاولة حتى الآن — لتشييد مذهب عقلي شامل للخلاص البشري يستغني عن الجزاءات فوق الطبيعية، ويتجنب أية إهابة خاصة بوحي تاريخي ينزل على شعوب مختارة أو أفراد مختارين.» وهي حقيقة تعلل تأثيره المستمر في رجال العلم وأصحاب المذاهب المتحررة عامةً، أولئك الذين يستاءون من التغرضات المؤسفة والأفعال المتعصبة التي تشجع عليها العقائد التقليدية في معظم أنواعها. ومن الممكن بحق أن يُسمَّى كتاب «الأخلاق» عند اسپينوزا «إيمان المذهب العقلي»، وذلك مقابل جميع صور المذهب المدرسي التي هي في آخر الأمر «تبريرات عقلية للإيمان».»٤٦

ومع ذلك، فالأمر الذي استطاع اسپينوزا أن يؤكده — باطمئنان كامل — هو أن مذهبه ليس أقل من غيره حرصًا على القيم الأخلاقية، وأن حياته ذاتها كانت — كما قال عنه الكثيرون من معاصريه — حياة قديس، بالمعنى الذي يفهمه هو لهذه الكلمة، وأن السعادة أو البركة التي تتخذها كل المذاهب الدينية غاية قصوى لها، قد وُجدت في سعيه إلى المعرفة تحقيقًا فعليًّا لها؛ وهذا وحده، بغضِّ النظر عن المحتوى النظري للتعاليم، هو الذي كان كفيلًا بإقناعه بأنه وجد، على طريقته الخاصة، سبيله إلى الخلاص.

١  Julien Weill: Spinoza et le Judaisme, in Revue des études juive. tome 49. Paris 1904. p. 163.
٢  Brunschvieg: Ecrits philosophiques, (op. cit.) p. 157.
٣  Ibid. p. 169.
٤  بحث موضوع تأثير اسپينوزا في المفكرين الذين مهدوا للثورة الفرنسية في كتاب قيِّم هو «اسپينوزا والفكر الفرنسي قبل الثورة» Spinoza et la pensée francaise davant La Révolution من تأليف Paul Vernière (في جزءين) مطبعة P.U.F.، ١٩٥٤م.
٥  Matthew Arnold: “Spinoza and the Bible” (op. cit.) p. 240.
٦  Ibid. p. 243.
٧  TTP. (English translation by Elwes) p. 44, 45.
٨  Ibid. p. 60.
٩  Ibid. p. 184.
١٠  Ibid. p. 176.
١١  Ibid. p. 14, 15.
١٢  TTP. p. 70.
١٣  Ibid. p. 18, 19.
١٤  Dunin-Borkowski: Spinoza nach Dreihundert Jahren. Berlin (Dümmlers Verlag) 1932 S. 107-108.
١٥  L. Bunschvicg: L’humanisme de loccident (op. cit.) p. 130.
١٦  B. Heller: “Is Spinozism Compatible with Judaism?” p. 34.
١٧  Leo Strauss: Persecution and the Art of writing (op. cit.) p. 167.
١٨  P. Siwek: Spinoza et el panthèisne religieux. Paris (Desclée). 1937. P. 172.
١٩  Julien weill: Spinozo et le judaisme. p. 175 & Friedmann: Leibnitz et Spinoza (op. cit.) p. 185.
٢٠  L. Strauss: Persecution and the art of writing. (op. cit.) p. 190, 191.
٢١  TTP. p. 164.
٢٢  Brochard: Le Dieu de Spinoze (op. cit.) p. 345.
٢٣  Brunschircg: L’humanisme … (op. cit.) p. 112.
٢٤  Brunschircg: Spinoza et ses contemporains. Paris (P.U.F.) 1951.
٢٥  TTP. p. 192.
٢٦  TTP. p. 189.
٢٧  Ibid. p. 187, 188.
٢٨  TTP. p. 72.
٢٩  TTP. p. 246.
٣٠  Tractatus Politieus, III, 10.
٣١  TTP. p. 79, 80.
٣٢  T. T p. p. 77–80.
٣٣  Ibid. p. 31–40.
٣٤  من الواضح أن القول بأن النصوص الدينية وُضعت للعامة، يتعارض مع المنهج الذي اتبعه اسپينوزا لنفسه في تفسير نصوص العهد القديم والعهد الجديد، وهو منهج الاعتماد على النصوص وحدها والرجوع إليها في كل الأحوال؛ فالقائل بأن هذه الكتب قد وضعت لتقريب حقائق معينة إلى أذهان العامة، لا يأخذ نصها الحرفي مأخذ الجد، ولا يعد الفارق اللفظي بين نصٍّ وآخر حاسمًا من حيث التحليل العقلي المنطقي لهما، والتفسير الوحيد لهذا التناقض هو أن نفترض مرة أخرى أن اسپينوزا لم يكن يعبِّر عن رأيه الحقيقي في الكتب المقدسة حين قال إنه سيرجع إلى نصوصها الحرفية، فمنهج التحليل المباشر للنصوص كان بالنسبة إليه نوعًا من التسليم «جدلًا» بصحتها؛ أي إنه يأخذ الناس بقدر عقولهم، «ويفترض» صحة النصوص، ثم يقول: حتى لو افترضنا أن هذه النصوص صحيحة لا تُناقَش، فإن النتيجة التي تؤدي إليها، إذا شئنا أن نكون منطقيين مع أنفسنا، هي كذا كذا … وهذه النتائج التي يستخلصها هي التي تعبِّر عن موقفه الحقيقي، وإن يكن قد اتَّبع من أجل الوصول إليها مثل هذه الطريقة غير المباشرة.
٣٥  انظر أيضا تذييل الباب الأول من «الأخلاق».
٣٦  TTP. p. 81.
٣٧  Ibid. p. 83.
٣٨  Ibid. p. 82.
٣٩  Ibid. p. 66.
٤٠  E, IV. 68. note.
٤١  TTP. p. 246.
٤٢  الرسالة رقم ١٩ إلى بلينبرج.
٤٣  TTP. p. 211.
٤٤  L. Brunschvicg: Spinoza et ses contemporains (op. cit.) 290.
٤٥  A. Rivaud: Histoire de la philosophie. (tome II) p. 286-287.
٤٦  Bidney: The Psychology and Ethics of Spinoza (op. cit.) p. 15. ويلاحظ أن المؤلف يستغل في التعبيرين المتقابلين بالجملة الأخيرة، التشابه اللفظي، في اللغة الإنجليزية، بين كلمتَي المذهب العقلي rationaslism و«التبريرات العقلية  rationalization».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤