الفصل الحادي عشر

العلوم المصرية

تحوت إله العلم

يعزو المصري كل ما وصل إليه من علوم ومعارف إلى الإله تحوت (إله القمر)، وبخاصة علوم الفلك والحساب والطب، ولا غرابة في ذلك فإن الكهنة كما يقال كانوا هم الطائفة المتعلمة في البلاد منذ فجر التاريخ، وقد بقوا كذلك طوال مدة التاريخ المصري، فكانوا ينسبون كل ما هو مشرف وكل ما هو عظيم لآلهتهم، ولكن كل ذلك كان من نسج خيال هؤلاء الطائفة رغم تبحرهم في العلوم.

الحاجة أم الاختراع

والواقع أن الحاجة وسنة الرقي والبيئة كانت الدافع الأكبر للتطور الذي نجده سائرًا نحو الكمال في الحياة المصرية العلمية والعملية على السواء، فنشاهد أن ما كانت تحتاج إليه البلاد من أعمال الري العظيمة وإقامة المباني الضخمة كالأهرام والمسلات والمعابد وقطع التماثيل الهائلة، كل هذا كان يتطلب تعمقًا في المسائل الميكانيكية العلمية، والهندسة التطبيقية، مما كان لازمًا لنقل الأثقال وإقامتها في أماكنها المخصصة لها. هذا إلى أن التفنن في صناعة المعادن، وعمل الفخار، والزجاج الملون، والقاشاني قد كشف للمصري عن خواص الأشياء الطبيعية والكيمائية مما جعله ينفرد عن باقي العالم بالنبوغ في العلم الذي اشتق اسمه من كلمة «كمي» المصرية، ولذلك كان المصري أول من حنط الأجسام وعرف تشريحها.

تفوق المصري في العلوم التطبيقية

وتدل الأبحاث العلمية على أن المصري كان ماهرًا في العلوم التطبيقية وفي المسائل الفنية، ولكنه لم يكن موهوبًا في البحوث النظرية المحضة، ولذلك يقول «هردوت»: إن علم الهندسة كان وليد الحاجة عند المصري، وذلك عندما أراد أن يقسم الأراضي الزراعية إلى قطع منتظمة. وعلى أية حال نرى الحالة الاجتماعية في وادي النيل قد حتمت نشوء نظام ثابت عام للمقاييس. وقد استعمل المصري في المقاييس السطحية الذراع والشبر والقبضة والأصبع والقيراط، وكان الذراع العادي يساوي ٠٫٤٥٠ من المتر والذراع الملكي ٠٫٥٢٥ من المتر وهذان المقياسان كانا يستعملان في المباني العادية. أما في حساب المساحات الكبيرة١ فكان يستعمل مقياس يسمى «إنترو» وهو «سونيوس» الإغريقي ويساوي تقريبًا ٥٠٠٠ ذراع. وكان المساحون الملكيون يقيسون الأرض بوحدة تسمى «ستا» وتساوي نحو ٢٧٥٦ مترًا مربعًا، وكانت وحدة المكاييل تسمى «هنو» ويساوي ٤٥ سنتيمترًا، أما معيار الوزن فكان «الدبن» ويساوي نحو ٩٢ جرامًا. واستعمل المصري الميزان لوزن الأشياء العادية وبخاصة التي كانت تحتاج إلى دقة.

ولم تكن النقود بالمعنى المتعارف بيننا معروفة عند المصريين حتى العصر الفارسي، ولكن كان يوجد لديهم معيار لتقدير قيمة الأشياء يسمى «شعت» للدفع به أو للمبادلة بما يساوي قيمته كما شرحنا ذلك.

(١) علم الرياضيات

تدل الوثائق التي في متناولنا على أن المصري كان يستعمل الأرقام في الحساب منذ فجر التاريخ، بل قبل عهد الأسرات بقليل، ولكن لم تصل إلينا وثائق مكتوبة عن الرياضيات إلا منذ زمن الأسرة الثانية عشرة.

ظهور الأرقام منذ فجر ما قبل التاريخ

ويمكننا أن نؤكد أنه منذ عهد الملك «نعرمر» كان يوجد في مصر نظام الأرقام بكل علاماته حتى العلامة التي تدل على ألف، يضاف إلى ذلك أن نقوش حياة «متن» قد كشفت لنا عن وجود مقاييس للأراضي، وقد حصل عليها بنفس الطريقة التي كانت متبعة في ورقة (رند)، التي يرجع تاريخها إلى عهد الدولة الوسطى، وقد أعطى فيها مساحة سطح المستطيل مضبوطة. وكان المصري قد اتخذ وحدة للمقاييس السطحية الكبيرة «الحكات» وقد جاء ذكر ذلك في أوراق بردية ترجع إلى الأسرة السادسة،٢ ومن المحتمل أنه كانت توجد وحدات للموازين أيضًا.

الأوراق الرياضية التي وصلت إلينا

وخلافًا لما ذكرنا لا نجد لدينا ما يسمح بتتبع تاريخ بداية علم الرياضيات في مصر حتى الأسرة الثانية عشرة. وهي الفترة التي نجد فيها وثائق عظيمة ذات اصطلاحات ثابتة. وهذه الوثائق هي ورقة مسكو وورقة كاهون وبرلين. وكذلك يعزى إلى هذا العصر ورقه رند،٣ وإن كانت النسخة التي وصلت إلينا كتبت في عهد الهكسوس. ومن هذه الوثائق يمكننا أن نأخذ فكرة عن علم الرياضيات المصري قبل أن يتأثر بالرياضات الإغريقية.

وسنترك أوراق الدولة الوسطى جانبًا الآن ونقتصر في كلامنا على ورقة (رند) التي يعتقد بعض المؤرخون أنها كورقة «إدون سميث الطبية» ترجع إلى عصور قديمة جدًّا قبل الدولة الوسطى.

وقد اشترى رند هذه الورقة عام ١٨٥٢ من أحد المباني الأثرية الواقعة بجوار معبد الرمسيوم بالأقصر، وكان معها ورقة «إدون سميث» الطبية التي نتكلم عنها فيما بعد. وقد ذكر كاتب الورقة أنها كتبت في السنة الثالثة والثلاثين من حكم الملك «أبو فيس» وهذه النسخة منقولة عن أصل من عهد الدولة الوسطى.

ورقة رند ومحتوايتها

وقد قسم الأستاذ «بيت» محتويات هذه الورقة إلى أربعة أقسام؛ الأول: المقدمة: وتحتوي على جداول لحل الكسور التي بسطها اثنان. والباقي ثلاثة كتب: الأول عن الحساب، والثاني عن المقاييس، والثالث عن مسائل حسابية، والكتاب الثاني قسم إلى ثلاثة أقسام هي: كتاب الأحجام والأحجام المكعبة، وكتاب المسطحات، وكتاب زوايا الميل الهندسية.

وقد عرض المؤلف بعض مسائل حسابية عن الدخل والخرج في مصالح خزينة الدولة وعن المبادلات.

وقد استعمل في العمليات الحسابية الجمع والطرح والضرب والقسمة، غير أنه كان يستعمل في الضرب والقسمة طريقة الجمع، فمثلًا لإيجاد حاصل ضرب ٨×٨ كانت المسألة تحل بالكيفية الآتية:

مسألة ضرب

١ ٨ ٨ (مرة واحدة) يساوي ٨
٢ ١٦ ٨ (مرتين) يساوي ١٦
٤ ٣٢ ٨ (أربع مرات) يساوي ٣٢
٨ ٦٤ ٨ (ثماني مرات) يساوي ٦٤

مسألة قسمة

أما في عملية القسمة فلنأخذ مثلًا رقم ٧٧ مقسومًا على ٧ فتكون نتيجة ترتبه كالآتي:
١ ٧
٢ ١٤
٤ ٢٨
٨ ٥٦

فاستعمل نفس الطريقة الأولى في الضرب وجعل يأخذ من جهة اليسار الأرقام التي يكون مجموعها ٧٧ فكانت ٧ و١٤ و٥٦ ثم أخذ ما يقابل هذه الأرقام من جهة اليمين فكانت ١و ٢ و٨ أي مجموعها رقم ١١

حساب الكسور

أما حساب الكسور فكان ساذجًا إذ كان المصري يستعمل في العادة البسط ١ فإذا أراد مثلًا أن يكتب الكسر كتبها كذلك ( ) ( ) ( ) ( ) ( ) ومع ذلك نجد مستعملًا في كسورهم و وأحيانًا كان الكاتب يريد أن يتلهى بهذه الاصطلاحات الكسرية فيعبر عن الرابع والعشرين من الشهر بالكيفية الآتية ( ) ( ) ( ) يومًا، فعلينا أن نأخذ من الشهر أي ٢٠ يومًا ثم من الشهر أي ٣ أيام وأخيرًا من الشهر أي يومًا واحدًا، فيكون مجموع الأيام التي يقصد التعبير عنها يومًا، وسنكتفي هنا بهذا القدر عن الرياضيات في عهد الدولة القديمة على أن نعود للموضوع بإسهاب عند الكلام عن الرياضة في عهد الدولة الوسطى والحديثة.

(٢) علم الفلك عند قدماء المصريين

إن معلومات المصريين العامة عن علم الفلك لا تختلف كثيرًا عن المعلومات الكلدية الأشورية فيما يختص بالأجرام السماوية، وتدل المصادر الوثيقة على أنه كان هناك علاقات متصلة بين القطرين منذ حوالي ٢٤٠٠ ق.م. وهو العهد الذي نزحت فيه أقوام كلدية وأشورية إلى أراضي الدلتا.٤

ولا بد أنه كانت توجد بين البلدين علاقات قبل هذا الوقت ولكنها كانت ضئيلة.

وتنحصر مميزات الفلك المصري على وجه خاص باختراع النتيجة المصرية التي تكلمنا عنها في (الجزء الأول ص١٥٢)، على أن بعض علماء الفلك عارض أخيرًا في البحوث التي قام بها العلماء في موضوع النتيجة المصرية قائلًا إنها لا ترتكز على أساس علمي.

رصد الشمس

والواقع أن المصري القديم كان يمتاز عن باقي أمم العالم بقوة ملاحظاته وميله إلى الأشياء العملية وبعده عن الفلسفة ونظرياتها كما نرى ذلك في بحوثه في علم الرياضة والطب والهندسة وغيرها.

ولا أدل على ذلك من أنه كان في (عين شمس) كاهن خاصّ لمراقبة سير الشمس يسمى الرائي العظيم، وكذلك كان في المعابد جماعات كهنة لمراقبة سير النجوم. على أن تقسيم السنة إلى أشهر قمرية كل منها ثلاثون يومًا، أكبر دليل على معرفة تامة بمنازل القمر.

أنواع الأجرام السماوية عند المصري

أما النجوم فتذكر لنا متون الأهرام من عهد الدولة القديمة أنها كانت تنقسم إلى نوعين: النجوم التي لا تفنى «إخموسك» أي التي تكون دائمًا ظاهرة في السماء. ثم النجوم التي لا تتعب وهي النجوم السيارة «إخموورز» وقد عرف المصري من الأخيرة الخمسة التي ترى بالعين العارية وهي المشتري، وزحل، وعطارد، والمريخ، والزهراء. وقد شوهدت منذ الدولة القديمة على الأقل. أما النوع الثاني فينحصر في ٣٦ نجمًا٥ قد خصصها المصريون لمعرفة الوقت. وكان كل منها في نظرهم يعتبر إلهًا لعشرة أيام من الثلاثمائة والستين يومًا التي تتألف منها السنة البسيطة ويخرج من ذلك أيام النسيء الخمسة. وأقدم قائمة بأسماء هذه الآلهة وجدت على غطاء تابوت من الدولة الوسطى في طيبة، وقد عثر على قوائم أخرى لهؤلاء الآلهة في مقابر الملوك «سيتي الأول ورعمسيس الرابع»، وكذلك وجدت مرسومة في سقف معبد الرمسيوم وفي معابد البطالسة. أما البروج الاثنا عشر فلم تظهر إلا في العصور المتأخرة جدًّا وقد استعيرت أسماؤها من أسماء البروج اليونانية التي نقلتها بدورها عن الكلدية فهي ليست مصرية، وهذه البروج هي: الحمل، والثور، والقوس، والعقرب، والسرطان، والأسد، والسنبلة والميزان، والدلو، والحوت، والجدي، والجوزاء.

أسماء الشهور ظهرت في العصر المتأخر

ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن أسماء الشهور التي تعزى إلى مصر قديمًا قد نشأت في العهد الإغريقي القبطي، غير أن أسماءها قد أخذت من أسماء أعياد قديمة كانت تقام للآلهة الذين سموا بها، وهي خمسة أيام: النسيء ثم توت وبابه وهاتور وكيهك، ويتألف منها فصل الفيضان. ثم طوبة وأمشير وبرمهات وبرمودة ويتألف منها فصل طلوع النبت. ثم بشنس وبئونة وأبيب ومسرى، ويتألف منها فصل الصيف. وكان اليوم في نظرهم ينقسم إلى اثنتي عشرة ساعة نهارًا واثتني عشرة ساعة ليلًا مهما كانت فصول السنة، وقد كانت تقاس أوقات اليوم بساعات على أنواع مختلفة منها الساعات الشمسية أو المزولة، وهي آلة تعرف ساعات النهار بوساطة الظل، ولا يزال الفلاح المصري يستعملها حتى الآن،٦ وساعة مائية وهي إناء ذو حجم معين مقسم إلى أقسام كل منها يفرغ في زمن محدد وقد عثر على واحدة منها،٧ أما خلال الليل فكانت كذلك تعرف الساعات بمراقبة النجوم ورصدها.

رصد النجوم

وقد عثر في مقابر الملوك من عهد الأسرة العشرين على قوائم نجوم بعضها خاص بالنصف الأول من الشهر وبعضها خاص بالنصف الثاني منه، وقد عمل هذا الرصد بالنسبة لبعض أجزاء الجسم (على الرأس أو على ارتفاع العين أو الكتف) لرجل جالس أمام الراصد، وهذا الراصد كان يرصد النجوم بآلة معلق بها خيط فيه ثقل. ويلاحظ أن الراصدين كانا في الجهة الجنوبية.٨

وقد كان يوجد بجانب علم الفلك الحقيقي علم التنجيم وكان يعتقد فيه المصريون كثيرًا. إذ كان لكل شهر ولكل يوم ولكل ساعة إله حارس يتدخل في أقدار الناس وحظوطهم سعيدة كانت أو شقية. وقد وقعت بعض حوادث الآلهة في تواريخ معينة فكان منها ما هو سعد وما هو بؤس. وكان من فائدة بني البشر أن يعرفوا هذه الأوقات، ولذلك ألف الكهنة والسحرة كتبًا في هذا الموضوع وأقدمها يرجع إلى عهد الدولة الوسطى، وقد عدد فيها أيام الشهر ونعت بعضها بكلمة (خير) أو بكلمة (شر) أو (خير وشر) معًا حسب الوقت، فنجد في الشهر تسعة أيام شرًّا وثلاثة أيام خيرًا وشرًّا معًا وما بقي خيرًا.

علم التنجيم

ولدينا ثلاث ورقات من عهد الدولة القديمة تشمل كل منها أيام السنة وتمتاز بأنها عرفتنا السبب الخرافي للسعد أو النحس، والخير أو الشر، وقد كان الأخير يكتب بالمداد الأحمر لون الإله «ست» رب الشر.

وقد طبع العامل شاباس إحدى هذه الأوراق باسم نتيجة السنة للأيام السعيدة وأيام النحس.٩ فمثلًا يقول إن يوم ٢٦ توت يجب ألا يعمل فيه شيء قط لأنه اليوم الذي تحارب فيه «حور» مع «ست» فهو مثلث شر، على حين أن اليوم السابع والعشرين من شهر هاتور هو يوم الصلح بين «حور» و«ست» فهو مثلث سعد، إلخ … وكانت هذه الأوراق تلف بعناية وتستعمل تعاويذ تقي حاملها الشر وتمنحه الخير.
وقبل أن نترك موضوع الفلك عند المصريين ذكر العالم «ابل ري» أن الفلك المصري لا يختلف عن الفلك الكلدي والصيني في عامته إلا في نقطتين؛١٠ الأولى: أننا لا نجد في الفلك المصري أية إشارة إلى خسوف القمر، وقد يعزى هذا إلى قلة المصادر لدينا، مع أنه قد وجد على الآثار المصرية إشارات فلكية عدة لم يأت فيها ذكر خسوف القمر ورسمه بهذه الحالة قط خلافًا للآثار الكلدية والصينية، هذا رغم أن «أرسطو» قد ذكر لنا أن المصريين كانوا يرصدون سير الفلك من زمن بعيد جدًّا، والظاهر أن هذا الموضوع كان في نظر المصري ثانويًّا.
النقطة الثانية ولها علاقة بالأولى: هي أن القمر لم يلعب إلا دورًا ضئيلًا جدًّا بالنسبة لأهميته في كلديا والصين، إذ لا نجد له (خلافًا لتعداد الأشهر بوساطته) أي دور هام في علاقته بالشمس كما هو الحال في كلديا، فمن ذلك نلاحظ أن القمر لم يلفت نظر المصريين كالشمس أو النجوم، والواقع أن أساس الفلك المصري يرتكز في معظمه على النجوم مما يدل على روح قوة الملاحظة العملية التي كانت تميز المصري في كل أعماله. ولكن كشف حديثًا في منطقة أبويس بالشرقية عن غطاء تابوت للعجل «با كاور» معبود هربيط منقوش عليه منازل القمر في بروجه المختلفة أثناء الشهر والسنة كلها وعددها ٣٦ منزلًا.١١

(٣) الطب

ذكرنا عند الكلام على الطقوس الدينية للدفن في عصر ما قبل الأسرات أن المصريين كانوا أحيانًا يشرحون الأجسام الآدمية وينتزعون ما عليها من لحم ثم يلفون العظام بكل دقة وعناية ويضعونها في المقابر (انظر جزء أول ص٧٧) وفي هذا دليل على أن المصري كان منذ الأزمان المتوغلة في القدم يعرف تشريح الجسم وفصل أجزائه المختلفة بعضها عن بعض.

علم التشريح منذ عصر ما قبل الأسرات

وفي العصر الطيني رأينا المصري يحنط الجسم منذ الأسرة الثانية، وهذا دليل آخر نعلم منه أن المصري كان يعرف تشريح الجسم ومعالجته ظاهرًا وباطنًا، وإن كان بعض العلماء يعتقد أن المحنطين كانوا طبقة خاصة غير طبقة الأطباء كما سنشير إلى ذلك فيما بعد.

وعلى أية حال فإن المصري منذ فجر التاريخ كانت عنده فكرة واضحة عن الأمراض وأسبابها وطبائعها.

ولا شك في أن علم الطب قد اكتسب في مصر أولًا بالتجارب والملاحظات ثم تلا هذا الدور تعليم فن الطب الحقيقي في مدارس خاصة، ولا غرابة في ذلك، فقد كان الإغريق يشيدون بذكر الأطباء المصريين ويتناقلون كتب طبهم ويحفظونها ليهتدوا بهديها.١٢

مهنة الطب في عهد الدولة القديمة

وتدل النقوش المصرية من عهد الدولة القديمة على أنه كان في مصر أطباء من كل نوع في درجات مختلفة، فقد كشف حديثًا عن مقابر أطباء في منطقة الجيزة بحفائر الأستاذ ينكر وحفائر الجامعة المصرية نخص بالذكر من بينهم طبيب القصر الملكي «إري»،١٣ ولم يكن «إري» هذا طبيب القصر الملكي فحسب بل كان رئيس أطباء البلاط، يضاف إلى ذلك أنه كان متخصصًا في مرض العين والأمراض الباطنة، ولذلك كان يحمل لقب (الذي يفهم السوائل الداخلية وحارس الدبر) مما يدل دلالة واضحة على أنه كان مختصًّا بالطب الباطني وعالمًا بالأمراض الخاصة بأعضاء الهضم. وهذا الاختصاص في عهد الدولة القديمة يعززه وجود أطباء أسنان للقصر الملكي. والواقع أنه عثر في عهد الأسرة الرابعة على حالة تدل على تقدم جراحة طب الأسنان في ذلك العهد أي منذ ٢٨٠٠ سنة ق.م. إذ وجد فك في مقبرة من هذا العهد أجريت فيه عملية في النتوات السنخية وذلك بثقبها لأجل إخراج المادة القيحية من دمل تحت الضرس الأول،١٤ كل ذلك يدل على معلومات قيمة مفصلة تشعر بالتخصص في فروع الطب.

وتدل النقوش على أن وظيفة الطبيب كان يتناقلها الابن عن الأب كباقي صناعات مصر في ذلك العهد.

وكلمة طبيب بالمصرية «سنو» ربما كان معناها المصلح أو الشافي. والظاهر أن هذه الوظيفة كانت في بدايتها دينية إذ نجد غالبًا أن صاحبها الذي يحمل لقب طبيب كان في الوقت نفسه كاهنًا لإلهة مثل الإلهة «سلكت» أو الإلهة «نيت».

نشأة الطب في الوجه البحري

وتدل الأحوال على أن نشأة الطب كانت في الوجه البحري وأن أهم مراكزه كانت المعابد، وبخاصة معبد عين شمس، ومعبد الإلهة «نيت» في صا الحجر، ومعبد الإله «أنوب» في بلدة (ليتوبوليس)، ومعبد الإلهة «باست» (القطة) في تل بسطة، وكان كاهن تلك الجهة يحمل لقب كبير الأطباء.١٥

وتدل النقوس التي وصلت إلينا على أن أقدم كتاب في الطب يرجع تاريخه إلى عصر الملك «أوسافيس» (دن) من الأسرة الأولى كما جاء ذكر ذلك في فاتحة ورقة «إيبرس» (أول كتاب خاص بشفاء الأمراض هو الذي وجد بالكتابة القديمة في صندوق من عهد الملك «أوسافيس».) ولدينا من جهة أخرى وثيقة من الدولة القديمة (انظر الجزء الأول ص٣٤٢) تدل دلالة واضحة على أن الملك «نفر إركارع» قد أحضر المخطوطات الطبية من مكانها الخاص لإسعاف مهندسه العظيم الذي كان يحتضر، وعلى ذلك يمكننا القول بأنه كانت توجد كتب طبية منذ بداية الأسرة الخامسة (منذ ٢٨٠٠ ق.م.) ولكن لم يصلنا منها شيء بخط هذا العهد.

الأوراق الطبية التي وصلت إلينا

وكل ما لدينا من الأوراق الطبية قد وصلنا من عصور متأخرة عن الدولة القديمة، وإن كان بعضها يرجع إلى ذلك العهد وأهمها ما يأتي:
  • (١)

    ورقة برلين ويرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد.

  • (٢)

    ورقة أيبرس الموجودة الآن في متحف ليبزج ويحتمل أنها كتبت في القرن السابع عشر ق.م.

  • (٣)

    ورقة هرست وهي الآن في جامعة كاليفورنيا.

  • (٤)

    ورقة لندن وربما يرجع تاريخها إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد.

  • (٥)

    وأهم من كل هذه الأوراق بردية إيدون سميث وقد ثبت من الفحص اللغوي أنها ترجع إلى عهد الدولة القديمة، رغم أن النسخة التي عثر عليها يرجع تاريخها إلى عصر الهكسوس أو على وجه التقريب في عهد تحتمس الأول.

والواقع أن محتوياتها قد فتحت لنا دنيا جديدة في عالم الطب الجراحي في مصر، فقد ثبت لنا بالبراهين الناصعة أن الطب المصري لم يكن يرتكز على مجرد تعاويذ سحرية في معظم الأحوال كما كان الأمر قبل درس محتويات هذه الورقة، وكذلك أكدت لنا أن الطب كان متقدمًا في مصر منذ عهد الدولة القديمة وأنه، كان قائمًا على أسس علمية محضة لا تختلف عن الطب الحديث في شيء، ويرجع الفضل في إظهار كل هذا إلى الدرس الدقيق الذي قام به الأستاذ برستد١٦ لهذه الورقة، وبخاصة بعد أن ثبت أنها ترجع إلى عهد الدولة القديمة.

ورقة إدون سميث ومحتوياتها

وتنقسم مواد هذه البردية إلى ثلاثة أقسام ظاهرة كل منها مأخوذ من منبع مختلف عن الآخر:

  • القسم الأول: يحتوي على سبعة عشر عمودًا مكتوبة على وجه الورقة وتنحصر أهمية هذه الورقة المنقطعة القرين من الوجهة العلمية في محتويات هذه الأعمدة، وهي بحث في الجراحة وطب الجراحة ومعالجة الأمراض الظاهرة والتشريح.
  • القسم الثاني: يشتمل على تعويذة لإبعاد الهواء في سنة الطاعون.
  • والقسم الثالث: تعويذة لإرجاع الشيخ إلى صباه، فنرى أن القسمين الأخيرين هما تعويذتان سحريتان تشبهان في نوعهما الوثائق الطبية التي بقيت لنا من الطب المصري القديم.

ولكن القسم الأول من الورقة هو كما ذكرنا وثيقة فريدة في بابها قد قلبت كل الآراء التي كانت معروفة حتى الآن عن الطب المصري رأسًا على عقب، إذ تحتوي على معلومات مرتبة ترتيبًا علميًّا منطقيًّا، فقد فحص مؤلفها الجسم الإنساني من الرأس إلى القدمين ورتب مادتها بطريقة دقيقة، وهي أوصاف طبية وبحوث عن حالات خاصة بجراحة العظام والعلاج الظاهري، وهذا يذكرنا بدقة المشاهدات التي نجدها في الطب الحديث.

ونرى أن مؤلف هذه الورقة قد دون عشر مشاهدات (حالات) عن الجمجمة، وسبعًا عن الأنف، وعشرًا عن الفك والأذن والشفتين، وستًّا عن الزور والرقبة، وخمسًا عن الترقوة والكتف ومشط الكتف، وستًّا عن الصدر ومقدمته، وواحدة عن العمود الفقري. ومما يؤسف له جد الأسف أن الورقة قطعت عند هذا الحد. غير أن النظام العلمي لم ينحصر في ترتيب أبواب هذه الوثيقة ووصف تشريح الجسم الإنساني، لأن ذلك وحده لا نستخلص منه شيئًا كثيرًا (رغم أننا لم نعثر عليه في كل ما لدينا من الأوراق الأخرى) بل المهم أننا وجدنا مع كل مشاهدة أو حالة ما يأتي:
  • (١)

    العنوان العام الذي ينطبق على الحالة وهو: تعليمات لأجل (يتلو ذلك اسم المرض).

  • (٢)

    يأتي بعد ذلك الفحص الطبي ويعبر عنه بالصيغة الآتية: إذا فحصت إنسانًا عنده (يتلو ذلك وصف أعراض المرض).

  • (٣)

    تشخيص المرض ويبتدئ بالكلمات التقليدية الآتية: أما فيما يختص بذلك فإنه مريض يتألم من (اسم المرض).

  • (٤)
    رأي الطبيب أو كما تترجم اللفظة المصرية (الحكم) وبعبر عن رأي الطبيب في الورقة بثلاث حالات فيقول:
    • (١)

      مرض يمكنني معالجته (رأي حسن).

    • (٢)

      مرض يمكنني محاربته (رأي فيه شك).

    • (٣)

      مرض لا أعالجه (رأي يدل على اليأس).

  • (٥)

    يعرض الطبيب العلاج وبعد ذلك تأتي شروح تفسيرية وعددها سبعون.

ولسنا في حاجة أن نذكر هنا أن الطبيب الذي ألف هذه الورقة كان صافي الذهن منظم الفكر منطقي القول، فلم يكتف بجمع تعاويذ سحرية ووصفات طبية متخبطًا في ذلك خبط عشواء، كما هو الحال في الأوراق الطبية الأخرى التي عثر عليها حتى الآن، وقصارى القول نجد في هذه الورقة بحثًا علميًّا رجع فيه المؤلف إلى مصادر أصلية كانت لا تزال مجهولة، فأبرزها أمامنا بطريقة واضحة لأول مرة في تاريخ البشر، ولا غرابة إذن إذا اعتبرناه الجندي المجهول في تاريخ الطب في العالم.

ولا يتسع المجال لنا هنا للتكلم بالتفصيل عن الشروح السبعين التي تتبع الحالات التي ذكرناها، إذ هي في الواقع تعاريف للتعابير والألفاظ التي جاءت في المتن، وكان الغرض منها غالبًا تفسير بعض مسائل في التشريح لها أهميتها، وسنكتفي هنا بذكر مثال واحد على جانب عظيم من الأهمية، لأنه يصف وصفًا دقيقًا القلب والدورة الدموية التي جاء ذكرها في ورقة «إيبرس» بطريقة مبهمة وهو: «يوجد في القلب قناة تتصل بكل عضو في الجسم، فإذا وضع الطبيب: أصابعه على مؤخرة الرأس أو على اليد أو على النبض أو على الذراع فإنه يحس بالقلب، لأن القلب متصل بكل عضو ويتكلم في كل عضو.»١٧

والخلاصة أن محتويات هذه الورقة قد وضعت الطبيب المصري في أول صحيفة الأطباء في العالم من الوجهة العلمية. والظاهر أنه كان يوجد في مصر في عهد الدولة القديمة، بل في كل عصور التاريخ المصري القديم أطباء يعالجون بالطرق العلمية وبجانبهم طبقة ثانية من الأطباء يعالجون بالسحر والطب معًا، وسبب ذلك طغيان العقائد الدينية وتدخلها في الأمور الدنيوية، هذا إلى تمسك المصري بالمعتقدات القديمة الخرافية التي ورثها عن أجداده منذ عصر ما قبل الأسرات، ولا تزال آثارها باقية إلى الآن عند عامة الشعب المصري، إذ نجد أن الجم الغفير لا يزال يعتقد في قوة التعاويذ السحرية مع وجود الأطباء الذين يعالجون بالطرق العلمية بين ظهرانيهم.

(٤) التحنيط

لقد غالى هردوت كما يقول مسبرو١٨ عندما ذكر أن المصري كان لا يفرق بين الطبيب الكهنوتي وبين الطبيب الذي يعالج بالتعاويذ السحرية، وأنه لا فرق بين الطبيب العام وبين الجراح المتخصص.

وقد ذكر بعض العلماء أن المصري لم يكن نابغة في علم التشريح لأن جراحة الجسم كانت محرمة في العقائد الدينية، ولذلك كان المحنطون يؤلفون طبقة خاصة ليست لها علاقة بالأطباء، وكان أفراد هذه الطبقة أقل درجة من الأطباء لأنهم كانوا مختصين بالجثث الآدمية وتحنيطها فحسب، غير أن ورقة «إدون سميث» برهنت على أن الجراحة الطبية كانت متقدمة تقدمًا عظيمًا منذ الدولة القديمة. وعلى أية حال فإن ذلك لا يمنع من أن المحنطين كانوا يؤلفون هيئة خاصة على علم تام بأجزاء الجسم وتركيبه من الوجهة التشريحية، كما سنرى في سياق الكلام عن طرق التحنيط منذ أقدم العصور إلى نهاية عهد البطالسة.

ابتداء التحنيط منذ الأسرة الثانية

إن عملية التحنيط التي اختصت بها مصر دون سواها من ممالك العالم، لم تحقق بدايتها إلا في عهد الأسرتين الرابعة والخامسة، رغم أن كويبل١٩ عثر في عهد الأسرة الثانية على عدد من المقابر كانت الإجسام المدفونة فيها مكفنة في لفائف بعناية ودقة، وكان كل عضو ملفوفًا على حدة مما يشعر بنوع من التحنيط الذي عرفناه فيما بعد. ولكن منذ عهد الأسرة الرابعة عثر على بعض أجسام محنطة تحنيطًا تامًّا في حفائر الجامعة بمنطقة الأهرام. بعضها من الأسرة المالكة وبعضها من أفراد الشعب. يضاف إلى ذلك أن صندوق الأحشاء الذي عثر عليه للملكة «حتب حرس» والدة «خوفو» لا يزال يحتوي على صرة مفروض أنها تضم أحشاء المتوفاة. وهي محفوظة في النطرون، مما يدل على أن الجسم كان محنطًا، غير أنه لم يعثر عليه في القبر.٢٠ وتوجد مومياء من عهد الأسرة الخامسة في المتحف الملكي لكلية الجراحة في لندن،٢١ ومن ذلك العهد أخد المصريون يحنطون الأجسام حتى أوائل العهد المسيحي.
والرأي الشائع حتى الآن هو أن التحنيط عند قدماء المصريين سر لم يكشف عنه حتى الآن، وهذا في الواقع مخالف للحقيقة إذ إن معظم مواد التحنيط وطرقه معلومة لدينا إلا بعض تفاصيل صغيرة، وعلى العكس فإن طريقة التحنيط معلومة الآن أكثر من العهد الذي كانت تستعمل فيه، فقد كانت كل هذه العمليات في تلك الأزمان الغابرة لا تخرج عن دائرة التجارب، على حين أن كل المبادئ الأساسية معلومة لنا الآن وأقدم وصف للتحنيط وصل إلينا من عهد هردوت،٢٢ ومن بعده «ديدور» الذي زار البلاد بعده بنحو أربعة قرون. وقد كتب كل منهما كتابًا عما رأى وسمع ومن ذلك عملية التحنيط.

طرق التحنيط كما ذكرها «هردوت»

فذكر لنا هردوت أن المصريين كانوا يستعملون ثلاث طرق مختلفة للتحنيط؛ ففي الأولى وكانت باهظة الثمن: كان نخاع المخ يستخرج بعضه بآلة خاصة والباقي بعقاقير لم يذكر لنا اسمها، أما محتويات الجوف فكانت تستخرج (وربما كان المقصود من ذلك أن يشمل محتويات الصدر ما عدا القلب والكليتين) وبعد تنظيف الجوف بنبيذ البلح والتوابل، كان يملأ بالمر وخيار شنبر وغير ذلك من المواد العطرية ولم (تعرف أسماؤها)، ولم يكن الكندر منها، وكان الجزء الذي يفتح من الجسم لأجل التحنيط يخاط ثانية. ثم بعد ذلك يعالج كل الجسم بالنطرون، ثم يغسل ويلف في لفائف من الكتان كانت تلصق بالصمغ.

أما في الطريقة الثانية: فكان يستعمل زيت خشب الأرز الذي كان يحقن به الجسم ثم يعالج بالنطرون. والطريقة الثالثة، وهي أرخصها: كانت للفقراء وتتلخص في تنظيف الأحشاء البشرية ثم بعد ذلك يعالج الجسم بالنطرون.

ما ذكره ديور عن التحنيط

أما ما كتبه «ديدور» عن التحنيط فإنه يعطينا بعض تفاصيل لم يذكرها لنا «هردوت». فإنه وإن كان قد ذكر لنا ثلاث درجات للاحتفال المأتمي إلا أنه لم يذكر لنا إلا طريقة واحدة للتحنيط، وهي إزالة الأحشاء ما عدا القلب والكليتين، وذكر لنا أيضًا تنظيف الأحشاء بنبيذ البلح ومعه توابل مختلفة (لم يعين أسماءها) ثم بعد ذلك يدلك الجسم بزيت خشب الأرز، ثم يمسح بالمر والقرفة ومواد مماثلة وذلك لتعطير الجسم وحفظه. وفي مناسبة أخرى ذكر لنا «ديدور» عندما كان يصف قار البحر الميت «أنهم كانوا يحملون هذا القار إلى مصر ويبيعونه هناك لتحنيط الموتى، لأنهم إذا لم يخلطوا هذه المادة بتوابل عطرية أخرى، فإن الأجسام لا يمكن أن تحفظ مدة طويلة دون تعفن.

ويجب أن نلفت النظر هنا إلى أن وصف كل من «هردوت» «وديدور» متأخر جدًّا، وإن المدة التي تقع بين أول بداية استعمال التحنيط وما كتبه هذان الكاتبان تبلغ نحو ٣٠٠٠ سنة، ولا بد أنه في خلال هذه الفترة قد تغيرت طرق التحنيط تغيرًا عظيمًا، ولذلك لا يمكننا أن نعد وصفهما دقيقًا في تفاصيله … وسنلخص هاتين الطريقتين ونفحص ما فيهما من الأغلاط، ونتكلم كذلك عن المواد التي استعملت في التحنيط حسب ما وصلت إليه البحوث العلمية الأخيرة.

ففي الطريقة الغالية الثمن، كان المخ، والمعدة والأمعاء تزال ما عدا القلب والكليتين، وهذا القول يتفق في جملته من النتائج التي وصلنا إليها بعد فحص عدة موميات، إذ نجد أن القلب دائمًا قد ترك في مكانه وكذلك الكليتان، أما الأمعاء والأحشاء فقد أزيلت،٢٣ غير أننا نجد أحيانًا بعض عظماء القوم، وهم الذين كانت تحنط جثثهم بالطريقة الغالية جدًّا، لم تزل أحشاؤهم، مثال ذلك الملكة «عاشيت» زوجة الملك «منوحيب» الثاني أحد ملوك الأسرة الحادية عشرة، وكذلك جثة «مايت» التي يحتمل جدًّا أن تكون أميرة، وقد وجد «ونلوك»٢٤ كلتيهما في الدير البحري، وفحصهما الأستاذ «دري».٢٥
أما تنظيف الأمعاء والأحشاء بنبيذ البلح والتوابل، فهي عمليات لم تترك طبعًا أي أثر، أما التجاويف التي كانت تتخلف في الجسم بعد هذه العملية فكانت تملأ بالمر وخيار شنبر ومواد أخرى عطرية، ثم بعد ذلك يخاط الجزء الذي فتح لإجراء عملية التحنيط. وقد ذكر لنا «هردوت» بصفة خاصة أن هذه العمليات كانت تحدث قبل معالجة الجسم بالنطرون، ورغم أن الدكتور بتجرو Pettigrew،٢٦ واليوث سميث،٢٧ ودرسون يشكون في ذلك، فإن ذلك من الجائز، إذ ربما كانت توضع هذه المواد العطرية لتحفظ رائحة الجسم جميلة أثناء فتحه، وقد لوحظ أن الفتحة التي كانت تعمل في الجسم للتحنيط لم تخط، هذا إلى أنه لم يكن تميز المر أو الخيار شنبر بالتحقيق في تجويف المعدة أو الصدر، أما أما أهم المواد التي حشيت بها هذه التجاويف فقد وجدت أنها كتان٢٨ أو الكتان٢٩ والراتينج، والنشارة،٣٠ أو نشارة٣١ وراتينج، وتراب ونطرون وحزاز صخري، وأحيانًا توجد بصلة أو أكثر. ثم كان يعالج الجسم بالنطورن وقد ذكر ذلك «هردوت» فقط، وسنتكلم عنه فيما بعد.

نتائج فحص مواد التحنيط

بعد ذلك كان يغسل الجسم ولم يأت ذكر ذلك إلا في «هردوت» ولكن هذا أمر طبيعي كان لا بد من حصوله. ويظن الكيميائي «لوكاس»،٣٢ أن العطب العظيم الذي يشاهد غالبًا في لفائف الموميات، القريبة للجسم، بالنسبة للفائف الخارجية كان سببه نمو الفطريات التي تنشأ من لف الجسم وهو لا يزال مبللًا، مما يدل على أنه في هذه الأحوال قد غسل.

بعد ذلك كان يدهن الجسم، بزيت خشب الأرز، ومسوح أخرى ثمينة ثم يدلك بالمر والقرفة وما شابهها من التوابل، ولم يأت ذكر ذلك إلا في «هردوت» ولكن نظرًا للدور العظيم الذي تلعبه الزيوت والمسوح عند الأحياء، فإن دهان الأموات لم يكن أمرًا مستغربًا.

وقد ذكر لنا «هردوت» في الطريقة الثانية حقن الجسم بزيت خشب الأرز، ثم منع الحقنة من التسرب حتى نهاية معالجة الجسم بالنطرون.

وفي الطريقة الثالثة التي وصفها «هردوت» لم يذكر لنا طبيعة الشربة التي كانت تستعمل لتنظيف الأحشاء، بل قال إن أي سائل حتى ولو كان ماء فإنه لو حقن به الجسم بكمية كافية لأتى بنتيجة.

والمواد التي كانت تستعمل في تحنيط الجسم كما ذكرها «هردوت» و«ديدور» و«بليني» وما وصلت إليه البحوث الحديثة هي على وجه التقريب ما يأتي:

شمع النحل، والقار والخيار شنبر، وزيت خشب الأرز والقرفة، والصمغ والحناء، وحب العرعر، والنطرون، والمراهم والبصل، ونبيذ البلح، والراتينج، (ويشمل ذلك صمغ الراتينج والبلاسم) والملح، والنشادر، والتوابل وقطران الخشب، أو الزفت وسنتكلم عن معظمها.

شمع النحل: كان يستعمل شمع عسل النحل في التحنيط لتغظية الأذنين والعينين والأنف والفم ولتحنيط الجرح، وكذلك كان يستعمل الشمع في أجزاء أخرى من الجسم، فمثلًا وجد أنه كانت توضع طبقة منه على فخذي المومياء.٣٣
القار تدل على ظواهر الأمور على أن القار كان يستعمل في التحنيط والمقصود بالقار (الزفت الطبيعي) الذي كان يستخرج من البحر الميت، كما جاء ذكر ذلك على لسان الكتاب الإغريق والرومان، وقد ظل هذا هو الاعتقاد السائد عند الكتاب المحدثين الذي كتبوا عن التحنيط، ولكن الكيميائي «لوكاس» فحص هذا الموضوع ووجد أن الزفت لم يستعمل قط في تحنيط الأجسام الآدمية عند المصريين قبل عصر البطالمة.٣٤

والظاهر أن الخطأ في ذلك نشأ من أن كثيرًا من هذه المادة — وبخاصة ما وجد منها في موميات العصر المتأخر — كانت سوداء وتظهر كالقار، وكذلك لم تعمل تحاليل منظمة على يد كيميائيين مهرة. وقد قام «لوكاس» وغيره وأثبتوا فعلًا أن هذه المادة السوداء ليست قارًا.

القرفة وخيار شنبر: والقرفة كما هو معلوم هي لحاء شجر ينبت في الهند وسيلان والصين والخيار شنبر من نفس فصيلة القرفة، وليس بينهما فرق إلا أن الخيار شنبر نوع من التوابل حريف وقابض أكثر من القرفة. هذا إلى أن مذاقه أقل لذة. ولم يكن يستعمل قديمًا من الخيار شنبر والقرفة لحاؤهما بل زهورهما وأعشابهما وخشبهما.
وأقدم إشارة لخيار شنبر في المتون المصرية هي ورقة هاريس التي يرجع تاريخها إلى الأسرة العشرين، أما أقدم إشارة للقرفة فيرجع إلى عهد الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة،٣٥ ولم تذكر لنا المتون المصرية استعمال هذين الصنفين غير أنهما مما لا شك فيه كانا يستعملان لتشهية الطعام والتعطير، ومن المحتمل أنهما يستعملان بخورًا، وكما ذكر «هردوت» كانا يستعملان في التحنيط، وقد عثر على بعض موميات يظن أنه وجد فيها بقايا القرفة، ولكن ذلك ليس مقطوعًا به.٣٦
زيت خشب الأرز Cedri, Succus Cedrium: الظاهر أن زيت الأرز الذي ذكره كل من هردوت وديدور لم يكن مستخرجًا من خشب الأزر بل من العرعر. ولكن اختلاف كل منهما في كيفية استعماله (إذ يقول أحدهما إنه كان يحقن به والثاني يقول إنه كان يستعمل للمسوح)، يدل على أن واحدًا منهما كان مخطئًا أو أنه كانت توجد مادتان مختلفتان تستعملان، ولما كان من غير المؤكد كيفية استعمال زيت الأرز فإنه من المستحيل التحقق من طبيعته.
وقد استعمل زيت خشب الأرز في التحنيط حتى القرن الأول الميلادي.٣٧
الصمغ: يقول هردوت إن الصمغ كان يستعمل للصق لفائف الكتان التي كانت توضع فيها المومياء، وقد قال إن المصريين كانوا يستعملون بدلًا منه الغراء. وقد وجد لوكاس الصمغ على موميات يرجع عهدها إلى الأسرة العشرين وكذلك وجد على وجه مومياء «أمنحتب الثالث» قطعة من القماش مشبعة بالصمغ،٣٨ ولما كان شجر السنط ينبت كثيرًا في مصر في ذلك العهد، وهو يعطي مادة الصمغ، فمن المحتمل جدًّا أن كل الصمغ الذي كان يستعمل في التحنيط كان محليًّا. وقد ذكر «بليني» أنه في أيامه كان أحسن نوع من الصمغ يجلب من مصر.٣٩
الحناء: كانت الحناء تستعمل قديمًا، كما في أيامنا هذه، لتعطير المراهم وللتجميل لخضاب راحة اليد والكفين والشعر. وهو نبات ينبت في مصر بكثرة، وهو يزرع في الحدائق لرائحته الشديدة ولورقه، وأهم استعمال له أن يتخذ أداة للزينة، ومادة للصباغة.
وقد وجد أن بعض الموميات كانت فيها أصابع اليدين والرجلين مخضبة بالحناء،٤٠ وقد وصف اليوت سميث شعر مومياء٤١ «حتنوي» من الأسرة الثامنة عشرة بأنه خضب بلون لامع مائل للاحمرار ويعتقد أنه صبغ بالحناء.
حب العرعر Juniperus, Phoenicea: إن أقدم تاريخ عثر فيه على حب العرعر في المقابر المصرية يرجع إلى الأسرة الثامنة عشرة،٤٢ وكذلك عثر على هذه الحبوب في مقبرة «توت عنخ آمون». وكذلك يوجد في المتحف المصري حبوب عرعر من عهد الأسرة العشرين من خبيئة الدير البحري.

والظاهر أن زيت هذه الحبوب كان يستعمل لمسوح المتوفى.

النطرون: استعمل في التحنيط منذ الأسرة الرابعة حتى العصر الفارسي، وقد كان حانوت المحنط يسمى «مكان التطهير» وكان المتوفى يعالج فيه بالنطرون الذي كان يعتبره المصريون مادة مطهرة عظيمة، وقد دلت الأبحاث على أن الجثة كانت تعالج بالنطرون في حالته الطبيعية لا في محلوله، وقد جاء الخطأ الشائع في أن الجسم كان يغمس في النطرون من سوء فهم ترجمة ما ذكره هردوت في هذا الموضوع.٤٣ على أنه لا يزال بعض علماء التشريح يعارضون هذا الرأي.٤٤
الدهان: لم يذكر لنا هردوت نوع الدهان الثمين الذي كان يمسح به الجسم بعد التحنيط، على أنه من جهة أخرى ليس لدينا دلائل من الموميات تعرفنا تركيب هذه المواد. وقد ذكر في بعض الأوراق البردية من عصر البطالسة،٤٥ الاحتفالات الدينية التي كانت تقام بعد أن يهيئ المحنطون الجسم ليلف في الأكفان وفي خلال التكفين. وقد كان يستعمل في الحالة الأولى نوع من الدهان مؤلف من صمغ الراتينج (الكندر واللبان والمر) وزيوت أخرى مختلفة وشحم، منها زيت خشب الأرز، والشحم المغلي وشحم الثور. وفي ورقة أخرى نجد زيت الأرز وزيت الزيتون،

وبعد لف الجثة كان يصب عليها سائل أو شبه السائل الراتينجي. ولكن كنهه لم يعرف بالضبط. الظاهر من بعض التحاليل التي عملت أنه يحتوي على قار الأرز المخلوط بالطين وبعض الروائح العطرية.

البصل: وجد البصل في لفائف أكفان الموميات منذ الأسرة الثالثة عشرة وكذلك وجد قشر البصل على عين المتوفي. وكان يوضع في التجويف الجوفي، وفي التجويف الصدري وعلى الأذن. وفي عهد الأسرة العشرين والواحدة والعشرين والثانية والعشرين كان البصل يستعمل في عملية التحنيط.٤٦
نبيذ البلح: ذكر كل من هردوت وديدور أن نبيذ البلح كان يستعمل في تنظيف الجثة، ولكن ليس لدينا أي دليل مادي على ذلك إلا ما قاله «دوسون»٤٧ من احتمال وجود مادة كئولية في بعض أنسجة الجثث المحنطة، وربما كان ذلك معززًا لرأي «هردوت» و«ديدور».
الملح: تدل الأبحاث الكيميائية أن الملح لم يستعمل جافًّا أو محلولًا في تحنيط الأجسام. ويعزى وجود الملح مع بعض الموميات في العصور الأولى إلى أن النطرون الذي كان يستعمل في التحنيط يحتوي على كمية عظيمة من الملح.٤٨
النشارة: ذكر لنا كل من «دوسون» و«إليوت سميث» أن النشارة كانت توجد وحدها أو مع الراتينج في تجاويف الموميات منذ الأسرة الحادية عشرة والثانية عشرة.٤٩
figure
ساعة مائية من الحجر مقسمة من الداخل.
figure
آلة لمقياس ساعات الليل.
figure
أثر عملية في النتوات السنخية ويرى الثقب الذي عمل لإخراج المادة القيحية من دمل تحت الضرس الأول.

(٥) الكتابة

إن الرأي السائد بين علماء اللغات القديمة في العالم أن المصريين هم أول من اختراع نظامًا للكتابة. والمتفق عليه حتى الآن أن الفينيقين قد نقلوا عن المبصريين نظام كتابتهم ومن ثم إلى أوروبا بعد تحوير وتبديل في شكل الحروف الأبجدية.

والواقع أن اختراع مصر للكتابة قد وضعها في مكانة ممتازة عن باقي أمم العالم وجعل الحياة العقلية تنمو وتزدهر فيها، في وقت كانت الأمم الأخرى في أنحاء العالم قاطبة لا يزال أهلها يعيشون مع الحيوانات المفترسة في الغابات والأحراج، ولذلك كان لزامًا علينا أن نتكلم بالإجمال هنا عن الكتابة المصرية وكيفية نشوئها، لأنها أقدم كتابة معروفة، وتدل كل الظواهر على أن نظام الكتابة في مصر قد بدأ بالصور كما فعل غير المصريين، وهذه الطريقة في الواقع غير محكمة وقد استعملت ليتذكر بها الإنسان شيئًا ما في ذهنه، ويصعب على شخص آخر يكشف الفكرة المراد التعبير عنها بالصور.

خذ مثالًا خياليًّا لذلك: إذ اتفق شخصان على أن يورد أحدهما للآخر في مدة ثلاثة أشهر ثورًا، وفي مقابل ذلك يعطيه الطرف الآخر خمس جرات من عسل النحل، فيكفي لتفاهم كليهما رسم القمر ليعبر به عن الشهر، والثور والنحلة والجرة ثم يضاف إلى ذلك ثلاث شرط أفقية لتدل على عدد الأشهر. وإذا وضعت أمام شخص آخر هذه الإشارات فإنه لا يمكنه أن يفهم بالتحقيق المراد منها.

وعلى ذلك كان لا بد لهذا التركيب الأولي من أن يرتقي كثيرًا. وقد حاول كل قوم على حدتهم بطرقهم الخاصة ذلك حتى وصلوا إلى كل أنواع الكتابات والكلمات والمقاطع.

وكان للمصريين وحدهم الحظ في أن اتبعوا طريقة مجدية وصلوا بها إلى خير شكل للكتابة: الحروف الأبجدية.

وكانت الطريقة في أصلها بسيطة سهلة إذ كان الغرض الأول كتابة كلمات كان من الصعب أو من المستحيل رسمها، ومن ذلك أتت الفكرة بأن يستدل بالكلمة الصعبة الكتابة كلمة غيرها يمكن رسمها على أن تماثلها في النطق. وكان على القارئ أن يفهم من سياق المتن المعنى المقصود حقيقة، وبخاصة حينما أصبح الاستعمال شائعًا، وكان كل فرد قد اعتاد مثلًا في لفظة عصفور الجنة «ور» أن يفكر في «ور» بمعنى عظيم، وإذا ذكرت مثلًا كلمة جعل «خبر» فكر في «خبر» بمعنى يصير. ولما كان معنى الكلمة في اللغة المصرية — كما في اللغات السامية — يرتبط بحروفها الساكنة، وأن حركات إعرابها تبين موقعها من الناحية النحوية، أصبح يلتفت إلى أن الكلمة التي استعيرت لتحل محل أخرى يلزم أن تحتوي على حروفها الساكنة نفسها فحسب، أما حركات الإعراب فلم يلتفت إليها، فمثلًا كلمة «نخل» في اللغة العربية كانت ترسم بشكل ثلاث نخلات متجاورة، وكلمة «شعر» كانت ترسم بشكل خصلة من الشعر.

وكثير من العلامات التي كانت تستعمل في معنى واحد انتقلت إلى كلمات كثيرة على مر الأيام، حتى أصبح من النادر أن تستعمل هذه الكلمات في معان خاصة، وصارت لا تدل إلا على إشارات ساكنة (أي أنها صارت تكون جزءًا من كلمات أخرى تشترك معها في بعض حروفها) فمثلًا عصفور الجنة لم يعد يستعمل كما في المثال الأول ليدل على «ور» بمعنى عظيم فحسب، بل ليدل أيضًا على الحرفين الساكنين و، ر إذا دخلا في تركيب كلمات أخرى مثل حور، سور، ورس، وريت إلخ. ومن هنا اكتسبت الكتابة إشارات مركبة من حرفين ساكنين.

تأليف الحروف الأبجدية

وقد وصل أقوام آخرون إلى هذه الخطوة بطريقة قريبة الشبه، ولكن المصريين تقدموا خطوة ثانية إلى الأمام واستعملوا كلمات قصيرة لا تحتوي على أكثر من حرف واحد ساكن لكتابة هذا الساكن، فمثلًا «ر» بمعنى فم كانت تستعمل لكتابة حرف الراء «زت» (أفعى) كانت تستعمل لكتابة حرف الزاي (التاء علامة التأنيث)، «ش» (بحيرة) كانت تستعمل لحرف الشين وهكذا. وكانت نتيجة هذه الخطوة أن تكونت حروف أبجدية من أربعة وعشرين حرفًا ساكنًا، وهي التي انتهت فيما بعد إلى أرض كنعان وصارت الحروف الأبجدية التي أخذت منها الحروف الأبجدية الأوروبية.
وبهذه الحروف الأبجدية كتبت كلمات قصيرة مفردة مثال ذلك: «ر» (إلى) «م» (في) «أو» (يكون)، أو نهايات لغوية أصبحت توضح هكذا «خبر ف» بمعنى هو يصير. ولقد سهلت كذلك قراءة الإشارات التي تدل على كلمات فمثلًا في بمعنى الضامة أو بمعنى فأس. من الجائز أن يفكر الإنسان في كلمات أخرى للوح الضامة أو الفأس غير «من» و«مر»، ولكن إذا أضيف الحرف الأخير لكل منهما «ن» و«ر» و فإن القارئ يرى في الحال أن لفظتي «من» و«مر» هما المقصودتان.
وكان كثير من الكلمات يكتب بالحروف الأبجدية فقط مثال ذلك: «بين» بمعنى (رديء) و «نهت» بمعنى «شجرة جميز»، على أن نظام الكتابة بقي خليطًا من علامات تدل على ألفاظ في معناها الأصلي أو المعنى المنقولة إليها، ومن علامات أبجدية متصلة بها.
وقد خطت الكتابة خطوة ثالثة نحو النمو وأدخل عليها عنصر جديد وهو ما يسمى «بالمخصص»، فأضيف إلى الكلمة الواحدة إشارة تدل على المعنى المقصود من الكلمة. فمثلًا «نهت» أي جميز أضيف إليها شجرة فأصبحت تكتب هكذا . «نفر» أي جميل أضيف إليها ملف بردي لتدل على الشيء المعنوي فأصبحت هكذا إلخ.

والكتابة التي تمت بهذه الطريقة كان من الممكن لكل مصري أن يقرأها بسهولة وأن يفهم معناها على وجه التحقيق، ويدلك على ذلك أن المصري لم يبذل أي مسعى لتغيير هذا النظام وجعله كله حروفًا أبجدية. ولا شك في أن لهذا النظام نقائصه لأننا نشعر بصعوبة كبيرة في فهم كتب المصريين، وسأعود إلى هذه النقطة ثانية.

أنواع الخط المصري

تعودنا على عادة الإغريق أن نسمي الكتابة المصرية «الإشارات المقدسة» (هيروغليفي) وأن نسمي نوعًا آخر خاصًّا «الهيراطيقي» والاسمان مستعملان في لغتنا، وليس هناك استعداد عند أي شخص لمحوها وإن كان كل منهما سخيفًا بعض السخف وبخاصة الأخير، لأنه — وهو الذي ترجم عنه معظم ما في الكتب — ليس بكتابة خاصة مطلقًا ولا يخرج عن كونه «خط رقعة» للكتابة الهيروغليفية والفرق بين الاثنين كالفرق بين حروف المطبعة وخط اليد.

ومما ساعد الأدب المصري بوجه عام الأدوات التي كان يستعملها الكتاب في الكتابة. ولم يكن عملهم كعمل زملائهم البابليين وهو طبع إشاراتهم على ألواح من الطين، فهذه طريقة أنتجت أشكال الخط المسماري القبيح الشكل.

والواقع أنهم كانوا يكتبون كما يكتب العالم الحالي الذي أخذ طريقة الكتابة عنهم، فكان عندهم المداد الأسود الثابت اللون، وكانوا يطحنون المادة التي يأخذون منها المداد على ألواح من الخشب، وكان عندهم أقلام يتخذونها من القصب ويبرون أطرافها ويديبونها على حسب رغبة الكاتب، وكان عندهم فوق ذلك ورق ناعم جميل منتخب من لباب سيقان البردي،٥٠ كل هذه الأدوات كانت وسائط مساعدة على الكتابة مما لم يتهيأ لغيرهم من الأمم الأخرى، ويمكن أن يشاهد إلى الآن في النسخ الخطية الجميلة كيف كان الكاتب يرسم إشاراته ويده ثابتة وقلبه منشرح.

استعمال البردي للكتابة

وكان من السهل أن تعمل ملفات طويلة من ورق الردي بضم الأوراق المنفصلة بعضها إلى بعض وإلصاقها، وبهذه الطريقة يسهل أن تعمل ملفات بأطوال مختلفة، وهناك ملفات خطية بديعة يبلغ طول الواحد منها عشرين أو أربعين مترًا. وكانت الكتابة عادة على وجه واحد من ملف البردي، وهو الوجه الذي تكون الألياف فيه أفقية حتى يأخذ القلم سبيله بلا مقاومة. وهذه الطريقة تستلزم الإسراف في الورق، على أنه لم يكن في مقدور كل فرد — من هذه الناحية — أن يستعملها. ولدينا أمثلة كثيرة تسترعي النظر للكتابة على وجهي الملفات للاقتصاد. والشخص الذي نحن مدينون له بأمتع مثال لدينا من هذا النوع هو صاحب ورقة «هريس» رقم ٥٠٠ إذ حصل على أوراق مكتوبة من البردي وغسل ما عليها من المداد وكتب على أحد وجهيها ثلاث مجاميع من أغاني الحب وأنشودة الشراب القديمة، وجاء بعده كاتب آخر وكتب على الوجه الثاني من الورقة قصتين. وقد استعمل كاتب ورقتي «لينينجراد»٥١ طريقة مختلفة وقد حفظت لنا هاتان الورقتان تعاليم للملك «مرى كارع» ونبوءة «نفررهو» وكان هذا الكاتب يشتغل كاتب حسابات، فأخذ وثائق من مصلحته وألصق بعضها ببعض ونسخ الورقتين الآنف ذكرهما على الوجه الأبيض لتلك الوثائق، على أن تكون ملكًا له «ولأخ عزيز موثوق به».

استعمال الخزف للكتابة عليه

أما الفرد الذي لم يكن في مقدوره الحصول على ورق البردي فكان يجد في قطع الخزف ما يسد حاجته. وهي مادة رخيصة الثمن تحل محل الورق. وقد يطلق هذا الاسم على قطع من الأواني الفخارية أو من الحجر الجيري الناعم، ونشاهد هذه الآثار الكتابية ملقاة على الأرض في أي مكان من مصر. ولما كانت هذه القطع الخزفية يستعملها تلاميذ المدارس لكتابة تمارينهم فإن كثيرًا من المتون المصرية قد نقل عنها.

فهمنا للمتون المصرية

إن الطالب الذي يوازن بين ترجمتين لمتن صعب من المتون المصرية إحداهما قديمة العهد والأخرى حديثة، قد يشك في أن هاتين الترجمتين المتباينتين هما لقطعة واحدة. والسبب في ذلك هو نقص نظام الكتابة عند المصريين القدماء، فالألفاظ المصرية لم توضع فوقها حركات تبين بالضبط موقعها من الجملة، ونتيجة ذلك أنه يمكن نطق الكلمة بأشكال مختلفة تعطيها معاني متباينة: مثال ذلك «سزم» فإنها تحتمل معنى من المعاني الآتية: سماع، يسمع، سمع، سامع، مسموع إلخ، وليس لدينا طريقة لتحقيق المعنى المقصود بالضبط إلا سياق الكلام. على أننا لا نجد صعوبة حينما نبحث في متن بسيط؛ فإننا نجد من السياق ومن الاستعلامات المعروفة لدينا حق المعرفة ما يعيننا على سهولة البحث. ونجد الأمر على عكس ذلك إذ كان المتن يحتوي على غير المألوف من الجمل والأفكار، فهنالك يترك المترجم الأمين هذه الجمل من غير ترجمة غالبًا أو يترجمها، ويعترف بأن هناك تراجم أخرى لها يمكن اتباعها.

ولا يدهش القارئ عندما يرى أن يعض المتون قد ترك من غير ترجمة في كثير من الوثائق المصرية.

جهل الكاتب

وهناك عقبات أخرى غير العقبات التي نصادفها بسبب غموض نظام الكتابة تعترضنا وربما أثارت من ضحكًا، وهي ناشئة عن خفة الكاتب وجهله: على أن كثرة الأغلاط الكتابية في كل مخطوط كتابي تكاد تكون لسوء الحظ أمرًا عاديًّا. وليست هناك مخطوطات يعد الخطأ الكتابي فيها خطرًا كما في الكتابة الهيروغليفية، فإنه يكتفي للكاتب أن يضيف (خطأ) مخصصًا إلى كلمة فيتغير معناها إلى معنى مختلف كل الاختلاف عما يقصده الكاتب، وقد تؤدي غلطة من هذا النوع إلى خطأ في الترجمة، وتسرب أمثال هذه الأغلاط أمر سهل الوقوع، وذلك لغموض طبيعة الكتابة، وهذا الخطأ في الترجمة نتيجة طبعية لهذا النظام الغامض. على أن المصريين القدماء كانوا أقل احتفالًا منا بأمثال هذه الأغلاط، فكانوا يصححون هذا الخطأ أثناء القراءة، ومن الواجب أن نفترض حصول ذلك منهم، وإلا فإنه لا يصدق أن فردًا كان ينقل كتابًا لاستعماله الشخصي ثم يغض النظر عما فيه من أخطأء كثيرة.

أغلاط التلاميذ في نقل المتون

ولنتكلم الآن عما خلفه لنا تلاميذ المدارس في عهد الدولة الحديثة، وأعني بذلك أوراق البردي وقطع الخزف التي كانوا يسطرون عليها واجباتهم اليومية التي يأمرهم بها معلموهم. يظهر أن هؤلاء التلاميذ كانوا لا يؤدون واجباتهم دائمًا عن طيب خاطر لذلك كثرت الأغلاط الشنيعة التي كانوا يرتكبونها في مثل هذه المتون. ولم تخل أساس المتون عبارة من بعض الأغلاط، وعلى ذلك لا نشك في أن جزءًا كبيرًا من متن موقعة «قادش» كان مصيره الغموض، لو لم نستند في تصحيحه إلى النقوش التي ساعدتنا على إصلاح كثير من أغلاطه، وما كانت نسخة «بنتاور» لتغنينا عن ذلك شيئًا.

وكان التلميذ عندما يكلف نقل كتاب يصعب عليه فهمه لما فيه من التعبيرات اللغوية القديمة يغير فيه تغييرًا يضيع من المعنى، وإذا كانت الحال كذلك فإننا نشكر الله إذا استطعنا أن نلمس الصواب في بعض أنحاء الموضوع الذي يتحدث عنه الكتاب، ومما يؤسف له أن كتابًا قيمًا كتعاليم «دواوف» قد وقع فريسة في يد تلاميذ مدارس الأسرة التاسعة عشرة، ولا يعزينا عن ذلك أن نرى بعد بضعة قرون تلاميذ مدارس الأسرة الثانية والعشرين قد أساءوا من ناحيتهم — على النحو السابق — نقل كتابات الأدب المصري الحديث. ونقرر هنا أننا مدينون بالشكر للمدارس المصرية، فقد حفظت لنا كثيرًا من هذا الأدب من الضياع، غير أن الشكر الذي يهديه مترجم أمثال هذه الكتابت المحشوة بالأغلاط لهذه المدارس سيكون دائمًا ممزوجًا بشيء من الفتور.

هوامش

(١) Griffith, Proc. S. B.A. 1892 p. 403.
(٢) Z. A. S. 48, p. 100.
(٣) Peet, The Rhind Mathematical papyrus p. 9.
(٤) Moret, Des Clans aux Empires, p. 246.
(٥) Ann. Du Serv. Ant. t. l, p. 79.; Spiegelberg Z. A. S. t. XLVII p. 146 ; XLIX p. 67 ; LVI p. 202.
(٦) ويلاحظ أنه في إحدى مواقع تحتمس الثالث في ممر (ألوانا) و(مجدو) في جبال الكرمل نقرأ أن الجيش كان يسير في وقت الظهيرة «في الساعة التي رجع فيها الظل».
Moret, Le Nil, p. 315.
(٧) Erman-Ranke, Ægypten, p. 400.
(٨) Z. A. S. t. XII p. 222.
(٩) Le Nil p. 531.
(١٠) Abel Rey, La Science Orientale avant les Grecs, p. 301.
(١١) وقد كتب عن ذلك العامل «بورخارت» ضمن مذكراته الخاصة وأرسل لمدير حفائر أبويس خطابًا يشرح فيه هذا الكشف والمذكرات الخاصة بالكشف المذكور لم تظهر إلى عالم الوجود بعد.
(١٢) Moret, Le Nil, p. 523.
(١٣) Z. A. S. t. 63 p.p. 53–70.
(١٤) Hooton, Oral Surgery in Egypt during the Old Empire (Harvard African Studies, I).
(١٥) Urkunden, t.I, 42.
(١٦) Breasted, Te Edwin Smith Surgical papyrus, Oxford, 1930.
(١٧) Breasted, The Edwin Smith Pap. (The New York-Hist. Soc Quart Bull.) 1922, Vol VI, p. 4–31.
(١٨) Historie Anc. des peuples de l’Orient, p. 214.
(١٩) Quibell, Excav. at Saqqara, (1912–1914_ p.p. 11, 19, 28, 32 pl. XXIX.
(٢٠) Reisner, Bull. Mus. of Fine Arts, Boston, XXVI (1928) No. 157.
(٢١) Elliot Smith, Egyptian Mummies, p.p. 74–5.
(٢٢) H. II, 86–8.
(٢٣) G. Elliot Smith, (a) A Contibutaion to th Study of Mummification in Egypt. in Mem de l’Instit. Egyptien, V fasc. I, 1906. (b) The Royal mummies in Cat. Gen. du Musée du Caire. & W. R. Dawson Making a Mummy in the J. E. A. XIII (1927) p. 40–9.
(٢٤) Winlock. Egyptian Exped 1920–1921 Bull. Metrop. Mus. of Art. New-Tork, 11, p.p. 36–52.
(٢٥) Derry, Report upon the Examination of Tut-Ankh Amen’s Mummy in the Tomp of Tut-Ankh Amen by Howard Carter II, p. 146.
(٢٦) History of Egyptian mummies p. 83–4.
(٢٧) Elliot Smith & Dawson op. cit. p.p. 61.
(٢٨) Smith & Dawson op. cit. p.p. 82, 83, 85, 103.
(٢٩) Smith & Dawson op. cit. p.p. 75, 80, 97, 99,
(٣٠) Smith & Dawson op. cit. p.p. 114, 115, 117, 118.
(٣١) Smith & Dawson op. cit. p.p. 81.
(٣٢) J. E. A. XVII 1932 p. 139–40.
(٣٣) Lucas, Preservative Materials used by the Ancient Egyptians in Embalming p. 5.
(٣٤) Lucas, (a) Arch. Survey of Nubia, Report for 1907–1908, II, (1910) p.p. 372–4. (b) Preservative Materials used by the Ancient Egyptians in Embalming 1911. (c) J. E. A. t. I, 1914 p.p. 241, 245. (d) Ancient Materials, 1926 p. 122.
(٣٥) Breasted A. R. IV, 234, 344, 379. op. cit. II, 265, & III. 116.
(٣٦) W. O’sburn, An Account of an Egyptian Mummy presented to the Museum of leeds Philosophical & Literay Society (1828) p. 6.
(٣٧) B. p. Grenfell & A. S. Hunt, The Amherst Papyrus II, p. 150.
(٣٨) G. Elliot Smith, The Royal Mummies in Cat. Gen, du Musée du Caire. 48.
(٣٩) Pliny, XIII, 20; XXIV, 67.
(٤٠) P. C. Rouyer, Notice sur les embaumements des Anciens Egyptiens, dans Description d’Egypte, Mémories Antiqués t. I, (1809) p.p. 207–20.
(٤١) G. Elliot Smith op. cit. pl. 9.
(٤٢) E. Schiaparelli, Relazione, Sui Lavori della Missione Archeologica Italiana in Egitto (1903–20) II, p. 165.
(٤٣) Lucas, J. E. A. XVIII 1932 p.p. 125–40.
(٤٤) Lucas, Ancient Egypt. Materials p. 247 etc.
(٤٥) Mariette, Les papyrus Egyptiens du Musée de Boulaq. & Maspero, Mémoires sur quelques papyrus du Louvre.
(٤٦) Elliot Smith, Mem. de l’Inst. Egyptien, V, 1906. fasc I, p.p. 28, 31. & Elliot Smith, The Royal Mumies p. 64.
(٤٧) Elliot Smith & Warren Dawson, op. cit. p. 125; J. E. A. XIII p. 49.
(٤٨) J. E. A. XVIII p. 127–9.
(٤٩) The Tomb of Yuaa and Thuiu in Cat. Gen. du Musée du Caire, p.p. 75–7.
(٥٠) (انظر ثروة مصر الطبيعية ومنتجاتها/الزراعة/زراعة نباتات الألياف/نبات البردي).
(٥١) انظر الجزء الأول ص٤٢٠ إلخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤