الفصل الثاني عشر

نظرة إجمالية في تطور الأدب المصري

نظرة الإغريق والمصريين المعاصرين إلى الأدب المصري

لقد بقي التاريخ المصري والأدب المصري، وكل ما يتعلق بالحياة المصرية سرًّا غامضًا في كل العالم حتى بداية القرن التاسع عشر، أما ما نقله اليونان عن المصريين مدة اختلاطهم بهم فلم يكن إلا حقائق مشوهة نقلت بالرواية، فضلًا عن أن ما وصل إلينا لا يمثل إلا جزءًا من تاريخ البلاد في أيام شيخوختها وتدهورها. وقد كان اليونان الذين نقلوا إلينا بعض معتقدات المصريين وعاداتهم الموروثة من أزمان سخيفة ينظرون إليها بعين الاحتقار والرهبة معًا لأنها لا تتفق مطلقًا مع دنيا حضارتهم. وقد بقي المصريون في نظر الأوروبييين والمصريين الحاليين كالصينيين الأقدمين. ومن المدهش أنه رغم حركة الكشوف الحديثة التي قامت في عصرنا فإنهم لا يزالون معروفين بأنهم قوم لا ثقافة لهم ولا علوم ولا آداب كباقي أمم العالم، حتى إن المصري الحديث عندما يريد أن يتكلم عن الأدب في مصر لا يذكر شيئًا عن مصر القديمة، بل يقصر كلامه على الأدب العربي في مصر. وكأن مصر منذ فجر التاريخ حتى الفتح العربي لم يكن لها شيء قط من التراث الأدبي يمكن أن يفاخر به أبناؤها كما يفاخر الفرنج بأدبهم الخاص في مختلف العصور، والواقع أن المصري لا يلام على جهله بأدب بلاده العتيق، وربما يرجع السبب في ذلك إلى عاملين هامين: الأول: أنه منذ الفتح العربي اختفت لغة البلاد جملة وحلت محلها اللغة العربية وآدابها، فأسدل الستار على لغة القوم وأصبحت نسيًا منسيًا، ولم يبق للمصري مجال في أن يدرس تاريخها وأدبها وبخاصة إذا علمنا أن اللغة قد ماتت.

العامل الثاني: أنه لما حلت رموز اللغة القديمة لم يعتن المصريون بدرسها بل تركوا مجال هذا الدرس للأوربيين إلى عهد قريب جدًّا عندما بدأ نفر من المصريين يتعلمون لغة البلاد القديمة، ولكن رغم ذلك فإن معظم المثقفين في مصر أو الذين يدعون أنهم مثقفون، لا يزالون يعتقدون أن مصر القديمة لم يكن فيها حياة أدبية وثقافة خلقية كالتي عند الشعوب المتحضرة.

مكانة المصري ومقدار ذكائه

على أن المصريين في عهد تاريخهم الأول كانوا على عكس الفكرة الشائعة عنهم، إذ كانوا قومًا لهم هبات عقلية، وكانوا متوقدي العزيمة، أيقاظًا على حين كانت أمم أخرى من الأرض لا تزال في سباتها، ولقد كانت نظرتهم للعالم ملتهبة متوقدة مملوءة بالمغامرة كنظرة الإغريق الذين أتوا بعدهم بآلاف السنين. ويشاهد ذلك جليًّا فيما وصلوا إليه من الأعمال الفنية الواسعة النطاق، بل يشاهد بوضوح أكثر في أعمال التصوير والنحت التي تبرز الحياة عندهم فرحة ناطقة.

إن قومًا هذه مواهبهم جديرون بأن يجدوا سرورًا في إعطاء أغانيهم وقصصهم شكلًا أغنى وفنًّا أكثر. وكذلك نمت بينهم من وجوه أخرى حياة عقلية وعالم فكري يبحث فيما وراء الأشياء الدنيوية ودائرة الدين. ومنذ أن اخترع المصريون نظام الكتابة نمت بينهم من زمن بعيد مجموعة من الكتابات المختلفة الأنواع تعهدوها بالتنمية، وجعلوا لها صبغة أدبية، وإن الكثير منا لم يحفل بها ولم يعتقد يومًا بأن للمصريين القدماء أدبًا يعتد به.

لم يصلنا من الأدب المصري إلا القليل

ولقد حفظ لنا التاريخ شيئًا كثيرًا من أعمال التصوير عند المصريين حتى استطعنا أن نكون عنها فكرة تكاد تكون ثابتة لا تقبل التغيير كثيرًا، على حين أن موقفنا بالنسبة للأدب المصري — لسوء الحظ — لا يزال مختلفًا جدًّا إذ ليس لدينا منه إلا شيء قليل. لأن العثور على مؤلف أدبي يتوقف على مصادفة غير متوقع حدوثها كبقاء ملف من البردي الهش في جوف الأرض من ثلاثة أو أربعة آلاف من السنين. ولذلك لم نعثر إلا على قطع منفردة كانت بلا شك في الأصل أجزاء من مجاميع عظيمة من الكتابات، على أن كل كشف جديد من ذلك النوع يضيف خاصية جديدة إلى الصورة التي صورناها لأنفسنا عن الأدب المصري، وهذه الصورة أصبحت في الجملة تكاد تكون صحيحة لأنها تشتمل على احتمال له قيمته الفعلية؛ فإن كل مرحلة تاريخية يظهر لنا فيها الأدب المصري مطبوعًا بطابع خاص يميزه عن غيره ويتفق مع ما نعرفه عنها من الحقائق التاريخية.

ازدهار الأدب في عصر الإقطاع

وبقدر ما تتسع له طاقتنا من استقراء آثار اللغة المصرية القديمة، نستطيع أن نقول إن هناك دلائل تدل على أن العناية كانت موجهة إلى تنمية اللغة، فهي غنية بالاستعارات والتشبيهات أي أنها «لغة مثقفة» «لغة إنشاء وتفكير» للشخص الذي يكتب بها. ومن المحتمل أن أحد كتب الأمثال القديمة١ على الأقل قد أنشئ في عهد الدولة القديمة في خلال حكم الأسرة الخامسة (سنة ٢٧٠٠ ق.م. تقريبًا) وهذا هو العصر المعروف لدينا بعصر المستوى العالي لفن التصوير على الخصوص. ولكن يظهر أن الرقي التام للأدب المصري القديم لم يبلغ غايته إلا في العصر المظلم الذي يفصل الدولة القديمة عن الدولة الوسطى،٢ وكذلك في عهد الأسرة الثانية عشرة المشهورة (١٩٩٥–١٩٧٠ ق.م.). وكتابات هذا العصر ظلت تقرأ في المدارس خمسمائة سنة، ولم يجرؤ أحد أن يحيد عن لغتها أو أو أسلوبها في الكتابة. والخاصية التي يمتاز بها هذا الأدب القديم ظاهرة في الولوع بالتعابير الممتازة، ولا نستطيع أن نسمي ذلك تصنعًا. وحلاوة الألفاظ مع عذوبتها، كانت تعد صناعة عالية لا بد أن يبذل الإنسان جهدًا ليصل إليها. ويشاهد كذلك أن هذا كان حقيقة ميل هذا العصر من نقوشه التي طالما كان يقوم بتأليفها جماعة من المتعلمين، فإنها كانت تكتب بالأسلوب المزخرف.

وبعيد عن الصواب أن يقال إن كل مجهودات هذا العصر كانت موجهة إلى تنميق الألفاظ فحسب، فإن كتاب هذا العصر أقدموا على الكتابة في موضوعات هامة ولم يحجموا عن الخوض حتى في المسائل العميقة.

فكرة الوحدانية عند المصري

ونلاحظ من جهة أخرى أن الديانة تأخذ مكانًا ثانويًّا في هذه الكتابة ولا يكاد يذكر شيء في هذه الكتب الأدبية عن كل الآلهة الذين كان المصريون يهتمون بهم كثيرًا على حسب الفكرة الشائعة عنهم. ومن المحتمل أن الاعتقاد القديم كان مجرد وراثة عند الفرد المهذب، فكان لزامًا عليه أن يأخذ بناصره ظاهرًا، وكان يرضي نفسه في عالم فكره بالفكرة غير المحدودة «الله».

وليس قصدنا أن نغض النظر عن الحقيقة الواقعة، وهي أن جزءًا عظيمًا من هذا الأدب القديم قد ضاع، وليس معنى هذا أنه لم يكن للمصريين أدب فقد وجدنا أمثلة كثيرة. وعقيدتنا أن الضائع منها أكثر، وما وجدناه يرجع الفضل في عثورنا عليه إلى المصادفة المحضة، فقد وجدنا بعضه في قبور التلاميذ مدفونًا معهم. على حين أن كتبًا من نوع آخر كانت تحفظ مع الأحياء فيدركها العفاء.

ومهما يكن من أمر فإن المدارس لم يقل شأنها في العصر الثاني للأدب، وهو عصر الدولة الحديثة الأخير (حوالي ١٣٥٠ ق.م.).

ظهور اللغة العامية والكتابة بها

وقد نما هذا الأدب الحديث مضادًّا للأدب القديم، فإنه إلى هذا الوقت كانت لغة الآداب القديمة هي لغة الأدب في كل القرون، وغاية ما حدث أن اقتربت من لغة المحادثات في الوثائق الحيوية أو في القصص الشائعة،٣ وأخيرًا أصبح الفرق بين اللغتين عظيمًا إلى حد أن اللغة القديمة لم يعرفها أحد من عامة الشعب.٤ غير أن هذه القيود قد حلت في عهد الثورة الدينية العظيمة التي حدثت في أواخر عهد الأسرة الثامنة عشرة أيام «أمنحوتب الرابع»؛ فقد بدأ القوم يكتبون الشعر بلغة العامة. وقد كتبت بهذه اللغة «أنشودة الشمس» الجميلة وهي عبارة عن منشور للإصلاح الديني. وقد اختفى كل جديد أدخل على هذا النظام الذائع بعد انهياره اللهم إلا نظام الكتابة بلغة العامة، فإنه كتب له البقاء وذلك — بلا شك — لأن الأحوال التي استمرت إلى هذا الوقت قد أصبح بقاؤها مستحيلًا. وفي عهد الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين ازدهر أدب قوي مكتوب باللغة الجديدة التي نسميها «المصرية الجديدة».

وفي عصر «المصرية الجديدة» كان كذلك للمدارس القدح المعلى، ولكن كتاباتها في ذلك العهد اتخذت صيغة أكثر حياة مما كانت لها في العصر القديم. وهذه الحيوية تظهر بوضوح في أدب هذا العصر إذ رأى الناس الدنيا كما هي وشغفوا بها، وعلى قدر ما وصل إلينا من كتاباتهم يلاحظ أن الأفكار العميقة ليس لها محل في أدبهم، على أنه من الجائز أن كشفا جديدًا قد يصحح حكمنا من هذه الناحية.

تنسيق العبارات واستعمال ألفاظ أجنبية

ولم يستمر الأدب المصري الجديد طويلًا في طريقه باستعمال لغة الشعب كما بدأ حقيقة (كما كنا نظن) إذ سرعان ما أخذ الكتاب يبحثون وراء تهذيب العبارات، وهذه كانت علامة ظاهرة في الأدب القديم. وقد أصبحت لغة الفرد المهذب محلاة بألفاظ وجمل منتقاة، وكان يجد سرورًا في تزيينها بألفاظ أجنبية. وقد بقي هذا النوع من الأدب يهذب نحو خمسة قرون على ما يظهر ثم أصبحت لغته منعدمة، وكان على الأولاد في المدارس أن يتعلموها، وبذلك يظهر أنه قد قضى على الحياة الأدبية في مصر الآيلة إلى السقوط، وقد بقي الحال كذلك عدة قرون إلى أن ظهر أدب جديد يسمى بالديموطيقي.

العلاقة بين الأدب المصري والأدب العبراني

قد تلكمت فيما سبق عن الكلمات الأجنبية التي كثرت في كتابات العصر الأخير من الدولة الحديثة، وكلها تقريبًا مستعارة من لغة أهل فلسطين، وهي ترينا كما نعلم من مصادر أخرى العلاقات البينة بين مصر وفلسطين، ويمكننا حينئذ أن نفرض أن «كنعان» قد تأثرت بمصر من ناحية الأدب كما تأثرت بها من ناحية النحت. ولا شك في أنه لو وصل إلينا شيء من الأدب الفينيقي لرأينا فيه التأثير المصري، ولكن نرى في الأدب العبراني — وإن كان يقع في عصر متأخر بكثير عما نحن بصدده الآن — عدة أشياء تذكرنا جليًّا بنوع من الكتابات المصرية كما في المزامير ونشيد الإنشاد في الأدب الحكيم عند العبرانيين. ومن المحتمل أن متشابهات من هذا النوع يمكن اقتفاء أثرها على الأقل من طريق غير مباشر بما يماثلها في اللغة المصرية، وإذا كانت الحال كذلك فليس من البعيد أن نكون قد تأثرنا نحن أنفسنا بالحياة العقلية المصرية.

(١) الكتاب المتعلمون

أهمية الكتابة والكتاب في المجتمع المصري

نجد من أقدم العصور فجوة عميقة تفصل المصري المثقف المتعلم تعليمًا راقيًا عن عامة القوم. وقد وجد ذلك عندما اخترع المصريون الكتابة، لأن الفرد الذي كان يظهر البراعة فيها كان يحوز قصب السبق على إخوانه مهما كان مركزه في الظاهر حقيرًا، فإن الحاكم نفسه لم تكن له أهمية وقتئذ بدون مساعدة كتابه، ولذلك كان لكبار الموظفين في الدولة القديمة سبب قوي في حبهم لتمثيل أنفسهم في هيئة الكتاب؛ فقد كانت الكتابة هي المهنة التي وصلوا بها إلى مراكزهم وقوتهم. وكانت الطريق مفتوحة إلى كل وظيفة للشخص الذي تعلم الكتابة وعرف كيف يعبر عما في ضميره بألفاظ مختارة مهذبة.

وعلى ذلك فشا بين الكتاب نوع من الغطرسة والكبرياء والاعتزاز بطائفتهم. ويظهر هذا واضحًا جدًّا في الأدب القديم الذي كونوه، ويجب أن توسم هذه الطائفة بالاحترام لأنها وضعت مثلًا أعلى للموظف العظيم، فكان واجب الموظف أن يكون محايدًا، وأن يكون الشخص الذي يحول دون عبث القوي بالضعيف، والحاذق الذي يعرف كيف يجد سبيلًا حتى بين أعقد المصاعب، والفرد المتواضع الذي لا يقذف بنفسه قط إلى الأمام، ومع ذلك فإن آراءه يؤخذ بها في مجلس الشورى. وكل كتابة أو قول له يجب أن يميز عن العامة. بهذه الروح كان الكتاب يعملون جيلًا بعد جيل كما أنشئوا الشباب من أبناء طائفتهم على هذه المبادئ نفسها. وفي عهد الدولة الحديثة بقي الميل إلى البيروقراطية ومدارسها كما كان من قبل، وعلى الرغم من كل الخلافات الظاهرة فإن رسائل المعلمين لم تعظ بشيء غير ما وعظت به كتب الحكمة القديمة. وليس هناك فرق إلا أن تعاليمهم كانت مستورة تحت ثوب أكثر حذقًا، وإن ما تنطوي عليه مراميهم من الكبرياء كان أكثر تجسمًا في هذه الكتابات منه في أي وقت آخر.

(٢) المغنون والقصصيون

مما لا جدال فيه أن الكتاب المتعلمين قد أنشئوا الأدب المصري، غير أنه كان في حيز الوجود قبلهم أفراد يمارسون فنًّا أقل من فنهم وكان لهذا الفن تأثيره على الأدب.

حب المصري للغناء والموسيقى

وكل من له اتصال تام بالمصريين في عصرنا لا يسعه إلا أن يحمل معه ذكرى غناء الفلاحين والبحارة تتجاوب في الحقول الخضراء وعلى مياه النيل الصفراء اللون. ولسنا نعرف إذا كان هذا الغناء الخاص الذي يخرج من الأنف يرجع إلى الوراثة من الزمن القديم، ولكن الشعور بلذة الغناء يرجع بلا شك إلى الوراثة، فكل من الفلاح وصاحب المهنة في مصر القديمة كان يستعين على عمله الشاق بغنائه المتواضع، حتى لقد كان الغناء يعد جزءًا من العمل الذي يقوم به العامل؛ يدلنا على ذلك أن المثال عند تمثيل ما يريده كان يضيف الأغنية إلى الصورة الممثلة، وسنورد أمثلة من هذه الأغاني في العصور المختلفة في المقام المناسب. ومن سوء الحظ أن الأغاني التي كان يغنيها فاتنات القيان في حضرة سادتهن لم توجد ممثلة معهن، ونشاهد فقط أن طائفة من البنات يغنين وفقًا لحركات أخريات يرقصن، ولا يبعد أن تكون تلك الأغاني ساذجة بريئة كالأغاني التي كان يتغنى بها العمال. ونشاهد في كل العصور مغنين مكفوفي البصر.٥

نشر الحضارة المصرية بالمغنين

وليس هناك شك في أن هؤلاء التعسين كانوا يحترفون الغناء. وكذلك كان هناك نساء اتخذن الغناء حرفة لهن، وفي نهاية الدولة الحديثة — في قصة «سياحة ونامون» — سنشاهد مغنية مصرية في سوريا عملت على نشر الحضارة المصرية من هذه الناحية.

وإذا كان كل من المغني والمغنية قد وجد له مكانًا في المناظر التي كانت ترسم على القبور، فإننا نحاول عبثًا أن نجد القصصين ممثلين. ولا عجب في ذلك فإن القصصي لا يعرض سلعته في بيت الأمير الشريف ولا في حقله، بل كان يقص حكاياته على عامة الشعب وعلى قارعة الطريق، وحياة الطرق لم تمثل في المقابر. ولا شك في أن القصصي في الزمان القديم كان يمتع سامعيه كما يمتعهم الشاعر العصري في أيامنا هذه.

انتشار القصص في كل عصور التاريخ المصري

ولدينا قصص للعامة من كل عصور التاريخ تدل نغمتها ومحتوياتها على أنها من أصل قديم، وإذا كان قصص الروائيين الحاليين تدور حول شخصية تاريخية مثل «الظاهر بيبرس» والخليفة «هارون الرشيد»، فإن القصص القديمة كذلك لها علاقة بأشخاص لهم شهرتهم في التاريخ، فلدينا قصة من العصر المسيحي في مصر خاصة «بقمبيز» ولدينا قصة من العصر الإغريقي عن «نقطانب»، وقد حفظ لنا هردوت مما كتبه حكاية ممتعة عن «رمبزنيتس»، وفي الأوراق البردية الديموطيقية نقرأ قصة الملك بيتوبستس وحكاية رئيس الكهنة خاموس، وفي نهاية الدولة الحديثة نجد قصة الملك «تحتمس الثالث» وقصة ملك الهكسوس «أبوفيس» ومن أواخر الدولة الوسطى نقرأ قصص الملك «خوفو».

وقد نجد أمثال هذه النغمة الساذجة والتي قد تكون مبتذلة أحيانًا ظاهرة في كثير مما خلفه لنا المصريون في خرافاتهم الدينية كأسطورة «إزيس»، وخرافة إله الشمس المسن ورسوله الثمل،٦ والآلهة التي لم يمكنها العودة ثانية إلى مصر. ويخيل إلينا أن هذه القصص كأنما وصلت على يد أفراد عرفوا ميول العامة وأذواقهم. على أنها وإن كانت قد وصلت إلى الدخول في الدين بهذا الشكل العامي فإن ذلك يمنع من أنها عامية الأصل.

(٣) أوزان الشعر

كل ما يكتبه المصري بلغة عالية يقع في أسطر قصيرة متقاربة الطول، ولو أننا لا نعرف شيئًا عن نغماتها إلا أننا نرجح كثيرًا اعتبار هذه الأسطر أبياتًا شعرية منسوبة إلى وزن من الأوزان الشعرية. ولا شك في أن هذا صحيح في كثير من الأحوال، ومحقق في الحالات التي يكون فيها على الدوام عدد محدود من الأسطر تتوازن معًا كما يثبت ذلك المعنى، ويكون عدد الأسطر عادة ثلاثة أو أربعة كما ترى فيما يأتي:

أنت تنزل في سفينة من خشب الصنوبر
تتحرك من المقدم إلى المؤخر
وتصل إلى قصرك الجميل هذا
الذي بنيته لنفسك
فمك مفعم بالنبيذ والجعة
والخبز واللحم والفطير
وتذبح الثيران وتفتح أباريق النبيذ
والغناء الحسن أمامك
ورئيس مضمخيك يضحك بعطر «كمي»
وساقيك يحمل تيجان الأزهار
ورئيس فلاحيك يقدم الدجاج
وصيادك يقدم السمك

وكثير من أمثال هذه الأشعار تمتاز مقطوعاتها بأن كلًّا منها تبتدئ بكلمات مشتركة في الكل، فمثلًا في «مناظرة بين إنسان سئم الحياة وبين روحه» نجد ثمانية مقطوعات مركبة منها الأغنية الأولى تبتدئ كل مقطوعة منها بما يأتي: «انظر إن أسمى ممقوت» ومقطوعات الأغنية الثانية تبتدئ بما يأتي «لمن أتكلم اليوم؟» إلخ.

وفي أنشودة النصر «لتحتمس الثالث» نجد رابطة المقطوعات بعضها ببعض في الحقيقة مزدوجة لأن السطر الثالث من كل مقطوعة يبتدئ بألفاظ واحدة أيضًا، فالأسطر الأولى تبتدئ بما يأتي: «إني قد أتيت حتى أجعلك تطأ ….» والسطر الثالث يبتدئ بما يأتي: «إني أريهم جلالتك …» أما كل من السطر الثاني والرابع فبدايته ليست مقيدة.

الشعر غير المقفى

غير أن هذه البدايات المتشابهة توجد كذلك في متون فقراتها مختلفة الطول، وعدد سطورها ليس واحدًا. ويمكن أن نعتبر هذه الفقرات غير المنتظمة مقطوعات ليست مقيدة في تركيبها. ولا بد من أنه كانت هناك مقطوعات كهذه في الشعر ليست مقيدة في تركيبها، ولا تظهر كأنها شعر لعدم تماثل الكلمات التي تبتدئ بها كل واحدة منها. وظاهر هنا أننا لا زلنا نتلمس الحقائق في ظلام دامس، ومن المحتمل أننا سنبقى دائمًا هكذا، إذ إن السؤال الذي يتوقف عليه كل شيء لا يزال غامضًا لدينا ولا يمكن الجواب عليه أعني: ما هو الوزن الذي كان يتبعه المصري في صناعة الشعر؟

السبب في عدم إمكانية معرفة أوزان الشعر المصري

هذا السؤال لا يمكننا أن نجسر على الجواب عليه بأي فرض كان، وإذا فرضنا — كما هو محتمل من الوجهة النحوية — أن كل كلمة في اللغة سواء أكانت اسمًا أم نعتًا أم فعلًا إلخ لها حركة خاصة فإنه ينتج من ذلك أن كل بيت من الشعر لا بد أن يكون فيه من حركتين إلى أربع حركات، وبذلك تكون أبيات الشعر عندهم حرة في نغماتها وليست مقيدة بوزن. ومما يؤيد هذا الفرض أن مصريي العصر المسيحي (الأقباط) كانوا ينظمون شعرهم بهذه الطريقة الخالية من القيود الوزنية مثل:

رجل آخر يذهب إلى الخارج
يمكث سنة ثم يعود إلى بيته
ولكن «أرشليت» قد ذهب إلى المدرسة
وما عدد الأيام حتى أرى وجهه.

تكرار المعنى بألفاظ مختلفة

ولا بد أن المقطوعات الشعرية المصرية المركبة من أربعة أسطر كانت تشبه في نغماتها الرباعيات القبطية. على أن أمثال هذه النغمات الخالية من القيود الوزنية كانت تقرر كذلك في ظرف آخر، ذلك أنه حينما يكرر بيت من الشعر مثلًا في أول المقطوعة فإنه يمكن وضع جملة أطول بدلًا من اسم فردي، فبدلًا من «أوزير يستيقظ بسلام» الذي تبتدئ به المقطوعة الأولى فإنه يمكن أن يتغنى في الثانية «الباقي أبديًّا؛ رب المأكولات الذي يعطي ما يقوم الحياة لمن يحب، يستيقظ بسلام»، ولشعرهم ميزته الخاصة، وهي العادة الغريبة في بابها التي تعودنا أن نطلق عليها «توازن أجزاء الجملة» فليس بكاف أن يعبر الشاعر عن فكرة مرة واحدة، بل يجب أن يعبر عنها مرتين، وعلى ذلك نجد جملتين قصيرتين، معناهما متشابه أو واحد: تتبع إحداهما الأخرى مثال ذلك: «القاضي يستيقظ»، «تحوت يجلس»، أو: «ثم تلكم هؤلاء أصدقاء الملك»، «وأجابوا أمام إلههم»، ففي كل من المثلين يلاحظ أن الجملة الثانية مرادفة لما قبلها ولا فائدة منها. مثال آخر: «وهم الذين يدخلون في هذا القبر»، «وهم الذين يشاهدون ما فيه» حيث نجد أن التكرار يحدث فكرة جديدة.

والسبب في التعبير بهذه الطريقة هو الغرام بزخرف القول، فإن المتكلم يشعر بأنه يمكنه أن يستعمل جملة ثانية في معنى ما نطق به أولًا، وعلى ذلك لا يسعه إلا النطق بها في الحال مرة أخرى في شكل جديد. وعلى مر الأزمان أصبحت هذه طريقة مقررة في الكتابة، إذ كانت تعد حلية طبعية للكلام الراقي، وقد عودنا كتاب العهد القديم هذا النوع الغريب من التعبير لأنه كان سائدًا عند العبرانيين والبابليين، ولذلك لم يدهشنا ذلك كثيرًا في المتون المصرية. وتقدر تمامًا غرابة هذه الطريقة في التعبير بمجرد تحويل قطعة من شعر آخر إلى هذا الأسلوب المصري.

استعمال المترادفات في لغة الشعر وسببه

وعلى أية حال فإن هذا التوازن أو الترادف في الجمل لم يوضع قط يومًا من الأيام ليكون قالبًا ثابتًا للشعر، ولكنه بقي دائمًا مجرد حلية لفظية كان من المحقق أن تستعمل بدون أي تحفظ في الوقت الذي يريد الشاعر فيه أن يعبر عما في ضميره بلغة عالية.

وقد أدى كذلك الشغف بتنوع الأساليب إلى عادة الإشارة إلى الشخص الممدوح في الأنشودة بأسماء جديدة وألقاب مختلفة. من ذلك «أنشودة الصباح» المترجمة فيما بعد؛ فإن البيت الواحد منها يتنوع بهذه الطريقة إلى ما لا نهاية له. ويظهر هذا مملًّا وثقيلًا على آذاننا، ولكن ذلك يرجع إلى أننا لم تنذوق بعد أسرار المسميات المختارة ولم نفهمها بعناية، وهذا النوع من الأسلوب خاص كذلك بأناشيد المديح التي يمتاز بها الأدب المصري، وهي تبتدئ باسم الممدوح مسبوقًا بجملة تعجب، مثال ذلك: «المديح لك!» أو «التعبد لك!» ثم يتبع هذا نعوت محضة، وأسماء، وأسماء أفعال، وجمل موصولة تنعت الفرد الممدوح وتعيد إلى الذاكرة جليل أعماله،٧ وتستمر هذه النعوت تباعًا بلا نهاية ومن غير ترتيب، ويظهر ذلك جليًّا حينما لا يعير الشاعر ترتيب هذه النعوت المتتابعة في ذهنه أية أهمية. ومن ذلك يستخلص أن الشعر المصري على وجه عام ليس له معنى، ومن يقرأ «تحذيرات نبي»٨ التي يصف فيها بؤس زمانه فإنه يدهش حينما يرى أن هذا الشاعر لم يبذل أي مجهود في ربط كلامه بعضه ببعض بطريقة منسجمة، فهو شاعر قلبه مفعم ببؤس بلاده فينفجر قلبه حينًا بهذه الشكوى، وحينًا بتلك. وعلى ذلك يمكن فهم أناشيده من هذه الناحية. ولكن الإنسان إذا أنعم النظر في جملة ما رآها شيئًا مخالفًا؛ لذلك فالرجل يتكلم على البديهة، وعلى ذلك فكل كلمة استعملها في آخر البيت الذي قاله تحدو به إلى فكرة أخرى جديدة ليس بينها وبين سابقتها علاقة فيعبر عنها في الحال. وإليك مثلًا: يقول الشاعر: إن كل شيء مفعم بالحياة حتى الأطفال الصغار، وعند ذكر الأطفال يحضر في ذاكرته أن الأطفال يقتلون ويلقى بهم على تلال الصحراء، ثم تذكره تلاع الصحراء بالموميات التي تنتزع هناك من القبور ويلقى بها عليها.

ويجب قبل أن نختم هذا البحث أن نذكر حليتين أخريين كان المصريون مولعين بتزيين كلامهم بهما. وليس حتمًا علينا أن نعدهما خاصيتين مميزتين للشعر المصري وهما الجناس، وبداية الكلمات بحروف واحدة.

الجناس في الشعر المصري

أما الجناس فكان أسلوبًا محببًا لدى المصريين. وقد وجدت طقوس دينية قديمة جدًّا لتقديم القراببين لوحظ فيها الجناس في كل اسم من أسماء مواد الطعام، واستعمل الجناس كذلك بنظام في قصيدتين من أدب الدولة الحديثة قد دونتا فيما بعد٩ غير أن هذا الجناس لا يمكننا وصفه في الترجمة.

وفي العصور التي نحن بصددها الآن لا نلاحظ حالات الجناس الحرفي إلا من وقت لآخر. مثال ذلك بيتان من الشعر يشيران إلى «أمنحوتب الثالث»: «حاربت عصاه بلاد النهرين، وأخضع قوسه السود.»

ولا بد أن الأشعار التي تبتدئ كلماتها بحروف متجانسة وجدت في ذلك الوقت، وإلا فكيف حصل المصريون في العصر اليوناني — الذين لم يكونوا مطبوعين على التجديد — على نموذج أشعارهم التي تبتدئ كلماتها بحروف متشابهة، وهو النموذج الذي كانوا يميلون إلى استعماله في نقوش معابهدهم؟ وقد كان رجال الدين في ذلك العصر يجدون لذة في ذكر كلمات تبتدئ بحروف متشابهة في الجملة الواحدة. واستعمال مثل هذه الأساليب يمكن أن يعزي أيضًا إلى الدولة الحديثة.

(٤) مختارات من أدب الدولة القديمة

أمثلة من الشعر

لم تكشف لنا الآثار حتى الآن عن أي نوع من الأغاني والأناشيد والأحاديث المنظمة من عهد الأسرة الأولى، ولكن رغم ذلك يجب أن نسلم بأنها كانت موجودة. والواقع أنه يوجد كثير من التراكيب الشعرية في لغة العصر التاريخي مما ترجع نغماته إلى العصر السحيق، على أنه لم يبق لنا من هذا الشعر القديم إلا النزر اليسير، وهو على قلته لا يكشف لنا عن عذوبة الشعر الفطرية، لأن ما لدينا منه ينحصر في صيغ وأناشيد دينية، ومع ذلك فإن الطالب المصري الذي يعرف كيف يقرأ ذلك الشعر الديني يمكنه أن يأخذ فكرة عامة عن حقيقة الشعر الدنيوي المقابل له، فهو شيء مختلف جد الاختلاف عما يصوره لنا أدب مصر في عصر ازدهاره عندما كان غنيًّا بنغماته وقوافيه. ولقد كان التعبير في هذا الشعر القديم حيًّا ساذجًا، وكانت الأفكار متنقلة غير مستقرة، وكانت الضمائر في هذه المتون تتغير فجأة من استعمال إلى استعمال، وكل هذا يدل على طرافة الشعر وجدته، وإذا تغاضينا عن سذاجة هذه الصيغ القديمة وغرابتها فإننا نستطيع أن نكشف الغطاء من حين لآخر عن روح شعرية فطرية قل أن نجدها في عصور أخرى أكثر تهذيبًا.

منتخبات من متون الأهرام

تلكمت عن متون الأهرام والغرض منها في الجزء الأول ص٣٥٧ إلخ وهذه المتون تهتم اهتمامًا خاصًّا برغبة المتوفى المعظم (الملك) في الابتعاد عن تمضية حياة مظلمة في العالم السفلي، فإن هذا العالم هو مصير المتوفين العاديين، أما المتوفى الأعظم فإنه يعيش في السماء كما تعيش الآلهة، وهناك يمكنه أن يسبح مع إله الشمس في سفينته أو يسكن في حقول المنعمين أو يمرح في حقول قربان الطعام أو حقل «يارو»، ومن الممكن أن يصير نفسه إلهًا، وقد افتن الشعراء في تصوير هذا الدور كما شاء لهم خيالهم، فلم يكتفوا بتصويره (الملك) في أروع مظاهر الاستقبال من الآلهة بل رفعوه إلى مرتبة الغزاة الفاتحين لعالم السماء.

وتتصل بهذه الأفكار فكرة أخرى لها علاقة بالإله أوزير الذي يعتبر المثل الأعلى للموتى من بني الإنسان، فقد قتل مرة ثم أعيد إلى الحياة وصار حاكم الأموات، وهو بهذه الكيفية يعتبر في متون الأهرام أنه ساكن في السماء.

ولغة متون الأهرام عتيقة ولا يزال فهمها محفوفًا بصعوبات عظيمة، إذ تشير إلى حوادث وأساطير ليست معلومة لنا وبخاصة الأساطير الدينية.
  • (أ)
    سياحة المتوفى إلى السماء:١٠ إن الطائر يطير! إنه يطير بعيدًا عنكم أنتم أيها الناس. ولم يعد بعد على الأرض فهو في السماء.
    وأنت يا إله مدينته إن روحه (كا)١١ بجانبك وهو يندفع إلى السماء مثل الواق (اسم طائر) ويمتطي السماء مثل الصقر، ويتهادى نحو السماء كجرادة.١٢
  • (ب)
    ومنها:١٣ ما أسعد الذين يشاهدونه متوجًا بتاج «رع»!

    ومئزره عليه كمئزر «حتحور»، وريشه كريش صقر. وهو يصعد إلى السماء بين إخوانه الآلهة.

  • (جـ)
    ومنها:١٤ إن قلبك معك يا «أوزير» ومعك قدماك يا «أوزير»، ومعك ذراعاك يا «أوزير». وإن قلبه معه، ومعه قدماه، وذراعاه معه١٥ لقد أقيم له منحدر إلى السماء ليصعد عليه إلى السماء١٦ إنه يصعد على دخان البخور العظيم.
    إنه يطير كطائر، ويحط كجعل في مقعد خال في سفينة «رع»: قف، اخرج إنك بدون … حتى يجلس في مكانك١٧ إنه في السماء، يجدف في سفينتك يا «رع». وينزل على الأرض في سفينتك يا «رع».

    وعندما تكون فوق الأفق فإنه يكون هناك، وعصاه في يده كملاح سفينتك يا «رع». إنك تصعد إلى السماء بعيدًا عن الأرض …

  • (د)
    ومنها:١٨ استيقظ أيها القاضي١٩ يا «تحوت»، انهض! استيقظوا يا نيام! تحركوا يا من في «كنست»!٢٠ أمام الأنيس العظيم (طائر مائي) الذي ارتفع من النيل، ولإله ابن آوى الذي خرج من شجرة الأثل.٢١ إن فمه لطاهر، وإن تاسوعي الآلهة قد بخراه، وإن لسانه الذي في فمه طاهر، إنه يكره الروث ويعاف البول٢٢ وهو يكره ما يكره. وهو يكره هذا ولا يأكل هذا….
    وأنتما أيها التوءمان اللذان يسيحان في السماء: «رع» و«تحوت»٢٣ خذاه إليكما ليكون معكما، حتى يأكل مما تأكلان، ويشرب مما تشربان، وحتى يعيش مما تعيشان، وحتى يسكن حيث تسكنان، وحتى يصير قويًّا بما يجعلكما قويين، وحتى يسيح هناك حيث تسيحان.

    إن كوخه قد أقيم في «حقل يارو» ومرطباته في حقل «قربان الطعام». ومأكولاته معكما أيها الإلهان، وشرابه كشراب «رع» إنه يحيط بالسماء «كرع» ويخترق السماء «كتحوت».

  • (هـ)
    المتوفى يظفر على السماء:٢٤ «إن في السماء شجارًا، وإنا لنرى شيئًا جديدًا» هكذا تقول الآلهة الأولى.٢٥
    وتاسوع٢٦ «حور» يبهر، وإن أرباب الأشكال لفي ذعر منه. وكلا التاسوعين يخدمه، وهو يجلس على عرش رب العالمين والسموات مطويات بيمينه، وهو يشق معدنها،٢٧ ويزف في طريقه إلى «خبر» ويغيب حيًّا في الغرب، وسكان العالم السفلي،٢٨ يتبعونه ويشرق مجددًا في الشرق.
    وذلك الذي فصل في الشجار٢٩ يأتي إليه مطأطئ الرأس. والآلهة تخافه لأنه أكبر سنًّا من «الواحد العظيم» إنه صاحب السلطان على مكانه. وهو الذي يقبض على القيادة.٣٠ والأبدية بجلب إليه. والحكمة٣١ موضوعة له عند قدميه. صح له عاليًا فرحًا فإنه قد استوى على الأفق.
  • (و)
    المتوفى يلتهم الآلهة:٣٢ إن السماء محجبة بالغيوم والنجوم تمطر (؟) والأقواس تتحرك للرمي، وأوصال آلهة الأرض ترتعد …٣٣ حينما تشاهد كيف يظهر في شكل واضح كإله يعيش على آبائه ويأكل أمهاته. إنه رب الـ … الذي لا تعرف أمه اسمه.٣٤ له الفخار في السماء، وله القوة في الأفق مثل «آتوم» والده الذي ولده، وقد ولده ولكنه (المتوفى) أقوى منه. أرواحه حوله وصفاته تحت قدميه، وآلهته فوقه وصلاله على حاجبه وحيته٣٥ فوق جبهته … وقواه تحميه. إنه ثور السماء، وقلبه ميال إلى النطاح، وهو الذي يعيش على حياة كل إله، وهو الذي يأكل أعضاءهم عندما يكونون قد ملئوا بطونهم بالسحر في جزيرة «نبسيسي» …٣٦
    وهو يظهر كهذا الواحد العظيم رب الخدم الإلهية وهو يجلس وظهره إلى «جب».٣٧ وهو الذي ينفذ الحكم مع من خفي اسمه في يوم ذبح المسنين.٣٨ وهو رب طعام القربان الذي يعقد الحبل٣٩ ويهيئ طعامه.
    وهو الذي يأكل الناس، ويعيش على الآلهة، ويملك الحمالين، ويرسل الرسل.٤٠ وهو الذي يلقف سحرهم ويبتلع سيادتهم، فالكبار منهم غذاؤه في الصباح، والمتوسطون حجمًا وجبته في المساء، وصغارهم أكلته في الليل، والمسنون من رجالهم والمسنات من نسائهم قد حصصوا لبخوره٤١ والعظماء الذين في شمالي السماء يوقدون له النار تحت القدور، ووقود هذه النار أفخاذ المسنين.٤٢ وسكان السماء يخدمونه، وقدور الطبخ تمسح له بسيقان نسائهم.
    وقد أحاط بالسماءين جميعًا وقد اخترق شاطئ النهر. وهو «الواحد القوي» صاحب السلطان على الأقوياء … وإنه ليأكل من يعترضه نيئًا، ومكانه فوق رأس الأشراف الذين في الأفق. وهو إله أكبر من أكبرهم سنًّا. الألوف تخدمه والمئات تضع له القرابين وقد منحه «أريون» (نجم) أب الآلهة عهدًا بتعيينه واحدًا عظيمًا قويًّا٤٣ وقد توج في السماء من جديد، وإنه ليلبس التاج، كرب الأفق.
    وقد كسر عظم الظهر والنخاع الشوكي، وقد اختطف قلوب الآلهة، وقد أكل التاج الأحمر وابتلع التاج الأخضر، وهو يعيش على رئات الحكماء، ويرتاح لأن يعيش على القلوب وسحرها ويفرح حين يلتهم الـ … التي في التاج الأحمر.٤٤ وهو ينمو وسحرها في بطنه وألقابه لم تغضب منه. وقد ابتلع عقل كل إله.
    مدة حياته الخلود، وحدوده الأبدية إذا أراد فعل، وإذا لم يرد لم يفعل، وهنا تتجلى مكانته، وهو الواحد الداخل في حدود الأفق إلى أبد الآبدين. تأمل فإن روحهم في بطنه وسيادتهم معهم، وإن فضلات طعامه تفضل طعام الآلهة، وما يحرق له هو عظامهم وأرواحهم معه وظلالهم مع زملائهم.٤٥

المتوفى يأتي رسولًا إلى أوزير٤٦

(رجاء موجه إلى النوتي (المعداوي) في السماء لينقل المتوفى حيث يسكن أوزير).

أيها العابر إلى «حقل قربان الطعام» أحضر لي هذا! أسرع إنه هو! إنه هو تعال! هو، ابن سفينة الصباح التي قد ولدته على الأرض، إن ولادته تامة لا تشوبها شائبة وعلى تمامها حياة الأرضين.

إنه هو بشير العام٤٧ يا «أوزير» انظر، إنه يأتي برسالة من أبيك «جب»: محصول العام السعيد، ما أسعد محصول العام، محصول العام حسن، ما أحسن محصول العام!»
لقد نزل مع التاسوعين إلى «نهر البارد»٤٨ وهو المنشئ للتاسوعين ومؤسس «حقل قربان الطعام».٤٩ وقد وجد الآلهة منتظرين، ملفوفين في ملابسهم، ونعالهم البيضاء في أقدامهم. وعندئذ ألقوا بنعالهم البيضاء على الأرض وخلعوا ملابسهم.٥٠ «لم يهدأ لنا قلب حتى أتيت» هكذا قالوا …

مصير أعداء المتوفى

(من فقرة طويلة،٥١ وهي خاصة بأعداء يريدون أن يغتصبوا منه طعامه ونفسه).
إنه أقوى منهم حينما يظهر على شاطئ نهره. وقلوبهم تسقط بين أصابعه.٥٢ ويأخذ ممن في السماء أحشاءهم وممن في الأرض٥٣ دمهم الأحمر. الفقر وريثهم، والماضي مساكنهم، والنيل المرتفع٥٤ أبوابهم (ولكنه) فرح القلب، هو الواحد الأحد ثور السماء، وقد جعل الذين عملوا له هذا يقرون، وقضى على خلفائهم.

الفرح بالفيضان٥٥

(من فقرة طويلة بعض الطول ومعناها مبهم)؛ يرتعش من يرون النيل في فيضان تام. والحقول تضحك وشاطئا النهر يفيضان وقربان الإله ينزل٥٦ ووجوه القوم مستبشرة، وقلوب الآلهة فرحة.

أناشيد الصباح

كان يرحب بالآلهة في المعابد في الصباح بأنشودة تشتمل — على الأخص — على النداءات التي كانت تكرر دائمًا «استيقظ في سلام» ويتبع تلك النداءات في كل مرة اسم مختلف للإله، وعلى ذلك كان المفروض أن الآلهة كانت تستيقظ كذلك في السماء بهذه الطريقة نفسها بواسطة آلهة أيضًا. وهذا يساعدنا على فهم كنه هذه الأنشودة، وهي الأغنية التي كانت النسوة يوقظن بها الملوك في الصباح في أقدم عهود مصر التاريخية.

ويمكن أن يفرض الإنسان أن ألفاظًا مثل «أنت يا ملك، أنت يا سيد مصر، أنت يا رب القصر» قد حلت محل الأسماء الإلهية في النسخة الأصلية للأنشودة، وكانت تغنيها النساء بهذا الشكل أمام مسكن الإله على وتيرة واحدة وبدون انقطاع ما أسعفتها الذاكرة المغنية بأسماء صالحة.
  • (أ)
    إلى إله الشمس:٥٧ استيقظ بسلام، أنت يا أيها الواحد المطهر،٥٨ في سلام! استيقظ بسلام، أنت يا حور الشرقي، في سلام استيقظ بسلام، أنت يا أيها الروح الشرقي، في سلام! استيقظ بسلام، أنت يا «حور أختي» في سلام! أنت تنام في قارب الغروب، أنت تستيقظ في قارب الصباح، لأنك أنت الذي تشرق على الآلهة، ولا إله يشرق عليك!
  • (ب)
    إلى الصل الظل الملكي:٥٩ استيقظي في سلام! أيتها الملكة العظيمة، استيقظي في سلام، إن استيقاظك ممتلئ بالسلام. استيقظي في سلام! يا أيتها الحية التي على حاجب (الملك الفلاني)، استيقظي في سلام، إن استيقاظك ممتلئ بالسلام. استيقظي في سلام! يا أيتها الحية البحرية، استيقظي في سلام، إن استيقاظك ممتلئ بالسلام. استيقظي في سلام! يا «رننوتث»،٦٠ استيقظي في سلام، إن استيقاظك ممتلئ بالسلام. استيقظي في سلام! يا «وزيت» صاحبة … الفاخر، استيقظي في سلام، إن استيقاظك ممتلئ بالسلام. استيقظي في سلام! أنت يا صاحبة الرأس المنتصبة، وذات الرقبة العريضة،٦١ استيقظي في سلام، إن استيقاظك مفعم بالسلام … إلخ.

(٥) تعاليم «فتاح حتب»

تعد تعاليم «فتاح حتب» أقدم مصدر في أدب العالم صور لنا الخلق المستقيم، والواقع أن حكمة «فتاح حتب» التي جاءت عن تجارب يلخص لنا كثيرًا من الأدب الخلقي لهذا العصر، وكما جاء في مقدمة هذه التعاليم نجد أن الوزير المسن قد شعر بضعف الشيخوخة، وطلب إلى الملك أن يسمح له بتعليم ابنه (ابن الوزير) ليحل محله في وظيفته. ولما قبل الملك ملتمس وزيره أخذ الأخير يحذر ابنه بألا يسيء استعمال الحكمة التي سيلقنه إياها، بل ينتهج سبيل التواضع فقال: «لا تكونن متكبرًا بسبب معرفتك، ولا تثقن بأنك رجل عالم، فشاور الجاهل والعاقل، لأن نهاية العلم لا يمكن الوصول إليها، وليس هناك عالم يسيطر على فنه تمامًا. وإن الكلام الحسن أكثر اختفاء من الحجر الأخضر الكريم، ومع ذلك فإنك تجده مع الإماء اللائي على أحجار الطواحين.»

ثم يأتي بعد ذلك اثنتان وأربعون فقرة في نصائح مختلفة دون أي مجهود من المؤلف في ترتيبها أو تنظيمها، بل كتب كلًّا منها عفوًا حسبما كان يحضر ذهنه من تجارب الحياة ومسئوليتها، وسنكتفي هنا بذكر أهمها.

معاملة الخطيب: «إذا وجدت خطيبًا في زمانه سليم العقل أمهر منك فأثن له ذراعك وأحن له ظهرك. أما إذا تكلم هجرًا فلا تقصرن حينئذ في مقاومته حتى ينادي به الناس: أنت إنسان جاهل.

ولكن إذا كان مماثلًا لك فأظهر بصمتك أنك أحسن منه إذا أخطأ في الكلام، وعندئذ سيمدحه السامعون ولكن اسمك سيعتبر حسنًا بين العظماء.»

أما إذا كان شخصًا حقيرًا ليس ندًّا لك فلا تغضبن عليه لأنك تعلم أنه تعس … احتقره وبذلك يؤنب نفسه. وإنه لقبيح أن يضر الإنسان شخصًا محتقرًا.

إنك تفوز بالحياة بمساعدة الحق والصدق: إذا كنت قائدًا وتصدر الأوامر للجم الغفير فاسع وراء كل كمال حتى لا يكون نقص في طبيعتك. إن الصدق جميل وقيمته خالدة وإنه لم يتزحزح منذ يوم خالقه٦٢ والذي يتحظى نواميسه يعاقب. وهو أمام الضال كالطريق المستقيم. إن الخطأ لم يقد مقترفه إلى الشاطئ. حقيقة أن الشر يكسب الثروة ولكن قوة الصدق في أنه يمكث والرجل المستقيم يقول: إنه متاع والدي.٦٣
أدب السلوك في الضيافة: إذا اتفق أنك كنت من بين الجالسين على مائدة من هو أكبر منك مقامًا فخذ ما يقدم لك حينما يوضع أمامك، ولا تنظرن إلى ما هو موضوع أمامه، بل انظر إلى ما هو موضوع أمامك. ولا تصوبن لحظات كثيرة إليه لأن ذلك مما تشمئز منه النفس إذا أحفظها الإنسان، وانظر بمحياك إلى أسفل إلى أن يحييك، وتلكم فقط بعد أن يرحب بك، واضحك حينما يضحك فإن ذلك يدخل السرور على قلبه، وما تفعله يكون مقبولًا لأن الإنسان لا يعلم ما في القلب.٦٤

والرجل العظيم يتوقف عزمه على إرادة نفسه حينما يجلس أمام الطعام

والرجل العظيم يعطي لمن يجاوره ولكن نفسه تمد يدها من أجله (البعيد)٦٥ والخبز يؤكل بأمر الله …٦٦
كن أمينًا في تبليغ الرسائل: إذا كنت فردًا ممن يوثق بهم وأرسلك رجل عظيم إلى آخر، فاعمل بنصح في الأمر حينما يرسلك، فيجب عليك أن تبلغ الرسالة كما قالها، ولا تكونن كتومًا فيما يمكن أن يقال لك واحذر النسيان. واحرص على الصدق ولا تتخطه حتى لو كنت مخبرًا شيئًا لا يسر. واحذر أن تقبح الكلام، فربما يصير العظيم محتقرًا عند آخر بوساطة إلقاء الكلام كالعامة. «وصيرورة العظيم واحدًا من العامة أمر تكرهه النفس».

إذا حرثت وكان هناك نبات في الحقل، وأعطاك الله الخير العميم فلا تشبعن فمك بجانب أقاربك … (الباقي غير مفهوم).

لا تصغرن من شأن أولئك الذين ارتقوا في الدنيا: إذا كنت رجلًا متواضعًا، وكنت في ركاب رجل ذائع الصيت من الذين على وئام مع الإله (الملك)، فتجاهل ماضي وضاعته، ولا تحقدن عليه، بما تعرفه عنه فيما سلف، واحترمه على حسب مكانته التي أصبح فيها لأن الغني لا يأتي وحده …
خصص لنفسك وقتًا لترويح نفسك: اتبع لبك ما دمت حيًّا (روحك)، ولا تفعلن أكثر مما قيل لك. ولا تنقصن من الوقت الذي تتبع فيه قلبك، لأنه مكروه عند النفس (الكا) إذا انتقص وقتها (ويظهر على الأخص أن تحذيرًا ذكر ضد؟) العناية الزائفة بمنزلك.
معاملة ابنك: إذا كنت محترمًا، وكان لك بيت، وولد لك ابن رضي الله عنه، فإذا عمل صالحًا، ومال إلى طبعك، وسمع تعاليمك، وكانت خططه ذات نتيجة حسنة في بيتك، ومعتنيًا بمالك كما يجب، فابحث له عن كل شيء حسن.

فهو ابنك الذي ولدته لك «كاك» (نفسك) ولا تنفرن قلبك منه.

ولكن إذا عمل سوءًا، وأعرض عن خططك (نصائحك) ولم يعمل حسب تعاليمك، وصارت خططه لا قيمة لها في بيتك، وتحدى كل ما تقوله … عندئذ أقصه لأنه ليس لك، ولم يولد لك …

السلوك في بهو العظماء

إذا وقفت أو قعدت في البهو، فانتظر بهدوء حتى يأتي دورك. وأصغ إلى الخادم الذي يعلن، ومن نودي فله مكان متسع.٦٧ والبهو له نظامه، وكل ترتيب فيه على حسب خيط القياس. وإن الإله هو الذي يعين المكان الأول، ولا يصل الإنسان إلى شيء بالمرفق.
كن حازمًا في حديثك مع الناس.
أعلن عملك بدون خفاء، وتقدم بأفكارك في مجلس سيدك … ويجب على الإنسان أن يقول بوضوح ما يعرفه وما لا يعرفه. (السطر الأخير هكذا): فهو صامت ويقول: «لقد تكلمت».
معاملة أصحاب المظالم: إذا كنت ممن يقدم لهم الشكاوي فكن شفيقًا حينما تسمع كلام المتظلم، ولا تسئ معاملته إلى أن يغسل بطنه.٦٨ وإلى أن يقول ما قد جاء من أجله، وإن المتظلم يحب كثيرًا أن يهز الإنسان رأسه إلى كلامه إلى أن ينتهي مما جاء من أجله … وإن مجلسًا حسنًا يسر القلب.

ولكن من يمثل القسوة نحو المتظلم فإن الناس يقولون: «لأي سبب يفعل هو كذلك؟

التحذير من النساء: إذا أردت أن تحافظ على الصداقة في بيت تدخله سيدًا أو أخًا أو صاحبًا، فاحذر القرب من النساء؛ فإن المكان الذي هن فيه ليس بالحسن.
ومن أجل هذا يذهب ألف إلى الهلاك؛ فإن الرجال يصيرون مجانين بأعضائهن المبهرجة وبعد ذلك تصير مثل «حجر هرست»٦٩ شيئًا تافهًا مثل الحلم، والموت يأتي في النهاية.
التحذير من الشراهة: إذا أردت أن يكون خلقك محمودًا، وأن تحرر نفسك مما هو قبيح، فاحذر الشراهة فإنها مرض مملوء بالداء ولا يشفي. والصداقة معها مستحيلة، فإنها تجعل الصديق العذب مرًّا، وتقصي ذا الثقة من سيده، وتجعل كلًّا من الأب والأم قبيحًا وكذلك الأخوال، وتفصل الزوج من زوجته، وهي حزمة من كل أنواع الشر وحقيبة من كل شيء مرذول. وإن الرجل الذي يتبع طريقة حقة في سلوكه ويسير على الصراط السوي، يعيش طويلًا، ويكسب الغنى بذلك ولكن الشره لا قبر له.٧٠

لا تكونن شرهًا في القسمة، ولا تكونن ملحًّا إلا في حقك، ولا تطعمن في مال أقاربك، فإن التماس المتواضع يجدي أكثر من القوة … فإن القليل الذي اختلس منه يولد العداوة (حتى) عند صاحب الطبع اللين.

فائدة الزواج: إذا كنت رجلًا ذا مكانة، فأسس لنفسك بيتًا، وأحبب زوجتك في البيت كما يجب.٧١ وعليك أن تملأ بطنها وتستر ظهرها، والعطور هي دواء أعضائها. واشرح قلبها إذا عاشت فإنها حقل مثمر لربها.
كن كريمًا مع أصدقائك: أشبع أصدقاءك بما جد لك كإنسان نال الحظوة عند الإله (الملك) ومن الحزم أن تفعل ذلك إذ ليس هناك إنسان يعرف مصيره إذا فكر في الغد. فإذا أصابت المقربين مصيبة فإن الأصدقاء هم الذين لا يفتئون يقولون مرحبًا له … فعليك أن تستبقي ودهم لوقت السخط الذي يهدد الإنسان.
كن حذرًا في الكلام: إذا كنت رجلًا ذا مقام سام يجلس في محفل سيده فوطن عقلك على ما هو حسن. الزم الصمت فإن هذا أحسن من أزهار «تقتطف». وتكلم فقط إذا كنت تعلم بأنك ستحل المعضلات، وإن الذي يتكلم في المحفل لفنان (في الكلام). والكلام أصعب من أي حرفة أخرى.
لا تثقن بالحظ: إذا أصبحت عظيمًا بعد أن كنت صغير القدر، وصرت صاحب ثروة بعد أن كنت محتاجًا في المدينة التي تعرفها (موطنك القديم)، فلا تنسين كيف كانت حالك في الزمن الماضي. لا تثقن بثروتك التي أتت إليك منحة من الإله (الملك) فإنك لست بأحسن من غيرك من أقرانك الذين حدث لهم ذلك (الفقر).
احترام الرؤساء: أحن ظهرك لمن هو أعلى منك (رئيسك في إدارة الملك). وبذلك يبقى بيتك بخيره. ويدفع لك مرتبك في حينه. ومقاومتك من في يده السلطة قبيح. والإنسان يعيش ما دام متساهلًا.
الحزم في المصاحبة: إذا كنت تبحث عن أخلاق من تريد مصاحبته فلا تسألنه، ولكن اقترب منه، وكن معه منفردًا … وامتحن قلبه بالمحادثة فإذا أفشى شيئًا قد رآه، وأتى أمرًا يجعلك تخجل له، فعندئذ احذر حتى في أن تجاوبه … كن صبوح الوجه ما دمت حيًّا.

وسنكتفي بهذا القدر من نصائح «فتاح حتب».

ولدينا نصائح وتعاليم أخرى يرجع عهد كتابتها إلى الدولة القديمة، ولكن النسخ التي وصلتنا محرفة كتبت في عصور متأخرة وأهمها تعاليم «كاجمني»، وتعاليم «دواوف» وسنتكلم عنها في حينها.

(٦) أغاني العمال

أغنية الرعاة: عندما ينتهي الفيضان يسوق الرعاة أغنامهم فوق التربة اللينة لتحرث الحقل بحوافرها الحادة. وفي أثناء اشتغالهم بذلك كانوا يغنون في الدولة القديمة: الراعي في الماء بين الأسماك. ويتحدث إلى البلطي ويرحب بالـ … سمك. أيها الغرب! من أين أتى الراعي، راعي الغرب؟٧٢
أغنية السماكين: أثناء جر الشبكة كانت تغني هذه الأغنية: إنها تأتي وتحضر لنا صيدًا جميلًا!
أغنية حاملي المحفة: كان الرجال الذين يحملون سيدهم في محفته يغنون: خير لنا أن تكوني مملوءة من أن تكوني خالية! أو ما أسعد الذين يحملون المحفة! خير لنا أن تكون مملوءة من أن تكون خالية!

(٧) الأغاني في الولائم

عندما كان أهل المتوفى يولمون وليمة له في قبره كانوا يجهزون أكلة ويعتقدون أنه سيكون حاضرًا معهم، وكانت هذه الوليمة لا ينقصها شيء مما يحتاج إليه في مثل هذه المناسبة فكان فيها الخمر والموسيقى والأزهار والعطور.

وقد حفظ لنا لوح قبر من العهد الإقطاعي بداية إحدى هذه الأغاني التي كانت تطرب الضيفان أثناء هذه الولائم. وقد مثل عليه عواد بدين يغني:

آه يا أيها القبر أقمت للأفراح، لقد أسست لما هو جميل.٧٣ ولدينا أغنية كاملة تلفت النظر كانت تغنى في مثل هذه المناسبات. وهي تصف زوال كل الأشياء الدنيوية لتحث السامعين على التمتع بأكثر ما يمكن مدة حياتهم. والدولة الحديثة التي قد حفظتها لنا٧٤ عرفت أنها مأخوذة من بيت الملك «أنتف»٧٥ أي من قبره، وقد كتبت أمام العواد أيضًا. وتوجد صورة كاملة منها بين أغاني الدولة الحديثة.
ما أسعد هذا الأمير الطيب، والمقدر الجميل قد وقع٧٦ تذهب أجسام وتبقى٧٧ أخرى منذ عهد الذين كانوا من قبلنا. والآلهة٧٨ الذين وجدوا في الزمن الغابر راقدون في أهرامهم، والأشراف قد دفنوا في أهرامهم كذلك. والذين بنوا بيوتًا قد أصبحت مساكنهم كأن لم تكن. فماذا جرى لهم؟
لقد سمعت أحاديث «إمحوتب» و«حارددف»٧٩ اللذين يتحدث بكلماتهما في كل مكان — فما هي مساكنهما (الآن)؟ جدرانها دمرت ومساكنهما لا وجود لها، كأن لم تكن قط.
ولم يأت أحد من هناك ليحدثنا كيف حال من قبلنا ويخبرنا عما يحاجون إليه لتطمئن قلوبنا (؟) قبل أن نذهب نحن كذلك إلى المكان الذي ذهبوا إليه.

كن فرحًا حتى تجعل قلبك ينسى أن القوم سيحتفلون يومًا ما بموتك، فمتع نفسك ما دمت حيًّا، وضع العطر على رأسك، والبس الكتان الجميل، ودلك نفسك بالروائح الذكية المقدسة.

وزد كثيرًا في المسرات التي تملكها ولا تجعلن قلبك يكتئب. اتبع رغباتك وافعل الخير لنفسك (؟) افعل ما تميل إليه على الأرض ولا تغضبن قلبك حتى يأتي يوم نعيك. ومع ذلك فإن صاحب «القلب الساكن»٨٠ لا يسمع عويلهم، وإن الصياح لا ينجي إنسانًا من العالم السفلي.

وفي أسفل كتب هذا «الحداء»

اقض اليوم في سعادة ولا تجهدن نفسك! اصغ، لا يمكن أحد أن يأخذ متاعه معه. اصغ، وليس في قدرة إنسان قد ولى أن يعود ثانية.

هوامش

(١) انظر الجزء الأول ص ٣٩٩ إلخ.
(٢) ثلاثة من أهم الكتب في الأدب القديم. وهي تعاليم للملك «مري كارع» وتعاليم دواوف وشكاوى الفلاح. كتبت في عصر الملوك الذين حكموا مصر الوسطى والدلتا من عاصمتهم هرا كليبوليس. ولا نعلم إلا الشيء اليسير عن هؤلاء الملوك، وهذا ما يجعلنا نظن أنهم لم يلعبوا دورًا هامًّا في ترقية الشعب المصري، ولكن من المحتمل أن الأدب ازدهر في بلاطهم، وهذا رأي «بلاكمان» أيضًا وهو يلفت النظر إلى مستوى الفن العالي في هذا العصر كما يظهر في مقابر «مير».
(٣) من ذلك قصة الملك خوفو والسحرة. وسيلاحظ القارئ سهولة لغتها حتى في الترجمة.
(٤) ولولا أن كتابة الكلمات المصرية مهمل فيها كل الحركات الشكلية لظهر أمامنا الفرق عظيمًا جدًّا كما يجده القارئ الحديث بين اللغة الإيطالية واللاتينية أو اللغة العربية الفصحى واللغة العامية.
(٥) See, e. g, Blackman, Rock Jombs of Meir, II. pl. 12 f.
(٦) كان كتاب الدولة الحديثة يفصلون الجمل بعضها عن بعض بوساطة نقط حمراء، وكانوا يستعملون هذه النقط أيضًا في النصوص النثرية كنقط وقف.
(٧) نجد مثالًا لأناشيد المديح فيما بعد بين الأشعار الدينية في العصر القديم.
(٨) جزء أول ص ٤٠٠ إلخ.
(٩) أنشودة غرام، والشعر الخاص بالمركبة الحربية.
Erman Literatur Der Ægypter P. 348.
(١٠) من فصل ٤٦٧ من متون الأهرام
(١١) وقد سميتها الروح المادية.
(١٢) هذا التشبيه الساذج قد حفظ في متون هرمين غير أنه لم يعجب ذوق الناشر المثقف الذي كان يحضر متون هرم «بيبي» فوضع بدلًا من الجرادة «حور أختي» إله الشمس وبذلك أفسد المعنى، غير أن هذا الوضع كان يتفق مع ذوق الملك المتمدين أكثر من مقارنته بجرادة.
(١٣) فصل ٣٣٥ من متون الأهرام.
(١٤) فصل ٢٦٧ من متون الأهرام.
(١٥) كما أن جسم «أوزير» لم ينقص منه شيء فكذلك كان حال المتوفى.
(١٦) في عصرنا يعمل سلم من خشب، أما في عصر قدماء المصريين فكانوا يبنون منحدرات من اللبن للصعود عليها وذلك لقلة الخشب في مصر.
(١٧) أي أنه يسبح كمجدف في قارب الشمس، وإكرامًا له يخرج «رع» أحد الآلهة من مكانه ليحل المتوفى محله.
(١٨) فصل ٢١٠ من متون الأهرام.
(١٩) اسم آلة القمر «تحوت» الذي كان يفصل في الخصومات بين الآلهة.
(٢٠) شمالي بلاد النوبة، غير أنه من المحتمل هنا أنه يقصد بها مكانًا في السماء. والواقع أن المصريين كانوا يعتقدون أن عالم الآخرة كعالم الدنيا في أسمائه وشكله وصفاته.
(٢١) كان المتوفى يظهر فجأة على هيئة عصفور يطير، وعلى هيئة ابن آوى يتسلل إلى الخارج.
(٢٢) كان المصري الأولي يمقت كل المقت أن يضطر إلى أكل برازه بعد الموت.
(٢٣) الشمس والقمر.
(٢٤) فصل ٢٥٧ من متون الأهرام.
(٢٥) التي تشاهد الشجار.
(٢٦) التاسوع (بسجت بالمصرية القديمة) هو اسم لآلهة الشمس والآلهة الثمانية التي تعد في الأساطير المتفق عليها أنها أولاده وأحفاده وأولاد أحفاده: شو وتفنوت، جب ونوت ثم الأخوان والأختان أوزير وست وإزيس ونقتيس. وزيادة على ذلك كان هناك تاسوع آخر على رأسه حور، فمثلًا نرى فيما بعد — وفيما سلف أيضًا — التاسوع المزدوج أي أن التاسوعين قد ذكرا منضمين إلى بعض.
(٢٧) الذي يتكون منه السماء وما يلي يصف كيف أن المتوفى يقوم بالسياحة اليومية مع الشمس في مجراها.
(٢٨) العالم السفلي أو السماء السفلى.
(٢٩) الآلهة «تحوت» مستشار آلهة الشمس.
(٣٠) الكلمة المصرية «حو» وهي تمثل مظهر القوة الملكية التي تتجلى في الكلمات التي تخرج من فم الملك.
See. A. H. Gardiner, Proceedings of the Socity of Biblical Archaeology, XXXVIII. P. 49.
(٣١) أي الحكمة التي يحتاج إليها للحكم.
(٣٢) فصل ١٧٣–١٧٤ من متون الأهرام. ترجمة:
J.H. Breasted, Development of Religion and Thought in Ancient Egypt, p.p. 127, 129; R. O. Faulkner, Journ. Of Egypt. Archaeology, X p.p. 97, 103.
(٣٣) أي أن العالم بأجمعه في ارتباك بسبب الخوف منه. والأقواس هي جزء من السماء.
(٣٤) لأنه إله أرفع مرتبة منها.
(٣٥) أي الحية التي تسمى الصل وهي شارة الملك التي كان يعتقد فيها أنها تحرق أعداءه.
(٣٦) من المعتقدات المعروفة أن آكلي لحم الإنسان كانوا يعتقدون أنهم بأكلهم لحم أعدائهم يكتسبون قوتهم، أما جزيرة نبسيس فإنها تذكر كثيرًا في الخرافات المصرية.
(٣٧) إله الأرض.
(٣٨) الذين حكمت عليهم المحكمة بالإعدام.
(٣٩) يحتمل أنه الحبل الذي يوقع به فريسته للذبح.
(٤٠) كان له خدمة الذين ذكروا بأسماء غريبة في القطعة التي تلي هذا في متون الأهرام.
(٤١) أي أنهم كانوا يحرقون كبخور.
(٤٢) أي أنها كانت تستخدم وقودًا.
(٤٣) مما يلفت النظر أن البيروقراطية تتدخل حتى في وسط هذه الوحشية المتناهية، فالإله آكل لحم الإنسان يحتاج إلى منحه عهدًا ليعين في وظيفة.
(٤٤) كان للتيجان قوى خارقة للعادة.
(٤٥) المعنى غامض.
(٤٦) متون الأهرام فصل ٥١٨.
(٤٧) يظن أنه الشخص الذي يقدم تقريرًا إلى سيده عن نتيجة المحصول كذلك يحضر إلى أوزير رسالة سارة من إله الأرض «جب».
(٤٨) اسم النهر السماوي.
(٤٩) لا بد أن إلهًا أنشأ هذا المكان للآلهة والمنعمين وقد شبه به المتوفى.
(٥٠) إشارة الفرح أو السرور، وفي مصر الحديثة تخلع النسوة النعال في الأرياف علامة على الاحترام عند المرور بشخص عظيم في قريتهن.
(٥١) فصل ٢٥٤ من متون الأهرام
(٥٢) أي يمزقهم
(٥٣) الطيور والحيوانات المفترسة.
(٥٤) نيل مرتفع يغمرهم بمائه.
(٥٥) فصل ٥٨١ من متون الأهرام.
(٥٦) حتى الآلهة ستحصل على طعام أكثر.
(٥٧) من متون الأهرام فصل ٥٧٣.
(٥٨) الشمس تغسل نفسها عند خروجها من الظلام.
(٥٩) الحية التي توضع في تاج الملك وتعد كآلهة.
(٦٠) آلهة الحصاد.
(٦١) هكذا يصور الصل الملكي.
Erman, Hymnen an das Diadem p. 34.
(٦٢) «رع»الذي جلب الصدق إلى العالم.
(٦٣) يعني أن أحسن شيء ورثني إياه والدي هو أن أنشأني على الصدق.
(٦٤) يجب أن تكون متحفظًا في حضرة الرجل العظيم لأنك لا تعرف طبائعه.
(٦٥) كان الرجل العظيم يقدم عند الأكل ما لذ وطاب لمن هم بجواره، ولكن إذا كانت حالته النفسية حسنة فإنه يمد يده للبعيد.
(٦٦) قد يمنى بذلك الروح المادية وقد ورد في مكان آخر أن الله موجود في الإنسان.
(٦٧) أي أن الإنسان ليس في حاجة إلى أن يندفع إلى الأمام بحالة تتنافى مع الذوق.
(٦٨) إن المشابهة بين إزالة الهموم التي تثقل القلب وبين غسل البطن قد ورد ذكرها كذلك في شكاوى الفلاح.
(٦٩) أي أن أعضاءهن المبهرجة تجذبك غير أنها بعد لذة قصيرة الأمد تظهر باهتة اللون مثل حجر هرست الذي يعتبر في غير هذا المكان علامة العذاب.
(٧٠) أي لا يجد قبرًا يدفن فيه وهذا دليل على الفقر المدقع.
(٧١) وفي رواية أخرى: وخذ لنفسك زوجة تكون سيدة قلبك.
Breasted, Dawn of Conscience, p. 133.
(٧٢) معنى الغرب هنا غامض.
(٧٣) المعنى: إنك لست مكان حزن.
Steindorff, Z. A. S. XXXII. P. 124.
(٧٤) Preserved in Pap. Harris, No. 500, and partly also on a tomb stone of the Eighteenth Dynasty. See W. Max Müller, Die Leibes poesie der aler Ægypter (Leipzig, 1899) p.p. 31 ff.
(٧٥) لا بد أنه أحد إفراد أسرة انتف في نهايتها.
(٧٦) الموت.
(٧٧) على حسب النسخة الحديثة يكون المعنى: تحل محلها.
(٧٨) الملوك القدماء.
(٧٩) من أشهر الحكماء وقد كان أمحوتب يعتبر أنه ابن فتاح أما حارددف فكان يعتبر أنه ابن الملك خوفو.
(٨٠) هو أوزير إله الموتى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤