الفصل الثامن

الشئون الاجتماعية

نظام العمل وقانون العمال في عهد الدولة القديمة

(١) الأعمال الحكومية

يمكن تقسيم العمل في عهد الدولة القديمة إلى ثلاثة أنواع، وهي: الأعمال الحكومية و الأعمال الحرة كالحرف والصناعات، ثم أعمال أصحاب الضياع العظيمة. وسنتكلم عن كل منها حسب ما لدينا من المعلومات.

كانت الأعمال العظيمة التي تتطلب مجهودًا كبيرًا ومصاريف باهظة تقوم بها الحكومة بل أصبحت تحتكرها.

وأهم هذه الأعمال استغلال مناجم النحاس، والذهب. وكانت الحكومة وحدها هي التي تشرف على هذه المناجم وتصريف الأعمال فيها على أكمل وجه، فكانت تجهز طوائف من العمال المختصين تحت إشراف رؤساء عمال ومفتشين، وتعد الأساطيل والقوافل لنقل العمال وما يلزمهم من آلات ومهام. وقد كان لها إدارة خاصة لتزويد العمال، وحامية من الجنود لحماية الطرق والمناجم من هجمات القبائل التي كانت تغير على بقاع المناجم في الصحراء.

وكذلك كانت الحكومة منفردة باستغلال المحاجر التي كانت تستوجب بطبيعة الحال انخراط عدد عظيم من الأيدي العاملة فيها، واستعمال مهمات عظيمة من كل الأنواع. وذلك لأنها كما نعلم كانت الأساس الأول لإقامة المباني الضخمة التي بدأت تظهر بشكل جلي في عهد الملك «زوسر»، فأقيمت الأهرام الملكية ومقابر المقربين، ومعابد الآلهة، ومعابد الشمس مما كان يستلزم استخراج الأحجار من كل الأنواع، ويتعذر على عظماء البلاد القيام به.

وتدل كل النقوش من أقدم العهود والتواريخ الملكية وكل الوثائق المكتوبة على أن الملك كان المحتكر لاستخراج المعادن والأحجار.

وقد كان لإقامة المباني بالأحجار شأن عظيم منذ بداية الأسرة الثالثة، ولا أدل على ذلك من أن المهندس المعماري الملكي (مدح نيسوت) كانت له أهمية ممتازة في إدارة البلاد، فقد كان «إمحوتب» مستشار الملك «زوسر» يحمل لقب مهندس معماري١ ملكي وكذلك كان كل المهندسين المعماريين الملكيين الذين خلفوا «إمحوتب» من كبار الشخصيات، ففي عهد الأسرة الثالثة نجد «نزم عنخ»، وكان يحمل لقب نائب الملك في «نخن»،٢ «وحسي» ويحمل لقب (أحد أعضاء مجلس العشرة العظيم)،٣ وفي عهد الأسرة الرابعة كان يحمل هذا اللقب «حميون» وهو أحد أحفاد الملك،٤ وفي عهد الأسرة الخامسة حمل نفس اللقب «سنزم إيب» وكان في الوقت نفسه وزيرًا.٥
وهذا المهندس المعماري كان رئيسًا لجيش من قاطعي الأحجار والمعماريين والحفارين والمثالين، وكان كل ذلك يحتاج إلى إدارة تستوجب وجود عدد عظيم من الكتبة وإدارة منظمة ذات أقلام ومصالح،٦ ولا أدل على ذلك من الألقاب التي يحملها الموظفون أو الكاتب المعماري الملكي والمشرف على الوثائق. ونجد البنائين خاضعين لأوامر مديرين (إمراكدو) عليهم ويساعدهم في ذلك رؤساء بنائين (سحز كدو)،٧ وقد ترك لنا الذين أقاموا المباني العظيمة في عهد الأسرتين الرابعة والخامسة علامات تدل على قطع الأحجار في طرة، وتكشف لنا بعض الشيء عن نظام العمل في عهد «خفرع»٨ ومنكاورع وسحورع ونوسرع. وقد كان العمال يقسمون إلى فرق «عبرو» ثم إلى مر (سا) وقد كانت القطع التي تفصل من الصخر تحمل طابع المعمل الذي قطعها في المحجر.٩
وقد عثر في منطقة الأهرام نفسها على مساكن للعمال الذين كانوا يقومون بالبناء. وهي قاعات ضيقة طويلة، أو بعبارة أخرى دهاليز يبلغ عددها نحو المائة كل منها يأوي نحو خمسين عاملًا.١٠

ومن ذلك يتضح أن الأعمال في مشاريع الحكومة كانت منظمة على طريقة حربية، والواقع أن لفظة «عبرو» ولفظة «سا» من الكلمات الحربية.

وقد ذكر لنا «هردوت» أن بناء هرم «خوفو» استلزم جيوشًا من عمال المحاجر لقطع الأحجار من جبال صحراء العرب، ثم جرها إلى النيل، ووضعها في سفن لعبور النهر، ثم نقلها إلى قمة هضبة الجيزة. وفي هذه الجهة كان يشتغل ١٠٠٫٠٠٠ عامل يعملون بالتناوب كل ثلاثة أشهر وقد استمر العمل عدة أعوام في بناء الطريق المأتمي من معبد الوادي إلى الجنازي وعشرين سنة لبناء الهرم نفسه.١١

ويظن المؤرخ الإغريقي أن هذا البناء الضخم قام على أساس الاستبداد الفرعوني وأثرة «خوفو» التي بلغت مبلغًا عظيمًا. والقسوة المنقطعة النظير التي استعملها الفراعنة في استعباد الشعب لإقامة مدفن لهم هائل.

والواقع أنه إذا كانت المقابر العظيمة التي أقامها الفراعنة تمثل المجهودات التي بذلتها آلاف النفوس البشرية، وإذا كان كل ملك أعاد هذا المجهود الجبار، وإذا كنا لم نر أية معارضة ملموسة للآلام التي لا حد لها التي قاساها العمال، فإن ذلك برهان كاف على أن الأهرام ليست بأية حال من الأحوال رمزًا للعبودية «والقسوة» بل رمزًا للطاعة الإلهية، يعمله الفرد وهو يشعر بأنه يؤدي واجبًا مقدسًا لإلهه الفرعون على الأرض.١٢

ويجب هنا ألا نحكم بأفكارنا الحالية إذ الواقع أن بناء هرم أو معبد للشمس عمل من أعمال الحكومة، ومشروع من المشروعات الأصلية الهامة في حياة الدولة. ولأجل أن نفهم كنه هذا العمل لا بد أن نعرف معتقدات القوم الدينية في العهد المنفي، وكذلك مهارتهم في البناء واعتقادهم في طبيعة الفرعون الإلهية ومقدار مهارتهم في تنظيم العمل.

والواقع أن صبغة الفرعون الاستبدادية كانت مؤسسة على طبيعته الإلهية، وقد برزت هذه الظاهرة في قوته السياسية والإدارية، وذلك أن الأسرات الأوزيرية وديانة عين شمس كانتا الأساس الذي ينبني عليه معتقدات القوم، ومنهما نشأت نسبة الملك إلى أصل إلهي وأبديته حسب عمله الدنيوي، فلم يكتف الملك بأن تكون له شعائر دينية تقام له في مدة حياته، بل كان يعمل كذلك لحفظ جثمانه المادي بإقامة مقبرة على غرار الآلهة، فكان الفرعون يعتقد أن جسمه الذي لا يبلى سيبقى ساهرًا على أقدار مصر من أعماق هرمه، فكانت إقامة شعائره لا تنقطع وكانت تحبس الأوقاف لتكون ضمانًا أبديًّا لاستمرار تقديم القربان له.

المصانع الحكومية

وخلافًا للمناجم والمحاجر الحكومية كان للملك عدة مصانع تصنع فيها محاصيل الضياع، والضرائب التي كانت تورد خامات، فمنذ العصر الطيني نرى على الآثار أن الذهب والنحاس كانا يصنعان بوساطة صياغ يعملون برقابة رؤساء قد ذكرت وظائفهم على جدران كثير من المقابر، مثال ذلك رئيس صياغ البيت الملكي «خرب نبو برعا» وقد عثر على هذا اللقب في مقابر الملوك «دن»، و«مربابن»، و«قع»، و«حتب سخموي» و«نبرع».١٣
وقد كان هؤلاء الصياغ والجوهريون يصنعون مجوهرات الأسرة المالكة وكذلك يصنعون عدة أشياء من الكماليات، كان يقدمها الفرعون إلى المقربين له ورجال قصره. هذا إلى أنواع النبيذ المختارة، والمنسوجات الكتانية الدقيقة، وورق المحفوظات والأثات المرصع والمطعم، وأنواع الزيوت والعطور، والأواني الفاخرة المصنوعة من الأحجار الصلبة الجميلة، والأواني الخزفية المطلية، كل هذه الأشياء وغيرها كانت تخرجها الأيدي الماهرة التي كانت تعمل في المصانع الملكية. وتدلنا الألقاب التي نجدها على مختلف الآثار على وجود نظام وإدارة مرتبة لحسن سير هذه الأعمال. مثال ذلك أننا نجد من الأسر الأولى ألقابًا هامة كرئيس إدارة العمال «خرب حمت إس»١٤ ورئيس الخبازين، «خرب رتح» ورئيس صناع الحلوى «خرب بنر» ومدير مصنع الطحن١٥ «إمرا بر إنز» ومدير صناع احتفال١٦ الملك ومدير المرطبات،١٧ والمشرف على الفطور «إرى خت إن سنتي»،١٨ وكبير صياغ القصر «إمي خت أموني برعا».١٩

قانون العمال الملكيين

تدل النقوش على أنه كان للعمال نظام غاية في الدقة قائم في البلاد منذ فجر التاريخ، ولدينا من الألقاب ما يشعر بقيام هذا النظام، وأن هؤلاء العمال كانت تدون أسماؤهم في سجلات خاصة، فقد ذكر لنا «بترى» أنه كان للعمال المدونة أسماؤهم مراقب خاص.٢٠
وقد كان هؤلاء العمال مقسمين إلى فرق صغيرة، أو جماعات كبيرة، أو هيئات صناعية، والظاهر أن أسرى الحرب كانوا يخصصون لأشق الأعمال في المناجم أو في ضياع الحكومة أو المصانع الملكية. وهؤلاء بلا نزاع لم يكن لهم أية حقوق بل كان سيدهم له الحق في التصرف فيهم كيف شاء ويقومون له بأي عمل يريده، على أنهم في مقابل ذلك لا يأخذون إلا ما يسد رمقهم. وعلى أية حال فإن ما قام به أسرى الحروب من الأعمال لم يكن إلا ثانويًّا. وعند الحاجة كان يطلب الجنود للأعمال الهامة وبخاصة إذا علمنا أن الحروب في هذه الأوقات كانت قليلة، ولذلك كانت تستخدم الجنود في الأعمال الحكومية، وقد ذكرنا فيما سبق أن الجنود كانوا يرافقون البعوث التي كانت ترسل إلى مناجم سيناء. وقد عثرنا على بردية من عهد الأسرة السادسة علمنا منها أن الجنود كانوا يشتغلون في قطع الأحجار من طرة.٢١

ورغم كل ذلك فإنه لم يكن في استطاعة الجيش والأسرى العبيد أن يكونوا النواة الحقيقية لطائفة الصناع الذين كانوا يشتغلون في المصانع والمعامل الحكومية، وبخاصة في الأعمال التي كانت تحتاج إلى مران ومهارة فنية، ولا بد إذن من أن نبحث عن هؤلاء الصناع والعمال في الطبقة التي تعلمت الحرف والصناعات الدقيقة وكانوا يقومون بهذه الأعمال سخرة، لأنهم كانوا عبيدًا تابعين لأعاظم القوم، أو بأجر لأنهم كانوا أحرارًا يشتغلون بعقود تكتب بينهم وبين صاحب العمل. وربما كان الرأي الأخير هو الذي يمكننا أن نسلم به، وبخاصة إذا علمنا أن في مراسيم دهشور وقفط ما يوجب على الأهالي تأدية التزامين للحكومة وهما الضرائب وأعمال السخرة.

والواقع أن حياة البلاد الزراعية كانت تتطلب تنظيم المياه والجسور وكذلك كان على الفلاحين أن يدخلوا المحاصيل في مخازن الحكومة، فكانت كل هذه الأعمال تسخر فيها السكان. على أننا من جهة أخرى لم تصادفنا أية وثيقة للآن فيها أن أي عمل صناعي كان مفروضًا على صناع معمل ما. هذا إلى أن نظام التأجير لم يدخل في هذا الباب، وذلك فضلًا عن أنه ليس لدينا أية إشارة تنبئ بذلك، ولكنه من الصعب أن يتصور الإنسان أن العامل يرضى بأن يكون (تمليا) كالفلاح الذي كان منذ الأسرة الثالثة بل وقبلها يتمتع بالحرية الشخصية، فكان في قدرته أن يتعاقد مع التاج أو مع أصحاب الضياع لاستثمار الأراضي. والواقع أن المدن كانت تحوي بين جدرانها طبقة من العمال اليدويين لهم حقوقهم الخاصة، وكان يجند من بينهم العمال الملكيون. ولدينا ثلاث وثائق تثبت أن هذه الطبقة من العمال كان أفرادها أحرارًا وليسوا عبيدًا: الوثيقة الأولى يرجع عهدها إلى عهد الملك «خفرع» وهي عقد بيع عقار يظهر فيه أن شخصًا يدعى «محي» وصناعته عامل في الجبانة، كان من حقه أن يوقع شاهدًا مع كهنته على عقد البيع.٢٢
مما يدل على أنه كان متمتعًا بكل حقوقه المدنية. وحوالي هذه الفترة أمر الملك «منكاورع» بناء قبر للمقرب «دبحن» وقد خصص لهذا العمل خمسين رجلًا وأمر جلالته بألا يسخر واحد منهم بل يشتغل فيه برضائه. أما الوثيقة الثالثة فيرجع عهدها إلى عصر الملك «نوسررع»، وهي وصية العظيم «وب إم نفرت» رئيس القصر الملكي لابنه الأكبر «إبى» ليشرف على وقف مقبرته. وقد جاء في ذيل هذه الوصية رسم خمسة عشرة شاهدًا كل باسمه وصناعته، فنجد من بينهم رئيس البنائين، والصانع، والحفار والنقاش.٢٣
وهذا مما يدل دلالة واضحة على أن أصحاب الحرف والصناعات كانوا طوائف أحرارًا ليسوا تابعين لفرد معين ولا للحكومة. على أن هناك من علماء الآثار من يعتقد بأن سكان الضياع الملكية كانوا يقدمون للمصانع الملكية أصحاب الحرف الذين كانوا يعملون في هذه المصانع، هذا فضلًا عن الأيدي التي كانت تشتغل في الزراعة. وهذا لا يتفق مع الواقع كما ذكرنا.٢٤ والحقيقة أن أصحاب الحرف كانوا شرعًا رجالًا أحرارًا وكان في مقدورهم أن يتعاقدوا مع أي رئيس عمل، أي يعملون لحسابهم الخاص مستقلين. والنقوش التي تظهر لنا كل يوم من جوف أرض مصر تؤكد لنا هذه النظرية؛ ففي مقبرة «رمنوكا» كاهن الملك «منكاورع» تقول لنا النقوش: لقد أقمت هذا القبر مقابل الخبز والجعة التي أعطيتها كل الصناع الذين أقاموا هذا القبر. تأمل حقًّا لقد أعطيتهم أجورًا عالية من الكتان الذي طلبوه وشكروا الله على ذلك.٢٥
وفي عهد الملك «نوسررع» نجد في نقوش «أخت حرى ختب» أحد رجال القضاء وكاهن معبد الملك ما يثبت ما ذكرناه، إذ يقول على نقوش قبره: إن كل الذين عملوا في مقبرته صنعوا ذلك في مقابل الخبز والجعة والمنسوجات والزيوت والجبن بكمية عظيمة.٢٦
وكذلك ترك لنا «إنتي» أمير المقاطعة في دشاشة نقوشًا قال فيها: إن كل رجل عمل في هذا «القبر» لي لم يكن غير راض، أما من جهة العمال وفعلة الجبانة فإني قد أرضيتهم.٢٧
لا يفوتنا أن نذكر هنا ما قاله الكاهن الملكي في مقبرته بالجيزة: «لقد جعلت المثال ينحت هذا التمثال، على شرط أني جعلته مرتاحًا للأجر الذي أعطيته مقابل عمله.»٢٨

وفي هذا برهان واضح على أن الأغنياء كانوا يكلفون أصحاب الحرف بالقيام لهم بأعمال خاصة يؤجرونهم عليها، على أن نفس دفاع صاحب العمل عن نفسه سواء أكان بحق أم بغير حق، بأنه لم يسخر أحدًا للقيام له بعمل، فيه ما يشعر بكل وضوح بأن العامل كان له حقوق من جهة عمله يتمتع بها وتحفظه من ظلم ينزل به.

ومما يؤسف له جد الأسف أنه لم تصل إلينا وثيقة حتى الآن نفهم منها أن أحد الصناع كان له مصنع خاص يعمل لحسابه، ولا نزاع في أن مثل هؤلاء كانوا موجودين في المدن العظيمة، ولكن لم يصلنا شيء عنهم، وربما كان أهم سبب لذلك أنهم لم يكونوا من طبقة (المقربين) فيمنحون مقابر وينقشون عليها كل مفاخرهم وأعمالهم بل كانوا يدفنون في مقابر حقيرة، وهكذا توارت عنا صفحة مجيدة عن حياة القوم الاجتماعية من طبقة أصحاب الحرف والصنائع في عهد الدولة القديمة. ومع ذلك فإن ذلك لا يمنعنا من أن نعتقد أن أصحاب الحرف كانوا يعملون لحسابهم الخاص ما دمنا قد وصلنا إلى أنهم كانوا رجالًا أحرارًا يتمتعون بحقوقهم، اللهم إلا إذا فرضنا أن الحكومة كانت تحتكر كل هذه الأعمال، ولكن ليس لدينا من الأدلة ما يعزز هذا الفرض، يضاف إلى ذلك أن مدن عصر ما قبل الأسرات في الوجه البحري كانت مدنًا حرة تجارية، وكان يطلق على سكانها اسم «رخيت» (سكان المدن) ويحكم كلًّا منها جماعةٌ من العظماء عددهم عشرة، وقد كان الملك يقوم بإخضاع ثوراتهم من حين إلى آخر. وليس لدينا من الوثائق ما يشير إلى أن مدن الدلتا الصناعية كانت في يوم من الأيام محرومة حقوقها الاقتصادية، بل على العكس نقرأ في معبد الشمس للملك «سحورع» أن أحد الآلهة يقول للملك: لقد جمعت لك قلوب «الرخيت» (سكان المدن).٢٩
وكذلك نرى في متون الأهرام أن «بيبي الثاني» يقول إنه «أرضى الرخيت».٣٠
والظاهر كما ذكرنا أن تقدير قيمة الضرائب بالذهب كان منتشرًا في عهد الدولة القديمة، إذ نرى في تاريخ حجر بلرم أن قيد الحسابات الموسمية كان يعمل على أساس الذهب ومنتجات الحقول منذ العصر الطيني، وهذا الإجراء كان بلا نزاع موجودًا بوجه خاص في المدن، ولم يكن قاصرًا على الموظفين بل كان يجبى على أكثر الإنتاج الصناعي والتجاري في البلاد الصناعية والتجارية. ويقول «إدوارد مير» عند كلامه على العهد الطيني: إن هذا النظام كان يوجد في المدن التي فيها صناع وتجار أحرار وهم الذين كانت ثروتهم خاضعة لجباية الضرائب بالدفع ذهبًا.٣١
وقد جاء في تعاليم «فتاح حتب» ما يأتي: كان الفقير والغني في المدن على قدم المساواة في الحقوق، فإن الفقير كان في إمكانه أن يصبح غنيًّا بنفسه، ولا يمكن أن ينسب ذلك طبعًا إلى أعمال الفلاحة.٣٢

ومن كل هذه المعلومات المختلفة يمكننا أن نستنتج أنه كان يوجد في البلاد طبقة من صغار العمال والصناع الأحرار يشتغلون للحكومة، وللمعابد ولكبار الملاك، وكذلك كان يوجد معهم رؤساء صناع وحرف، يعملون بكل حرية واستقلال في مصانعهم الخاصة وحوانيتهم ومعاملهم في المدن، ويعزز هذا الرأي أنه في عهد الأسرتين الثالثة والرابعة كانت الملكيات الصغيرة ونظام الفردية منتشرين في البلاد، ولم تكن طبقة الأشراف التي ابتلعت ثروة البلاد واستحوذت عليها قد تم تكوينها.

ومنذ بداية الأسرة الخامسة أخذ ينتشر في البلاد نظام اقتصادي جديد، وأعني بذلك صناعات الضياع التي نشأت في البلاد. وقد كان سبب ظهور هذا النظام تكوين طبقة كبيرة في البلاد تسيطر على ضياع شاسعة في مختلف الجهات. وقد تكلمنا فيما سبق عن كيفية ظهور طبقة الأشراف الممولين في البلاد، ففي العصر الذي كانت فيه تقسم الأملاك العقارية بدون انقطاع وتنتقل من يد لأخرى بسرعة بالبيع أو بالقسمة، أو بتنفيذ وصية، لم يكن هناك مجال لوجود صناعات ريفية ذات أهمية، فلم يكن للصناعات نصيب خارج المدن التي نشأت وترعرعت فيها لأن سكانها يشترون معظم منتجاتها. على أن نفس الحالة لم تتغير منذ أخذ نظام الأسرة يتغير وأصبح عقارها متجمعًا في يد الابن الأكبر بصفته المشرف العام على أفراد الأسرة كلها. وقد أصبح كل مالك في ضيعته سيدًا مطلق التصرف، وقد كان حوله أقاربه وأصدقاؤه ومحاسيبه، وكتابه، وخدامه وزراعه، وهؤلاء جميعًا بدءوا يفقدون شيئًا من حريتهم. حقًّا أن ما تنتجه الضياع كان يغذي هذا المجتمع، ولكن من جهة أخرى كان لا بد من وجود أيد عاملة باستمرار مكلفة بصناعة المواد الأولية التي كانت حتى هذا الوقت تقوم بصناعتها على وجه عام مصانع المدن. وقد بدأ منذ ذلك العهد الجديد يلتف الصناع تدريجًا حول قصور العظماء أصحاب الضياع، في المصانع التي كانوا يقيمونها لهم. ولذلك نجد علية القوم يصورون على مقابرهم مناظر هذه الحرف كل على حسب قدرته وثروته، فنجد فيها الصياغ والمثالين والجوهريين والنحاسين، وصناع الأبوس، والنجارين، والدباغين، وصناع الأحذية، والنساجين، وصناع الفخار، والجعة والخبازين، والصاقلين، وصناعًا آخرين من كل أنواع الحرف، وكل هؤلاء قد استوطنوا هذه الضياع الشاسعة الغنية.

فبدلًا من عمل عقود مع هؤلاء الصناع للقيام بإتمام العمل يظهر أنهم كانوا يأخذون مرتبًا طوال مدة حياتهم، وتدل النقوش على أن كل صناعة كان يرثها الابن عن الأب، وبذلك تكونت في البلاد طائفة صناعية وراثية يظهر أنه كان لها حقوق شرعية تحدد بعقد مدى الحياة وكان يجدد باستمرار. وقد كان صاحبه يعتبر كأنه شبه (تملي) في الضيعة ومن بعده يخلفه ابنه. وقد نتج عن ذلك تطور يشبه التطور الذي ربط قانون الفلاح الذي يشتغل في أراضي الضيعة، وهذا القانون جعل كل فلاح خاضعًا للتشريع الخاص الذي يسنه صاحب الملك، وبذلك خرجت طائفة العمال من النظام القديم الخاص بالحقوق العامة مما أرخى العنان للموجة التي كانت ترتفع نحو عصر الإقطاع ونظامه.

وهذا النظام الصناعي قد تجلى لنا بأكمل مظاهره في مصاطب الأسرتين الخامسة والسادسة. ولا غرابة في ذلك فإن كل معلوماتنا عن الحرف والصناعات في عهد الدولة القديمة قد استخلصت من المناظر التي عثر عليها في مقابر الجيزة وسقارة وغيرها في هذا العصر، إذ نرى في كثير من هذه المصاطب صاحب الضيعة واقفًا أو جالسًا وهو يشرف على كل ما يدور في ضيعته من مختلف الأعمال الزراعية والتجارية والصناعية، ويدل الدرس الدقيق لهذه المناظر والنقوش في مقابر الدولة القديمة والدولة الوسطى على أن المتوفى كان يأمل في أن يحتفظ في حياته الآخرة بما كان يملكه في دنياه، ولذلك كان ينقش أسماء زوجته وأولاده وألقابهم كما كان ينقش بالضبط اسمه وألقابه هو، وكذلك كانت الحال مع أهم موظفي بيته …

هذا إلى أن الفلاحين الذين كانوا رمز الضيعة كان يكتب اسم كل منهم، وليس هناك ما يحملنا على الظن بأن هذه الأسماء كانت خيالية، ولذلك لا نكون مغالين إذا قلنا إن ما رسمه المتوفى في قبره كان يمثل الواقع مدة حياته، ولذلك كان يريد أن ينقل معه كل شيء إلى الآخرة، فكان يرسم معه نفس خدام الحياة الدنيا دون زيادة واحد أو نقصان آخر، وكذلك كانت ثروته تحدد حسب ما كان له في الحياة الدنيا.٣٣

على أن حالة الصانع في هذا العصر لم تنحط عما كانت عليه من قبل، بل كانت أعماله تدون في دفاتر منظمة ويأخذ أجرًا محددًا في مقابل إنجازها، ولكن على وجه عام كان حظه محددًا في أن يشتغل بالوراثة الابن بعد الأب لمالك الضيعة صاحب السلطان والنفوذ. وقد كان حظه مرتبطًا بحظ الضيعة التي يعمل فيها. ولما كان العامل مقيدًا مع صاحب الضيعة بشرط وراثي كان عليه أن يطيعه وينتقل معه إذا افتضت الأحوال الإدارية ذلك.

(٢) طرق المواصلات

طبيعة وادي النيل تحتم أن تكون الحركة العامة للمواصلات بوساطة نهر النيل صعودًا وهبوطًا لحمل الإنسان والبضائع. والواقع أن النيل كان في الأزمان القديمة أحسن وسيلة للمواصلات، لأنه كان في متناول كل إنسان في كل وقت، ولذلك كانت تغطي مياهه طوال العام القوارب العدة والسفن المشحونة التي كانت تقل البضائع والحيوان والمحاصيل ومواد المباني والصناعات، هذا في الوجه القبلي، أما في الوجه البحري فكان النهر مقسمًا إلى أفرع وترع مزدحمة تحفها المستنقعات، يضاف إلى ذلك أن الإقليم الساحلي كان يحتوي على بحيرات وبرك، وفي هذه الحالة كانت الملاحة تسهل التجارة وتجبر الأهالي على استعمالها. على أن تنظيم طريق للمواصلات في هذا العصر كان يعد مجهودًا ضائعًا في بلاد تغطى بالفيضان معظم السنة، ولذلك يقول «هردوت»:٣٤

«عندما يفيض النيل على البلاد لا تظهر إلا المدن فقط من وسط الماء، ويكون مثلها كمثل الجزر الصغيرة في بحر «إيجة» وباقي مصر يصير بحرًا، وعندما يحدث ذلك فإن القوارب لا تمشي في مجرى النهر الطبيعي بل تسير في طول السهل وعرضه، فالمسافر من نوكراتيس متجهًا نحو منف يمر بالضبط بالقرب من الأهرام.»

أما في انتقالات الأهلين اليومية والذهاب إلى الأسواق فكان الراجلة وراكبو الحمير يستعملون الجسور التي تربط بين القرى والبلاد، وكان الحمار يلعب دورًا هامًّا في المواصلات وذلك لأن الحصان والجمل لم يتسعملا إلا فيما بعد، وكان الحمار هو دابة الحمل العادية لصبره وتحمله وشجاعته، وقد استعمل منذ أقدم العصور في القوافل والبعوث التي كان يرسلها الملوك إلى الجهات النائية. وكذلك كانت تستعمل الثيران لجر الأحمال الثقيلة وبخاصة الأحجار الضخمة التي كانت تحمل على جرارات. على أن المصري نفسه كان يستعمل للقيام بهذه العملية، ولدينا مناظر نشاهد فيها صاحب الضيعة محمولًا في محفة على الأعناق متجولًا في حقوله.٣٥
ولكن على العموم كانت الطرق النيلية هي أهم وسيلة في التجارة المصرية، حتى إن القوم أصبحوا يعبرون عن سياحاتهم في النهر شمالًا وجنوبًا بالنزول من النيل والصعود فيه. وقد تغلب هذا التعبير حتى أصبح يستعمل للطرق البرية.٣٦
وقد كان للملاحة أثر فعال في معتقدات القوم الدينية وفي شعائرهم.٣٧

فكان في نظرهم الإله «رع» يسير في الفجر في سفينة الصباح وعند الغروب يسبح في سفينة الليل، أما النجوم فكانت تسبح في قواربها الخاصة، وكان للموتى قوارب لخدمتهم، وكانت توضع نماذج منها في مقابرهم.

وهذه القوارب كما يقول «جوتيه» كانت تستعمل منذ الاحتفال بالجناز لنقل رفات المتوفين في توابيتهم وكذلك لنقل تماثيلهم وأقاربهم وأصدقائهم وخدمهم والكهنة والبكائين، والطعام اللازم للولائم الجنازية، والصناديق التي تحتوي على الأثاث المأتمي الذي كان لا بد منه لضمان بقاء المتوفى في عالم الآخرة، ولحمل الموسيقيين والمغنين والرقاصين الذين كانت مهمتهم إدخال السرور على أقارب المتوفى الذين كانوا يشاركونه آخر وجبة.٣٨
والواقع أن أقدم الآثار تدل على أن النيل كان له تأثير أدبي ومادي في الحياة المصرية، وسنرى فيما يلي أن المصري من العصور القديمة جدًّا كان بحارًا ماهرًا مجدًا. وقد ذكر لنا «شارل بوريه» في كتابه عن الملاحة المصرية «أن الملاحة لعبت في مصر في كل عصور التاريخ دورًا هامًّا جدًّا، حتى إن عددًا عظيمًا من المسائل السياسية والاجتماعية والدينية التي كان تظهر كل لحظة حسن سير الإدارة في هذه البلاد الغريبة التي خلقها نهر النيل، كانت لا بد يتوقف فلاحها من قرب أو من بعد على القارب والسفينة.»٣٩

طرق النقل بالقوارب وصناعتها

منذ عصر ما قبل التاريخ كان المصري يصنع زوارقه بطريقة ساذجة، وذلك بربط حزم من سيقان البردي ببعضها، وكان يصنع نماذج طين من هذه الزوارق في المقابر حتى يتمكن المتوفى من أن يسبح بها في عالم الآخرة حسب اعتقاده، كما كان يعمل في مدة حياته في مياه المستنقعات.٤٠ وهذه الزوارق الخفيفة كانت شائعة الاستعمال في عهد الدولة القديمة. وقد كانت صغيرة الحجم لا تسع أكثر من شخصين، وقد عثر على أشكال زوارق أخرى أدق صنعًا يحمل الواحد منها ثورًا.٤١ وهذه الزوارق كانت تسير بالمدرة والمجداف، وكانت صالحة للنقل في المياه الهادئة، إذ كان يستعملها صيادو الطيور في المستنقعات، وصيادو الأسماك، وكذلك لنقل الأبقار يوميًّا.٤٢
أما في مياه النيل التي غالبًا ما تكون سريعة وشديدة الأمواج فإن هذه الزوارق البردية كانت لا تستعمل إلا نادرًا. وكذلك لم تستعمل لنقل المسافرين، أو الحيوان، أو البضائع الثقيلة الوزن، إذ كان يلزم لذلك سفن من الخشب الصلب، ونحن نعلم أنه منذ عصر ما قبل الأسرات كانت تصنع في مصر مثل هذه السفن، ولا أدل على ذلك من الرسوم التي وجدناها مع الأواني الفخارية التي يرجع عهدها إلى عصر نقادة،٤٣ على أننا نصادف أحيانًا في مقابر عهد الدولة القديمة مصانع للسفن تعمل بكل نشاط، فنشاهد مثلًا على الجدران عددًا لا بأس به من النجارين يشتغلون حول قفص السفينة الذي قد تم بناء جانبيه، وكذلك نرى تجميع الألواح، ونشاهد الثقوب التي نقرت لتلبس فيها القطع الثانوية، وكذلك تنسيق حواف السفينة ومؤخرتها ليركب فيها المجاديف والسكان. والواقع أن ألواح قفص السفينة لم تكن مثبتة على هيكل بل كانت موضوعة بعضها فوق بعض كلبن الجدران ثم تضم على هيئة عاشق ومعشوق.٤٤ وقد كانت السفن المصرية في عهد «هردوت» تصنع من الخشب المصري فيقول: «كانت سفن نقلهم تصنع من خشب السنط المصري الذي كان يشبه الجلجان السيريني (برقة الحالية)، الذي يستخرج منه الصمغ، فكان يقطع السنط ألواحًا يبلغ طول الواحد منها ذراعين ويصفها كما يصف اللبن. وها هي الكيفية التي كانت تركب بها السفن: توضع عوارض طويلة متقاربة ويركب فيها ألواح طول الواحد منها ذراعان، وبعد أن يتم صنع قفص السفينة بهذه الكيفية كانت تربط حافتا السفينة بلوح يركب فوق العوارض. وكانوا لا يسندون جانبي السفينة بقطعة خشب ذات فرعين، بل كانوا يقلفطون بمتانة اللحمات التي في داخل السفينة بالبردي. وكانوا يصنعون دفة واحدة تثبت في سهم قاعدة السفينة. أما السارية فكانت تصنع من خشب السنط والشراع من البردي. وهذه السفن كان عددها عظيمًا وبعضها كان يزن ما حمولته آلافًا من التلنت (نصف قنطار).»٤٥
ونشاهد في مقبرة «تي» القارب الذي قد تم صنعه يسير على النيل فيرى الشراع منتشرًا ومعلقًا في عارضة السارية كأنه قب الميزان. ونشاهد كذلك جماعة المجدفين في وضع منتظم، وكان لا بد من ثلاثة رجال على الأقل في مؤخرة السفينة لإدارة السكان.٤٦ والسفن النيلية التي كانت تصنع بهذه الكيفية كان في مقدورها أن تحمل شحنة عظيمة وتسير في مياه أمواجها هائجة، وقد ذكر لنا «وني» في تاريخ حياته أنه أحضر مائدة قربان ضخمة محمولة على سفينة مصنوعة من خشب السنط طولها ٦٠ ذراعًا وعرضها ٣٠ ذراعًا وقد تم صنعها في سبعة عشر يومًا فقط (انظر ص ٣٧٩ جزء أول) ولا شك في أن هذا يعد مثلًا رائعًا في سرعة بناء السفن، وليس لدينا أي مجال للريبة في ذلك عندما نفحص تركيب السفن النيلية الجميلة الممثلة في مناظر مقابر الدولة القديمة.٤٧ وهذه الشواهد تدل، رغم فقر مصر في الأخشاب، على أن المصريين لم يكونوا قط في حاجة لخشب البلاد الأجنبية ليقوموا بأعمال الملاحة، وإن كان إحضار الأخشاب السورية يسمح لهم بتنمية بناء السفن ويسهل لهم تجهيز أساطيل عظيمة للقيام بتجارة بحرية خارج بلادهم في عرض البحار.

الملاحة

تدل النقوش حتى الآن على أن أول أسطول بحري عرف في تاريخ البشر يرجع عهده إلى الملك «سنفرو» أول ملوك الأسرة الرابعة، إذ يخبرنا حجر «بلرم» أنه في عصر هذا الملك قد عاد من بلاد سوريا أربعون سفينة محملة بخشب «عش» (الأرز). وفي مدى عامين — كما جاء على هذا الحجر نفسه — قد صنعت عدة سفن يبلغ طول كل منها نحو ١٠٠ ذراع من خشب الأرز ومن خشب «مر» الذي كان يجلب من لبنان، هذا عدا ٦٠ سفينة أقل حجمًا.٤٨
وهذه السفن التي كانت تجري في البحر الأبيض المتوسط، نراها ممثلة على جدران معبد الملك «سحورع» والملك «وناس» من عهد الأسرة الخامسة. وقد كانت هذه السفن تشحن بالبحارة ومعهم فصيلة من الجنود لحماية البعثة من هجمات أهالي سوريا، أو لتكون مظهرًا من مظاهر سلطة الفرعون، وهذه السفن كانت تبنى على نموذج السفن النيلية غير أنها كانت أكبر حجمًا وأثقل وزنًا، حتى يمكنها أن تقاوم هياج البحر من جهة وكذلك لتتحمل شحنة عظيمة من السلع من جهة أخرى.٤٩
ومن كل ما سبق يتضح جليًّا بطلان النظرية القديمة القائلة بأن الفينيقيين هم أول قوم مخروا عباب البحار وأن المصريين لم يجرءوا على الملاحة إلا بعد الفينيقيين بزمن بعيد جدًّا. وينسبون ذلك إلى موقع فينيقية الجغرافي من جهة وإلى ثروة بلادها في الأخشاب الصالحة لبناء السفن من جهة أخرى مما جعلها سيدة التجارة على شواطئ البحر الأبيض.٥٠

ومن يقرأ الكتب القديمة يعرف مقدار انتشار هذا الرأي الذي أثبتت الكشوف الحديثة بطلانه. ومما قيل في هذا الصدد وثبت أنه خرافة: «أن هناك أسبابًا تدعو المصري لعدم التوغل في البحر والتجارة مع بلاد الشاطئ، منها: تكوين مصر الطبيعي، والخوف من أهوال البحر ولصوصه.» وتورط كذلك بعض المؤرخين في القرن السالف فقال:

«لا بد أن الملاحة كانت تعتبر في حيز العدم في عهد الفترة الأولى من تاريخ مصر، وذلك لأن عزلة أهلها عن باقي العالم قد منعتهم عن المغامرة في عرض البحار، وأنهم لم يقوموا بالملاحة إلا في أواخر الأسرة الثامنة عشرة.» ثم قال: «والسبب الذي منع المصريين أن يكونوا ملاحين عظماء هو السبب الذي حال دون عظمتهم التجارية. وفي الوقت الذي كان فيه الفينيقيون يقومون بكل أعمالهم التجارية بطريق البحر مع جميع الدول كانت تجارة مصر محصورة في بلادها وجعلتهم تحت رحمة الأجانب الذين كانوا يقومون بالأعمال التجارية الخارجية لهم.»٥١
وقد فات قائل ذلك أن سكان وادي النيل منذ أقدم العهود قد وجدوا في نهرهم المنقطع القرين مدرسًا عظيمًا يتعلمون على يديه أول درس في الملاحة عرف في تاريخ البشر، فقد كانوا يعيشون طوال العام على شاطئيه الخصيبين، وكان فيضانه السنوي يجبرهم على خوض الماء في كل وقت، ولا نظن أن الملاحة في النيل كانت دائمًا سهلة لا يعتورها أي خطر. بل كانت في مدة الفيضان وهبوب الرياح تحفها مخاطر جمة. ولم يكن المصري بالشخص الذي يخاف هذه المخاطر ويحجم عن اقتحامها، إذ كان النيل أهم طريق المواصلات، وقد كان لديه العدة لاقتحام أهوال هذا النهر بما صنعه من السفن المتينة التي أخذ في تحسينها على مر الزمن حتى جعلها صالحة لتمخر عباب البحر نفسه، على أن الملاحة في البحار كانت ساحلية على وجه عام يقوم بها الملاحون في أحسن فصول السنة الملائمة عندما يكون الجو هادئًا والرياح رخاء بالقرب من الشاطئ كما سنتكلم عن ذلك في حينه.٥٢
وقد ذكرنا فيما سبق أنه كان يوجد في مصر موانٍ زاهرة غنية على شاطئ الدلتا منذ عصر ما قبل الأسرات كمدينة متليس (فوة) التي رمز لها بالخطاف والقارب على لوحة «نعرمر»، وكانت أساطيل هذه المدن تقوم برحلات تجارية مع السواحل السورية.٥٣

على أننا من جهة أخرى لا ننكر أن الفينيقيين كانوا يتجرون مع جزر البحر الأبيض المتوسط قبل ذلك العهد، ولكنا ننكر أنهم أساتذة المصريين في تعلم فن الملاحة الذي تفوق هؤلاء فيه، ولدينا براهين ساطعة تدل على أسبقيتهم الأمم الأخرى بعدة قرون. منها أن المدن المذكورة وجدت قبل أن يكون للفينيقيين شأن في عالم الملاحة البحرية.

إذ الواقع أنهم لم يظهروا في هذا الأفق إلا في النصف الأول من الألف الثانية قبل الميلاد، هذا إلى أن سفنهم قد بنيت على الطراز المصري.٥٤
وعلى ذلك تكون النظرية القائلة بأن سفن «سنفرو» و«سحورع» كانت فينيقية لا أساس لها من الصحة.٥٥ يضاف إلى ذلك أن تمثيل السفن البحرية في معبد «سحورع» الجنازي يشعر بأصل مصري، وقد لاحظ البعض أن اسم السفينة «كبنت» نسبة إلى «كبن» (ببلوص بالمصرية)، ورأوا في هذا أن أصل صنع السفينة كانت في هذه الجهة، ولكن لا يلزمنا أن نستنتج من هذا أن أهالي النيل قد تعلموا فن بناء سفنهم والملاحة من ببلوص. إذ الواقع أن لفظة «كبنت» تفسر بوضوح أن أول سفن بحافة عالية كانت تلك التي سافرت إلى ببلوص، أو أن هذه السفن قد صنعت من خشب لبنان الذي كان يشحن من شاطئ ببلوص، ومما يعزز ذلك أن السفن التي كانت تمخر عباب البحر الأحمر إلى (بنت) في عهد «بيبي الثاني» وما بعده كانت تسمى كذلك كبنت.٥٦

وعلى أية حال فهناك حقيقة لا مراء فيها وهي أن المصريين منذ فجر تاريخهم بل منذ عصر ما قبل التاريخ كانوا يسبحون في البحر. وأن البعوث التي كانوا يقومون بها في عهد الدولة القديمة ما هي إلا استمرار لتجاراتهم الخارجية التي كانوا يقومون بها من مواني النيل في عصر ما قبل التاريخ، يضاف إلى ذلك أن نشاطهم البحري هذا كان نتيجة التجارب التي كانوا يقومون بها في نيلهم وما قاموا به من بناء السفن مما جعلهم ليسوا في حاجة إلى أن يتعلموا من الخارج فن الملاحة.

(٣) التجارة الداخلية والعملة

لقد بقي سر طرق المعاملة مجهولًا في مصر القديمة وبخاصة في عصورها الأولى حتى الآن، وقد بذلت محاولات عظيمة للوصول إلى حل هذا اللغز، ولكن كل ما وصل إليه العلماء لا يزال مبهمًا وذلك لقلة المصادر وغموض ما لدينا منها، والرأي السائد أن المصريين كانوا يتعاملون بالمبادلة، تلك الطريقة الساذجة التي يتبعها سكان مجاهل أفريقيا حتى الآن، ولكن كل ما وصلت إليه مصر من الحضارة في مختلف نواحيها لا يجعلنا نصدق أن طريقة المبادلة كانت طريقة المعاملة الوحيدة في عهد الدولة القديمة ولذلك يقول «بيرن»:٥٧ «يظهر لي أنه من الأمور الصعبة أن أعترف بأن مدنية متقدمة من الوجهة التشريعية مثل المدينة المصرية عهد الدولة القديمة لا تعرف إلا نظام المبادلات بالمواد الطبيعية دون مقياس متفق عليه يحدد قيمتها مع أنها كانت تعرف بيع النسيئة، ومع أن لها نظام ضرائب ناضجًا، غاية في الإتقان. على أن نظام المبادلة بلا نزاع لا يتفق في سذاجته مع كل الدقة التي نلاحظها في نظام الوراثة، والبيع والوصايا، والقضايا التي كانت تنجم عن ذلك عندهم.»
والواقع أن كل ما لدينا من النقوش عن سير المعاملات ينحصر ظاهرًا في المبادلات، ففي كل مدينة وفي كل قرية كانت تقام سوق في المحال العمومية، وكان المدنيون والفلاحون يتقابلون هناك في أوقات معينة ويتبادلون سلعهم المتنوعة؛ فكان القوم يأتون من كل حدب وصوب راجلين، أو على ظهور حميرهم أو في زوارقهم النيلية، كل منهم يحمل منتجاته الزراعية أو الصناعية، فكان الفلاح يحمل مكتل خضره، والصياد يحمل سلة سمكه، والصانع الصغير الحر يحمل النعال التي صنعها أو أواني الفخار، أو قطع النجارة والزيت والعطور، والحلي من الخزف، وعصي الخيزران والمراوح، والشص، ومئات من الأشياء الأخرى التي كانت تستعمل في الحياة اليومية العادية. ولدينا مقابر عدة من عهد الدولة القديمة قد رسم عليها مناظر الأسواق في نشاطها كما نشاهدها الآن، هذه كما ذكرنا هي المصدر الوحيد لدينا عن المعاملات المصرية.٥٨

والظاهر أن كل المناظر المعروفة من هذا القبيل كانت كلها خاصة بالضياع المأتمية التي كانت تتبادل فيها سكان هذه الجهات سلعهم، ولكن لا بد من أنه كان للمدن العظيمة أسواقها وسنشرح ذلك في حينه.

ونشاهد في هذه الأسواق أن الذين كانوا يحملون سلعًا ثقيلة الوزن كانوا يجلسون القرفصاء خلف سلالهم وقفافهم، وفي منظر واحد شاهدنا البائع جالسًا على مقعد مرتفع وأمامه سلعته ويأتي إليهم المشترون لشراء حاجاتهم، أما من خفت أحمالهم فيسيرون في أنحاء السوق ويتبادلون فيه سلعهم، ويمكننا أن نتصور منظر هذه الأسواق في أسواقنا الحالية بكل ما فيها من محاولات، ومكر ودهاء وتحيات وإغراء، ومشاغبات.

ولكنا نتساءل هنا هل يدل تمثيل كل هذه الأشياء على الجدران حقيقة على أن كل شارٍ في الوقت نفسه بائع، أو بعبارة أخرى إن النقود كانت على ما يظهر مجهولة، وإن الأسواق المصرية كانت تنحصر في مبادلات دون قوانين ودون تقاليد تجري على مقتضاها؟ إذا نظرنا إلى السوق المصرية وجدنا صاحب مكتل من البصل يقابله شخص آخر يريد أن يتخلص من مروحة، أو من قلادة وبائع قيثارات، أو أدوات للصيد يريد أن يبدل بها مأكولات وصانعًا يعطي قلادة بدلًا من نعلين، وامرأة تقدم لخاطبها قارورة من الروائح العطرية من صنع يدها. وبائع عصي من الخيزران وقد فرغ صبره أمام مشتر متردد، وبائع السمك ناشرًا سلعته أمام امرأة معها صندوق. وبائع مرايا يفخر بسلعته وبائع قرد يسوقه أمامه وبيده حبله الذي يقوده به، وبائع بصل يتأهب لمبادلة حزمة منه برغيف من الخبز المصنوع من الدقيق الجيد، (ولكن لا نعرف إذا كان المبادل يريد حقيقة بصلًا أو لا). والظاهر أن النعال كانت سوقها رائجة، وعلى أية حال نشاهد في رسوم سقارة أن فلاحًا كان يبادل إسكافًا بكيل من الحبوب زوجًا من النعال، وقد كان كل منهما ينتظر صاحبه أو يبحث عنه وقد انتهى الأمر بإتمام الصفقة.

وفي الجملة كانت السوق العامة للأفراد رقيقي الحال المكان المختار لقيام المبادلات بينهم فيما يحتاجون إليه من المأكولات والمصنوعات، وقد كان سكان المدن يدخرون ما يكفيهم طيلة الأسبوع من الخضر، كما كان الفلاح يبيع ما عنده ويعود حاملًا معه قلادة جميلة، أو قارورة من العطر، أو حذاء ينتعله في الأعياد، ففي هذه الأحوال لم تكن الحاجة ماسة للمعاملة بالنقد، وتدل التجارب على أن محاصيل الحقل كانت تجد من يبادل بها من أصحاب الحرف والصناعات، وأن هؤلاء الآخرين كانوا متأكدين من أن يجدوا معامليهم من الصيادين والفلاحين. والواقع أن مثل هذه المعاملات لم يكن فيها ما يدعو للارتباك عندما تكون صغيرة القيمة أو قليلة العدد، حيث تكون الحاجة لها نطاق ضيق، وأنه يكفي لصنعها بعض المختصين لعدد محدود من الناس.

وعلى هذا يمكننا أن نجيب بأن المبادلات كانت موجودة في مصر ولا تختلف فيها عن البلاد الأخرى الفطرية قبل أن يدخل فيها التعامل بالنقود. ولا بد أن القوم كانوا قد وضعوا فيما بينهم بحكم العادة بعض قواعد للمبادلة، اللهم إلا في بعض سلع لم يجر عليها التعامل من قبل كانت تحتاج لأخذ ورد، ومناقشة ومساومة.

التجارة الداخلية

والواقع أن الأمور كانت تجري في سيرها الطبيعي عندما تكون المبادلة من الأشياء العادية ذات القيمة الضئيلة.

ولكن يستاءل الإنسان ماذا تكون الحال عندما يكون موضوع المبادلة شيئًا عظيم القيمة كمنزل أو ثور أو قطعة أرض، إذ لا يمكننا أن نتصور ما يصنعه فلاح يريد أن يبيع ثورًا ليشتري بثمنه مقدارًا من الحبوب، وبعض آلات للفلاحة معينة وأشياء أخرى، فهل كان في قدرته أن يجد مبادلًا عنده كل هذه الأشياء في مقابل ثوره؟ وماذا تقول في رجل يريد أن يبيع عقارًا حتى ولو كان الشاري حاضرًا ومتلهفًا على إتمام الصفقة؟ فإنه لا بد أن يكون في حيازته المقدار والنوع من البدل الذي يرغب فيه المستبدل، ويجب ألا نخفي هنا أن التجارة بمعناها الحقيقي — شراء سلعة مقابل أخرى أغلى ثمنًا — قد أصبحت في هذه الأحوال مرتبكة لدرجة لا يمكن معها أن ينمو رأس مال التاجر بعض الشيء، فيمكننا أن نتصور مثلًا أصحاب حرف أحرار يعملون في مصنعهم في أحد أحياء (منف)، ويعيشون مما يمكن أن يجلبه لهم معاملوهم الدائمون أو ما يأتي إليهم به المترددون على الأسواق، ولكن لا يمكننا أن نتصورهم بسهولة يشترون سلعهم ويتممون مصنوعاتهم حتى يمكنهم أن ينتجوا محصولًا من النعال أو من المراهم تؤهلهم لشراء بهائم، أو بعض أفدنة حتى يكون لهم في النهاية منزلة كبيرة بين أقرانهم، وكذلك لا يمكن لثري بيده رأس مال من أي صنف كان، أن يشرع في المبادلة به في مقابل شيء آخر يبادل به كرة أخرى، وهكذا حتى يجد في النهاية أن رأس ماله الأصلي قد ازداد، ثم يستمر على هذا المنوال، وتلك هي صفات التاجر الحقيقي الذي يدب في نفسه حب الكسب، ولكن لا نزاع في أن المبادلة ليست هي الطريقة التي تشبع أغراض مثل هذا التاجر بصفة دائمة مرضية.

وليس معنى ذلك أنه لم تكن توجد تجارة داخلية في عهد الدولة القديمة، وأن النظام الاقتصادي في هذا العصر لم يكن في مقدوره أن ينتج نظام الاتجار، الذي يمكن به أن يصبح التاجر غنيًّا بفضل حركة التعامل بالنقد، والظاهر أن حركة التعامل بالمبادلة في هذا العصر لم تلعب إلا دورًا محدودًا جدًّا، إذ كانت محصورة في أصناف معينة وهي التي كان يصنعها أصحاب الحرف الحرة الذين لهم مصانع صغيرة في منازلهم أو في الأسواق العامة. وتوجد اعتبارات عامة اجتماعية تعزز هذه الاستنتاجات.

إذ في الواقع كان يوجد في عهد الدولة القديمة طوائف اجتماعية تتلخص فيما يأتي:
  • أولًا: طائفة الأشراف، أو كبار الموظفين الذين يملكون ضياعًا وبخاصة في عهد الأسرتين الخامسة والسادسة، وقد كانوا منتشرين في الوجه القبلي أكثر من الوجه البحري.
  • ثانيًا: طبقة الكتاب من درجات مختلفة.
  • ثالثًا: طبقة الفلاحين.
  • رابعًا: طبقة الصناع.

فطائفة الأشراف لم تكن في حاجة لأي شيء خارج ضياعهم إذ كان محصول الأرض يمدهم بأكثر مما يحتاجون. وكان كل ما يريدون صنعه يعمل في مصانعهم الملحقة بقصورهم. أما طائفة الكتبه فكانوا يشرفون على ميزانية الحكومة في كل الأماكن التي يؤدون فيها وظيفتهم، أي أنهم يعاونون في تصريف جزء ضخم من العقار الذي يدفع عنه جزية، أما الفلاحون وأصحاب الحرف فكانوا تابعين للضياع التي كانت تتعهد بمعيشتهم أو كانوا يعيشون أحرارًا من كسبهم الخاص، ففي الحالة الأخيرة كان الفلاح يستثمر أرضه، ويهتم بأحواله الاقتصادية. ويذهب إلى السوق ليبيع ما يزيد عن حاجته من منتجات أرضه، أما الصانع الصغير فكان من جهته يبادل في حانوته أو في السوق كل منتجات صناعته بما يقتات به أو ما يحتاج إليه من المصنوعات الأخرى. وهكذا كان سير الحياة في نطاق ضيق في الضياع أو المدن الصغيرة، مما يدل على أنهم ربما كانوا يجهلون حركة التجارة بالمعنى الحقيقي التي كان لا بد من استعمال العملة فيها. ومع كل ما ذكر فلا يمكن أن نعتقد بوقوف المصري عند هذا الحد في معاملاته، إذ لا يعقل أن شعبًا قد شاد مدنية مثل التي قامت في «منف» لم يكن في مقدوره تحسين حالة المبادلة التي تدل على منتهى السذاجة والتأخر، ولا بد أن الواقع كان على نقيض ذلك، إذ كان يوجد منذ العهد الطيني كمية لا بأس بها من المعدن الذي يحبه كل القوم، وأعني بذلك الذهب، فكان المصري في مقدوره أن يجزئه أو يحوله إلى سبائك دون أن يفقد شيئًا كثيرًا في هذه العملية، وكذلك كان يمكنه ادخاره دون أن يصيبه عطب ما، وتأثيره كان واحدًا على كل فرد في أي وقت كان. على أن المشاريع التي كانت تقوم لاستخراج هذا المعدن، والهبات من الذهب التي كان يهديها الملك للمقربين له، وقطع المصوغات التي كانت تصاغ للزينة، أو تكون علامة على الثراء، كل هذه الأشياء تؤكد لنا أن الأصفر الرنان لم يكن موضع احتقار أي شخص، وأنه كان يمكن المبادلة به مقابل أي شيء في كل الأحوال، ويعزز ذلك أن حجر «بلرم» قد ذكر لنا أن ثروات الأفراد المنقولة كانت تشتمل على معادن ثمينة كانت تحصى في أوقات معينة.

فكيف والحالة هذه لا يمكن أن نعتبر الذهب عاملًا ثالثًا في المبادلات. ولا يبعد أن تجود لنا تربة مصر بنقش أو بردية تكشف لنا الغطاء عن التعامل بالذهب في التجارة وتحل لنا كل مسائل المبادلة التي لا تزال معقدة. على أنه مما يؤسف له جد الأسف أنه لم يعثر على تمثيل ظاهر واضح في مناظر الأسواق القديمة التي عثرنا عليها حتى الآن على المبادلة بالذهب، ولكن هذا لا يعني شيئًا كبيرًا إذا علمنا أن كل ما وصل إلينا من تمثيل الأسواق المصرية مصدره مناظر المقابر أو المعابد، وهذه بالطبع لم يقصد منها قط أن تمثل لنا كل حياة البلاد الاقتصادية في كل تفاصيلها، وكل ما لدينا عن الحياة الاقتصادية قد عرفناه من المناظر التي تركها لنا علية القوم. وليس من حقنا أن ننكر وجود كل شيء لم يتركه لنا عظماء القوم في مناظر مقابرهم. وقد يكون من الدهشة بمكان أن تجود الصدف بالعثور على مقبرة أحد أغنياء التجار الذين نجهل وجودهم حتى الساعة، بل والذين يعتقد البعض عدم وجودهم كلية، وبذلك يهدم لنا النظرية القائلة بأن بناء المقابر في الجبانة الملكية كان وقفًا على المقربين.

النقود

لقد ذكرنا فيما سبق أن المصريين في العهد المنفي لم يجهلوا استعمال المعادن الثمينة مقياسًا لتقدير قيمة الأشياء، غير أنه لم يقم دليل قاطع مادي على كيفية استعمالها في عهد الدولة القديمة، وقد أشار إلى استعمال النحاس والذهب أساسًا للمبادلات في ذلك العهد الأستاذ «برستد» إذ يقول:٥٩ «يحتمل في بعض الأعمال التجارية وبخاصة التي كانت قيمتها عظيمة، أن كان النحاس والذهب يستعملان على هيئة خواتم لكل وزن معين كعملة.»
أما الأستاذ «بترى» فعلى العكس إذ يقول: إنه لم يحدث ذكر أي معيار متفق عليه للتعامل … وأن هذا المعيار المشترك من النحاس لم يظهر إلا في عهد الدولة الوسطى عندما كانت السلع والماشية تقدر بقيمة مساوية لثمنها من النحاس.٦٠
وقد كتب الأستاذ «مسبرو» مقالًا ممتعًا عن وصف منظر في سوق لاحظ فيه أن المتبادلين يحملون صناديق صغيرة تحتوي على سلع مجهولة ويعتقد أن هذه الصناديق فيها قطع من المعدن كانت تستعمل عملة للمبادلة، إذ يقول بعد أن فحص المناظر بدقة: «وبالاختصار أظن الصندوق يحتوي على معدن، مشغول على هيئة مجوهرات صغيرة، أو على شكل سبائك معروف وزنها، وهذه هي الوسيلة الوحيدة لتفسير وجود هذا الصندوق في ثلاثة مناظر من مناظر السوق التي تشمل على عشرة مناظر، وكذلك أكد هذه النظريةَ عدمُ وجود أي شيء للمبادلة في أيدي الذين يحملون مثل هذا الصندوق مضافًا إلى ذلك صغر حجمه.»٦١

وهناك من الأدلة ما يعزز هذا الرأي؛ فقد كشف الأستاذ «شتيندورف» لوحة صغيرة في عام ١٩١٠، في جبانة الجيزة عليها نقوش غامضة خاصة بموضوعنا هذا، غير أنها لم تفش أسرارها تمامًا رغم المحاولات التي بذلها علماء الآثار.

فترجمها الأستاذ «زيته»،٦٢ ثم أدخل «سوتاس»٦٣ بعض تحسينات على ترجمته وكذلك تناولها بالبحث «فون بسنج»٦٤ ويرجع الفضل أخيرًا إلى الإصلاحات والتعليقات التي كتبها كل من العالمين «شاسيناه»٦٥ و«فايل» Weill٦٦ مما جعل هذه الوثيقة مفهومة، فأنارت لنا الطريق في موضوع استعمال العملة في عهد الدولة القديمة، وسنرى في هذا الموضوع آراء الأستاذ «فون بسنج»٦٧ الحديثة وكذلك رأي الأستاذ «بيرن».٦٨
وموضوع هذه الوثيقة، على أحسن وجه، أنها خاصة بعقد بيع عمل في عهد الملك «خوفو» بين الكاتب «تنتي» الذي كان يبيع بيتًا، وبين الكاهن «كمابو» الشاري. ولأجل أن نقرب للقارئ فهم هذا العقد سنضع ترجمته الحرفية في لغة سهلة. يقول «كمابو»: لقد اشتريت هذا البيت في مقابل مكافأة للكاتب «تنتي»، وقد أعطيته عشرة «شعت»، وهي كما يأتي: قطعة أثاث (؟) من خشب «أنى» قيمته ثلاثة شعت وسرير من خشب الأرز من أجود صنف قيمته أربعة شعت وقطعة أثاث من خشب الجميز قيمتها ثلاثة شعت،٦٩ ثم يقول «تنتي» (يعيش الملك)، سأعطي ما هو حق لأنك قمت بالدفع بطريق التحويل، وستكون مرتاحًا من البيت ثم ختم في إدارة بلدة «خبوت خوفو» أمام شهاد تابعين لإدارة «تنتي» ولطائفة كهنة «كمابو» الشهاد. «محي» عامل بالجبانة، «سبني»، «إني»، «وني عنخ حور» كهنة جنازيون.

ولأول نظرة سطحية يخيل للإنسان أن هذا البيع لا يتخطى المبادلة، وهي عبارة عن ثلاث قطع من الأثاث والنسيج في مقابل بيت ولكن الواقع ليس كذلك. إذ لو جعلنا البائع وهو «تنتي» شاريًا، والشاري وهو «كمابو» بائعًا لما رضي كل منهما بإتمام الصفقة، فالتفسير المعقول لعقدهما أنهما قد تفاهما على أن ينفذا في عقد واحد إجراء عمليتي بيع كان يمكن عمل كل منهما على حدة. وهذا التفسير يمكن إدعامه بحجتين؛ أولًا: لو كان الموضوع هو عقد مبادلة فحسب لما كان هناك داع لذلك لفظة «شعت» التي لا بد قد قيلت عن قصد، واكتفى المتعاقدان بذكر الأثاث في مقابل البيت فقط. وثانيًا: يعترف لنا «تنتي» أن «كمابو» قد جعل الدفع بالتحويل «وزب» وهذا الترتيب يحمل في ثناياه طريقة أخرى ممكنة غير التحويل، وليس هناك إلا دفع الشعت، والنتيجة أن «الشعت» كان بلا جدال معيارًا لتقدير قيمة بيت، أو أثاث ونسيج، أو أي عقار مهما كان نوعه.

ولا نزاع إذن في أن أهل عهد الدولة القديمة كانوا يعرفون النقود، وكان يمكن لكل أن يكون له رأس مال من «الشعت» ويشترون سلعًا ليبيعوها ويكسبون فائدة منها تقدر ب«الشعت»، وخلافًا للاحتكار الذي كانت تفرضه الحكومة، وهذا ما لا نعلمه بالضبط، كانت حرفة التجارة تجري حسب طرقها الأولية؛ فكانت تنمو في الحدود التي تسمح بها أحوال الضياع الاقتصادية والمبادلات الأهلية التي كانت تجري في الأسواق العامة. وبقي علينا الآن أن نعرف «الشعت» فقال عنه «زيته» إنه (مكيال للفطائر). وهذا تفسير غريب في بابه، وقد أراد كل من «سوتاس» و«فون بسنج» أن يعزز رأي «زيته» ولكنهما لم يوفقا، وبقي الحال كذلك حتى جاء العالم «شسيناه» وتجاهل كل ما كتبه من سبق وأثبت في بحثه أن «شعت» هو معيار قيمي يمثل وزنًا معينًا من المعدن الثمين، ولذلك لا نشك الآن في النظرية التي أشار إليها «مسبرو» وهي الخاصة بأولئك الذين كانوا يذهبون إلى السوق بدون أية بضاعة معهم إلا صندوقًا صغيرًا يحتوي على معدن، ومن بين التفسيرات التي كتبت على المناظر في السوق ما يلفت النظر في موضوعنا ونصه هو: هاك «لأجلك «شعت» حسن جدًّا وهو ما تستحقه» تلك الكلمات قد فاه بها مشتر لبائع خضر. ولا نزاع في أن المشتري عندما قدم «شعت» واحدًا ثمنًا للسلعة كان يدفع الثمن نقدًا.٧٠

العملة الحقيقية والعملة الحسابية

والآن لدينا مسألة عويصة يجب حلها بقدر ما لدينا من المعلومات، وهذه المسألة هي: هل كان «الشعت» نقدًا حقيقيًّا أو معيارًا فقط للمعاملات؟ وهل «الشعت» كان يتبادل بين جميع الطبقات في شكل من المعدن أو سبيكة صغيرة ذات وزن معين، أو كان مجرد معيار متفق عليه لتقدير كل عقار؟ ويلاحظ أننا في بحثنا في عقد «تنتي» عرفنا أن «الشعت» كان نقدًا ماديًّا، إذ كان عشرة منه تساوي ثمن بيت وثلاثة منه تساوي قيمة أثاث. وقد وضح لنا ذلك الأستاذ «شسيناه» في بحثه لهذا الموضوع، إذ يرى أن «الشعت» معيار من المعدن ويشاطره هذا الرأي الأستاذ «بيرن»،٧١ غير أن الأستاذ «فايل» Weill يعتقد العكس إذ يقول: «إن المصريين كان لديهم طريقة لتقدير قيمة الأشياء بمعيار حسابي، ويدخل في ذلك كل الأشياء على كافة أنواعها ومنها المعادن وغيرها.» وقد جاء «فون بسنج» معززًا رأي الأستاذ «فايل» قائلًا: إن «الشعت» هو وحدة حسابية ولا يدل على مادة حقيقية كما يشير إلى ذلك مخصص الكلمة المصرية الذي هو عبارة عن ملف بردي (وهذه الإشارة تخصص الأشياء المعنوية فقط).

ولكن كل ذلك لا يمنعنا من أن نفحص الموضوع من بعض نواحيه لنتبين مقدار ما في قول هذين العالمين من الصحة.

لقد شاهدنا في السوق مشتريًا يقول لبائع: «ها هو حقك «شعت» واحد حسن.» وهذا طبعًا يشعر في الحال بأن الذي يقدمه المشتري للبائع ليس بالشيء المعنوي بل شيء مادي محسوس من النقود، وكذلك عندما كان الكاهن «كمابو» يشتري بيته بالتحويل، فإن ذلك يشعر أنه كان يمكنه أن يشتريه بطريقة أخرى، وبالتحقيق لم يدخل في ذلك طريقة حسابية معنوية فحسب. ولا أظن بعد هذا أن هناك من يقول بأن المصريين في عهد الدولة القديمة كانوا يتعاملون بمعيار حسابي يسمى «شعت» بل الواقع أن هذا المعيار كان مقدارًا معينًا من المعدن يستعمل وحدة هامة في تصريف أمور التجارة في مصر في عهد الدولة القديمة.

وإذا سلمنا أن «الشعت» قد استعمل في بداية الأمر على شكل ما (حلقة أو سبيكة) فمن المشكوك فيه جدًّا أن قيمته الأصلية قد ضبطت بسكة لها طابع خاص على وجهيه، وإذا فرضنا جدلًا حسب رأي «فون بسنج»، أنه كان يوجد على هذه العملة علامة خاصة تميزها فإن هذه العلامة لم تكن قد عملت بطريقة تضمن عدم الغش، إذ إن ذلك في الواقع كان يسبب حدوث غش مما كان يدعو من وقت لآخر، أن يزن البائع هذه العملة. وهذا هو السبب الذي جعل لنظرية الأستاذ فايل Weill بعض الاعتبار، إذ كانت الضرورة لوزن هذا المعيار قد جعلت حياته قصيرة، وذلك لأن شكل الشعت الخاص لم يكن له وزن متفق عليه. وهذا هو السبب الذي كان يجعل النقود الفطرية بعد مدة قصيرة ينقص استعمالها في المجتمع، فمثلًا توريد دفعة قدرها ثلاثة «شعت» لم تكن تعمل بدفع ثلاث وحدات من الشعت معروفة مسكوكة، ولكن بدفع قطعة أو عدة قطع من المعدن وزنها قدر وزن «شعت» ثلاث مرات أو بدفع بضائع من أي نوع كانت تقدر قيمتها بثلاثة «شعت». ومن ذلك يتضح أن النقود الأصلية لم تكن حافظة لكيانها، ومن هنا جاءت الفكرة أن الشعت كان معيارًا حسابيًّا، والظاهر أن الشعت كان يستعمل لزامًا في الحسابات القانونية، وفي العقود وفي كل أمور الإدارة الخاصة بالعقار، وقد لاحظ ذلك الأستاذ «شسيناه» عندما قال: ليس من المؤكد أن الأموال الأميرية كانت كلها تجبى من المحاصيل الطبيعية، وكذلك لم تدفع الإدارة المرتبات لموظفيها بالمحاصيل، بل كانت العمليتان من غير شك تسيران جنبًا لجنب على حسب الأحوال، ومن أجل ذلك قد اضطر الكاتب القائم بالحسابات أن يعمل الخصم من قيمة كل الأشياء التي يمكن أن تدخل الخزينة بصفة ضرائب أو تخرج منها بصفة مرتبات على هذا النمط. (وتدل لوحة) الجيزة ووثائق أخرى عدة من عصور أحدث منها، على أن مصر كانت لها منذ زمن بعيد أو على الأقل منذ الأسرة الرابعة نظام نقود رسمي، وكان لا يتغير إلا عندما تتدخل الإدارة فيه لعملية ما خاصة بها، وذلك إما لفائدتها أو لإعطائها صبغة قانونية؛ فمثلًا كانت المالية تفرض الضرائب على الممولين بجعلهم يدفعون قيمة تقدر بوزن خاص من المعدن. وكان الممول يدفعها حسب ما في يده؛ من قمح ونبيذ وزيت وحيوان، أما الصانع فكان يدفع ذلك من منتجات صناعاته.

وقد كان المحصل يقيد الكل حاسبًا كل مادة بالتعريفة التي وضعت لها. وهكذا كان الحال في المعاملات الشخصية عندما كان الأمر يقتضي إجراءات قضائية، فكانت المواد تقدر حسب القواعد المتبعة في الحكومة، غير أن قيمة الدفع ومقداره كان يترك لاختيار المتعاقدين، ولكن قيمة الشيء نفسه الذي كان يدفع ثمنه كان يقدر على قاعدة معيار من المعدن يعتبر وحدة.

والعيار الرسمي «شعت» كان حينئذ يعد القيمة الحقيقية لوزن خاص من الذهب. وهذا الوزن قد وصل إلينا من مسألة حسابية في ورقة «رند» التي يرجع تاريخها إلى نهاية الدولة الوسطى، وقد بقي مدة طويلة غير مفهوم.٧٢ إذ يقول فيها: إن «الدبن» من الذهب يساوي ١٢ «شعت». ونحن نعلم أن «الدبن» يزن ٩٠ جرامًا وعلى ذلك يكون «شعت» وزنه ٧٫٥ جرامات. ونعلم فوق ذلك أن «الدبن» من الفضة يساوي ٦ «شعت». ومن الرصاص يساوي ثلاثة «شعت».

وعلى ذلك كان الرصاص يساوي ثمنه نصف ثمن الفضة في الوزن، وكذلك كانت الفضة تساوي نصف ثمن الذهب. وهذا طبعًا لا يدهشنا إذا علمنا أن كلًّا من الفضة والرصاص كان نادر الوجود في هذا العهد.

ومن جهة أخرى نعرف أنه منذ بداية العهد الفرعوني كان نظام معيار الوزن يستعمل حلقة وزنها عشرة جرامات.٧٣
والظاهر أن الشعت قد اتخذ وحدة تمثل نصف هذا المعيار من الذهب. ولا بد أنه كان يعتبر بلا شك ذا قيمة عظيمة لتحديد أصناف كثيرة من السلع. وبعد عهد الدولة القديمة أدخل على معايير الوزن نوع جديد يسمى «كيت» ويزن تسعة جرامات، وهو ما يساوي من «الدبن».

وفي عهد الأسرة الثامنة عشرة كانت «الكيت» شائعة الاستعمال على حين أن الحلقة القديمة التي تزن ١٥ جرامًا كانت تحتضر، وكذلك اختفى استعمال «الشعت» وأصبح القوم لا يستعملون في تقدير متاجرهم إلا «الكيت» من الذهب.

ولا نزاع في أن المصري من كل ما سبق كان أول من فكر في العالم في إيجاد وحدة لها وزن معين للتعامل في كل أمور الدولة. أما القول بأن هذا المعيار كان حسابيًّا فحسب فمثله كمثل الذي بنى نظرية على حقائق معكوسة، وسننتظر لعل تربة مصر قد تخرج من بطنها ما يوضح لنا الطريق في هذا الموضوع الذي يريد علماء الآثار المصرية أن يعقدوه رغم وضوحه.

(٤) تجارة مصر الخارجية وعلاقتها بالأقاليم المتاخمة

العلاقات بين مصر وآسيا

تدل التطورات التي حدثت في الدلتا في عصر ما قبل الأسرات على أنه قد نشأت مدن عظيمة عند مصبات فروع النيل قديمًا، بالقرب من البحر الأبيض المتوسط. وقد كان رخاء هذه البلاد وثراؤها مثل «متليس» (فوة) وصا الحجر وأبو صير وغيرها يرجع بلا نزاع إلى تبادل سلعها مع مدن سواحل سوريا في الخارج، ومع مقاطعات الوجه القبلي في داخل البلاد. وقد كان من نتائج تبادل التجارة الداخلية اختلاط سكان الوجه القبلي الذين تنسب ثقافتهم إلى مدينة نقاده القديمة، بسكان مدن الشمال التجارية الذين كانوا أكثر منهم تحضرًا وأعرق مدنية وأرقى ثقافة. وقد جاء مؤكدًا لهذه الاستنتاجات التي ترتكز على وثائق قديمة وبحوث أثرية حديثة، ما أسفرت عنه حفائر ببلوص (جبيل)٧٤ إذ وجد مودعًا في أساس معبد هذه البلدة: بلط من الحجر المصقول، وسكاكين من الظران، ولوحات، وخرز من الذهب، والبلور الصخرى، ومن العقيق ومن المرمر، هذا إلى صور أشياء أخرى مختلفة، وبالاختصار عثر على عدة أشياء وجد ما يماثلها بين التي كشف عنها في عصر ما قبل الأسرات ومحفوظة الآن بالمتحف المصري.

وسنتكلم فيما يلي عن العلاقات التي كانت قائمة بين مصر وسوريا في عهد الدولة القديمة، وذلك حسب الآثار والشواهد التي عثرنا عليها في خلال تاريخ هذا العصر.

والظاهر أنه بعد انتصار أمراء «نخن» (الكوم الأحمر) على مدن الدلتا لم تتوان هذه المدن في إعادة علاقاتها التجارية الخارجية ولكن تحت سيطرة ملوك طينة الأول. إذ الواقع أنه عثر في مقابر جبيل (ببلوص) على بعض آثار من طراز صناعة عصر ما قبل الأسرات في مصر. وقد استمر استعمالها في وادي النيل بعد عهد الملك «مينا»، وبخاصة إذا علمنا أنه عثر على اسم الملك «خع سخموي»٧٥ منقوشًا على قطعة أثرية، أي إنها ترجع إلى عهد الأسرة الثانية. يضاف إلى ذلك أن حجر «بلرم» قد ذكر لنا وجود علاقات بين مصر وآسيا في عهد الملك «سنفرو» أول ملوك الأسرة الرابعة، إذ قص لنا عودة أسطول مؤلف من أربعين سفينة محملة بأخشاب لبناء السفن البحرية ولإتمام إقامة القصر الملكي. هذا فضلًا عن أنه عثر في أساس معبد ببلوص على قطع أثرية متنوعة عليها أسماء ملوك من الأسرة الرابعة؛ منها إناء من حجر الديوريت، وقطع نقش عليها خرطوش الملك «خوفو».٧٦ وكذلك عثر على قدح من البلور الصخري مهشم حفر عليه بإتقان فائق اسم الملك «منكاورع»، وقطعة من المرمر عليها ألقاب الملكة «مريت اتس» زوج «سنفرو»، ثم زوج «خوفو» من بعده.٧٧ وقد عثر كذلك في نفس المكان على إناء آخر من المرمر نقش عليه ملك الوجهين القبلي والبحري «وناس» عاش أبديًّا،٧٨ وهذا يتفق مع صور السفن البحرية التي عثر عليها في طريق معبد «وناس» الجنازي في حفائر سقارة،٧٩ وكذلك يتفق مع ما عثر عليه من الرسوم في معبد الملك «سحورع»،٨٠ إذ نشاهد تمثيل الأسطول المصري عائدًا إلى مصر يحمل الآسيويين من رجال ونساء وأطفال ودبتين مقيدتين في أغلال من غابات لبنان. أما في عهد الأسرة السادسة والآثار التي عثر عليها يرجع تاريخها إلى عهد «تيتي» و«بيبي الأول» ثم «بيبي الثاني» وكلها على وجه عام أوانٍ وتماثيل صغيرة نقش عليها اسم الفرعون.٨١
ويوجد في متحف بيروت نقش غائر من عهد الدولة القديمة له أهمية خاصة. وهو مقسم إلى منظرين مثل فيهما الملك «بيبي الأول» أو الملك «بيبي الثاني» يقدم قربانًا إلى إله ثم إلى إلهة، وقد نقش عليه ما يأتي: «محبوب حتحور سيدة ببلوص»، هذا إلى قطعة أخرى محفورة حفرًا غائرًا قد أحضرها معه الكاتب الشهير «رينان» الفرنسي وهي الآن في متحف اللوفر.٨٢

وقد مثل عليها فرعون يقدم تضحية إلى إلهة لابسة ملابس مصرية. ولا يتردد الأثرى عند رؤية هذا النقش في نسبته إلى عصر الدولة القديمة، وليس هناك مجال للشك في أن كل هذه الأشياء تدل دلالة واضحة على مقدار تأثير الحضارة المصرية في بلاد سواحل سوريا في عهد الدولة القديمة. على أننا من جهة أخرى نجد في نقوش عظماء المصريين في عهد الأسرة السادسة ما يضع أمامنا تفاصيل غاية في الأهمية عن العلاقات بين القطرين، ولا أدل على ذلك من متون «وني» التي تكلمنا عنها بإسهاب في الجزء الأول (انظر ص٣٧٩ وما بعدها)، وكذلك في عهد الأسرة الخامسة شاهدنا حاكم المقاطعة «إنتا» قد مثل في مقبرته بدشاشة كيفية الاستيلاء على مدينة (نديا) وحصنها من أعمال سوريا (جزء أول ص٣٣٦–٣٣٧).

وتدل كل ظواهر الأمور على أن فراعنة مصر كانوا يراقبون عن كثب كل حركات الأقوام والقبائل التي كانت تهدد البلاد من حين إلى حين وتكون سببًا في قطع العلاقات التجارية الخارجية وما ينجم عنها من نضوب موارد الدولة، فكانوا يقضون على كل حركة عدائية من هذا النوع كما كانت الحال في سيناء التي كانت منبعًا فياضًا لاستخراج النحاس والفيروز، وذلك يفسر لنا مناظر نزول الجنود المصرية الممثلة في معبد «سحورع» مقلعة إلى ببلوص. ولا شك في أن الجنود في هذا العصر كانوا أهم عامل في تسيير التجارة؛ إذ كان كل بحار في الوقت نفسه جنديًّا يستولي على كل المحاصيل التي لم يسلمها الأهلون طائعين، وقد كانت هذه نفس الطريقة التي تستعمل في البعوث التي ترسل إلى شواطئ البحر الأحمر وبلاد النوبة والسودان.٨٣
والظاهر أن نفوذ المصريين وسلطانهم لم يكن عظيمًا في ببلوص كما كان في فلسطين، ولكن على الرغم من ذلك لا حظنا أن نفوذهم كان ناميًا في ببلوص لدرجة أنهم قد أقاموا هناك بعض آثار مصرية، ولا يبعد أنه قد أسست هناك مستعمرة صغيرة لربط العلاقات التجارية بين البلدين وبخاصة لتحضير البضائع وشحنها في السفن إلى مصر، وكانت في الغالب تحتوي على الأخشاب السورية التي لا نظير لها في مصر كخشب الأرز والصنوبر وخشب الوشح والبان والسرو وغيرها من الأخشاب التي كان يحتاج إليها النجارون وصانعو السفن، والمنهدسون المعماريون للقصر الملكي، ومطعمو العاج الذين كانوا يصنعون الأثاث الفاخر هذا إلى الأخشاب ذات الروائح العطرية والصموغ التي كانت لها أهمية عظيمة في تحنيط الأجسام وفي الشعائر الدينية والقرابين الجنازية. والواقع أن الأخشاب وأنواع الصموغ كانت تجلب من منحدرات جبال لبنان التابعة لإقليم «جبيل» وهي ببلوص القديمة، وقد سميت قديمًا بلاد «نجا».٨٤
وإله هذه الجهة المحلي كان يسمى «خاي تاو» وقد توحد معه الملك «بيبي» في متون الأهرام: «أن بيبي هو «خاي تاو» وساكن بلاد نجا.»٨٥

وكذلك يقول أحد أمراء بني حسن في عهد الدولة الوسطى: لقد صنعت بابًا ذرعه سبعة أذرع من خشب (الأرز) «عش نجا» لمدخل مقبرتي الأول.

وقد كان وقوع أي حادث يكون من جرائه شل حركة تجارة ببلوص يظهر تأثيره المباشر في نظام مصر الاقتصادي والاجتماعي، فيلاحظ أن في عهد التدهور الذي أعقب سقوط آخر ملوك الأسرة السادسة كان المصري يتحسر على تبدد شمل التجارة البحرية: «والآن وقد أصبح ولا أحد يمكنه أن يبحر إلى ببلوص، فكيف يمكننا أن نجلب لمومياتنا خشب الأرز الذي كنا نصنع منه توابيت الكهنة، والذي كان يستعمل صمغه لتحنيط العظماء؟»٨٦

ومن هنا نفهم السر في حرص المصريين على المحافظة على حسن سير نظام البعوث البحرية، وفي اهتمامهم بذكر الشحن التجارية في نقوشهم.

على أن المصري لم يجلب إلى بلاده من سوريا الأخشاب والعطور المستخرجة منها فحسب، بل كان يستورد زيت الزيتون، والنبيذ الذي كانت تنتجه هذه البلاد بكثرة، والواقع أن كروم فلسطين قد ذكرها «وني» في نقوشه (صفحة ٣٧٢ جزء أول). ورغم أن النبيذ المصري كان من مختلف الأنواع الجيدة جدًّا في الغالب، فإن النبيذ الآسيوي كان يجلب إلى مصر. أما زيت الزيتون فقد كان ضمن المحاصيل التي شحن بها أسطول الملك «سحورع».٨٧
ويلاحظ في نقوش هذا الملك أن الأواني الأجنبية كانت تحتوي على سوائل مختلفة الأنواع جيء بها من بلاد سواحل سوريا. ومن المدهش أنه عثر في مقابر العصر الطيني على أوانٍ تدل أشكالها حسب فحص المختصين على أنها غير مصرية.٨٨

وعلى أية حال فإن المصريين كانوا يجلبون سلعًا أخرى لم تكن معروفة أو متداولة في مصر إلا قليلًا، ولم يصل إلينا منها شيء قط اللهم إلا الدب الذي أحضر من جبال لبنان ليوضع في حديقة حيوان الملك «سحورع». ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن اللازورد الذي كان معدومًا في جبال مصر قد استعمل منذ عصر ما قبل الأسرات، ولا بد أنه كان يستورد من آسيا، ولا غرابة في ذلك إذ سنجده ضمن النفائس التي كانت تقدم جزية للفراعنة في عهد الدولة الحديثة.

ولا بد أن البحار المصري كان ينتخب الوقت المناسب للإبحار إلى هذه الجهات. وأحسن الأوقات الصالحة كانت في شهري مايو ويونيو، إذ في تلك الآونة كان يقلع البحارة بسفنهم عندما كانت تهب رياح جنونية وجنوبية غربية فتملأ قلاع سفنهم وتزج بها في البحر نحو سوريا، ويصل المسافرون إلى ببلوص في مدى أربعة أيام، ويبلغ طول هذه الرحلة نحو ٥٥٠ كيلومترًا. وكان البحار المصري في خلالها يتوخى محاذاة الشاطئ غير مجازف بالتوغل في البحر. وقد كان أكبر خطر يخافه البحارة هو هبوب ريح غربية أو شمالية غربية إذ كانت تجنح بالسفن إلى الشاطئ، ولكن ذلك لحسن الحظ كان نادرًا جدًّا، اللهم إلا في شهري يناير وفبراير. وقد كانت «جبيل» مجهزة بمرفأ ترسو فيه السفن لتشحن. أما عند العودة فكانت السباحة متعبة شاقة، إذ كان لا بد للسفن من أن تمخر عباب البحر في تيار معاكس وريح غير ملائمة، ولذلك كانت تجهز السفن بمجدفين أشداء وتستغرق السياحة مدة لا تقل عن ضعف مدة الذهاب، وفي أغلب الأحيان كانت تنقضي هذه المدة دون حدوث أي عائق.٨٩

ومن كل ما سبق يمكننا أن نستخلص بحق أن العلاقات التجارية بين مصر وسوريا كانت من الحقائق التاريخية التي لا تقبل الجدل أو الشك، وكان لها أثر فعال في نمو مصر وتقدمها في عهد الدولة القديمة، وهذه العلاقات لم تكن بحرًا فحسب بل كانت كذلك بالطرق البرية أيضًا، وبخاصة إذا علمنا أن هناك ما يحملنا على الظن بأن بلاد فلسطين الجنوبية كانت تابعة للفراعنة بعض الشيء ولا سيما في خلال النصف الأخير من عهد الدولة القديمة.

علاقة مصر بجزر البحر الأبيض المتوسط

تدل الكشوف الأثرية على احتمال وجود بعض علاقات تجارية معينة بين مصر وجزر البحر الأبيض المتوسط، ولا سيما بين مصر وجزيرة كريت منذ عهد ما قبل الأسرات. غير أن الآراء متضاربة في هذا الصدد بين علماء الآثار فبعضهم يرجح وجود هذه العلاقات،٩٠ وبعضهم ينكرها إنكارًا باتًّا.٩١

ولكن من جهة أخرى تعوزنا النقوش والوثائق المدونة عن العصرين الطيني والمنفي معًا لإثبات وجود علاقات تجارية بين مصر وجزر البحر الأبيض المتوسط، وكل ما لدينا من المعلومات ينحصر في المواد الأثرية فقط. وقد غالى بعض علماء الآثار في أهمية هذه الآثار وبنوا عليها نظريات هائلة في علاقات مصر مع جزر البحر الأبيض المتوسط، وكل ما لدينا من المعلومات ينحصر في المواد الأثرية فقط، على حين أن البعض الآخر كان على العكس إذ نظر إلى هذه الكشوف نظرة سطحية دون أن يعيرها أي اهتمام جدي، وسنعرض نحن للموضوع دون التحيز لأحد الطرفين.

يقول المؤرخ الألماني «كوستر»:٩٢ إن الأسباب التي حدت بالمصريين إلى التوغل في البحر حتى جزيرة قبرص هي نفس الأسباب التي حدت بهم إلى شق عباب اليم حتى سواحل سوريا. ولا نزاع في أن السياحة إلى هذه الجهة كانت أكثر خطرًا ولذلك كانت قليلة، ولكن وجود معدن النحاس في هذه الجزيرة كان من الأشياء التي تستحق المجازفة بمثل هذه الرحلة. والواقع أن قبرص كانت تورد النحاس لفراعنة مصر، في عهد الدولة الحديثة عندما كانت مصر صاحبة فتوح عظيمة وسلطان ضخم وتجارة نامية في آسيا وجزر البحر الأبيض وغيرها، غير أنه لا يمكننا أن نقول مثل هذا القول عن مصر في عهد الدولة القديمة، إذ كان النحاس الذي يستعمل في ذلك العهد يستخرج من مناجم سيناء كما شرحنا ذلك في مكانه، بل إنه ليس لدينا أي دليل في مصر ولا في قبرص على ما ظنه العالم «كوستر» ولذلك نعتبر كل ما قاله غير مقطوع به من هذه الناحية، وعلى أية حال فلا يمكن المؤرخ أن يطبق ما وجد في عصر من عصور التاريخ على عصر آخر وبخاصة إذا كان أقدم منه بعدة قرون. وعلى الرغم من كل ذلك فإنه توجد بعض علاقات بين مصر وكريت ولكن يجب ألا نبالغ في أهميتها.»
وذلك أن الأستاذ «بتري» قد كشف في مقابر العهد الطيني بالعرابة المدفونة بعض أنواع من الفخار يعتقد هو من أشكالها وطراز صنعها أن موطنها الأصلي جزر بحر إيجة (كنوسوس).٩٣
غير أن هذا الرأي لم يشاطره فيه معظم العلماء المتخصصين فقال «إرك بيت»: إن الفخار الذي عثر عليه الأستاذ «بتري» لا ينتمي إلى أية صناعة إيجية٩٤ ولكن من جهة أخرى يوجد بالمتحف البريطاني آنية صغيرة من الفخار الأسمر اللون المحزز كشف عنها في انتباروس Antiparos يدل نموذج صناعتها على أنها مصرية بدون شك، ويرجع عهد صناعتها إلى ما بين الأسرتين الثالثة أو الرابعة.٩٥
هذا إلى أنه عثر على أوانٍ في مصر وجد لها مثيل فيما كشف عنه في حفائر سهل مسارا (Messara) وفي كنوسوس، ففي الأخيرة عثر السير «أرثر إيفانز» على قطع ذات أهمية أثرية بعضها أجزاء آنية من الديوريت، بينها وبين الأواني التي عثر عليها في عهد الملك «سنفرو» شبه عظيم. وقد عثر على أوان أخرى من نموذج نفس العصر ولكنها مصنوعة من الطلق الأيوليتي (في آسيا الصغرى).٩٦
وإنه لمن الصعب جدًّا أن تنسب القطعة الأولى لمصدر غير مصر، إذ الواقع أن المادة التي صنعت منها والشكل الذي ركبت به عليها الطابع المنفي، أما الثانية فإنه من المحتمل جدًّا أن نقلها الصانع الكريتي عن نموذج مصري كان لديه. ورغم ذلك فإن الأستاذ «بيت» قد عارض في ذلك أيضًا، ولكن حجته ضعيفة.٩٧
وأهم من كل ما سبق أنه قد عثر على أختام على شكل أزرار في مصر في عهد الدولة القديمة وكشف عن مثيلاتها في «كريت».٩٨
ولكن ذلك لا يهم في موضوع بحثنا، إذ الحقيقة التي وصلنا إليها والتي لا تقبل الشك هي استعمال هذه الأختام في البلدين وفي عصر واحد وهذا ما يؤكد الرأي القائل بوجود علاقات بين مصر وكريت في عهد الدولة القديمة، ويضاف إلى ذلك، أنه عثر على بعض آثار مصنوعة من حجر الأبسديان (الزجاج البركاني) في المقابر المصرية منذ عصر ما قبل الأسرات، وهذه المادة لا توجد في جبال مصر قط، ولكنها من جهة أخرى توجد في جزر بحر إيجة بكثرة في (ميلو) ولذلك ظن بعض العلماء أنها قد جلبت من هذه الجزر، وهذا الرأي يعارضه طائفة أخرى من العلماء إذ يقولون إن هذا الحجر يوجد في بلاد الحبشة وفي أرمينيا ويجوز جدًّا أن مصر كانت تستورده منها. يضاف إلى ما ذكرنا أنه عثر على بعض أشياء مصنوعة من مادة الصنفرة في مقابر عصر ما قبل الأسرات، ولا يمكن أن يكون أصلها إلا من جزر الأرخبيل وبخاصة جزيرة (نكسوس) أو آسيا الصغرى.٩٩
ومما سبق يجوز لنا أن نستخلص وجود رابطة بين مصر وجزر البحر الأبيض المتوسط وبخاصة مع (كريت) في عهد الدولة القديمة، غير أنه لا يمكننا بحال ما أن نؤكد أهمية هذه العلاقات أو استمرارها أو صبغها بصبغة تجارية أو ودية، ولكن كان المصريون على أية حال يعرفون جزر «البحر الأخضر» جدًّا (البحر الأبيض المتوسط)، إذ ذكر في ورقة بردي محفوظة الآن في برلين ويرجع تاريخها إلى الأسرة الثانية عشرة، أن هذه الجزر كانت معروفة سماعًا لدى عصر الدولة القديمة. وقد جاء ذكر سكان هذه الجزر «حاو نبو» في متون الأهرام حتى إن «مسبرو» قال عنهم: «إن وجود هؤلاء القوم كان معروفًا منذ أمد بعيد قبل تدوين متون الأهرام.»١٠٠
وليس بعيدًا أن البحارة المصريين بما لهم من الجرأة في اقتحام البحار قبل أية أمة في التاريخ كانوا يخاطرون أحيانًا في عرض البحار عندما تسمح الأحوال الجوية لهم بخوض غمارها، والواقع أنه توجد ريح شمالية في البحر الأبيض عندما تهب بشدة تقود السفن من جزر «سيكلاد» Cyclades إلى (كريت)، ومن ثم إلى مصر.١٠١
أما الأستاذ «برستد» فيقول إن الثلاثمائة والأربعين ميلًا البحرية التي تفصل مصبات النيل عن سهل (مسارا) يمكن قطعها في مدة ثلاثة أيام أو أربعة. وفي هذه الأحوال لا نظن أن البحارة المصريين كانوا يحجمون عن القيام بمثل هذه الرحلات وبخاصة إذا كانت تعود عليهم بالفائدة، ولا سيما أنهم قد شقوا غمار البحار من قبل إلى ببلوص وسواحل فينيقية عامة. على أن مثل هذه السياحات لم تكن وقفًا على المصريين، بل لا بد كان يقوم بمثلها أهالي كريت، إذ كانوا متعودين الملاحة بين جزر بحر إيجة فكان من الجائز أن يندفعوا في سياحاتهم نحو الجنوب حتى الدلتا أو يتقابلون مع السفن المصرية على الساحل السوري. كل هذه النظريات والفروض ممكنة في ظاهرها، ولكن ليس هناك ما يلزمنا على أن نقرر هنا مع السير «إيفانز» أن الكريتيين كان لهم الشرف الأول في شق عباب اليم حتى السواحل المصرية والسورية.١٠٢

علاقة مصر بالبحر الأحمر وبلاد بنت في عهد الدولة القديمة

إن أقدم وثائق في متناولنا عن ملاحة المصريين في البحر الأحمر يرجع تاريخها إلى الملك «سحورع» أحد ملوك الأسرة الخامسة. وتدل الأحوال على أن البحر الأحمر لم يركب المصريون متنه في سياحاتهم إلا نادرًا، إذ كان معظم ملاحتهم في البحر الأبيض المتوسط، وذلك أنه منذ العهد الطيني وربما قبله، كان يجلب النحاس من شبه جزيرة سيناء بالسفن، ولكن بعد شحنها عند سواحل سيناء كانت تسلك أحد طريقين في العودة إلى مصر، إما طريق الشمال حتى خليج السويس، وإما طريق الجنوب حتى القصير. وفي الحالة الأولى كانت الشحنة تنقل إلى البر مارة بالبحيرات المرة ووادي طميلات حتى مدن الدلتا أو مقر الملك «منف». أما الذين يتبعون الطريق الثاني فكان لزامًا عليهم أن يقطعوا صحراء العرب من القصير حتى النيل عن طريق وادي حمامات، ومن ثم يركبون النيل، ولا يبعد أن يكون هذا الطريق الأخير هو الذي كان متبعًا في عهد ملوك العصر الطيني، لأن العاصمة كانت في الوجه القبلي، إلا إذا كانوا يفضلون الطريق الطويل عن وادي طميلات لأنها كانت أقل متاعب وعناء وخطرًا، وقد لاحظنا فيما سبق أن هذه السياحات البحرية كانت تستلزم عدة وعتادًا وجمًّا غفيرًا من الموظفين على اختلاف أنواعهم، كالبحارة والضباط، وعمال المناجم ورؤساء الأعمال، والحمارة، ورؤساء القوافل والجنود وضباطهم، هذا عدا رجال الإدارة الذين كانوا يرافقون البعثة. وكانت هذه البعوث بطبيعة الحال حكومية، أما أهميتها أو كثرتها فكانت تتوقف على حاجيات العصر الذي أرسلت فيه، وعلى أمان الطرق التي كانت تهددها القبائل المتمردة، ثم على مقدار نفوذ الفرعون وقوة بطشه. ويلاحظ أن التجارة البحرية مع هذه السواحل القاحلة المتاخمة لخليج السويس لم يكن لها أهمية تذكر إذا استثنينا جلب النحاس من شبه جزيرة سيناء، ولكن منذ أن خاطر البحارة المصريون الشجعان متجهين في سياحتهم نحو الجنوب، باحثين عن بلاد الآلهة الخرافية، التي وصلوا إليها وأحضروا منها بعض محاصيل كانت إلى ذلك العهد مجهولة في مصر، والملاحة في البحر الأحمر بدأت تأخذ شكلًا جديدًا وأهمية خاصة. وعلى أية حال فلا نعرف بالضبط الوقت الذي بدأ المصري يمخر فيه عباب البحر قاصدًا بلاد (بنت)، وكل ما نعرفه أن أول رحلة دونت هي التي أرسلت في عهد الفرعون «سحورع»، وقد دون فيها أن قد أحضر إلى مصر منها المر، ومعدن الإلكتروم، والأخشاب الأجنبية بكميات وافرة.١٠٣

وقد كان المصريون يتخيلون بلاد (بنت) ذات أشكال غامضة سرية كما كان القوم يتخيلون بلاد الهند وغيرها من البلاد النائية في الأزمان السالفة ولم يكونوا لأنفسهم عن كنهها رأيًا قاطعًا.

والحقيقة أن موقع بلاد (بنت) كان موضوع بحوث عدة عند علماء الآثار، فقد تكلم عنها «بروكش»، و«مريت» و«لبلين» و«كرال»، و«مسبرو» وغيرهم.١٠٤

فبعضهم يقول إنها بلاد العرب وبعضهم يقول إنها بلاد الصومال أو الاثنتان معًا. والظاهر أن بلاد (بنت) كانت عند المصريين أنفسهم غير محدودة المعالم، بل كانوا يعدونها البلاد العجيبة التي يصل إليها الإنسان عندما يسبح في البحر الأحمر متجهًا نحو الجنوب، وهذه البلاد كان يجلب منها البخور والروائح العطرية والصموغ المقدسة التي كانت تفتقر إليها مصر، وكما ذكرنا فإن هذه البلاد لا بد كانت في نظر المصري كما كانت بلاد الهند والشرق في نظرنا حتى عهد قريب؛ إذ كانت هذه الجهات ليس لها معنى جعرافي معين، ومن أجل ذلك لا يجدر بنا أن نشحذ القريحة في تعيين موقع بلاد (بنت) عند المصريين أنفسهم إذ لم يعنوا هم أنفسهم بضبط موقعها، لأنها كانت عندهم من الأماكن التي يحيط بها الغموض والخيال والرهبة، ولا غرابة في ذلك فقد كانوا يعتقدون فيها أنها الأماكن المقدسة التي نشأت فيها آلهتهم.

وكل ما يهمنا عمليًّا في هذا البحث أن بلاد (بنت) كانت تقع في المنطقة التي تشمل بلاد الإرترية، والصومال من جهة، وشواطئ بلاد العرب السعيدة من جهة أخرى. والآن بقي علينا أن نعرف الأماكن التي كانت تشحن منها السفن المصرية على ساحل البحر الأحمر، وتدل الأحوال على أن المر والبخور كانا يشحنان من اليمن، والأقاليم الأفريقية الواقعة على البحر الأحمر. أما الذهب والأبنوس فكانا على العكس يجلبان من القارة السوداء (أفريقيا). ولا بد أن المصريين كانوا في عهد الدولة القديمة يتبعون في سياحاتهم إلى هذه البلاد طريق وادي طميلات حتى خليج السويس.١٠٥
وذلك لأن عاصمة البلاد كانت في هذا الوقت «منف». والواقع أن «بيبي نخت» في ترجمة حياته (جزء أول ص٣٩١) يقص علينا أن «بيبي الثاني» قد أرسله إلى بلاد «العامو» لإحضار جثة «عنخت نيني». وقد كان الأخير ضابطًا بحريًّا لسفينة ومعه جنود وبحارة، وكلف ببناء سفينة للإبحار بها إلى بلاد بنت. ومما يؤسف له أن الحملة قد داهمها سكان الرمال «حر يوشع» وقتلوا رجالها. ومن ذلك يتضح أن الملاحة إلى بلاد بنت كانت تبتدئ من ساحل خليج السويس، لأننا نعلم أن «العامو» و«الحر يوشع» هم القبائل السامية الرحل الذين كانوا يسكنون في هذه الجهات. على أن كل البعوث التي كانت ترسل إلى (بنت) لم تتخذ هذا الطريق، اللهم إلا إذا كانت كل البعوث تجهز في عاصمة البلاد القريبة من خليج السويس، إذ كان حكام مقاطعة (الفنتين) العظماء مشهورين بالقيام بمثل هذه الرحلات كحرخوف وغيره. وكان السفر من المقاطعات الجنوبية في الوجه القبلي حتى خليج السويس يضيع على البعثة وقتًا طويلًا في النيل حتى منف، ومن أجل ذلك كانوا يتخيرون طريق وادي حمامات الذي يؤدي من قفط على النيل إلى إقليم «ساو» (القصير) على البحر الأحمر، وهذه كانت الطريق التي سلكها ملوك الأسرة الحادية عشرة ومن جاء بعدهم. وقد ترك لنا رجال بعوثها بعض تفاصيل عن هذه الطريق.١٠٦

ولا نزاع في أن هناك طرقًا أخرى جنوبي قفط تصل بين النيل وشاطئ البحر الأحمر، ولكنا نجهل تمامًا ما إذا كان المصري قد استعملها، ولكن المؤكد لدينا هو أن طريق الصحراء الذي يمر بوادي حمامات كان مستعملًا منذ عهد الفراعنة حتى يومنا هذا.

والظاهر أن السفر إلى بلاد (بنت) لم يكن بالشيء المعتاد، إذ كانت القوافل تقطع المسافة في مدة أربعة أيام من قفط إلى البحر الأحمر سالكة طريقًا وعرًا لا ماء فيه، شمسه محرقة، وفي النهاية يصل الإنسان إلى ساحل قاحل لا سكان فيه ولا حياة، ومن أجل ذلك كان أول هم للبعثة أن تحمل معها كل المعدات لبناء السفينة أو السفن التي كانت تقلع إلى بلاد (بنت)، إذ لم يكن هناك مرفأ للسفن مهيئًا كما كان الحال عند مصبات النيل على البحر الأبيض المتوسط حيث المدن العظيمة، ولذلك كانت كل بعثة تريد الإبحار إلى بلاد بنت تبتدئ بتجهيز المعدات من جديد، فكانت تحضر معها المواد الغذائية والماء بمقادير عظيمة، كما كانت تحضر سلعًا للتبادل ورجالًا من كل نوع، كالبحارين والجند، والحمارة إلخ. ولا بد أن نتصور كل المشاق التي يجب أن يتحملها رجال البعثة قبل بدايتها، والواقع أنه حتى في أيامنا نجد الملاحة في البحر الأحمر مشهورة بصعوبتها، إذ الجو في مياه هذا البحر الواقع بين شاطئين قاحلين حار جدًّا، هذا إلى وجود جزر صغيرة قاحلة، وعقبات من المرجان وغيرها مما يجعل الملاحة محفوفة بالمخاطر. ولا شك في أن بحارة الدولة القديمة كانوا يتخيرون الأوقات المناسبة للسفر في هذا البحر حتى لا يتعرضوا إلى مخاطره، وذلك حسب هبوب الرياح، فمن شهر يونيو إلى شهر أغسطس تهب رياح شمالية غربية على البحر الأحمر، وفي سبتمبر جنوبي خط عرض ١٦ شمالًا، تكون الرياح نادرة، ومن أكتوبر إلى أبريل كانت الرياح تهب من الشرق إلى الشمال الشرقي في خليج عدن، ومن الجنوب الشرقي في بوغاز «باب المندب» ثم يتجه نحو الشمال في الجهة الشمالية من البحر الأحمر.١٠٧

وفي هذه الأحوال كانت البعوث تبحر من القصير في شهر يونيو، وبذلك يمكنها أن تقطع ٢٠٠٠ كيلومتر في ثلاثين يومًا أو أربعين يومًا وهي المسافة التي تفصل القصير عن باب المندب. وفي منتصف شهر يوليو كان في مقدور البعثة أن تستمر في سيرها نحو الشرق حتى رأس جردفوي. ولكن كان لا بد من العودة حوالي أكتوبر بعد انتهاء عمليات التبادل التي كانت تحتاج إلى زمن. وإذا سار الإنسان بسرعة مع ريح رخاء فقد يصل في نهاية ديسمبر عند خط عرض ٢٠ شمالًا، وعندئذ لا تبقى إلا مسافة ٥٠٠ كيلومتر تقطع بالمجاديف في رياح مضادة، وإذا كانت الأحوال الجوية حسنة تصل البعثة أخيرًا إلى القصير في شهر يناير أو فبراير أي إلى النقطة التي أبحرت منها بعد غياب عام بأكمله.

ومما سبق يتضح أنه كانت هناك سلسلة عقبات للوصول إلى هذه البلاد، وذلك على فرض أن البحارين يعرفون أوقات هبوب الرياح الملائمة للسياحة والمعاكسة لها طوال العام، وأنه يمكنهم أن يوجدوا علاقات حسنة مع أهالي (بنت) يضمنون بها شحن البضائع اللازمة لهم في مدى بضعة أسابيع، وألا يجدوا في طريقهم بحرًا، أية عقبة من العقبات الخطرة، وعلى أية حال فإنه يوجد شك كبير في أن معظم البعوث التي أرسلت إلى بلاد بنت في عهد الدولة القديمة قد تعدت تجارتها بلاد «الأرترية» أو بلاد العرب السعيدة. هذا إلى أن الوصول إلى هناك كان يعد من الأعمال العظيمة في نظر سكان وادي النيل وما لدينا من المعلومات يحملنا على الظن بأن الملاحة إلى هذه الجهات الخيالية لم يبدأ المصريون القيام بها إلا بعد أن عرفوا بلاد سوريا ووصلوا إليها، ويدل على ذلك أن السفن التي كانت تمخر عباب البحر كانت تسمى «كبنت» وهو اسم بلدة جبيل (ببلوص)، إذ يبرهن ذلك على تتابع تاريخي.١٠٨
وعلى أية حال فقد ذكرنا أن أقدم بعثة معروفة لنا إلى هذه البلاد قامت من مصر في عهد الملك «سحورع» كما جاء ذكر ذلك في حجر «بلرم»، ولا نزاع في أنها لم تكن أول شيء من نوعه، إذ نشاهد رسم أحد سكان (بنت) مع أحد أولاد «خوفو» الذي كان أميرًا للبحر في هذا العهد. وهذا الرسم يشبه أسرى بلاد بنت الذين أحضرهم «سحورع» من هذه الجهة. ولا بد إذن أن يرجع عهد هذه الرحلات إلى زمن بعيد، ورغم ذلك فليست لدينا معلومات تدل على أن مثل هذه البعوث كانت ترسل إلى هذه الجهات قبل العهد المنفي. ومن آخر بعثة ذكرناها إلى هذه الجهات لم نعثر على وثائق تمكننا من أن نتحقق منها بصفة قاطعة على قيام بعثات معينة، ففي نقوش مقبرة بأسوان من عهد «بيبي الثاني» نقرأ أن «خنوم حتب» يفتخر قائلًا: «لقد رافقت سيدي خوي» إحدى عشرة مرة إلى بلاد بنت.١٠٩

على أننا لا نعرف إذا كان «خوي» هذا مخلصًا في قوله أو أن هذه الرحلات لو سلمنا أنها تمت فعلًا قد نفذت عن طريق البحر، إذ يجب أن نلاحظ هنا أن في الإمكان الحصول على منتجات بنت عن طريق بلاد النوبة والسودان. وسنرى عند الكلام على هذه الجهات أن المصري قد توغل نحو الجنوب والجنوب الشرقي من الفنتين منذ زمن بعيد. وقد كان أمراء هذه الجهات لهم شهرة عظيمة بصفتهم رؤساء القوافل. وقد كان منهم «حرخوف» الذي عاش في عهد «بيبي الثاني»، وقد قص علينا في تاريخ حياته رحلته إلى أعالي النيل وفي خلالها أحضر قزمًا مماثلًا للذي أحضره «باوردد» من بلاد بنت في عهد إسيسي أحد ملوك الأسرة الخامسة (جزء أول ص٣٤٨). وكذلك أحضر البخور ومعدن الإلكتروم، والخشب الأجنبي الذي ذكر في تاريخ «سحورع» أنه أحضر من بلاد (بنت)، وذكر كذلك بين قوائم المحصولات السودانية التي جلبتها القوافل التي أعدت في «الفنتين». ومما سبق يحتمل جدًّا ألا تكون البعوث البحرية إلا مكملة للتجارة البرية. وقد كانت هذه تعد لجلب كميات عظيمة من الصمغ والعطور، لسد النقص الذي كان عساه يحدث من تأخر المبادلات التي تقوم بها القوافل. على أن هذه البعوث ربما كانت أحيانًا ترسل على سبيل التقليد بمثابة إعلان لبداية حكم الملك الذي أرسلها.

العلاقات التجارية مع البلاد المتاخمة

لم تكن تجارة مصر مع البلاد المجاورة لها ذات أهمية تذكر، إذا استثنينا بلاد النوبة، إذ كانت تجارتها مع فلسطين وبلاد سوريا تجري معظمها بطريق البحر. على أن هذا لم يكن عائقًا لقيام التجارة بينها وبين مصر بالقوافل عن طريق الصحراء مارًّا بالقنطرة وشرقي بحيرة المنزلة. وعلى أية حال فإن المصري كان في كل عهود تاريخه يعمل كل ما في وسعه ليتحصن ضد أية غارة تأتي له من جهة البلاد المتاخمة، ولذلك كان يقيم الحصون والقلاع.

ولما أصبحت حدود الأرضين قوية الحصون، أخذت منطقة نفوذ البلاد تمتد تدريجًا حتى ضمت شبه جزيرة سيناء وسهول فلسطين الواقعة بين البحر الميت وساحل يافا وعسقلان وغزا، بل لقد سار «وني» الشهير بجنوده حتى سفح جبال الكرمل. وقد كانت المحاصيل المصرية ترد إلى هذه الجهات، ويؤخذ بدلًا منها النبيذ وزيت الزيتون، وهما من أهم محاصيل هذه الأقطار. وقد كان يجتمع في هذه التخوم رجال القوافل السورية الذين كانوا يوثقون الروابط التجارية مع بلاد نهر الأرنت (العاصي) بسهل (سارون). ومن المحتمل جدًّا أن انتشرت بوساطتهم بعض السلع أو الصناعات الفنية بين مصر وبلاد دجلة والفرات منذ عصر ما قبل الأسرات.١١٠
أما من جهة بلاد لوبيا وهضبة برقة فقد كان فيها قبائل رعاة تثور أحيانًا، مما كان يحمل الفرعون على السهر على حماية تخوم الدلتا الغربية، وقد كان يجلب منها الزيت الذي يطلق عليه الزيت اللوبي، وكان يستعمل حسب التقاليد لدلك الأجسام.١١١
وقد كانت هجمات هؤلاء اللوبيين تدعو الفرعون للقيام بحملات ضدهم، فينكل بهم ثم يعود إلى مصر ولا يلبث أن يقوم بهجمة أخرى فينقض عليهم كرة ثانية وهكذا. وقد ترك لنا الفرعون «سحورع»، نقشًا غائرًا يمثل انتصاره على اللوبيين وفيه نرى جماعة المهزومين من قبيلتي «باقت» و«باسن» ومعهم قطعانهم من البقر والماعز والحمير تعد بالآلاف.١١٢
وقد كان سكان الواحات وهم من الجنس اللوبي أيضًا خاضعين لسلطان الفراعنة. وكانت صناعتهم رعي بعض الحيوان وجني ثمار نخيلهم هذا إلى أنهم كانوا يزرعون الكروم التي كانت لها شهرة خاصة،١١٣ وكان الفرعون كذلك يخضد من شوكتهم إذا قاموا بأي عصيان.

أما سكان «إيونتيو» وهم سكان الكهوف في صحراء العرب فلم يكن لهم أية شوكة أو سطوة لأنهم كانوا قومًا جياعًا، وأهم ميزة لهم أنهم كانوا قواد قوافل مجيدين عندما كانوا يفضلون هذه المهنة على القيام بغارات على بلاد النيل المجاورة، وكان الفرعون في هذه الحالة يرسل عليهم صواعق من جنوده فيرتدون إلى كهوفهم مدحورين.

وفي الجملة كانت العلاقات التجارية تجري بدون عناء كبير بين لوبيا والواحات وشبه جزيرة سيناء وبدو صحراء العرب، على أنه في الواقع كانت الأقاليم الخارجة عن وادي النيل والمتاخمة له تعتبر أنها جزء من الدولة المصرية، ولكنها في الوقت نفسه كانت تتطلب يقظة مستديمة من قبل الفرعون، وغالبًا ما كان يقوم بهذه المهمة رجال من بين رجال هذه القبائل نفسها مقابل أجر يدفعه الفرعون لهم.

العلاقات التجارية بين مصر وبلاد النوبة والسودان

كان إقليم أسوان منذ أقدم العهود المصرية يعتبر الجهة التي تتجمع فيها تجارة سكان القطر المصري وبلاد النوبة السفلى. ولا غرابة في ذلك فإنه كانت بين البلدين روابط جنسية وثقافية، إذ نجد أن نمو البلدين وثقافتهما العامة من الشلال الأول قد بقيت واحدة بشكل ظاهر، ولكن الوحدة الثقافية التي كانت بين البلدين انفصم عراها حوالي العصر الذي بدأ فيه ملوك «نخن» (الكوم الأحمر) يتولون عرش البلاد المصرية. ومنذ العهد الطيني أخذت بلاد النوبة السفلى بما هو معروف عن أهلها من بطء الحركة تتباعد عن الصعيد وتنحاز إلى السودان، فغلب عليهم في ذلك عوامل الدم.

وعلى أية حال فإن مقاطعة «الفنتين» المتاخمة لحدود بلاد النوبة رغم أنها كانت تابعة لمصر سياسيًّا، فقد بقي سكانها من الجنس النوبي حتى هضبة السلسلة، وكان هذا الإقليم يطلق عليه اسم (أرض ستت) «تاستت» أي نوبية أو مقاطعة النوبيين. وقد بقيت صبغة إقليم أسوان كما هي حتى يومنا هذا، وذلك لأن موقعها الجغرافي قد جعل منها إقليم انتقال بين البلدين من الوجهة الجنسية، وكذلك من الوجهة التجارية، ويدل على ما كان بين مصر وبلاد النوبة من النشاط التجاري نفس كلمة «آب» (الفنتين) ومعناها العاج. وكذلك «سونت» أي أسوان الحالية ومعناها التجارة.١١٤
والواقع أن إقليم بلاد النوبة السفلي كانت أهميته تنحصر في أنه الطريق الموصل إلى الصحراء التي كانت تحتوي على مناجم الذهب الواقعة في الشرق، وكذلك نحو الأقاليم اليانعة الواقعة في أعالي النيل. وقد كان سكان قبائل هذه المقاطعة يعيشون على تربية الماشية ومن تسهيل سبل المبادلة بين القطرين. ولما كانوا بطبعهم يجنحون إلى العصيان كما هو الحال مع كل الأقوام المتاخمة لمصر، فإن الفرعون كان يرسل عليهم حملات شديدة لكبح جماحهم، على أنهم كانوا دائمًا على استعداد للقيام للهيئة الحاكمة بقيادة القوافل أو الانخراط في سلك الجيش بصفتهم جنودًا مرتزقة.١١٥
وقد كان ملوك الدولة القديمة يرسلون الحملات المسلحة إلى هذه الجهات لتأمين الطرق التي تؤدي إلى السودان، أو لإخضاع أهالي النوبة المغيرين على بلاد القطر. وقد كانت هذه الحملات تأتي بفوائد من كل جهة، إذ كانت أحيانًا تستولي على ما لديهم من العاج والأبنوس، فتدلنا الآثار على أن الملك «خع سخموي» أحد ملوك الأسرة الثانية وبعده الملك «زوسر»، قد توغلا في بلاد النوبة وقد أخضع الأخير منهما لسلطانه ما يقرب من اثني عشر فرسخًا من أسوان إلى المحرقة، وهذا الإقليم أطلق عليه اليونان اسم «دوديكاشين Dodecashene».
وجاء في تواريخ حجر «بلرم» أن الملك «سنفرو» — أو ملوك الأسرة الرابعة — ذهب لإخضاع هذه الجهات وقد رجع ومعه ٧٠٠٠ أسير و٢٠٠٫٠٠٠ رأس، من الحيوانات الكبيرة والصغيرة.١١٦
وفي عهد الملك «بيبي الأول» نجد في النقوش بعض أسماء القبائل النوبية التي جند منها «وني» جيشه لإخضاع الآسيويين، منها قبائل: «إرتت» و«مجا»، و«أمام» و«واوات» و«كاوو». وقد ذكر «مسبرو» أن قبائل «واوات»، و«المجا» كانوا في شرق النيل، أما البقية فكانت على الضفة الغربية.١١٧

ومن المحتمل جدًّا أن هذه القبائل لم تمتد قط نحو الجنوب، ولم تصل الفتوح المصرية إلى الشلال الثاني. أما الأقاليم السودانية التي كانت تقع في الشرق فإنها لم تكن معروفة إلا عن طريق روايات النوبيين، من الخدم والجنود الذين قاموا برحلات متوغلين في داخل هذه البلاد مع عظماء الفنتين.

وفي عهد الملك «مرنرع» خلف «بيبي الأول»، كلف «وني» بحفر خمس ترع عند شلال أسوان لتسهيل مرور السفن والقوارب، وقد صنعت هذه القوارب من خشب السنط من بلاد «واوات». وقد وجد ذكرى هذا الحادث ممثلًا في نقش غائر على صخور الشلال وهو في كنف الإله «خنوم» إله الشلال.١١٨

وكذلك في عهد حكومة الملك «مرنرع» قام «حرخوف» برحلاته الأولى نحو الجنوب كما سبق ذكر ذلك (الجزء الأول ص٣٨٢).

ومن منطوق نقوش سياحات «حرخوف»، يمكن الوصول إلى بلاد «بنت» بالتوغل في الفنتين نحو الجنوب الشرقي. على أن العقبة الوحيدة في عدم إمكاننا تتبع «حرخوف» في مخاطراته والبعوث التي قام بها هي عدم معرفتنا بالضبط المواقع الجغرافية التي ذكرها لنا، أي أننا لم نوفق للآن إلى تحديد أقصى نقطة وصل إليها في حوض نهر النيل الأعلى.

وعلى أية حال فإن حفائر الأستاذ «ريزنز» في السودان قد أظهرت أن الأسرة السادسة قد بلغت في توغلها حتى (كرمه) عند الشلال الثالث١١٩ إذ أقيم هناك متجر.

ولا نزاع في أن وعثاء الطريق ومخاطرها كانت عظيمة جدًّا، ولذلك كان يعد التوغل في هذه الجهات من أعظم الأعمال الجليلة بالنسبة لهذا العصر. ولذلك يقول «مسبرو» كان الطريق البري متعبًا ولا نهاية له، ولم يكن لدى القوم غير الحمير من حيوانات الحمل، ولم يكن في مقدورها غير قطع مسافات قصيرة، فكان الإنسان يقضي الأشهر تلو الأشهر في السير في أقاليم، كانت قوافل الجمال تقطعها في بضعة أسابيع. أما الطرق التي كان المسافرون يقتحمونها فهي التي كان قد حفر فيها آبار للماء على مسافات متقاربة، وقد كانت الحاجة لإرواء ظمأ الحمير كبيرة، واستحالة نقل المياه معهم بكميات وفيرة من الأسباب التي أجبرت المسافر على أن يسلك طرقًا ملتوية مرتبكة. وقد كانوا ينتخبون لأجل التبادل ما خف حمله وغلا ثمنه، فكان المصري يحمل معه من بلاده الخرز المختلف الأنواع، والمجوهرات والسكاكين الخشنة الصنع، والروائح الشديدة الشذا، ولفافات النسيج البيضاء أو الملونة التي لا تزال تروق في أعين هذه الجهات الأفريقية حتى الآن. أما أهالي النوبة والسودانيون فكانوا يدفعون ثمنًا لهذه الذخائر التي لا تقدر بثمن في نظرهم، الذهب على هيئة تبر أو قطع، أو ريش النعام، أو جلود الأسود أو الفهود، أو العاج، والودع، وقطع خشب الأبنوس، أو البخور، أو الصمغ. وكذلك كان يهتم المصريون بأخذ القردة والنسانيس التي كان الملوك والأمراء يتسلون بها ويعرضونها موثوقة في قوائم كراسيهم في أيام المقابلات الرسمية، أما القزم الذي كان من السلع النادرة (دنج) فكان دائمًا يطلب ولكن دون الحصول عليه قط.

وقد أصبح أمراء «الفنتين» من أهل اليسار وذلك إما بالنهب أو بالتجارة وصاروا يعدون من عظماء أشراف الصعيد.١٢٠

وكذلك يقص علينا «بيبي نخت» أمير «الفنتين» أعماله العظيمة في بلاد النوبة (انظر جزء أول ص٣٨٩ إلخ) إذ يقول: إنه بناء على أمر الملك «بيبي الثاني» قام بمهاجمة بلاد «واوات»، و«إرتت» الثائرة وذبح من أهلها خلقًا كثيرين وقد أحضر معه رؤساءهم رهينة، وعددًا عظيمًا من الأسرى والماشية، وقد قام بعده بفترة «سبني» بحملة لإحضار جثة والده (انظر جزء أول ص٣٩١) «مخو» الذي مات في بلاد «واوات» ليحنطه ويدفنه في بلده الأصلي.

وقد انتهز هذه الفرصة وحمل مائة حمار من محاصيل هذه البلاد الأجنبية، وهذا آخر عمل من نوعه نعرفه في عهد الدولة القديمة وربما ما خفي كان أعظم.

وهكذا نرى أنه منذ العصر الطيني حتى نهاية الدولة القديمة كان ثراء البلاد الاستوائية يجذب المصريين إلى بلاد النوبة والسودان ويحملهم على القيام ببعثات بالقوافل محفوظة بالمخاطر. ويلاحظ في خلال تلك الفترة أن الرسل الذين كان يرسلهم الفرعون وأمراء أسوان كانوا يتبعون بلا هوادة سياسة حكيمة قبلتها توسيع نفوذ الفرعون في هذه الجهات، وقد كان هذا يتطلب من وقت لآخر إرسال حملات تأديبية لإخضاع الثوار كما كان الحال في سيناء وسوريا وفلسطين.

figure
مناظر صناع مصريين يؤدون عملهم وسوق مصرية تجري فيها المبادلات.

هوامش

(١) Inscribed Statue of King Zoser, in Ann. Ser. A. 1926 p.p. 192 sq.
(٢) Garstang, Mahasna, pl. XXVI, 7.
(٣) Weill, Origines, p. 233.
(٤) Junker, Giza I, p. 150.
(٥) Pirenne, Institutions, t.II, Index No. 37.
(٦) Weill, Origines, p.p. 232, 235.
(٧) Junker, Giza I, p. 150.
(٨) Reisner, Mycérinus, app. E. p. 273–277; Chronique d’Egypte, No. 16, 1933 p. 240–2; Petrie, Meidum and Memphis, III,, p. 9; Borchardt, Sahure, t. I, p.p. 85 sq.’ Neferirkare, p.p. 45 sq; Neuserre, p. 146.
(٩) Chronique d’Egypte. p.p. 45 sq.; Neuserre, p. 146.
(١٠) Holscher, Das Grabdenkmal des Konigs Chephren, p.p. 36, 70; Junker, Giza I, p. 124–125.
(١١) Herodote, II, p. 124–125.
(١٢) Jéquier, Hist. Civ. Eg. p. 163; Meyer, Historic de l’Ant. T. II, p. 221.
(١٣) Weill, Origins, p.p. 154, 157–159.
(١٤) Weill, Origins, p.p. 238 sq.
(١٥) Pirenne, Institutions t. I, Index III No. 42; Maspero, Carriѐre administrative dans Journ. Asia. t. XV, 1890 p.p. 405 sq.
(١٦) Mariette, Mastabas, p. 100.
(١٧) Borchardt, Sahure, p.p. 89.
(١٨) Mariette, Mastabas, p. 322.
(١٩) Pirenne, t. III, & Index No. 66.
(٢٠) Ancient Egypt, 1926, p. 74.
(٢١) Gunn, A sixth dynasty letter from Saqqara, in An. Serv. A. t. XXV, 1925, p.p. 242.
(٢٢) Sottas, Etude critique sur un acte de vente immobiliѐre du temps des Pyramids, Paris 1913, p.p. 5–21.
(٢٣) Excavations at Giza, Vol. II. P. 191.
(٢٤) Moret, Historie de l’Orient, p. 218.
(٢٥) Excavations at Giza. II, p. 169.
(٢٦) Seth, Urk. t. I, p. 49.
(٢٧) Sethe, Urk. I, p. 70; Pirenne Institutions, vol. I, p. 322.
(٢٨) Kees, Egypten, p, 164.
(٢٩) Borchardt, Grabdenkmal des Koings Sahure, p. 80.
(٣٠) ramiden texts, 1068.
(٣١) E. Meyer, Historie de l’Antiquite, t. II, p. 173.
(٣٢) Jéquier, Le pap. Prisse et ses variants, Paries, (Geuthner), 1911.
(٣٣) Montet, Scѐnes de la vie privée, p.p. 406–407.
(٣٤) Herodote, II, p. 97.
(٣٥) Excavations at Giza, vol. II, p. 220, fig. 240.
(٣٦) Erman-Ranke Egypten und Egyptische Leben, p. 571.
(٣٧) Kees, Egypten, p. 108.
(٣٨) Gauthier, Les transports dans l’Anc Egypte, dans “Egypte Contemporaine” No. 139 Janvier 1933, p. 232.
(٣٩) Etudes de Nautique Egyptienne, t. I, 1925, cf. Préface, p.p. VI-VII.
(٤٠) Capart, Débuts de l’Art, fig. 141; The Earliest Boats on the Nile in J. E. A. 1917 p. 174.
(٤١) Petrie, Meidum pl. 23; Egyptian shipping ap. Anc. Eg. 1933 pl. 12.
(٤٢) Boreux. Etudes de Naulique Egyptienne, p.p. 175 sqq.
(٤٣) Boreux, Etudes de Nautique Eg. p.p. 7 sqq.
(٤٤) Montet, Scѐnes de la vie Privée. p.p. 334 sqq. Boreux, Etudes de Nautique p.p. 236 sqq.
(٤٥) Hérodote II, 96.
(٤٦) Montet Scѐnes de la vie Privée p.p. 347 fig. 45.
(٤٧) Erman Ranke, Ægypten und Aegyptisches Leben, Fig. 242– 245 & Gauthier Transport dans l’ancienne Egypte, p. 232.
(٤٨) Br. A. R. t. I, 146–147.
(٤٩) Boreux, Etudes de Nautique Eg. P. 465.
(٥٠) Koster, Schiffahrt und Handelsverkehr des Oestlichen mit-telmeeres im 3 und 2 Jahrlausend vor Chr. (Beihefte) zum Alten Orient, Heft I, 1924 cf. p.p. 1 sqq.
(٥١) Henry, L’Egypte pharaonique, ou historie des Egyptiens sous leurs Rois nationaux t. II p.p. 443–444 et 467.
(٥٢) Cf. Koster, Schiffahrt und Handelsverkehr p.p. 10 sqq.
(٥٣) Koster, op. cit. p. 19.
(٥٤) Koster, zur Seefahrt den Alten Aegypter ap. Z. E. S. t. 58, 1923, p. 131.
(٥٥) Sethe Z. E. S. t. 45 p. 7 sqq.
(٥٦) Kees, Aegypten p. 22.
(٥٧) Pirenne, Institutions, t, II p. 344.
(٥٨) Leps-Denk. II, 96; Capart Rue De Tombeaux à Saqqara, pl. 32 p.p. 31 ; Steindorff, Das Grab des Ti, pl. 133; Klebs, Relief 1, 116.; Von Bissing, Gem ni-Kai 1, 23 ;S Hassan dans Ann.Ser A. t. XXXVIII p.52 pl. XXVI; Etudes de Myth. et Arch. Eg. T. IV p.p. 253–257; Montel, Scѐnes de la vie privée p.p. 319–326; Erman, Reden, Rufe und Leider auf Graberbil-den des Alten Reiches p.p. 48 sqq.
(٥٩) Breasted, History of Egypt, p. 97.
(٦٠) Social life in ancient Egypt, p. 154.
(٦١) Gazette Archéo-logique, 1880 p. 97-100; Mythe et Arch t. IV p. 257.
(٦٢) Das Grabdenkmal des Konigs Chephren, Leipzig, Heinrich 1912 p.p. III sq.
(٦٣) Sottas, Etude critique sur un acte de vente immobiliѐre du temps des Pyramides, Paris 1913, p.p. 5–21.
(٦٤) Von Bissing Ein Hauskauf im IV Jahrtausend Von Chr. Sitz. der Bayer. Akad. der Wiss. Zu München Phil. Hist. Kl. 1920 Abh. 14 p.p. 1 sqq.
(٦٥) Chassinat, Un type d’étalon monétaire sous l’ancien Empire dans Rec. Trav. T. XXXIX, 1920 p.p. 79–88.
(٦٦) R. Weill. L’unité de valeur, “ Shat “ et le papyrus de Boulaq n. II, Revue de l’Egypte ancienne t. I. 1925 p.p. 45–87.
(٦٧) Von Bissing , Das aelteste Geld (Chronique d’Egypte) No. 9 1930 p.p. 102–105.
(٦٨) Pirenne, Institutions, t, II p. 293–296, 349–344.
(٦٩) في الطبعة الأخيرة من كتاب Urkunden للدولة القديمة يظهر أن الأشياء الثلاثة التي أعطيت ثمنًا للبيت هي قطعة أثاث وقطعتان من القماش كما ذكر ذلك الأستاذ زيته.
(٧٠) Pirenne, Institutions t. II 343.
(٧١) Pirenne, Institutions t. II p.p. 296 et 343.
(٧٢) Eisenlohr, Ein Mathematisches. Hansbuch der Alten Aegypter, Leipzig 1877 p.p. 151–152 et No. 62 pl. XX.
(٧٣) The Rhind Mathematical papyrus, Liverpool, 1923; Weill, La “Kite” d’or de Byblos dans Rev. Egypt. t. II fasc. 3–4. 1924, p.p. 21–37.
(٧٤) Montet, Byblos et l’Egypte, p. 272 ; Montet, Les Egyptiens à Byblos, p. 243.
(٧٥) Montet, Byblos et l’Egypte, p. 271; Br. A. R. t. I, p.p. 55, 146–147.
(٧٦) Montet, Byblos et l’Egypte, p. 73 No. 58.
(٧٧) Op. Cit. p. 69, No. 46; Les Egyptiens à Byblos p. 255.
(٧٨) Ann. Serv. A. t. XXXVIII, p. 520.
(٧٩) انظر الجزء الأول صفحة ٣٥٢ وما بعدها.
(٨٠) Borchatdt, Das Grabdenkmal des Konigs Sahure, t. II, p.p. 25–28, 86 et pl. XI, XII.
(٨١) Montet, Byblos et l’Egypte p.p. 70 No. 47–63.
(٨٢) Montet, Byblos et l’Egypte, p. 35 pl. 24, 27; p. 38, pl. 28.
(٨٣) Boreux, Etudes de Nautique Egyptienne, p. 469.
(٨٤) Montet, Byblos et l’Egypte, p. 268. Sq.
(٨٥) Sethe, Pyr. 518 d.
(٨٦) Gardiner, A dmonitions, p. 32.
(٨٧) Borchardt, op. cit. t. I, fig. 13.
(٨٨) Petrie, Royal tombs, t. I, p. 8.
(٨٩) Koster, Schiffahrt und Handelsverkehr, p. 14.
(٩٠) Hall, The relation of Aegean with Egyption Art, in J. E. A. 1914, pp. 110–118.
(٩١) Herman Kees, Ægypten, p.p. 109–110.
(٩٢) Koster, Schiffahrt und Handelsverkehr p. 23; Seefahrten der Ægypter, p. 17.
(٩٣) Petrie, Royal tombs, t. II, pl. 54. p. 46.; Abydos, t. I, pl. 8, p. 6; t. II, p. 42, 28; Social life in Ancient Egypt, p. 164–5.
(٩٤) E. Peet, Early Egyptian Influence in the Medit. (Ann. Of the British school of Athens.) XVII (1910–1911) p. 253–254.
(٩٥) Hell, Relations of Aegean with Egyptian Art in J. E. A. 1912, p. 114 pl. XVII, Fig. 2.
(٩٦) Evans, Palace of Minos, t. I, (Oxford 1921) p.p. 85 sq. 54–55; Early Nilotic, Lybian and Egyp. Relations with Minoan Crete p.p. 11 sq.; Peet, Early Egyp. Influence p. 255.
(٩٧) Peet, Early Egypt. Influence p. 255.
(٩٨) Fimmen und Reisinger, Die Kretisch Mykenische Kultur, p. 154; Evans, Scripta Minoa, p. 121; Newberry, Scarabs, p.p.56 sq.
(٩٩) Petrie, Nagada and Ballas, p.p. 29, 44, 45, 48 ; Petrie, Prehist. Egypt p. 41.
(١٠٠) Maspero, Historie Ancienne, t. I, p. 391 No. 3.
(١٠١) G. Glotz, La Civilisation Egéenne, p. 5.
(١٠٢) Evans, Early Nilotic Relations, p. 6 sq.
(١٠٣) Br. A. R. t. I. p. 5. 161.
(١٠٤) (a) Lieblein, Handel und Schiffahrt auf dem Rothen Meere, p.p. 52–75.
(b) Krall, Studien zur Geschichte des Alten Aegypten, IV, Das Land Pounit, Litz des Kais Akad. Der Wiss in Wien Phil. Hist. Kl. Band CXXI Abh II, 1890.
(c) Maspero, Le pays de Pouanit, Etudes de Myth. & Arch. Eg. t. Vl p.p. 38–41; De Quelques Navigations des Egyptiens sur les CÔtes de la mer Erythrée, Même Ouvr. t. IV. p.p. 75–118.
(d) Paul Wissowa Article Saba.
(١٠٥) Meyer, Historie de l’Antiquité, t. II, p.p. 256, 265.
(١٠٦) Erman Ranke, Ægypten und AEgytisches Leben, p. 600 sq.
(١٠٧) Koster, Seefahrten der Alten Ægypter, p. 26.
(١٠٨) Kees, Ægypter, p.122.
(١٠٩) Br. A. R. t. I, p. 361; Sethe, Urk. I, p.p. 140–141.
(١١٠) Meyer, Historie de l’Antiquité, t. II, p. 182.
(١١١) Mewberry, Ta Tehenou, Oliverland in Anc. Eg. (1915) p. 97–102.
(١١٢) Borchardt, Das Grabdenkmal des Konigs Sahure, t. II, pl. I, p. 72 sq.
(١١٣) Kees, Ægypten p. 50.
(١١٤) Erman Ranke, Ægypten und Ægytisches Leben, p. 592; Kees, Ægypten p.p. 107, 339. Sq. ; Meyer, Hist. de l’Ant. t. II, p. 44.
(١١٥) Moret, Des clans aux empires, p. 196; Meyer, Hist. de I’Ant. t. II, p. 46. ; Cf. Meyer, op. cit. t, II, p.p. 155, 185 et 233.
(١١٦) Br. A. R. t. I, p.146.
(١١٧) Msspero, Etudes de Myth. et d’Arch. Eg. t. VI, p. 36.
(١١٨) Lepsius Denkmaler, t. II, p. 116 b.
(١١٩) Reisner, Excav. at Kerma (Harvard African studies) t. V–VI (1923); Kees, Ægypten, p. 346.
(١٢٠) Maspero. Hist. Anc. des Peuples de l’Orient, t. I, p.p. 426: Pirenne, Hist. des Inst t III, p.p. 127 sq.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤