الفصل التاسع

الفن

الفنون والحرف الدقيقة في العصر الطيني وما بعده

تكلمنا في عصر ما قبل الأسرات عن بداية ظهور الفن عند المصريين، وقد تمثل ذلك في بعض الصور المنحوتة في العاج أو على الأحجار الصلبة كحجر البازلت وغيره، وكذلك في صنع بعض أوان من الفخار والأحجار الصلبة وغيرها كالديوريت والشيست والمرمر مما يدل على ذوق سليم، ولكن أمارات الفن الصحيح بدأت تظهر في أوائل عصر الأسرات وأخذت في التدرج والرقي بخطوات واسعة، حتى بلغت أوجها في عهد الأسرتين الرابعة والخامسة.

ويجب أن يراعى عند الكلام على الفن في القطر المصري في هذه الفترة البحث في جميع نواحيه، إذ في الواقع لم يكن يجري على نظام معين في التقدم والرقي، بل كان خاضعًا لمؤثرات عدة، أهمها المكان أو البيئة التي نشأ منها، والمعتقدات الدينية التي تحيط بهذه البيئة، وكذلك الفرعون الذي كان يسيطر على البلاد في ذلك الوقت، ومقدار تشجيعه للفنون والحرف والصناعات الدقيقة المختلفة، فقد يحدث أن تكون الفنون مثلًا في عهد أحد الملوك نامية زاهرة لتشجيعه لها، ثم يأتي بعده عدة ملوك آخرين ينحط في أيامهم الفن، ولا أدل على ذلك مما نشاهده في عهد الملك «زت» (ثعبان). إذا حكمنا على عصره بمقدار ما وجدناه من الذوق الفني في لوحته، إذ كانت الفنون في عهده زاهرة، ثم جاء من بعده خلف انحطت في عهدهم الفنون الجميلة حسب ما وصل إلينا من الآثار التي كشفت، كما سيأتي شرح ذلك.

(١) فن العمارة

لم يبق لنا الدهر من مباني هذا العصر الدنيوية شيئًا يذكر، ولذلك تنحصر كل معلوماتنا عن المباني فيما بقي لنا من مبانيهم الجنائزية من قبور ومعابد وهياكل إلخ. ولحسن حظ التاريخ أقام المصريون هذه المباني على حافة الصحراء بعيدة عن مياه الفيضان، ولذلك بقيت لنا محفوظة حتى عصرنا هذا في الوجه القبلي مما لم توفق إليه أمة أخرى في العالم.

انتشار المباني باللبن ومتانتها

أما مبانيهم الدنيوية فكانت على العكس تقام في وسط المزارع من اللبن، ولذلك كان اختفاؤها محتمًا، لعدم صلابة المادة التي تبنى منها أولًا، ولتعاقب المدنيات ثانيًا، وكان ظهور أول مميزات واضحة في فن المعمار المصري، في خلال الأسرتين الأولى والثانية، انتشار استعمال اللبن في إقامة الجدران وصنع الأبواب والعمد والسقف من الخشب، وهما المادتان اللتان كانتا في متناول المصري في ذلك العصر، ولا غرابة في ذلك؛ فطمي النيل الذي كان يخلط ببعض مواد أخرى وخاصة التبن كان صالحًا لعمل قوالب من اللبن صلبة، قاومت عدة آلاف من السنين كما يشاهد ذلك في مدن الأهرام المكشوفة حديثًا؛ إذ نجد أن القالب منها يبلغ طوله أحيانًا نحو ٤٥ سنتيمترًا في عرض ٢٥ سنتيمترًا ولا يزال باقيًا على حالته، وقد لقيت إقامة المعابد باللبن تقليدًا متبعًا في كل عصور التاريخ المصري، وذلك لأن المصري كان بطبعه محافظًا. يضاف إلى ذلك أن طبيعة البناء باللبن في جو حار كجو البلاد المصرية لا يمتص الحرارة بسهولة كالأحجار الصلبة، وربما كان ذلك من أهم الأسباب التي جعلت المصري العادي — بل الملك أيضًا — يحافظ على إقامة مبانيه الدنيوية باللبن، وقد لاحظ المصري هذه النظرية، أي أن اللبن موصل رديء للحرارة في أمور طبقها هو بنفسه، وذلك أننا شاهدنا في مقبرة العظيم «رع ور» أنه قطع لنفسه مائدة قربان عظيمة من المرمر ووضعها في مقبرته، ولكنه لاحظ أن تعرضها لحرارة الشمس يجعل حجرها يتفتت، فأحاطها بقوالب من اللبن فبقيت محفوظة لنا للآن، أما الجزء الذي تداعى من حوله اللبن فقد وجد مفتتًا.

بداية استعمال الحجر في المباني

ومن ثم نقل المهندس المعماري المصري شكل المباني التي كانت باللبن إلى تلك التي شيدها بالحجر الجيري عندما اهتدى إلى كيفية استعماله.١

ولا غرابة في ذلك فإن المصري كان دائمًا يريد أن يمثل ما يقع تحت حسه في حقله ومزارعه، في بيته وفي معبده وفي قبره، وهذا أمر طبيعي، وقد لازمته هذه التقاليد طوال تاريخه العظيم رغم التقلبات والرقي والفتوح والمؤثرات الخارجية التي تناولت حياته.

«إمحوتب» المهندس المصري وبناء هرم سقارة المدرج

ويرجع الفضل في ذلك إلى مهندس المعمار العظيم «إمحوتب» إذ قد استعملها في بناية معبدي الهرم المدرج وملحقاته، وكذلك في إقامة قبر «زوسر» نفسه أول ملوك الأسرة الثالثة. وقد استعمل «إمحوتب» على وجه عام قطعًا صغيرة من الحجر الجيري الأبيض في مبانيه الجميلة الصغيرة الحجم، أما في المباني الضخمة فكان يستعمل في بنائها قطعًا صغيرة كذلك من الحجر المحلي كما يشاهد ذلك في هرم سقارة المدرج. وبعد حوالي قرن من الزمان من حكم «زوسر» جاء كل من الملكين «سنفرو» و«خوفو» في بداية الأسرة الرابعة، واستعملا قطعًا ضخمة من الحجر في بناء الهرم وفي كسوته وفي بناء جدران المعابد، وقد شوهد أن بعض القطع الفردية يبلغ طول الواحدة منها أربعة عشر مترًا في ارتفاع سبعة أمتار (كما يشاهد ذلك في معبد الوادي والمعبد الجنازي لهرم «خفرع») ويرجع الفضل في ذلك إلى كثرة استعمال النحاس لتسهيل قطع الأحجار في البلاد كما سنفصله فيما بعد.

استعمال الأحجار المختلفة في المباني في عهد الأسرتين الرابعة والخامسة

وفي عهد «خوفو» بدأ المهندسون المعماريون يستعملون حجر الجرانيت الذي كان يجلب من أسوان وحجر البازلت بدلًا من الحجر الجيري في إقامة الجدران وفي كسوتها، وهذا التقدم في فن المعمار قد استمر في عهد ملوك الأسرة الرابعة الذين خلفوا «خوفو»، وكان من نتائج استعمال هذه الأحجار الصلبة القطع أن أقام منها الملك «خفرع» معبد الوادي الساذج التصميم، البسيط المنظر، وعمده المربعة الشكل، المصقولة صقلًا بديعًا ورصف رقعة مدخله بالمرمر.٢

وفي عهد الأسرة الخامسة ازداد استعمال الجرانيت، وتفنن المصري في صنع الأعمدة منه، كما يظهر ذلك في معبد «سحورع» حيث صنعت عمده على شكل سيقان النخيل وغيرها من الأشكال النباتية، مما يشعر بمحافظة المصري على استعمال الأشكال القديمة التي كانت مألوفة لديه قبل معرفته الأحجار الصلبة.

تقليد الحجر للأجزاء الخشبية

أما كثافة الجدران — وتلك كانت من المميزات الضرورية في أشكال المباني المقامة من اللبن — فإنها بقيت على حالها في المباني الحجرية التي سادت في عهد الأسرة الرابعة، وكذلك صنعت من الحجر في أواخر الدولة القديمة الأجزاء التي كانت تصنع من الخشب في المباني كالسقف والعمد، ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن المصري كان يمثل الأبواب المصنوعة من الخشب في الحجر كما يشاهد ذلك في معبد الملك «زوسر» فإن أبوابه كانت مصنوعة من الحجر وإن كانت لا تستعمل، وذلك محافظة على القديم من جهة، ورغبة في طول بقائها من جهة أخرى.

وقد استعمل «شبسكاف» ابن الملك «منكورع» المباني الضخمة المميزة للأسرة الرابعة بإقامة مصطبته الغريبة الشكل في دهشور «مصطبة الفرعون» (انظر جزء أول ص٣١٣) ورغم أن الأهرام في عهد الأسرة الخامسة أصبحت أقل حجمًا وصلابة في تركيبها، فإن استعمال الأحجار الصلبة كان سائرًا نحو الرقي، وبخاصة في إقامة العمد وتنوع أشكالها، ونقوشها، ونحتها.

المصانع المصرية في أسوان لقطع الأحجار وتجهيزها

(وليس هناك أي مجال للشك في أنه كان يوجد في أسوان وفي محاجرها مصانع ومدارس لإتقان فن النحت وقطع الأحجار وتوريدها لمعابد الملوك في ذلك العصر، ولا أدل على ذلك من السفن التي كانت تشق عباب النيل محملة من أسوان بالأعمدة، والشرفات، والأفاريز المجهزة لتقام في الأماكن التي أعدت لها (انظر جزء أول ص٣٥٤)

استعمال البكرات

ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن المصري في ذلك الوقت قد توصل إلى اختراع البكرات التي تستعمل لرفع الأحجار الضخمة، وقد عثر حديثًا في منطقة الأهرام على بكرة كاملة مصنوعة من حجر الجرانيت تدار بوساطة ثلاثة حبال، وقد وجدت في إحدى منازل مدينة الهرم الرابع، وكذلك عثر على جزء كبير من بكرة أخرى في معبد الهرم الثاني الجنازي كما ذكرنا آنفًا (انظر جزء أول ص٢٨٨) وبهذا الكشف هدم كثير من النظريات التي كان ينسجها خيال المهندسين في كيفية رفع الأحجار إلى ارتفاع شاهق.

جبانات هذا العصر ومقابره

كانت الجبانات تقام في هذا العصر كما ذكرنا عند حافة الصحراء، ولم يختلف القبر في بداية العهد الطيني عن قبر ما قبل الأسرات، إلا في إدخال بعض التحسينات، فمثلًا نجد أن في عهد الأسرة الأولى أخذ القوم يقيمون قبورهم على شكل حجرات مستطيلة عظيمة الحجم بالنسبة لقبور ما قبل الأسرات، وقد زادوا في تنميقها وتجميلها، فكسوها من الخارج باللبن، وأحيانًا كانت تكسى بكساء ثان من الخشب. وكان يتوصل إلى حجرة الدفن من أعلى أو بواسطة سلم مبني في صلب المقبرة. وهذا الشكل المستطيل للمقبرة قد أطلق عليه العلماء لفظة «مصطبة» فيما بعد، وذلك لوجه الشبه بينها وبين المصطبة التي تبنى أمام بيوت الفلاحين في عصرنا هذا، والمتأمل في الجدران التي تحيط بهذه المصطبة يجد أنها مائلة بعض الشيء. ويلاحظ أنه من أول الأسرة الأولى إلى الأسرة الثالثة كانت جدران المصطبة من كل نواحيها محلاة بكوى على هيئة أبواب أطلق عليها علماء الآثار «الأبواب الوهمية» أو «الأبواب الكاذبة». وكانت هذه الأبواب تحذف في المصاطب الصغيرة من الجهة المقابلة للصحراء، أي من الجهة الغربية. وأحيانًا كانت تحذف من كل الجهات إلا جهة الوادي، وقد انحصر وضعها في الجهة الشرقية فقط منذ الأسرة الرابعة بدون أي استثناء.

موضع القربان في القبر

أما القرابين التي كانت توضع حول جثة المتوفى في حجرة دفنه في عصر ما قبل الأسرات، فقد أصبحت الآن توضع في حجرات صغيرة، أقيمت حول حجرة الدفن في مقابر عظماء القوم. وكان القبر يغطى بسقف مصنوع من ألواح خشبية، ترتكز على كتل عظيمة من الخشب كذلك، وفوق هذا السقف كان يقام مبنى من الحصى والرمل مغطى بكساء من اللبن، وقد كشف عن مقابر عدة من هذا النوع في سقارة في السنين الأخيرة، وحولها بعض مبان إضافية.

استعمال الحجر في بعض أجزاء مقابر هذا العصر

على أن هذا لا يعني أن المصري في هذا العهد لم يكن يستعمل الأحجار، فقد وجد في سقارة أن الحجر كان يستعمل في بناء أجزاء من هذه المقابر، كالعتب واللوحة المأتمية، وقد عثر على مقبرة من عهد الأسرة الأولى كسيت جدران إحدى حجراتها بالحجر الجيرى وكذلك سقفها.

أول استعمال للحجر بصفة ظاهرة

وأول بناء شوهد من الحجر الصلب كان في عهد الملك «ودمو» رابع ملوك الأسرة الأولى، إذ وجد أن رقعة مقبرته مرصوفة بالجرانيت. وفي نهاية الأسرة الثانية وجدنا قبر الملك «خع سخموي» مكسوًّا بأكمله بالحجر الجيري الأبيض. ويلاحظ في هذا العهد أن باب القبر كان يوضع في الجهة الشرقية، وكان يدل على موقعه لوحتان جنازيتان، وربما كان يوجود الباب في هذه الجهة دليلًا على انتشار عبادة الشمس، إذ يستقبلها المتوفى عند شروقها في الصباح.

الغرض من الباب الوهمي

وقد كشف حديثًا في سقارة عن مقبرة رئيس وزراء الملك «ودمو» ويدعي «حم كا»، وهي تحتوي على مبنى علوي مؤلف من ٤٢ حجرة خاصة بكل الأدوات المأتمية من مأكولات، وأسلحة وأوان، وكل ما يحتاج إليه المتوفى في حياته حسب اعتقاد المصريين في ذلك العهد. وكانت جدران القبر الخارجية مزينة بأبواب وهمية، أو كما يعبر عنها بعض علماء الآثار بواجهة أبواب القصر الملكي. والظاهر أن المصري كان يعتقد أن لكل من محتويات هذه الحجرات قرينًا، أو روحًا مادية يتقمصه كما يتقمص القرين جسم المتوفى في حياته الثانية، وإلا فليس لوجود هذه الأبواب في واجهة كل حجرة أي تفسير آخر، إذ هي في الواقع المرشد للقرين عن مكان الجسم الذي لا بد من أن يتقمصه ليحيا حياة ثانية.

أنواع المقابر في هذا العصر

أما مقابر ملوك هذا العصر فتنقسم إلى نوعين؛ الأول: مبني باللبن على شكل مصاطب ضخمة تتألف من عدة حجرات، وقد عثر عليها في جهة العرابة ونقادة. وهي لملوك الأسرة الأولى (انظر جزء أول ص ٢٦٩ إلخ)، وبعض ملوك الأسرة الثانية.

كشف جبانة شاسعة منحوتة في الصخر في سقارة

والثاني: عثر عليه في «سقارة» بجوار أهرام الملك «وناس» وهي جبانة نحتت في الصخر تحت الأرض، وتبلغ مساحتها المكشوفة إلى الآن عدة أفدنة، ويرجع تاريخها إلى عهد الأسرة الثانية، إذ عثر فيها على عدة أوان من الفخار مقفلة بسدادات عليها خاتم الملك «نترمو» أحد ملوك الأسرة الثانية، ومن المحتمل أن المعبد الذي أشير إليه في حجر «بلرم»، والذي بناه هذا الملك من الحجر، كان مقامًا فوق هذه الجبانة ثم اختفى على مر الأيام، وهذه النظرية تنطبق على قبره المنحوت تحت الأرض وفيه بقايا آثار من عهده. وكذلك عثر على بقايا أوان من المرمر، وحجر الشيست، والديوريت؛ عليها نقوش من عهد ذلك الفرعون، وعلى قطعة منها ألقاب إحدى نسائه، وهذه القطع الصغيرة من الجرانيت، والبورفير، والمرمر تشبه في صنعها ما عثر عليه في الهرم المدرج.

محتويات هذه الجبانة

ولكن مما يؤسف له جد الأسف أن هذه الجبانة قد استعملت في العصور المتأخرة مرة ثانية، وعلى الأرجح في العصر الفارسي، إذ وجدت فيها آلاف من الجثث المكدسة بعضها فوق بعض ومعظمها محروق. ومن جهة أخرى أوقف البحث فجأة في العام الماضي فلم يتم فحصها، وستبقى محتوياتها غامضة إلى أن يتم بحثها بحثًا علميًّا، غير أنه مما لا شك فيه أنها كانت للملوك والعظماء، وكانت تعتبر بقعة مقدسة حتى إن ملوك الأسرات التي تلت وعظماءها أقاموا فوقها وحولها المقابر، والمعابد، وبخاصة في عهد الأسرتين الخامسة والسادسة.

شكل البيوت في هذا العصر

أما مساكن الأحياء التي كان لا بد من أن توجد بالقرب من مقابرهم فلم يعثر على شيء منها قط، للأسباب التي ذكرناها آنفًا. ولقد عوضنا عن ضياع هذه المدن ما وجدناه من تخطيط بيوتها على اللوحات التي عثر عليها في مقابرهم، فقد عبر عنها المصري بسور ذي شرفات، ومن المحتمل جدًّا أن المدن كانت مقامة داخل سور من اللبن ذي شرفات. ولا يبعد أن قلعة «هراكنبوليس» (الكوم الأحمر الحالي) التي يرجع تاريخها إلى ذلك العهد كانت محاطة بجدار مزدوج، الداخلي منها أعلى من الخارجي. وليس لدينا أية فكرة عن بيوت تلك الفترة، وكل ما نعلمه أننا عثرنا على قطعة من العاج من عهد الملك «عحا» قد مثل عليها كوخ من القصب مسقوف بجريد نخل. وكذلك نشاهد أكواخًا أخرى من هذا النوع تقريبًا منقوشة على رأس دبوس من عصر الملك «نعرمر». ولا شك في أن أشكال هذه البيوت كانت موجودة في ذلك العصر ثم درجت نحو الرقي كما هو الحال في المقابر.

وفي عهد الأسرة الثالثة نجد أن فن بناء المقابر قد تطور تطورًا عظيمًا جدًّا وخاصة عند الملوك وعلية القوم، وأفراد الشعب.

المصطبة وشكلها

ففي أوائل عصر الأسرة الثالثة نجد أنه قد حل محل القبر الذي يعلوه بناء آخر من اللبن في عهد الأسرتين الأوليين بناء آخر من اللبن على شكل مستطيل عظيم الحجم في غالب الأحيان، ويطلق عليه العامة لفظة مصطبة. ويختلف شكل المصطبة في هذا العهد عنها من قبل، فقد أصبح بناء المصطبة مستطيلًا وجدرانه من الحجر الجيري المهذب الذي أخذ ينتشر. أما داخل هذا المستطيل فكان يملأ بالحصى وبقايا المباني، وكان أحيانًا يبنى في هذا المستطيل بعض مبان باللبن لتمنع شدة الضغط على السور الخارجي الذي يحيط بالمصطبة.

محتويات المصطبة

ومنذ ذلك العهد كان لا يقام الباب الوهمي إلا في الجهة الشرقية، وقد تحتوي المصطبة على أكثر من باب واحد. وذلك حسب عدد من دفن فيها، فإذا كانت زوجة المتوفى مدفونة معه في مصطبته أقيم فيها بابان وهميان، وكان في العادة باب الزوجة أصغر حجمًا من باب الرجل، وقد جرت العادة أن يكون باب الزوجة في الجهة اليسرى من المصطبة، وكان الباب الوهمي يصنع من قطعة أو قطعتين فأكثر من الحجر الجيري المجلوب من طرة أو من الحجر المحلي حسب ثراء المتوفى ومركزه في البلاط الملكي، وكان يثبت في أصل الجدار الشرقي من المصطبة كما ذكرنا، وقد كان الغرض منه إرشاد القرين أو الروح المادية «كا» إلى المكان الذي وضعت فيه الجثة أي حجرة الدفن لتنضم إليها بعد الموت، إذ بها كان المتوفى يحيا ثانية في القبر.

نقوش الباب الوهمي

وكان الباب الوهمي في بادئ الأمر خاليًا من كل نقش ثم كتب عليه اسم المتوفى، وبعد ذلك نقشت عليه صلوات دينية، وتضرعات للمتوفى، وبعد ذلك تدرج فرسم عليه المتوفى، وزوجته وبعض أفراد أسرته، وبخاصة الابن الأكبر، الذي أخذ يلعب دورًا هامًّا في تقديم القرابين لوالده منذ الأسرة الرابعة. وفي النهاية كان يرسم في الجزء الأعلى من الباب الوهمي المتوفى وحده، أو هو وزوجته، وأمامه مائدة قربان صور عليها كل ما لذ وطاب من أنواع المأكولات والشراب.

مكان حجرة الدفن ومحتوياتها

وخلف هذا الباب الوهمي كان يوجد البئر الذي كان يؤدي إلى حجرة الدفن، وكان يصل عمقه أحيانًا إلى نحو أربعين مترًا، وهذه الآبار كان الجزء العلوي منها مبنيًّا بالأحجار إلى أن يصل إلى الصخر فينحت فيه إلى العمق المطلوب، ثم تنحت في النهاية حجرة الدفن في إحدى جوانب البئر. وكانت مساحتها تختلف حسب مقدرة المتوفى، فكانت تبلغ أحيانًا ٧ في ٦ مترًا، وكان يدفن المتوفى إما على رقعة الحجرة مباشرة، أو في تابوت من الحجر الجيري، أو الجرانيت حسب الأحوال. وكان يوضع حول هذا التابوت كل الأثاث المأتمي الذي كان يظن المتوفى أنه في حاجة إليه في آخرته. وأحيانًا كانت توجد حجرة الدفن سليمة لم يمسها إنسان من قبل، ومع ذلك لم نجد مع المتوفى أي أثاث مأتمي. مع أنه كما نستنتج من ألقابه ودقة صنع مقبرته من علية القوم. وليس هناك أي شك بعد ذلك في أن موضوع وضع الأثاث المأتمي في حجرة الدفن كان يتوقف على الاعتقادات الدينية لصاحب المقبرة نفسه.

الطرق المؤدية إلى حجرة الدفن وأنواعها

وليس من الضروري أن يكون عدد آبار الدفن التي كانت تقام في المقبرة بقدر عدد الأبواب الوهمية التي كانت مثبتة في الجدار الشرقي منها، وقد يحدث أن يقيم صاحب المقبرة لنفسه بابين وهميين، ويكتب على كل منهما اسمه وألقابه، ففي هذه الحالة تكون حجرة الدفن موضوعة بينهما في أعماق الصخر. وأحيانًا كان يستعاض عن حفر بئر عمودية في قلب المصطبة بحفر منزلق في إحدى جوانب المصطبة يؤدي في النهاية إلى حجرة الدفن التي كان موقعها دائمًا خلف الباب الوهمي. وكان هذا المنزلق يصنع لسببين؛ أولهما: لتسهيل إدخال التابوت في حجرة الدفن، وثانيهما: لتضليل اللصوص، وفي كلا الحالين سواء أكان البئر، أو المنزلق مؤديًا إلى حجرة الدفن، فإن اللصوص كانوا يعانون المشاق العظيمة في الوصول إلى مكان حجرة المتوفى، وذلك لأن البئر كان يملأ بعد الدفن بالبقايا المتخلفة من نحته.

علامات حجرة الدفن التي لم تمس

ويظهر أن ذلك كان من الطقوس الدينية، إذ لم نجد قط بئرًا قد ملئت فوهته بغير المخلفات التي نتجت من نحته في الصخر. وهذه من الوسائل التي تساعد الحفار على معرفة عما إذا كان البئر سليمًا أو سطا عليه اللصوص من قبل، فإذا وجد أن الأحجار الصغيرة والحصى التي تملأ فوهة البئر مكونة كلها من مخلفات النحت لم يخالطها شيء آخر عرف أن حجرة الدفن سليمة. وقد ثبتت هذه النظرية في الآبار التي وجدت على هذه الحالة. أما الآبار التي نهبت فنجد في فوهتها أجسامًا غريبة. وهذا دليل على أنها نهبت من قبل. هذا إلى أن حجر الدفن كان يسد بابها بأحجار ضخمة، أما المنزلق فكان يقفل من أوله إلى آخره بأحجار ضخمة من الحجر؛ الواحدة تلو الأخرى مما يجعل انتزاعها من المنزلق صعبًا.

البئر الكاذب وسبب حفره

ومن المدهش أن الحفائر التي عملت في منطقة الأهرام حديثًا كشفت لنا عن ظاهرة جديدة: فقد وجد بجوار البئر التي تؤدي إلى حجرة الدفن بئر أخرى لا تؤدي إلى حجرة دفن، وتعم هذه الظاهرة في أكثر من مائة وخمسين مصطبة، أي أنه يوجد بجوار البئر الحقيقية بئر أخرى لا تؤدي إلى حجرة دفن، ولا يعرف السبب الذي من أجله حفرت، وقد ظن البعض أنها بئر قد ابتدئ فيها ولكن لم يكمل حفرها، غير أن تكرار هذه الظاهرة يدحض هذا الزعم. وفي اعتقادنا أنها بئر وهمية للمصطبة، كما أن لها بابًا وهميًّا، وكما أنه كان للمصطبة باب وهمي تدخل منه القرينة (الروح الجسمية) لتحل في الجسم وتغذيه حتى لا يموت أبدًا، كذلك كان للجسم ظل «خو» كما يعبر عنه المصريون، مقره البئر الوهمية يصل منها إلى الجسم الحقيقي، ويحل محله إذا أتلفه الدهر، وبذلك كان المصري يحتاط لنفسه من كل الوجوه. وإلا فليس هناك أي تفسير آخر لهذه البئر الوهمية، على أن وجود هذه البئر كان شائعًا في الدولة القديمة، وبخاصة عند علية القوم. كما تدل على ذلك مقابر أهرام الجيزة، ومنطقة سقارة.

السبب في تقدم بناء المصاطب وتعدد حجراتها

الزيادات التي أدخلت في مباني المصطبة

كان أقارب المتوفى يجلسون أمام الباب الوهمي عند زيارتهم له في أيام الأعياد والمواسم، ومعهم القرابين التي كانوا يضعونها على مائدة قربان مصنوعة من الحجر، وبتقدم العمران والمدنية أخذ القوم يفكرون في الاعتناء بمقابرهم عناية تتفق مع مكانتهم في الهيئة الاجتماعية، فبدلًا من الجلوس أمام الباب الوهمي بنوا حجرة للجلوس ولتقديم القربان في صلب المصطبة، وجعلوا الأبواب الوهمية في جدارها الغربي، أما باب هذه الحجرة فكان في العادة في الجهة الشرقية، أو البحرية وأحيانًا يكون في الجهة القبلية، ولكن لم نعثر على باب للحجرة في الجهة الغربية لمقبرة، إلا في واحدة بجبانة الأهرام، وهذا كان لضرورة ملحة وهي ضيق المكان. أما الباب الوهمي فمكانه لم يتغير قط، إذ كان دائمًا يتجه إلى الشرق ليواجه الشمس عند الشروق، وتسطع عليه عندما تطلع، ولذلك كانت تصنع في القبور المسقوفة فتحة في الجهة الشرقية قبالة الباب الوهمي بطريقة تجعل أشعة الشمس تنفذ منها في الصباح، وترسل خيوطها على الباب الوهمي.

الرسوم التي نقشت على جدران المصطبة

وهذه الحجرة كانت على ما يظهر في بادئ الأمر لجلوس أقارب الميت وللقرابين، وبعد ذلك نشاهد أن مدخلها أخذ ينقش عليه صلوات دينية، واسم المتوفى وألقابه على العتب العلوي ثم تدرج بعد ذلك فنقش جانباه الخارجيان برسم المتوفى ثم بأقاربه، وبعد ذلك نقش جانباه الداخليان بما يشبه ذلك. ولما كان المصري يعتقد أنه سيحيا حياة أخرى في القبر مماثلة لحياته الدنيوية، أراد أن يمثل كل ما كان يتمتع به في الدنيا على جدران هذه الحجرة التي كانت في الأصل لوضع القرابين، وجلوس أقاربه، فأخذ يعتني أولًا ببناء هذه الحجرة، وكان أحيانًا يشيدها من الحجر الجيري الأبيض أو ينحت مصطبة في الصخر محتوية على حجرة جميلة، ثم أخذ ينقش على جدرانها كل مناظر الحياة اليومية، وما كان ينعم به من بذخ وترف. ولما كانت الحجرة الواحدة لا تكفي لذلك أخذ يضيف إليها حجرات أخرى وممرات، حتى إن واحدًا من علية القوم كانت مقبرته تحتوي على أكثر من ثلاثين حجرة. وخص كلًّا منها برسوم معينة، إذ كان يعتقد أنه بقوة السحر يمكن أن يتمتع بما تمثله هذه الرسوم. ويرجع الفضل في معرفتنا حياة المصري القديم الاجتماعية والدينية من كل الوجوه لهذه النقوش، فنشاهد على جدران هذه المقابر أنواع القرابين التي كانت تقدم للمتوفى، وما كان يلهو به من صيد البر، والبحر، ومعيشته المنزلية وحقوله وما فيها من زرع مختلف ألوانه، ونوعه وكذلك الرياضة البدنية، وغير ذلك مما سنتكلم عنه عند الكلام على فن النحت. وفي الواقع أصبحت هذه المقابر بمثابة بيوت للأموات تؤلف مدينة بشوارعها وأزقتها، كما يشاهد ذلك في جبانات الجيزة، وسقارة، وكانت هذه المدينة في عهد الدولة القديمة تقام حول قبر الملك (الهرم)، وذلك لأن عظماء القوم كانوا يريدون أن يلتفوا حول مليكهم في آخرتهم كما كانوا يلتفون حوله في دنياهم.

مقابر الملوك

أما مقابر الملوك في هذا العصر فكانت في أول الأمر تبنى على هيئة مصطبة، ومعظمها عثر عليه في (العرابة المدفونة)، و(نقادة)، وقد عثر على أول قبر بني للملك «زوسر» في (بيت خلاف) القريبة من العرابة وقد وجد فيه حجرة مبنية بالحجر الجيري، وهو على شكل مصطبة حقيقية. غير أنه على ما يظهر لم يرض بأن تكون مقره الأخير، ويحتمل أن «إمحوتب» مهندسه المعماري العظيم وجه نظره إلى منطقة سقارة المقدسة التي كانت تعتبر من هذا العصر مهبط العبادة، والمقر الأخير لبعض الملوك كما أثبتت ذلك الكشوف الحديثة. هذا إلى أنها كانت على مقربة من محاجر طرة حيث كان من السهل قطع الأحجار الجميلة لبناء القبور والمعابد، وكذلك كانت قريبة من مقر حكمه.

كيفية بناء الهرم المدرج وسببه

وتدل الظواهر على أنه أقام لنفسه مصطبة من الحجر الجيري المحلي المهذب، ثم بنى فوقها ثانية أصغر مساحة، ثم ثالثة أقل مساحة من الثانية وهكذا، حتى بلغ عدد المصاطب سبعًا بعضها فوق بعض، غير أن تعاقب الدهور قد أغار على السابقة منها فمحاها من الوجود، ولم يبق منها إلا ما يدل على أثرها. وقد أطلق على هذا المبنى خطأ اسم (الهرم المدرج) إذ إن شكله لا ينطبق تمامًا على مدلول الهرم الحقيقي. ولا غرابة في أن «زوسر» رفع بنيان قبره إلى هذا الحد، لأن في ذلك معنى عميقًا، إذ كان يريد علوًّا في الممات كما كان في الحياة، فكان غرضه أن يشرف قبره على قبور رجال بلاطه، وعظماء دولته، التي كانت حول قبره، ويكون أول بناء ترسل الشمس أشعتها عليه من كل جوانبه عندما تشرق في الصباح، وبخاصة إذا علمنا أن الإله الأعظم لهذه المنطقة في هذا العصر هو الإله «آتوم» الذي أصبح فيما بعد إله الشمس بكل معانيها.

وصف الحجرتين اللتين تحت هرم زوسر

وقد أسفرت البحوث الأثرية التي قام بها علماء الآثار في الجزء الأسفل الذي تحت الهرم المدرج وما حوله عن معلومات وثروة أثرية لا تقدر بقيمة، فقد عثر في جوف الصخر الذي تحت مسطح الهرم على حجرة الدفن العظيمة المكسوة بالجرانيت، وعلى حجرتين مرصعتين بألواح صغيرة من القاشاني الأزرق، وقد كانتا معروفتين منذ زمن بعيد. وتعد الطريقة الفنية الحاذقة التي نسقت بها هذه الألواح في الملاط بالغة حد الإعجاب والدهشة ودالة على ما وصل إليه القوم من المهارة الفنية في هذا العصر، وهذه الألواح كان سطحها الخارجي مقوسًا بعض الشيء، وكان في ظهر كل منها ثقبان صغيران، يوضع فيهما خيط من القنب يلصق بالملاط. وقد أمكن بالألقاب الرسمية التي وجدت منقوشة على إطاري باب الحجرتين أن نحدد بالضبط تاريخهما، ولكن أحد علماء الآثار قد شك في أن لون القاشاني الأزرق، والمهارة العظيمة التي رصعت بها هذه الألواح، وكذلك كتابة اسم الملك «زوسر الحوري» «نب معات» يرجع عهدها إلى عصر هذا الملك. وفي اعتقاده أن هذه ترميمات، وإصلاحات عملت في عهد الأسرة السادسة والعشرين، أي في عهد النهضة المصرية الأخيرة. غير أن هذا الرأي قد دحض نهائيًا بالكشوف الحديثة، ولم يأخذ به أحد من العلماء. وذلك لأنه في عام سنة ١٩٢٧ عثر في الجهة الجنوبية من الهرم في جوف الأرض، على مقبرة أخرى تحتوي على حجرة دفن من الجرانيت، وعلى عدد عظيم من الممرات، والحجر المستطيلة الشكل معظمها مزين بألواح من القاشاني مشابهة لما وجد في المقبرة الأولى، ووجد منقوشًا على إطارات الأبواب «نتر خت»، وهو لقب الملك «زوسر»، ووجد في إحدى الحجر ثلاث لوحات كل منها على شكل الباب الوهمي، وعلى كل مثل الملك «زوسر». ولا نزاع إذن في أن هذا القبر هو لمؤسس الأسرة الثالثة.

محتويات الردهات التي كشف عنها في الهرم المدرج

وفي عام سنة ١٩٣٧ اكتشف في رقعة إحدى هذه الحجرات ثقب لصوص يؤدي إلى ردهات أكثر عمقًا، يظهر أن جدرانها كانت مكسوة بالخشب وقد عثر على تابوتين من المرمر، يحتوي أحدهما على صندوق من الخشب مغشى بورقة من الذهب مثبتة بمسامير صغيرة، رءوسها من الذهب لا يبعد الواحد منها عن الآخر سوى بضعة ملليمترات. ولكن مما يوسف له أن هذه الورقة كانت قد انتزعها اللصوص، غير أنه لحسن الحظ بقي منها جزء يمكن به معرفة كيفية تركيبها كما كانت في الأصل. وتدل البقايا الآدمية التي بقيت في التابوت على أنها لطفلة صغيرة السن، ويحتمل أنها بنت الملك «زوسر».

الأواني المصنوعة من المرمر وغيره التي عثر عليها في جوف الهرم

وعندما كان البحث مستمرًّا في عام سنة ١٩٣٤ لتتبع الممرات المختلفة التي تحت الهرم المدرج لاحظ بعض العمال وجود قطع عدة من أوان من المرمر وغيره من الأحجار لاصقة في جدران إحدى الردهات، فحول العمل إلى هذه الجهة، وفعلًا عثر على ردهة مكدسة بأكوام من الأواني المصنوعة من المرمر، والإردواز، والديوريت، والبورفير، وأحجار أخرى صلبة. ثم على ردهتين أخريين مشابهتين للأولى. وقد استخرج من هذه الردهات الثلاث ما يربو على الثلاثين ألف إناء، ولكن مما يؤسف له أن سقف هذه الردهات قد خر على الأواني، فلم يترك منها إلا عددًا ضئيلًا سليمًا. وقد نقلت هذه القطع المهشمة حسب موضعها بكل عناية حتى يمكن تركيب عدد عظيم منها وإعادته إلى حالته الأصلية.

أهمية هذه الأواني

ولا نزاع في أن الأشكال المختلفة التي وجدت بين هذه الأواني، وتعدد أنواع الأحجار التي صنعت منها، والنقوش الهيراطيقية التي وجدت على مقابض الكثير منها دالة على أسماء بعض الملوك، وعظماء القوم في هذا العصر وألقابهم، كل هذا يجعل لهذه الأواني أهمية عظمى، وبخاصة عندما تدرس درسًا علميًّا مستفيضًا، وهذا طبعًا يحتاج إلى بحث طويل، وعمل شاق بضع سنوات، ولكن على الرغم من ذلك فإن ما أصلح منها يدل على أن صناعة هذا العصر قد بلغت مبلغًا عظيمًا في سلامة الذوق، والحذق في تقليد صناعة الفخار للحفر في المرمر، وأعجب هذه الأمثلة أواني المرمر التي كان يصنعها حفار هذا العصر لتحاكي آنية الفخار ممثلًا فيها الحبال التي كانت تربط بها لتعلق منها. هذا إلى أن الحفار قد تفنن في صنع أشكال جديدة خلابة المنظر لم تكن معروفة من قبل، وهذه الأواني كانت تصنع بأحجام مختلفة. تبلغ الواحدة منها أحيانًا ما يقرب من متر في عرض أربعين سنتيمترًا. ولسنا نبالغ إذا قررنا حسب رأي أحد الفنانين الحاليين أن الإناء الواحد كان يحتاج إلى عمل نحات طول العام، هذا إذا كان الفنان يشتغل بآلات ساذجة كالتي سنذكرها، أما إذا كانت لديه آلات أخرى تفضل هذه الآلات كانت سرعته في إنجاز صنع الإناء أقل مما ذكرنا.

ولم نعثر للآن على أهرام للملوك الذين خلفوا «زوسر» مباشرة على عرش الملك. والظاهر أن الهرم الذي ينسب إلى الملك «حوني» في «دهشور» آخر ملوك الأسرة لم يثبت بصفة قاطعة للآن أنه هو المشيد له، أما هرم ميدوم الذي بناء الملك «سنفرو» فيشبه هرم «حوني» في الشكل، أي أنه لا يمكن أن يُسمى أحدهما هرمًا بالمعنى الحقيقي، وربما سمي هرم «سنفرو» (الهرم الكذاب).

هرما سنفرو

ويعتقد «ماسبرو» أنه بنى هذا الهرم ليكون مأوى له بصفته ملك الوجه القبلي، ولكن وجدنا أن هذا الملك قد أقام لنفسه هرمًا ثانيًا في «دهشور» تنطبق عليه كل صفات الهرم الحقيقي، فقاعدته مربعة الشكل، وكل وجه من وجوهه الأربعة على شكل مثلث، وهو مبني بالحجر الجيري المهذب، ومكسو بالحجر الجيري الأملس، وظاهر هذا الهرم يجمع بين الفخامة والبساطة في آن واحد، ومن ثم بنى خلفاؤه كثيرًا على منوال هرمه هذا، ولا تختلف عنه إلا في الحجم وفي قطع الأحجار التي كانت تستعمل للبناء، وقد شيد بعده «خوفو» و«خفرع» و«منكورع» أهرامهم على هضبة الجيزة، وقد تكلمنا عنها وعما يتبعها من الملحقات في حينه.

هرم «دد فرع»

أما الملك «دد فرع» الذي يعتبره بعض المؤرخين أنه جاء بعد «خوفو» (وهناك قول أنه جاء بعد «منكورع») فقد بنى هرمه في «أبو رواش» لأسباب داخلية (انظر جزء أول ص٢٩٥).

معابد الأهرام

لم يكن القبر الملكي يشمل الهرم وحده بل كان لكل هرم معبدان، وقد تكلمنا عن المعابد وماهية كل منها في عهد الأسرة الرابعة وكذلك عن معبد الشمس خلال الأسرة الخامسة (انظر جزء أول ص٣٢٩ إلخ)

(٢) فَنَّا النقش والنحت في عهد الدولة القديمة

بدأ الفنان المصري منذ عصر ما قبل الأسرات يظهر مهارة وحذقًا في حفر الصور، والأشكال المختلفة على الأحجار الصلبة والهشة وعلى العاج، ولا أدل على ذلك من النقوش التي على لوحة الملك «نعرمر» التي أظهر فيها تفوقًا عظيمًا بالنسبة للعصر الذي صنعت فيه، وقد استمر الفنان يعمل في هذا المضمار بشيء من الدقة عند انبثاق فجر التاريخ في الألواح الجنائزية، وفي صفائح العاج التي بقي منها بعض ما يدل على مبلغ ما وصل إليه من الإتقان في هذا الفن.

لوحة الملك «زت»

وأدق قطعة جمعت بين الرشاقة والانسجام هي لوحة الملك «زت» (الثعبان) المحفوظة الآن بمتحف اللوفر، وهي لوحة من الحجر الجيري الأبيض، مستطيلة الشكل، مقوسة من أعلاها، وقد نقش على رقعتها صورة الإله «حور» واقفًا على بناء مستطيل يمثل واجهة القصر الملكي يحيط به سور، وفي وسط هذا السور نقش اسم الملك بعلامة الثعبان وهذا الرسم وهذه الكتابة يرمزان للحماية التي يقوم بها الإله للملك والدولة المصرية ولا شك في أن عين الفنان تجد في مجموعة رسوم هذه اللوحة الرشاقة في التفاصيل وكذلك البساطة، والحذق والانسجام، مما يشعر بالعظمة ويبعث في النفس الإعجاب، ويملأ النظر سرورًا وراحة.

اللوحات المأتمية في العصر الطيني

على أننا من جهة أخرى نشاهد من هذا العصر لوحات أخرى ليس فيها شيء من الجمال يثير الإعجاب في النفس رغم أنها ملكية. ومن ذلك لوحة الملكة «مرنيت» المأتمية، ولوحة الملك «بر إيب سن».

أما لوحات الأمراء فكانت في مجموعها خشنة الصنع وليس عليها إلا صورة المتوفى، وأهم مثل من هذا النوع لوحة «سا إف» الذي عاش في عهد الملك «قع» ومن المدهش أن هذه الألواح لم تكن وقفًا على بني البشر، بل كانت كذلك تقام على قبور الكلاب، وكانت هذه الحيوانات تدفن في معظم الأحيان بجوار قبور أسيادها، وقد عثر على أمثلة من هذا النوع في حفائر شمال سقارة من عهد الأسرة الأولى والثانية، وقد استمر تصوير الكلاب على اللوحات طوال عهد الدولة القديمة وفي عهد الدولة الوسطى أيضًا، وذلك أن كبار موظفي هذا العصر كانوا يمثلون كلابهم على لوحاتهم الجنائزية لاعتقادهم أنهم سيتمتعون بها في حياتهم الآخرة كما كانوا يتمتعون بها في دنياهم. يضاف إلى ذلك أن لوحات الأقزام العدة التي كشف عنها تدل على أن هذه المخلوقات العجيبة كانت تتمتع بحظوة كبيرة في القصر الملكي، وقد أظهر الفنان مهارة فائقة في تصوير هؤلاء الأقزام المشوهي الجسم بكل دقة، وأمانة وحذق يفوق ما كان ينتظر منه في ذلك العصر السحيق في القدم، ولا غرابة في ذلك فإن هؤلاء الأقزام كانوا أعظم أداة للسمر والسرور والترويح عن النفس عند الملوك في ذلك العصر.٣ (انظر جزء أول ص ٣٨٦ إلخ).

قيمة الألواح الفنية في هذا العصر

أما لوحات العاج الصغيرة التي يرجع تاريخها إلى ذلك العصر، فلها قيمة تاريخية عظيمة جدًّا، ففيها حاول الفنان أن يتخلص من قيود العصر السابق، ويظهر في الأشكال التي يحفرها الحركة والحياة، وإن كان لم يوفق، ويمكننا على وجه عام أن نحكم على فن النقش في ذلك العصر بأنه قد انحط عما كان عليه في عصر ما قبل الأسرات، ولذلك لا يمكننا أن نقارن لوحة منقوشة من هذا العصر الطيني بلوحة من عصر ما قبل الأسرات الحديث مثل لوحة «نعر مر»، ورءوس الدبابيس، وسكين جبل العرق، فكل هذه تنم عن جمال في الفن، وحسن في الذوق مما لم يصل إليه فنان العصر الطيني (جزء أول ص١٠٧).

سبب انحطاط الفن في هذا العصر

والواقع أن هذا الانحطاط الفني لم يأت بسبب عدم ذكاء الفنان، بل جاء نتيجة ميله لحب الاختراع، والتجديد، والخروج عن القيود القديمة، إذ كان يحاول أن يرسم مناظر معقدة تحتاج إلى مران فني كبير، حتى تبرز في عالم الفن قطعًا جميلة. وفي الحق يمتاز هذا العصر الطيني بتركه الصور التقليدية المقيدة بالموضوعات الخاصة، التي كانت شائعة الاستعمال في عصر ما قبل الأسرات، وأخذ يبحث عن فن جديد قوي راق، ولا شك في أنه ليس هناك ما هو أدعى إلى الإعجاب والسرور من عصور التكوين الفني التي نرى فيها الفنان يتلمس طريقه في مجاهل الفن المتشعبة ليهتدي في النهاية إلى السبيل القويم، بعد أن يضل مرات عدة في تجارب تنتهي بالفوز أخيرًا.

الكتابة المصرية عامل من عوامل تقدم الفن

على أن الكتابة المصرية القديمة نفسها كانت أكبر ساعد للمصري لينبغ في فن الرسم والنقش، لأن طرق كتابتها وتعدد رموزها يحتاج لمهارة عظيمة قوامها الفنان السابقان، إذ كان المصري عند تدوينها على الأحجار يرسمها أولًا، وبعد ذلك ينقشها، وهذه الكتابة كلما كانت إشاراتها أقرب محاكاة للطبيعة كان جمالها أبهى وأعظم، ولذلك كانت تعد من الفنون الجميلة. ورغم أن الكتابة في ذلك العصر لا تزال في طفولتها فإن تصوير الملك (ثعبان)، وهو يمثل بحرف زاي في اللغة المصرية القديمة قد نقش على لوحته بإتقان مدهش بالنسبة للكتابة في العصر الذي نحن بصدده، ويمكننا أن نتتبع الخطوات التي خطتها الكتابة المصرية القديمة تدريجًا نحو الرقي مما نشاهده على أختام الموظفين في ذلك العصر، واستمرارها في طريق الإتقان حتى بلغت القمة في عهد الأسرتين الرابعة والخامسة، إذ كانت تظهر الحروف منقوشة على الأحجار في مقابر بعض عظماء الدولة، وكان كل حرف منها بمثابة قطعة فنية فريدة في بابها، إذ كان ديدن الفنان في ذلك أن يحاكي الطبيعة في الطيور، والأشكال المختلفة التي كانت تتألف منها الإشارات المصرية القديمة.

الإبداع الفني الذي ظهر في النقوش على جدران المقابر

ولا شك في أن أكبر مجال أظهر فيه الفنان المصري براعته في النقش والتصوير هي المناظر التي مثلها على جدران مصاطب الدولة القديمة، وفي معابد ملوكها. وكانت بداية هذه النقوش ما كان يكتب على اللوحة التي كانت توضع أمام باب قبر المتوفى، إذ كان يقتصر فيها أولًا على اسم صاحب القبر، ثم أخذت تتدرج شيئًا فشيئًا بتطور نظام الأسرة الاجتماعي (كما سيأتي بعد)، حتى أصبحت تنقش كلها برسوم ومناظر تمثل صاحب القبر وزوجته وأسرته، ولما نمت الاعتقادات الدينية، وازدادت ثروة البلاد الداخلية، وأصبح القبر مؤلفًا من عدة حجرات، نقش على جدرانها رسوم، ومناظر تمثل مواضيع مختلفة عن الحياة. وهذه الرسوم كانت في بادئ الأمر يقصد منها تأدية وظيفة نفعية محضة، ولكن بقدر ما كان يظهره الفنان من المهارة والدقة في تصوير الأشياء على حقيقتها كانت المنفعة أكثر وأهم، ولأجل أن نصل إلى كنه هذه المنفعة يجب أن نشرح الاعتقاد الديني الذي من أجله كانت تنقش هذه المناظر على الجدران.

وتفسير ذلك أن المصري كان يعتقد أنه سيحيا حياة ثانية في قبره، وكان يعتقد أن الإنسان مركب من عناصر مختلفة نذكر منها الجسم المادي «زت» ثم القرينة، وهي الروح المادية، وكانت تنضم إليه في قبره بعد مماته، وبها كان يمكنه أن يعيش في قبره ويخرج منه نهارًا، ويعود إليه ليلًا، ثم الروح النورانية، وكانت تصعد إلى السماء وتنضم إلى عالم الأرواح، الذي كان يمثل بالنجوم بالقرب من الإله «رع» إله السماء، وقد جاء في متون الأهرام ما يثبت ذلك.

الاحتياطات التي كانت تتخذ للمحافظة على الروح المادية

وكان هم المصري طوال حياته أن يعمل لما فيه راحة قرينه في قبره، وذلك كان يتطلب أشياء عدة، فكان لزامًا على المصري أن يحافظ على جسمه بعد الموت من التلف أو العطب؛ لأنه إذا حدث فيه تشويه أو تمزيق لا يمكن للقرين أن يتعرف عليه، ولذلك كان يصنع لنفسه قبرًا في أعماق الصخر، ويضع جسمه في تابوت ضخم عظيم الغطاء محكم الإغلاق بعد أن يحنطه، ويكفنه في لفائف عدة، ومعه كل حليه وأثاثه الذي كان يتمتع به في الحياة الدنيا، أو الذي صنع خاصًّا بقبره، وزيادة في الحيطة كان يوضع بجانب تابوت المتوفى رأس من الحجر الجيري الأبيض أو الجرانيت تحاكي رأس المتوفى بكل دقة ممكنة، فإذا ما جاء القرين إلى القبر لينضم إلى المتوفى كانت هذه الرأس المرشد له في القبر. ولكن القرين لم يكن يكفيه ذلك بل كان يتطلب ما يعيش عليه، وينقل منه للمتوفى. من أجل ذلك كان المصري يحبس الأوقاف ويعين الكهنة للإشراف عليها، وليكونوا في خدمة الروح المادية «كا»، (أي القرينة) ويعدون لها الطعام كل يوم عند الباب الوهمي للقبر الذي كانت تخرج وتدخل منه كل يوم لتأخذ الطعام من مائدة القربان التي كانت توضع أمامه. وهؤلاء الكهنة كان يطلق على كل منهم «حم كا» (أي خادم القرين). وبدون هذه القرابين كانت القرين لا تنضم إلى المتوفى في قبره وبذلك يفنى فناء أبديًّا، وكان المصري يحتاط لنفسه من جهة أخرى لتبقى حياته دائمة في القبر، وذلك أنه خوفًا من أن يبلى جسمه أو يمزق فتضيع معالمه، وتضل القرين الطريق للوصول إلى معرفته، كان يصنع لنفسه تمثالًا يعتني فيه بدقة تصوير ملامح الوجه لتحل فيه القرين بدلًا من الجسم الحقيقي، وسنتكلم عن ذلك فيما بعد.

الاعتقاد في قوة التعاويذ السحرية

ورغم كل هذا كان المصري لا يهدأ له بال لما عساه أن يحل به في قبره بعد موته إذا أهمل خدام القرين تقديم القربان له، أو اغتصبت الأوقاف التي حبسها ليقدم منها القربان كل يوم للقرين، فكان يلجأ إلى فنون السحر وقوتها، إذ كان يعتقد أن كل ما يرسم على قبره من مأكل ومشرب، ومن مناظر مما كان يتمتع به في حياته، وكتابة قوائم الطعام الذي كانت تتوق إليه نفسه، كل ذلك يمكن أن ينقلب إلى صور حقيقية يتمتع بها في آخرته. وذلك هو السر في نقش هذه المناظر على جدران القبور فلم يكن يرسمها لحبه الفن أو سروره بالمناظر الجميلة، بل لحبه التمتع بحقائقها بالطرق السحرية.

المصري كان متعلقًا بالحياة الدنيا أكثر من الآخرة

ولعمري لست أدري من أين جاء الزعم بأن المصريين كانوا يعملون لآخرتهم طوال حياتهم، وأنهم كانوا يفضلون الحياة الأخرى على الحياة الدنيا، فالأمر بالعكس إذ إن مجرد اعتقاد المصري بأن الحياة الأخرى صورة مطابقة للحياة الدنيا، ورسمه في قبره كل ما كان ينعم به في دنياه، وحمله كل ما كان يتمتع به من أثاث وحلي مدة حياته ليكون إلى جانبه في القبر، لأكبر دليل على تعلقه بالحياة الدنيا ومتاعها وعدم قدرته على تصور الآخرة بصورة أخرى. ذلك أن أعظم ما كان يتمناه المصري في حياته عمرًا طويلًا، ومن كل ما تقدم يمكننا أن نحكم بأن المصري قد خصص كل جهوده لخدمة القرين، فنتج عن ذلك أنه توصل بطريق غير مباشر إلى النبوغ في فني النحت والرسم وفن المعمار، فأقام المقابر الضخمة للمحافظة على جسمه لتعود إليه القرين، وصنع التماثيل الجميلة لتحل فيها القرين، وبنى المباني العظيمة لخدام القرين.

وظيفة الكا أو الروح المادية

ويوجد برهان مادي يثبت لنا تمسك المصري القديم بأمر روحه المادية «الكا» واعتقاده أنه بدونها لا يحيا حياته الثانية، وأن الجم الغفير من أفراد الشعب في عهد الدولة القديمة كانوا يدخلون لفظة «كا» أي (الروح المادية) في تركيب أسمائهم مما لم نشاهده في أي عصر من عصور التاريخ المصري بعد، فمثلًا نجد اسم «سخم كا» (روحي قوية) و«جمني كاي» (وجدت روحي) وهكذا.

الفرق بين الروح المادية والروح النورانية

وربما كان السبب في ذلك أن المصري في هذا العهد كان لا يزال قريبًا من المادة، ولم ترتق فكرته إلى الأمور الروحانية التي تخرج عن دائرة المادة، ولذلك فإني أظن أن المصري كان في الأصل يعتقد في أن الروح مادية ثم تدرج في الرقي واعتقد أن هناك أخرى روحانية وهي «با»؛ فسار على تقاليده وحافظ على اللفظين وهما «الكا» وهي الروح التي تدل على طفولة عقله، والثانية «البا» التي تبرهن على نضوج فكره، وربما كان هذا سببًا في أننا نجد اندماج لفظة «با» في أسماء الأعلام المصرية في الدولة القديمة قليلًا، على حين أن اندماج لفظة «كا» في الأعلام في هذا الوقت كان كثيرًا جدًّا كما ذكرنا. يضاف إلى ذلك أن الملوك في عهد الأسرتين الخامسة والسادسة كانوا يعطون عناية خاصة للروح المادية «كا» أكثر مما كانوا يعطونه للروح النورانية «با»، ولا أدل على ذلك من ذكر كلمة «كا» في متون الأهرام أكثر من ضعف ذكر كلمة «با»، إذ الواقع أن الأولى ذكرت نحو ١٠٤ مرة أما الثانية فقد جاء ذكرها نحو ٤٧ مرة.

ولم يظهر على النقوش المصرية رسم القرين لا لأفراد الشعب ولا للأمراء، ولكن وجدنا رسم قرين الملك عند ولادته، وهي صورة طبق الأصل منه وهي لا ترى في الحياة الدنيا ولكنها تكون مع المتوفى في قبره، وتعيش على المادة ولذلك سميتها الروح المادية. وكثيرًا ما نشاهد القرين في شكل تمثال منحوت في أصل الباب الوهمي يخطو إلى الأمام خارجًا من القبر ليأخذ الطعام من المائدة التي أمامه لغذاء المتوفى.

على أن بعض علماء الآثار يعتقد أن كل هذه المناظر قد مثلها صاحب المقبرة إرضاء لمزاجه الخاص، ولما تبعثه من السرور في النفس من الناحية الفنية، وهذا طبعًا لا يتفق مع المعتقدات المصرية سواء أكانت دينية أم سحرية، ولا يكون هناك أي معنى لتمثيل المتوفى على الباب الوهمي جالسًا على كرسيه وأمامه مائدة القربان عليها كل ما لذ وطاب لغرض اللذة الفنية فحسب، ونرى تحت هذه المائدة نقشًا يمثل ألفًا من الخبز وألفًا من الأوز، وألفًا من النبيذ، وألفًا من الجعة، وألفًا من الثيران، ويطلب صاحب المقبرة إلى زائر قبره والمارين به أن يقرءوا هذه القرابين. أليس ذلك لاعتقاده بأنها متى تليت أمكن أن يتمتع بحقائقها، وذلك عن عقيدة ثابتة راسخة في أعماق نفسه؟! ولماذا كتبت قوائم أنواع الطعام وألوانه بما كان يبلغ أحيانًا أكثر من ثمانين صنفًا فوق صورته، وقد بالغ بعضهم فجعلها تصل إلى مائة صنف؟! ولماذا رسمت حاملات القرابين وحاملو المأكولات من ضياع المتوفى وأوقافه الخاصة وكلهم متجهون في سيرهم نحو المقبرة قاصدين الباب؟! كل هذه الرسوم والنقوش لا يمكن أن يكون القصد منها مجرد الزينة فحسب بل كان هناك سر أعمق من ذلك وغرض نفعي أكثر مما نتصوره، وذلك هو الاعتقاد بالحياة مرة أخرى، وأن التعاويذ السحرية كان لها القدح المعلى في تحويل هذه الرسوم إلى حقائق يتمتع بها المتوفى.

النقوش التي على جدران المقابر ليست للزينة

ومما يؤكذ أن المصري لم ينقش هذه الرسوم في حجرات مقبرته لمجرد الزينة أننا وجدنا في إحدى مقابر عظماء القوم في جبانة أهرام الجيزة واسمه «حتبي» ويلقب بمدير الوثائق الملكية ورئيس كتاب الضياع الملكية، أن صاحب المقبرة لم يشيد لنفسه حجرة للقرابين بل اكتفى بالباب الوهمي، ولكنه من جهة أخرى صنع لنفسه تابوتًا من الحجر الجيري الأبيض وزينه بالنقوش والأبواب الوهمية، وكتب على حافته اسمه وألقابه، ثم كتب على جدار تابوته الغربي من الداخل بالمداد الأسود قائمة بالمأكولات التي كانت تكتب عادة في حجرة القرابين فوق الباب الوهمي. يضاف إلى ذلك أننا عثرنا على بعض مقابر في جبانتي أهرام الجيزة وسقارة قد نقشت على حجر دفنها كل ما يحتاج إليه من أوان وأثاث ومناظر أخرى، ولم ينقش شيء من ذلك على حجرات القربان، وأعتقد أن في كل ما ذكرنا ما يدحض القول بأن هذه المناظر كانت تعمل للزينة والفن فحسب، لأنها في الحالات الأخيرة عملت في أعماق حجرة الدفن، فلا يمكن أن يتمتع بجمال فنها قط إلا نابشو القبور للبحث عن الكنوز أو الحقائق التاريخية.

يضاف إلى ذلك أن حرص المصري على الاستفادة من هذه المناظر في حياته الأخرى جعله يفكر في صنع مجموعة عظيمة من الآلات النحاسية على شكل نماذج يبلغ عددها أحيانًا أكثر من مائة قطعة كالتي عثر عليها حديثًا في مقبرة ابن «تي»، أو المجموعة التي عثر عليها للأمير «خنوم با إن» ابن «خفرع»، أو لحفيد الملك «منكورع» في منطقة حفائر الجامعة بالأهرام، فقد كانت هذه المجموعات الأولى من نوعها، إذ عثر عليها في مقابر لم تمس بعد.

سبب وضع النماذج النحاسية وغيرها مع المتوفى في القبر

ومن ذلك يمكننا أن نستخلص أن المتوفى كان يحملها معه في قبره ليستعملها هو لنفسه أو ليستعملها أصحاب الحرف والصناعات عند الحاجة إليها في الآخرة، كما كان يحتاج إليها في الدنيا، وإلا فليس لوجود هذه الآلات مع المتوفى في القبر أي تفسير آخر.

المناظر التي على جدران المقابر منقولة عن مناظر معابد الأهرام

على أن فكرة البعث هذه ثانية وقدرة السحر على قلب الصور إلى حقائق لم تكن وليدة أفكار عامة الشعب، بل نبتت أولًا عند الملوك، ثم أصبح القوم فيما بعد على دين ملوكهم، ولذلك نجد أن أقدم تعاويذ سحرية يرجع عهدها إلى ما وجد على جدران أهرام ملوك الأسرة الخامسة، والمطلع عليها يجد أنها ترجع إلى عصور بعيدة في القدم، وكذلك كان يظن بعض علماء الآثار أن المناظر المتعددة التي نجدها على مصاطب الدولة القديمة كانت خاصة برجال البلاط وعامة الشعب، وأنها لا توجد على الأهرام ومبانيها. ولكن الكشوف الحديثة أثبتت أن كل هذه المناظر قد نقلت من معابد الملوك ومقابرهم، إذ عثرنا أولًا في المعبد الجنائزي للملكة «خنت كاوس» كما عثرنا في هرم «خوفو» على بعض نقوش جنائزية، ومناظر لبعض الأعياد والاحتفالات، ولكن أعظم مجموعة من هذا النوع عثر عليها في الطريق المؤدي من المعبد الجنائزي إلى معبد الوادي للملك «وناس»، وذلك أنه وجد على جدران هذا الطريق المسقوف مناظر تمثل كل الحياة الاجتماعية بأبهى مناظرها (انظر جزء أول ص٣٥٣).

والآن بقي علينا أن نذكر كلمة عن المهارة الفنية في نحت هذه المناظر وتنسيقها.

تدل الأحوال على أن الفنانين في هذا العصر كانوا ينكرون ذاتهم رغم ميل المصري إلى حب الظهور والفخر بأعماله العظيمة ونقشها على قبره. ومن الأمثلة النادرة التي نجد فيها الفنان يضع إمضاءه على أعماله، الفنان الملكي «بتاح خو» وهو الذي نحت المناظر التي على مقبرة أمير مقاطعة الأشمونين «ور إيرمن» الذي نحت لنفسه مقبرة في جهة (الشيخ سعيد)، ويشاهد أن الفنان٤ قد رسم نفسه بين موظفي قصر هذا الأمير وكان من بين الذين جلسوا على مائدته.

الفنان المصري في ذلك العهد وندورة ذكر اسمه على أعماله

ولا يبعد أن يكون مجبرًا على عمل ذلك، ولقد وجدنا أحد الفنانين الذين نقشوا المناظر على طريق «وناس» قد كتب اسمه تحت أحد المناظر والفنان الذي أبدع نقوش الأمير «نب إم آخت» ابن الملك «خفرع» قد ذكر اسمه على هذه المقبرة. وكذلك عثرنا على مقبرة في جبانة الجيزة ذكر لنا في نقوشها ذلك الفنان أنه هو الذي نحت مناظر كل مقبرة الأمير، والواقع أن مناظرها آية في الإبداع ودقة الفن.

وكان الفنان في هذا العصر يتبع إحدى طريقتين في إبراز صوره:
  • الطريقة الأولى: كان يجهز سطح الحجر الجيري، ثم يرسم عليه المنظر بالمداد الأحمر أو الأسود بعد أن يقسمه حسب قانون الرسم، وبعد ذلك ينحت المنظر بارزًا، أو غائرًا حسبما يتطلب صاحب المقبرة، ثم يأخذ في وضع التفاصيل التي يبرز بعدها المنظر في صورته الأخيرة.
  • الطريقة الثانية: كان يتبع فيها وضع طبقة من الجص على الجدار الذي يريد تصوير المنظر عليه، وكان يضطر إلى ذلك عندما يكون الجدار من اللبن أو من الحجر المحلى الهش الأصفر اللون، وبعد ذلك يرسم مناظره بالألوان المختلفة. وقد عثر على مقبرتين من هذا النوع في جبانة الجيزة ولم نستطع حفظهما، لأن الملاط الأبيض الرقيق سقط واختفت معه الرسوم، غير أننا تمكنا من نقله، ولا يزال بعض هذا (الفرسكو) موجودًا للآن يشهد بدقة رجال الفن ومهارتهم في مقبرة الأميرة «حمت رع» التي تنتسب إلى بيت «خفرع» والتي أبدع الفنان في تصويرها في ثوبها الجميل ذي الألوان الزاهية التي تمثل عدة أنواع من الخرز المختلف الألوان، مما يجعل الإنسان يقف مدهوشًا أمام ما وصل إليه الفنان في ذلك العصر البعيد. هذا إلى أن الطيور التي رسمت في هذه المقبرة محاكية ألوانها الطبيعية لشاهد عدل على ما وصل إليه من تذوقه للفن وحبه لمحاكاة الطبيعة في أجمل صورها.

وقد أظهر الفنان في المناظر والصور التي نقشها على الحجر الجيري الأبيض كل الأوضاع التي نشاهدها في الطبيعة للنبات، والحيوان، والإنسان، ولم يستعص عليه إلا رسم الإنسان على الجدران من الوجه فإنه لم يفلح فيه قط كما سيأتي ذكر ذلك، وكان دائمًا يرسمه بصورة جانبيه حتى انقضاء العصر الفرعوني.

تعدد المناظر واتفاقها في هذا العصر يشعر بثروة أصحابها

ويجب هنا أن نشير إلى كثرة هذه المناظر وتعددها في مصاطب علية القوم وكبار رجال الدولة مما يشعر بتحسن حالتهم الاجتماعية، وازدياد ثروتهم مما يتفق مع الهبات الملكية التي كان يمنحهم إياها الفرعون بمثابة وقف من أراضي التاج لما قاموا به من الخدمات لجلالته، ولذلك نرى أن كل واحد منهم، بعد أن أصبح ذا ثروة طائلة، يقيم لنفسه مقبرة عظيمة، ويحبس عليها الأوقاف الجمة ويباهي بذلك في النقوش التي يحفرها على جدران حجرات مقبرته. وقد بلغ فن النقش الغائر والبارز قمته في أواسط الأسرة الخامسة، إذ نشاهد الحذق في رسم تفاصيل أجزاء الطيور، والحيوان والنبات، وانسجام الألوان مع الذوق الفائق في توزيعها مما يسبغ على هذه المناظر حياة وروحًا، يبعثان في النفس سرورًا يفوق ما يشعر به الإنسان أمام المناظر الطبيعية الحقيقية.

تمثال القرين «كا» أو الروح المادية والتماثيل الأخرى التي توجد في قبر المتوفى

سبب صناعة تماثيل القرين وغيرها مما كان يوجد مع المتوفى

في العهد الذي وصلت فيه حجرات القربان إلى قمتها من الكمال في النقش والرسم، وقضت المعتقدات الدينية أن يصنع المصري لنفسه قبل مماته تمثالًا أو تماثيل توضع معه في القبر كما كانت توضع أحيانًا لأفراد أسرته، تعرف بتمثال أو تماثيل القرين وذلك لأجل أن تحل فيه روحه المادية إذا حدث لجثته تلف أو عطب، أو اختفت لأي سبب ما حتى يحيا منعمًا في قبره. والظاهر أن هذه التماثيل أخذ عددها في الزيادة تبعًا لثراء صاحب المقبرة لأنه كان يخاف أن يتلف بعضها فلا تجد القرين لها مأوى، فكان يصنع عددًا عظيمًا منها بصفة احتياطية حتى إننا وجدنا أحد عظماء القوم قد صنع لنفسه أكثر من مائة تمثال، فكان في ذلك يحاكي الملوك، كما ظهر منذ عهد الأسرة الرابعة أن علية القوم أخذوا يحتاطون لأنفسهم احتياطًا آخر، وذلك أنهم زيادة على رسم أصحاب الحرف والصناعات على جدران مقابرهم لخدمتهم في الآخرة، أخذوا ينحتونها من الحجر الجيري الأبيض، ويصنعونها من الخشب، فنجد بجانب المتوفى تماثيل عجانته، وصانع فخاره وصانع جعته، وخبازته، وطاهيته، وطحانه. كل هذه التماثيل كانت تصنع بشكل خشن مما يمكن الفنان الحديث أن يلمس فيها صدق التعبير، إذ لم تكن خشونتها لانتسابها إلى حثالة القوم، بل لتمثيل شكلهم وزيهم الحقيقي وتقاطيعهم الغليظة، وهنا نجد أن الفنان كان يرخي لنفسه العنان، فكان يمثل كل صانع بجلسته الخاصة وأمامه المادة التي يصنعها ممثلة معه في الحجر. وقد كانت مستلزمات الفن تفرض عليه أحيانًا أن يخرج عن حد المألوف في وضع التمثال، ولا أدل على ذلك من الوضع الذي وجدنا عليه تمثالًا جالسًا أمام موقد وقد لفت رأسه تفاديًا من الدخان الذي كان ينبعث من الموقد، وهذا من عجائب الفن المصري من جهة الخروج عن الأوضاع المألوفة. وكانت كل هذه التماثيل توضع في أماكن خاصة عرفت فيما بعد بالسراديب أو بيت «الكا» (الروح المادية)، وكانت توضع في بادئ الأمر — كما يشاهد في ميدوم — في الكوة الكبيرة التي توضع فيها القرابين، وكانت هذه على شكل باب وهمي وتعتبر بأنها مقصورة ليحفظ فيها تمثال المتوفى، وربما نقل الأفراد ذلك عن الملوك الذين يصنعون لأنفسهم تماثيل للقرين.

أنواع السراديب وأوضاعها المختلفة ووظيفتها

أما في مقابر الجيزة التي من عهد بناة الأهرام فكانت توضع التماثيل في حجرات بنيت خصيصًا لها وراء الباب الوهمي. وفي مقبرة الكاهن المرتل «كاعبر» المعروف (بشيخ البلد)، وضع تمثاله وتمثال زوجته في كوة عريضة في الجدار الجنوبي لحجرة خارجية ربما كانت مقصورة. وفي عهد العظيم «حسي» كانت التماثيل توضع في نهاية حجرة القربان، وفيما بعد أصبحت للتماثيل حجرة خاصة منفردة في قلب المصطبة بالقرب من حجرة القربان. والواقع أنه في عهد الأسرتين الخامسة والسادسة كانت حجرات التماثيل توضع في أي جهة من جهات القبر، كما يستدل على ذلك من السراديب التي عثر عليها في حفائر الجامعة المصرية بأهرام الجيزة، إذ نجد سراديب في الجهات القبلية والشرقية والبحرية والغربية، غير أنها جميعًا كانت بالقرب من الباب الوهمي أو حجرة الدفن. وقد عثر للكاهن الأعظم «رع ور» على أكثر من خمسين سردابًا ومقصورة، بعضها مكشوف، وبعضها مغطى، وبعضها في واجهة المصطبة نفسها. والسرداب بالمعنى الحقيقي المعروف لنا هو حجرة مشيدة من جهاتها الأربع ومسقوفة وليس فيها أي منفذ غير ثقب صغير يمكن لزائر المصطبة أن يرى التمثال منه، وهذا الثقب يوضع في الجدار الخارجي للسردات، ويختلف ارتفاعه من سطح أرض الحجرة باختلاف حجم التمثال، فإذا كان التمثال صغيرًا عمل في أسفل الجدار، وإذا كان مرتفعًا عمل في أعلى الجدار بحيث يمكن أن يراه الناظر كله، وأحيانًا يكون في السرداب عدة تماثيل في صف واحد فيكون عدد الثقوب بقدر عدد التماثيل وهكذا. يضاف إلى ذلك أن هذا الثقب كان من وظائفه أن يوصل البخور لتمثال المتوفى.

تاريخ فن صناعة التماثيل منذ أقدم العصور إلى نهاية الدولة القديمة

لم نعثر على تماثيل ذات قيمة فنية بالمعنى الحقيقي في عصور ما قبل التاريخ للآن، وقبل أن نتكلم عن تماثيل عصر الدولة القديمة، يجدر بنا أن نبحث عن القواعد التي كان لزامًا على كل فنان أن يتبعها في صناعة تماثيله، ثم الخطوات التي كان يقفوها لإخراج تمثاله كاملًا.

والظاهر أن صناعتها لم تكن منتشرة في هذا العهد، وكذلك في العهد الطيني لم تكن كثيرة. ويدل ما كشف منها حتى الآن على أن الفنان في هذا الوقت كان يقصر همه على صنع تماثيل صغيرة من العاج لم تحفظ لنا الأيام منها إلا أمثلة قليلة العد، وهي في جملتها على جانب عظيم من الإتقان والرشاقة، ولا أدل على ذلك من دمى المرأة العارية المحفوظة الآن في متحف اللوفر، وأقدم تماثيل بالمعنى الحقيقي يرجع تاريخها إلى نهاية الأسرة الثانية، والواقع أن البحوث الفنية تدل على أن المصري كان لا بد له أن يسير حسب قوانين وقواعد معينة عند تصوير التماثيل الإنسانية في الحجر. وكان أول من أشار إلى وجود قانون النسب في نحت التماثيل الآدمية المصرية هو العالم «لبسيوس»٥ وقد حقق نظريته ما عثر عليه من الرسوم التي لم تكن قد تمت بعد على الجدران، والتي لم تزل خطوط النسب الحمراء ظاهرة عليها، وهذه الجدران يرجع عهدها إلى الدولة القديمة. وقد وجدت مثل هذه الرسوم كذلك على جدران مقابر (بني حسن) المنحوتة في الصخر، ويرجع عهدها إلى أمراء المقاطعات في عهد الدولة الوسطى، فيلاحظ في مصاطب الدولة القديمة أن النسب كانت تقاس برسم خط عمودي في محور الصورة الآدمية المنحوتة على الجدار، وذلك بنقط وخطوط متقاطعة، أما المقاييس الجانبية فكانت تعلم بنقط على خطوط متقاطعة حمراء، وهذه الخطوط الحمراء تدل على أن ارتفاع الشكل البشري الواقف من أخمص القدم إلى منبت الشعر أو الشعر المستعار الذي على الجبهة كان مقسمًا إلى ست وحدات، وكان طول القدم الأيسر الذي كان يرسم وهو يخطو دائمًا إلى الأمام في التماثيل والصور يقدر بأكثر من وحدة بقليل، أما طول القدم الأيمن فكان يقدر بوحدة فقط، أما ارتفاع الجسم إلى الركبة فيقدر بوحدتين، وإلى منبت الرقبة بخمس وحدات. أما التمثال الجالس فكان طوله خمس وحدات من أخمص القدمين إلى منبت شعر الرأس.

وفي عهد الدولة الوسطى شوهد أن الصور الإنسانية التي لم يتم نحتها كان مرسومًا عليها شبكة مستطيلة الشكل من الخطوط الحمراء، وحدتها تكاد تكون على وجه التقريب ثلث الوحدة القديمة، وعلى ذلك كان يعتبر ارتفاع الشكل الآدمي الواقف ١٨ وحدة، والشكل الجالس ١٥ وحدة. ولما كان الشكل يخطط على هذه الشبكة فقد سبب ذلك اختفاء المقاييس الجانبية التي كانت ترسم على الشكل في الدولة القديمة. ومن المحتمل أن شبكة الخطوط المستطيلة كانت تسعمل في الدولة القديمة للمناظر المعقدة، وقد بقيت مستعملة حتى نهاية التاريخ المصري. وقد تغير عدد الوحدات مرة أخرى في عهد عصر النهضة أي في الأسرة السادسة والعشرين، فكان ارتفاع الشكل الواقف مقسمًا إلى ٢١ وحدة إلى منبت الشعر، و٢١ و١/٤ إلى قمة الرأس.

قانون رسم الأشكال الآدمية في مختلف العصور

وعلى أية حال فإن عين الفنان كانت تستعمل في تخطيط الأشكال سواء أكان ذلك في الطريقة التي كانت متبعة في عهد الدولة القديمة، أو في الطريقة التي كان يستعمل فيها نظام شبكة الخطوط فيما بعد، وتوجد لدينا أمثلة عدة لإعادة الرسم كرة أخرى عندما كانت عين الفنان لا ترتاح لمحاولته الأولى. وكذلك كانت ترسم تفاصيل الوجه والملابس بخطوط حمراء وسوداء، ولكنها كانت تختفي أثناء المسح في هذه التفاصيل. وكانت التحسينات الأخيرة تتوقف على مهارة الفنان، أما درجات حسن نقش الصورة ونحتها فكانت ناشئة من دقة عين الفنان، وتعود يده مساعدة عينه له في انسجام الشكل. ومن أجل ذلك نجد اختلافات في مقاييس الأشكال المنقوشة، وبخاصة في التفاصيل، مما يخرج بها عن تلك النسب الأصلية التي اتخذت في الأصل أساسًا.

وتمكن مشاهدة ذلك عند فحص النقوش والصور التي لم تتم بعد على الجدران وغيرها. ويجب أن نلاحظ هنا بنوع خاص أن قانون النسب لم يكن عائقًا في سبيل رسم الأجسام الخارجة عن حد المألوف، أو الأجسام التي لم تكن في هيئة طبيعية معتادة كالأقزام، وباني السفينة المسن، والراعي النحيل الجسم الذي وجد مرسومًا في مقابر (مير)، أو الأشخاص الذين يحاربون البهائم، أو الذين ينحتون ليحملوا أثقالًا على ظهورهم أو البحارة الذين يحارب بعضهم بعضًا في سفنهم، أو العجانة، أو الراقصة أو أصحاب الحرف، والصناعات.

ويظهر أن تماثيل العصر الصاوي، وما بعده حتى العصور الرومانية في مصر، التي لم يكن قد تم صنعها بعد، كانت تتبع نظام المقاييس الذي كان شائعًا في عهد الدولة القديمة، وبخاصة إذا طبقناه على تماثيل الملك «منكاورع». وذلك على رغم أن الأمثلة التي لدينا من هذه العصور قليلة، ونماذج النحت في هذا العصر المتأخر نشاهد فيها — رغم اتباعها نظام الدولة القديمة — بعض أمثلة استعمل فيها نظام شبكة الخطوط المقسمة إلى ٢١ وحدة، وقد وجدت محفورة أو مرسومة على ظهر التمثال، ومعها كذلك علامات خاصة لتفسير تفاصيل معينة، ولا شك في أن القانون كان المقصود منه أن يستعمل في التماثيل، والنقوش على حد سواء.

الطرق الفنية في صناعة التماثيل

رأينا فيما سلف أن الفنان المصري كان يتبع قواعد فنية منظمة عندما يريد تصوير الأشكال البشرية، أو نحتها على الجدران، أو التماثيل، ولذلك كان لزامًا عليه أولًا أن يحفظ قانون النسب كما ذكرنا آنفًا، ثم يتبع خطوات معينة، الواحدة تلو الأخرى في نحت تمثاله حتى يبرز في صورته النهائية، كاملًا من كل الوجوه. ولا شك في أن هذه الخطوات كانت تختلف باختلاف المادة التي يصنع منها المثال تمثاله. وباختلاف درجة مهارته، وما لديه من العدد والآلات.

المواد التي يصنع منها التمثال

وكانت تماثيل القرين تنحت في قطع من الأحجار، أو في جدران حجرة القربان المقطوعة من الصخر أو من الخشب. ولحسن الحظ قد عثرنا على تماثيل كثيرة لم يتم صنعها، وكذلك على تماثيل قد بدأ الفنان في حفرها إلى درجة محدودة ثم أوقف العمل فيها فجأة فلم يتم صنعها، يضاف إلى ذلك أننا عثرنا على تماثيل أخذ الفنان ينحتها في جدار مقبرة منحوتة في الصخر للكاهن «زدا» من عصر الملك خفرع في جبانة الجيزة، وهذه التماثيل تمثل لنا الخطوات التي كان يتدرج فيها الفنان لإبرازه تمثاله كاملًا.٦

الخطوات التي كانت تتبع في نحت التمثال

فنجد في لوحة رقم ١ في المرجع المذكور أن المثال حفر أولًا في الصخر هيكل التمثال دون أن يبين فيه أي تفصيل، وفي اللوحة رقم ٢ نجد أنه أخذ يظهر أعضاء الجسم بشكل مختصر دون أن يعطي لكل منها ما يميزها بالتفصيل، وفي لوحة أخرى نجد أن المثال أخذ يظهر أولًا ملامح الوجه بكل دقة، وذلك لأنه كان يعتبر أهم جزء في التمثال، أما الجزء الأسفل منه فلم يتم صنعه. وفي نفس اللوحة رقم ٢ نجد أن الفنان أظهر تفاصيل كل الجسم بكل وضوح ودقة، ولا تزال الخطوط الحمراء التي كانت ترشده باقية إلى الآن في التماثيل التي لم يتم صنعها.

ومن ذلك يتضح لنا أن النحات كان يضع التصميم أولًا برسم الهيكل البشري مختصرًا، ثم يأخذ في إظهار التفاصيل مبتدئًا بالرأس فالصدر ثم الأطراف. وهذه المصطبة تكاد تكون الوحيدة من نوعها من مصاطب الدولة القديمة، التي يمكننا بواسطتها دراسة الخطوات التي كان يضعها الفنان لنحت التماثيل في أصل الجدران الصخرية، ومن المحتمل أن هناك طرقًا أخرى لا نعلمها.

أما في تماثيل الملوك فقد كشف الأستاذ «ريزنر» في معبد الملك «منكاورع» عن عدد عظيم من التماثيل التي لم يتم صنعها بعد بدرجات مختلفة، وسبب ذلك أن هذا الملك كما ذكرنا آنفًا توفي قبل أن يتم بناء هرمه، ومن التماثيل التي وجدت في معبده غير كاملة يمكننا أن تتبع الخطوات التي قام بها الفنان لإخراج تمثاله كاملًا. وقد دل الفحص على أن الأشكال أو الحالات التي وجد عليها التمثال أثناء صنعه من البداية إلى النهاية ثمانية، سنذكرها هنا لعلها تكون ذات فائدة لفناني عصرنا.
  • الحالة الأولى:

    الخطوات التي اتبعها المثال في حفر التماثيل الملكية

    تمثل لنا قطع الحجر بمقاييسه المطلوبة، فإذا كان المطلوب تمثالًا جالسًا، يظهر من الحجر بمقاييسه المطلوبة، فإذا كان المطلوب تمثالًا جالسًا، يظهر من الحجر شكل غير واضح للكرسي أو القطعة التي تمثل مقعد التمثال، ولا يظهر هنا في الحجر أي تمييز للوجه أو الذراعين، أو الساقين. وبعد ذلك ينقر سطح تلك الكتلة الحجرية كأنها دقت بحجر صلب، ثم تسوى بعض هذه الثغرات أو الثقوب المتخلفة عن الدق، وفي أماكن كانت تملأ بعجينة تشبه مسحوقًا معجونًا بالماء. وتسوية سطح هذه الكتبة بهذه الكيفية كان بطبيعة الحال يعمل بواسطة حجر خاص لذلك. ويلاحظ في هذه الحالة كذلك أن على الكتلة الحجرية خطوطًا يبلغ طولها بين اثنين وخمسة ملليمترات في العرض رسمت باللون الأحمر، وهي تحدد الرسم المختصر للذراع الأيمن. ولا شك في أن كبير الفنانين في المصنع كان يرسم كل خطوة في نحت التمثال ويترك الأعمال السهلة التي لا تحتاج إلى مهارة ليقوم بها تلاميذه كما هي القاعدة المتبعة في الصناعات المصرية في كل العصور.

  • الحالة الثانية: في هذه الخطوة كان يتقدم المثال في تشكيل تمثاله خطوة جديدة إلى الأمام فيرسم الوجه، والذراع الأيمن، والمقعد الذي يرتكز عليه التمثال بهيئة مختصرة. غير أن سطح الحجر كان لا يزال ظاهرًا فيه أثر العلامات والتسوية التي كانت في الحالة الأولى، وكذلك الخطوط الحمراء التي تحدد الوجه، والذراع الأيمن وجزءًا من الذراع الأيسر.
  • الحالة الثالثة: في هذه الحالة ينحت الفنان الذراع الأيمن باليد مقفلة والوجه بلحيته، والشعر المستعار بشكل واضح يمكن تمييزها به، على حين أن الذراع الأيسر باليد مفتوحة يظهر هنا واضحًا بعض الشيء، وكذلك تظهر بنوع خاص الخطوط الحمراء التي ترشد الحفار إلى الحافة العليا للساعد الأيمن الذي لم يكن قد تم تدويره بعد، وكذلك إلى مقدمة الحافة اليمنى لقاعدة التمثال.
  • الحالة الرابعة: في هذه الحالة نشاهد تقدمًا محسوسًا في إظهار مميزات أجزاء الرأس، فيلاحظ أولًا أن الكتلة الحجرية التي سيشكل منها الصل الملكي أخذت تبرز، وكذلك يلاحظ أن الجزء الأوسط من الوجه قد مهد إلى أربعة أسطح مستوية لتتألف منها الجبهة، ونهاية الأنف، والسطح الذي من طرف الأنف إلى طرف الذقن، وآخر من الذقن إلى نهاية اللحية، وكذلك جانبا الوجه فإنهما عولجا بنفس الكيفية غير أن انحدارهما لم يظهرهما كبيرين أو مميزين. أما الخط الذي يفصل الساقين فقد نحت وميز بخطوط طويلة بواسطة حجر معد لذلك، حافته منحنية بعض الشيء، ويلاحظ هنا وجود بقايا خط أحمر على الذراع الأيمن.
  • الحالة الخامسة: في هذه المرحلة يلاحظ أن ملامح صاحب التمثال أخذت تظهر وتميزه عن غيره. وهنا يلاحظ أن الثغرات، والتكاسير البسيطة لا تزال ظاهرة على سطح التمثال، ولكن بحالة أقل مما كانت عليه من قبل، والظاهر أن الضربات التي كانت توجه للسطح في هذه الحالة لجعله مستويًا كانت تضرب برفق حتى لا يكسر الأنف أو اللحية أو غيرهما من أجزاء التمثال البارزة، التي كانت عرضة للتهشيم بسرعة. أما عملية المسح الخفيف، وتسوية سطح التمثال، فلا بد من أنها كانت تستعمل بوجه خاص لهذه الحالة وما بعدها، ولم يشاهد هنا أي أثر للخطوط الحمراء.
  • الحالة السادسة: هذه الحالة هي التي تمثل الهيئة الخشنة التي يظهر فيها التمثال قبل أن يصقل فلا يظهر على سطحه الكسور البسيطة، وعلامات المسحة والتسوية التي كانت في الحالة الخامسة. وهنا يظهر التمثال صورة ناطقة لصاحبه، غير أن أصابع القدمين، واليدين لم تكن قد شكلت بعد بهيئة واضحة، وكذلك الخطوط التي حول العينين كانت لا تزال مبهمة. وهذه التفاصيل الدقيقة كانت تعمل على ما يظهر خلال الصقل النهائي للتمثال.
  • الحالة السابعة: وهي التي يمكن أن يطلق عليها حالة بروز التمثال في هيئته التامة، وهنا نشاهد أن التمثال أخذ يصقل بعض الشيء وذلك بإزالة كل آثار التنقير الخفيف، ثم ظهور التفاصيل نوعًا ما، ولكن من الواضح أن عملية تجميل التمثال يمكن أن تستمر حسب نوع جودة الصنعة التي يرغب في أن يكون عليها التمثال في حالته النهائية، ولا نزاع في أن هذه المرحلة هي التي يجب أن يصل فيها التمثال إلى درجة الإتقان الفني، ولكن جمال مجموعه كان يتوقف على مقدار الوقت والعمل اللذين كانا يصرفان للوصول إلى هذه الغاية.
  • الحالة الثامنة: وهي خاصة بالتماثيل التي كان ينقش عليها اسم صاحبها وألقابه بعد صقلها صقلًا بديعًا، والظاهر أن عملية الصقل الأخيرة كانت تتم باستعمال مادة جافة من المؤكد أنها مادة السنفرة التي نستعملها الآن في صقل الأشياء.

تكوين التماثيل وضرورتها

وقد كان من أعظم ما يهتم به الفنان بعد الفراغ من عمل تمثاله أن يلونه بالألوان التي كان مصطلحًا عليها في عهد الدولة القديمة. وذلك أن البشرة عند النساء كانت تلون باللون الأصفر (من المدهش أننا وجدنا تمثال الملك «زوسر» ملونًا باللون الأصفر، والسبب في ذلك مجهول)، أما الرجال فكانت بشرتهم تلون باللون الأحمر القاتم. والشعر المستعار كان لونه أسود فاحمًا، والملابس لونت في معظم الأحيان باللون الأبيض، أما المجوهرات التي كان يتحلى بها الرجال والنساء على السواء كالقلائد، والأساور، والحجول، فكانت تلون بألوان مختلفة أهمها الأزرق المائل للخضرة لتحاكي لون الفيروز، واللون الأحمر الباهت ليمثل لون الكرنلين، والحزام الذي كان يلبسه التمثال كانت ألوانه مختلفة تدل على حسن ذوق وانسجام في تركيب الألوان. وأحسن أمثلة لدينا في تلوين التماثيل يحتمل أن يكون تمثال «رع حتب» وزوجته «نفرت» المحفوظان بمتحف القاهرة. وقد كان من الصعب جدًّا تمييز نوع الحجر الذي عمل منه التمثال عندما يكون التلوين متقنًا. على أن الدقة في نحت التمثال المصنوع من الحجر الجيري الأبيض كان يغطي عليها أحيانًا بالتلوين.

ويرى فنانو عصرنا في تلوين التماثيل القديمة أن المصري كان لا يتذوق فنه، ولا يقدره، ولا نزاع في أن المثال المصري في ذلك العصر لم يكن يحسب حساب التقدير الفني لتمثاله، وذلك لأنه رجل حقائق، جل همه أن يبرز قطعته الفنية حسب أفكار ذاك العصر، أي أن كل غرضه أن يحصل للرجل الذي يمثله على صورة حياة مستقبلة هنيئة، فكان لزامًا عليه أن يجعل صورته طبقًا للشخص لتحل فيه روحه المادية بعد الموت، ومن أجل ذلك كان تلوين التمثال ضروريًّا، فإذا وضع اللون في ذلك الوقت بذوق يخالف ذوق عصرنا في استعمال الألوان فإنه كان على أية حال يقوم بأداء ما تطلبه عين الرجل المصري وعقله حتى يصير تمثال الرجل أو المرأة صورة كاملة. على أنه رغم ذلك لم يكن يوضع إلا النزر اليسير من هذه التماثيل في حجر المقبرة أو المعبد المكشوفة، بل بالعكس معظم هذه التماثيل في الدولة القديمة كانت توضع في السراديب فلا يراها أحد بعد ذلك.

ومن المدهش أن بعض التماثيل التي كانت تصنع من الجرانيت، والشيست، والإردواز، قد لوحظ فيها بعض الألوان، وبخاصة حول العينين وفي تخطيط الشارب أي أن التلوين وصل إلى هذه التماثيل أيضًا.

تمثيل ملابس التمثال

يضاف إلى ذلك أن ملابس المتوفى كان يراعى فيها كل الدقة، فكان كل شخص لا بد أن يرتدي ملابسه التي كان يتقمصها مدة حياته وإلا ضلت في معرفته الروح المادية. وقد كان من جراء اتباع الدقة في إلباس كل تمثال لباسه الأصلي أن عرفنا شيئًا كثيرًا عن ملابس القوم في هذه العهد مما لم يكن في مقدورنا معرفته بدون ما وصل إلينا من التفاصيل التي وجدناها على التماثيل مرسومة بكل دقة وأمانة. ولم نجد من التماثيل العارية، إلا قطعة من تمثال لامرأة من عهد الأسرة الرابعة في حفائر الجيزة، وكانت من حظيات أحد ملوك الأسرة الرابعة. على أننا وجدنا كثيرًا من صور الأطفال المنحوتة على جدران المقابر ترسم عارية. وقد عثر كذلك على بعض تماثيل الرجال قد نحتت كذلك عارية.

تماثيل الخشب

سهولة نحت التمثال تتوقف على المادة التي يصنع منها

كان الفنان المصري مرتبطًا في عمل تمثاله على وجه خاص بالمادة التي كان يصنع منها التمثال. ولذلك نجده دائمًا يهتم بتلك المادة ويتخذ لها الشكل الذي يمكن أن تظهر فيه جميلة أنيقة، فمثلًا نجد أن الخشب والعاج والمعادن بين الأشياء التي لم يلق مقاومة في تمثيلها، بخلاف ما كان يعانيه مع الأحجار الصلبة، لأن مادتها كانت سهلة التشكيل حتى إنه كان في صنعها يتحرر من القيود، والمصاعب التي كانت تعترضه في نحت التماثيل من الأحجار الصلبة، غير أنه رغم ذلك كان مقيدًا في صنعها بقيود أخرى، فمثلًا لم يستطع أن يصنع من العاج إلا تماثيل صغيرة الحجم كتمثال «خوفو» الذي عثر عليه «بتري» في (العرابة)، فرغم أن صناعته معتنى بها إلا أنه من الوجهة الفنية ليست له قيمة عظيمة.

كيفية صناعة تماثيل الخشب

وكانت مصر في ذلك العهد — كما هي الحال في كل عهودها — لا تنبت أشجارًا صالحة لعمل التماثيل، أما ما كانت تشتريه من الشام من الأخشاب كالصنوبر والأرز والسرو، فكان يصل إليها قطعًا صغيرة، أو كتلًا لا يمكن عمل تمثال كبير من قطعة واحدة منها. ولذلك كان يصنع الجذع والرأس وأحيانًا الفخذان من كتلة واحدة، أما الذراعان فكانا يصنعان على حدة ويلصقان بالتمثال، وكانت الحال كذلك في الفخذين في بعض الأحيان، وكانت أجزاء التمثال تربط بوساطة (خوابير) دقيقة من الخشب مستطيلة الشكل؛ ثم يغطى كل هذا بملاط خفيف يأتي فوقه اللون الذي يلون به التمثال، وبذلك تختفي كل المعالم التي تشعر بأن التمثال مركب من أجزاء منفصلة عن بعضها. وذلك هو السر في أننا نجد التماثيل الخشب يدها اليسرى ممدودة إلى الأمام قابضة على عصا يتوكأ عليها. على حين أن هذا الوضع لا نجده في التماثيل المصنوعة من الحجر بل نجد دائمًا ذراعي التمثال ملصقتين بجسمه مما يشعر بأن المثال لم يكن حرًّا في تشكيل التماثيل الحجرية كما يريد لأن المادة كانت تقيده.

كيفية صناعة التماثيل من المعدن

أما في المعادن كالذهب والنحاس والبرنز، فكان يمكن صنع قطعة عظيمة واحدة منها إذ كانت صناعة صب المعادن متقدمة في هذا العصر، والظاهر أن الصانع وقتذاك لم يجسر إلا على صب قطع صغيرة، وربما كان من السهل عليه صب التماثيل الصغيرة، وأشكال التعاويذ، أما التماثيل الكبيرة فكانت أجزاء منها تصنع بطرق المعدن. والأجزاء التي كانت تحتاج إلى عناية ودقة في الصنع كالوجه واليدين والرجلين، تعمل لها قوالب خاصة تصب فيها. أما الجذع والذراعان والفخذان فكانت تصنع بالطرق ثم تركب فوق قالب على الشكل المطلوب، وتربط بمسامير وبهذه الطريقة صنع تمثالا «بيبي الأول» الموجودان بمتحف القاهرة، فرباط التمثال كان مصنوعًا من الخشب أما منطقته فكانت مصنوعة من الذهب، ولبسا رأسه من اللازورد، وقد اختفى بطبيعة الحال الحزام ولباس الرأس لأن قيمتهما المادية أغرت اللصوص على انتزاعهما، ورغم سذاجة الطريقة التي اتبعت في صنع هذين التمثالين والتمزيق الذي أصابهما فإنهما يعدان من أهم القطع الفنية التي يمكن وضعهما في مرتبة تمثال «خفرع» المنحوت من الديوريت.

الفرق بين صناعة تمثال من الخشب وآخر من الحجر

ولا يفوتنا أن نلفت النظر هنا إلى أن المصري نفسه كان يشعر ويعلم تمام العلم أن صناعة التماثيل من الخشب هي أسهل بكثير من صناعة التماثيل الحجرية، ولا أدل على ذلك من المنظر الذي عثر عليه في مقبرة العظيم «وب إم نفرت» وهو يمثل الحرف والصناعات، وفيه فنانان أحدهما يصنع تمثالًا من الخشب والآخر يصنع تمثالًا من الحجر، فالنحات الذي في الجهة اليسرى من المنظر يقول لرفيقه: «لقد انقضى شهر منذ الوقت الذي بدأت فيه العمل في التمثال الذي في يدي.» فأجابه المثال الثاني الذي على يمينه قائلًا: «إنك رجل أحمق في حسابك. أما كان الأجدر بك أن تقول هل الخشب مثل الحجر؟.» يقصد بذلك أن صناعة الخشب لا تحتاج إلى العناء والوقت اللذين يتطلبهما النحت في الحجر.٧ كنا قد تكلمنا فيما سبق عن الأدوار التي كان يمر بها التمثال المنحوت قبل أن يصبح كاملًا، ولنا أن نتساءل الآن عن الآلات التي كان يستعملها النحات المصري لإخراج تمثاله.

فمنذ نهاية عصر الأسرات كانت الآلات النحاسية معروفة في مصر، وكانت تصب في قوالب بسيطة مفتوحة، ثم بعد ذلك كانت تشكل بالطرق، وهي باردة بمطارق من الحجر المصقول، وهذه الآلات كانت قليلة العدد في ذلك العهد السحيق، وأهمها المقص الذي لا مقبض له، وكان يرهف أحيانًا من طرفيه، أما طوله وسمكه فكانا يختلفان حسب الأحوال، ومنها السكين المسطح العريض الذي ظهر منذ بداية العصر التاريخي، ثم القدوم الذي كان يستعمل في صنع الأخشاب.

الآلات التي كانت تستعمل لنحت التماثيل

ولما كشف المصريون البرنز الذي هو خليط من النحاس، والقصدير انتشرت الآلات المعدنية بكثرة وأدخل عليها تحسينات كثيرة، فظهر خلافًا للآلات القديمة، الآلة المدببة التي كانت تستعمل لقطع كتل الحجر العظيمة من الصخر، والمناشير ذات الأحجام المختلفة، والمثقاب الذي كان يدار بالوتر. وهذا الأخير كان يستعمل في التماثيل التي تصنع من الخشب، غير أنه لم يكن آلة مجدية في الحجر، وبخاصة أحجار الجرانيت والديوريت التي كان يستعملها المصريون بكثرة في صنع تماثيلهم وأوانيهم.

ومن المدهش أن المصريين لم يهتموا — أو على الأقل لم يظهروا اهتمامهم — بالحاجة إلى اختراع آلات صالحة للحفر في الحجر أحسن مما كان لديهم، وقد بقيت الحال كذلك إلى أن اختلطوا باليونان فاستعملوا الآلات التي تستعمل الآن.

وعلى ذلك فالمصريون لم يدخلوا تحسينات في الآلات المعدنية للحفر في الحجر، وذلك يعني أنهم لم يكونوا في حاجة إلى ذلك، وأنه كان لديهم آلات متقنة لهذا العمل.

والحقيقة أن سكان وادي النيل قبل معرفة النحاس كانوا ينحتون الأحجار الصلبة جدًّا ويصنعون منها أواني، ففي ظهور المدنية الأولى في عصر ما قبل التاريخ كان يستعمل البازلت، والحجر السنيتي (نسبة إلى أسوان)، وحجر البورفير، وحجر الحية، ثم الديوريت، وقد بقيت الأحجار المختارة حتى عصر الأهرام. وفي العصر الثاني مما قبل التاريخ كانت الأواني لها مقابض تثقب في الحجر لتعلق منه، ولكن منذ بداية الأسرة الأولى، عندما أصبحت الآلات النحاسية شائعة، لاحظنا أن استعمال الأحجار الصلبة يقل، على حين أن حجر الشيست والمرمر أصبحا كثيري الاستعمال، وذلك لأن الأواني كانت تصنع بطريقة ميكانيكية بواسطة المثقاب والوتر، ولكنها أقل جودة من صناعة ما قبل الأسرات. ولدينا أمثلة من المهارة التي تفوق الوصف التي كان يظهرها مصري ما قبل الأسرات في صناعة الظران، ولم يفقه فيها أحد في المدنيات الحجرية من كل الوجوه، وعندما كان يريد الصانع المصري أن يحفر الأواني من الحجر الصلب كان يستعمل سحاقات من الحجر تستعمل فوق السنفرة (حجر مسن).

طريقة صنع الأواني الحجرية

أما الأواني التي كانت تصنع من الحجر اللين فكان يستعمل لتفريغها المثقاب المصنوع من الظران الذي كان على شكل هلال. وعلى ذلك كان السنباذج (السنفرة) معروفًا منذ أقدم العصور مع أن موطنه الأصلي (كنوسوس) أحد جزر أرخبيل اليونان، وهو أَحَدّ حجر بعد الماس، ولذلك عند ما يدبب طرف هذا الحجر، كان يثقب أصلب الأحجار. وعندما كان يستعمل مسحوقًا كان يأكل الحجر عندما كان يفرك أو يحك به، وكان حك الأحجار وصقلها بوساطة أحجار مختلفة في الحجم والشكل. وهذا الاستعمال الفني قد بلغ من الكمال ما يفوق حد المألوف منذ أقدم العصور؛ من ذلك أن الأستاذ «فلندرز بتري» عثر في «هرا كنبو ليس» على إناء من الحجر السنيتي الأبيض والأسود عظيم الحجم، يبلغ قطره نحو ٦٠ سم في ارتفاع ٤٠ سم، ويزن نحو ٢٠٠ ك.ج. وهو أصم. قد أفرغ بالحك، وجدرانه بعد تفريغه أصبحت رقيقة جدًّا، حتى إن الإنسان يمكنه أن يرفعه بأصبع واحدة. ولا نزاع في أن هذه المهارة اليدوية، وتلك الدقة المدهشة، والحذق في الحفر، والصبر الذي لا حد له، كانت كلها من العوامل التي تغلبت على الصعوبات التي اعترضت الفنان المصري في تلك الأحجار الصلبة.

على أن آلات البرنز لم تتمكن يومًا ما من أن تحل محل حجر المسن (السنباذج)، أو حجر البلور الصخري، وذلك لأن كلًّا من البرنز، أو النحاس كان لينًا لا يأخذ في الأحجار الصلبة. وأحيانًا نجد أن النوعين كانا يستعملان معًا، ولذلك نرى القوم منذ الأسرة الأولى يصنعون المناشير من النحاس المركب فيه أسنان من السنفرة، وكذلك نجد أسنان المثاقيب من نفس الحجر.

ولما قضت الاعتقادات الدينية بعمل التماثيل كان لزامًا على المختصين في صناعة الأحجار الصلبة أن يوجهوا حذقهم الفني طبعًا إلى الشكل الجديد، وكانوا يتبعون في صناعتهم الخطوات التي ذكرناها سالفًا.

ثقافة الفنان المصري

ولا يتسرب إلى الذهن أن الفنان وبخاصة ناحت التماثيل كان عاملًا بسيطًا، بل كان لا بد له من أن يسيطر على أصول فنه حتى يمكنه أن يتبع خطوة فخطوة تعاليم رئيس الفنانين، ولأجل أن يصل إلى ذلك كان لا بد من أن يتعلم أشياء أخرى غير الرسم، كفن الكتابة، إذ كان التمثال عند الانتهاء من نحته في غالب الأحيان ينقش عليه اسم صاحبه وألقابه.

والآن نتساءل عن النموذج الذي كان يستخدمه الحفار المصري لإبراز تمثاله، والظاهر أنه كان هناك ثلاثة طرق، وهي:
  • أولًا: أن ينقل المثال الصورة التي ينحتها من الطبيعة مباشرة.
  • ثانيًا: أن يحاكي نموذجًا متفقًا عليه من قبل.
  • ثالثًا: أن يصنع تمثاله من الطبيعة بوساطة صورة مطبوعة من الأصل.

وقد ذكرنا آنفًا أن التمثال كان يصنع في الأصل لضرورة دينية (أي لتحل فيه الروح المادية إذا اختفى الجسم الأصلي). وذلك في عهد الدولة القديمة. ولكن فيما بعد نشاهد أن التمثال أصبح لا يوضع في سرداب بل كان يوضع في معبد الإله. والظاهر أن هذه الفكرة نتجت من أن المتوفى كان يتلمس حماية الإله، إذ تقول النصوص أن التمثال «كان يجلس في ظل البيت المقدس، ويستمع إلى الأدعية والصلوات في الصباح من فم الكهنة».

السبب في صناعة التماثيل

ولا نزاع في أن موضع التمثال سواء أكان في السرداب أم في المعبد لا يتطلب أن يرسم بأوضاع مختلفة، كما تنحت التماثيل التي توضع في الميادين العامة، على أن التمثال المصري كان في معظم الأحيان يصنع ليرى من الوجه. ولذلك كان لا يعتنى بنحت تفاصيل الأجزاء الخلفية.

سبب رسم الصور المصرية بوضع جانبي

كما أن الصورة التي كانت ترسم على جدران المقابر كانت ترسم جانبية. وذلك لأنه في الحالة الأولى كان التمثال يصنع لتعرفه الروح المادية عندما تدخل في القبر أو تخرج منه. أما الصورة الجانبية للأشخاص وغيرها فكانت ترسم جانبية لأنها كانت دائمًا تمثل سائرة أو تنظر إلى شيء أمامها، أو تسير نحوه مرسومًا كذلك بشكل جانبي، فكان المتوفى يرسم وهو ينظر إلى مائدة طعامه، أو سائرًا نحو بابه الوهمي، أو داخلًا قبره. وهكذا كان حاملو القرابين وغيرهم يرسمون ذاهبين نحو الباب الوهمي.

وكان من جراء ذلك وجوب تمثيل المتوفى على الشكل المتقدم، مع مراعاة أن وجه التمثال كان ينحت بوضع واحد دون إظهار أية حركة فيها تغيير ملامحه. ولذلك كان من السهل جدًّا أن يرسم للشخص عدة تماثيل، ولم يكن المثال في حاجة إلى أن ينقل ملامح الوجه كل مرة من صاحب التمثال، بل كان يكتفي بنقلها مرة واحدة. ولما كان التمثال يصنع لتحل فيه الروح المادية أبديًّا كان ينتخب للمتوفى صورته وهو في ريعان شبابه وعنفوان قوته.

أما طريقة نحت التمثال عن صورة مطبوعة من الأصل بالجبس، فالظاهر أنها قد استعملت في عهد الدولة الحديثة في تل العمارنة، وإن كان لدينا بعض نماذج من قوالب الوجه المطبوعة عن الأصل من الدولة القديمة، عثر عليها الأستاذ «ينكر» في حفائره بالأهرام وسنتكلم عنها في حينها.

تدرج فن النحت البارز في الأسرة الأولى

تدرج رقي صناعة التماثيل

يمثل فن النحت في عصر الأسر الأولى بعض نقوش نحتت على ألواح من حجر الشيست، ورءوس الدبابيس، وأوان من الحجر المختلف الأنواع، وأشياء أخرى متنوعة من العاج، وكذلك أشكال رجال وحيوانات حفرت في العاج، والأحجار والقاشاني. نذكر منها هنا أهم ما عثر عليه: عدد من الأشكال المصنوعة من العاج تمثل رجالًا ونساء عثر عليها في «هراكنبوليس»، والعرابة المدفونة. وكذلك عثر على ثلاثة تماثيل للإله «مين» في بلدة قفط وعلى تمثالين راكعين من الحجر الجيري لرجل في هراكنبوليس، وتمثال لرجل واقف في نفس المكان. ثم تمثال صغير لرجل متربع في «هراكنبوليس» أيضًا. ولكن مما يؤسف له أن معظم هذه التماثيل قد وجدت في حالة تفكك وتحلل شديدة. على أننا نشاهد مما بقي منها تقدمًا في المهارة الفنية عن عصر ما قبل الأسرات، وبخاصة في عمل التماثيل الصغيرة، وكذلك النقوش التي كانت تعمل بحجم صغير، فمثلًا نجد أن رأس التمثال الصغير المتربع جيدة في صنعها مثل الصورة المحفورة على العاج، وكذلك نشاهد مثل هذه المهارة والإتقان في أحد التمثالين الراكعين. أما تماثيل الإله «مين» الثلاثة فقد وجدت للأسف في حالة لا تمكننا من أن نحكم عليها بحق. ولكن يظهر على وجه عام أنها كانت لا تقل مهارة عما ذكرنا. وعلى الرغم من أن هذه التماثيل الكبير منها والصغير قد نحت من مادة لينة، فإن صناعتها بعيدة عن جودة تماثيل الأسرة الرابعة. حقًّا إن الفنان في هذا العصر قد وصل إلى إتقان ملامح الوجه الإنساني، وتقاطيعه إلى درجة أصبح من السهل معها تمييز جنس صاحب الوجه في بعض الأحيان. ولكن من جهة أخرى كان نحت التمثال على وجه عام لا يزال يحتاج إلى إتقان. يضاف إلى ذلك أن الأشكال كانت لا تزال عليها مسحة من الجمود مما يجعلنا نحكم بأن الفن كان في هذا الوقت قريبًا من عهد الطفولة.

الأغلاط التي شاعت في صناعة التماثيل

أما في النقش على الجدران فإن مثّالي هذا العصر كانوا لا يزالون يعالجون صعوبة تمثيل الوجه الإنساني في وضع جانبي كما سنرى في عهد الدولة القديمة. وعندما كان ممكننا تمثيل الذراع الأقرب للناظر خلف الجسم كان يمثل الصدر كأنه يواجه الإنسان. على حين أن باقي الجسم كان يمثل جانبيًّا، وعندما تكون اليدان قابضتين على شيء أمام الجسم كان يبدو ظهر الكتف قبيحًا كما حدث مثل ذلك في الأزمان التي تلت هذا العصر، وكان جانب القدم الداخلي يظهر ممثلًا، فيرى لكل تمثال قدمان يسريان، أو قدمان يمنيان. ولكن اليدين كانتا ترسمان في العادة رسمًا صحيحًا، يدًا يمنى، ويدا يسرى، لكل شخص. ومن المحتمل جدًّا أن إخفاق بعض النحاتين الذين أتوا فيما بعد في النقش على الجدران وغيرها راجع إلى أن الفنانين في العصر الذي نحن بصدده قد وضعوا تقاليد في رسم الأشكال في وقت لم تكن فيه مهارة الفنان قد بلغت مبلغًا عظيمًا من الرقي والإتقان.

الأوضاع المختلفة للتماثيل

وقد كانت الأوضاع والحالات المختلفة التي ترسم بها الأشكال في هذا الوقت متداولة في نحت الدولة القديمة. ولكن ملابس الملك وأفراد الشعب كانت تختلف في أمور معينة، إذ نجد أن التماثيل والأشكال كانت تمثل في هيئات وملابس خاصة؛ كتمثال الإله «مين» والتماثيل الراكعة، والدمى، والأشكال المصنوعة من العاج لرجل مرتد عباءة، وكل هذه لها نظائرها في الأزمان التي أتت بعد هذا العصر. وكانت التماثيل والأشكال الواقفة أذرعتها في معظم الأحيان مدلاة على الجانبين. أما راحة اليد فكانت تمثل مفتوحة أو مقفلة في أوضاع مختلفة. وكذلك كانت تمثل القدم اليسرى تخطو إلى الأمام عند الرجال، أما في النساء فكانت القدمان ترسمان أو تمثلان منضمة إحداهما إلى الأخرى في معظم الأحيان كما هو الحال فيما بعد.

وأهم ما يا يلفت النظر في أوضاع تماثيل العصر الأول من الأسرات هو وضع اليد اليمنى والساعد في بعض الأحيان على الصدر في تماثيل الذكور، وعلى الثدي عند النساء، وهذا الوضع يشاهد في تمثال هراكنبوليس وكذلك في دمى العاج للإناث والذكور، التي عثر عليها في نفس المكان.

وأقدم تماثيل جميلة عثر عليها ويرجع عهدها إلى أواخر الأسرة الثانية وأوائل الأسرة الثالثة هي تمثال الملك «خع سخموي» (أواخر الأسرة الثانية)، وتمثال الملك «زوسر» فاتحة ملوك الأسرة الثالثة، والأخير مصنوع من الحجر الجيري الأبيض، عثر عليه في سقارة، وكذلك عثر له على قطعة من تمثال من المرمر، ورأس من الجرانيت، وهذه التماثيل تعد أقدم تماثيل مؤرخة.

تماثيل الملك زوسر

وقد عثر على تمثال الملك «زوسر» المذكور في سردابه الذي أقيم له بجوار الهرم المدرج وقد عمل خاصة لروحه المادية، ومثل مرتديًا عباءته وعلى رأسه لباس مقدس يعلوه النمس الملكي (غطاء للرأس يشبه الكوفية) ومثلت يده اليمنى مقفلة على صدره وهي قابضة على طرف عباءته. أما يده اليسرى فمفتوحة، وراحتها على ركبته اليسرى.

تمثالا الملك «خع سخموي»

أما تمثالا الملك «خع سخموي» فيوجد واحد منهما في متحف القاهرة، والثاني في متحف أكسفورد، وقد عثر عليهما «كويبل» في هراكنبوليس أحدهما من الجير الأبيض وجد مهشمًا تهشيمًا شديدًا، والثاني من الحجر الشيست، ويكاد يكون سليمًا، ويمثل الملك لابسًا التاج الأبيض جالسًا على أريكة مكعبة الشكل في هيئة تشعر بالجلال والهيبة اللتين نشاهدهما غالبًا في نماذج فن هذا العصر، ويلاحظ أن اليد اليسرى موضوعة على صدره، واليد اليمنى على ركبته. وقد توشح بعباءة لها كُمان، وقد لفته كله ولم يظهر من جسمه إلا اليدان والقدمان.

ولا نزاع في أن صناعة هذه القطع تدل على أنها ملكية، ويظهر فيها تدرج الفن في الرقي عن سابقتها، وبخاصة في نحت الفم وتشكيله، أما سطح التمثال وصقله فكان لا يزال ينقصه شيء كثير من الدقة كما كان الحال عليه من قبل.

صناعة تماثيل علية القوم

ويقرب من صنع هذه التماثيل تمثالان للأميرة «رد زيت» واحد منها من الجرانيت موجود الآن في متحف «تورين» والثاني من الحجر الجيري الأبيض بمتحف «بروكسل».

أما تماثيل الأشراف في هذا العصر فلدينا منها بعض أمثلة نخص بالذكر منها تمثالي «سبا» وزوجه «نسا» وهما من طرائف متحف اللوفر. وكان «سبا» هذا من كبار موظفي رجال الدولة في عهد الأسرة الثالثة.

الفرق بين تماثيل الملوك والأشخاص

على أن هناك تماثيل أخرى من صناعة خشنة لهذا العصر وبواسطتها يمكن التمييز بين الصناعة الملكية، والصناعة الشعبية. وأهمها تمثال جالس من الجرانيت لشخص يدعى «نزم عنخ» بمتحف اللوفر، وآخر له من الجرانيت الأسود بمتحف ليدن، ولا نزاع في أن هذين التمثالين يمثلان صناعة الفن الحر، في الأحجار الصلبة خلال الأسرة الثالثة، على حين أن قطعتي المرمر والجرانيت اللتين تنسبان للملك «زوسر» وكذلك تمثال الأميرة «رد زيت» من حجر الديوريت، كلها تمثل الصناعة الملكية في نفس العصر في الأحجار الصلبة. وهناك تماثيل أخرى كثيرة تشبه تمثال الأميرة «رد زيت» يحتمل جدًّا أنها من هذا العصر ولكنها غير مؤرخة.

تماثيل العصر الأول من الأسرة الرابعة

تماثيل الملك «خوفو»

يعتبر تمثال الملك «خوفو» الصغير المصنوع من العاج أقدم تمثال عثر عليه إلى الآن في عهد الأسرة الرابعة، وقد كشف عنه الأستاذ «فلندرزبتري» في معبد العرابة. وكذلك عثر على قطع صغيرة من صوره المنحوتة على الأحجار في حفائر الأهرام، وعلى صورة له كاملة على قطعة من الحجر الجيري الصلب، وقد مثل فيها وهو لابس تاج الوجه البحري وتعد فريدة في بابها.

أجمل تماثيل في الدولة القديمة مصنوعة من الحجر الجيري

وعثر لغير الملوك في هذه الفترة على ثلاثة تماثيل تنسب إلى عهد «سنفرو»، أو عهد «خوفو»، وهي تمثال صغير لموظف كبير يدعى «متن» عثر عليه «لبسيوس» الأثري الألماني في سرداب مقبرة هذا الموظف الواقعة بين أبو صير وسقارة، ثم تمثال الأمير «رع حتب»، وقد عثر عليه في سرداب مقبرته في ميدوم ومعه تمثال زوجته «نفرت»، ولا يفوتنا أن نذكر هنا تمثالًا آخر لسيدة يحتمل جدًّا أنها أم «خفرع»، وهذا التمثال يرتدي ثوبًا غريبًا في زيه، وقد عثر عليه في منطقة أهرام الجيزة.

ولا نزاع في أن أهم هذه التماثيل من الوجهة الفنية هما تمثالا «رع حتب»، و«نفرت» ويرجع تاريخهما إلى عصر الملك «خوفو»، وربما ركبا معًا بعد عهد هذا الملك، ويرجع حسن صنعهما وجمالهما إلى سهولة النحت في الحجر الذي صنعا منه، وكان ذلك بشيرًا بتحسن الصناعة في الأحجار الصلبة في عهدي الملكين «خفرع» و«منكاورع»، ويلاحظ أن أهم ما تمتاز بها هذه التماثيل في وضعها أننا نجد اليد اليمنى موضوعة على الصدر أما اليسرى فموضوعة على الركبة مفتوحة. وأول مثال لهذا الوضع تمثال الملك «زوسر» من الأسرة الثالثة، وتدل الأمثلة التي لدينا على ما يظهر أن هذا الوضع كان المتبع عادة في تماثيل الرجال الجالسين في أوائل الأسرة الرابعة.

أوضاع التماثيل الصغيرة والكبيرة في عهد الدولة القديمة

دلت الأبحاث الأثرية التي عملت إلى الآن على أن أكثر عدد من التماثيل وجد سليمًا هو للملك «منكاورع»، وقد وجدت على أوضاع مختلفة. ويمكننا أن نتخذها أساسًا للمقارنة بتماثيل الملوك في عهد الدولة القديمة. والواقع أننا لم نجد إلى الآن أوضاعًا أخرى جديدة للتماثيل الملكية غير التي وجدناها لهذا الملك. وقد كشف الأستاذ «ريزنر» عن تمثالين واقفين، وواحد وعشرين تمثالًا جالسًا للملك «منكاورع» وتمثال واقف للملكة، وتمثالين للملك والملكة واقفين، وخمسة ثالوثات يمثل كل منها: الملك والإلهة «حتحور» وإلهة مقاطعة من مقاطعات القطر. ويشاهد في تمثال الملك الواقف المنحوت من حجر البورفير وتمثاله المصنوع من العاج وكذلك في مجاميع الثالوثات أن القدم اليسرى للملك يخطو إلى الأمام، والذراعين متدليان على الفخذين، واليد مقفلة. ومن الغريب أننا نلاحظ خلافًا للقاعدة المتبعة أن الملكة في تمثيلها مع الثالوثات تخطو بقدمها اليسرى إلى الأمام قليلًا، إذ القاعدة في كل تماثيل السيدات بوجه عام أن القدمين ملتصقتان. (ومن الشواذ تمثال الأميرة تدعى «مرسي عنخ»٨ من عهد الأسرة الخامسة ويلاحظ فيه أن القدم اليسرى تخطو إلى الأمام)، ويشاهد في تماثيل الملك الجالسة أن الذراعين منثنيان عند المرفق، واليد اليسرى مقفلة ومتكئة على الفخذ الأيمن، والإبهام فيها إلى أعلى وممسكة بمنديل، أما تمثالا الملك والملكة فيشاهد فيهما أن الملكة تطوق الملك بذراعها الأيمن ويدها اليسرى على ذراعه الأيسر. وأما تماثيل مجاميع المقاطعات (الثالوث) فيظهر فيها خمسة أوضاع مختلفة على الأقل.
ونذكر هنا بعض التماثيل الأخرى الملكية التي عثر عليها في عهد هذه الأسرة وأهمها:
  • (١)

    تمثال الملك «خوفو» الذي وجد في العرابة.

  • (٢)

    سبعة تماثيل جالسة للملك «خفرع» خمسة منها من حجر الديوريت، وواحد من الشيست، وواحد من المرمر، وقد عثر على ستة منها في بئر معبد الوادي «لخفرع» في الحجرة التي كانت منصوبة فيها، وواحد في «فتاح» بمبيت رهينة.

  • (٣)

    عثر على بقايا أكثر من مائتي تمثال في حفائر الأهرام كلها مهشمة. ومن الأجزاء الباقية يستدل على أنها كانت آية في الإتقان الفني ومن الأحجار الصلبة المختلفة الأنواع.

  • (٤)

    تمثالان للملك «خفرع» والإلهة «باست» من حجر الديوريت لم يتم صنعهما، عثر عليهما في معبد «خفرع» أيضًا.

  • (٥)

    تمثال جالس للملك «منكاورع» من الديوريت بمعبد الإله «فتاح» بمبيت رهينة.

  • (٦)

    سبعة تماثيل من الحجر الجيري مهمشة عثر عليها في حفائر الكونت «جلارزا» في منطقة الأهرام وكلها لأمراء من أسرة «خفرع».

  • (٧)

    تمثال جالس لملك غير معروف اسمه يحتمل أنه «ددف رع» عثر عليه في معبد «فتاح» بمبيت رهينة، وهو مصنوع من المرمر.

  • (٨)

    رأس جميل بلحية مصنوع من الحجر الجيري الأبيض لأمير في حفائر الجامعة بمنطقة الهرم، ويمتاز بابتسامة على وجهه.

  • (٩)

    رأس ضخم من الجرانيت الأسود للأمير «نب إم آخت» عثر عليه في حفائر الجامعة بمنطقة الهرم أيضًا.

  • (١٠)

    تمثال صغير لملك من الحجر الجرانيت الأسود لم يعرف اسمه وجد في معبد الملكة «خنت كاوس»، ويحتمل أنه للملك «منكاورع» والدها.

  • (١١)

    تمثال جالس من الجرانيت للملك «نوسر رع» من ملوك الأسرة الخامسة، وجد في معبد «فتاح» بمبيت رهينة

  • (١٢)

    الجزء الأسفل من تمثال الملك «نوسر رع» يده اليمنى مقفلة على فخذه عثر عليه في بحيرة الكرنك.

  • (١٣)

    تمثال جالس من المرمر للملك «منكاو حور» من الأسرة الخامسة متشح بملابس عيد «حب سد» عثر عليه بمعبد «فتاح» بمبيت رهينة.

  • (١٤)

    قاعدة تمثال جالس للملك «بيبي» من الأسرة السادسة عثر عليه في الكوم الأحمر، ومصنوع من الجرانيت.

  • (١٥)

    تمثال واقف من النحاس وآخر صغير من النحاس أيضًا للملك «بيبي الأول» عثر عليهما في هراكنبوليس، والتمثال الكبير يفوق الحجم الطبيعي بقليل ويده اليمنى مقفلة، ومدلاة على فخذه الأيمن، ويده اليسرى ممدودة قابضة على عصا، أما التمثال الصغير فيداه مقفلتان.

ويلاحظ أن أوضاع كل هذه التماثيل تحاكي تماثيل الملك «منكاورع» اللهم إلا تمثال الملك «منكاو حور»، وتمثالي الملك «بيبي الأول» المصنوعين من النحاس، على أن التغيير في تماثيل «منكاو حور» يرجع إلى أنه ممثل بملابس عيد «حب سد» أما في تمثالي «بيبي الأول» فلأنه يرجع إلى تقليد صناعة التماثيل الخشبية للنحاس.

أوضاع التماثيل الخشبية في الأسرتين الخامسة والسادسة

كانت التماثيل التي تصنع جالسة أو واقفة مألوفة في التماثيل التي من الحجر صغيرها وكبيرها، وذلك في عهد الأسرتين الخامسة والسادسة. وأهم تغيير حدث — في وضع التماثيل الجالسة — كان ينحصر في تصوير اليد المقفلة مقلوبة، بحيث يكون ظهرها وعقل الأصابع في أعلى، ففي كتاب «بورخرت» عن التماثيل في الدولة القديمة، نجد أن ٦١ تمثالًا تتبع التقاليد القديمة على حين أن ٣٦ تمثالًا نجد فيها التجديد الذي ذكرناه الآن.

وكان وضع التمثال واقفًا هو السائد في التماثيل المصنوعة من الحجر، فنجد في كتاب «بورخرت» ٣٤ تمثالًا منفردة، وعشر مجاميع كلها واقفة. أما التماثيل الخشبية التي على نمط تمثال «بيبي الأول» النحاسي فنجد منها تسعة تماثيل، وكذلك عثر أخيرًا في سقارة على تمثالين من الخشب واقفين، على أننا نجد في مجاميع تماثيل الدولة القديمة أوضاعًا مختلفة اختلافًا عظيمًا. وعلى أية حال فإننا نلاحظ أن أوضاع تماثيل الملكين «خفرع» و«منكاورع» كانت السائدة في الدولة القديمة، سواء أكانت لأكابر رجال الدولة أم للملوك والأمراء.

الترتيب التاريخي لأوضاع التماثيل التي كان يستعملها الفنان المصري

يظهر مما تقدم أن أوضاع اليدين والذراعين في كل التماثيل كانت على ثلاثة أنواع في ثلاثة عصور مختلفة:
  • (١)

    وضع اليد اليسرى أمام الجسم، وتلك كانت من مميزات عهد الأسرة الثالثة، وربما امتد ذلك إلى عهد الملك «سنفرو». والواقع أن ذلك كان أحد الأوضاع للتماثيل الصغيرة المصنوعة من العاج التي نسبت إلى عهد فجر الأسرات، وهو ما يسمى بالعهد العتيق.

  • (٢)

    وضع اليد اليمنى أمام الجسم، وكان خاصًّا بتماثيل «خوفو» ومن المحتمل أن ذلك كان التقليد في عهده. (وتمثال «زوسر» على هذا الوضع ولو أنه من الأسرة الثالثة.)

  • (٣)

    وضع اليد مقفلة على الركبة اليمنى في التماثيل الجالسة، واليد اليسرى مفتوحة. وقد ظهر أولًا هذا الوضع في تماثيل «خفرع». أما التمثال الواقف لنفس هذا العصر فكانت ذراعاه مبسوطتين على الفخذين، ويداه مقفلتين والإبهام ظاهرًا.

  • (٤)

    وهناك فوق ما ذكرنا ملاحظة خاصة بتماثيل الدولة القديمة المصنوعة من الحجر، وهى أن كل تماثيل هذا العصر مقفلة اليدين، أو واحدة مقفلة، والثانية مبسوطة، ولم يحدث قط إلى الآن أننا وجدنا تمثالًا من هذا العصر فيه اليدان مفتوحتان. أما تماثيل الأسرتين الخامسة والسادسة المصنوعة من الخشب فكانت تصنع حسب التقاليد المتبعة في التماثيل والواقفة والقاعدة.

والوضع الخاص بالتماثيل الخشبية الواقفة يمثل شيخ البلد. ويوجد على أقل تقدير عشرة أمثلة من هذا الوضع في متحف القاهرة ويوجد كثير غيرها في متاحف أوروبا وأمريكا. أما التماثيل الخشبية للأطفال والسيدات فلا تختلف في وضعها عن التماثيل الحجرية.

تأثير تماثيل «خفرع» و«منكاورع» في صناعة تماثيل الأفراد في الأسرتين الخامسة والسادسة

الفرق بين تماثيل الجيزة وسقارة

يوجد في المتحف المصري أكثر من مائة تمثال جالس من عهد الدولة القديمة، ويشمل ذلك العدد المجاميع من التماثيل، وقد لوحظ أن ستين تمثالًا منها قد نحتت حسب التقاليد المتبعة في تماثيل «خفرع» من حيث الوضع، ومنها نحو ٣٦ قد انحرفت عنه بتغيير بسيط، وذلك في كيفية وضع اليد اليمنى المقفلة، فمثلًا نلاحظ في هذه التماثيل أن راحة اليد تكون مقلوبة إلى أسفل بدلًا من جعل الإبهام إلى أعلى. وقد عثر على ٣١ تمثالًا من الستة والثلاثين في سقارة ويرجع تاريخها إلى الأسرة الخامسة، والظاهر أن هذه التماثيل قد أخرجتها مدرسة واحدة على رأسها فنان واحد، وتلاميذه الذين عاشوا معه في منف، وابتدعوا هذا التجديد الذي يختلف بشيء بسيط عن إنتاج فناني الجيزة وتقاليدهم. ويغلب على الظن أن تقاليد الجيزة هي التقاليد الرسمية، إذ وجدنا التمثال الوحيد الملكي الذي عثر عليه من الأسرة الخامسة، وهو للملك «نوسررع» قد وضع على هيئة وضع تمثال الملك «خفرع».

على أننا إذا استبعدنا هاتين المجموعتين أي الستين تمثالًا التي نحتت في مدرسة الجيزة والـ ٣٦ تمثالًا التي نحتت في مدرسة سقارة لم يبق لدينا إلا بضعة تماثيل قد ظهر فيها بعض تغيير مخالف لكل ما سبق، ففي اثنين منها نجد أن اليد اليسرى مقفلة وموضوعة على الركبة. وفي اثنين آخرين نجد أن اليدين مقفلتان. أما تماثيل الرجال الواقفة وتماثيل السيدات الجالسات فليس فيها اختلاف تقريبًا، ومن بين تماثيل السيدات الواقفة ثلاثة نجد في كلٍّ القدم اليسرى تخطو إلى الأمام قليلًا، ونجد ذلك الوضع في تمثال الملكة زوجة «منكاورع»، وتمثال «مرسي عنخ» هذا إلى تمثال سيدة مع رجل واقفين فنجد يديها مقفلتين ومتدليتين على فخذيها كالرجل.

ومن كل ما تقدم يمكننا أن نستخلص بعض حقائق عن تماثيل الدولة القديمة تكاد تنطبق على كل ما عثر عليه حتى الآن، فمثلًا نجد أن قطعتين مؤرختين، وهما تمثال الأميرة «نزم رعنخ» والملك «خع سخموي» لكل منهما كرسي خشبي. وأن الذراع الأيسر موضوع أمام الجسم، غير أن الصناعة في كل منها مختلفة جدًّا، وكذلك تمثال الملك «زوسر» له كرسي خشبي، وذراعه الأيمن أمام جسمه، ويلاحظ أن صناعة تمثالي «خع سخموي» و«زوسر» يظهر فيهما الصناعة الملكية التي سارت في عهد الأسرة الثالثة. أما صناعة تمثال «نزم عنخ» فيظهر فيها الصناعة الشعبية لهذه الفترة.

صناعة تماثيل الأفراد في عهد الأسرة الثالثة وما قبلها

وهنا يجب أن نلفت النظر إلى أنه لا فائدة من تأريخ التماثيل التي عثر عليها قبل هذا العهد، إذ من المحتمل جدًّا أن فكرة صناعة التماثيل للملوك وللأفراد من الحجر لم تظهر قبل أواخر الأسرة الثانية، والسند الوحيد الذي نرتكز عليه في ذلك هو أننا لم نعثر للآن على تماثيل من هذا النوع، وربما تطالعنا الكشوف فيما بعد بما لم يكن في الحسبان. وتنم صناعة تماثيل الملكين «زوسر» و«خع سخموي» على أن بعض الفنانين الملكيين قد وصلوا إلى درجة لا بأس بها جعلتهم يمثلون صورًا حية تقرب من الحقيقة. ومن المحتمل جدًّا أنهم صنعوا تماثيل لكل ملوك هذه الأسرة. أما تماثيل الموظفين فلا بد أنه قد صنعتها طائفة من الفنانين أقل مهارة من مثالي الملك. وقد اتخذوا الجرانيت مادة محببة لهم ليظهروا فيها براعتهم الفنية، ولكن النتائج جاءت خشنة ساذجة، وبخاصة عندما أرادوا أن يقلدوا التماثيل الملكية. على أنهم كانوا يصنعون بعض التماثيل من الحجر الجيري مثل تمثالي الأميرة «ردزيت» و«سبا»، وعلى ذلك يحتمل أنهما من نهاية الأسرة الثالثة، أو من عهد الملك «سنفرو»، وذلك عندما أخذ استعمال هذا النوع من الحجر ينتشر في عهد الأسرة الرابعة، ثم أصبح المادة السائدة لصناعة التماثيل في عهد الأسرة الخامسة.

نجد بعد ذلك أمامنا تمثال الأمير «رع حتب» وزرجته «نفرت» وهما من أسرة الملك «سنفرو». ومن المحتمل أنهما عاشا إلى عهد الملك «خوفو» الذي ظهر في عهده كثير من الصفات العالية في فن النحت المصري، إذ بلغ قمته من الإتقان وحسن الذوق.

تماثيل الملوك في عهد الأسرة الرابعة

وتدل التماثيل التي كشفت من عهد «خوفو» وما قبله بقليل، على أن الفنانين قد ألبسوا تماثيلهم الجالسة ثوبًا جديدًا من الروعة والتجديد. مما يدل على أنهم لم يكونوا مرتبطين بالعهود التي سبقت، إذ نجد في الواقع على حسب ما وصلت إليه معلوماتنا أن الفنان أو جماعة الفنانين الذين صنعوا تمثال الملك «خفرع»، ثم تماثيل الملك «منكاورع» قد ابتدعوا شكلًا مقبولًا للتماثيل في البلاط المصري في ذلك العصر يحمل في ثناياه الروعة الملكية، وأبهة الملك الحقيقية، فنجد للملك «خفرع» الذي كان (حسب معلوماتنا إلى الآن) أول من صنع له فنان المدرسة الجديدة أكثر من أربعة وعشرين تمثالًا في معبده في الوادي فقط لا تزال آثار أماكنها ظاهرة إلى الآن حول جدار ردهة المعبد العظيمة بالحجم الطبيعي، ومن المؤكد أنه صنع له أكثر من هذا العدد في المعبد الجنائزي، إذ أثبتت الكشوف الحديثة أنه وجد له بقايا أكثر من ثلاثمائة تمثال صغيرة وكبيرة من الأحجار الصلبة المختلفة الأنواع. ومن المحتمل أن الملك «منكاورع» قد صنع لنفسه ما يقرب من هذا العدد، ولا أدل على ذلك من أنه قد صنع ثالوثًا لكل مقاطعة من الاثنتين والأربعين مقاطعة التي يتألف منها القطر المصري. وقد عثر على بعضها الأستاذ «ريزنر».

ازدهار صناعة التماثيل الملكية في الأحجار الصلبة وكثرة عددها

ويمكننا أن نقرر هنا أنه قد صنع على وجه التقريب في عصري هذين الملكين «خفرع ومنكاورع» ما يربو على خمسمائة تمثال معظمها من الديوريت والمرمر، والشيست وغيرها من الأحجار الصلبة على يد جيل واحد من الفنانين. ولا نزاع في أن أساتذة من هذا العصر كان لهم تلاميذ قد خلفوهم، وبخاصة في مثل هذه الأعمال الفنية العظيمة التي كان يتطلبها البيت المالك في تلك الفترة، ولذلك لا يستغرب أن تكون الأسرة الخامسة قد بدأت أعمالها العظيمة بطائفة من الفنانين المدربين الذين نقلوا دروسهم في معامل «خفرع ومنكاورع». ولا نزاع في أن هذه المعامل كانت تقام بجوار المعابد نفسها، بل ربما كانت فيها؛ كما يدل على ذلك القطع الكبيرة التي وجدناها لم تتم بعد في المعابد. وفي الوقت نفسه كان لتقدم فن المعمار أثر عظيم في عهد بناء أهرام الأسرة الرابعة أدى إلى استثمار المحاجر في مختلف جهات القطر، وبخاصة حجر طرة الأبيض، وأنتج طرقًا فنية في قطع الأحجار وتهذيبها، ومن ثم نشأت طائفة عظيمة من مهرة الحجارين. والواقع أن مصانع الأهرام كانت مدرسة علمية لكل الصناعات والحرف، وهي التي وضعت الأساس لإنماء فن النحت والعمارة في العصور التي تلت.

سبب كثرة تماثيل الأفراد في عهد الأسرتين الخامسة والسادسة

وكان لتكوين طائفة عظيمة من النحاتين ومدهم بأحجار طرة البيضاء السهلة النحت أثر عظيم في تخفيض تكاليف عمل التماثيل، وسهلت الأمور لانتشار فن النحت في عهد الأسرتين الخامسة والسادسة انتشارًا عظيمًا. لذلك نرى أن كل موظف كبير، أو متوسط الحال ينحت لنفسه تمثالًا يطابقه تمامًا ليوضع معه في سردابه الذي أقامه في قبره كما يشاهد ذلك في جبانتي الجيزة وسقارة.

ولم يقتصر هؤلاء العظماء على عمل تماثيل لأنفسهم فحسب، بل كانوا يصنعون تماثيل لأفراد أسرتهم وخدمهم مما يسهل علينا معرفة نسبة أفراد الأسرة بعضهم إلى بعض. ولم يقتصر عمل التماثيل على الجبانات الملكية ورجال بلاطها، بل كذلك وجدنا تماثيل في جهات أخرى بعيدة عن مقر الملك. ولا نكون مبالغين إذا قررنا أنه لم يصنع في أي عصر من عصور التاريخ المصري عدد من التماثيل يضارع ما عمل في عهد الدولة القديمة، والواقع أن الفرصة لم تسنح ثانية قط لمتوسطي الحال في مصر أن يصنعوا لأنفسهم تماثيل كما أتيحت لهم في هذا العصر.

سبب قلة تماثيل الملوك في عهد الأسرتين الخامسة والسادسة

وكان الفنانون بطبيعة الحال يقلدون تماثيل أساتذتهم الذين نحتوا تماثيل «خفرع»، و«منكاورع» وهم الذين أصبحت أشكال تماثيلهم وأوضاعها تقليدًا في مصر في خلال الدولة القديمة. هذا إذا استثنينا الأوضاع البسيطة التي أدخلت على التماثيل التي نحتت في سقارة. وأغرب شيء يلفت النظر في تماثيل هذا العصر قلة ما وجدناه منها لملوك الأسرة الخامسة، ولا نزاع في أن سراديب معابد أهرام (أبو صير) كانت تحتوي على عدد عظيم منها غير أنه مما يؤسف له جد الأسف أن الحفائر التي قامت في هذه الجهة لم يعثر فيها إلا على قطعة صغيرة من تمثال، وهو فم بالحجم الطبيعي من المرمر صنع صناعة دقيقة، وقد وجد في معبد الشمس للملك «وسركاف». هذا رغم أنه كشف عن خمسة سراديب، في كل معبد من معابد هذه الأهرام، وكذلك عثر فيها على مخازن عظيمة ذات حجم كبير، وهذه المعابد قد خربت تخريبًا ذريعًا من الداخل كالأهرام الكبيرة. ولا بد أن التماثيل التي كانت فيها قد عرضت للتلف مدة آلاف السنين وبخاصة بعد سقوط الدولة القديمة عندما قامت الثورة الاجتماعية وحطمت كل آثار المعابد. (انظر جزء أول ص ٣٩٨ إلخ) فلم يبق منها شيء، ولا غرابة إذا كانت التماثيل التي عثر عليها لهؤلاء الملوك قد كشف عنها في جهة أخرى.

وبعد الدولة القديمة بقي وضع التماثيل واقفة تقليدًا سائدًا إلى أواخر التاريخ المصري. أما التماثيل الجالسة في عهد الدولتين الوسطى والحديثة فقد اتخذت شكل الوضع الذي كان متبعًا في سقارة مع بعض التجديد بأن تكون اليد اليمنى مقلوبة إلى أسفل، وكذلك ظهر لأول مرة وضع ليدين مفتوحتين على فخذي التمثال الجالس في الدولة الوسطى، وهناك أوضاع أخرى يمكن مشاهدتها في مجموعة تماثيل الدولة القديمة.

(٣) الصناعات الدقيقة

الأثاث الدنيوي كان يستعمل أثاثًا جنائزيًّا

ذكرنا في عهد ما قبل الأسرات أنه وجد في بعض المقابر قطع فنية تدل على نبوغ المصري منذ ذلك العهد السحيق في صنع حليه وأدواته المأتمية. ولا بد أنه كان بطبيعة الحال يستعمل مثلها في حياته الدنيوية، ولذلك نعتبر أنه ضرب من السخافة والغلو، ما يقال عن المصري من أنه كان يصنع هذه الأشياء لغرض ديني محض، إذ الواقع أن المصري كان يعتقد أن الحياة الآخرة هي صورة مطابقة للحياة الدنيا، وأن ما كان يستعمل في دنياه يمكن أن يستعمله في آخرته، ولذلك نجد كثيرًا من الأدوات المنزلية المستعملة قد وضعت مع المتوفى في القبر، وما ذلك إلا ليستمر في استعمالها في الآخرة. ولا نكون مغالين إذا قلنا إن المصري كان يتذوق الفن لأجل الفن من هذه الناحية، ويتقنه لحبه للإتقان لا لأجل أن يستعمله في قبره فحسب. لذلك إذا تكلمنا عن أثاث المتوفى في قبره فإنما نتكلم عن أثاثه في بيته، إذ كان الأول صورة من الثاني.

بعض بدائع حلي العصر الطيني

وقد ظهرت بعض صناعات دقيقة، بلغت من الكمال حدًّا بعيدًا في عهد الدولة الطينية، ولا أدل على ذلك من قطع الأثاث، والألواح المرصعة بالعاج والمعادن التي كشف عنها في سقارة، والعرابة المدفونة. مما ينبئ عن مهارة وحسن ذوق في الزخرفة يسترعيان النظر. يضاف إلى ذلك المجوهرات التي وجدت في قبر الملك «زر» إذ نجد في نظمها ورشاقة تأليف مجاميعها من خرز وتعاويذ ذات ألوان مختلفة ما يجذب النظر ويستوقفه إعجابًا ودهشة.

تقدم الصناعة في هذا العصر

ويجب أن نذكر هنا على وجه خاص سوارًا كل ما فيه من زخرف هو إفريز وجهات القصر الملكي يعلوه صور الإله «حور». وأهم ما يلفت النظر في هذه الفنون الجميلة أنه ليس فيها ما يمله النظر. ويرجع الفضل في ذلك إلى عدم استعمال مادة واحدة، إذ كان وقتئذ الذهب والفيروز يستعملان. وتدل الأشكال المصنوعة من الأول في هذا الحين على أن صناعته كانت قد تقدمت أكثر من صناعة الثاني، مما يدل على أن صياغ هذا العصر كانوا قد تقدموا في صناعتهم في زمن قصير جدًّا.

القطع الأثرية التي عثر عليها في مقبرة «حمكا»

وتدل الآثار المكشوفة في مقبرة «حمكا» على أن المدينة المصرية قد بلغت شأوا بعيدًا في أواسط الأسرة الأولى؛ إذ تعتبر المجموعة التي وجدت فيها من الأسلحة، والأدوات المختلفة التي صنعت بإتقان، فريدة في بابها. ويضاف إلى ذلك مجموعة ثمينة من الأقراص رصعت من مواد مختلفة (الحجر، والنحاس، الخشب، والعاج) وقد ثقب كل منها في وسطه بثقب ينفذ منه عصا، ولم يعرف إلى الآن استعمال هذه الأقراص. وقد زينت رقعة بعضها بمناظر صيد برية وبحرية، أو بأشكال هندسية تنم عن رشاقة خلابة ترجع إلى المهارة التي استعملها الفنان في ترصيعها بالألوان المختلفة وإلى انسجام تأليف المناظر وتوزيعها حول العصا التي في رقعة القرص، وإلى الإتقان الفني الذي أظهره الفنان في كل هذه الأشكال المرصعة.

ولا يفوتنا أن نذكر هنا قطعة من الحجر الجيري الأبيض عثر عليها في هذه المقبرة وقد رسم عليها ثور بالألوان، ولا يبعد أن يكون هذا أول رسم ظهر في التاريخ للعجل «أبيس» إذ نجد في شكله كل ما ينطق على صفات هذا العجل التي عرفناها فيما بعد.

ازدهار صناعة المجوهرات في عهد «خوفو»

أما في عهد الأسرات التي تلت فلدينا بعض أمثلة تدل على أن الفن في هذه الفترة كان سائرًا في طريقه نحو الرقي، وبخاصة في عهد الأسرة الرابعة. إذ نجد صناعة المعادن، وصناعة الأواني من الحجر والفخار، وصناعة الأخشاب، وكل الصناعات الأخرى الدقيقة، قد برع فيها الصانع الفنان وضرب فيها بسهم صائب في الرونق والجمال والرشاقة بما قد يكون بلغه فنان عهد الأسرة الثالثة. ولكن لم يفقها بعد صناعة في العصور التي تلت. وأعظم نموذج لصناعة هذا العصر الكنز الذي عثر عليه في مقبرة الملكة «حتب حرس» والدة الملك «خوفو»، إذ نشاهد من بين طرائفه المحفة ذات الشكل الأنيق والزخرف البسيط مما يشهد بمقدار ما وصل إليه الصانع في هذا العصر من الذوق الفني الراقي. أما الخلاخيل المصنوعة من الفضة، والمحلاة بسوم على شكل ذباب ضخم والمرصعة بالفيروز واللازورد فتعد من النفائس التي يفخر بها فنان أي عصر من عصور التاريخ، هذا إلى أن الألواح المطعمة بالقاشاني والذهب قد صنع بعضها وفق أشكال معروفة، وبعضها وفق أشكال لم تكن في الحسبان، وكذلك الإشارات الهيروغليفية المصنوعة من الذهب على إطار المحفة وأدوات الغسل والزينة المصنوعة من الذهب أو النحاس، وثلاثة الأواني التي من الذهب النضار ويفوق كل ذلك النقوش العجيبة التي على جانبي باب الكوة التي تضم سرير الملكة. كل ذلك يضع أمامنا صورة ناطقة لقوة الاختراع، والمهارة والذوق السليم في عهد أسرة «حتب حرس». وتدل شواهد الأحوال، وظروف كشف هذا الكنز، على أن معظم هذه الأدوات قد نقلت من قصرها الخاص لتكون معها في مقرها الأخير. ولا غرابة في هذا فإن «حتب حرس» هي أم الأسرة الرابعة ونسلها هم الذين بلغ في عصرهم فن المعمار والنحت مبلغًا لم تَفُقْه أسرة من الأسر التي تلت.

على أن هذه المهارة في الحرف الدقيقة لم تكن وقفًا على فناني الملوك وصناعهم، بل وجدنا كذلك ما يثبت أن علية القوم ومتوسطي الحال منهم كانوا يصنعون لأنفسهم جواهر ومصوغات تعد من فرائد الفن المصري حتى الآن. وقد جادت الصدف بالعثور على حجرة دفن لم تمس لسيدة يدل قبرها على أنها من أصحاب اليسار وإن لم تكن من علية القوم.٩ ومن هذه المقبرة يمكننا أن نعرف على وجه التقريب مقدار تذوقهم للفن، وللصناعات الدقيقة. وقد عثر على نفائس هذا القبر داخل التابوت الحجري الذي فيه السيدة، وكان أول ما لفت النظر عند رفع غطاء التابوت التاج المصنوع من الذهب الوهاج الذي كان يحيط برأس تلك السيدة ويتألف من شريط طوله ٣٨س.م، وعرضه ٢٥س.م محلى بثلاثة أقراص من الذهب كل منها مرصع بفص من الكرنلين (حجر يشبه العقيق)، وهذا الشريط المصنوع من الذهب الخاص مثقوب في وسطه وعلى مسافتين متساويتين من الثقب الأوسط يوجد ثقبان آخران، وذلك ليثبت فيه ثلاثة الأقراص الذهب بأربطة أسطوانية الشكل، وقد نقش القرص الذي يتوسط التاج برسم أربع من أزهار البشنين. أما الرسم الذي على كل من القرصين الجانبيين فيحتوي على زهرتين مفتحتين من أزهار البردي يتقابلان عند فص مستدير مرصع في القرص، وعلى كل من الزهرتين قد حط طائر يعرف باللغة المصرية القديمة «أخو» ينقر بمنقاره نهاية الزهرة. وكان يحمي هذا التاج آخر من النحاس الموشى بورقه رقيقة جدًّا من الذهب، كأنها الهباء لتستر لون النحاس الذي يقبل الصدأ بسرعة، وكان هذا الشريط كذلك مثقوبًا مثل الشريط الذهبي في ثلاثة مواضع في كل ثقب مسمار من النحاس قد استعمل لحمل التاج الذهبي خوفًا من تثنيه. وقد عثر الأستاذ «أشتايندورف» على تاج مثله من النحاس في منطقة الأهرام سنة ١٩٠٣. ومن المحتمل جدًّا أن صائغها واحد، وقد قال الأستاذ «شيفر» العالم الأثري الألماني أن الطائر الذي ينقر الزهر هو «الغرموق» (مالك الحزين) ولكنه في الواقع الطائر الذي يسمى الكركي «إبيس»، وهذا التاج يعد من فرائد الفن التي أخرجتها يد الصانع في هذا العهد. وعثر حول رقبة هذه السيدة على قلادة جميلة الصنع من الذهب تحتوي على خمسين قطعة كل منها يمثل خنفساء، وقد نظمت كلها في خيط من الذهب يمر في وسط كل منها، ومن المحتمل جدًّا أن كلًّا من هذه القطع كان يعد تعويذة يرمز بها للإلهة «نيت» وأن السيدة التي نظمت هذا العقد بهذه الكيفية كانت ترغب في حماية هذه الإلهة، ولا يمكننا أن نعرف للآن لماذا كانت هذه الحشرة رمزًا للإلهة «نيت»، ومن المحتمل جدًّا أنها الحشرة «عنخ» (الحياة) التي ذكرت في متون الأهرام،١٠ ويظن بعض العلماء أنها الحشرة المقدسة التي سبقت «الجعل» (الجعران) وكانت الأولى تقدس منذ قبل الأسرات إلى الدولة القديمة والثانية كان تقديسها شائعًا في العصور التي تلت إلى نهاية التاريخ المصري. وعثر على قلادة أخرى حول رقبة هذه السيدة يستدل من نظمها على أناقة الجنس اللطيف في هذا العصر، وتتألف من محبسين من الذهب بينهما حبات من الذهب والخرز، وقد وجد مع هذه القلادة ست قطع من البرنز الموشى بالذهب كل منها على شكل حرف النون بالمصرية أي كموج الماء، وهذه كانت تنظم على مسافات متساوية في وسط القلادة لتعطيها صلابة ومتانة. أما جثة هذه السيدة فوجدت مغطاة بثوب مصنوع من الخرز، وفي أطرافه قطع من النحاس مخروطية الشكل كانت توضع كأهداب لتجعله مسدلًا على الجسم بدون حركة كثيرة. وقد عثر على قطع متماسكة تدلنا على كيفية نظم الخرز على هذا الثوب.

دقة قطع الخرز وصنعه

وكذلك عثر في مقبرة الأميرة «حمت رع» في حفائر الأهرام على رسم ثوب محلى بالخرز بألوانه الزاهية. أما أعجب ما كشف في هذه المقبرة فعقد قد انفرط نظمه، وهو يتألف من حبات من الفيروز بلغ من دقتها وصغر حجمها أنه لا يمكن أن يلتقطها الإنسان بطرفي أصبعيه، ومما يزيد العجب والدهشة أنها مثقوبة ولا يمكن لأي خيط أن ينفذ منها مهما كان دقيقًا، وهذه الحبة نفسها كانت مركبة داخل أخرى من الذهب مثقوبة أيضًا، وقد عثر على آلاف من هذه الحبات، ولم يمكن نظمها للآن. وليس لدينا أي تعليق على كيفية صنعها غير أننا نتساءل عن تلك الآلات المتناهية في الدقة التي استعملت في ذلك العهد السحيق عهد الأسرة الرابعة أي منذ خمسة آلاف سنة تقريبًا لصنع هذه الحبات. وأظن أن الجواب على ذلك سيبقى من المعضلات وينضم إلى المعضلات المصرية الأخرى التي لم يهتد لحلها بعد.

figure
الملك «منكاورع» ممثل بين إلاهتين، عثر عليه في معبد الوادي لهرمه بالجيزة.
figure
الملك «خفرع» ويعد أجمل قطعة حفرت في حجر الديوريت.

الأدوار التي يمر بها الفن

وقبل أن نختم كلامنا في هذا الفصل الموجز عن الفن عند قدماء المصريين نقول: إن كل فن في أية بقعة من بقاع العالم لا بد أن يمر بأطوار ثلاثة: النشوء، والارتقاء، ثم الانحطاط. وأنه لم ينشأ فن في بلد ما لأجل الفن بل كان دائمًا بداية نشأته المنفعة قبل كل شيء، ففن الرسم والتصوير والنحت في كل التاريخ القديم كان الغرض منه السحر والدين، وقد استمرت هذه البواعث هي المقصودة، ولكن على مر الأيام تربى الذوق الفني وأصبح الفنان يتذوق فنه فبرع فيه حتى بلغ القمة، وبعد ذلك يأخذ الفن في الانحطاط لأسباب عدة منها ما هو ديني ومنها ما هو اقتصادي، ولكن الروح القديمة التي حافظت عليها التقاليد تنبعث من وقت لآخر في وسط هذا الانحطاط، فتبرز لنا بعض قطع ممتازة تظهر لنا جمال الفن المصري كما كان في عهد عنفوانه في وسط التدهور الذي حاق به.

هوامش

(١) Maspero, Ars Una p. 41.
(وقد بقي محافظًا على تمثيل الخشب في الأحجار حتى إنه كان يمثل جذوع النخل في أحجار السقف والأعمدة).
(٢) كان يستخرج من محاجر قريبة من حلوان.
(٣) Devies, Rock Tombs, of Sheikh Saïd, p. 12.
(٤) Davies, Rock Tombs, p. 18, pl. IV.
(٥) Lepsius, Denk Erg. t. I, p. 234.
(٦) Excavations at Giza, Vol. I, p. 86, pls. LIII, LIV.
(٧) Excav. at Giza II, p. 194–195.
(٨) Excav. at Giza, vol. II, pl. LXVI.
(٩) S. Hassan, Excav. at Giza, Vol. II, p, 149 pls. L, LI, LII, etc.
(١٠) Pyr. 1301, C, etc.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤