علوم العرب قبل الإسلام

تمهيد في جزيرة العرب وأهلها

جزيرة العرب شحيحة المياه كثيرة الصحاري والجبال، فلم يشتغل أهلها بالزراعة لجدب الأرض، والإنسان وليد الإقليم الذي ينشأ فيه، وقد نشأ العرب على ما تقتضيه البلاد المجدبة من الارتزاق بالسائمة والرحيل في طلب المرعى، فغلبت البداوة على الحضارة فيهم، وانصرف أكثر همهم إلى تربية الماشية وهي قليلة بالنظر إلى احتياجاتهم منها، فنشأ بينهم التنازع عليها، وجرهم التنازع إلى الغزو، واضطرهم الغزو إلى الانتقال بخيامهم وأنعامهم من نجع إلى نجع، ومن صقع إلى صقع، ليلًا ونهارًا، وجوهم صافٍ وسماؤهم واضحة، فعولوا في الاهتداء إلى السبل على النجوم ومواقعها، واحتاجوا في مطاردة أعدائهم إلى استنباط الأدلة للكشف عن مخابئهم، فاستنبطوا قيافة الأثر، وألجأهم ذلك أيضًا إلى توقي حوادث الجو من المطر والأعاصير ونحوها، فعنوا بالتنبؤ عن حدوث الأمطار وهبوب الرياح قبل حدوثها، وهو ما يُعبرون عنه بالأنواء ومهاب الرياح.

ودعاهم الغزو من الناحية الأخرى إلى العصبية لتأليف الأحزاب، فاهتموا بالأنساب التي يترابطون بها، والارتحال في الغزو ونحوه يقتضي العناية بالسلاح والخيل، ولو كانوا أهل حضارة لأتقنوا صنع السلاح، وأما الخيل فبرعوا في تربيتها وانتقائها ومعالجة أمراضها.

والعرب إخوان الكلدانيين والبابليين والفينيقيين وغيرهم من أركان التمدن القديم، فهم أهل ذكاء وتعقل، لو سكنوا وادي الفرات، أو وادي النيل لكان منهم ما كان من أولئك، أو ما كان من جيرانهم التبابعة، ولكنَّهم أقاموا في بادية صفا جوها وأشرقت سماؤها، فصفت أذهانهم وانصرفت قرائحهم إلى قرض الشعر، يصفون به وقائعهم أو يبينون به أنسابهم أو يُعبرون به عن عواطفهم، وقويت فيهم ملكة البلاغة، فبرعوا في إلقاء الخطب يستنهضون بها الهمم، أو يدعون إلى الحرب أو السلم أو للمفاخرة أو المنافرة … ولولا ما في فطرتهم من الذكاء والتعقل لما ظهر منهم أكثر مما ظهر من جيرانهم سكان صحراء العدوة الغربية من البحر الأحمر، فإنَّهم ما زالوا من حيث المدنية على نحو ما كانوا عليه منذ قرون، وشأن جاهلية العرب من هذا القبيل شأن جاهلية اليونان في عصر هوميروس، فلما تمدَّن العرب أتوا بمثل ما أتي به أولئك.

على أنَّ العرب لم يسلموا مما وقع فيه معاصروهم من الأمم العظمى، من الاعتقاد في الكهانة والعرافة وزجر الطير وخط الرمل وتعبير الرؤيا، مما ينجم عن جهل أسباب الحوادث مع رغبتهم في تعليل بواعثها، ولذلك فقد كثر عندهم الكهان والعرافون ونحوهم.

فالعلوم التي كانت شائعة في جزيرة العرب قبل الإسلام ضرورية باعتبار طبيعة ذلك الإقليم وطبائع أهله، وقد سميناها علومًا بالقياس على ما يُماثلها عند الأمم الأخرى في عصر العلم، وإلا فالعرب الجاهليون لم يتعلموها في المدارس ولا قرأوها في الصحف ولا ألفوا فيها الكتب؛ لأنَّهم كانوا أميين لا يقرأون ولا يكتبون، وإنَّما هي معلومات تجمعت في محفوظهم بتوالي الأجيال بالاقتباس والاستنباط، وتُنوقلت في الأعقاب وما زالت تنمو وتتزايد حتى بلغت عند ظهور الإسلام بضعة عشر علمًا، بعضها من قبيل الطبيعيات والبعض الآخر من قبيل الرياضيات أو الأدبيات، أو الكهانة أو ما يتعلق بذلك، ولو أردنا التوسع في وصفها لضاق بنا المقام فنذكرها على سبيل الاختصار.

وإذا أمعنا النظر في مصادر تلك العلوم رأينا بعضها خاصًّا بالعرب وقد نشأ عندهم، والبعض الآخر دخيل اقتبسوه من الأمم الأخرى … فالعلوم العربية هي: الأنساب، والشعر، والخطابة، والدخيلة هي: النجوم، والطب، والأنواء، والخيل، ومهاب الرياح، والميثولوجيا، والكهانة، والعيافة، والقيافة، وغيرها كما سترى فيما يلي:

(١) علم النجوم عند العرب

الكلدان أساتذة العالم في علم النجوم، وهم وضعوا أسسه ورفعوا أعمدته، ساعدهم على ذلك صفاء سمائهم وجفاف هوائهم واستواء آفاقهم، فرصدوا الكواكب وعينوا أماكنها ورسموا الأبراج ومنازل القمر والشمس، وحسبوا الخسوف والكسوف بآلات فلكية منذ بضعة وأربعين قرنًا، وعنهم أخذ اليونان والهنود والمصريون وغيرهم من أهل التمدن القديم.

وما زال الكلدان أو البابليون أهل دولة وسلطان إلى أوائل القرن الثامن قبل الميلاد، فسطا عليهم الآشوريون فلم يُؤثّر ذلك شيئًا في آدابهم الاجتماعية لتشابه الشعبين لغة ودينًا، فلما كان القرن الخامس قبل الميلاد سطا عليهم الفرس وفتحوا بلادهم وبدلوا آلهتهم واستبدوا فيهم، فثقل ذلك عليم وضاقت الأرض بهم، فهاجر كثيرون منهم إلى ما جاورهم من البلاد وخصوصًا بلاد العرب؛ لأنَّها كانت حمى المهاجرين من العراق ومصر والشام، لامتناعها على الجنود بالصحاري الرمضاء ولسهولة الإقامة عليهم هناك لقرب لسان العرب من لسانهم.

وكان في جملة المهاجرين إليها جماعة من الكهان وأصحاب النجوم، فتعلم العرب منهم أحكامها وأخذوا عنهم أسماءها، وتعلموا منهم مواقع الأبراج ومناطقها ومنازل القمر والشمس، وربما كان لهم علم بشيء من أحكامها من عند أنفسهم، أو مما وصل إليهم من طريق الهند أو غيرها، ولكن يقال بالإجمال: إنَّ العربَ مدينون بعلم النجوم للكلدان، وهم يُسمونهم الصابئة — والصابئة إن لم يكونوا الكلدان أنفسهم فهم خلفاؤهم أو تلامذتهم،١ وكان الصابئة كثيرين في بلاد العرب، ولهم مثل منزلة النصارى أو اليهود، فأخذ العرب عنهم علم النجوم باصطلاحاته وأسمائه، وإن كان معظم أسماء السيارات لا يُرد إلى أصله الكلداني، فربما كان له أسباب عارضة ضاعت أخبارها.
على أنَّ بعضها لا يزال أصله الكلداني ظاهرًا فيه، كالمريخ مثلًا فإنها تقابل «مرداخ» الكلدانية لفظًا ومعنى، ولكنَّ معظم تلك الأسماء قد ضاعت المشابهة اللفظية بينها وبقيت المشابهة المعنوية، فإنَّ «زحل» معناه في العربية الارتفاع والعلو، وهي نفس دلالة «كاون» اسم هذا السيار في الكلدانية، وأما الأبراج ومنازل القمر فلا تزال كما كانت عند الكلدان لفظًا ومعنى — وإليك أسماء الأبراج عند كليهما:
أسماؤها العربية أسماؤها الكلدانية
الحمل والكبش أمرا
الثور ثورا
الجوزاء أو التوأمان تامي
السرطان سرطان
الأسد أربا
السنبلة شبلتا
العقرب ماساثا
الميزان عقربا
القوس أو الرامي قشتا
الجدي كديا
الدلو دولا
الحوت أو السمكة نونا

وأما منازل القمر والشمس فقد تبدل بعض أسمائها كما أصاب السيارات، ولكنَّ العبرة بالأكثر في قواعد هذا العلم ومصطلحاته، فإنَّها عند العرب كما كانت عند الكلدان تمامًا، حتى لفظ «منازل القمر» فإن هذا التعبير هو نفس ما كان يعبر به الكلدان عن هذه المنازل، وقد أبدلته الأمم الأخرى التي أخذت هذا العلم عن الكلدان بتعبير آخر، إلا العرب واليهود.

ومعرفة العرب بالنجوم مشهورة، فقد رأيت أنَّهم عرفوا السيارات والأبراج، وعرفوا عددًا كبيرًا من الثوابت، ولهم في ذلك مذهب يختلف عن مذاهب المنجمين في الأمم الأخرى،٢ وفي قِدم أسماء تلك النجوم في العربية دليل على قدم معرفة العرب بها وبمواقعها، مثل: بنات نعش الكبرى والصغرى، والسها، والظباء، والربع، والرابض، والعوائذ، والذئبين، والنثرة، والفرقد، والقدر، والراعي، وكلب الراعي، والأغنام، والرامح، والسماك، وعصا الضياع، وأولاد الضياع، والسماك الرامح، وحارس السماء، والأظفار، والفوارس، والكف المخضب، والخباء، والعيوق، والعنز، والجديين، وغيرها.
أما منازل القمر فقد قسموها إلى ثمانية وعشرين قسمًا، خلافًا لما كان عند الهنود فإنَّها ٢٧ قسمًا عندهم، وأراد العرب منها غير ما أراده أولئك، إذ كان مرادهم منها معرفة أحوال الهواء في الأزمنة، وحوادث الجو في فصول السنة؛ لأنَّهم كانوا أميين فلم تمكنهم معرفتها إلا بشيء يعاين فاستعانوا عليها بالكواكب، كما سترى في الكلام على الأنواء، وإليك أسماء منازل القمر في العربية، وهي ٢٨:
الثريا الجبهة الإكليل سعد السعود
الدبران الزبرة القلب سعد الأخبية
الهقعة الصرفة الشولة الفرغ المقدم
الهنعة العواء النعائم الفرغ المؤخر
الذراع السماك البلدة بطن الحوت
النثرة الغفر سعد الذابح الشرطان
الطرف الزبانيان سعد بلع البطين
وكان العرب إذا عدوا المنازل بدأوا بالشرطين، لأسباب تتعلق بإقليمهم، وقد بالغ المتعصبون للعرب في صدر الدولة العباسية في براعة العرب في النجوم، وفي جملة المتعصبين ابن قتيبة، فقد قال في كتابه «تفضيل العرب على العجم» أنَّ العرب أعلم بالكواكب ومطالعها ومساقطها.٣

ومع اعترافنا بما في ذلك من المبالغة، فإننا نستدل منه على توسع العرب في هذا العلم.

ولا غرابة في إتقانهم معرفة النجوم ومواقعها، فإنَّها كانت دليلهم في أسفارهم وأكثر أحوالهم، فكانوا إذا سألهم سائل عن الطريق المؤدي إلى البلد الفلاني قالوا: «عليك بنجم كذا وكذا» فيسير في جهته حتى يجد المكان، وربما استعانوا على ذلك أيضًا بذكر مهابِّ الرياح يعبرون بها عن الجهات، ومن أمثلة ذلك أنَّ سليك بن سعد سأل قيس بن مكشوح المرادي أن يصف له منازل قومه ثم هو يصف له منازل قومه، فتوافقا وتعاهدا ألا يتكاذبا، فقال قيس بن المكشوح: «خذ بين مهب الجنوب والصبا، ثم سر حتى لا تدري أين ظل الشجرة، فإذا انقطعت المياه فسر أربعًا، حتى تبدو لك رملة وقف بينها الطريق، فإنك ترد على قومي مراد وخثعم».

فقال السليك: «خذ بين مطلع سهيل ويد الجوزاء اليسرى العاقد لها من أفق السماء، فثم منازل قومي بني سعد بن زيد مناة»، واشتهر في جاهلية العرب في إتقان النجوم جماعة، منهم بنو مارية بن كلب، وبنو مرة بن همام الشيباني.٤

(٢) الأنواء ومهابُّ الرياح

يراد بالأنواء عندهم ما يقابل علم الظواهر الجوية عندنا، مما يتعلق بالمطر والرياح، ولكنهم كانوا ينسبون الظواهر المذكورة إلى طلوع الكواكب أو غروبها، ولذلك كان علم الأنواء فرعًا من علم النجوم، وكانوا يسمون طلوع المنزلة نوءها؛ أي نهوضها، وسموا تأثير الطلوع بارحًا وتأثير السقوط نوءًا، ومن طلوع كل واحدة منها إلى طلوع التي تليها ثلاثة عشر يومًا، سوى الجبهة فإنَّ بين طلوعها وطلوع التي تليها ١٤ يومًا، ومن أقوالهم في ذلك:

والدهر فاعلم كله أرباع
لكل ربع واحد أسباع
وكل سبع لطلوع كوكب
ونوء نجم ساقط في المغرب
ومن طلوع كل نجم يطلع
إلى طلوع ما يليه أربع
من الليالي ثم تسع تتبع
ثم اختلفوا فيها، فزعم بعضهم أنَّ كل تأثير يكون بعد طلوع منزلة إلى طلوع التي تتلوها فهو منسوب إليها، وزعم آخرون أنَّ لطلوع كل واحدة وسقوطها مقدارًا من الزمن ينسب إليها يكون فيه، فإذا انقضت تلك المدة لم ينسب إليها ما يكون بعدها، وكانوا إذا تحقق التأثير فلم يظهر منه شيء في تلك الأزمنة قالوا: خوى النجم، أو خوت المنزلة — يعنون بذلك مضت مدة نوء ولم يكن فيه مطر أو حر أو برد أو ريح،٥ ومن أمثالهم «أخطأ نوؤك» يُضرب لمن طلب حاجة فلم يقدر عليها.٦

وكانوا إذا أمطرت السماء نسبوا المطر إلى تأثير النجم المتسلط في ذلك الوقت، فيقولون مثلًا: مطرنا بنوء المجرة، أو هذا نوء الخريف، مُطرنا بالشعرى، وقالوا: إنَّ النوء سقوط نجم ينزل في المغرب مع الفجر، وطلوع رقيبه في الشرق من أنجم المنازل، ولذلك كانت الأنواء ٢٨ نوءًا أو نجمًا، كانوا يعتقدون أنَّها هي علة الأمطار والرياح والحر والبرد، وفي أشعارهم أمثلة كثيرة تدل على علاقة أحوال الجو أو فصول السنة باقترانات الكواكب أو طلوعها، وقد نظموها شعرًا ليسهل حفظها على النَّاس لقلة الكتابة عندهم، من ذلك قولهم:

إذا ما قارن القمر الثريا
لثالثة فقد ذهب الشتاء

وقول الآخر:

إذا ما البدر تم مع الثريا
أتاك البرد أوله الشتاء

وقول الآخر:

إذا ما قارن الدبران يومًا
لأربع عشرة قمر التمام
فقد حف الشتاء بكل أرض
فوارس مؤذنات باحتدام
وحلق في السماء البدر حتى
يقلص ظل أعمدة الخيام
وذلك في انتصاف الليل شطرًا
ويصفو الجو من كدر الغمام

وقول الآخر:

إذا ما هلال الشهر أولَ ليلة
بدا لعيون الناس بين النعائم
أتتك رياح القر من كل وجهة
وطاب قبيل الصبح كَوْر العمائم

وقول الآخر:

وقد برد الليل التمام بأهله
وأصبحت العواء للشمس منزلًا٧
وكان عندهم لمطلع كل كوكب أو منزل وصف يدل على تأثير ذلك في الطقس على اعتقادهم، ومن هذا القبيل اعتقادهم تأثير النجوم في أعمال البشر على ما كان عند الكلدان٨ على أنَّهم كثيرًا ما كانوا يستدلون على المطر أيضًا بألوان الغيوم وأشكالها، فأقل الغيوم مطرًا عندهم البيضاء ثم الحمراء ثم السوداء، ومن أقوالهم: «السحابة البيضاء جفل، والحمراء عارض، والسوداء هطلة».٩
وكان العرب في حاجة إلى معرفة مهاب الرياح للاهتداء بها في أسفارهم، ولذلك فقد وضعوا لها الأسماء، ولكنهم اختلفوا في عدد جهاتها، فحسبها بعضهم ستة، والبعض الآخر أربعة، فأصحاب القول الثاني يعدونها:
  • (١)

    مهب الصبا من الشمال.

  • (٢)

    مهب الشمال من المغرب.

  • (٣)

    مهب الدبور من الجنوب.

  • (٤)

    مهب الجنوب من المشرق.

ويزيد عليها أصحاب القول الأول: النكباء بجانب الشمال، والمحوة بجانب الجنوب، وإليك قول ذي الرمة في ذلك:

أهاضيب أنواء وهيفان جرتا
على الدار أعراف الجبال الأعافر
وثالثة تهوِي من الشام حرجف
لها سنن فوق الحصى بالأعاصر
ورابعة من مطلع الشمس أجفلت
عليها بدقعاء المعا فقراقر
تحثثها النكب السوافي فأكثرت
حنين اللقاح القاريات العواشر١٠

(٣) الميثولوجيا

ومما يلحق بعلم النجوم أيضًا ما يعبر عنه الإفرنج بالميثولوجيا، وهي عبارة عمَّا كانوا يزعمون وقوعه بين الكواكب — أو هي الآلهة عندهم — من الحروب أو الزواج أو نحو ذلك مما يجري على البشر على نحو ما ذكروه عن آلهة اليونان، فالعرب ألَّهوا الأجرام السماوية وعبدوها، وقلَّما ضاع خبر ذلك لعدم تدوينه، على أننا نستدل عليه من بعض ما وصل إلينا من أسماء أصنامهم وعبادة بعض رجالهم، فاللات اسم للزهرة، وقد اشتهر كثيرون بعبادتها وعبادة الشمس والقمر والشعرى، وكانوا يتناظرون في أفضلية بعضها على بعض، قالوا: «وأبو كبشة أول من عبد الشعرى، وكان يقول: الشعرى تقطع السماء عرضًا، ولا أرى في السماء شمسًا ولا قمرًا ولا نجمًا يقطع السماء عرضًا غيرها».

أما تشخيص تلك الأجرام وإنزالها منزلة البشر فقد كان معروفًا عند العرب، ومن الأقاصيص الميثولوجية التي كانوا يتناقلونها أنَّ الدبران خطب الثريا وأراد القمر أن يزوجه منها، فأبت عليه وولت عنه وقالت للقمر: ما أصنع بهذا السبروت الذي لا مال له؟ فجمع الدبران قلاصه يتمول بها، فهو يتبعها حيث توجهت يسوق صداقها قدامه — يعنون القلاص، وأنَّ الجدي قتل نعشًا فبناته تدور به تريده، وأنَّ سهيلًا ركض الجوزاء فركضته برجلها فطرحته حيث هو، وضربها هو بالسيف فقطع وسطها، وأنَّ الشعرى اليمانية كانت مع الشعرى الشامية ففارقتها وعبرت المجرة، فسميت الشعرى العبور، فلما رأت الشعرى اليمانية فراقها إياها بكت عليها حتى غمصت عيناها، فسميت الشعرى الغميصاء.١١
ومن هذا القبيل تأليههم بعض المشاهير من الملوك أو القواد أو الأسلاف، واعتبار البعض الآخر من نتاج الملائكة أو الجان، فعندهم مثلًا أنَّ بلقيس كانت أمها جنية، وأنَّ جرهمًا كان من نتاج الملائكة وبنات آدم، وكذلك كان ذو القرنين عندهم أمه آدمية وأبوه من الملائكة،١٢ وأما أصل هذه الاعتقادات فإما هندي أو يوناني أو مصري، أما الكلدان فقلما كانت لهم عناية بأمثال ذلك.

(٤) الكهانة والعرافة

هما لفظان لمعنى واحد، وفرق بعضهم بينهما فقال: إنَّ الكهانة مختصة بالأمور المستقبلة، والعرافة بالأمور الماضية، وعلى كل حال فالمراد بهما التنبؤ واستطلاع الغيب، على أنَّ العرب كانوا يعتقدون في الكاهن القدرة على كل شيء، فكانوا يستشيرونه في حوائجهم، ويتقاضون إليه في خصوماتهم، ويستطبونه في أمراضهم، ويستفتونه فيما أشُكل عليهم، ويستفسرون منه رؤاهم، ويستنبئونه عن مستقبلهم، وبالجملة: فالكهان عندهم هم أهل العلم والفلسفة والطب والقضاء والدين، شأن تلك الطبقة من البشر عند سائر الأمم القديمة في بابل وفينيقية ومصر وغيرها.

والكهانة من العلوم الدخيلة على العرب، جاءتهم من بعض الأمم المجاورة لهم، والغالب في اعتقادنا أنَّ الكلدان حملوها إليهم مع علم النجوم، ويؤيد ذلك أنَّ الكاهن يُسمَّى في العربية أيضًا «حازى» أو «حزاء»، وهو لفظ كلداني معناه الاشتقاقي الناظر أو الرائي أو البصير، وهو يدل عندهم على الحكيم والنبي، وأما لفظ «الكاهن» فقد اقتبسه العرب بعدئذ من اليهود الذين نزحوا إليهم على أثر ما أصابهم من النكبات في أورشليم (بيت المقدس)، وخصوصًا بعد خرابها على يد الإمبراطور الروماني طيطس سنة ٧٠ للميلاد، وقد أخذ عنهم العرب كثيرًا من الآداب والعادات مما لا يدخل في بحثنا، وأما الكهانة فأصلها من عند الكلدان، ولعل الذين حملوا علم النجوم إلى العرب هم الكهنة الكلدانيون أنفسهم، فكانت الكهانة في جملة ما حملوه إليهم، ويؤيد ذلك أنَّ العرب كانوا يطلقون لفظ الحزاء على الكاهن والمنجم١٣ على أنَّ أهل بابل ما زالوا يتواردون على بلاد العرب إلى ما بعد الإسلام، والعرب يجلونهم لعلمهم وتعقلهم.

فالعرب كانوا يعتقدون في الكهنة العلم بكل شيء، وأنَّ ذلك يأتيهم بواسطة الأرواح، فمن كان منهم يعتقد التوحيد نسب ذلك إلى استطلاع الغيب عن أفواه الملائكة، وإذا كان من عبدة الأصنام اعتقد حلول الأرواح في الأصنام وبوحها بأسرار الطبيعة للكهان والسدنة، فيقول العرب: إنَّ الأصنام تدخلها الجن (أي الأرواح) وتخاطب الكهان، وإنَّ الكاهن يأتيه الجني بخبر السماء وربما عبروا عنه بالهاتف، ومن أقوالهم: «الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى، والكهان من العرب».

فكل ما كان يصنعه الكاهن إنَّما مصدره الغيب، فإذا استطبه مريض من ريح أو صداع عالجه بالرقى، وإذا استُشير في معضلة خط في الرمل أو نفث في العقد، وإذا حكمه متخاصمان رمى لهما بالقداح، وإذا استطلع عن سرقة أخذ قمقمة جعلها بين يديه ونفث فيها، ونحو ذلك من الحركات الوهمية، وإذا استفسر عن رؤيا تمتم وتظاهر باستطلاع الغيب.

قلنا: إنَّ الكهانة أتت العرب من بين النهرين، فالكُهان القدماء كانوا في الغالب كلدانيين (أو صابئة في قولهم) وكان العلم كله عندهم، ثم تعدد الكهنة من اليهود وغيرهم، ثم ما لبث العرب أنفسهم أن أخذوا ذلك عنهم، فنشأ الكهان منهم، على أنَّ بعض العرب اقتصروا فيما تناولوه على علم دون آخر، فكان بعضهم يتعاطى الطب فقط، وبعضهم تعبير الرؤيا أو القيافة أو القضاء.

الكهان

واشتهر في بلاد العرب جماعة كبيرة من الكهان والكواهن، أقدمهم شق وسطيح وحكايتهما أشبه بالخرافات منها بالحقائق، فعندهم أنَّ الأول كان شق إنسان (أي نصفه) بيد واحدة ورجل واحدة وعين واحدة، وأن سطيحًا كان لحمًا يطوى كما يطوى الثوب، لا عظم فيه غير الجمجمة ووجهه في صدره، ويزعمون أنَّ هذين الكاهنين عاشا بضعة قرون، إلى غير ذلك من الأوهام، ومن الكهان الذين نبغوا في النهضة العربية قبل الإسلام خنافر بن التوأم الحميَري، وسواد بن قارب الدوسي، وفيهم من يعرفون بما ينسبون إليه من البلاد أو القبائل، كقولهم: كاهن قريش، وكاهن اليمن، وكاهن حضرموت، وغيرهم.

ويقال نحو ذلك في العرافين، وأكثرهم ينسبون إلى بلدانهم وقبائلهم، كعراف هذيل، وعراف نجد، وأشهرهم عراف اليمامة، شهره عروة بن حزام ببيت قاله فيه — وكذلك الشعراء يشهرون ممدوحيهم — وهو قوله:

أقول لعراف اليمامة داوني
فإنك إن داويتني لطبيب
وأما الكواهن من النساء فإنهن عديدات، منهن طريفة كاهنة اليمن وهي أقدمهن، وإليها ينسبون الإنذار بخراب سد مأرب وإتيان سيل العرم، وزبراء بين الشحر وحضرموت، وسلمى الهمدانية الحميرية، وعفيراء الحميرية، وفاطمة الخثعمية بمكة، وزرقاء اليمامة، وغيرهن ينسبن إلى القبيلة أو المدينة، ككاهنة بني سعد، يزعمون أنها أقدم عهدًا من شق وسطيح وأنَّها استخلفتهما،١٤ وما زالت الكهانة في العرب حتى جاء الحديث في أبطالها وهو: «لا كهانة بعد النبوة».١٥

وكان للكهان عند العرب لغة خاصة، تمتاز بتسجيع معين يُعرف بسجع الكهان، مع تعقيد وغموض، ولعلهم كانوا يتوخون ذلك للتمويه على النَّاس بعبارات تحتمل غير وجه، كما يفعل بعض مشايخ التنجيم في هذه الأيام، حتى إذا لم يصدق تكهنهم جعلوا السبب قصور الناس في فهم قول الكاهن.

ومن أمثلة سجع الكهان ما يروونه عن طريفة كاهنة اليمن، حين خاف أهل مأرب سيل العرم وعليهم مزيقياء عمر بن عامر، فإنها قالت لهم: «لا تؤموا مكة حتى أقول، وما علمني ما أقول إلا الحكم المحكم، رب جميع الأمم من عرب وعجم». قالوا لها: «ما شأنك يا طريفة؟» قالت: «خذوا البعير الشذقم، فخضبوه بالدم، تكن لكم أرض جرهم، جيران بيته المحرم».١٦

القيافة

ومن قبيل الكهانة أيضًا القيافة، لكنَّها تختص بتتبع الآثار والاستدلال منها على الأعيان، وهي قسمان: قيافة الأثر، وقيافة البشر، والأولى تختص بتتبع آثار الأقدام أو الحوافر أو الأخفاف، والاستدلال من آثارها في الرمال أو التراب على أصحابها، والفائدة من ذلك الاهتداء إلى الفارِّ من النَّاس أو الضالِّ من الحيوان، وقد أتقن العرب ذلك حتى فرق بعضهم بين أثر قدم الشاب والشيخ، وقدم الرجل والمرأة، والبكر والثيب، وأما قيافة البشر فهي الاستدلال بهيئات أعضاء الشخصين على المشاركة والاتحاد بينهما في النسب والولادة وسائر أحوالهما، وهي من قبيل الفراسة.

وكانت القيافة شائعة في العرب ثم اختصت بعض القبائل بها دون البعض الآخر، وأشهر العرب بقيافة الأثر بنو مدلج وبنو لهب، ولا تزال هذه القيافة شائعة إلى اليوم في بعض قبائل نجد، ويقال: إنَّهم بنو مرة وهم أعلم الناس بها، حتى لقد يعرف أحدهم الإنسان من أثره، وربما نظر إلى أثر بعير فقال: هذا بعير فلان، وكثيرون منهم يميزون بين العراقي والشامي والمصري والمدني.

والفراسة كانت شائعة في العرب، وكانت لهم فيها براعة يستدلون بهيئة الإنسان وأشكاله وألوانه وأقواله على أخلاقه ومناقبه، وهي من قبيل الذكاء وسرعة الخاطر وسجية طبيعية.

ومن قبيل الكهانة تعبير الرؤيا، وكان معروفًا عند العرب، وكانوا يفزعون إلى الكهان في تفسير الأحلام، على أنَّ كثيرين من غير الكهان كانوا يتعاطونها، أشهرهم أبو بكر الصديق.١٧

ومن هذا القبيل زجر الطير وخط الرمل، وقد أغضينا عنهما لضيق المقام.

(٥) الطب في الجاهلية

الطب من جملة العلوم التي وضع أساسها الكلدان كهنة بابل، وهم أول من بحث في علاج الأمراض، فكانوا يضعون مرضاهم في الأزقة ومعابر الطرق، حتى إذا مر بهم أحد أصيب بذلك الداء فيعلمهم بسبب شفائه، فيكتبون ذلك على ألواح يعلقونها في الهياكل، ولذلك كان التطبيب عندهم من جملة أعمال الكهان.

وعن الكلدان أخذت الأمم القديمة وفي جملتها العرب، وهو متشابه عند تلك الأمم في مصر وفينيقية وآشور، ثم تناوله اليونان فأتقنوه ورتبوا أبوابه، وعنهم أخذ الرومان والفرس، ونظرًا لمعاصرة العرب لهذه الدول فقد اقتبسوا شيئًا من طبها أضافوه إلى ما جاءهم به الكلدان، وإلى ما استنبطوه من عند أنفسهم بالاختبار، فتألف من ذلك ما عبرنا عنه «بالطب في الجاهلية» ولا يزال كثير منه باقيًا إلى اليوم في قبائل البادية.

وكان للتطبيب عندهم طريقتان: الأولى، طريقة الكهان والعرافين، والثانية: طريقة العلاج الحقيقية، فالكهان كانوا يعالجون بالرقى والسحر كما تقدم، أو بذبح الذبائح في الكعبة والدعاء فيها، أو بالتعازيم أو نحو ذلك.

وكان التطبيب بالرقى شائعًا في الأمم القديمة كلها، وقد وجدوا في الآثار المصرية كثيرًا من العزائم، التي كانوا يصفونها لمعالجة المرضى، وجاء من أخبارهم أنَّ كاهنهم كان إذا سار لمعالجة مريض صحبه خادمان أحدهما يحمل كتاب العزائم، والثَّاني يحمل صندوق العقاقير الطبية، وهم يعالجون بالاثنين جميعًا.

وكانوا يوجهون كلامهم في العزيمة أو الرقى إلى أحد آلهتهم وخصوصًا إيزيس وأوزيريس ورع، ولهم عبارات يقولونها عند صنع الأدوية وعند مناولتها للمريض، فمن أمثلة العزائم التي كانوا يتلونها عند تناول الدواء: «هذا هو كتاب الشفاء لكل مريض، فهل لإيزيس أن تشفيني كما شفت حوريس من كل ألم أصابه من أخيه ست حينما قتل أباه أوزيريس؟ فيا إيزيس أنت الساحرة الكبيرة، اشفيني وخلصيني من كل شيء مكدر رديء شيطاني، ومن أمراض اللبسة والأمراض القاتلة والخبيثة بأنواعها التي تعتريني كما خلصت ابنك حوريس …»،١٨ وكان عندهم عزائم لإخراج الأرواح الشريرة التي تُسبب الأمراض في زعمهم، فعلى هذه الكيفية كان العرب يتلون العزائم لأصنامهم ويرقون لإخراج الجان والشياطين.

وكان اعتقادهم من هذا القبيل أنَّهم إذا خافوا وباءً نهقوا نهيق الحمار، يزعمون أنَّ ذلك يمنعهم من الوباء، وأنَّ دماء الملوك تشفي من الخبل.

وأما مُعالجتهم بالعقاقير فشبيهة بما كان عند المصريين وغيرهم من الأمم القديمة، فقد كانوا يعالجون بالعقاقير البسيطة أو الأشربة وخصوصًا العسل، فإنَّه كان قاعدة العلاج في أمراض البطن — على أنَّ اعتمادهم في معالجة الأمراض كان معظمه عائدًا إلى الجراحة كالحجامة والكي، ومن أقوالهم: «كل داء حسم بالكي آخر الأمر، وآخر الطب الكي»، وكثيرًا ما كانوا يعالجون بالقطع أو البتر، والغالب أن يكون ذلك بالنار، فإنَّ النَّار عندهم كانت تقوم مقام مضادات الفساد (المطهرات) عندنا، فإذا أرادوا فصل عضو حموا شفرة بالنار وقطعوه بها، كما فعلوا بصخر بن عمرو أخي الخنساء لما نتأت قطعة من جوفه مثل الكبد على أثر طعنة فأحموا له شفرة وقطعوها.١٩
وكانوا يُعالجون حَوَلَ البصر بإدامة النظر إلى حجر الرحى في دورانه، ويزعمون أنَّ العين تستقيم به، ومن معالجتهم التي نعدها اليوم خرافة أنَّ المجروح إذا شرب الماء مات،٢٠ وإذا خافت المرأة حتى برد قلبها سقوها ماءً حارًّا.٢١

الأطباء

وأما الأطباء فقد كانوا في أول الأمر من الكهنة، ثم تعاطى الطب جماعة من العرب ممن خالطوا الروم والفرس وأخذوا الطب عنهم فاشتهروا بهذه الصناعة، وأكثرهم من أهل النهضة الأخيرة قبل الإسلام حوالي القرن السادس للميلاد، على أنَّ بعضهم أقدم من ذلك كثيرًا، وأقدم أطبائها لقمان وهو حكيمهم وفيلسوفهم، وفي أصله وزمن وجوده اختلاف، يليه رجل من تيم الرباب يقال له ابن حذيم، ويضربون به المثل بالحذق في الطب فيقولون لمن أرادوا وصفه بذلك: أطب من ابن حذيم، وفيه يقول أوس بن حجر:

فهل لكمُ فيها إلي فإنني
بصيرٌ بما أعيى النطاسي حذيما

ومن أحدث أطباء الجاهلية الحارث بن كلدة تُوفي سنة ١٣ للهجرة، وهو من بني ثقيف من أهل الطائف، رحل إلى أرض فارس وأخذ الطب من جنديسابور، وتعاطى صناعة الطب هناك واكتسب مالًا ثم عاد إلى بلاده وأقام في الطائف ونال شهرة واسعة، وقد أدرك الإسلام وكان النبي يأمر من كانت به علة أن يأتيه فيستوصفه — ومنهم ابن أبي رومية التميمي، والنضر بن الحارث بن كلدة.

وأكثر هؤلاء الأطباء تناولوا الطب من بلاد الفرس أو الروم، وبعضهم أخذه عن الكهان أو الأحبار من الأديار ونحوها، وربما أخذوا عنهم شيئًا من الفلسفة القديمة كما فعل النضر المذكور، والظاهر أنَّ بعضهم كان يخصص نفسه للأعمال الجراحية فيغلب عليه لقب الجراح، وأشهر جراحي الجاهلية ابن أبي رومية التميمي، فقد كان جراحًا مزاولًا لأعمال اليد.٢٢
ونظرًا لعناية العرب بخيولهم وإبلهم كان بعض الأطباء يخصص نفسه لمعالجتها مما يُعبرون عنه اليوم بالبيطرة، ومن بياطرة الجاهلية العاص بن وائل.٢٣

(٦) الشعر في الجاهلية

الشعر عن العرب الكلام المقفى الموزون، وهذا في الحقيقة تعريف النظم وليس تعريف الشعر؛ لأنَّ النظم غير الشعر، إذ قد يكون الرجل شاعرًا ولا يحسن النظم، وقد يكون ناظمًا وليس في نظمه شعر — وإن كان النظم يزيد الشعر طلاوة ووقعًا في النفس. فالنظم هو القالب الذي يسبك فيه الشعر، وأما الشعر بأعم معانيه فيصعب الاختصار في تعريفه، لما ينطوي تحته من أساليب التعبير وتأثيره في النفس، مما لا يستطيع أن يؤثر تأثيره الكلام المرسل، والفرق بينهما أننا نعبر بالكلام المرسل عما نشاهده أو نستنتجه من أعمال الحياة بالقياس أو البرهان، وأما الشعر فنعبر به عن شعورنا بالانفعالات النفسية بلا قياس ولا برهان، فالكلام المرسل «لغة العقل»، والشعر «لغة النفس أو القلب». وقال بعضهم: «الشعر صورة ظاهرة لحقائق غير ظاهرة».

ولذلك فالشعر قديم لم تخل منه أمة من أمم العالم قديمًا ولا حديثًا، وهو مرآة آداب الناس، وصحيفة أخلاقهم، وديوان أخبارهم، وسجل عقائدهم؛ لأنَّ الإنسان ارتقت نفسه وتحرك قلبه قبل أن يرتقي عقله وتتهذب مداركه، فتكلم بالشعر قبل أن تكلم في العلم، ولذلك كان أقدم أخبار النَّاس من قبيل الخيال، وأقدم المحفوظ من مدونات الأمم كتب الشعر، وقد دونوا فيها مشاعرهم الدينية والأدبية أو الحماسية أو غير ذلك من صور الانفعالات النفسية، فالمهابهاراتة والرامايانة عند الهنود، والإلياذة والأوذيسة عند اليونان، والإنيادة عند الرومان، وبعض أسفار التوراة عند اليهود، والشاهنامة عند الفرس، إنَّما هي شعر حفظت فيها عادات تلك الأمم وأخلاقهم وأخبارهم، وخصوصًا من حيث العبادة والآلهة، وذلك طبيعي؛ لأنَّ الشعر كما قلنا لغة النفس تعبر به عن انفعالها وتطلب به مشتهاها، لا تقدم على ذلك برهانًا ولا تطلب دليلًا، والدين أكثر أعمالها حاجة إلى التسليم والإيمان العاطفي القلبي.

الشعر العبراني

والشعوب السامية أكثر الأمم إعراقًا في عالم الخيال، ولذلك كانوا أميل الناس إلى اعتقاد التوحيد والتدين بما لا يقع تحت الحواس، ولهذا السبب أيضًا كانوا أقرب الناس طبعًا إلى التصورات الشعرية، وترى ذلك واضحًا فيما خلفوه من الآثار الشعرية، وأقدم آثار الساميين من هذا القبيل التوراة، وقد وجدوا التصورات الشعرية في أقدم أسفارها، فما كلام «لامك» لامرأتيه «عادة» و«صلة» في سفر التكوين (ص٢٣٥٤) إلا جزء من نشيد ضاع ولم يبق منه إلا مطلعه، وفي أصله العبراني ما يدل على أنَّه شعر موزون ومقفى، فهو أقدم منظومات العبرانيين، بل أقدم الشعر المقفى في العالم على الإطلاق.

وفي التوراة أمثلة كثيرة من التصور الشعري، كقول يشوع لموسى لما سمع جلبة الشعب عند نزول موسى من الجبل ولوحا الشهادة معه (خروج ٣٢ : ١٧): «صوت حرب في المحلة» فقال موسى: «ليس ذلك صياح ظفر ولا صياح هزيمة، بل صوت غناء أنا سامع». والمظنون أنَّ هذه الفقرة بيت قديم تمثل به موسى في تلك الحال. وقس عليه.

وهناك أسفار كلها شعر، كسفر أيوب، ويُقال: إنَّ أصله عربي، وسفر أشعيا ومزامير داود وغيرها مما هو مشهور، وقد بلغ الشعر العبراني أسمى درجاته في أيام سليمان الحكيم، لاستتباب الأمن وسعة الملك ورخاء العيش، وهو العصر الذهبي عند اليهود مثل عصر المأمون عند العرب. وكان سليمان نفسه حكيمًا وشاعرًا كما كان المأمون أيضًا.

الشعر العربي

والعرب كالعبرانيين في استعدادهم الفطري لقرض الشعر والاستغراق في عالم الخيال؛ لأنَّهم ساميون مثلهم، واللغة العربية أكثر استعدادًا للتعبير الشعري من العبرانية لما فيها من المترادف والمتوارد وأساليب المعاني والبيان، وإذا اعتبرنا الإقليم والبيئة رأينا العرب أولى بالتصوير الشعري من اليهود، نظرًا لانطلاقهم في الصحاري واستقلالهم في أحكامهم وأفكارهم وسائر أحوالهم، ولذلك كان شعرهم أكثره من قبيل الحماسة والفروسية، وأما اليهود فالذل والانكسار والتدين هي الصفات المميزة لأشعارهم.

على أنَّ الغالب في الشعر أن يكون منظومًا، وإن اختلفت الأمم في كيفية نظمه، فاكتفى بعضهم أن يكون موزونًا غير مُقَفًّى، والبعض الآخر مُقَفًّى غير موزون، أو مقفًّى وموزونًا معًا، والعرب يشترطون في شعرهم الوزن والتقفية، وإلا فهو ليس من قبيل الشعر عندهم، خلافًا لما هو عند إخوانهم السريان والعبران، فقد كان السريانيون القدماء ينظمون بلا قافية، أي بلا التزام قافية واحدة، كأفرام السرياني وإسحاق الأنطاكي وغيرهما،٢٤ والعبرانيون لم يكونوا يشترطون هذا ولا ذاك، وربما اشترطوا القافية دون الوزن؛ ولذلك لمَّا سمعوا آيات القرآن، بما فيها من التصور الشعري الديني مع التزام القافية، قالوا: هذا شعر، بالقياس على الشعر في لسانهم.

ولا ريب أنَّ للوزن والقافية رنَّة تزيد المعنى الشعري تأثيرًا في النفس، لا أنَّها هي تجعله شعرًا، فالخطابة تؤثر في النفوس وتهيج العواطف، وكلامها غير موزون ولا مقفى، وهي من قبيل التصورات الشعرية، وسيأتي الكلام عليها.

كيف توصلوا للنظم

فالتصورات الشعرية فطرية في العرب، أمَّا النَّظم فحادث عندهم، وربما صاغوا الشعر أولًا بعبارات قصيرة تحفظ وتتناقل على سبيل الأمثال الحكمية ونحوها، والظاهر أنَّهم قضوا أجيالًا والنظم عندهم على سبيل الأمثال، حتى اتفق لبعضهم وهو يقول المثل أنه جعله شطرين مسجوعين في مثل واحد أو مثلين متآلفين، فرأى في ذلك رنة فترنم به وأخذه عنه الناس وجعلوا يتغنونه في حدوهم وإنشادهم وراء إبلهم — والغناء لسان طبيعي — فأعجبتهم رنة القافية والوزن، فزادوا شطرًا أو شطرين أو أكثر على قافية واحدة، وهو الرجز في أبسط أحواله، وظلوا دهرًا طويلًا يقول شاعرهم من الرجز البيتين أو الثلاثة إذا هاجت فيه قريحة الشعر لمفاخرة أو هجاء أو منافرة، وكانوا كلما نبغ فيهم نابغة أدخل في النظم تحسينًا، وقد ذكروا ممن حسنوا نظم الرجز العجاج والأغلب العجلي،٢٥ ولم يعينوا زمنه.
أما القصيد فأشهر من أطلق سراحه امرؤ القيس إمام الشعراء وخاله المهلهل من أهل القرن الخامس للميلاد، فالمهلهل يقولون: إنَّه أول من قصد القصائد، وامرؤ القيس أول من أطالها وتفنن في نظمها وفتح الشعر وبكى ووصف، وهو أول من شبه الخيل بالعصا والقوة والسباع والظباء،٢٦ وأول من رقق النسيب وغير ذلك، ولعله تنبه لهذا التفنن في أثناء أسفاره في بلاد الروم فسمع أشعارهم أو أشعار اليونان، والنبيه تنفتق قريحته بالاختلاط، فزاد اختباره فأدخل في الشعر ما أدخله، وكان الشعراء الجاهليون قلما يدخلون بلاد الروم، وإنما كانوا يقفون على الحدود في البلقاء عند بني غسان أو في الحيرة عند بني لخم المناذرة إلا قليلًا منهم، فالعرب مطبوعون على الشعر:
  • (١)

    لأنَّهم ساميون أهل خيال من فطرتهم.

  • (٢)

    لأنَّهم سكنوا البادية وتعودوا الحرية والاستقلال.

  • (٣)

    لأنَّ شؤونهم البدوية قضت بينهم بالتنازع والتنافر والتفاخر مما يشحذ الأذهان ويستحث البدائِه.

  • (٤)

    لأنَّ لغتهم تُساعدهم على النظم.

والعرب أمة قديمة ولذلك فلا بد أن تكون قد نظمت الشعر من قديم الزمان، والواقع أنَّ أقدم ما وصل إلينا من أشعارهم لا يتجاوز القرن الثاني قبل الهجرة، فهل كان العرب قبل ذلك ينظمون؟

الغالب في اعتقادنا أنَّهم نظموا كما نظم العبرانيون، ولا يبعد أن يكون سفر أيوب من بقايا شعرهم القديم، وقد حفظ في العبرانية وضاع أصله العربي، ولو لم يحفظ في العبرانية لضاع كما ضاع غيره من منظومات العرب، لجهلهم الكتابة، ولانقطاعهم عن الأمم التي كانت تعرفها في ذلك العهد.

كثرة شعر العرب

على أننا نكتفي في الاستدلال على كثرة ما نظمه العرب باعتبار ما وصل إلينا من أشعارهم في نهضتهم الأخيرة قبل الإسلام، فقد نظموا في قرن واحد أو قرنين ما لم يجتمع عند أمم العالم المتمدن في عدة قرون، وخصوصًا في العصر الجاهلي، فإلياذة هوميروس وأوديسيته هما معظم شعر جاهلية اليونان ولا يزيد عدد أبياتها على ٣٠٠٠٠ بيت، وكذلك مهابهاراتة الهنود ٢٠٠٠٠ بيت ورامايانتهم ٤٨٠٠٠ بيت،٢٧ وأما العرب فيؤخذ مما بلغنا من أخبارهم عما نظموه في نهضتهم الأخيرة قبل الإسلام أنه يربو على أضعاف أضعاف ذلك، فهم يعدون منظوماتهم بالقصائد وليس بالأبيات، فقد ذكروا أنَّ أبا تمام صاحب كتاب الحماسة كان يحفظ من أشعار العرب (الجاهلية) ١٤٠٠٠ أرجوزة غير القصائد والمقاطيع،٢٨ وكان حماد الراوية يحفظ ٢٧٠٠٠ قصيدة٢٩ على كل حرف من حروف الهجاء ألف قصيدة، وكان الأصمعي يحفظ ١٦٠٠٠ أرجوزة،٣٠ وكان أبو ضمضم يروي أشعارًا لمائة شاعر كل منهم اسمه عمرو،٣١ ومع ما يظن في ذلك من المبالغة فإنه يدل على كثرة ما خلفه العرب من المنظومات، وخصوصًا إذا اعتبرنا أنَّ ما وصل إلى رواة الشعر في الإسلام إنَّما هو بعض أشعار الجاهلية؛ لأنَّ كثيرين من رواة الشعر الجاهلي قتلوا في الفتوح الإسلامية فضاع ما كان في محفوظهم من الأشعار — قال أبو عمرو بن العلاء: «ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير».٣٢

وزد على ذلك أنَّ العرب نظموا الشعر الكثير وأبدعوا فيه، وهم يكادون يكونون فوضى لا دولة لهم ولا جامعة ولا دين ولا شيء مما حمل اليونان أو الهنود أو غيرهم على النظم وإنَّما اندفعوا إليه بفطرتهم، ولولا ذلك لتأخروا في النظم حتى قامت دولتهم ونضجت قرائحهم، كما حدث للرومانيين فإنَّ الشعر لم ينظم بلسانهم إلا بعد تأسيس دولتهم ببضعة قرون، ولم يبلغ الشعر اللاتيني عصره الذهبي إلا في أيام أوغسطس وطيباريوس نحو القرن الثامن من تأسيس رومية (القرن الأول للميلاد) ثم أخذ في التقهقر، ويقال نحو ذلك في دول أوربا الحالية، فإنَّ الشعر لم ينضج عندهم إلا بعد نشوء دولهم وتقدمهم في العلم والأدب.

أقسام الشعر

والشعر من حيث موضوعه ينقسم إلى قسمين كبيرين: الأول ما يُعبّر به الشاعر عن عواطفه وعواطف ذويه، والثاني ما يصف به أحوال الآخرين.

والأول هو الذي يسميه الإفرنج lyric أي الغنائي أو الموسيقي من lyre أي العود، ويدخل فيه حكاية كل ما تشعر به النفس من الحب والشوق والوجد والرثاء والحماسة والفخر والانتقام، أو ما علمته بطول الاختبار والتعقل كالأمثال والحكم ونحوها، والثاني يشمل سائر ضروب الشعر، ويدخل فيه الشعر القصصي الذي يسميه الإفرنج Epic وهو عبارة عن نظم الحوادث والوقائع شعرًا، والشعر الوصفي والتمثيلي Drama، فأشعار الأمم السامية أكثرها من النوع الأول، وخصوصًا العبرانيون فإنَّهم أرثى أهل الأرض وأبكاهم وأشكاهم، فالمزامير والمراثي ونحوها من قبيل العواطف، والأمثال الجامعة من قبيل الحكم، ويقال بالإجمال: إنَّ الخيال الشعري منصرف في العبرانيين إلى الإحساس الديني كالتعبد والشكوى والاستسلام، ويقال نحو ذلك في العرب، غير أنَّ الخيال الشعري فيهم منصرف إلى ما تدعو إليه أحوالهم من المفاخرة والحماسة والتشبيب وذكر السيف والفرس، وقد عدوا من أشعارهم بضعة عشر نوعًا معظمها من قبيل الشعر الغنائي، الذي يعبر به عن العواطف، كالغزل والفخر والمدح والهجاء والعتاب والاعتذار والزهد والرثاء والتهاني والوعد والتحذير والحماسة، وبعضها من قبيل الوصف كالزهريات والخمريات، وبعضها من قبيل العظة كالأدب والحكم، ولو تدبرت معانيها لرأيتها ترجع إلى التعبير عن عواطف الشاعر أو عواطف قبيلته.

وأما الشعر الوصفي أو القصصي فلا نقول إنه معدوم في العربية ولكنه قليل، وخصوصًا في الجاهلية، وأكثر ما عثروا عليه منه لا يخرج عن وصف بعض الأدوات أو الحيوانات أو بعض الوقائع القصيرة، وأمَّا الشعر القصصي — على نحو ما في إلياذة هوميروس أو شاهنامة الفردوسي — فلا وجود له عندهم، ولا يدل ذلك على أنَّهم لم ينظموا مثلهما، بل ويغلب على ظننا أنَّهم نظموا كثيرًا من أخبار حروبهم المشهورة بين قبائلهم، ونظرًا لعدم تدوينها ضاعت من محفوظهم إلا قطعًا بقيت إلى زمن تدوين الشعر في الإسلام، تقتصر القصيدة منها على وصف وقعة أو بعض وقعة من تلك الحروب، والمقام لا يُساعدنا على زيادة البحث.

وكان الشعر فطريًّا في العرب، يندر فيهم من لا يستطيعه حتى المجانين واللصوص،٣٣ ناهيك بالنساء فقد نبغ منهن جماعة كبيرة من الشواعر.
ومن لم يستطع الشعر لم يفته الاجتماع في المجالس العامة لسماعه أو تناشده، وكثيرًا ما كانت النساء يعقدن المجالس لتناشد الأشعار وذكر الشعراء ونقد أقوالهم وبيان ما يتفاضل به بعضهم على بعض،٣٤ وكان أكثرهم ينظمون الشعر، وهم أطفال لم ينظروا في الأدب أو الشعر٣٥ فمن شبَّ ولم تنفتق قريحته عدوا ذلك نقصًا فيه وعيبًا على أهله.

منزلة الشعر

فكانوا يثيرون بذلك غيرة أبنائهم على إتقان الشعر ويحرضونهم على نظمه؛ لأنَّ الشعراء كانوا حماة الأعراض وحَفَظَة الآثار ونَقَلَة الأخبار، وربما فضلوا نبوغ الشاعر فيهم على نبوغ الفارس، ولذلك كانوا إذا نبغ فيهم شاعر من قبيلة أتت القبائل الأخرى فهنأتها به وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان لاعتقادهم أنَّه حماية لأعراضهم وذب عن أحسابهم وتخليد لمآثرهم وإشادة لذكرهم،٣٦ وفي الواقع أنَّ ما بقي لنا من أخبار عرب الجاهلية وآدابهم وعلومهم وأخلاقهم إنَّما هو منقول عن أشعارهم.

فمن شعرهم استخرج الناس أخبار أيامهم وحروبهم، ومنه ألَّف السجستاني «كتاب المعمرين»، ومنه استخرجوا أحوال الشعراء المتقدمين، وألَّفوا الكتب كابن قتيبة وغيره، ومن شعرهم استخرجوا وصف البلاد والجبال والأودية والوهاد، ومنه ألفوا ما ألفوه في الحيوان والنبات، ككتاب الحيوان للجاحظ، والنبات لأبي حنيفة الدينوري، ومن أشعارهم استطلعوا أديانهم في أيام جاهليتهم، وقس على ذلك كل ما عرفوه من عاداتهم وآدابهم في الضيافة والفروسية والأعراس والمآتم وغيرها.

وقد ذكروا شعراء حموا أعراض قبائلهم ببلاغة شعرهم، كما حمى زياد الأعجم قبيلة عبد القيس من لسان الفرزدق، وكما حمى عتبة بن ربيعة بني قصي، وغيرهما كثيرون.٣٧

المعلقات

وقد بلغ من احترام العرب للشعر والشعراء أنَّهم عمدوا إلى سبع قصائد اختاروها من الشعر القديم وكتبوها بماء الذهب في القباطي (التيل المصري) بشكل الدرج الملتف وعلقوها في أستار الكعبة وهي المعلقات، ولذلك يقال لها المذهبات أيضًا، كمذهبة امرئ القيس ومذهبة زهير،٣٨ وبعضهم يجعل المذهبات غير المعلقات، ونخبة أشعارهم الجاهلية ٤٩ قصيدة لتسعة وأربعين شاعرًا تقسم إلى سبعة مجاميع كل مجموع سبع قصائد تعرف بلقب خاص وهي: المعلقات، والمجمهرات، والمنتقيات، والمذهبات، والمراثي، والمشوبات، والملحمات، وهي مجموعة في كتاب «جمهرة أشعار العرب» لأبي زيد الأنصاري.

تأثير الشعر

أما تأثير الشعر في حماية الأعراض فسببه ما فطر عليه العرب من الحماسة والخيال فيتأثرون بالكلام البليغ، وربما أقامهم البيت الواحد وأقعدهم.

ولذلك كانوا يخافون هجو الشعراء ويفتخرون بمدائحهم، حتى عمر بن الخطاب فإنَّه كان إذا عرض عليه الحكم بين شاعرين كره أن يتعرض للشعراء واستشهد رجالًا للفريقين مثل حسان بن ثابت وغيره،٣٩ وقد اشترى أعراضَ المسلمين من الحطيئة بثلاثة آلاف درهم ليؤكد الحجة عليه،٤٠ وبلغ من شدة خوفهم الهجاء لئلا يبقى ذلك محفوظًا في الأعقاب أنهم إذا أسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق، وربما شدوا لسانه بنسعة لئلا يهجوهم، كما صنعوا بعبد يغوث بن وقاص المحاربي حين أسره بنو تيم يوم الكلاب، وهو الذي يقول:
أقول وقد شدوا لساني بنسعة
أمعشر تيم أطلقوا من لسانيا
وتضحك مني شيخة عبشمية
كأن لم ترى قبلي أسيرًا يمانيا٤١

فكانوا يبذلون قصارى الجهد في أن يمدحهم الشعراء، ومن مدحوه ارتفعت منزلته وإذا كانت له بنات تزوَّجن،كما فعل الأعشى الأكبر بالمحلَّق إذ مدحه الأعشى بقصيدة أنشدها في سوق عكاظ فاشتهر وخُطِبَتْ بناته.

وكما فعل مسكين الدارمي في إنفاق الخُمُر السود بعد كسادها ببيتين وصف بهما مليحة عليها خمار أسود وهما:

قل للمليحة في الخمار الأسود
ماذا أردت بناسك متعبد
قد كان شمَّر للصلاة ثيابه
حتى قعدت له بباب المسجد
فرغب الناس في لبس الخُمُر السود فاشتروا منها ما كان عند ذلك التاجر،٤٢ وسيأتي باقي الكلام على تأثير الشعر في النفوس في كلامنا في العصر الإسلامي.

ألقاب الشعراء

وكان الشاعر يُلَّقب بلفظٍ ورد في بعض أشعاره، فعوف بن سعد بن مالك لقب بالمرقش لقوله:

الدار قفر والرسوم كما
رقش في ظهر الأديم قلم

وجرير بن عبد المسيح الضبعي لقب بالمتلمس لقوله:

فهذا أوان العرض حتى ذبابه
زنابيره والأزرق المتلمس

وزياد بن معاوية الذبياني لقب بالنابغة لقوله:

وحلت في بني القين بن جسر
وقد نبغت لنا منهم شؤون
ويقال نحو ذلك في سائر ألقابهم، كالمخرق وأفنون وتأبط شرًّا وأعصر والمستوغر والأعسر وطرفة وذي الرمة والمزرد وعويف وجران العود والعجاج وموسى الشهوات وابن قيس الرقيات وصريع الغواني وغبار العسكر ومقبل الريح وغيرهم.٤٣
وكانت قبائل العرب تتفاوت في شاعريتها، وأشعرها ربيعة ومنهم المهلهل والمرقَّشان الأكبر والأصغر، وطرفة بن العبد وعمرو بن قميئة والحارث بن حلزة والمتلمس والأعشى والمسيب الضبي، ثم انتقل الشعر إلى قيس ومنهم النابغتان وزهير بن أبي سلمى وربيعة ولبيد والحطيئة والشماخ وغيرهم، ثم استقر الشعر في تميم ومنهم أوس بن حجر شاعر مضر ويليهم هذيل وغيرها، وكان في حمير جماعة من الشعراء،٤٤ ومن الغريب أنَّ العرب كانت تقر لقريش بالتقدم عليها في كل شيء إلا الشعر فإنَّها كانت لا تقر لها به،٤٥ والظاهر أنَّ اختلاط العرب بالأعاجم كان يفتق قرائحهم ويحملهم على النظم، ولذلك كان أكثر القبائل شاعرية أقربهم إلى العراق، وأشعرهم من اختلط بالفرس، وأشعر من كليهما من عاشر الفرس والروم.

وبالجملة فقد كان الشعر شائعًا في العرب، ولم تخلُ قبيلة من شاعر أو أكثر يحمي ذمارها ويصف عواطفها، وكان الشعر عندهم مستودع الأخبار وخزانة الآداب والأخلاق، ولذلك قيل: الشعر ديوان العرب، ومن قبيل الشعر الأمثال، فإنَّها مرآة العادات والأخلاق والآداب وقد استخرج الناس كثيرًا من آداب العرب الجاهلية من أمثالها.

(٧) الخطابة في الجاهلية

الخطابة تحتاج إلى خيال وبلاغة، ولذلك عددناها من قبيل الشعر، أو هي شعر منثور وهو شعر منظوم، وإن كان لكل منهما موقف، فالخطابة تحتاج إلى الحماسة، ويغلب تأثيرها في أبناء عصر الفروسية وأصحاب النفوس الأبية طلاب الاستقلال والحرية، مما لا يشترط في الشعر، ولذلك تشابهت جاهلية العرب وجاهلية اليونان من هذا الوجه؛ لأنَّ كليهما أهل شعر وخطابة وأهل إباء واستقلال، ولذلك أيضًا كانت الخطابة رائجة عند الرومان، مع تأخر الشعر عندهم، ولنفس هذا السبب قصر العبرانيون في الخطابة مع تقدمهم في الشعر لغلبة الذل والضعف على طباعهم، فتحول خيالهم الشعري إلى الشكوى والتضرع وانصرفت قرائحهم إلى نظم المراثي والحكم.

أما العرب فقد قضى عليهم الإقليم بالحرية والحماسة، وهم ذوو نفوس حساسة مثل سائر أهل الخيال الشعري، فأصبح للبلاغة وقع شديد في نفوسهم، فالعبارة البليغة قد تقعدهم أو تقيمهم بما تثيره في خواطرهم من النخوة.

واقتضت المنازعات بينهم أنْ يتفاخروا ويتنافروا، فاحتاجوا إلى الخطابة في الإقناع وتأليف الأحزاب، وإن غلب في موضوعات خطبهم المفاخرة بالأحساب والآداب في المجالس والأندية العامة والخاصة، وكانوا يخطبون وعليهم العمائم وهم وقوف في أيديهم المخاصر، ويعتمدون على الأرض بالقسي ويشيرون بالعصي والقنا، وقد يخطبون وهم جلوس على رواحلهم.٤٦

ومما يدل على تشابه الشعر والخطابة أنَّ الغالب في الشعراء أن يخطبوا والخطباء أن ينظموا، فيكون الواحد شاعرًا وخطيبًا، فإذا غلب عليه الشعر سموه شاعرًا، أو الخطابة سموه خطيبًا، والقبائل التي كثر خطباؤها هي غالبًا التي كثر شعراؤها.

ومن أقوالهم في تاريخ الشعر والخطابة أنَّ عبد القيس بعد محاربة إياد تفرقوا فرقتين، ففرقة وقعت بعمان وشق عمان وفيهم خطباء العرب، وفرقة وقعت إلى البحرين وشق البحرين وهم من أشعر القبائل، ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية وفي معدن الفصاحة،٤٧ ويدل ذلك على ما قدمناه من نتائج احتكاك الأفكار عند الاختلاط بالأعاجم، ولهذا السبب كثر الخطباء أيضًا في اليمن لاختلاطهم بالفرس، وكان الفرس أهل خطابة مثل العرب.

موضوعات الخطب

وكان العرب يخطبون بعبارة بليغة فصيحة، وهم أميُّون لا يقرأون ولا يكتبون، وإنَّما كانت الخطابة فيهم قريحة مثل الشعر، وكانوا يدربون فتيانهم عليها من حداثتهم٤٨ لاحتياجهم إلى الخطباء في إيفاد الوفود مثل حاجتهم إلى الشعراء في حفظ الأنساب والدفاع عن الأعراض، ولكنهم كانوا يقدمون الشاعر على الخطيب في الجاهلية، فلمَّا جاء الإسلام صار الخطيب مقدمًا لحاجتهم إليه في الإقناع وجمع كلمة الأحزاب، ولكن نظرًا لحاجة العرب إلى الخطباء في إرسال الوفود فقد كان خطيب القبيلة عندهم عميدها وزعيمها، وهو واحد يعدل قبيلة ولسان يعرب عن السنة.

أما إيفاد الوفود فقد كان شائعًا في تلك العصور، فكانت دول الروم والهند والصين والفرس يتبادلون الوفود لمبادلة العلاقات أو للمفاخرة، ولم يكن للعرب دولة تستوفد من قبلها، ولكن المناذرة ملوك العرب في العراق كانوا يذكرون فصاحة العرب بين يدي الأكاسرة، وخصوصًا كسرى أنو شروان فكان يميل إلى مشاهدتهم، فاتفق مرة أنَّ النعمان خاطبه في ذلك فطلب إليه أن يريه واحدًا منهم، فاستقدم جماعة من خطباء العرب اختار من كل قبيلة اثنين أو ثلاثة هم في الحقيقة حكماؤهم ووجهاؤهم، ومنهم أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة من قبيلة تميم، والحارث بن ظالم، وقيس بن مسعود من قبيلة بكر، وخالد بن جعفر، وعلقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل من بني عامر وغيرهم، فقدموا على كسرى وخطب كل منهم بين يديه خطابًا ذكره ابن عبد ربه مفصلًا في الجزء الثالث من العقد الفريد.

على أنَّ عرب اليمن وشرقي جزيرة العرب كانوا يقدمون على كسرى للشكوى من عماله هناك، وكان غيرهم من العرب يفدون عليه بالهدايا من الخيل ونحوها على سبيل الاستجداء، كما فعل أبو سفيان والد معاوية.

وكانوا يفدون على الأمراء من العرب وغيرهم، كوفود حسان بن ثابت على النعمان بن المنذر بالحيرة وعلى آل جفنة في البلقاء، ووفود وجهاء قريش على سيف بن ذي يزن في اليمن بعد قتله الحبشة، فقد وفدوا عليه للتهنئة بالنصر، وكان في جملة خطباء ذلك الوفد عبد المطلب جدّ النبي ، ومن هذا القبيل وفود القبائل على النبي بعد أن استتب له الأمر، فقد جاءه من كل قبيلة وجهاؤها وخيرة بلغائها لاعتناق الإسلام أو للاستفهام أو غير ذلك، ومن هذا القبيل وفود العرب على الخلفاء للتسليم والتهنئة، كوفود جبلة بن الأيهم وعمرو بن معد يكرب على عمر بن الخطاب، ووفود أهل اليمامة على أبي بكر وغيرهم مما يطول شرحه.

الخطباء

وجملة القول أنَّ الخطباء كانوا عديدين في النهضة الجاهلية كالشعراء، والغالب فيهم أن يكونوا أمراء القبائل، أو وجهاءها، أو حكماءها، وكان لكل قبيلة خطيب أو أكثر كما كان لها شاعر أو أكثر، وأشهر خطباء الجاهلية قس بن ساعدة من بني إياد، أدركه النبي فرآه في سوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول في خطابه: «أيها الناس، اجتمعوا فاسمعوا وعوا: من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت».٤٩

ومنهم سحبان وائل الباهلي الذي يُضرب المثل بفصاحته فيقال: «هو أخطب من سحبان وائل». وكان إذا خطب يسيل عرقًا، ولا يعيد كلمة ولا يتوقف، ولا يقعد حتى يفرغ، ومنهم جماعة كبيرة من حمير، كدويد بن زيد، وزهير بن خباب، ومرثد الخير، وغيرهم من سائر القبائل، كالحارث بن كعب المذحجي، وقيس بن زهير العبسي، والربيع بن ضبيع الفزاري، وذي الأصبع العدواني، وأكثم بن صيفي التميمي، وعمرو بن كلثوم التغلبي وكثيرين غيرهم.

وكانوا يتخيرون في خطبهم الألفاظ المألوفة الرقيقة المعاني، وكانت خطبهم على ضربين: الطوال والقصار، والقصار أكثر عددًا لأنَّهم كانوا يفضلونها لسهولة حفظها، وكانوا لشدة عنياتهم بالخطب يتوارثونها ويتناقلونها في الأعقاب ويسمونها بأسماء خاصة، كالعجوز اسم خطبة لآل رقية، والعذراء خطبة قيس بن خارجة، والشوهاء خطبة سحبان وائل.٥٠

(٨) مجالس الأدب وسوق عكاظ

كان العرب يعقدون المجالس لمناشدة الأشعار ومبادلة الأخبار والمسامرة أو البحث في بعض الشؤون العامة، وكانوا يسمون تلك المجالس الأندية، ومنها نادي قريش ودار الندوة كانت بجوار الكعبة، على أنهم كانوا حينما اجتمعوا على فراغ من العمل عمدوا إلى المناشدة والمفاخرة والمسامرة، وخصوصًا في المواسم المعبر عنها بالأسواق.

الأسواق

والمراد بالسوق مكان يجتمع فيه أهل البلاد أو القرى في أوقات معينة، يتبايعون ويتداولون ويتقايضون، ولا تزال أمثال هذه الأسواق تقام إلى اليوم في القرى أو في البلاد البعيدة عن التمدن الحديث، على أنَّ في بعض المدن الكبرى — كالقاهرة مثلًا — أسواقًا تنعقد في بعض أيام الأسبوع وتعرف بها، كسوق السبت — أو السبتية — وسوق الثلاثاء أو الأربعاء، فيجتمع إليها الناس من الضواحي للبيع والشراء.

ومن هذه الأسواق ما ينعقد كل أسبوع، ومنها ما لا ينعقد إلا مرة في الشهر، أو في السنة، ومنها ما ينعقد مرة كل بضع سنين، فإنَّ للهنود سوقًا يقيمونها في هردوار على ضفاف الكنج كل سنة ويبلغ عدد المجتمعين هناك في الموسم ٣٠٠٠٠٠ نفس، ويقيمون في ذلك المكان حجًّا مرة كل ١٢ سنة يبلغ عدد الحجاج إليه نحو مليون نفس، وهو أكبر أسواق العالم، وكانت أمثال هذه الأسواق كثيرة في روسيا وبلاد الدولة العثمانية وفي ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وأمريكا، فقد كانت في روسيا سوق تُقام في مدينة نوفكرود مرتين في السنة يبلغ عدد الذين يؤمونها ١٢٠٠٠ نفس يجتمعون هناك من سائر بلاد روسيا ومن شرقي أوربا، ويقدرون قيمة ما يباع من البضائع في أسواق روسيا بنحو ١٢٠٠٠٠٠٠ روبل في العام، وقس على ذلك سائر الأسواق الكبرى.

وقد كان كثير من أمثال هذه الأسواق في العالم القديم، لكن الأقدام لا تتزاحم فيها إلا إذا كان الغرض من الاجتماع حجًّا دينيًّا، فإذا اجتمع الناس في مكان الحج وتكاثروا احتاجوا إلى من يبيعهم الأطعمة والأشربة وغيرها، فتقام الأسواق لهذه الغاية.. كذلك شأن العرب في سوق عكاظ وغيرها من أسواق الجاهلية.

أسواق العرب

كان للعرب في الجاهلية أسواق يقيمونها في أشهر السنة وينتقلون من إحداها إلى الأخرى، يحضرها العرب من قرب منهم ومن بعد، فإذا فرغوا من سوق انتقلوا إلى سواها، فكانوا ينزلون دومة الجندل في أعالى نجد أول يوم من شهر ربيع الأول، فيقيمون أسواقًا للبيع والشراء والأخذ والعطاء، ثم ينتقلون إلى سوق هجر فيقيمون هناك شهرًا، ويرتحلون منها إلى عمان فيقيمون سوقهم، ثم يرتحلون إلى حضرموت فعدن، وبعضهم ينزل إلى صنعاء فيقيمون أسواقهم، ثم يرتحلون إلى عكاظ في الأشهر الحرم، وكانت لهم أسواق أُخر في صحار والشحر والمجنة وحباشة والمشقر وغيرها.٥١

سوق عكاظ

وأشهر أسواق العرب الجاهلية سوق عكاظ، وهي مكان بين الطائف ونخلة، فكانت العرب إذا قصدت الحج أقامت بهذه السوق من أول ذي القعدة، يبيعون ويشترون إلى عشرين منه، ثم يتوجهون إلى مكة فيقضون مناسك الحج ثُمَّ يعودون إلى أوطانهم، وكان كل شريف إنَّما يحضر سوق بلده، إلا عكاظ فإنَّهم كانوا يتوافدون إليها من كل ناحية، ومن كان له أسير سعى في فدائه هناك، ومن كانت له حكومة ارتفع إلى الذي يقوم بأمر الحكومة في أيام المواسم وهم أناس من تميم، ومن كان له ثأر على أحد ولم يعرف مكانه طلبه في الموسم، أو أراد أحد أن يعمل عملًا تعرفه العرب أو يستشهدها فيه عمله في عكاظ،٥٢ أو أراد أن يفاخر أحدًا على مشهد من الناس فَاخَرَهُ هناك، كانوا يتفاخرون حتى في كبر المصائب — ذكروا أنَّ الخنساء لما أصيبت بمصابها المشهور أعلنت أنها أكبر العرب مصيبة، فبلغ ذلك هند بنت عتبة، وكانت تعتقد أنَّها أكبر مصيبة منها، فأمرت بهودجها فسوم براية وشهدت الموسم بعكاظ فقالت: «اقرنوا جملي بجمل الخنساء» ففعلوا. فلما دنت منها قالت لها الخنساء: «من أنت يا أخية؟» قالت: «أنا هند بنت عتبة، أعظم العرب مصيبة. وقد بلغني أنك تعاظمين العرب بمصيبتك، فبم تعاظمينهم؟» فقالت الخنساء: «بعمرو بن الشريد، وصخر ومعاوية ابني عمرو، فبم تعاظمينهم أنت؟» قالت: «بأبي عتبة بن ربيعة، وعمي شيبة بن ربيعة، وأخي الوليد» قالت الخنساء: «أو سواء هم عندك؟» ثم أنشدت تقول:
أبكِّي أبي عمرًا بعين غزيرة
قليل إذا نام الخلي هجودها
وصنويَّ لا أنسى معاوية الذي
له من سراة الحرتين وفودها
وصخرًا، ومن ذا مثل صخر إذا غدا
بسلهبة الأبطال قبا يقودها؟
فذلك يا هند الرزية فاعلمي
ونيران حرب حين شب وقودها

فقالت هند تجيبها:

أبكِّي عميد الأبطحين كليهما
وحاميَها من كل باغ يريدها
أبي عتبة الخيرات ويحك فاعلمي
وشيبة، والحامي الذمار وليدها
أولئك آل المجد من آل غالب
وفي العز منها حين ينمي عديدها٥٣

فإذا كانت هذه حالهم في المفاخرة بالمصائب، فكيف بالأنساب والأحساب والشجاعة والفضل؟ ولذلك كثر الخصام هناك وانتشبت عدة مواقع لا محل لذكرها هنا.

وإنَّما يهمنا في هذا المقام أنَّ العرب كانوا يغتنمون وقت الموسم واجتماع القبائل، ويقيمون مجالس البحث والمناشدة والمفاخرة، فينشد الشعراء ويخطب الخطباء فيختارون كبيرًا من وجهائهم يجعلونه حكمًا فيما يختلفون فيه، وكان النابغة الذبياني إذا أتى عكاظ في الموسم ضربوا قبة حمراء من أدم، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها،٥٤ ليحكم فيها، ويُقال إنَّهم كانوا إذا أقروا على فضل قصيدة علقوها هناك أو في الكعبة، ومنها المعلقات السبع.
وشأن العرب في ذلك مثل شأن اليونان القدماء في الجمناسيوم، وهي أبنية كانوا يجتمعون فيها للألعاب البدنية، وفيهم الفلاسفة والعلماء فكانوا يغتنمون فرصة وجودهم هناك ويتباحثون ويتناظرون ويتنافرون، كما كان يفعل العرب في عكاظ، ولا يخفى ما في ذلك من تمحيص الحقائق واستحثاث القرائح، فضلًا عما كان يترتب على ذلك الاجتماع من تنقيح اللغة ونموها، فإنَّ قريشًا كانوا يسمعون لغات القبائل في أثناء تلك الاجتماعات، فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به، فصاروا أفصح العرب وخلت لغتهم من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ، كالكشكشة والكسكسة والعنعنة والفخفخة والوكم والوهم والعجعجة والاستنطاء والشنشنة، وغير ذلك من العيوب في لغات الأمم الأخرى.٥٥

(٩) الأنساب في الجاهلية

الأنساب

كان للأنساب في عصور الجاهلية عند الأمم القديمة شأن كبير، وكان للناس عناية عظمى في حفظ أنسابهم للتناصر على الأعداء أو التفاخر بالآباء، وقد بالغ اليونان في ذلك حتى حفظوا أنساب آلهتهم وكيفية تسلسلها بعضها من بعض، ثم نسبوا أنفسهم إليها، فلم يكن في جاهلية اليونان أسرة كبيرة من الأشراف ورجال السلطة إلا وحبل نسبها يتصل ببعض تلك الآلهة.

وقد نظم بعضهم الأشعار للتفاخر بذلك قبل المسيح ببضعة قرون، وكذلك كان الرومان في أقدم أجيالهم، فالطبقة التي تعرف عندهم بالبطارقة Patricü كانوا يدَّعون الانتساب إلى آباء أعلى طبقة من البشر، ومن هذا القبيل انتساب اليهود إلى الآباء الأولين والأنبياء وافتخارهم بذلك على سائر الأمم، وهم يمتازون في هذا عن اليونان والرومان بأنهم يرجعون جميعًا إلى أب واحد — وهذا أيضًا من قبيل ميلهم الفطري إلى التوحيد مثل سائر الأمم السامية.

نسب العرب

والعرب من حيث أنسابهم فرع من العبرانيين؛ لأنَّ العدنانيين منهم يرجعون في أصل آبائهم الأولين إلى إسماعيل بن إبراهيم، والقحطانيين ينتسبون إلى يقطان بن عابر، وقد زادت عناية العرب في الأنساب رغبة في التناصر على الغرباء أو بعضهم على بعض، وقد رتبت أنساب العرب في ست مراتب أو طبقات، أولها الشعب ثم القبيلة فالعمارة فالبطن فالفخذ فالفصيلة، فالشعب النسب الأبعد مثل عدنان وقحطان، ثم القبيلة وهي ما انقسمت فيها أنساب القبائل مثل قريش وكنانة، ثم البطن وهو ما انقسمت فيه أنساب العمارة مثل بني عبد مناف وبني مخزوم، ثم الفخذ وهو ما انقسمت فيه أنساب البطن مثل بني هاشم وبني أمية، ثم الفصيلة مثل بني أبي طالب وبني العباس.٥٦
وبالغ العرب في الرجوع إلى الأجداد حتى رجعوا بأسماء المدن إلى أسماء بعض أجدادهم، والغالب أن ينتهي النسب بأحد آباء التوراة، فإذا سُئل أحدهم مثلًا عن الأندلس: من بناها؟ قال: «بناها أندلس بن يافث بن نوح»،٥٧ وكان النسابون يحفظون أسماء القبائل وما يتفرع منها حفظًا دقيقًا، فإذا عرض لهم رجل فقال: أنا من بني تميم — مثلًا — فانسبني، فإنَّه يبدأ من قبيلة تميم وما تفرع منها من العمائر والبطون والأفخاذ حتى ينتهي إلى الفصيلة، ومنها إلى والد السائل أو إليه هو نفسه.
وكثر النسابون في الجاهلية، ولم تخلُ قبيلة أو عمارة أو بطن من نسَّابة أو أكثر، ومن أشهرهم دغفل السدوسي من بني شيبان، وعميرة أبو ضمضم وابن لسان الحمرة من بني تيم اللات، وزيد بن الكيس النمري، والنخار بن أوس القضاعي، وصعصعة بن صوحان، وعبد الله بن عبد الحجر بن عبد المدان وغيرهم،٥٨ وظل النسب محفوظًا في صدر الإسلام، واشتهر كثير من النسابين، فلما آلت الدولة إلى الموالي والمصطنعين صار الناس ينتسبون إلى مواليهم ومصطنعيهم.

(١٠) التاريخ

لم يكن عند عرب الجاهلية تاريخ من قبيل ما نفهمه من هذه اللفظة اليوم، ولكنهم كانوا يتناقلون أخبارًا متفرقة بعضها حدث في بلادهم والبعض الآخر نقله إليهم الذين عاشروهم من الأمم الأخرى، فمن أمثال أخبارهم حروب القبائل المعروفة بأيام العرب، وقصة سد مأرب، واستيلاء أبي كرب تبان أسعد على اليمن، وبعض من خلفه، وملك ذي نواس، وقصة أصحاب الأخدود، وفتح الحبشة لليمن، وقصة أصحاب الفيل وقدومهم الكعبة، وحرب ذي يزن الحميري إلى آخر ما انتهى إليه أمر الفرس في اليمن، وقصة عمرو بن لحي وأصنام العرب، وحكاية جرهم ودفن زمزم وتاريخ الكعبة إلى أيام قُصي بن كلاب، وولاية الحج وأمر عامر بن الظرب، ثم ما كان من غلب قصي على أمر مكة، وقصة حلف المطيبين وحلف الفضول، وحفر بئر زمزم وحرب الفجار وحديث بنيان الكعبة، غير أخبار عاد وثمود وغيرهما من العرب البائدة، وحكاية بلقيس وسُليمان ونحوهما من أخبار التوراة، وغير ذلك من الأخبار التي كان العرب يتناقلونها عند ظهور الإسلام.

الخلاصة

وجملة القول أنَّ ما سميناه علوم العرب قبل الإسلام يبلغ إلى بضعة عشر علمًا، فلما جاء الإسلام أهمل بعضها كالكهانة والعيافة والقيافة، وبقي بعضها عند أهله، ونشأ ما يقوم مقامه في عصر الحضارة، كالنجوم والأنواء ومهاب الرياح والطب والخيل، وارتقى الباقي واتسع عمّا كان في الجاهلية، كالشعر والخطابة والبلاغة، وكان الإسلام مساعدًا على ارتقائها بالقرآن الكريم.

١  مختصر تاريخ الدول لابن العبري ٢٢٦.
٢  القزويني على هامش الدميري ٥٠ ج١.
٣  البِيروني ٢٣٨.
٤  البيروني ٣٤١.
٥  البيروني ٣٣٩.
٦  الميداني ٣٠٢ ج١.
٧  البيروني ٣٣٦.
٨  Rawlinson’s Ancient Monarchies, III. 425.
٩  الميداني ١٠٩ ج١.
١٠  البيروني ٣٤٠.
١١  الميداني ٣١٢ ج٢.
١٢  الدميري ١٨ ج٢.
١٣  السيرة الحلبية ٤٨ ج١.
١٤  السيرة الحلبية ٣٦ ج١.
١٥  كشف الظنون ٣٣٩ ج٢.
١٦  الأغاني ١١٠ ج١٣.
١٧  السيرة الحلبية ٢٩١ ج١.
١٨  بغية الطالبين ٢٥٨.
١٩  الأغاني ١٣٧ ج١٣.
٢٠  الأغاني ١٣١ ج١٤.
٢١  الأغاني ٣٢ ج١٠.
٢٢  طبقات الأطباء ١١٦ ج١.
٢٣  المعارف لابن قتيبة ١٩٤.
٢٤  شعراء السريان ١.
٢٥  المزهر ٢٤٣ ج١.
٢٦  الشعر والشعراء ٥٢.
٢٧  Lit. Hist. of India, 213.
٢٨  ابن خلكان ١٢١ ج١.
٢٩  النجوم الزاهرة ٤٢٠ ج١.
٣٠  ابن خلكان ١٢١ ج١ وطبقات الأدباء ١٥١.
٣١  الشعر والشعراء ٤.
٣٢  المزهر ٢٣٧ ج٢.
٣٣  البيان والتبيين ١٦٤ ج٢.
٣٤  الأغاني ١٥٠ ج١.
٣٥  ابن خلكان ٢٣ ج١.
٣٦  المزهر ٣٣٦ ج٢.
٣٧  بلوغ الأرب ٦١ ج٣.
٣٨  العقد الفريد ٩٣ ج٣.
٣٩  البيان والتبيين ٩٧ ج١.
٤٠  فوات الوفيات ٩٩ ج١.
٤١  البيان والتبيين ١٧١ ج٢.
٤٢  ابن خلكان ٤٤٦ ج١.
٤٣  لطائف المعارف ١٧.
٤٤  بلوغ الأرب ٩٣ ج٣.
٤٥  الأغاني ٣٥ ج١.
٤٦  البيان والتبيين ٢٠ ج٢.
٤٧  البيان والتبيين ٤٢ و١٣٩ ج١.
٤٨  البيان والتبيين ٥٨ و٩٨ ج١.
٤٩  البيان والتبيين ١١٩ ج١.
٥٠  البيان والتبيين ١٣٣ ج١.
٥١  نهاية الأرب «خط».
٥٢  الأغاني ٢ ج١٣.
٥٣  الأغاني ٣٥ ج٤.
٥٤  الشعر والشعراء ١٦٧.
٥٥  المزهر ١٠٩ ج١.
٥٦  الماوردي ١٩٤.
٥٧  ابن خلكان ١٤ ج١.
٥٨  بلوغ الأرب ١٩٦ ج٣، والبيان والتبيين ١١٨ ج١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤