مقدمة

أعتقد أن «ديدرو» هو الذي حاول أن يوضح لابنته الأصول الفلسفية للأخلاق الفاضلة حينما كانت تنتقل في مجال حياتها من مرحلة الطفولة إلى سن الشباب، فلما أخفق في كشف مثل هذه الأسس وجد نفسه في ورطة محيرة، ومع ذلك فإن «ديدرو» في ممارسته لشئون الحياة الواقعية لم يتنحَّ عن اعتقاده الجريء في قيمة السلوك الفاضل.

ففي عصر كالذي نعيش فيه — وهو العصر الذي نجد فيه خَلقًا كثيرًا لا ينكرون عقيدة «ديدرو» كل الإنكار، وإنما يتمسكون بمقاييسهم الشخصية للفضيلة — يشعر الإنسان بحاجته إلى وسيلة تمكنه من النظر إلى الوراء في الأجيال الغابرة من حياة البشر، ليتدبر بعين بصيرته بعض الأسس التاريخية التي بُنيت عليها آراؤنا في السلوك الفاضل.

ولقد مرت على الإنسان فترة من الزمن كان لا يحس فيها مطلقًا بعنصر السلوك، وذلك حينما كان كل ما يأتيه من الأعمال يأتي عن طريق الغريزة؛ لذلك يعد شعوره لأول مرة بالسلوك أو الأخلاق تقدمًا هائلًا في حياة البشر، وقد صار هذا التقدم أعظم خطرًا عندما سما الإنسان إلى درجة أدرك فيها أن من السلوك ما يستحسن وما يستهجن، فكان ظهور هذا الإدراك خطوة نحو انبثاق الضمير. فلما أخذ الضمير في النمو أصبح في النهاية قوة اجتماعية عظيمة، وصار له بدوره أثر في ذلك المجتمع الذي أخرجه من قبل إلى عالم الوجود.

ففي حياة الصياد في عصر ما قبل التاريخ الذي كان يكافح بين ذوات الثدي المتوحشة الهائلة التي كانت تحيط به، بدأ يسمع همسًا من عالم جديد كان ينبثق فجره في باطنه، وكان هذا الهمس بمثابة بوق جديد يختلف عن همس ألم الجوع أو الخوف الذي يشعر به الإنسان للمحافظة على كيانه؛ إذ لم يكن يقتصر هذا البوق على تحريك إحساس واحد فحسب تاركًا كل المشاعر الأخرى هادئة مطمئنة، بل حرك لأول مرة كل العوامل النفسية معًا. فما هو المنبع الذي خرجت منه كل هذه الأصوات الباطنة؟ وكيف اكتسبت تلك القوة الآمرة في حياة الإنسان الفردية؟ وكيف أنها نهضت حتى أصبحت قوة راسخة مسيطرة في المجتمع الإنساني؟ لا شك أن ذلك كان تقدمًا عظيمًا وتغييرًا أساسيًّا. ونحن نكرر هنا أن كل هذا التقدم كان رحلة اجتماعية تقع مراحلها الأخيرة في متناول مدى ملاحظاتنا؛ لأنها حدثت في العصر التاريخي؛ أي في العصر الذي ظهرت فيه الوثائق المدونة. وقد ساعدنا حل رموز اللغات الشرقية القديمة على قراءة ما وصل إلينا من السجلات المكتوبة، فكشفت لنا عن فجر الضمير، وعن الأطوار التي صار بها قوة اجتماعية، وتمخضت لنا عن عصر الأخلاق؛ ذلك العصر الذي ما زلنا نقف عند أول مرفأة فيه. والأرجح أن هذا التطور استغرق أمدًا طويلًا لا يقل عن مليون سنة، استطاع الإنسان في نهايته أن يبني تلك الحياة الراقية التي بدأ يبرز منها عصر الأخلاق. ولم يبلغ هذا الانتقال البطيء ذروته إلا بالأمس، وإن كان الإنسان في يومنا لا يشعر حتى الآن بأنه دخل حديثًا جدًّا في مملكة جديدة لم يتعلم حتى الآن كيفية الاستيلاء عليها.

على أن إخفاق الإنسان في إدراك أنه يتجول في مملكة مجهولة له لم يدخلها إلا حديثًا، يرجع بعض الشيء إلى مؤرخيه، فإنهم يعلِّمونه أن التاريخ البشري ينقسم إلى عصور عظيمة مثل عهد الملكية وعهد الإمبراطوريات وعهد الديموقراطيات إلخ. إن التقسيم على هذا النمط مفيد مهذب للأذهان، غير أنه مع ذلك لا يتعمق بعيدًا في طبيعة حياة الإنسان السائرة نحو الرقي. ويوجد طراز آخر من المؤرخين يعترفون بأهمية «عصر الآلات وما يتبعه من الانقلاب الصناعي» في حين أن المهندسين المتحمسين ينشدون للحكم (الآلي) الميكانيكي؛ يلخصون رقي الإنسان بتعبيرات كلها تتعلق باستخدام القوة. ومن جهة أخرى يجد علماء الآثار أنه من السهل عليهم أن يقسموا تاريخ حياة الإنسان إلى عصور عدة: العصر الحجري، وعصر استعمال النحاس، وعصر استعمال الشبه (البرنز)، وعصر استعمال الحديد.

في حين أن مؤرخ علم الأحافير النباتية والحيوانية Paleontologists بعد أن يعدد سلسلة عظيمة تشمل الأطوار المتتالية لحياة الحيوان الناهضة، ويقص علينا أننا نقترب الآن من ختام عصر ذوات الثدي، ومع أن هذه التقسيمات ملائمة أو ضرورية فإنها من غير شك لا تزال من بعض الوجوه سطحية، بل إن الاصطلاحين: «عصر الديموقراطية» و«عصر الميكانيكا» على حسنهما لا يدلان إلا على القليل من التحرر الفكري الذي كان سببًا في وجودهما. أما التقسيمات التي تكون أكثر فائدة وأعظم أهمية، وتدل في آنٍ واحد على أطوار التقدم الإنساني، فهي التي تكون على نحو «عصر الضمير والأخلاق» (الذي بدأ منذ نحو خمسة آلاف سنة)، وعصر العلوم الذي جاء به «جليليو» منذ أكثر من ثلاثمائة سنة.

والواقع أن كتابة التاريخ حتى الآن لم تعطِ سوى القليل من العناية لهذه التطورات الإنسانية الأساسية.

لقد صار الإنسان أول صانع للأشياء بين مخلوقات الكون كله قبل حلول عصر الجليد، والأرجح أن ذلك كان منذ مليون سنة، بل ربما قبل ذلك الأمد. وقد صار في نفس الوقت أول مخترع للأسلحة، وعلى ذلك بقي نحو مليون سنة يحسن هذه الآلات، ولكنه من جهة أخرى لم يمضِ عليه إلا أقل من خمسة آلاف سنة منذ أن بدأ يشعر بقوة الضمير إلى درجة جعلته قوة اجتماعية فعاله. أي إن القوة الجسمانية تشد أزرها قوةُ العلم السامية مدة الثلاثة القرون الأخيرة بقيتْ تعمل في صنع الآلات الحربية الدقيقة الصنع فيزداد تحسنها باستمرار، حوالي مليون سنة؛ في حين أن قوة الإنسان الباطنة التي تفوق تلك القوة المادية في رفعتها؛ وأعني بها القوة التي نهضت من التجارب الاجتماعية، لم تعمل في المجتمع إلا منذ حوالي خمسة آلاف سنة فقط. فلا شك إذن في أن عصر السلاح يبلغ عمره مليون سنة مع أن عصر الأخلاق قد شق طريق بدايته البطيئة تدريجًا منذ نحو أربعة آلاف أو خمسة آلاف سنة. وقد حان الوقت الذي يجب فيه على العالم الحديث أن يدرك شيئًا من أهمية هذه الحقيقة البالغة، بل يجب أن تصبح دراسة ذلك جزءًا من التربية الحديثة. لذلك كان الغرض من هذا الكتاب هو إبراز الحقائق التاريخية، واستعراض المصادر القديمة الهامة التي استقيت منها أمام القارئ، فيظهر لنا بذلك أننا ما زلنا واقفين في غبش فجر عصر الأخلاق. لا بأس أن يكون ذلك قاعدة لأحلام ضحى لا يزال في الواقع بعيدًا جدًّا عنا، ولكنه لا محالة آتٍ وراء ذلك الفجر.

وبعد الفراغ من وضع هذا المؤلف فطنت إلى ملاحظة «إمرسون» في مقاله السياسي؛ تلك الملاحظة المتنبئة التي وضعتها على صفحة عنوان هذا الكتاب، وهي ملاحظة غابت عن ذاكرتي منذ عدة سنين مضت. ولقد أصاب «إمرسون» (قس مقاطعة نيو إنجلند) كبد الحقيقة بما أوتيه من قوة التصور الإلهامية بهذه الكلمة التي قالها، والتي تعد أبرز حقيقة في مدى الحياة العصرية قاطبة؛ وذلك أنه في عصر «إمرسون» كانت تلك الحقيقة التي فاه بها لا يمكن أن يدلل على صحتها بأكثر من كونها مجرد اعتقاد أو إحساس شخصي، ولكن منذ أن تواري ذلك الحكيم كشفت لنا بحوث تاريخ الشرق القديم أنها حقيقة تاريخية. ولذلك كان الغرض من هذا الكتاب أن يجعل في متناول القارئ المتوسط الاطلاع الأدلة التاريخية التي كانت أساسًا لمعرفتنا الجديدة لهذه الحقيقة العظيمة الشأن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤