الخاتمة

إن زبدة جميع الأشياء، وما ترمي الحرية
والتعليم والمخالطة والثورات إلى تكوينه ومنحه،
هو «الأخلاق»، كما أن غاية الطبيعية هي أن
تصل بمليكها (الإنسان) إلى هذا التتويج (يعني الأخلاق).
عن إمرسون Emerson من مقال له في السياسة
إني أحب التاريخ؛ لأنه يظهر لي نشأة
العدالة وتقدمها، ويزيد من تقديري
لجماله أنني أرى فيه منتهى ارتقاء الطبيعة.
عن رسائل للكاتب «ﻫ. تين» H. Taine

(١) الطبيعة ومصادقتها للبشرية

يُحكى عن «هيكل» Haeckel المتخصص في علم الحياة أن بعض الناس سأله ذات مرة السؤال المثير للنفس الآتي:

إذا فُرض أنه كان في مقدورك أن توجِّه إلى «الكون» سؤالًا، وكنت واثقًا من أنك ستتلقى الإجابة الحقيقية، فما هو ذلك السؤال الذي كنت ترغب في توجيهه إليه؟

عندئذ ظل «هيكل» غارقًا في التفكير بضع لحظات، ثم قال: إن السؤال الذي أفضِّل أن أسمع الإجابة عنه أكثر مما عداه هو: «هل الكون مصادق للبشرية؟»

والواقع أننا هنا أمام سؤال عميق ملهم.

فإن التطور الخلقي الذي تتبعنا خطواته في الفصول السابقة يمكننا الآن من مناقشة سؤال الأستاذ «هيكل» هذا في ضوء حقائق ثبتت لنا أخيرًا، ويحتمل أن بعضها كان غير معروف له؛ إذ ذاك، وإن كانت لا غنى عنها في هذه المناقشة.

وقد جرى العرف من زمن بعيد بأن مهمة المؤرخ هي أن يعرض النتائج التي وصل إليها، وأن يشير بقدر المستطاع إلى الوثائق الأصلية التي نبتت منها نتائجه، وبعد ذلك يكون قد أدى واجبه وليس له أن يدخل في المغازي الخلقية، بل تعد مهمته منتهية عند ذلك الحد.

فإذا كان القارئ قد احتفظ بما يلزم من الصبر في مطالعته، فإنه لا بد قد استطاع الإلمام بأهم الأدلة المدوَّنة التي تكشف لنا عن أصول أخلاقنا الموروثة وتاريخها المبكر كما جاءت مرتبة في فصول هذا الكتاب. وإني كمؤرخ لا يحق لي ذكر شيء فوق ما تحتاجه هذه الأدلة من مناقشة، غير أن ما لهذه الأدلة نفسها وللنتائج الناشئة عنها من الأهمية البعيدة المدى يرغبني في الإدلال ببعض ملاحظات إضافية خارجة في الأصل عن دائرة اختصاصي، ولا سيما أن خاتمة كتاب ما — إذا كان هناك شيء يسمى بهذا الاسم — تسمح بأن يدلي المؤلف فيها بكل ما يروقه قوله.

والآن نعود إلى سؤال الأستاذ «هيكل»، إنني مع شعوري بشيء من الاعتزاز بالرأي أقول إني كنت أود أن أسأله هو السؤال التالي: «من أين أتيت بكلمة «مصادق» هذه؟» ذلك لأن الأستاذ «هيكل» قد اعتبر مدلول كلمة «مصادق» أمرًا بديهيًّا كما يعتبر المؤرخ الطبيعي المادة عاملًا من عوامل بحثه دون أن يطالب بتفسيره.

ولكن مدلول كلمة «مصادق» ليس أمرًا بديهيًّا، بل إن مجرد ظهورها في سؤال الأستاذ «هيكل» هو في الواقع إجابة عن السؤال نفسه، وكان من الواجب أن يسأل عن إيضاح تلك الكلمة؛ فلولا أن الأستاذ «هيكل» قد مات منذ زمن طويل لكان من الأمور الشائقة أن نسمع إجابته عن ذلك، ومن المحتمل أن إجابته كانت تكون شيئًا شبيهًا بما يأتي:

ولِمَ هذا؟ «إن كلمة «مصادق» كلمة مألوفة في جميع اللغات الحديثة المتمدينة.»

ولكن المعترف به من زمن بعيد هو أن اللغة أكثر من مجرد أداة نقل للتعبير عن الفكر، بل الواقع أن اللغة هي أداة نقل مؤلفة من تجاريب البشر، لدرجة أنها من الوجهة التاريخية تعتبر إلى حدٍّ ما سجلًّا لتجاريب البشر في جميع نواحيها المتعددة، سواء أكانت اجتماعية أم صناعية أم علمية أم ميكانيكية أم فنية أم خلقية أم دينية أم حكومية، إلى غير ذلك. فإذا توجهنا بنظرنا مثلًا إلى سلعة هامة من نتائج تجاريبنا الميكانيكية في الوقت الحاضر، وهي السيارة، فإننا نجد أن الكلمات «جراج» و«شوفير» (سائق) و«شاسي» (الجزء الأسفل من هيكل السيارة) «وتُنُّو» (نوع من العربات) ونحوها قد بدأ استعمالها ينتشر في اللغة الإنجليزية منذ حوالي جيل من الزمن، وسيستمر ظهور هذه المجموعة الصغيرة من الكلمات بأصلها الأجنبي إلى ما قد يبلغ آلاف السنين برهانًا على حقيقتين تاريخيتين في تجاريبنا؛ الأولى: ظهور استعمال «الأتوموبيلات» في أواخر القرن التاسع عشر، والثانية: أن أصل «الأتوموبيل» ومبدأ استعماله العام كمخترع عملي يرجع إلى فرنسا.

ومن الأمثلة الشائقة التي يمكن اقتباسها من الحياة البشرية المبكرة كلمة «ببلوص» Biblos التي يحتمل أنها ظهرت في أوروبا في وقت يرجع إلى حوالي عام ١٠٠٠ق.م، وقد أدخلت في اللغة الإغريقية بمدلول كلمة «بابيروس» (ورق). ويعد ظهور هذه الكلمة في اللغة الإغريقية قبل سنة ٥٠٠ق.م بعدة قرون (على الأرجح) دليلًا على وقت بداية دخول الورق في أوروبا، كما يعتبر اسمه غير اليوناني — يعني اسمه الأجنبي الذي اشتقَّت منه كلمتنا «بيبل» ومعناها «التوراة» — دليلًا قاطعًا على أن مدينة «ببلوص» الفينيقية الواقعة على ساحل سوريا الشمالي كانت هي المصدر المباشر لأول ورق استعمل في أوروبا.

وهكذا نجد في مدفون طيات اللغة إيضاحًا لمنشأ اختراعين بشريين ملموسين تمامًا، وهما «الأتوموبيل» الذي بدأ استعماله في عصرنا الحالي، والورق (البابيروس) الذي كان أول دخوله إلى أوروبا منذ زمن يزيد على خمسة وعشرين قرنًا. وما يسري على هاتين الكلمتين من حيث إدلائهما بالمعلومات عن الاختراعات الميكانيكية الحديثة يسري بطبيعة الحال كذلك بالنسبة للشئون الأقل مادية في ارتقاء الحياة الإنسانية، عندما نهضت من حالة الهمجية أو الوحشية وسارت نحو بلوغ تلك القيم النفسية الباطنة التي أفضت إلى ظهور مثل الكلمات: «صديق» و«مصادق» و«مصادقة».

وما دام الأمر كذلك أفلا يكون الأستاذ «هيكل» حينما وضع سؤاله المتقدم ذكره: «هل الكون مصادق للبشرية؟» قد فاتته أهمية مجرد وجود كلمة «مصادق»؟ وقد رأينا عند فحصنا للوثائق المصرية القديمة أنه يوجد في لغتها وفي تاريخها ما يدل على بزوغ فجر تلك الصفات البشرية وارتقائها المبكر عند قدماء المصريين مما تنم عليه كلمة «مصادق».

ومن المؤكد أنه لو كان الأستاذ «هيكل» يشاركنا الآن في هذه المناقشة لكان له فيها تعليق يعتد به ربما كانت صيغته على الصورة الآتية: «وكيف يكون ما برهنت عليه تاريخيًّا من ظهور كلمة «مصادق» جوابًا على سؤالي الأصلي؟ إننا إذا سلمنا أن الإنسان الطبيعي قد نشأ من أصل الكون المتطور، ثم سلمنا أن الخبرة البشرية هي التي ابتكرت «المصادقة» وأنمتها، فإن معنى ذلك أنك تتكلم عن الخبرة البشرية، في حين أن سؤالي منصبٌّ على الكون. فما شأن الخبرة البشرية إذن بالكون؟»

وعلى الرغم من أن الفكرة القائلة بأن الإنسان جزء من الطبيعة سابقة لعهد الفيلسوف «لوك»، فإن المقدمات التي بنى عليها آراءه هي التي على ما يظهر قد أدت بالفلاسفة إلى تلك النتيجة. وهي نتيجة من عمل الفلاسفة بنوها — طبعًا — على مقدمات فلسفية. أما في أيامنا هذه فقد صار في استطاعة أبحاث علم الحفائر الجيولوجية وعلم آثار ما قبل التاريخ أن يتتبعا تاريخ الإنسان الطبيعي وهو ينهض من العصور الجيولوجية ويخرج من العالم الطبيعي، وعلى ذلك تزداد الأدلة باطراد على أن الإنسان جزء من الطبيعة، ولو من ناحيته الطبيعية على الأقل، ثم إن أقدم الوثائق المدونة التي وصلت إلينا عن ماضي البشرية تكشف لنا أيضًا عن ارتقائه حتى بلغ عهد الوعي الأخلاقي.

ومن العجيب أن هذه الحقيقة قد خفيت — على ما يظهر — على المفكرين. وعلى كل حال فقد صرنا الآن لا نعتمد على أقوال الفلاسفة، كما كان الحال في عهد «جيته» Goethe، في مجرد الافتراض بأن الإنسان فيض من إنتاج الطبيعة، ووثائق الشرق الأدنى القديمة تبرهن بالدلائل التاريخية هذه الحقيقة.

وقصة نشأة بني البشر كما أماطت عنها اللثام الأبحاث الأخيرة في الشرق الأدنى القديمة تُظهر لنا بأجلى بيان، لا من الوجهة الفلسفية بل من الوجهة التاريخية، أن خبرة بني البشر هي آخر مرحلة في تاريخ الكون؛ أي إن الخبرة البشرية، هي بقدر ما وصلت إليه معارفنا، ثمرة من ثمرات ذلك التاريخ.

وفي قصة حياة الرقي البشري التي كنا نتتبع سير خطواتها في هذا الكتاب التقطنا خيوط الحياة الإنسانية الآخذة في الارتقاء عند النقطة التي صار فيها الإنسان أول مخلوق عرف بمقدرته على صنع الآلات في زمن لا يقل بُعده عن مئات الآلاف من السنين، بل قد يبلغ مليونًا من السنين. ونحن الآن نعتبر الأبحاث عن تلك المرحلة من حياة الإنسان ملكًا شائعًا بين علماء الحفائر وعلماء الجيولوجية من جهة وعلماء الآثار من جهة أخرى.

ونحن علماء الطبائع الإنسانية عندما نريد البحث عن ذلك العصر السحيق نتكاتف مع علماء التاريخ الطبيعي — لما نجنيه كلانا من جهودنا المشتركة — فهي تجربة نافعة لكلينا.

فالإنسان — في الحالة التي وُجد عليها في فجر العصر الحجري — يعتبر موضوعه داخلًا في أبحاث العلماء الطبيعيين، وإن كان العلم لم يبين لنا النقطة التي انقطعت عندها صلة البشرية بذلك الكون المتطور فلم تعد جزءًا منه.

ولنرجع بالبصر كرة عاجلة بالرغم مما سيوقعنا فيه ذلك من بعض التكرار، ناظرين في مدى تاريخ الحياة البشرية منذ ذلك الوقت، للبحث عما إذا كان في مقدورنا أن نجد نقطة لم تعد البشرية بعدها جزءًا من ذلك الكون.

وبالرغم من السرعة التي اتبعناها في هذا الكتاب فقد استطعنا أن نقتفي أثر أقدم من عرفنا من أجداد الحضارة في أدوار حياتهم التي قامت على الصيد في أنحاء هضبة الصحراء الكبرى، المترامية الأطراف، في ذلك العهد السحيق الذي كانت فيه مرتفعاتها — الماحلة الآن — لا تزال خضراء يكسوها الكلأ الأخضر. ويقول علماء الحفائر العلمية: إن ذلك الصائد الفطري الذي كان يهيم في غابات الصحراء خلال عصر ما قبل التاريخ، كان مخلوقًا نشأ من تطور حياة الكون؛ أي إنه كان لا يزال جزءًا غير منفصم من ذلك الكون.

ثم نرى أنه في أنحاء جميع شمالي أفريقيا أخذت تلك الحلقة الخضراء المترامية الأطراف تذوي وتنقبض ببطء في خلال مائة ألف سنة أو تزيد، حتى صرنا نرى تلك الخمائل والغابات البرية تتلاشى وتختفي تدريجًا، كما كانت المياه التي تنخفض في بحيرة صحراوية ما، على امتداد وادي النيل، كالرمل المتناقص في ساعة رملية زجاجية، تقيس لنا مدى تلك الأزمان الطويلة التي كان يتناقص في خلالها سقوط الأمطار في شمالي أفريقيا فيحيل تلك الصحراء الشاسعة تدريجًا إلى بيداء ماحلة لا تشتمل إلا على صخور ورمال جامدة، وعندما اضطر أولئك الصيادون المتوحشون إلى هجر هضبة تلك الصحراء بهذه الصورة والنزول إلى وادي النيل، ألم يعودوا جزءًا من ذلك الكون المتطور؟

وحينما قاموا على أثر ذلك بحبس حيواناتهم المتوحشة في الحظائر العظيمة ليتخذوا منها ماشية أنيسة كالبقر والغنم والمعز والحمير، وحينما أصبحوا لا يكتفون بأكل بذور الحشائش البرية، وصاروا يزرعونها ويتعهدونها كالشعير والقمح، ثم خلعوا عن أنفسهم حياة الصيادين المتجولين واستوطنوا قرى صغيرة رعاة وزراعًا. ألم يعودوا جزءًا غير منفصم من ذلك الكون المستمر في الارتقاء؟

وبعد بناء تلك القرى التي من عصر ما قبل التاريخ — وهي التي كان يقطنها أولئك الرعاة والحراثون — والتي كانت مبعثرة فيما يبلغ ٧٠٠ أو ٨٠٠ ميل على طول وادي النيل، وبعد تحولها بتأثير عدة آلاف من السنين من التطورات الاجتماعية إلى أقدم دولة معروفة في غضون التاريخ يتألف سكانها من عدة ملايين من النسمات، تعرف المعادن والكتابة وتسيطر عليها حكومة منظمة تنظيمًا ساميًا، وتقوم ببناء أضخم المباني التي لم يُبنَ مثلها قط في ذلك العالم القديم، دالة بذلك على قوة تغلبها الهائل على العوامل المادية. ألم يعودوا بعد كل ذلك بأية حال جزءًا من ذلك الكون المتطور؟

وحينما بدأ تخمُّر تلك العوامل الاجتماعية عند فجر ما يسمى عصر التاريخ؛ أي قبل عام ٣٠٠٠ق.م ببضعة قرون، وظهر تأثير أقدم عصر عرف فيه الاحتكاك الاجتماعي، الذي استمر نحو ألف سنة ثم ظهر أخيرًا قبل عام ٢٠٠٠ق.م في صورة أقدم حرب مقدسة في سبيل العدالة الاجتماعية وابتغاء إيجاد عهد جديد قوامه الشفقة الأخوية؛ أي حكم المصادقة. فهل يجب بعد ذلك أن نفصم أولئك النفر الذين هم أقدم دعاة للمثل العليا في الاجتماع عن تلك المراحل السابقة في ذلك الكون المتطور؟

وهنا نجد القيمة الأساسية لنتائج الكشوف التي كشفتها لنا الطبقات الجيولوجية ومدائن الشرق القديمة وجباناته، فإن هذه الكشوف تميط لنا اللثام عن مجموعة من الصور الرائعة نرى فيها المرحلة تلو المرحلة في طريق تقدم البشر وارتقائه. ففي بداية الطريق نرى الإنسان يبدو بشكل واضح خارجًا من العصور الجيولوجية، وبعد مضي عدة مئات من آلاف السنين ينهض من ذلك الفتح المادي المحض إلى المستوى الذي يدرك فيه معنى الشفقة الأخوية: فهنالك نرى ظهور الإنسان الطبيعي في وحشيته الحيوانية التي ترجع إلى العصور الجيولوجية، وهنا نجد دنيا رحيمة رفيقة تستعمل كلمة «مصادقة» التي هي موضوع السؤال الثاقب الذي أراد الأستاذ «هيكل» أن يوجهه إلى الكون! وبين هاتين المرحلتين نرى ذلك التقدم الذي يربط بعضهما ببعض، وهو تقدم لم نجد للآن ما يبرهن عليه من الشواهد والأدلة غير الحياة الإنسانية المبكرة فوق ضفاف النيل، حيث رأينا ذلك التقدم وكأنه معمل اجتماعي عظيم، بما كان يحويه من الحياة البشرية التي ترجع بدايتها إلى تلك التقلبات السحيقة في القدم التي كوَّنت سطح الكرة الأرضية في شكله الحالي. وبذلك نجد أن وادي النيل هو الميدان الفريد الذي نستطيع أن نرقب فيه صراع الإنسان وهو يخطو بحياته في سبيل الرقي، من أول ظهور الإنسان الطبيعي، إلى ما تلا ذلك من جميع انتصاراته على ما اعترض حياته الناهضة، إلى أن رأيناه في آخر المطاف يصل إلى إدراك ما تشمله الإنسانية من الإخاء والمصادقة.

(٢) الانتقال العظيم وبطء التقدم البشري

مما تقدم يتضح أن الاعتراض الذي نفترض إبداءه من الأستاذ هيكل (وربما كنا غير منصفين في ذلك الافتراض) وهو أن الخبرة الإنسانية ليست مرحلة من مراحل تقدم الكون، قد فند لأول مرة تفنيدًا تاريخيًّا في قصة مصر القديمة، وقد فحصنا فيما سبق، على عجل، بعض الإشارات والمعالم الموضحة لذلك الطريق الطويل الذي اجتازه الإنسان منذ فتوحه في عالم المادة إلى أن وصل إلى تلك الكشوف المدهشة للقيم النفسية الباطنة؛ أي إلى ذلك الانتصار الذي أحرزه على ذاته وإدراكه للمسئوليات الاجتماعية. فبفضل هذه الوثائق الاجتماعية صرنا نعرف أننا كنا نقتفي منها حركة لا تتصل بتاريخ الكون فحسب، بل ما يعد فوق ذلك أروع انتقال في ذلك التاريخ، على قدر ما وصلت إليه معلوماتنا.

والحقيقة أن ذلك الانتقال هو موضوع هذا الكتاب، ويضاف إليه أيضًا تلك الحقيقة العظمى؛ وهي أن «الانتقال العظيم» — كما سنسميه هنا — لا يزال ناقصًا؛ أي إنه لا يزال سائرًا في طريقه نحو الرقي. وقد حاولنا فيما تقدم الكشف عن تكوينه واقتفاء تاريخه المبكر، فرأينا أنه أوجد لأول مرة — لا في الحياة الإنسانية وحدها بل في الكون نفسه كما هو معروف للإنسان — معاني جديدة وكلمات جديدة للدلالة عليها، وهي معانٍ لقوى تسمو على تقلبات المادة وتنتقل بنا إلى عالم البواعث والاحتمالات النفسية، الفردية منها والشعبية، مما بدأ بنو البشر يشعرون به الآن فقط شعورًا مبهمًا.

وبداية «الانتقال العظيم» هي التي تتميز على وجه خاص بظهور كلمات جديدة خطيرة الشأن، فإن كلمة الأستاذ هيكل «مصادق» ليست إلا كلمة من مجموع كلمات من هذا القبيل ظهرت لأول مرة، وكانت أشبه شيء بصور إشارات الأصبع إلى طريق جديد، فصارت بذلك عندنا بمثابة آثار تاريخية مؤذنة بحلول «العصر الأخلاقي» أو «عصر الخلق».

وقد سبق أن أشرنا فيما تقدم إلى ما ذُكر في مقال عن الجراحة والتشريح عند قدماء المصريين كُتب في باكورة الألف الثالثة ق.م، ويحتوي على أقدم استعمال لكلمة «مخ». ولما لم تكن هناك — بطبيعة الحال — في ذلك الوقت كلمة شائعة الاستعمال للدلالة على المخ يمكن لمؤلف ذلك المقال استعمالها، فإنه أخذ كلمة معتادة تعني «لَيِّن» أو «شبه سائل ثخين» يشبه النخاع. ولكي يتجنب التباس المعنى بغيره أضاف إليها كلمة «الجمجمة»، فصار التعبير الجديد بذلك «عجينة الجمجمة» أو «نخاع الجمجمة»، وأطلق التعبير حتى صار علمًا على «المخ»، وذلك في أقدم بحث تناول هذا الموضوع. وهذا الطبيب المختص في التشريح الجراحي الذي يرجع عهده إلى نحو ٥٠٠٠ سنة مضت، كان يعرف فعلًا أن المخ هو المركز الحساس للشعور والسيطرة على أعضاء الجسم الإنساني، غير أن معرفته العلمية كانت حديثة العهد في زمنه لدرجة أنها لم تستطع أن تحل محل الاعتقاد القديم القائل بأن القلب هو مكان الفهم.

وعلى ذلك لما صار أولئك القوم المبكرون يشعرون بوظيفة الفهم الإنساني الذي يميز بين السلوك المستقيم الصائب وبين ضده من السلوك المعوج الخاطئ، استعملوا له — كرهًا لا طوعًا — تلك الكلمة القديمة «قلب»، يريدون بها الإدراك الخلقي الذي يقوم به القلب، وبذلك صار المعنى الجديد وهو قدرة الإنسان على إدراك المميزات الخلقية (أي ضميره) يسمى في نهاية الأمر كذلك بكلمة «قلب». وبهذا الاسم «القلب» لم يبدأ هذا المعنى الجديد (الضمير) تاريخه كقوة اجتماعية فحسب، بل استمر يحمل هذا الاسم كذلك آلافًا من السنين، كما رأينا، إلى يومنا هذا.

وربما كان من المهم لرجال الكهانة وغيرهم من معلمي الأخلاق في أيامنا هذه أن يعرفوا أن ذلك المعنى (الذي كان في يوم ما جديدًا) لكلمة «قلب» القديمة، وهو ذلك المعنى الذي اكتسبته منذ حوالي خمسة آلاف من السنين الماضيات، قد جعل هذه الكلمة تذكارًا أثريًّا لذلك الانتقال العظيم الذي نحن بصدد بحثه الآن.

وهذه الوظيفة الجديدة للعقل الإنساني هي التي سهَّلت علينا إدراك معنى الأخلاق أو الخلق. وإنه لمن الممتع حقًّا أن نعرف الوقت الذي بدأت تظهر فيه نفس كلمة أخلاق أو «خلق» لأول مرة في كلام أبناء البشر. لقد بدأ ذلك في عصر الأهرام، وسرعان ما صارت متداولة في موضوعات التعليق والتأمل؛ ففي حِكم «بتاح حتب» نرى ذلك الوزير الحكيم المسن يذكِّر ابنه بأن «الفضيلة في الابن لها قيمة عظيمة عند الوالد، وأن الأخلاق الحسنة شيء جدير بالذكر.» وبذلك يُنسب أقدم استعمال لتلك الكلمة إلى القرن السابع والعشرين ق.م. وبعد انقضاء نحو خمسة قرون على ذلك العهد نجدها في تلك النصائح التي وجهها أحد الفراعنة إلى ابنه «مريكارع»، حيث يقول إن الله — عز وجل — هو «الذي يعرف الأخلاق.»

على أن كلمة «أخلاق» أو «خلق» في حد ذاتها كلمة تثير اهتمامًا كبيرًا؛ لأن معناها الأصلي مأخوذ من فعل معناه «يشكِّل» «يكوِّن» «يبني»، وقد كانت تستعمل في عصر مبكر للدلالة بنوع خاص على العمل الذي يقوم به صانع الفخار أثناء تشكيله للأواني الصلصالية فوق عجلته. ومعنى كلمة «أخلاق» المشتق من أصلها يشبه بصورة تلفت النظر كلمتنا «أخلاق» التي معناها في الأصل اليوناني «الطابع الذي يتركه الختم المنقوش فوق الطين الطري أو الشمع» أو «الطابع الذي فوق المعدن في صك النقود.»

وقد رأينا كيف أن العوامل الجديدة التي تنطق بها هذه الكلمات الجديدة أخذت تعمل عملها بمثابة قوى اجتماعية حتى أفضت إلى نظام جديد أبرزه أيضًا حكماء الأخلاق المصريون، وصار يعبَّر عنه عندهم بكلمة «ماعت» التي يريدون بها «الحق» و«الاستقامة» و«العدل» و«الصدق»، كما كان يراد بها عندهم أيضًا النظام الخلقي الذي كانت فيه تلك الصفات هي القوى المسيطرة. وهذه الألفاظ، مضافًا إليها «الضمير» والأخلاق، تعد آثارًا خالدة لذلك الانتقال الذي ظهر في الحياة فوق كوكبنا الأرضي، وقد ظهرت لنا ظهورًا تاريخيًّا عن طريق الوثائق المصرية القديمة التي دونت فيما بين سنتي ٣٠٠٠ و٢٠٠٠ق.م.

وفي هذا الانتقال التاريخي، الذي حدث لأول مرة فوق كرتنا الأرضية — بل في الكون على ما نعلم — نجد أن المصريين هم الكاشفون للأخلاق.

ومن الأمور ذات الأهمية الأساسية أن يعرف العالم الحديث مبلغ حداثة ذلك الكشف؛ فإن الحضارة البشرية مبنية على الأخلاق، وإذ إن هذه الأسس لا تزال حديثة جدًّا فلا داعي لأن نشعر بشيء من القنوط أو خور العزيمة إذا وجدنا أن هذا البناء لم يظهر عليه بعدُ ذلك الثبات الذي كنا نتمنى وصوله إليه.

ولا نزاع في أن سخرية المستر «منكن» Mencken اللاذعة كثيرًا ما تكون في محلها، كما أن شدة الحاجة البادية للعيان لعمل إصلاحات في البناء تهيئ الفرص الكثيرة للغمزات المسلية التي نراها على صفحات مجلتَي «بَنش»١ و«لايف» Punch & Life أو في روايات «برنارد شو» Bernard shaw الذي يجد أن انتحال الشخصيات والأوضاع عمل أسهل وأربح بكثير جدًّا من أية محاولة للنظر إلى تقدم الإنسانية نظرة جدية.
وكذلك يوجد كثير من الاتهامات أكثر خلوًّا من الغرض وقائمة على اعتبارات جوهرية تقول بأن البناء مصدع بدرجة لا تدع مجالًا لإصلاحه، فنجد أن «أزفالد سبنجلر» Oswald Spengler٢ يصرح علنًا بالسقوط النهائي للمدنية الغربية، مع أنه ليس من الصعب أن نبرهن على أن مراثيه المحزنة مبنية على جهل فاضح بحقيقة التقدم الإنساني، فإنه يلاحظ أن «سبنجلر» يشير إلى المدنية المصرية القديمة بتوسع في كتابته، فلو كان لديه علم كافٍ بهذه المدنية لما وجد فيها سندًا لنتائجه التشاؤمية، فإن المدهش العجيب هو أن نجد مخلوقًا ناهضًا من الوحشية الحيوانية يرتقي إلى درجة تجعله يبتدئ هذا الانتقال العظيم؛ ولذلك يجب ألا نقلق كثيرًا إذا رأينا هذا الإنسان يتردد تارة أو يضل أخرى حينما يخطو متقدمًا إلى الأمام في سبيل الارتقاء بهذا الانتقال.

على أن ذوي العقول الرزينة جميعهم يقفون في حيرة مؤلمة، بينما يطرح بعضنا ثوب الأوهام جملة، عند تأمل حال الإنسان الحديث وقد استولت عليه قوة التخريب التي وضعها في يده العلم الحديث بما وصل إليه من المقدرة والتفنن في صنع الآلات الحربية.

والواقع أن رجال العلوم الطبيعية يهتمون أيما اهتمام بأن قوة الإنسان، المنشئة منها والمخربة، في تقدم مستمر منذ أزمنة سحيقة، وبخاصة بعد أن كُشف أخيرًا عن «رجل بكين» الذي يحتمل أن يرجع زمنه إلى نحو مليون من السنين الماضيات؛ إذ قد اتضح أنه لم يكن في قدرته أن يوقد النار فحسب (أي إنه أقدم مثل معروف لإشعال الإنسان للنار)، بل إنه أيضًا «صنع الأسلحة من الحجر»، وبذلك صرنا نعتبره أول بشر معروف لنا كان في قدرته صنع الأسلحة في عالم الوجود.

غير أنه قد فات رجال العلوم والمؤرخين على السواء تقدير مركز الإنسان الحالي تقديرًا كافيًا بالنسبة لوقت ظهور الضمير كعامل من العوامل الاجتماعية؛ لأن ذلك لم يكن إلا في الأمس القريب، وهو في الحقيقة حادث جدير بأن يؤرَّخ به كما يؤرَّخ بعهد استعمال المعادن التدريجي، وإن عصر الأخلاق الذي نتج عن ظهور الضمير لا يكاد يزيد عمره على أربعة آلاف من السنين. والواقع أن تطور حياة الإنسان، كالتطورات الطبيعية الأخرى، يسير في بطء، وقد يكون سير الانتقال العظيم نحو الكمال كبطء النشوء والتطور الإنساني في الطبيعة؛ لأنه في مدة مئات آلاف السنين العديدة التي تقع بين «رجل بكين» المكشوف حديثًا وبين «رجل ناياندرتال» Neanderthal قد ازداد المخ البشري نحو ٥٠٪ من حجمه، في حين أنه من وقت «رجل ناياندرتال» حتى الآن — ذلك الوقت الطويل نسبيًّا — لم يزد حجم المخ البشري شيئًا قط؛ أي إن نسبة تطور الإنسان بطيئة بدرجة هائلة. على ذلك يكون أوج ذلك اليوم الخلقي الذي انبثق فجره علينا الآن فقط لا يزال بعيدًا جدًّا عنا، ويجب أن نتذرع بالصبر الطويل، وبعبارة أخرى: بصبر ذلك الذي يعرف كيف ينتظر في سكون واطمئنان إذا لزم الأمر ذلك.

ولعله لا يوجد مَثَل يدل على بطء ارتقاء الروح البشرية وتقدمها أوضح من الموازنة التالية بين أفكار أحد الحكماء المصريين القدماء الذي يرجع عهده إلى نحو ٣٠٠٠ سنة مضت وبين أفكار أحد الروائيين المفكرين الحديثين في عصرنا الحالي، وها هي ذه:

حكيم مصري قديم من منذ حوالي ١٠٠٠ق.م شارلس مورجان في كتابه الينبوع* في سنة ١٩٣٢
يا آمون، أنت أيها الينبوع الحلو الذي يشفي الظمأ في الصحراء. إنه لموصد لمن يتكلم، ومفتوح لمن يتذرع بالصمت. وحينما يأتي الصامت تأمل فإنه يجد الينبوع. ومع ذلك فإنه كان في سكينة، بل يظهر أنه قد دخل الردهة القصوى للسكينة نفسها حيث كان ينبوع الروح ينبثق كجدول من الماء فوق الأرض.
   (ص١٠٧)
The Founfain, by Charles Morgan.

ومن المعلوم أن مثل هذه المعاني عن الروح المتأملة كانت بطبيعة الحال من مميزات الشرق القديم، غير أنه يمكننا أن نقتبس موازنة أخرى كهذه من حياة العمل والمخاطرة، وهي:

السندباد المصري حوالي ٢٠٠٠ق.م فرجيل
سعيد من يتحدث عن مآسيه بعد مضيها. ومن المسرات أحيانًا ذكر تلك التجاريب.
وبعد انقضاء الحياة، سواء أكانت حياة تأمل أم حياة مخاطرة مملوءة بالأحداث، نجد أن أفكار «سبنسر» Spenser في مدح الموت تماثل صدى أقوال أيوب مصر القديمة، وهو الذي سميناه في هذا الكتاب باسم «التعس»، كالآتي:
أيوب المصري سبنسر الإنجليزي من كتابه Faerie Queene
إن الموت أمامي اليوم كمثل المريض الذي يقرب من الشفاء ومثل الذهاب إلى حديقة عند النقاهة من المرض. إن الموت أمامي اليوم مثل مجرى الفيضان من الماء ومثل رجوع الرجل من سفينة حربية إلى منزله. إنه ينعم الآن براحة أبدية. أليس الألم القصير الذي يحتمله الإنسان هو الذي يجلب له الراحة الطويلة ويطرح بالروح لتنام في قبر صامت؟ إن النوم بعد التعب والوصول بالسفينة إلى المرسى بعد انتهاء العاصفة البحرية والراحة بعد الحرب والموت بعد الحياة، فيه السرور العظيم.
   (خطبة اليأس)

على أن مثل هذه الأصداء الحديثة العهد نسبيًّا ليست نادرة حتى في المدافن الكنسية الإنجليزية، (حيث نجد فوق لوحة أحد قبورها ما يماثل لوحة أحد قبور قدماء المصريين)، وإليك البيان:

لوحة قبر شريف مصري قديم من حوالي ٢٠٠٠ق.م لوحة قبر لأحد الإنجليز في مدفن كنيسة بيرفورد بأكسفوردشير Burford, Oxfordshire من القرن الثامن عشر م
إن فضيلة الرجل هي أثره، ولكن الرجل السيئ السمعة منسي. إن المدائح المدونة فوق الحجر ليست إلا ألقابًا مستعارة بالباطل، وحسن سمعة الرجل هو أعظم أثر له.

ومن الممكن أن نورد هنا ما لا حصر له من الأمثلة التي تبين كيف تمر الأجيال، ألف السنة تلو الأخرى، وكل جيل يجمع تجاريبه الخاصة به، ومع ذلك يعيد ويكرر الكثير مما أوحت به تجاريب العصور التي جاءت قبل عصره، وهكذا دواليك في جميع الأزمان.

(٣) الانتقال العظيم

بصفته تعبيرًا عن تجاريب البشرية

مهما يكن من بطء تجمع التجاريب الإنسانية فمن المهم جدًّا أن نعترف بالحقيقة التاريخية التي تنطق بأن الانتقال العظيم الذي كنا نناقشه أخيرًا هو ثمرة التجاريب البشرية ونتيجتها، وأن القوة المحركة للتقدم الإنساني منذ ذلك الوقت كانت هي الخبرة البشرية، وأن خبرة الإنسان نفسه كانت وستبقى دائمًا أعظم معلم له.

فإن سنَّ قانون التعديل الثامن عشر إنما كان محاولة من أهل الولايات المتحدة الأمريكية للقيام بتجربة جديدة، ولكن الخبرة الاجتماعية أثبتت أن محاولة السيطرة على العادات الاجتماعية كان نصيبها الفشل؛ فالخبرة الاجتماعية إذن هي المعلم الذي لا تلين قناته لغامز.

حقًّا إنه ليس من عالِم مفكر من علماء الأدب العبراني الذي نسميه «العهد القديم» إلا ويشعر بقوة ذلك الكتاب، ويقدر الدور الأساسي الهام الذي لعبه في تقدم المدنية الغربية. غير أنه يجب علينا أن نعترف أيضًا بأن «كتاب العهد القديم» كجزء من الأدب العبراني القديم لا يخرج كذلك عن كونه سجلًّا للتجاريب البشرية القديمة؛ فقد كنا في الصفحات السابقة نربط الحياة السامية في عالم مدنيتنا الغربية الحديثة بمصادرها الأصلية الأولى من حياة الإنسان في الشرق القديم في زمن يرجع عهده إلى ما قبل بداية التاريخ العبري بأكثر من ألفي سنة، وبعملنا على هذا النهج لم نعثر على أصول الشعور الخلقي فحسب، بل عثرنا كذلك على فصول بحذافيرها من التاريخ الاجتماعي، ونقصد بذلك قصة حياة أمة عظيمة كما تجلت أمامنا في مدة تقرب من ثلاثة آلاف من السنين، أنتجت في خلالها أقدم التصورات الخلقية العميقة وتمخضت تجاريبها عن المبادئ الخلقية الناضجة التي عُبِّر عنها فيما خلَّفته من الأدب الضخم. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل رأينا ذلك التقدم يسير في طريقه حتى أنتج ذلك الأدب قبل بداية ما يسميه علماء اللاهوت القدامى «بعصر الأنبياء» بعدة قرون، وقد برهنَّا بالأدلة التاريخية على أن ذلك الأدب لم يبقَ فقط إلى العهد المسمى بعصر الأنبياء، بل كان له أيضًا تأثير عميق في التطور الخلقي والديني عند العبرانيين، وهم الذين ورثنا عنهم تراثنا الخلقي العظيم.

على أن مصادر تراثنا الخلقي كانت تمتد إلى مسافة بعيدة جدًّا وراء الحدود الفلسطينية؛ إذ كانت تشمل كل أنحاء الشرق الأدنى القديم؛ وبخاصة مصر التي ظهرت فيها أقدم التصورات الروحية السامية في المثل العليا الاجتماعية. ولم يكن في مقدورنا قط من قبل أن ندرك تلك المصادر الكبرى التي أخذنا عنها ذلك التراث الخلقي المنعدم المثيل؛ لأن السبيل الذي وصل منه إلى العالم الغربي هو الأدب العبراني وحده، بل إننا لم نكن نعرف من قبل ذلك الأصل العالمي المركب الذي تألف منه ذلك الأدب.

وإن الفكرة المنبوذة الآن التي تفترض وحيًا مميزًا منحصرًا في شعب واحد دون سواه، نمت في وقت كانت فيه المدنية الغربية تجهل تمام الجهل قصة نهوض الإنسان وتاريخ المدنيات البائدة التي سبقت عهد العبرانيين. وعلى ذلك نعيد هنا ما قلناه من قبل من أن مثل ذلك التصور الذي يقصر الوحي على شعب واحد ما كان ليظهر قط لو لم تكن لغات الشرق القديم قد فُقدت ولم تعد سجلاتها مفهومة لأي إنسان، مما أدى إلى اختفاء الأدب الأخلاقي والديني لتلك المدنيات العظيمة التي يزيد عمرها على عمر العبرانيين بضعة آلاف من السنين.

ولعل أجلَّ خدمة خدمتها لنا الحفائر الأثرية هي إماطتها اللثام عن التقدم الاجتماعي والخلقي الذي أحرزته تلك الجماعات الشرقية القديمة قبل نهوض الأدب العبراني وقيامه بزمن طويل.

وإن هذا الكشف الذي وصل إليه العلم الحديث يعد من أهم الكشوف العميقة البعيدة المدى؛ فلقد أبان لنا أننا كنا الوارثين لحياة الإنسان المبكرة على وجه عام، وبخاصة تلك الحياة التي سارت في مدارج التقدم حول الطرف الشرقي من البحر الأبيض المتوسط.

ومن الظاهر بالطبع أنه لا يدخل في دائرة أبحاثنا هنا تلك الزيادات النفيسة التي أضيفت إلى ذلك التراث نتيجة للتفكير الخلقي في أوروبا القديمة والحديثة.

وفي اعتقادي أن تصورنا الجديد للأدب العبراني، مما أثبت التاريخ صحته، لا يحط من شأن ذلك الأدب، بل على العكس يرفع من قدره؛ إذ إنه يكشف لنا في الواقع عن صورة جديدة للمصادر الكبرى التي نبعت منها تلك المؤثرات الإنسانية التي ضربت بأعراقها في مادة المدنية الغربية. وكثيرًا ما نسمع عما يسمى «النزعة الإنسانية الجديدة»؛ فهذه النزعة تتجلى روحها في البحث الحديث الذي يجري في التربة التي غرست فيها أول حبة خلقية فنمت وآتت أكلها. وقد كشفت لنا الأبحاث الشرقية عن حقيقة واضحة؛ هي أن التربة التي أخرجت أجمل زهرة من المثل العليا الاجتماعية هي الحياة البشرية، ومتى اقتنعنا، عن هذا الطريق، أن تصور الإنسان للأخلاق البشرية المثلى أقدم بكثير من «عصر الأنبياء»، فإننا نكون قد وصلنا إلى أساس جديد عريض للثقة ببني الإنسان.

(٤) الماضي الجديد كمؤثر خلقي جديد

لقد أصاب اللورد «أكتون» كبد الحقيقة حين قال: «إن إماطة اللثام عن العالم القديم يعد بعد كشف الدنيا الجديدة، الحادث الثاني الذي يفصل بيننا وبين القرون الوسطى ويميز الانتقال إلى الحياة الحديثة.» ونجد في رأي هذا المؤرخ الفذ أن العاملين العظيمين اللذين أخرجا الناس من العصور الوسطى إلى الحياة الجديدة ينحصران في الرؤية التي تنظر إلى الأمام وإلى الوراء معًا، وهي التي لم تفطن فقط إلى المجال الذي لا حد له أمام مستقبل العالم الجديد بعد سنة ١٤٩٢م، بل استمدت كذلك أعمق الإلهام من الماضي الذي كُشف عنه حديثًا بصورته التي تعرَّفها الناس من مدوناته التي وصلت إلينا، ومن الأعمال العامة الأخرى التي قام بها أعاظم رجاله. فماذا كان ذلك «العالم القديم»؛ أي الماضي الذي أشار إليه اللورد «أكتون»؟

الواقع أنه لم يكشف لأوائل أهل العصر الحديث عن أقل إشارة تدل على ذلك «الانتقال العظيم» الذي نحن بصدده؛ إذ إن كل ما كان يعرفه أولئك الذين برزوا من العصور الوسطى عن الماضي هو كما نعلم كلنا قصة «كتاب العهد القديم»، ومن بعدها تاريخ اليونان والرومان. لكننا الآن نعرف أن الجهد الذي بدأ عند فجر عصر النهضة لتعرُّف أخبار العالم القديم، لم ينقطع حبله في عصر النهضة، بل إنه — كما رأينا — قد استمر متواصلًا في خلال جميع القرون التي مضت منذ ذلك الوقت، وسائرًا بخطى سريعة، وبخاصة في خلال الجيلين الأخيرين. فنحن الآن لا نصغي فقط إلى صوت «أشعيا» و«داود» و«سقراط» و«شيشرون» كما كان يصغي إليهم وحدهم رجال عصر النهضة، بل إننا نصغي كذلك إلى أصوات ملوك الشرق العظام في قصصهم التي يفاخرون فيها بفتوحاتهم في البحر الأبيض المتوسط، وإلى أصوات الحكماء المصريين وهم يبشرون بحلول العصر الذهبي للعدالة الاجتماعية، وإلى صوت «خوفو» الذي ينطق مبناه الهائل المنبئ عن انتصارات أول دولة عظيمة منظمة، وإلى صوت أقدم سباك للمعادن يغني في رنات سندانه الحديدي الساذج نشيد تغلُّب الإنسان المقبل على أنحاء الأرض، وإلى صوت أولئك الأجيال من الناس الذين تقادمت عليهم العهود فصاروا نسيًا منسيًّا فلا تسمع أصواتهم الآن إلا عن طريق رسالة تلك الآلات الحجرية المنقطعة النظير في دقة صنعها، وإلى أصوات أهل العهود الجيولوجية الذين كانوا يهمهمون بحناجرهم الخشنة بتلك الكلمات البشرية الساذجة التي يخيل إلينا أننا نسمع رنينها يدوي في أنحاء الغابات التي يرجع عهدها إلى ما قبل التاريخ، مرددًا صدى أول كلام واضح لتلك المخلوقات التي يصعب تمييزهم وهم على وشك أن يصيروا بشرًا بالمعنى الذي نعرفه.

ونحن الآن ننظر إلى الوراء من خلال تلك الآباد والعصور، من تاريخية وسابقة للتاريخ، ونصغي إلى الأصداء التي تأتي إلينا من مشاهد تلك الأزمان، وقد تمثلت هذه الرؤية أمام الشاعر الإنجليزي «تِنيسون» وهو ينظر في مهد بكر أولاده، حيث يقول: «من الأعماق يا ولدي.» ومثل هذه الصورة لهذا «الماضي الجديد» إنما أخذت تشرق الآن فقط على عقول رجال هذا العصر الحديث، ولها من القيم ما لم نبرهن بعدُ على شيء منه. وإن من يدرك هذه الرؤية على حقيقتها فإنه يكون قد بدأ يقرأ قصة «أوديسَّى» بني البشر الجليلة، وهي التي تُظهر لنا الإنسان وهو خارج من ظلام الأبديات، مندفعًا بجبهة مرفوعة إلى شمس حياة جديدة سامية تفوق أحلامه؛ أعني بذلك مغامرته السامية على مدى العصور.

وأحيانًا كانت تأخذني الحيرة فيما إذا كانت الرؤيا التي قد تشرق على الروح الإنسانية في الفن والأدب وتكون باعثًا لها على التعبير عن نفسية صاحبها، يمكن موازنتها بما تحقق من الإمكانيات الإنسانية كما رأيناها في ذلك الانتقال في الحياة البشرية الذي حاولنا تتبعه في هذا الكتاب.

وليس هناك من شك في أن ما رآه «إمرسون» في نفس الموضوع الذي ذكرناه هنا في شكل تطور مؤيَّد بالأدلة التاريخية لم يكن إلا مجرد حدس محض، وفيما عدا ذلك فإن الروح البشرية لم تعبر عن ذلك قط، اللهم إلا ما يحتمل حصوله في الموسيقى؛ فإنني حينما أستمع إلى القوة الهائلة التي يُفتتح بها مطلع سيمفونية «بتهوفن» الخامسة، ثم أتتبع انتقاله إلى انتصاره الهادئ في آخر حركة في هذا الإيقاع، فإنه يخيل إليَّ أن «بتهوفن» مثل «إمرسون» قد أشعرته الإلهامات النبيلة التي أشرقت على روحه السامية بالحقيقة العميقة الأساسية التي يقوم عليها الأمل الإنساني، وهو ما يجعلنا نتوقع للأخلاق من تأثير بالغ نبتت أصوله من أعماق كون غير ممكن لنا سبر غوره.

على أننا حينما ننظر إلى الوراء في ماضي تلك الجهود البشرية الهائلة، فإننا لا نجد لها قيمة أو أهمية إلا حينما نراها تنهض نهوضًا باهرًا نحو «الانتقال العظيم»، ونحو العثور على القيم البشرية المثلى في عصر الأخلاق.

والواقع أن عدم تكامل «الانتقال العظيم» هو الذي يجعلنا ننتظر من وراء رحلة بني الإنسان الطويلة عاملًا خلقيًّا فعالًا، على ألا يكون ذلك عن طريق استيعاب الإنسان لمحتويات أي دين من الأديان القديمة بحيث تصير جزءًا من كيانه، بل يجب أن يكون ذلك عن تصور ما للمَحَجَّة العليا التي لا تخرج مثل هذه الأديان عن كونها علامات مرشدة إلى الطريق التي تؤدي إليها؛ إذ من السهل أن يسيء الإنسان فهم قيمة تجاريب الشرق القديم من ناحية الدين والأخلاق.

وإنه لمن المناظر الشائعة والباعثة على أشد الأسف، وبخاصة في أمريكا وإنجلترا، ما نشاهده الآن من بعض تلك الأنوثة المخبولة وهي يتأملن الحقائق السامية، معتقِدات في بلاهة، أنها منحصرة في دين ما من أديان الشرق القديم دون سواه، ناسيات بذلك كل ما قدمته عصور التجاريب الإنسانية لإنماء ورفعة وإغناء كل ما وصل إلينا من الديانات التي ترجع إلى أصل قديم.

على أن تجاهل القرون الأخيرة وما أحدثته من تقدم مشرف، والرجوع إلى الوراء والتعلق بالمراحل الأولى الأصلية لدين ما دون تغيير، يكون مَثَله كمثل إنسان اشتد به الظمأ في يوم شديد القيظ، فالتمس ما يشفي به غلته في الرقود تحت شجرة من البلوط، ثم حاول إطفاء عطشه ببذرة من البطيخ.

وقد حذرنا صديقي «جيمس هارفي رُبنسون» James Harvey Robinson من الخضوع للماضي في كتابه المنبه للآراء بدرجة عظيمة، المسمى «العقل في التكوين» The Mind in the Making، غير أني أعتقد أنه يقصد بذلك الاستسلام الأعمى للماضي. على أن طريق التقدم السليم هو أن يتخذ الإنسان وسطًا متزنًا بين الدروس المستقاة من الخبرة، والرؤية الجديدة.

على أن ما أرمي إليه بهذه الآراء الختامية لهذا الكتاب هو أن أذكِّر الباحث بأن دراسة التجاريب الإنسانية — بدون تحيز — وبخاصة إذا كان قد كُشف عنها حديثًا، هي التي تكون في الغالب الدافع الملهم إلى رؤية جديدة. فليتأمل القارئ بعض الحقائق البارزة التي كشف عنها فحص التاريخ القديم للأخلاق البشرية، مما كنا بصدد بحثه فيما تقدم، ونعيده الآن فيما يأتي: «لقد وجدنا أولًا أن الارتقاء الخلقي فوق كوكبنا هو تطور لم يكمل بعد.» وفي هذه الحقيقة نجد أكبر سبب لأملنا في المستقبل.

وثانيًا نجد — كنتيجة للحقيقة السابقة — أن الإنسان من الوجهة الخلقية لا يزال طفلًا يلعب في داخل حجرة مملوءة بلعب خطرة جدًّا لم يتعلم بعد كيفية استعمالها، وبذلك يُحدث باستمرار أضرارًا جسيمة، لا لنفسه وكفى، بل لكل المبنى الذي يعيش فيه.

ويدل تاريخ الاقتصاد الحديث على أن القصور الطفلي في الإنسان لا ينحصر في حدود الأخلاق فقط.

وأخيرًا فإن الإنسان الحديث، وقد عرف طبيعة الرقي الخلقي الذي أظهر التاريخ البشري المبكر أنه إنتاج وفيض للخبرة الاجتماعية، قد صار لأول مرة في مركز يؤهله لأن يمد يده للتعاون عن قصد مع العوامل الغريزية في كيانه، للتأثير في تطور الرقي الخلقي وتعجيله.

وقد أظهر الأستاذ «توماس ﻫ. مورجان» بكل وضوح أن التطور الطبيعي ليس إلا نهجًا يجب أن يدرس جوهره وقوانينه بالتجربة الفعلية، وإذا كان الارتقاء الاجتماعي شيئًا من حقنا أن نسميه «تطورًا» فإن إجراء تجاربه تعترضه بلا شك بعض العقبات. غير أن وجود معمل تجارب اجتماعي كمصر كفيل بأن يلقي ضوءًا ذا قيمة على خطوات ذلك التطور الإنساني السامي، ويبشرنا بإمكان وجود عالم تتمكن فيه الحكومة والقيادة — مع تجنب الوقوع في مهاوي تشريع باهظ النفقات — من العمل بجد على إيجاد جو صالح تتقدم فيه الأخلاق الراقية، ويظهر فيه من العوامل المؤثرة ما يكون أكثر قوة من العوامل التي تحيط بنا الآن.

وها نحن أولاء الآن أول جيل من الناس يستطيعون أن ينظروا إلى الوراء في الماضي، وبإلقائنا نظرة على ذلك الماضي الطويل لحياة الإنسانية برمتها يمكننا أن نتتبع مجرى ذلك الانتقال العظيم إلى الحد الذي بلغه الآن من التقدم. وعقولنا بحكم مركزها هي أولى العقول التي تدرك أن نشأة الضمير والشعور بالمسئولية الاجتماعية، فيما بعد سنة ١٠٠٠ق.م، وهما اللذان كانا بداية الانتقال العظيم، لم يكونا إلا من حوادث الأمس القريب.

وتلك الحوادث كانت بمثابة دليل على اقتراب «أبينا الإنسان» من حدود «مملكة جديدة»، وها نحن أولاء أولاده في أيامنا هذه لم نكد نعبر تلك الحدود حتى أخذنا في استطلاع ما وراءها من مشاهد تلك «المملكة الجديدة»، ونقف في حيرة المتردد عند تخومها الخارجية، يخفي عنا جمالَها وسمو مستقبلها البعيد ضبابُ الضعف البشري، أو يغشاهما سواد دخان ذلك الطمع الخانق والأنانية والحرب العالمية. وبما نزل على أعيننا من غشاوة وما حل بنا من ضعف، زلَّت بنا القدم حتى اضطربنا على مقربة من سفح تلال تلك المملكة الجديدة، وهي تلال كلها ماثلة أمامنا، ولو كلفنا أنفسنا مئونة رفع أعيننا إلى ما وراءها لحظينا برؤية تلك المشاهد البديعة التي تطل علينا من تلك «الجبال البهية». وتدل المحجة الطويلة السامية التي خلفنا على مرتفعات هذه الجبال التي لم يتسلقها أحد بعد، كاشفة لنا في نهوضها بالإنسان من عهد الوحشية إلى عهد الأخلاق عن تسامٍ لا يقهر في الروح الإنسانية، التي قد خرجت بطريقة ما من الأعماق وارتقت حتى بلغت هذا الارتفاع الشاهق.

على أنني باستعمال الكلمات «تسامٍ لا يقهر في الروح الإنسانية» لم أكن أستعمل مجرد عبارة بليغة جوفاء خالية من المعنى، ولقد استعملت هذه الكلمات لأول مرة في محاضرة طُلب مني إلقاؤها منذ بضع سنوات على أثر عودتي من رحلة قمت بها بين أطلال المدن البائدة بالشرق القديم، ففي تلك الرحلة شعرت بما لم أشعر به قط من قبل من معنى تلك الحقيقة البالغة؛ وهي أنه في الحياة التي كانت ذات يوم تدب في شوارع تلك المدن التي صارت منذ زمن بعيد أثرًا بعد عين، نهض الإنسان لأول مرة من التغلب على الموارد المادية إلى إدراك قيمة تلك المثل العليا الاجتماعية التي كان لها من الحيوية ما جعلها قوة باقية بيننا نحن الذين نقيم صرح المدنية الغربية على ضوء الحقائق التي لا تزال تسطع علينا من الشرق.

والواقع أن عبارة «التسامي الذي لا يقهر في الروح الإنسانية» تنطوي على معنى أكثر مما تعبر عنه مجرد كلماتها، ولكنني أؤكد للقارئ أن هذه الكلمات تمثل حقيقة واقعية في الحياة الإنسانية لا يمكن دحضها سواء أكان ذلك في الماضي أم في الحاضر، وهي حقيقة لم يتناولها أمثال «أزفالد سبنجلر» وجميع من على شاكلته من أصحاب مبدأ التشاؤم؛ لأنهم على ما يظهر لم يشعروا بها أصلًا. والواقع أنها شيء موجود في روح الإنسان يمكن الاستدلال على وجوده كما يستدل على الدورة الدموية في جسمه الطبيعي، فأية قوة أخرى كانت هي الدافع الذي ساق الإنسان إلى ذلك الانتقال المدهش من الوحشية إلى السمو الخلقي الذي كنا نتتبع بدايته فيما تقدم؟ بل ما الذي نقل ذلك الإنسان المبكر من الفتح المادي المحض إلى تقدير المراثي الباطنية وجاذبيتها التي لا تقاوم؟

وفي هذا يذيع علينا فيلسوف مثل «برجسون» Bergson يسميه «الدافع الحيوي» Elan Vital، غير أني لا أبحث هنا في الأفكار الفلسفية؛ لأني لست فيلسوفًا، وإنما أنا أناقش تاريخ الإنسان وأناقش شيئًا يكشف عنه التاريخ صراحة، وبخاصة في مراحله الأولى، ويبرزه قوة ظاهرة ماثلة أمام العيان تعمل من مئات آلاف السنين البائدة، ولا تزال على ما أعتقد تؤدي عملها للآن، وهذه القوة لا يمكن أن يحددها أحد أو يعرفنا بكنهها، غير أنها، مثل قوة الجاذبية، يمكن مشاهدة ما تفعله. وإني أستعمل هنا التعبير بصيغة المضارع عمدًا، فإنه ليس علينا إلا أن ننظر فيما حوالينا من أمر ذلك الهبوط الذي بلغ قمته في سنة ١٩٣٣م، فندرك أن ذلك التسامي التاريخي في الروح الإنسانية لا يزال معنا.

ومنذ ذلك اليوم المتوغل في القدم المظلم الذي صنع فيه الإنسان أول آلة من الظران إلى يومنا هذا الذي نشاهد فيه الإنسان يحيط الكرة بالإذاعات الأثيرية ويرسم الخطط لمحو مدن برمتها بقذفها بقنابل الغازات السامة من السماء، كان مجرى الحياة البشرية في جميع تلك العصور في مجال تسوده الرغبة في إحراز الانتصارات المادية، وقد سار هذا الفتح المادي في طريقه مدة مئات الآلاف من السنين، ثم هو لا يزال يسير في هذا الطريق إلى الآن.

غير أنه حدث حادث وكأنه بالأمس، وهو أن «أبانا الإنسان»، في وسط غبار معمعة متعقد، أخذ يدرك إدراكًا مبهمًا جلال تلك المرئيات الخلقية المستورة، ويستمع إلى صوت جديد باطني، يطلب الاستجابة له عن ألف من خواطره، القديم منها والحديث، فكان هذا الصوت مزيجًا من حب البيت والزوجة والأولاد، وحب الأصدقاء، وحب الجيران، وحب الفقير والوحيد والمظلوم، وحب الوطن وإجلال المليك، ومع حب كل هذه الأشياء الجديدة امتزج تقديسه لأشياء ترجع إلى أقدم المراحل البشرية عهدًا في التاريخ، كحب الإنسان للسحاب وقمم التلال، وحب الغابة والغدير، وحب الأرض والنجم والسماء، ولا يقل عنها حب الإنسان للحلة السندسية الخضراء التي تمده على مدى السنين بما تنبته من حاجات الحياة والغذاء اللازم لأطفال بني الإنسان.

وبذلك انتقلت آلهة الطبيعة القدامى إلى عالم جديد زاخر بالعوامل الاجتماعية، وبذلك اندمجوا في إله واحد، هو إله الحاجات الإنسانية والمطامح الإنسانية؛ فهو الأب العالمي الذي بدأ الناس يرون فيه جميع القيم السامية التي كشفت عنها تجاريبهم الاجتماعية نفسها.

على أن مثل هذا الماضي قد تكدست فيه حتمًا طائفة من التجاريب الإنسانية لا تقدر بقيمة، وقد أقرها محبو النهوض الإنساني، ويرون أنها لا تزال تحتوي على عناصر عظيمة للقوة يكون من الوبال إهمال الاستعانة بها في حياتنا الحديثة.

وقد بحث «والتر لبمان» Walter Lippmann في كتابه البديع: «مقدمة في الأخلاق» A Preface to Morals بنظر ثاقب عظيم موضوع انهيار أسس السلطة الخلقية، وإني أعتقد إزاء ذلك أننا نستمد قوة خلقية من التأمل في اتصال حلقات هذه الأشياء التي هي أنفس ما في الحياة الإنسانية، فإن أثمن ممتلكات الروح الإنسانية إصرارنا الشديد على التمسك بشعور حب الاستقامة، والعمل على التقدم إلى الأمام نحو فتوحات جديدة في الأخلاق، وكلها أشياء لم تكن أرومتها ثابتة في تجاريب الإنسانية فحسب، بل إن ظهورها في حياة الإنسان إنما كان في شكل قيم جديدة نابتة من تجاريبه نفسها، وقوتها باعتبارها مؤثرًا ناميًا في المجتمع البشري لم يطرأ عليها شيء من الاضمحلال، وإن ما وصل إلينا من الوثائق يدلنا دلالة تاريخية على أن الشيء الذي كان يسمى منذ زمان طويل «شعور بني الإنسان الخلقي» قد نما مع كل جيل من النظم والعواطف الخاصة بحياة الأسرة، مضافًا إليها أفكار ونصائح الشيوخ المجربين. ومن ذلك نرى، كحقيقة تاريخية، أن القيم العالية التي تكمن في الروح الإنسانية قد جاءت إلى الدنيا لأول مرة عن طريق التأثر بتلك العوامل الرقيقة المشرِّفة التي نشعر بها على الدوام في حياتنا الأسرية. ولن نصل قط إلى معرفة ما إذا كان لها من قبل بداية سابقة في مكان ما خارج عالمنا في ذلك الكون الشاسع، غير أنها لم تكن في أي مكان فوق كرتنا الأرضية إلى أن أوجدتها حياة الأب والأم والأولاد. والواقع أن شمس أقدم البيوت الإنسانية وبيئتها هما اللذان أوجدا المثل العليا في السلوك الأخلاقي عند الأنام، وكشفا عن جمال إنكار النفس في سبيل الغير.
وقد ذكر لنا «بِرتراند رسل» Bertrand Russel في أحدث كتاب له٣ في تحبيذ اعتناق مذهب الشيوعية، أن أهم تغيير ترمي الشيوعية إلى إحداثه هو العمل على محو الأسرة. وهو يدافع عن ذلك مقصيًا التجاريب البشرية أصالة عن حياتنا. على أنه رغم هذا الانقلاب الذي يقوم به الجيل الحديث فإن الخبرة البشرية لا يمكن القضاء عليها ومحوها، كما لا يمكن محو الصفات التي غرستها فينا ولا تجاهلها.
حقًّا إن شباب اليوم قد ثار على السلطة سواء أكانت سلطة الكنيسة أم أوامر الكتب المقدسة، وما ذلك إلا لأن المناداة باستعمال السلطة تكون دائمًا موضعًا للمعارضة؛ وبخاصة في عقول الشباب، ولكن ماضي البشرية يسطع علينا بنوره العظيم وليس ثمة ما يدعو إلى طلب تطبيق السلطة. وإذا تصفح أي باحث كان من الشباب هذا الكتاب فلست أرجو منه إلا تأمل حقائق تلك التجاريب الإنسانية التي كشفت لنا الآن بحالة واضحة لم نرَ مثلها من قبل في أي وقت كان. على أنه توجد هناك مصادر أخرى تدعو إلى الإجلال علاوة على ما جاء في الكتب المقدسة أو تعليمات الكنيسة، فإن رجالًا من أمثال «وليم مورس» William Morris و«والت ويتمان» Walt Whitman قد أحبوا ووقروا حياة الإنسان فوق الأرض، ووجدوا في تأمل علاقاتها مصدرًا للإلهام والإرشاد. على أنه توجد علاقة واحدة سامية تفوق كل العلاقات الإنسانية الأخرى، وهي تلك العلاقات التي كوَّنت البيت وجعلت من حول موقد الأسرة المصدر الوحيد الذي نمت منه أنبل الصفات الإنسانية التي كان لها شأن عظيم في تغيير حالة العالم.٤

ومن الحقائق التاريخية أننا مدينون إلى أبعد حد لحياة الأسرة بأعظم دين يمكن للعقل الإنساني تصوره، فإن نفس أصداء ماضينا الآتية من أزمان سحيقة تنادينا في صراحة بالاعتزاز والاحترام والمحافظة على علاقة الأسرة، المدينة لها حياة الإنسان بهذا الدَّين الجليل.

(٥) القوة والأخلاق

لقد صارت حياة الإنسان فوق الأرض بسبب ذلك «الانتقال العظيم» عراكًا مستمرًّا بين المثل العليا الجديدة في إنكار النفس (الأمر الذي لم يكن ظهوره إلا بالأمس القريب) وبين شهوة حب القوة الشديدة التأصل والقديمة قدم الجنس الإنساني نفسه.

فإن حب الإنسان للقوة أقدم بكثير جدًّا من العصر الأخلاقي، ولذلك كانت القوة هي المنتصرة انتصارًا خطرًا على الضمير والخلق المولودين حديثًا، لدرجة أننا صرنا أمام معضلة خطيرة، هي مسألة بقاء المدنية. ولقد لخص «السير ألفريد إيونج» Sir Alfred Ewing مركز الإنسان الحالي في خطاب الرياسة الذي ألقاه أمام مجمع تقدم العلوم البريطاني فيما يأتي: «لقد وضع في يديه (يعني الإنسان) قيادة الطبيعة قبل أن يعرف كيف يقود نفسه.»

وإني مقتنع تمام الاقتناع بأن تصور «الماضي الجديد» على حقيقته كفيل بالتأثير في سلوك الفرد، أما أن الأمم أو البشرية بأكملها — بعد أن تدرك حقيقة هذه الصورة — تستطيع أن ترى فيها مؤثرًا قويًّا يكفل حقيقة شفاء غلة الأحقاد الدولية، أو يأتي بما هو أعظم من ذلك من توثيق عرى المودة والمراعاة الكريمة، فهو أمر تحوطه الشكوك الخطيرة.

ولقد أبدى المستر «ﻫ. ج. ولز» H. G. Wills تفاؤلًا كبيرًا في تصريحاته عن هذا الموضوع، وكنت أود أن أشاركه تفاؤله، غير أني لما كنت قد قضيت سنين عدة أتأمل في خلالها كل يوم تقريبًا آثار القوة البشرية، فقد ترك ذلك في نفسي شعورًا ليس من السهل عليَّ محوه.

وقد كنا نرقب في هذه الصفحات ارتقاء مميزات الروح البشرية المبكرة مع الاهتمام بوجه خاص في عملنا هذا بملاحظة ظهور القيم العليا. غير أنه من جهة أخرى كان في مقدورنا أن نستعين بعدد عظيم من الآثار القديمة لتكشف عن الجانب الآخر لتلك الصورة، وبخاصة عن أعظم قوة مضادة لتلك القيم؛ وأعني بذلك ازدياد شراهة الإنسان لحب الاستئثار بالسلطة كلما ارتقى النظام القومي، إلى أن صارت آلة الحكومة البشرية هي التعبير المنظم عن التعطش للسلطة؛ أي الشهوة الحافزة على استعمال القوة.

وقد تأثرتُ في خلال تجوالي في أنحاء الشرق الأدنى عدة سنين بالحقيقة الساطعة الآتية؛ وهي: «إن الآثار التي لا تزال باقية في جميع تلك البلاد النائية كانت قبل كل شيء عنوانًا لمدى قوة الإنسان.» فكأن عراكه مع عوامل الطبيعة — وهو عراك يسير في طريقه من مدة بعيدة يحتمل تقديرها بنحو مليون من السنين — قد أشربه شعورًا عدائيًّا بأنه لا يمكنه أن يفوز بغرضه إلا بالمحاربة على طول الخط كما كانت حالته مع قوى الطبيعة المناوئة التي كانت تنازله من كل جانب. وبهذه الروح نفسها كان ينازل إخوانه من بني البشر عندما انتهى الأمر بقيام ذلك النزاع الطويل على السيادة بين أقدم الأمم. وفي أيامنا هذه قد تدخل إلى أحد الأودية المهجورة في «سينا» فتواجهك هناك على حين غفلة صورة فرعون طويل القامة نقشت فوق واجهة جدار الصخر، وقد ظل الفرعون واقفًا هناك منذ القرن الرابع والثلاثين ق.م٥ ممثلًا في هذه الصورة التي هي أقدم الآثار التاريخية في العالم، وهو واقف بسلاحه شاهرًا إياه بما يشعر أنه على وشك تحطيم جمجمة أحد الأسرى الآسيويين، وقد أرغمه على أن يجثو على ركبتيه أمامه. وهذا الأثر الدال على القوة الغاشمة كان إعلانًا للتملك بحق الفتح، نقش هناك بمثابة بلاغ قاطع للآسيويين ينذرهم بأن ملك مصر قد عبر من أفريقيا إلى آسيا، واستولى على مناجم النحاس والفيروز المحيطة بذلك المكان. ففي هذه البقعة، التي فيها بدأت الآثار التاريخية والسجلات المدونة، نرى الاستيلاء على الموارد الطبيعية باعثًا أساسيًّا للعمل القومي، ونرى الأثر المعبر عن ذلك يضرب على وتر نغمة القوة التي ظلت تسود التاريخ البشري منذ ذلك العهد.

وعلى أثر انعقاد الهدنة في أوروبا (في سنة ١٩١٨م) مباشرة، بينما كانت الحرب الجزئية لا تزال مشتعلة في نقط متفرقة في غربي آسيا، قمت برحلة عند نهر الفرات في وسط قبائل العرب المعادين، بقصد العودة إلى المدنية الغربية ثانية، وقد كانت بعثة «معهدنا الشرقي» أول جماعة من الغربيين حاولوا، منذ عدة شهور، عبور تلك الصحراء الغاصة باللصوص، من «بغداد» إلى البحر الأبيض المتوسط. ففي اليوم السابع من مغادرتنا «بغداد» دخلنا قلعة شاسعة الأرجاء واقعة عند منتصف نهر الفرات تُعرف عند الأهالي الآن «بالصالحية»، وأما اسمها القديم فلم يكن معروفًا بعد. وحينما صرنا داخل جدرانها الضخمة ومررنا حول أحد أركانها، ظهر أمامنا فجأة جدار عالٍ يملأ وجهه رسم فخم ذو ألوان عدة يشمل صورة جماعة مؤلفة من أحد عشر شخصًا بحجمهم الطبيعي وهم عاكفون على الصلاة بخشوع. وقد وقفنا محملقين مشدوهين أمام تلك الأشكال العجيبة التي تنظر إلينا في جدٍّ ووقار، وقد كُشف عنهم فجأة كأنما قد استُدعوا بعزيمة سحرية صادرة في فيافي تلك الصحراء الشاسعة الصامتة التي كانت تمتد تحت أقدامنا.

وكان قد كُشف عن ذلك الأثر قبل ذلك ببضعة أيام على يد جنود «الهند الشرقية الإنجليزية» أثناء التجائهم إلى هذا المكان للاحتماء من قبائل العرب المعادية الذين كانوا يحيطون بهم من كل جانب. وفي اليوم الثاني من قدومنا أخذنا نعمل بشغف بمساعدة هؤلاء الجنود أنفسهم، فكشفنا عن جدران أخرى عديدة، فظهر لنا فوق جدار منها — كان ينكشف أمامنا بالتدريج أثناء إزاحة الأتربة المتساقطة من فوقه ببطء — رسم طائفة من الجنود الرومانيين وعلى رأسهم قائدهم (التربيون) «يوليوس ترنتيوس»، فقد كتب اسمه أمام صورته فوق الجدار، وكان يؤم المصلين من جنود الحامية الرومانية التي كانت في وقت ما تحتل هذا المعقل الصحراوي الماحل الذي يقع على مسافة بعيدة خارج الحدود الشرقية التي توطدت نهائيًّا للدولة الرومانية على نهر الفرات. وقد عثرت كذلك على نقش في الصورة يبين بالإغريقية الاسم القديم لتلك المدينة المفقودة، وهو «دورا»، ولم يعثر قبل هذا على أي أثر تصويري يمثل وصول جنود الرومان إلى مثل هذا المدى شرقًا.٦

ولقد كانت لحظة مؤثرة تلك التي تحققت فيها أنني وأنا في قلب الصحراء السورية، على مسافة تقرب من ٣٠٠ ميل شرقي البحر المتوسط، أنظر إلى أقصى مدًى شرقي بلغته قوة تلك العاهلية الحربية الهائلة التي كانت تمتد من الشطر الآسيوي الغربي وكل أوروبا حتى شواطئ الأطلنطي والجزر البريطانية غربًا مما يربي على مسافة ٣٠٠٠ ميل. وقد امتد خاطري عندئذ بعيدًا إلى ما وراء الصحراء تجاه صورة الفرعون العظيمة المنقوشة فوق جانب الصخر في الوادي المهجور الواقع في «سينا»، حيث نشأت أولى الآثار التي تمثل هذه القوة، ثم تعاقبت الأمم وقامت الدول الواحدة إثر الأخرى لمدة تناهز أربعة آلاف سنة حتى بلغت القوة ذروتها في تلك الإمبراطورية الرومانية الضخمة التي امتدت من المحيط الأطلنطي غربًا إلى نهر الفرات شرقًا.

ومع ما في كلمة «إثارة» من المبالغة، فإننا نجد في النظر إلى مظهر تلك العظمة الباهرة التي بلغتها الدولة الرومانية ما يثيرنا حقًّا؛ وذلك عندما نتأمل في الصورة المرسومة فوق ذلك الجدار ونرى فيها علم لواء الجنود الرومانية القرمزي اللون يحمله الدليل سائرًا به أمام أولئك الجنود الذين كانوا يقومون بالمحافظة على عظمة قوة الرومان الحربية في فيافي هذه الصحراء فوق شواطئ نهر الفرات النائية في هذا الزمن البعيد. وهذا الوقت؛ أي وقت وجود الرومان عند الفرات، يبعد — كما ذكرت — بنحو ٤٠٠٠ سنة إلى الوراء من عهد ذلك الأثر المهجور الذي أقامه الفرعون لنفسه في مناجم النحاس بسينا. ومع ذلك فإنه في نهاية هذه الآلاف الأربعة من السنين كانت القوة — ظاهرًا — هي العامل السائد في حياة الإنسان السائرة في سبيل التقدم.

وبعد أن مضى على ذلك الحادث بضعة أسابيع كنت جالسًا مع السير «هربرت صمويل» Sir Herbert Samuel أول حاكم بريطاني لفلسطين، في الحدائق الجميلة بدار المندوب السامي البريطاني الواقعة فوق «جبل الزيتون»، وكانت مدينة «أورشليم» المقدسة تقع خلفنا تجاه الشمس الغاربة، على حين كان أمامنا أخدود «وادي الأردن» و«البحر الميت» وخلفهما جبال «مواب» ذات اللون الأزرق واللون الأرجواني. وقد صور «اللورد اللنبي» في صورة حية انخفاض ذلك الشق الهائل في قصة ذكرها لي عن حملته في فلسطين، فقد أرسل إلى وزارة الدفاع ذات يوم رسالة هذا نصها:

لقد أطلقت حاملات قنابلنا هذا الصباح قذائفها على المواقع التركية في وادي الأردن وهي محلقة على ارتفاع ٦٠٠ قدم تحت سطح البحر.

على أن مصب نهر الأردن وسطح البحر الميت كانا يقعان على مسافة ٧٠٠ قدم تحت هذه القاذفات؛ أي إن سطح «البحر الميت» يقع تحت مستوى سطح البحر بألف وثلاثمائة قدم. أما عمق «البحر الميت» نفسه فيبلغ ١٣٠٠ قدم من تحت سطح مياهه الملحة، وعلى ذلك يكون قاع «البحر الميت» منخفضًا عن مستوى سطح البحر بألفين وستمائة قدم، فهو بذلك يعد أسفل أخدود في سطح الأرض، وتشرف عليه الجبال التي حول «أورشليم» التي يبلغ ارتفاعها فوق سطح البحر بمقدار انخفاض قاع «البحر الميت» عن ذلك السطح. فالفرق إذن يكون أكثر من خمسة آلاف قدم؛ أي ما يكاد يبلغ ميلًا بالضبط. فهذا المشهد حينما تشرف عليه العين من قمة «جبل الزيتون» يمثل صورة هائلة لتلك القوى المروعة التي أحدثته، فكأن يدًا ماردة قد دست أصابعها الضخمة في الأرض ففلقتها شطرين حتى تخلف عن ذلك أخدود يبلغ عمقه ميلًا كاملًا.

وحينما كنت أتأمل مع «السير هربرت» — السالف الذكر — هذا المشهد خيل إلينا أنه أكبر برهان مروع يمكن أن تقع عليه العين لتمثيل شدة القوى الطبيعية.

ولم يكن يوجد بعدُ أناس ما حينما انفلق ذلك الأخدود، وعندما ظهر الإنسان فوق وجه البسيطة كانت تعترضه قوى من هذا القبيل أينما حل. وقد كان التاريخ الأرضي يسير في طريقه بفعل مثل هذه القوى. وإننا لنجد صدى لبعض أهوالها في قصة «سدوم» و«عمورة»؛ إذ قد رأى أهل هذا الإقليم القدامى آلهتهم تتمثل في مثل هذه الظواهر المروعة. وقد أدرك العبرانيون في شخص تلك القوى البركانية التي كنا نطل عليها أقدمَ إله لبني إسرائيل، وقد مضى وقت طويل قبل أن يُشربوا طبيعته المنطوية على تلك القوى المخيفة بصفات إنسانية تنطوي على المصادقة.

وبعد ذلك مددنا بصرنا إلى مسافة بضعة أميال شمالًا، وهناك فوق منحدرات تلال الأردن المشرفة على ذلك الأخدود المخيف رأينا تلك القرية الصغيرة التي كانت مسقط رأس «أرميا»، ذلك النبي العبراني وموطنه. لقد أشرف بنظره طول حياته على ذلك المنظر الهائل الذي يدل على قوة التطورات الطبيعية وعنفها، ومع ذلك فإنه كان يشعر بعالم تلك القوى الباطنة التي كان يعتقد عدم فنائها، ونجد ذلك فيما عزاه من الأقوال إلى إلهه فيما يأتي:

اجعل شريعتي في داخلهم واكتبها على قلوبهم.

أرميا ٣١: ٣٣

ولقد أثبت لنا ذلك المشهد فعلًا حقيقة ما قيل من أن ذلك الانتقال المدهش من عالم القوى الطبيعية المحضة إلى عالم القيم الإنسانية التي لا تفنى، قد حدث فعلًا على وجه ما في الشرق الأدنى القديم. وبينما كنا جالسَيْن بعد ذلك مشرفَيْن على قرية ذلك النبي «أرميا» الصغيرة، إذ حوَّلنا أعيننا نحو الجنوب الغربي، عبر تلال «يهودا» الماحلة التي يقع خلفها وادي نهر النيل، موطن أقدم شعب وصل إلى الشعور بقوة المثل العليا في السلوك الخلقي — وهي المثل التي بدأت «الانتقال العظيم» — وتذكرنا أنه، قبل مولد «أرميا» بألفي سنة، كان حكماء الاجتماع المصريون أسبق الناس إلى إدراك قيم الأخلاق ومعرفة القيم القلبية الباطنة عند الإنسان، وكيف أن كتاباتهم قد انتقلت إلى فلسطين فأثمرت ثمرتها في حياة العبرانيين، وبذلك صار الأنبياء العبرانيون، الذي نبهتهم الظواهر الاجتماعية التي نهضت فوق ضفاف النيل، منارًا يستضاء به في كل أنحاء العالم.

وهنالك بدأنا ندرك بالتدريج مدى تأثير قصة البشرية الطويلة، على وجهها العام، حينما أخذت تنتشر بسرعة في أقطار الشرق الأدنى القديمة.

وقد كانت ذكرى عظيمة عندما نظرتُ مرة ثانية في خلال يوم آخر من قمة تل «أرماجِدُّون» نحو الشمال عبر ذلك السهل ذي الطبقات المسمى باسم التل، وتأملت مرتفعات أراضي الجليل، فهنالك بين جبال قرية الناصرة لا بد أن الطفل عيسى كان يشرف كثيرًا على هذه الساحة التي كانت ميدانًا للحرب على مدى العصور، وقد كانت إذ ذاك ظلال السحاب تزحف وئيدًا فوق تلال الناصرة التي كان يخيم عليها الضباب مع أنها لا تبعد عنا إلا ثمانية أميال فقط. وكانت شرفات حصون «أرماجدون» تطل من تلك الأتربة التي كنت واقفًا فوقها، وكانت أعمال الحفائر التي كنا نقوم بها وقتئذ في ذلك المكان آخذة في إزالة تلك الأتربة، وكانت هذه الشرفات تشرف على كل ذلك السهل التاريخي. أما مدينة «أرماجدون» الحصينة التي تعد أثرًا من آثار تلك القوة البشرية فكانت لا بد ظاهرة للعيان من خلال تلال قرية «الناصرة»، وقد كانت تشرف طوال أزمان حكم القوة على مشاهد الفتح وسفك الدماء التي كانت تقع في ذلك السهل الواقع أسفل منها وهي أزمان كانت أسمى آلهتها آلهة العنف والتقتيل الذي كانت تبتهج به نفوس أمثال أولئك الأنبياء الأشداء كالنبي «إيليا». ثم قضت على ذلك بالتدريج تلك المثل العالية للسلوط الأخلاقي التي جاءت من وادي النيل، إلى أن أشرق نور ذلك الإله الرحيم فوق تلال «الناصرة»، وهو ما رآه ابن نجار يهودي المنبت٧ نشأ في قرية صغيرة من قرى «الجليل» تقع خلف حافة التلال الشمالية بالضبط، وتشاهد بجلاء من شرفات «أرماجدون». وكما كان النبي «أرميا» يشاهد وهو ينظر من خلال قريته فِعل تلك القوى الطبيعية الهائلة ويبقى في الوقت نفسه متمسكًا بعقيدته في القيم النفسية الباطنة، كذلك كان نبي قرية «الناصرة»، ذلك الشاب الذي شب وترعرع فيها، ترى عيناه كل يوم تلك المناظر التقليدية الدالة على وحشية القوة البشرية، ويبقى مع ذلك متمسكًا بأهداب وحيه عن تلك المملكة الجديدة التي كانت قائمة في قرارة نفسه. ففي فلسطين كان هذا في الواقع هو الانتقال السامي من النبي «إيليا» إلى يسوع، ومن جبال الكرمل و«أرماجدون» إلى قرية «الناصرة».

على أن الوصول إلى هذه الذروة الرفيعة في فلسطين إنما أتى في وقت متأخر نسبيًّا، فهو ثمرة مهد لها الطريق ذلك الانتقال المبكر — وهو الذي سميناه «الانتقال العظيم» — والذي رفع الإنسان من النضال الذي كان مقتصرًا على الطبيعة ونقله إلى ميدان آخر جديد هو ذلك النزاع القائم بينه وبين نفسه للتغلب على روحه نفسها، واحتضان تلك القيم الجديدة التي تسمو به فوق عالم المادة فتكون مادة لحقيقة جديدة، وهي التي نسميها الأخلاق أو الخلق.

وقد رأينا أن العوامل التي كونت ذلك الانتقال المبكر نشأت في مصر، ثم انتقلت منها إلى فلسطين، ثم إلى سائر أمم العالم التي ظهرت بعد ذلك، فلم يكن من باب مجرد الاتفاق والصدفة أن يتتبع التاريخ العبراني أصول القومية العبرانية إلى وادي النيل، الأمر الذي نجد صدى تقاليده باديًا في العقيدة المسيحية، حيث نجد في الأسفار المسيحية ما يأتي: «من مصر قد ناديت ابني.»

وفي عهدنا الحاضر نبحث نحن أيضًا في بلاد الشرق القديم عن أعمال الطبيعة وعن أعمال الإنسان، وفي القيام بجهاد جديد من المحاولة العلمية لاسترداد قصة كلٍّ منهما، ولكننا قد أدركنا مما مضى ما فيه الكفاية لأن يثبت لنا أن قصتهما واحدة؛ أي إن حركات الطبيعة وحياة الإنسان السائرة نحو التقدم هما في الواقع فصول من قصة واحدة عظيمة، وأن في النظر إلى ذلك الأخدود المخيف الذي يتكون منه الآن «البحر الميت»، والذي يواجهنا في صورة رهيبة بسؤال «هيكل»، قد نجد جوابًا عليه ليس في استطاعة العلوم الطبيعية أن تقدمه، وهو جواب لا يأتينا إلا إذا تأملنا تلك التجاريب البشرية التي قامت في الشرق القديم، وأدركنا أن ذروة الكون السائر في سبيل الارتقاء هي الأخلاق.

وقد كان الغرض الذي نرمي إليه في هذا الكتاب هو تقديم الأدلة التاريخية على أن حركة الرقي البشري الذي أنتج الأخلاق لم تتكامل بعد،٨ وأنها لا تزال سائرة في طريقها، وأن احتمالات مستقبلها غير محدودة، وأن الواجب يقضي علينا بأن نجعل ما لتلك الحقيقة الجديدة من أهمية خطيرة نصب أعيننا لتكون مؤثرًا عمليًّا في سلوكنا الأخلاقي. فإذا عملنا بذلك نصل إلى الاقتناع التام بأننا لا نعتمد في حياتنا على مجرد حقائق تقليدية وتعاليم موروثة ربما كانت لا تكاد تتفق مع ميولنا، ولكن كما انبثق نور الأخلاق في ظلمة لم تكن تعرف مثل هذا النور من قبل، فكذلك لا نشك في نمو ذلك النور حتى يضيء نواحي أخرى من الوجود لم تتحقق بعدُ في العصور التي لم يسبر بعد غورها للآن، والتي إليها تتجه رؤيتنا المحدودة ولكنها لا تراها.
١  مجلة مصورة هزلية أسست سنة ١٨٤١م، ولا تزال تصدر إلى الآن، وهي مشهورة بنكاتها وتندد في صورة مضحكة في انتقاداتها بالحالة الاجتماعية في عصرنا.
٢  أزفالد سبنجلر فيلسوف عصري ألماني الأصل، وقد ألف كتابًا عنوانه «أفول شمس الحضارة الغربية» وقد استند كثيرًا على الحضارة المصرية وشاد بذكرها، انظر: Das Undergang des Abends Lands.
٣  Education and the Social Order, London, 1932.
٤  وقد جاء ذكر ذلك في كثير من الآيات القرآنية الكريمة، ففي سورة النحل: وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ سورة النحل ((١٦): ٧٢)، وفي سورة الروم: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ سورة الروم ((٣٠): ٢١).
٥  لا شك أنه يقصد بذلك الملك «سمرخت» أحد ملوك الأسرة الثانية المصرية القديمة. انظر كتاب «مصر القديمة»، الجزء الأول، ص٢٧٥.
٦  انظر كتاب المؤلف: Oriental Forerunners of Byzantine Painting, (University of Chicago Press 1924).
وهذا الموقع تقوم فيه الآن حفائر منظمة ببعثة فرنسية أمريكية أرسلتها الأكاديمية الفرنسية.
٧  هذه بالطبع عقيدة المؤلف، وقد رأيناها في الصفحات الأخيرة تخالف أيضًا عقائدنا بشأن نشأة بعض الأديان وقدرها.
٨  جاء في الحديث عن النبي جوابًا على قول من قال له في غزوة «أحد» حينما كُسرت رباعيته وجرحت وجنته حتى سقط في إحدى الحفر: «ألا دعوتَ الله على قومك كما دعا نوح على قومه!» فقال : «ما لهذا بُعثت، وإنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق، اللهم أهدِ قومي فإنهم لا يعلمون.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤