الفصل العشرون

سبق القول عن الكتاب الذي بعثته سيدة إلى أخيها، وفيه توصيه بالحَجر على فؤاد حتى يكون قد انقضى وقت الظهر، وقد فاتنا أن نقول: إنها كتبت في الوقت نفسه كتابًا آخر لغانم، تُخبره فيه بعزيمتها على زيارته في الفندق الشرقي قبل الظهر بساعة واحدة لتذاكره الحديث في أمر ذي بالٍ، وتلتمس منه أن ينتظرها في ذلك الموعد. فلما دخل غلام الفندق بالكتاب على غانم في حجرته تناول غانم الكتاب، وقرأ ما فيه ثم اهتز هزة الظافر المنصور، وجعل يقول في سره متعاظمًا: أما والله، فليس إلا المال يكسب الرفعة والوجاهة والنفوذ، فهو مالك رقاب العباد، وخافض جناح كل عظيم، ورافع شأن كل سافل، ومبلغ الأوطار، وميسر المعاسير، وعليه قوام الكون وعمرانه، أصحابه معززون مكرَّمون سعداء مغبوطون، يقصدهم القاصي والداني وأصحاب الحاجات، ويعنو لهم كل كبير وصغير وكل رفيع وحقير، هذه سيدة الحسيبة الرفيعة قد هبطت من أعلى مقام تلتمس مني أن أتفضل عليها بمقابلة لبعض دقائق معدودة، وكانت قبل ذلك تأنف مني، وتحسبني جاهلًا غبيًّا فاقد الاعتبار والأدب، وأمَّا الآن فتتذلل وتستعطف لأقضي لها حاجة جليلة مهمة بالضرورة، وإلا لما كلفت نفسها الحضور إلى الفندق مع علمها بأن ذلك يقدح في مقامها، وأنه لا يجوز، ولا جرت العادة للنساء اللواتي من طبقتها شرفًا وحسبًا أن يزرن الرجال في الفنادق، وإن صدق حزري فهي تأتي لتسترضيني استمناحًا للعفو عن ابنها والصفح عمَّا أتي من المنكر، فإن كان هذا هو الباعث على حضورها فقد حدَّثت نفسها بالمحال، وتجشمت العناء سدى، وسيذهب سعيها وما أَمَّلَتْ أدراج الرياح، فوالله — حلف لا أحنث به — إني لأُنكلنَّ غلامها، وأبذلنَّ منتهى القوة والجهد، وأنفقنَّ القناطير المقنطرة من الذهب في كسر أنف هذا البيت، وأكيدنَّهم كيدًا مبينًا، وأجعلنَّ فؤادًا بين يديَّ صغيرًا مهانًا، ولقد ورثت عن والدي أني لا أقبل شفاعة متشفع، ولا رجاء ضارع، وأني أرد كل سؤال سائل، وأن أشمخ حين يتصاغر لي قاصدي، كما أتصاغر لمن شمخ عليَّ، فهي عادات اكتسبتها فلن أحيد عنها، إذ أصبحت لي طبيعة ثانية. ثم إنه جعل ينظر من حين إلى حين من نافذة الحجرة التي هو فيها ليرى سيدة قادمة، وكان يكشف ساعته من دقيقة إلى دقيقة ويقول: إن أبطأت سيدة عن الحضور في موعدها لو لدقيقة واحدة خرجت، فلا تراني، لتعلم مقداري وشأني.

وبينما هو مطل من النافذة إذ بعربة وقفت أمام باب الفندق، فنزل غلام كان جالسًا إلى شمال سائقها وفتح بابها، فانحدر منها سيدتان عليهما علامات الوقار والجلال لابستان ثيابًا سوداء إحداهما كهلة والأخرى صبية في غاية اللطف والجمال، تقدمتا للدخول إلى الفندق فعرف غانم سيدة أم فؤاد، ولم يعلم مَن الفتاة، وقد أحسَّ بشرٍّ من هذه الزيارة، فنهض من مكانه، وتقدَّم نحو مرآة في حجرته ينظر وجهه ويرتب شعره، فلم يكن كلمح البصر حتى قرع الباب فأسرع فتحه لسيدة، فدخلت بغاية الجلال والعزة، وسلمت بقلب جريء، فعند رؤيتها شَعَرَ غانم بانحلال عزيمته وتداعي همَّته وعظمته إلى السقوط شأن كل دنيء سافل عند مقابلته الكبراء والعظماء، فردَّ عليها السلام بغاية التكريم خافضًا رأسه، وقال لها مترحبًا: أوليتني شرفًا عظيمًا بهذه الزيارة يا سيدتي، ثم أجلسها على مقعد من القطيفة كان في الحجرة، وأجلس عفيفة إلى شمالها، وكانت عفيفة قد أبصرت أن المزور خالها فعرفته، وانقبض وجهها، وأوجست من هذه الزيارة شرًّا، وهي لا تعلم المقصود منها، وكان غانم ينظر إلى الفتاة اختلاسًا بطرف عينه، وقد أدهشه حسنها الرائق، وأعجبه لياقة ملبوسها، ثم جعل يتأمل هيئة سيدة، فلم يجدها مخطوفة اللون مضطربة كما سبق فتوهم، بل رآها بعكس ذلك مطمئنة طلقة الوجه، فحار في أمره واندهش سره.

وكانت سيدة تعلم جيِّدًا طباع غانم وأخلاقه ودناءة نفسه، فأدركت أن لؤمه يستطيل عليها، ويشمخ بأنفه إلى العُلا إن رأى منها تصاغرًا وضعفًا، فتلبست بالعزة والقوة، ورأت من اللازم أن تُحادثه بقوة الحجة والبرهان فتغلب عليه إذ لم يكن من سبيل لإقناعه بلين الكلام وتحريك العواطف الإنسانية فيه. وقد قدمنا أن هذه السيدة كانت على ذكاء مفرط وبراعة في الحديث كلية، فقالت لغانم وهي تنظر إليه مبتسمة: أطلعني أخي همام على كتاب سطرته جنابك، فبعثته إليه في الأمس، ولدى تصفحه قد غضب وهاج هياجًا بيِّنًا، وكان قد عزم على أن يجاوبك بعبارة عنيفة من مثل كتابك وقول شديد، فمنعته عن ذلك بمجاهدة النفس، وأنت تعلم طباعه ومقدار حدثه، وأنه خدم في الجهادية أربعين سنة، ولم يرهب كبيرًا ولا عدوًّا شديدًا، وأنه على همته الأولى ونشاط الشباب لم تسقط له عزيمة، فلو جرت المكاتبة بينك وبينه على نسق كتابك في الأمس وقعت أمور مكدرة ومحزنة لا تُرد ولا تعوض، فمن أجل ذلك كلفت نفسي الحضور إليك؛ لأدفع البلاء، وأنت ذكي فطن، لا تخفى عليك الإشارة.

فاضطرب غانم عند سماع هذا الكلام، ولم يرد في خاطره أن ذلك الكتاب الذي كتبه يُورث خصامًا شخصيًّا بينه وبين همام، وكان يعلم حق العلم أن همامًا بطل صنديد قوي الجنان وشجاع عنيد، فخاف على نفسه — والبخيل جبان — أن يهلك بسبب هذه العداوة، ولكنه أخفى الكمد وأظهر الجلَد، وقال لسيدة: معاذ الله أني أكون قد قصدت عداوة لأخيك همام، ولكن لا أرى من الممكن أن أسحب من كتابي كلمة كتبتها فيه.

قالت: إذن تقف موقف عناد، ومرادك حمل أخي على مبارزتك، والله يعلم أني لولا التوسط بينكما وحضوري لمداركة الأمر ودفع النازلة؛ لتحدَّث الناس بخبركما مجروحَيْن أو مقتولَيْن.

قال: كل شيء بقضاء الله، ولا ينفع الحذر إن وقع القدر.

قالت: أنت أدرى بمصلحتك، على أني أودُّ لو تستعمل اللين في خطابك، فلا ترهب قلب هذه الصبية (وأشارت إلى عفيفة)، فهي شديدة التأثر رقيقة الشعور، لطيفة الطباع، وتنزعج لسماع أقل كلمة غضب أو نفور، ولا أظنك جافي الطباع حتى لا تبالي بحياة فتاة جميلة كهذه، وأنت لم تسألني بعد عنها.

فتفرَّس غانم عفيفة، وقد أدهشه جمالها البديع ثم قال لسيدة: قبل أن أسألك عن اسمها أسألك إن أذنت لي عن السبب الذي بعثك على تشريفي بهذه الزيارة.

قالت: السبب هو أنك في كتابك لم تقتصر على إهانة أخي همام حتى أسأت الظن بابني فؤاد وثلبته ورشقته بالتهم الفظيعة، قلت عليه الأكاذيب الفاضحة، وزعمت أنه يعجز في الدفاع عن نفسه تبرئة له وصونًا لاسمه عن العار والابتذال، ثم لو أن طعنك جاء مقصورًا على همام وفؤاد لما اهتممت، ولا كلفت نفسي مشقة الحضور إلى مكان لا يليق حضور السيدات المخدَّرات مثلي فيه، ولكنك تعرضت في كتابك لثلب سيدة شريفة كريمة عذراء فاضلة، فمسست من كرامتها، ووضعت من قدرها تهاونًا في عرضها، ورجمتها بالظنون الخبيثة، وهي ممَّا رميتها به بريئة، والبريء قوي على رد افتراء المفترين، وقد كبر عليَّ سماع الثلب، فدعتني المروءة والشهامة لأنتصر لها وأدفع عنها القول الباطل، وأنشر فضيلتها وآدابها ومحاسنها وكمالاتها، فهذه الفتاة التي تراها أمامك هي عفيفة بنت أختك المرحومة، هي هي بعينها، وقد كانت شقيقتك — رحمها الله — من أعز رفيقاتي، صحبتها زمنًا طويلًا، واتخذتها لي صديقة حميمة، فذكرت عهد الصداقة القديمة والمحبة الوثيقة، ورأيت من الواجب عليَّ أن أتولى أمر بنتها، ولو كنت أنا منها وتوفيت عن فتاة لفعلت أختك بها مثل فعلي بابنتها، فها أنا أسلمها إليك كما استلمتها عذراء طاهرة نقيَّة بريئة من العيب، وما أطلب أجرة ولا ثوابًا، ففعلي لوجه الله الكريم، وكفى بذلك حجة تدفع قول المبطلين المفترين، وتزيل كل ظن فاسد خبيث، وتمنع أسباب الخصام واللجاج بيننا.

فانذهل غانم عند ذلك وحار في أمره شديدًا، وعلم أن خليلًا قد خدعه وأضله ليورثه الهموم والتعب، فجعل ينظر تارة إلى سيدة وتارة إلى عفيفة، ويقول في نفسه: ليس لي — واللهِ — خلاص من هذه الفتاة، وقد كنت ظننت أني نجوت منها، فإذا هي قد بعثت حية، وهبطت عليَّ كالصاعقة تصعقني، فما الرأي والعمل، ما الوسيلة لدفع هذه النازلة؟ قاتل الله خليلًا وقومه المفترين، وتعسًا لمن يسمع له قولًا أو يصدقه في أيمانه، كيف قبلت الرأي منه بغير تدبر؟ وكنت عجولًا، والعجلة تُورث الندامة، وكان الجدير بي أن أتبصر وأتأمل.

قالت سيدة: ما لي أراك مبهوتًا مضطربًا بدلًا من مشاهدتك فرحًا مسرورًا بلقاء ابنة أختك بعد طول البعاد؟! فلعل السرور ملأ قلبك، فعقد لسانك عن الكلام، أو ترى يكون قد كدرتك رؤيتها … بالله انظر إليها فهي غاية اللطف والرقة والكمال، فلو جعلتها في وصايتك، ووسعت لها في منزلك طابت نفسك حبورًا، وأقامت عندك كإحدى بناتك.

قال: علمت أنها أقامت مع فؤاد بعد وفاة والدتها، ولم يبلغني أنها كانت في منزلك.

قالت: لم يكن فؤاد إلا واسطة بيني وبين والدتها، وأنت ترميه بالتهمة وترجم فيه الظنون، فاعلم أن كريمة شقيقتك عند احتضارها وانقطاع أملها من قبولك عفيفة في منزلك تذكرت صداقتي القديمة، فجعلت ابنتها وديعة عندي، ووكلت إليَّ أمرها حتى يهون الله عليها بنصيب حسن، وقد أحسنت — رحمها الله — بي الظن فوفيت الأمانة حقَّها، وأنقذت الصبية من خطر مبين، فأبعدتها عن خليل اللئيم الفاسق الشرير، وجعلتها في حفظ قوم كرام يهتمون في أمرها ويعتنون بها، فلمَّا رأيت جميلي منكرًا عندك والمعروف ضائعًا رددتها إليك لتحسن مثواها، وتجبر خاطرها الكسير، وتكفيها العوز والشدة، وتعزِّيها على فَقْدِ والدتها.

وكانت عفيفة تسمع هذا القول فلا تعي منه شيئًا، وتتعجب ودمعت عيناها عند ذكر والدتها، فناولتها سيدة منديلًا لتمسح به الدمع، وقالت: والله إن قلبي لينفطر من ذكر كريمة، كيف قاست من العذاب في آخر عمرها، رحم الله ثراها، وأسبغ عليها بركاته ورحماته، وعزَّى أهلها وذويها، وألهمهم صبرًا جميلًا على فقدها.

ثم قالت لعفيفة: كفكفي كفكفي يا ابنتي الدمع، وسكِّني الروع أيتها الفتاة المحبوبة، وقَرِّي عينًا، واشكري الله على عنايته الفائقة، إذ رزقك خالًا رحيمًا شفوقًا يتولى أمرك، رُزق غنى واسعًا عميمًا، فلا يبخل عليك بجوده، ولا يضن بمعروفه، يواسيك ويُسلي قلبك المحزون، أبشري فقد أقبل عليك الزمان، ووافتك السعادة وزال الشقاء والتعس.

وكان غانم يسمع هذا القول وقلبه مفعم غمًّا وكدرًا، وكان يقول في نفسه: لئن أقبل الزمان على هذه المنحوسة فلقد أدبر عني، ولئن وافتها السعادة فقد وافتني النحوس، واستقبلني الخراب والدمار، فما يكفيني همي بأولادي حتى أهتم بأولاد الغير، وجعل يسخط على خليل، ويلعنه إذ كان هو السبب في هذه البلية.

ونهضت سيدة تريد الخروج، فتصوَّرت عفيفة أنها ستبقى عند خالها غانم، وتذكرت لؤم طباعه ودناءة نفسه الكلبية وقُبح أفعاله، وكيف أنه أبى قبولها عنده، وكيف قسا قلبه الصخري فأمات شقيقته كمدًا وقهرًا، فسقطت على قدمي سيدة راجية باكية تحلفها بالله تعالى وبابنها المحبوب أن لا تتركها في هذا المكان تموت قهرًا، ثم قالت لها: ارحميني ارحميني واجبري كسري، انظري فقد أوشكت قوتي تنحل، وضاع رشدي، أنقذيني الله يسترك.

وبينما هي تتكلم هكذا إذا بباب الحجرة قد انفتح لهمام وسعيد، وكانا قد حضرا — كما تقدم القول — لاستعطاف خاطر غانم، والإصلاح بينه وبين فؤاد، وكان من عادة سعيد أن يدخل على أبيه بغير استئذان ولا تنبيه، فلم يخلف عادته وصادف دخوله وسيدة واقفة وعفيفة منطرحة على قدميها تستغيث وتسترحم، فأثَّر هذا المشهد عليه وعلى همام، فأقبلا إلى عفيفة وأنهضاها من ركعتها، وأجلساها على المقعد، وجعلا يسليان خاطرها ويطيبان قلبها.

وكانت سيدة قد جلست حين أبصرت همامًا أخاها، وقالت: أحضرت معي الصبية كي أُسلِّمها إلى خالها فهو أحقُّ مني بالوصاية عليها والاهتمام بأمرها، وبذلك تنقطع أسباب الخصام والنزاع، ولكن تأنفت من الإقامة عنده، وليس لي أن أُجبرها وأمنعها وهي تستغيث بي، ولكنني أخاف أن أُرجعها عندي فتستمر أسباب القيل والقال، ويشتد علينا التعب والقلق، فوالله لقد ضاع رُشْدي، فلست أعلم ماذا أصنع. ثم إنها جعلت تقص على همام وسعيد طرفًا من الحديث الذي دار بينها وبين غانم، وتطنب القول في أمانة فؤاد واستقامته، وعفة عفيفة وبراءتها، ونزاهتها من كل عيب وريب.

فقال سعيد: بدا لي من أول وهلة رأي في حل هذه المشكلة، ولعله مصيب وبه التوفيق بين الجميع.

قال همام: أفدنا عن رأيك فلعل به خيرًا لنا أو يكون منه سبيل للخروج من هذا المأزق، فقد — واللهِ — عدمت الرأي على شدة فراستي وذكاء قريحتي في حل المشاكل وتذليل المصاعب، فما أعلم هل عراني الخمول وفترت همتي منذ يوم دخلت في زمرة المتقاعدين حملًا على المعاش.

قال سعيد: الرأي عندي أن نُزوِّج فؤادًا بعفيفة، فبهذه الوسيلة تنصرف الأضغان وتتمكن علاقات المحبة بين الفريقين، ويفوز فؤاد بمرغوبه، وتنال عفيفة جزاء الأمانة والعفاف.

قال همام: والله هذا عين الصواب، وهو الرأي الجدير بالاتباع في هذه الأحوال، لولا ما يحول من الموانع في هذا السبيل.

قالت سيدة: كان فؤاد هدفًا للظنون الفاسدة والتُّهم الباطلة بسبب عفيفة، فلو تزوجها لثبتت تلك الظنون، فالرأي عندي لإزالة الشبهات أن نُزوِّجه بسعدى — كما جرى القول أولًا — ليعلم الناس أنه بريء مما نُسب إليه، فلا يفترون عليه الكذب، والحجة في ذلك أنه لو لم يكن فؤاد بريئًا لما زوَّجه غانم بابنته.

قال سعيد: قد فهمت المانع الحقيقي لتفضيل زواج فؤاد بسعدى، وهذا مانع هين لا عبرة به، ومن الممكن إزالته والفضل لا يخفى، وفضيلة عفيفة تكفيها لكبت أعدائها المفترين وإبطال أقوال الشانئين، والله حكيم، يُقدِّر الأمور قدرها، فيُجازي أحسن جزاء كل فعل جميل.

قال همام: لله درك يا سعيد، ما كنت أظن أنك على هذه الدرجة من الذكاء والفهم، فأنت ترى المانع من زواج فؤاد بعفيفة خلو يدي الاثنين من الثروة، وفي اعتقادك أن الزواج لا يجمل إلا بالموسرين، وأمَّا قليلو المال فمتعوسون والزواج مجلبة التعب والشقاء لهم، والرجل العاقل لا يُقدم عليه إلا بعد أن يكون قد أحرز شيئًا من حطام هذه الدنيا لكفالة راحته وضمان استقباله، وإلا كان من الخاسرين مثله مثل رجل يقع في بحر عجاج متلاطم الأمواج، يطمع في النجاة على خشبة، والبر عنه بعيد والأمان فقيد، ولقد أصبت — واللهِ — أنه لا يجمل بنا أن نجعل فؤادًا وعفيفة في مثل هذا المركز الصعب، بل يجب علينا مساعدتهما بما يمكن، وأن نضمن لهما الاستقبال ليكونا في أمن من غوائل الأيام.

وكان غانم في أثناء ذلك يسمع الحديث، فلا يفوه بكلمة، ويقول في نفسه: الرأي أني أوافق، فإني لو رفضت هذا الزواج فأبقيت عفيفة عندي صرت مسئولًا بالنفقة عليها، وبت أبدًا دائمًا قلق الخاطر متعب السر، فزواجها ولو بقليل من الخسارة أفيد وأليق، فتقرر هذا الرأي عنده، وقال: استحسنت رأي سعيد، ولو أن به كلفة عليَّ، فالإنسان بين شرَّين يختار الأيسر، والألم المؤقت شديدًا أخير من المرض الدائم خفيفًا؛ ولذا قبلتُ بهذا الزواج.

قال همام: من الضروري إذن أن نستدعي فؤادًا، فهو في قهوة البورس قريبًا من هنا لعله يقبل هذا الرأي، فالاعتماد عليه، والرغبة رغبته، فخرج الخادم يدعو فؤادًا.

وقالت سيدة: أنتم تعلمون أن الناس رجموا الظنون في ابني، وقالوا عليه الأقوال الفرية، ووضعوا من قدره ومكانته فلحق به أذى أليم وإهانة جسيمة، والتعويض بمقدار الخسارة، ومن الأوفق أن نُزوِّجه بسعدى لتثبت براءته وتظهر صداقته، وليعلم القوم أنه مظلوم وبريء مما نُسب إليه.

قال سعيد: إن فؤادًا يُحبُّ عفيفة جدًّا والمحبة ضرورية في الزواج وبها البهجة والسعادة، وهي جالبة الراحة وكافلة السعادة، والذين يتزوجون على هذه السُّنَّة أسعد الناس حاضرًا واستقبالًا، وجميع أوقاتهم سعود وأفراح، وبانعدام المحبة ينعدم كل سرور، وقد رأينا فؤادًا محبًّا عفيفة محبةً فائقةً يحتمل من أجلها كل مشقة وكريهة، ويستسهل كل صعب، فليس من العدل حرمانه من مطلوبه وإكراهه على الزواج بسعدى، وهو لا يحبها، وعلى سائر الأحوال فعفيفة وسعدى عند والدي في المعزة سواء، فكلتاهما ابنتاه ومنزلتهما واحدة، وهو أدرى بالتوفيق بينهما وجبر خاطر كل من الاثنتين.

وما أتمَّ سعيد كلامه حتى دخل فؤاد، فحيَّا وسلَّم ثم جلس، فأخبره بما اجتمع عليه رأيهم فتهلل وجهه، وجعل يشكر، ويردد عبارات الثناء على الجميع، وعند ذلك زال الكدر من قلب عفيفة، وأشرق وجهها، وتلألأت أَسِرَّة جبينها بنور الحبور.

وقال همام لابن أخته يخاطبه: لك الهنا يا فؤاد، فعروستك ثمينة في آدابها وفضائلها، ومحاسن خُلُقها وهي كنوز تفوق كنوز الذهب قدرًا وقيمةً، وأنت أهل لكل مديح إذ برهنت بفعلك عن كرم أصلك وكرم سجيتك، وكنت أمينًا صادقًا حافظًا عهد الصداقة، فلذلك عقدنا الرأي على تبليغك مأمولك، فيكون زواجك بمن تهوى جامعًا لأسباب السعادة كافلًا للتوفيق، فأنا أدعو لك بالهناء، ولمكافأة فعلك المبرور أوهبتكما هبة شرعية منزلي الذي أملكه في شارع الإسماعيلية فتقيمان فيه الزفاف وتسكنانه، وتجعلانه تذكار عهد مقدس جزاء الأمانة والصلاح والصداقة.

فهمَّ فؤاد ليشكر فضل خاله فقاطع عليه غانم بقوله: مهلًا أيها الشاب، فلك من وقتك السعة لتبدي عبارات الشكر على مهل، وكان تبرع همام على فؤاد بمنزله هيَّج في غانم السخاء، فأراد الفخار لنفسه، وأن يتبرع على ابنة أخته بشيء من ماله فقال: إن شريعة الحق تقضي على مَن تسبب بضرر أن يرده، وقد أسأت يا فؤاد فيك الظن بسماع الفتنة، فتجنيت عليك واعتديت، أمَّا الآن فقد ظهر لي الحق، وتبيَّنتُ ضلال القول وأقوال الوشاة، وخبث طوية الأعداء، فمن الواجب عليَّ إصلاح ما أفسدت، فقد قبلت قبولًا تامًّا واختياريًّا أنك تتزوج بابنة أختي، التي أخصص لها أبعدية في الريف تبلغ مائدة فدان من أحسن الأرض تربةً وموقعًا، فتستفيدان ريعها وتمرحان في رزقها الواسع وخيراتها الكثيرة.

فسمعت سيدة هذا القول بغاية التعجب، وكانت تظن غانمًا أبعد من أن يتخلق بأخلاق الكرام، وكانت تَودُّ وتُفضل أنه لا يجود على عفيفة بشيء، فكل قصدها أن تُزوِّج فؤادًا بسعدى، ولكنها لم تجد مساغًا للقول والتردد بعد أن رأت قبول الجميع، فاستخارت الله في الغنيمة الباردة من كف همام وغانم ترويجًا لهذا الزواج، فإن فيما تبرعا به كفاية للإقامة في عيش رغيد، فمن أجل ذلك التزمت السكوت، فلم تَفُهْ بكلمة.

وقال سعيد بعد أن فرغ والده من الكلام: لا بدَّ لي أن أُهنِّئ نفسي بزوال الخصام وظهور براءة فؤاد وصداقة بنت عمتي له وعفتها، ولذلك فإني أهديها عربة فاخرة بخيلها وأدواتها فتجعلها للنزهة، وتستعيض عمَّا فاتها من اللهو والحظ في سابقة الأيام، فنهض حينئذ فؤاد، وجعل يده بيد عفيفة، وابتدأ بتقبيل يدي والدته، ثم حيَّا الحضور بأبهى تحية، وشكر فضل المتفضلين وأثنى عليهم ثناء جميلًا.

ثم ما انتهى من شكره حتى وقف خاله همام خطيبًا فقال: ما جزاء الإحسان إلا الإحسان، قد قام فؤاد وعفيفة بعمل جليل، وبلغا النهاية في الأمانة والصداقة، فبلغهما الله المأمول وفوق ما كانا يرغبان، وللعمل الصالح أجر لا يضيع على صاحبه، فهو يعود عليه بالسعادة والإقبال آجلًا كان أو عاجلًا، فليت الشبان يقتدون بالقدوة الحسنة في زمان كثُر فيه الفساد وقلَّ الرشاد، فيعلمون فضل المحبة الصادقة الصحيحة على المحبة الكاذبة الفاسدة، أمَّا كلامي فإليك الخطاب يا فؤاد وإلى عفيفة، فاعلما أن الزواج الذي قلتما عليه لهو أعظم أمر يقوم به الإنسان في حياته، فعليه النجاح والسعادة إن كان موفقًا رشيدًا، وعليه التعاسة والشقاء إن كان الغرض فاسدًا، وقد عبَّر المتكلمون عنه بأنه اشتراك أدبي جسمي بين الرجل والزوجة؛ ليتقاسما مدى العمر أفراح وأتراح هذه الدنيا، وهو القول الصادق والحجة البالغة، وليس أضل سبيلًا ممن يزعم أن الزواج عقد تجاري يرغب فيه للكسب والغنى، تالله إن من يتوهم ذلك لعلى ضلال مبين، وسوف يعلم من اختبر الأمر بنفسه حقيقة قولي؛ فيندم حين لا ينفعه الندم شيئًا، فينبغي على الإنسان الراغب في الزواج أن يوسع في قلبه محلًّا للمحبة والميل، وأن يبعد عنه شهوة الطمع والشبق، فيتخذ له زوجة مهذبة مجملة بالفضائل والأدب، توافقه في الطباع والمشرب ليعيش سعيدًا في قربها، ويُرزق بالأولاد السعداء، فإن الأبناء أسرار الآباء بهم يقتدون ويتشبهون، ولا بدَّ من العلم بأن الزواج يُحمِّل صاحبه واجبات مهمة يقوم بها وأخصها أمانة الزوجين، فلو خرج أحدهما عن الأمانة فسد نظام العائلة وزالت النعمة عنها والسعادة، وقام الخصام بديلًا عن السلام، ولعبت بالبيت أيدي الخراب والدمار. فأحمد الله أنك يا فؤاد وأنت يا عفيفة قد برهنتما على أمانة صادقة ومحبة خالصة، فتلك ضمانة تكفل سعادة الاستقبال ونجاح الأعمال، فأسأل المولى — جل وعلا — أن يُحقِّق هذه الآمال، ويشمل ببركته ونعمته هذا الزواج، ويفيض عليه الخيرات، وأن يجعلكما قدوة لشبان هذا الزمان تفتخر بهم الأوطان.

سبحانه مجيب السؤال، وهو على كل شيء قدير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤