تقديم

عند اختيار الخطابات الملائمة للنشر، كان الدافع الذي يُوجِّهني إلى حدٍّ كبير هو الرغبة في توضيح طبيعة شخصية والدي. غير أنَّ حياته كانت حافلةً بالعمل وقد كرَّسَها له بصفةٍ أساسية؛ فلم يكن من الممكن أن نسرد تاريخ الرجل دون أن نقتفي عن كثَبٍ أَثَر حياته العملية كمؤلِّف؛ ومِن ثَمَّ، فإن الجزء الأكبر من هذا الكتاب عبارةٌ عن فصولٍ تناظر عناوينها أسماء كتبه.

وعند ترتيب الخطابات، حاولتُ أن ألتزم بالتسلسل الزمني لها قدْر الإمكان، لكن طبيعة أبحاثه وتنوُّعها تجعل من الالتزام التام بهذا أمرًا مستحيلًا؛ فقد كانت عادته أن يبحث في موضوعات متعددة في الوقت نفسه تقريبًا. وغالبًا ما كان يُجري تجارِبه على سبيل التنويع أو تنشيط ذهنه، بينما كان يعكف على كتابة الكتب التي تنطوي على التسويغ المنطقي وتجميعِ عددٍ هائل من الحقائق وترتيبها. وعلاوةً على ذلك، فقد توقَّف عن العمل في العديد من أبحاثه ولم يستأنفه إلا بعد عِدَّة سنوات؛ ومِن ثَمَّ، فسوف نجد أنَّ الالتزام التامَّ بالتسلسل الزمني في عَرض الخطابات، لن يُنتج لنا سوى مزيج مختلط ومتنوِّع من الموضوعات المختلفة، التي سيصعب متابعة كلٍّ منها. وسوف يُوضِّح جدول المحتويات ما قد حاولتُ القيام به لكي أتفادى مثل هذه النتيجة.

لقد اتبعتُ في عرض الخطابات الطريقة المعتادة في الإشارة إلى وجود حذف أو إضافة (وذلك باستثناء حالات قليلة). والواقع أنَّ خطابات والدي كثيرًا ما تعطي قارئها انطباعًا بأنه قد كتبها على عجل أو كتبها وهو مُرهَق، وهي تحمل علاماتٍ على ذلك. وكثيرًا ما كان يحذف أدوات التعريف والتنكير وكلمات الربط القصيرة حين كان يكتب إلى صديقٍ أو إلى أحد أفراد العائلة، وقد أضفتُها بدون ذِكر الإشارات المعتادة على ذلك، فيما عدا حالات قليلة؛ فثَمَّةَ أهميةٌ خاصة للحفاظ على طبيعة التعجُّل التي تتضح في الخطاب، دون أن يُجرى المساس بها. ولم أتبع في هذه الخطابات تنسيق الخطابات الأصلية من حيث الالتزام بتهجِّي الأسماء أو استخدام الحروف الكبيرة أو علامات الترقيم. وكذلك كان والدي يضع خطًّا تحت العديد من الكلمات في خطاباته، غير أنني لم أميزها كلها في الكتاب؛ إذ إنَّ ذلك سيُؤدِّي إلى المبالغة في التأكيد عليها بغير وجه حق.

لقد كانت لمفكرته اليومية أو لمفكرة جيبه والتي وَردَت فيها الاقتباسات التي سيَلي ذكرها في الصفحات التالية، فائدة عظيمة؛ إذ أَمدَّتنا بإطارٍ من الحقائق يمكن تصنيف الخطابات إلى مجموعاتٍ وفقًا لها. ومن سوء الحظ أنها قد كُتبت باختصار كبير؛ فتجد تاريخ عام كامل وقد تكدَّس في صفحةٍ أو أقل، وهي لا تتضمن سوى تواريخ الأحداث الأساسية في حياته أو أكثر قليلًا، مع بعض الإدخالات المرتبطة بعمله، وكذلك بتلك الفترة التي كان يعاني فيها من مرضٍ شديد. لم يُؤرِّخ أبي خطاباته إلا نادرًا؛ لذا، فلولا تلك المُفكِّرة، لَمَا تَمكنَّا من معرفةِ تاريخ كتبه. كما أنها قد مكَّنَتني أيضًا من تحديد تواريخ العديد من خطاباته، والتي لولاها لكانت قد فَقدَت نصف قيمتها.

أمَّا الخطابات المُوجَّهة إلى والدي، فلم أعرض منها الكثير؛ فقد كانت عادته أن يحتفظ بجميع الخطابات المُرسَلة إليه في مِلفَّاتٍ صغيرة (وهي التي كان يدعوها باسم «الأسياخ»)، وحين كانت تمتلئ عن آخرها، كان يحرق خطابات سنواتٍ عديدة، لكي يستخدم «الأسياخ» الفارغة. وقد استمر في فعلِ ذلك على مدى سنواتٍ تخلَّص فيها من الغالبية العُظمى من الخطابات التي تلقَّاها قبل عام ١٨٦٢. أمَّا بعد ذلك، فقد أقنعه البعض بأن يحتفظ بالخطابات المهمة والمثيرة، والتي قد جرى حِفظُها بطريقةٍ يسهُل الوصول إليها.

حاولتُ في الفصل الثالث أن أُقدِّم صورةً عن أساليبه في العمل؛ فلقد عمِلتُ مساعدًا له في السنوات الثماني الأخيرة من حياته، مما أتاح لي الفرصة للتعرُّف على بعض عاداته وأساليبه.

لقد تلقَّيتُ مساعدات جمَّة من أصدقائي في أثناء عملي على هذا الكتاب؛ فأنا مَدينٌ لبعضهم بعرضِ ذكرياتهم مع والدي، ولآخرين بإمدادي بالمعلومات والنقد والنصيحة؛ فإلى جميع هؤلاء الذين قدَّموا المساعدات، أُقِر بما لهم من فضل كبير. وسوف أذكر أسماء بعضهم حين يَرِد ذِكر مساهماتهم، غير أنني لن أذكُر أسماء مَن أَدين لهم بفضل فيما يتعلق بالنقد وتصويب ما وَرَد من أخطاء؛ ذلك أنني أُريد أن أتحمَّل وحدي مسئولية أخطائي، فلا أدع أي جزءٍ منها يقع بأيِّ حالٍ من الأحوال على عاتقِ هؤلاء الذين قد بذَلوا قُصارى جهدِهم للحدِّ منها وتصويبها.

وسوف يتضح للقارئ مِقدارُ ما أَدين به من فضلٍ إلى السير جوزيف هوكر، لِمَا قدَّمه من وسائل قد ساعدَت في تصويرِ حياة والدي. وأعتقد أنَّ القارئ أيضًا سيشعر بالامتنان للسير جوزيف لِما أولاه من عنايةٍ لحفظ مجموعته القيمة من الخطابات، كما أنني أَودُّ أن أُعبِّر عن شكري وتقديري لِكرمه لوضعِ هذه الخطابات تحت تصرُّفي، وكذلك لِما أمدَّني به من عطفٍ وتشجيعٍ على مدى عملي.

كما أنني أَدين بالشكر إلى السيد هكسلي، ليس فقط لِما قدَّمه لي من مساعدةٍ كبيرة، وإنما أيضًا لأنه قد تفضَّل بقَبولِ طلبي في أن يساهم بكتابةِ فصلٍ عن الاستقبال الذي حظي به كتاب «أصل الأنواع».

وأخيرًا، فإنه يُسعدني أن أتقدَّم بالشكر والتقدير لما أظهره ناشرو مجلة «سينتشري ماجازين» من لطفٍ وفضل؛ إذ أتاحوا لي كاملَ الحرية في استخدام رسوماتهم التوضيحية. كما أنني أَدين بالشكر إلى كلٍّ من السيدَين مول وفوكس، والسيدَين إليوت وفراي؛ إذ كان لطفًا منهم أَنْ سمَحوا لي بعرضِ نُسخٍ من صُورهم.

فرانسيس داروين
كامبريدج
أكتوبر، ١٨٨٧

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤