الفصل الأول

عائلة داروين

توضح السجلات الأقدم للعائلة أنَّ أفرادها كانوا من ملاك الأراضي الكبار الذين يعيشون على الحدود الشمالية لمقاطعة لينكنشير، بالقرب من يوركشاير. لقد أصبح الاسم نادرًا للغاية في إنجلترا، لكنني أعتقد أنه معروف في أنحاء شيفيلد ولانكشاير. وفي عام ١٦٠٠، نجد أنَّ الاسم صار يُكتب بطرق عدة مثل: دِروِنت ودارون ودارويين وغير ذلك؛ لذا فمن الممكن أن تكون العائلة قد انتقلت في وقتٍ ما غير معلوم من يوركشاير أو كامبرلاند أو ديربيشاير، حيث يُوجد نهرٌ يُسمى دِروِنت.

إنَّ أول مَن نعرفه من الأسلاف هو ويليام داروين، وقد كان يعيش في مارتون بالقرب من جينزبوره عام ١٥٠٠ تقريبًا. وورث حفيده الأكبر ريتشارد داروين بعض الأراضي في مارتون وغيرها، وفي وصيته التي يعود تاريخها إلى عام ١٥٨٤، نجد أنه قد «خصَّص مبلغًا قدره ثلاثة شلنات وأربعة بنسات للمساهمة في دفع النفقات اللازمة لتعليق شعار النبالة الخاص بجلالة الملكة على باب المكان المخصص لجوقة الإنشاد في الكنيسة الرعوية في مارتون.»

يبدو أنَّ ويليام داروين، نجل ريتشارد، والذي وُصف بأنه «رجلٌ نبيل»، كان رجلًا ناجحًا؛ فلقد حافظ على ملكية الأرض التي ورثها من أسلافه، وكذلك حاز ضيعة، عن طريق الشراء ومن خلال زوجته، في كليثام بأبرشية مانتون بالقرب من كيرتون لينزي، واستقر هناك. وظلت هذه الضيعة ملكًا للعائلة يتوارثها أجيالها حتى عام ١٧٦٠. ولم يَتبقَّ من أثَر هذه الضيعة التي تُدعى أولد هول سوى كوخ سميك الجدران وبعض بِرَك الأسماك والأشجار القديمة، ولا يزال بتلك المنطقة حقلٌ يسميه أهلها باسم «حقل داروين الخيري»؛ إذ خُصص جزء من عائداته لصالح فقراء مارتون. لا بد أنَّ ما ناله ويليام داروين من ترقٍّ في مكانته الاجتماعية يعود الفضل فيه، ولو جزئيًّا، إلى المنصب الذي كلَّفه به الملك جيمس الأول عام ١٦١٣؛ إذ عيَّنه حارسًا بمُستودع الأسلحة الملكي في جرينتش. لم يكن المقابل المادي لهذه الوظيفة يزيد عن ثلاثة وثلاثين جنيهًا في العام، أمَّا الواجبات، فالأرجح أنها كانت شكلية فحسب، وقد احتفظ بهذا المنصب حتى وفاته في أثناء الحروب الأهلية.

إنَّ حقيقة أنَّ ويليام هذا كان موظَّفًا ملكيًّا قد تُفسِّر لنا السبب في أنَّ ابنه، الذي يُسمى ويليام أيضًا، قد التحق بخدمة الملك وهو لا يزال صبيًّا، فانضم إلى فرقة الفرسان التابعة للسير ويليام بيلم، برتبة «ملازم أول». وعند التسريح الجزئي للجيوش الملكية، وتراجُع الجزء المتبقي منها إلى اسكتلندا، صادر البرلمان أملاك الصبي، لكنه استعادها مجدَّدًا بعد توقيعه على اتفاق «التحالُف والعهد»، وبعد أن دفع غرامةً لا بد أنها قد أثَّرت في أوضاعه المالية تأثيرًا بالغًا؛ ففي الالتماس الذي تقدم به إلى الملك تشارلز الثاني، نجد أنه يتحدث عما حل به من خسارة كبيرة جدًّا جزاء إخلاصه للقضية الملكية.

وفي أثناء فترة الكومنولث، أصبح ويليام داروين مُحاميًا في جمعية لينكن للحقوق، ولعل ذلك هو ما أفضى إلى زواجه بابنة إيرازموس إيرل، الذي كان محاميًا من الدرجة الأولى، والذي أخذ منه حفيده الأكبر، الشاعر إيرازموس داروين، اسمه الأول. وفي النهاية، أصبح قاضيًا لمدينة لينكن.

أمَّا الابن الأكبر لهذا القاضي، الذي سُمي ويليام هو الآخر، فقد وُلد في عام ١٦٥٥ وتزوج بوريثة روبرت وارينج، الذي هو سليلُ عائلةٍ جيدة من مقاطعة ستافوردشير. وقد ورثت هذه السيدة من عائلة لاسيلس ضيعة إلستون، التي تقع بالقرب من نيوارك، والتي احتَفظَت العائلة بملكيتها منذ ذلك الوقت. (تولى النقيب لاسيلس من إلستون، منصب كبير مساعدي مَنك، دوق ألبيمارل، خلال الحروب الأهلية.) إنَّ ابن عمي فرانسيس داروين، يمتلك الآن مجموعةً كبيرة من دفاتر الحسابات الممهورة في أماكن عديدة بتوقيع مَنك. وقد تكون لهذه الدفاتر أهمية خاصة لدى خبراء الأَثريات أو المؤرخِين، وهي تتضمن صورةً شخصية للنقيب لاسيلس، مرتديًا زيه العسكري، وهي التي كانت لا تزال بحالةٍ جيدة بالرغم من أنَّ صبيان عائلتنا كانوا يستخدمونها في وقتٍ من الأوقات، كهدف للتدريب على الرماية. ويبدو ويليام داروين في هذه الصورة الشخصية وهو في إلستون، شابًّا حسن المظهر يرتدي شَعرًا مستعارًا طويلًا.

كان لويليام الثالث هذا ولدان، وهما ويليام وروبرت الذي تلقى تعليمه ليصبح محاميًا. ورث ويليام ضيعة كليثام، غير أنَّه قد انقطع نسله من الورثة؛ إذ إنه لم ينجب سوى البنات، وآلت إلى أخيه الأصغر، الذي حصل على ضيعة إلستون كذلك. وعند وفاة والدته، تخلى روبرت عن مهنته واستقر بعد ذلك في ضيعة إلستون هول. وعن روبرت هذا، يكتب تشارلز داروين (ما يلي مقتبس من السيرة الذاتية التي كتبها تشارلز داروين عن جده، كإعلان أَوَّلي عن المقال الشائق الذي كتبه إرنست كراوز بعنوان «إيرازموس داروين»، لندن، ١٨٧٩، صفحة ٤):

«يبدو أنه كان مهتمًّا بالعلوم؛ فقد كان من الأعضاء الأوائل في نادي سبولدينج الشهير. وقد كتب عنه خبير الآثار المرموق، الدكتور ستوكلي، في كتابه «تقرير عن الهيكل العظمي شبه الكامل لحيوان كبير …» الذي نشره على أجزاء في مجلة «فيلوسوفيكال ترانزاكشنز» على مدى أبريل ومايو عام ١٧١٩؛ فهو يبدأ كتابه بما يلي: «لقد عرفتُ من صديقي روبرت داروين، المحامي بجمعية لينكن للحقوق، وهو رجلٌ توَّاق إلى المعرفة، بوجود هيكلٍ عظمي بشري متحجر، عثر عليه كاهن إلستون مؤخَّرًا …» ويتحدث ستوكلي بعد ذلك عن هذا الهيكل على أنه اكتشافٌ نادر وعظيم للغاية، فيكتب: «لم أسمع قط عن مثيلٍ له قد اكتُشف من قبلُ في هذه الجزيرة.» وبناءً على إحدى الصلوات التي كَتبَها روبرت وتناقلتها العائلة من بعده، يبدو لنا أنه كان من أشد المناصرين للاعتدال في الشراب، الذي قد ظل ولده من أشد المناصرين له طوال حياته كذلك:

من صباح لا يشرق بالنور،
ومن ابن يشرب النبيذ،
ومن زوجة تتحدث اللاتينية،
اللهم احمني، وأنقذني!

من المحتمل أن تكون زوجته، أم إيرازموس، هي المقصودة بالسطر الثالث؛ فقد كانت على قدْرٍ عالٍ من المعرفة. وقد ورث الابن الأكبر لروبرت، والذي عُمِّد باسم روبرت وارينج، ضيعة إلستون، وتُوفي هناك وهو في سن الثانية والتسعين، وكان لا يزال عزبًا. كان روبرت متذوِّقًا جيدًا للشعر، كأخيه الأصغر إيرازموس. كما أنه كان يهتم بعلم النبات، وفي أيام كهولته، نشر كتابه «مبادئ علم النبات». كانت مخطوطة هذا الكتاب قد كُتبت بخطٍّ رائع، وقد ذكر أبي [الدكتور آر دابليو داروين] أنه يعتقد أنها قد نُشرت لأنَّ عمه الأكبر لم يحتمل أن يذهب ذلك الخط البديع سُدًى. والحق أنَّ ذلك لا يفي الكتاب حقه على الإطلاق؛ إذ كان يتضمن العديد من الملاحظات الشائقة في علم الأحياء، وهو الذي كان من الموضوعات المهملة تمامًا في إنجلترا في القرن الماضي. بالإضافة إلى ذلك، حظي الكتاب بإعجاب جمهور القراء؛ إذ إنَّ النسخة التي أمتلكها من الطبعة الثالثة له.»

ورث الابن الثاني، ويليام ألفي، ضيعة إلستون، ثم انتقلت ملكيتها إلى حفيدته، وهي الراحلة السيدة داروين، صاحبة ضيعتَي إلستون وكريسكيلد. أمَّا الابن الثالث، جون، فقد أصبح كاهن إلستون، حيث إن تعيين الكاهن كان من ضمن سلطات العائلة. وأمَّا الابن الرابع والأصغر، فهو إيرازموس داروين، الشاعر والفيلسوف.

ويُوضِّح المخطط التالي، انحدار تشارلز داروين من روبرت وكذلك علاقته بغيره من أفراد العائلة الذين يرد ذكرهم في مراسلاته. ومن هؤلاء: ويليام داروين فوكس، وهو أحد مُراسلِيه الأوائل، وفرانسيس جالتون، الذي جمعت بينهما أواصرُ صداقةٍ حميمة امتدت على مدى سنواتٍ عديدة. ويَرِد أيضًا ذكر اسم فرانسيس سيشيفاريل داروين، الذي ورث حب التاريخ الطبيعي من إيرازموس ونقله إلى ابنه إدوارد داروين، الذي ألَّف كتاب «دليل القائمين على مناطق الصيد» (الطبعة الرابعة، ١٨٦٣)، مُستخدمًا الاسم المستعار «هاي إلمز» (أشجار الدردار العالية). ويضم هذا الكتاب ملاحظاتٍ دقيقة عن عاداتِ أنواع مختلفة من الحيوانات.

من المثير دائمًا أن نتأمل إلى أيِّ مدًى يمكن تتبُّع سمات المرء الشخصية عبر أسلافه؛ فلقد ورث تشارلز داروين طول القامة من إيرازموس، لكنه لم يرث منه ضخامة الجسم، وأمَّا الملامح، فليس بينه وبين جده من تشابهٍ ملحوظ فيها. ويبدو أيضًا أنَّ إيرازموس لم يكن يُحب التمرينات البدنية والصيد والرماية، بينما كانت تلك من الأمور التي كان تشارلز داروين يستمتع بها في شبابه، غير أن إيرازموس كان يُشبِه حفيده في حبه الجارف للعمل الذهني الشاق. كما أنهما كانا يشتركان في حبهما لفِعل الخير والتعاطُف مع الآخرِين وكذلك ما كانا يتسمان به من جاذبيةٍ شخصية كبيرة. كان تشارلز داروين يتمتع بأعلى درجة من «خصوبة الخيال»، وقد ذكر أنها من السمات التي كان يتميز بها إيرازموس بالقوة نفسها كذلك، وأنها كانت عاملًا أساسيًّا في «ميله الشديد إلى التعميم ووضع النظريات.» وأمَّا بالنسبة إلى تشارلز داروين، فلم يكن يسمح لهذه النزعة بأن تتملك منه، بل كان يراقبها دومًا؛ إذ كان يُصر على اختبار نظرياته إلى أقصى درجة. كان إيرازموس يُكنُّ حبًّا كبيرًا للآلات بجميع أنواعها، وذلك على خلاف داروين الذي لم يكن مهتمًّا بها. كما أن داروين لم يكن يتمتع بذلك المزاج الأدبي الذي جعل من إيرازموس شاعرًا وفيلسوفًا. لقد كتب داروين عن إيرازموس يقول:1 «أكثرُ ما أدهشني في خطاباته هو عدم اكتراثه بالشهرة، وغيابُ أيِّ أثَرٍ يدل على مغالاته في تقييم قدراته، أو نجاح أعماله.» ولا شك في أنَّ هذه السمات تتجلى بوضوح كبير في شخصية داروين نفسه. لكننا لا نملك دليلًا على أنَّ إيرازموس كان يتمتع بهذا القدْر من التواضُع والبساطة الشديدَين، اللذَين هما من أهم ما كان يميز طباع داروين. لكننا عندما نتأمل نوباتِ الغضب السريعة التي كان يدخل فيها إيرازموس عندما يشهد أيًّا من مظاهر الوحشية أو الظلم، نتذكر داروين وطباعه مرةً أخرى.
figure
بالرغم من ذلك، فإنَّ ما يبدو لي بصفةٍ عامة هو أننا لا نعرف القدر الكافي عن إيرازموس داروين وطباعه الشخصية الجوهرية؛ ما لا يسمح لنا بأن نعقد أكثر من مقارنةٍ سطحية بين الرجلَين. وبالرغم من أوجه الشبه المُتعدِّدة بين الاثنَين، فإنني أعتقد أنهما كانت لهما شخصيتان مختلفتان. ولقد اتضح أنَّ الآنسة سيوارد والسيدة شيميل بينيك، قد أساءتا التعبير عن شخصيةِ إيرازموس داروين.2 بالرغم من ذلك، فمن المحتمل جدًّا أن تكون تلك العيوب التي بالغَتا في التعبير عنها، تنطبق على الرجل إلى حدٍّ ما؛ مما يدفعني إلى الاعتقاد بأنَّه لم يكن يخلو من الفظاظة أو حدة المزاج، وهو ما لم يُوجد في حفيده.

لقد ورث ابنا إيرازموس داروين شيئًا من ميوله الفكرية؛ فقد كتب عنهما تشارلز داروين ما يلي:

«كان ابنه الأكبر تشارلز (الذي وُلد في الثالث من سبتمبر عام ١٧٥٨) شابًّا ذا مستقبلٍ واعد للغاية، لكنه تُوفي في الخامس عشر من مايو عام ١٧٧٨ قبل أن يبلغ من العمر واحدًا وعشرين عامًا، إثر جُرح قد أصابه بينما كان يُجري تشريحًا لدماغ طفل. ورث من أبيه حبه الشديد لفروع مختلفة من العلوم، وكذلك كتابة الشعر، والميكانيكا … كما أنه قد ورث التلعثُم في الحديث، وقد أرسله والده إلى فرنسا وهو في الثامنة تقريبًا (١٧٦٦–١٧٦٧) مع مُعلمٍ خاصٍّ أملًا في أن يُفلِح ذلك في علاجه؛ إذ كان يعتقد أنه إن لم تُتح له الفرصة في التحدُّث بالإنجليزية لبعض الوقت، فستزول عنه عادة التلعثُم. ومن الغريب أنه لم يكن يتلعثم قط في السنوات التالية حين كان يتحدث الفرنسية. بدأ منذ الصغر في جمع العينات بجميع أنواعها. وفي السادسة عشرة من عمره بُعث لمدة عام إلى جامعة أكسفورد [كلية كنيسة كرايست]، لكنَّ المكان لم يرُق له؛ فقد كان يعتقد (كما عبَّر عن ذلك والده) «أنَّ ذهنه المتوقِّد قد فتَر في سعيه هذا إلى طلب الوجاهة الكلاسيكية، مثلما وهَن هرقل إذ انكفأ على مغزله، وكان يتوق إلى الانتقال إلى كلية الطب في إدنبرة؛ حيث الدراسة والممارسة المكثفة.» مكث في إدنبرة ثلاثَ سنوات، كان يجتهد خلالها في دراسته للطب ويرعى «المرضى الفقراء في أبرشية ووترليث بكل اجتهاد وعناية، ويُوفِّر لهم الأدوية اللازمة.» مَنحَته جمعية إسكيليبيان وسامها الذهبي الأول عن بحثٍ تجريبي قام به عن الصديد والمُخاط. وورد ذكره في العديد من المجلات، وقد اتفق جميع الكُتَّاب على ما يتمتع به من طاقة وقدراتٍ متميزة. ويبدو أنَّه كان محبوبًا من أصدقائه، كما كانت الحال أيضًا مع والده؛ فقد تحدث عنه … البروفيسور أندرو دانكان … بعد وفاته بسبعة وأربعين عامًا بأصدق العواطف، وذلك حينما كنتُ أدرس الطب في إدنبرة …

وأمَّا عن ابنه الثاني إيرازموس (الذي وُلد عام ١٧٥٩)، فليس لديَّ الكثير لأقوله؛ فبالرغم من أنه كان يكتب الشعر، فيبدو أنه لم يرث من والده اهتماماته الأخرى، وإنما كانت له اهتماماته المميزة، وهي: علم الأنساب، وجمع العملات المعدنية والإحصاء؛ فعندما كان صبيًّا، أحصى جميع المنازل في مدينة ليتشفيلد وتوصَّل إلى عدد السكان في معظمها؛ وهو بذلك قد قام بتَعدادٍ للسكان، وحين أُجري تَعدادٌ فِعليٌّ للمرة الأُولى، تبيَّن أنَّ التقدير الذي توصل إليه يقترب من الدقة إلى حدٍّ كبير. وكان خجولًا هادئ الطباع، وقد كان والدي يؤمن بقدراته إيمانًا كبيرًا، والأرجح أنَّ ذلك كان حقيقيًّا، وإلا لما دُعي إلى السفر مع العديد من الشخصيات الهامة المميزة في مختلف المجالات وقضاءِ وقتٍ طويل معهم، ومن هؤلاء المهندس بولتون والروائي والفيلسوف الأخلاقي داي.» ويبدو أنَّ حالةً من الجنون قد بدأت تتملك عقله، مما أدى إلى إقدامه على الانتحار الذي أفضى إلى موته في عام ١٧٩٩.

وُلد روبرت وارينج، والد تشارلز داروين، في الثلاثين من مايو عام ١٧٦٦، والتحق بمهنة الطب كوالده. درس لبضعة أشهر في جامعة لايدن، وحصل على شهادة الطب منها في السادس والعشرين من فبراير عام ١٧٨٥. إن والده إيرازموس «قد أرسله3 إلى شروزبيري قبل أن يُتم عامه الحادي والعشرين (١٧٨٧)، وترك له عشرين جنيهًا، قائلًا: «أخبرني حين تُريد المزيد وسوف أُرسل لك المبلغ الذي تريده.» ثم أرسل له عمه، كاهن إلستون، عشرين جنيهًا غيرها وكان ذلك هو كلَّ ما تلقَّاه من مساعدةٍ مالية … وقد أخبر إيرازموس السيد إيدجوورث أنَّه بعدما استقر ابنه روبرت في شروزبيري لمدة ستة أشهر فقط، «كان عدد مرضاه يتراوح بين الأربعين والخمسين.» وبحلول عامه الثاني هناك، اتسع عَملُه وظل في ازدياد منذ ذلك الحين.»
تزوَّج روبرت وارينج داروين في (١٨ أبريل عام ١٧٩٦) من سوزانا، وهي ابنة صديق والده، جوزايا ويدجوود، وهو من إتروريا، وهي التي كانت في ذلك الوقت في الثانية والثلاثين من عمرها. لدينا صورةٌ صغيرة جدًّا لها ظهرت فيها بوجهٍ جميل وسعيد، والذي نجد أنَّ بها بعض الشبه من الصورة الشخصية التي رسمها لوالدها السير جوشوا رينولدز؛ إذ تبدو في طلعتها ملامح الرقة والود، وهو ما تصفه بها الآنسة ميتيارد.4 ولقد تُوفيت في الخامس عشر من يوليو عام ١٨١٧، قبل وفاة زوجها باثنين وثلاثين عامًا؛ إذ تُوفي في الثالث عشر من نوفمبر عام ١٨٤٨. كان الدكتور داروين قد عاش قبل زواجه في شارع سان جونز هيل لعامَين أو ثلاثة، ثم انتقل بعد ذلك إلى حارة ذا كريسنت، حيث وُلدت ابنته الكبرى ماريان، ثم انتقل في النهاية إلى ذا ماونت الذي يقع في ذلك الجزء من شروزبيري الذي يُعرف باسم فرانكويل، والذي شهد مولد جميع أبنائه الآخرين. بنى الدكتور داروين منزل ذا ماونت عام ١٨٠٠ تقريبًا، وقد انتقل الآن إلى ملكية السيد سبنسر فيليبس وخضع إلى بعض التغييرات الطفيفة. المنزل كبير وبسيط ومُربَّع الشكل، وقد بُني بالطوب الأحمر، وتُعد تلك الصوبة الزراعية التي تُطل عليها غرفة الجلوس النهارية أكثر معالمه تميُّزًا.

يقع هذا المنزل في موقع ساحر على قمةِ ضفَّةٍ تنحدر نزولًا إلى نهر السيفرن. ويُوجد على هذه الضفَّة المدرَّجة ممشًى طويل، يمتد من بدايتها إلى نهايتها، وهو لا يزال يُدعى باسم «ممشى الدكتور». وفي مكانٍ ما على هذا الممشى تنمو شجرةُ كستناء حلو، وهي التي تنحني أغصانها إلى الوراء مرةً أخرى بالتوازي بعضها مع بعض بطريقةٍ غريبة، وقد كانت تلك هي الشجرة المفضَّلة لتشارلز داروين حينما كان صبيًّا، وهي التي كان له ولأخته كاثرين فيها مقعدٌ خاص بكلٍّ منهما.

كان الدكتور يجد في الاعتناء بحديقته سرورًا كبيرًا، فكان يزرعها بأشجار الزينة وشُجيراتها، كما أنه قد نجح في زراعةِ أشجار الفاكهة على وجه الخصوص، وأعتقد أنَّ حبه للنباتات هو كلُّ ما كان يمتلكه من ميلٍ قد يمُت بصلةٍ إلى التاريخ الطبيعي. وبالنسبة إلى «حَمَام ذا ماونت» الذي تصفه الآنسة ميتيارد بأنَّه يُوضِّح اهتمام الدكتور بالتاريخ الطبيعي، فذلك مما لم أسمع به ممن هم أكثر درايةً منها ومعرفة بالرجل. إنَّ رواية الآنسة ميتيارد عنه ليست دقيقةً في عدةِ نقاط؛ فهي تذكر مثلًا، أنَّ الدكتور داروين كان يميل إلى التفكير الفلسفي، والواقع أنه كان يميل إلى الاهتمام بالتفاصيل، لا التعميم. وكذلك فإنَّ الذين عرفوه عن قرب يذكرون أنه لم يكن يأكل إلا أقل القليل؛ ولهذا فإنه لم يكن «أكولًا يتناول إوزَّة على العَشاء بالسهولة التي يتناولُ بها غيره من الرجال طائرًا من نوع الحجل.»5 أمَّا فيما يتعلق بذوقه في اللبس، فقد كان تقليديًّا مُتحفِّظًا، وظل حتى آخر حياته يرتدي السراويل القصيرة التي تصل إلى الركبتَين، والجراميق القماشية، والتي لم تصل بالتأكيد إلى ما فوق الركبة، كما قالت بذلك الآنسة ميتيارد، وإنما كان ما وَصفَته زيًّا يرتديه بصفةٍ أساسية رماة القنابل اليدوية في عهد الملكة آن، وكذلك قُطَّاع الأخشاب وعمَّال الحرث في العصر الحديث.

كان تشارلز داروين يُكنُّ أقوى مشاعر الحب والاحترام لذكرى والده. وقد كان يتذكر كلَّ ما يتعلق به بوضوح شديد، وكثيرًا ما كان يتحدث عنه؛ فغالبًا ما كان يبدأ أي حكاية سيرويها عنه بأن يقول مثلًا: «كان والدي، وهو أحكم مَن عرفتُ من الرجال …» ومن المدهش أنه كان يتذكر آراء والده بكل وضوح؛ ومِن ثَمَّ، فقد كان بإمكانه أن يذكر بعض مبادئه أو إرشاداته في معظم الحالات المرَضِية. وبصفةٍ عامة، فإنه لم يكن يثق كثيرًا بالأطباء؛ لذا فإنَّ ثقته المطلقة فيما يتمتع به الدكتور داروين من قدرة ومهارة في الطب وكذلك في أساليب العلاج التي كان يتبعها لهو أَمرٌ أكثر غرابة.

لقد كان يُبجِّله تبجيلًا لا محدودًا وصادقًا. كان يميل للتخلي عن عاطفته في أيِّ رأيٍ يُصدره على الإطلاق، أمَّا ما يَرِد من والده، فقد كان يُصدِّقه ويثق به ثقةً شبه مطلقة. لقد ذَكرَت ابنته السيدة ليتشفيلد أنها تتذكر قوله بأنه يتمنى ألا يُصدِّق أيٌّ من أبنائه شيئًا لأنه قد قاله، ما لم يكونوا هم مُقتنعين بأنَّ تلك هي الحقيقة؛ وهي رغبةٌ تتعارض تعارُضًا صارخًا مع سلوكه فيما يتعلق بتصديقِ ما ورد عن والده.

استطاعت ابنة تشارلز داروين من خلال الزيارة التي قامت بها هي وهو إلى شروزبيري عام ١٨٦٩ أن تُدرك بوضوح مدى حبه لمنزله القديم؛ فقد راح قاطن المنزل آنذاك يطوف بهم في أرجائه، وقد أخطأ في التقدير وظل مصاحبًا لهم على مدى الزيارة كلها، ظنًّا منه أنَّ ذلك من حسن ضيافته لهم. وبينما كانوا يغادرون، قال تشارلز داروين وفي عينَيه نظرةُ ندم قد امتَزجَت بالأسى: «لو كان بإمكاني أن أختلي بنفسي في تلك الصوبة لمدة خمس دقائق، لكان باستطاعتي تخيُّل والدي على كُرسيه المتحرك بكلِّ وضوح وكأنه هناك أمامي.»

ولعل هذه الحادثة تُوضِّح ما أعتقد أنه الحقيقة، وهو أنَّ أكثر ما كان يُحبه تشارلز داروين من ذكريات والده، هي ذكرياته حين كان مُسنًّا. وقد كتبت السيدة ليتشفيلد بعض الكلمات التي تُصوِّر مشاعره تجاه والده تصويرًا جيِّدًا؛ فهي تصفه وهو يقول بنبرة في غايةِ الرقة والاحترام: «أعتقد أنَّ أبي كان متحاملًا عليَّ قليلًا حينما كنتُ صغيرًا، غير أنني أشعر بالامتنان إذ توطَّدَت علاقتي به بعد ذلك وأصبحتُ من أقرب الناس إليه.» وهي تتذكر بوضوح شديد التعبيرَ الذي خالطه وهو يقول تلك الكلمات؛ فقد كان يُردِّدها وكأنه في حُلمٍ سعيد، وكأنه يستعيد العلاقة كلها في ذاكرته وقد تَركَته الذكرى في حالةٍ من السلام والامتنان العميقَين.

وفيما يلي مقتطف كتبه تشارلز داروين في سيرته الذاتية، وذلك في عام ١٨٧٧ أو ١٨٧٨:

أعتقد أنني سأضيف هنا بضع صفحات عن والدي، الذي كان رجلًا عظيمًا من نواحٍ عديدة.

لقد كان يبلغ من الطول ستة أقدام وبوصتين، وقد كان عريض الكتفَين وممتلئ الجسم بحيث كان أضخمَ رجلٍ عرفتُه على الإطلاق. وفي آخر مرة قد وزن فيها نفسه، كان يزن ٢٤ ستونًا، لكنَّ وزنه قد ازداد بعد ذلك بدرجةٍ كبيرة. وقد كانت أهم سماته الذهنية هي قوة الملاحظة والقدرة على التعاطُف، ولم أَعرفْ قط أحدًا تفوَّق عليه في هاتَين الصفتَين أو كان ندًّا له فيهما. ولم تكن ملكة التعاطُف لديه تقتصر على التعاطُف مع أحزان مَن هم حوله فحسب، وإنما مع أفراحهم أيضًا، بل إنه كان يتعاطف مع أفراحهم بدرجةٍ أكبر. ولهذا فقد كان دائمًا ما يسعى إلى إسعاد الآخرين، والقيام بالعديد من الأعمال الخيرية، وذلك بالرغم من كرهه للإسراف في العطاء؛ فعلى سبيل المثال، أتاه في أحد الأيام السيد ﺑ… وهو أحد صغار المُصنِّعين في شروزبيري، وقال له إنه سيُفلس إن لم يتمكن من اقتراضِ عشرةِ آلافِ جنيه في الحال، لكنه لا يستطيع أن يُقدِّم على ذلك أي ضمانةٍ قانونية، فسمع منه والدي ما يُبرِّر أنه سيتمكن من ردِّ هذا المبلغ في النهاية، وقد تيقَّن بما له من حدسٍ رائع، أنَّ الرجل محل ثقة؛ ومِن ثَمَّ، أقرضه ذلك المبلغ، الذي كان مبلغًا كبيرًا جدًّا بالنسبة إليه، إذ كان لا يزال شابًّا، لكنَّ الرجل ردَّه إليه بعد فترةٍ من الوقت.

أعتقد أنَّ ملكة التعاطف لديه هي ما مهَّد له تلك القدرة المطلقة على الفوز بثقة الآخرين، مما ساهم في النجاح العظيم الذي حقَّقه في ممارسة الطب. لقد بدأ في العمل قبل أن يبلغ من العمر واحدًا وعشرين عامًا، وقد استطاع من أتعابه التي جمعها خلال السنة الأولى أن يحتفظ بفرسَين ويستعين بخادم. وفي السنة التالية، ازداد عمله وتوسَّع، وقد استمر هذا التوسُّع لمدة ستين عامًا، توقَّف بعدها عن عيادة أيِّ شخص. والواقع أنَّ نجاحه الكبير في مهنة الطب لهو أمرٌ مدهش للغاية؛ فقد أخبرني أنه كان يُبغض عمله بشدة في البداية؛ فما كان لأيِّ شيءٍ أن يدفعه إلى الاستمرار فيه على الإطلاق لو أنه كان يمتلك أيَّ دخلٍ ولو زهيد، أو لئن أتاح له والده أيَّ خيارٍ آخر. لقد ظل حتى آخر حياته يكاد يشعر بالغثيان من مجرد التفكير في العمليات الجراحية، ولم يكن يُطيق أن يرى شخصًا ينزف — وهو سبب من أسباب الرعب قد نقله إليَّ — وإنني لأتذكَّر الرعب الذي انتابني حين قرأتُ وأنا صغير في أيام الدراسة عن بليني (على ما أعتقد)، الذي ظل ينزف وهو في حمامٍ ساخن حتى مات …

وبفضل قدرات والدي في اكتساب ثقة الناس، فقد كان العديد من المرضى — ولا سيما النساء — يستشيرونه فيما يهمهم من أيِّ ألمٍ أو ضيق، في شكلٍ هو أقرب إلى الاعتراف الذي يُسرُّون به للقس في الكنيسة. لقد أخبرني بأنهم غالبًا ما كانوا يبدءون بالشكوى من صحتهم بصورةٍ عامةٍ ومبهمة، لكنه سرعان ما كان يبدأ في تخمينِ حقيقة الأمر من خلال الخبرة التي اكتسبها في هذا المجال. فكان يُخبرهم بأنَّ العلة في عقولهم؛ ومِن ثَمَّ يُخبرونه بمشكلاتهم، ولا يعود يسمع أي شكوى عن الجسد … وبفضل مهارة والدي في الفوز بثقة الناس، استمع إلى اعترافاتٍ غريبة عن التعاسة والذنب. لقد كان يشير كثيرًا إلى هذا العدد الكبير من الزوجات التعيسات اللائي عرفهن. في حالاتٍ عديدة، كان الأزواج وزوجاتهم يعيشون في جوٍّ من التفاهم لمدة عشرين أو ثلاثين عامًا، ثم تدب بينهم الكراهية المريرة؛ وهو ما كان يعزوه إلى تلك الرابطة المشتركة التي يفقدها الزوج وزوجته عندما يكبر أطفالهما.

لكنَّ الملكة الأبرز التي كان يمتلكها والدي هي قراءة شخصيات الناس، حتى إنه كان يقرأ أفكار مَن يلتقي بهم ولو لفترةٍ قصيرة. وقد شهِدنا العديد من الأمثلة على هذه الملكة، حتى إنَّ بعضها كان يبدو خارقًا للطبيعة. وقد حفظ ذلك والدي مِن صداقةِ مَن لا يستحقون صداقته (فيما عدا رجلًا واحدًا، كان هو الاستثناء الوحيد وهو الذي سرعان ما اتضَحَت حقيقته). لقد كان كاهنًا غريبًا أتى إلى شروزبيري وقد بدا عليه أنه رجلٌ ثري، فراح الجميع يزورونه ودعاه معظم الناس إلى بيوتهم. وكذلك زاره أبي، وعندما رحل أبي عائدًا إلى منزله، طلب من أخواتي ألا يدعون هذا الشخص ولا أيَّ فردٍ من أُسرته إلى منزلنا؛ إذ إنه غير جدير بالثقة. وبعد بضعةِ أشهر، هرب فجأة وهو غارق في الديون، ثم اتضح أنه مُحتالٌ محترف. ولدينا أيضًا مثالٌ آخر عن الثقة التي لم يكن لِيغامر بمنحها إلا قلةٌ من الرجال؛ فهناك رجلٌ أيرلندي زار والدي في أحد الأيام، وهو غريب عن البلد تمامًا، وأخبره بأن محفظته قد ضاعت، وأنه سيتضرر كثيرًا إن انتظر في شروزبيري حتى تأتيه حوالة من أيرلندا. وقد طلب من والدي أن يُقرِضه عشرين جنيهًا، وهو ما حدث على الفور؛ إذ شعر والدي بأنَّ القصة حقيقية. وفي أولِ موعدٍ لوصول الخطابات من أيرلندا، ورد خطاب به تعبير عن وافر الشكر، وإشارة إلى تضمُّنه ورقةً نقدية بقيمة عشرين جنيهًا إسترلينيًّا، غير أنه لم يكن به أي ورقةٍ نقدية. سألتُ والدي عما إذا كان ذلك قد أدهشه، لكنه أجابني «كلا، على الإطلاق.» وفي اليوم التالي، ورد خطابٌ آخر يعتذر الرجل فيها كثيرًا؛ إذ نسي (كما هي عادة الرجال الأيرلنديِّين) أن يضع الورقة النقدية في خطاب اليوم السابق … [أحد الرجال الأفاضل] أحضر ابن أخيه إلى والدي، وقد كان هذا الفتى لطيفًا لكن به عِلَّة في عقله قد جَعلَته يتهم نفسه بارتكاب جميع الجرائم المعروفة. وعندما ناقش والدي بعد فترةٍ أمر الفتى مع عمه، قال له: «إنني متأكد من أنَّ ابن أخيك قد ارتكب … جريمةً شنيعة.» وعندئذٍ قال [الرجل الفاضل]: «يا إلهي! من أخبرك يا دكتور داروين؟ لقد ظننا أنه لا أحد يعرف بالأمر غيرنا!» لقد أخبرني والدي بهذه القصة بعد عدةِ سنواتٍ من حدوثها، وقد سألته كيف استطاع أن يميِّز بين الاتهامات الزائفة التي كان يُوجِّهها الفتى إلى نفسه وبين الاتهامات الحقيقية؛ فما كان منه إلا أن يخبرني، كعادته، بأنه لا يستطيع أن يشرح الأمر.

وستُوضِّح القصة التالية قدرة والدي الجيِّدة على التخمين. كان اللورد شيلبيرن، والذي أصبح فيما بعدُ الماركيز الأول في لانزداون، مشهورًا (كما يذكر ماكولي في موضعٍ ما) بمعرفته بشئون أوروبا، وهو أمر كان يعتز به كثيرًا. وكان قد استشار والدي في مسألةٍ طبية، ثم راح يخاطبه بلهجةٍ حادة عن شئون هولندا. وكان والدي قد درس الطب في لايدن، وفي أحد الأيام [بينما كان هناك] قام بجولةٍ طويلة في الريف مع صديق اصطحبه إلى بيتِ كاهنٍ هناك (وسندعوه هنا بالمبجَّل السيد أ… إذ إنني قد نسيتُ اسمه)، وكان هذا الكاهن متزوجًا من امرأة إنجليزية. كان والدي جائعًا جدًّا، ولم يكن لديهم على الغَداء سوى الجبن، ولم يكن والدي يتناوله أبدًا. كانت السيدة العجوز مندهشة وحزينة لذلك، وظلت تؤكد لوالدي أنه جبنٌ ممتاز قد أُرسل إليهما من بوود، وهي مقر اللورد شيلبيرن. لقد تعجب والدي من إرسال هذا الجبن من بوود، لكنه لم يفكر في الأمر أكثر من ذلك إلى أن لاح مرةً أخرى في ذهنه بعد ذلك بسنواتٍ عديدة، بينما كان اللورد شيلبيرن يتحدث عن هولندا. فأجابه: «لا بد أنَّ الموقَّر السيد أ… كان رجلًا مهمًّا للغاية وعلى درايةٍ جيدة بأمور هولندا.» استطاع والدي أن يدرك أنَّ الإيرل، والذي قد غيَّر موضوع المحادثة فورًا، قد بُهت واندهش للغاية. وفي الصباح التالي، تلقَّى والدي خطابًا من الإيرل يقول فيه إنه قد أجَّل موعد البدء في رحلته؛ إذ إنه يرغب في رؤية والدي. وحين أتى، تحدث الإيرل إلى والدي قائلًا: «دكتور داروين، إنه لأمرٌ في غاية الأهمية لي وللموقَّر السيد أ… أن نعرف كيف اكتشفتَ أنه مصدر معلوماتي عن هولندا.» ومِن ثَمَّ، فقد اضطُر والدي أن يشرح ما حدث فجعله يتوصل إلى هذه النتيجة، وقد رأى أنَّ اللورد شيلبيرن كان معجبًا للغاية بقدرة والدي الكبيرة على التخمين؛ إذ على مدى سنواتٍ عديدة بعدها، ظل يتلقى منه العديد من الخطابات اللطيفة عن طريقِ عددٍ من الأصدقاء. وأعتقد أنه ولا بد قد حكى هذه القصة إلى أولاده؛ إذ سألني السير سي لايل قبل عدة أعوام عن سبب ما عبر عنه ماركيز لانزداون (وهو ابن أو حفيد الماركيز الأول) من اهتمامٍ كبير بي وبعائلتي، وهو الذي لم يَرَني من قبل. وحين أُضيف إلى نادي الأثنيام أربعون من الأعضاء الجدد (وقد كانوا يُدعون حين ذاك باسم الأربعين لصًّا)، كان هناك الكثير من النقاش بشأن انضمامي معهم، وبدون أن أطلب ذلك من أحد، قدَّمني اللورد لانزداون وأصبحتُ عضوًا منتخبًا. وإذا كنتُ محقًّا في افتراضي، فقد كانت تلك سلسلةً غريبة من الأحداث أن يكون عدم تناوُلِ والدي للجبن قبل نصف قرن في هولندا، قد أدى إلى أن أصبح عضوًا منتخبًا في نادي الأثنيام.

إنَّ حدة ملاحظته قد جعلَته قادرًا على أن يتنبأ بالمسار الذي سيتخذه أيُّ مرضٍ بمهارةٍ فائقة، وكان يُقدِّم عددًا لا نهائيًّا من التفاصيل التي تؤدي إلى شعور المرضى بالارتياح. لقد سمعتُ عن طبيبٍ شاب في شروزبيري كان يكره والدي وهو الذي كان يزعم أنه لم يكن علميًّا على الإطلاق، غير أنه كان يتمتع بالقدرة على التنبُّؤ بنهاية أيِّ مرض بدقةٍ لا مثيل لها. وحين كان أبي يرى في السابق أنَّ عليَّ أن أصبح طبيبًا، كان يحدثني كثيرًا عن مرضاه. وقد كانت ممارسة الفصد منتشرة في الماضي على نحوٍ كبير، غير أنَّ والدي كان يرى أنها تضُر أكثر مما تفيد، حتى إنه كان ينصحني بألا أدع أيَّ طبيبٍ يستخرج مني سوى كميةٍ ضئيلة جدًّا من الدم، إن مرضتُ في أحد الأيام. وقبل أن يُجرى تمييز حُمَّى التيفود عن غيرها بوقتٍ طويل، أخبرني والدي بأنَّ مصطلحَ حُمَّى التيفود يُطلق على نحوٍ خاطئ على نوعَين مختلفَين تمامًا من الحمى. وقد كان يُعارض تناوُل الكحوليات معارضةً قاطعة، وكان مقتنعًا بأنَّ تناوُلها بانتظام، حتى إن كان بكمياتٍ معقولة، يتسبب في أضرارٍ شديدة، بعضها يحدُث مباشرة والبعض الآخر ينتقل بالوراثة، وذلك في الغالبية العظمى من الحالات. غير أنه قد أقر بأنَّ بعض الأشخاص قد يتناولون كمياتٍ كبيرة من الكحوليات طوال حياتهم دون أن تظهر عليهم أيُّ أضرارٍ يعانون منها، وقدَّم بعض الأمثلة على ذلك، وقد كان يرى أنه يستطيع أن يعرف هؤلاء الذين لن يعانوا من هذه الأضرار مُقدَّمًا. وأمَّا عنه، فهو لم يتناول ولا قطرة واحدة من أي شراب كحولي. وتُذكِّرني هذه الملاحظة بحالةٍ تُوضِّح كيف يمكن أن يكون أحد الشهود مخطئًا تمامًا، حتى إن كانت الظروف مُواتية؛ فقد حثَّ والدي أحد الرجال الأفاضل من المُزارعِين على ألا يتناول الكحوليات، وقد شجَّعَه على ذلك بأن أخبره بأنه هو نفسه لم يمسَّ قط أيَّ شرابٍ روحي؛ وعندئذٍ قال هذا الرجل لوالدي: «حنانَيك أيها الطبيب! إنني لا أُصدِّق هذا، غير أنه لطفٌ منك أن تخبرني بذلك حرصًا على صحتي، لكنني أعرف أنك تتناول كأسًا كبيرة للغاية تتضمن مزيجًا من الماء الساخن والجِن كل مساء بعد عَشائك.» فسأله والدي كيف تسنى له أن يعرف هذا، وقد أجاب الرجل: «كانت طاهيتي تعمل لديك خادمة في المطبخ لسنتَين أو ثلاث، وقد رأت الساقي يُعِد خليط الجِن والماء ويذهب بهما إليك.» والواقع أنَّ والدي كانت لديه تلك العادة الغريبة بأن يشرب بعد عَشائه ماءً ساخنًا في كأسٍ طويلة وكبيرة للغاية، وقد اعتاد الساقي أن يضع بعض الماء البارد أوَّلًا في الكأس، وهو ما ظنَّت الفتاة أنه شراب الجِن، ثم يملأ الكأس بالماء المغلي من غلاية المطبخ.

لقد كان أبي يخبرني بالكثير من التفاصيل الصغيرة التي اكتشف أنها مفيدة في ممارسته لمهنة الطب؛ فقد كانت النساء يبكين كثيرًا حين كُن يخبرنه بمشكلاتهن، وهو ما كان يضيع الكثير من وقته الثمين، وسرعان ما اكتشف أنه حين كان يطلب منهن تمالُك أنفسهن والتوقُّف عن البكاء، ما كان ذلك يزيدهن إلا بكاءً ونحيبًا؛ لذا فقد كان يحثهنَّ على الاستمرار في البكاء، مُخبرًا إياهن بأنَّ ذلك هو ما سيُخفِّف عنهنَّ أكثر من أيِّ شيءٍ آخر، ودائمًا ما كانت النتيجة هي توقفهن عن البكاء، مما يتيح له الاستماع جيِّدًا لحالاتهن وتقديم النصيحة المطلوبة. وحين كان مرضاه الذين ساءت حالتهم يشتهون أنواعًا غريبة وغير معتادة من الأطعمة، كان يسألهم عما دفع هذه الفكرة في عقولهم، وإن أجابوا بأنهم لا يعرفون، فإنَّه كان يسمح لهم بتناوُل ما يشتهون، وغالبًا ما كان ينجح الأمر؛ إذ كان يثق بأنَّها رغبةٌ غريزية لديهم فحسب، أمَّا إذا أجابوا بأنهم قد سمعوا أنَّ ذلك الطعام قد أفاد شخصًا آخر في حالته المرضية، فإنه لم يكن يعطي موافقته على الإطلاق.

لقد قدَّم في أحد الأيام لمحةً صغيرة وغريبة عن الطبيعة البشرية. كان ذلك حين كان شابًّا صغيرًا إذ دُعي إلى زيارة أحد الرجال المميَّزِين في شروبشاير مع طبيب العائلة، وتقديم المشورة في حالته. وقد أخبر الطبيب العجوز الزوجة بأنَّ هذا المرض سينتهي بالموت لا محالة. أمَّا أبي، فقد كان له رأيٌ آخر وقال بأنَّ الرجل سيتعافى، غير أنه كان مخطئًا تمامًا (وذلك عند تشريح الجثة على ما أعتقد)، وقد أقر أبي بخطئه. وكان مقتنعًا حينئذٍ بأنه يجب ألا يُقدِّم المشورة إلى هذه الأُسرة مجدَّدًا، غير أنَّ أرملة هذا الرجل قد أَرسلَت إليه بعد ذلك ببضعة أشهر؛ إذ لم تعُد تستعين بخدماتِ طبيب الأُسرة العجوز. كان أبي مندهشًا لذلك للغاية، حتى إنه قد طلب من أحد أصدقاء الأرملة أن يسأل عن السبب الذي دفعهم إلى أخذ مشورته مجدَّدًا. فأجابت الأرملة هذا الصديق بأنها «لن ترى ثانيةً هذا الطبيب الكريه العجوز الذي قال من البداية إنَّ زوجها سوف يموت بالتأكيد، على العكس من الدكتور داروين الذي كان يؤكِّد دومًا أنه سيتعافى!» وفي حالةٍ أخرى، كان والدي قد أخبر سيدة بأنَّ زوجها سوف يموت لا محالة، ثم رأى والدي هذه السيدة بعد وفاة زوجها بعد ذلك بعدة أشهر، وقد كانت سيدةً حكيمة فقالت له: «إنك ما تزال صغيرًا للغاية؛ فاسمح لي أن أنصحك بأن تمنح الأمل لأيِّ شخص يرعى قريبًا له، طالما أمكنك ذلك. لقد جَعلتَني أشعر باليأس، ومنذ هذه اللحظة خارت قواي.» وقد كان أبي يقول إنه من ذلك الحين، أدرك الأهمية القصوى لإعطاء الأمل لمَن يقوم على رعاية المريض؛ إذ إنَّ ذلك يحافظ على تماسُكه وقوته، مما يصب في مصلحة المريض. وقد كان يُواجه صعوبةً في فعل ذلك أحيانًا لأنه يتعارض مع الحقيقة. غير أنه في إحدى المرات قد أنقذه سيدٌ عجوز من تلك الحيرة. كان السيد ﺑ… قد أرسل في طلب والدي لاستشارته، قائلًا: «بناءً على كلِّ ما رأيتُه وسمعته عنك، فإنني أثق بأنك ستخبرني الحقيقة، وأنني إن سألتك متى سأموت، فسوف تجيبني. والآن فإنني أرغب بشدة في أن تشرف على حالتي، إن وعدتني بألا تخبرني أنني سأموت، مهما قلتُ لك.» وقد قبل والدي ذلك على أساسِ هذا الاتفاق الذي يعني أنَّ كلامه لن يكون له في الواقع أيُّ معنًى على الإطلاق.

لقد كان والدي يتمتع بذاكرةٍ استثنائية، لا سيما في تذكُّر التواريخ، حتى إنه كان لا يزال يتذكر وهو في كبره تواريخ الميلاد والزواج والوفاة لعددٍ كبير من الناس في شروبشاير، وقد أخبرني ذات يوم أنَّ هذه المَلكة تزعجه؛ فقد كان يحفظ أي تاريخ فور أن يسمعه، ولا يمكنه أن ينساه؛ ومِن ثَمَّ، فلطالما كان يتذكر تواريخ وفاة العديد من أصدقائه ويتذكرهم، فيشعر بالحزن. وبفضل ما كان يتمتع به من ذاكرةٍ استثنائية، فقد كان يعرف عددًا هائلًا من القصص المُشوِّقة الغريبة، والتي كان يُحب أن يرويها؛ إذ كان متحدثًا بارعًا. لقد كان بوجهٍ عامٍّ شخصًا مرحًا؛ يضحك ويمزح مع الجميع، وفيهم خدمه، بمنتهى الأَريَحية، غير أنه كان يعرف كيف يجعل الجميع يطيعون أوامره بحذافيرها. لقد كان العديد من الناس يخشونه بشدة؛ فقد حكى لنا والدي ذات يوم وهو يضحك أنَّ بعض الناس قد سألوه عما إذا كانت الآنسة … وهي سيدةٌ عجوز مهيبة في شروبشاير، قد زارته، فتساءل عن السبب الذي دفعهم إلى سؤاله، وقد أخبروه بأنَّ الآنسة … التي كان أبي قد أغضبها بشدة، قد راحت تخبر الجميع بأنها ستزور وتخبر «هذا الطبيب السمين العجوز برأيها فيه بكلِّ صراحة.» وقد زارته بالفعل، لكن شجاعتها قد خانتها، وقد كانت معه في غاية اللطف والود. وحين كنتُ صبيًّا، ذهبتُ كي أمكث في منزل … وقد كانت زوجته بها بعض الجنون، وفور أن رأتني هذه المسكينة، تملَّكَت منها أشد حالات الهلع التي رأيتها على الإطلاق؛ فقد راحت تنتحب بمرارة وتسألني مِرارًا وتَكرارًا: «هل سيأتي والدك؟» غير أنه سرعان ما هدأ روعها. وعند عودتي إلى المنزل، سألتُ والدي عن سبب هلعها، فقال إنه سعيد بسماع ذلك؛ إذ إنه قد تعمد إخافتها لأنه رأى أنها ستعيش في مأمن ودون تقييد لحريتها إن نجح زوجها في التأثير عليها، حينما تنتابها نوبات العنف، بأن يخبرها بأنه سيبعث في طلب الدكتور داروين، وقد كانت هذه الكلمات تنجح في تهدئتها في كل مرةٍ على مدى ما تبقى من حياتها الطويلة.

لقد كان أبي حسَّاسًا للغاية؛ لذا فقد كانت العديد من الوقائع الصغيرة تُزعجه أو تُؤلمه بشدة. لقد سألتُه ذات مرة بعد أن كبرت سنه ولم يعد قادرًا على السير، عن السبب في عدم الخروج والتنزه بالعربة، فأجابني: «إنَّ كل طريقٍ خارج شروزبيري يرتبط في ذهني بحادثٍ أليم.» لكنه فيما عدا ذلك، كان شخصًا مرحًا في معظم الأحوال. وبالرغم من أنه كان يغضب بشدةٍ بسهولة، فإنَّ عطفه كان هائلًا ولا حدود له. وقد كان محبوبًا بشدة من الجميع.

لقد كان رجلَ أعمالٍ جيدًا وحريصًا؛ فنادرًا ما خَسِر أي نقودٍ في أيِّ استثمار، وقد ترك لأولاده إرثًا كبيرًا للغاية. وإنني أتذكر الآن قصةً تُوضِّح مدى السهولة التي تنشأ بها المعتقدات العارية من الصحة وتنتشر انتشارًا واسعًا. كان السيد إي … وهو من مُلاك الضياع في إحدى أقدم العائلات في شروبشاير، وشريكٌ كبير في أحد المصارف، قد انتحر، وقد بعثوا في طلب والدي من باب الواجب، لكنه وجده ميِّتًا بالفعل. وأريد أن أذكر هنا، لأوضح كيفية تدبير مثل هذه الأمور في هذه الأيام الخوالي، أنه لمَّا كان السيد إي … رجلًا عظيمًا يحترمه الجميع، فلم يُجرَ تحقيق بخصوص موته. وعند عودة أبي إلى المنزل، رأى أنه يجب عليه الذهاب إلى المصرف (الذي كان لديه حساب فيه) لكي يخبر الشركاء التنفيذيِّين بما حدث؛ فلم يكن من المستبعد أن يتسبب ذلك في سَحبِ كثيرٍ من الناس لأموالهم من البنك. وقد انتشرت شائعةٌ انتشارًا كبيرًا وواسعًا، مفادها أن والدي ذهب إلى المصرف وسحب جميع أمواله، وغادر البنك ثم عاد مجدَّدًا، وقال: «يمكنني أن أخبركم بأنَّ السيد إي … قد قتل نفسه.» ثم غادر. يبدو أنه كان هناك اعتقادٌ شائع حينها بأنَّ النقود التي تسحبها من المصرف، لن تصبح آمنة حتى تخطو خارج باب المصرف. ولم يسمع أبي بهذه الشائعة إلا بعد ذلك بفترةٍ قصيرة، حين قال الشريك التنفيذي إنه قد خرق قاعدته الثابتة التي تقضي بألا يطلع أيُّ شخصٍ على حسابِ شخصٍ آخر؛ إذ كشف عن سجل الحساب الخاص بوالدي للعديد من الأشخاص، لكي يُثبِت أنَّ أبي لم يسحب بنسًا واحدًا من نقوده في ذلك اليوم. ولئن انتشر الخبر بأن والدي قد سحب نقوده، لكان ذلك عارًا عليه؛ إذ استخدم معلومة حصل عليها بسبب مهنته لمنفعته الخاصة. وعلى الرغم من ذلك، فقد نال التصرُّف المزعوم إعجاب العديد من الأشخاص، حتى إنه بعد ذلك بسنواتٍ عديدة، قال أحد الرجال الأفاضل لوالدي: «لكم كنتَ رائعًا في إدارة أعمالك أيها الطبيب! لقد تمكنتَ من سحبِ جميعِ نقودك من ذلك المصرف بأمان!»

لم يكن والدي يتمتع بملكة التفكير العلمي، ولم يحاول تعميم معرفته وجمعها تحت قوانينَ عامة، غير أنه كان يُكوِّن نظرية عن جميع ما تعرض له تقريبًا. لا أعتقد بأنني قد أخذتُ منه الكثير من الناحية الفكرية، غير أنه كان مثالًا يُحتذى به في الأخلاق لجميع أطفاله. وقد كانت إحدى قواعده الذهبية (وهي قاعدة يصعب اتباعها) هي «لا تصادق مَن لا يمكن أن تُكِن له الاحترام.»

كان للدكتور داروين ستة أبناء: ماريان التي تزوجَت من الدكتور هنري باركر، وكارولين التي تزوجَت من جوزايا ويدجوود، إيرازموس ألفي، وسوزان التي لم تتزوج حتى ماتت، وتشارلز روبرت، وكاثرين التي تزوجَت من الكاهن تشارلز لانجتون. (إن السيدة ويدجوود هي الوحيدة الباقية على قيد الحياة الآن من بين كل هؤلاء.)

وُلد الابن الأكبر إيرازموس عام ١٨٠٤، وتُوفي دون أن يتزوج في السابعة والسبعين من عمره.

ومثل أخيه، تلقى تشارلز داروين تعليمه في مدرسة شروزبيري، وفي كلية كرايست بجامعة كامبريدج. وقد درس الطب في إدنبرة ولندن، وحصل على درجة البكالوريوس في الطب من جامعة كامبريدج، لكنه لم يتخذ أيَّ خطوةٍ لممارسة مهنة الطب، وبعد أن غادر كامبريدج، عاش حياةً هادئة في لندن.

لطالما كان هناك شيءٌ شجي فيما يُكنُّه تشارلز داروين لأخيه إيرازموس من عواطف، وكأنه ما فتئ يتذكر حياة العزلة التي عاشها، وكذلك صبره الذي يُثير العواطف وطبيعته العذبة. كان كثيرًا ما يتحدث عنه بالاسم «أخي الكبير المسكين راس» أو «أخي الكبير العزيز فيلوس»، وأعتقد أنَّ كلمة فيلوس (الفيلسوف) كانت مما بقي من تلك الأيام الخوالي التي عملا فيها في الكيمياء بمستودع الأدوات في شروزبيري، وقد كانت هذه الفترة من الذكريات السعيدة التي كان يعتز دومًا بتذكُّرها؛ ولأنَّ إيرازموس كان أكبر من تشارلز داروين بأكثر من أربع سنوات، فلم يمكثا معًا طويلًا في كامبريدج، لكنهما قد أقاما معًا في النُّزُل نفسه قبل ذلك حين كانا في إدنبرة، ثم أقاما معًا لبعض الوقت بعد رحلة «البيجل» في منزل إيرازموس بشارع جريت مالبرا. وفي هذا الوقت أيضًا، نجد أنه يتحدث عن إيرازموس بعاطفةٍ كبيرة في خطاباته إلى فوكس؛ فنجده يستخدم كلمات مثل: «أخي الكبير العزيز الغالي.» وبعد ذلك بعدة سنوات، كان إيرازموس داروين يأتي إلى داون أحيانًا، أو يزور أُسرة أخيه في عطلة الصيف. لكن الأمر قد انتهى تدريجيًّا إلى أنه عزم على البقاء في لندن وعدم مغادرتها نظرًا لسوء صحته؛ فاقتَصرَت رؤية كلٍّ من الأخوَين للآخر على المرات التي كان يذهب فيها تشارلز داروين لزيارة أخيه، ويقضي معه أسبوعًا في منزله بشارع كوين آن.

وفيما يلي نبذةٌ قصيرة كتبها تشارلز داروين عن شخصية أخيه في الوقت نفسه تقريبًا الذي أُضيف فيه وصفُ والده إلى عمله «ذكريات»:

كان أخي إيرازموس يتمتع بذهنٍ صافٍ للغاية، وقد كانت اهتماماته ومعارفه في الأدب والفن، وحتى في العلوم، شاملة ومتنوعة؛ فعلى مدى فترةٍ قصيرة، كان يجمع النباتات ويقوم بتجفيفها، وعلى مدى فترةٍ أطول بعض الشيء، كان يُجري تجارب في الكيمياء. لقد كان شخصًا لطيفًا للغاية، وكثيرًا ما كانت بديهته وظُرفه يُذكِّرانِني بما أجده في أعمال تشارلز لام وخطاباته. ولقد كان رقيق القلب للغاية … وكان ضعيفًا عليلًا منذ صباه؛ ولذا فلم يكن يتمتع بطاقةٍ كبيرة. ولم يكن شخصًا مرحًا في أغلب الأحوال؛ فقد كان الاكتئاب يُخيِّم عليه أحيانًا، لا سيما عند بداية بلوغه مبلغ الرجال وكذلك في منتصف عمره. كان يقرأ كثيرًا منذ صباه، وكان يُشجِّعني على القراءة في أيام الدراسة ويُعيرني الكتب. وبالرغم من ذلك، فقد كنا نختلف اختلافًا كبيرًا في طبيعة تفكيرنا وأذواقنا؛ حتى إنني أعتقد أنني لا أَدين له بالكثير من الناحية الفكرية. وأنا أميل إلى الاتفاق مع فرانسيس جالتون في الاعتقاد بأنَّ التعليم والبيئة لا يُؤثِّران في عقل المرء إلا تأثيرًا صغيرًا، وأنَّ معظم صفاتنا غريزية فينا.

بالرغم من أنَّ اسم إيرازموس داروين غير معروف لدى الجمهور العام، فإننا قد نتذكره من خلال وصف شخصيته الذي ورد في كتاب كارلايل «ذكريات»، الذي سأذكر بعضًا منه فيما يلي:
كان إيرازموس داروين رجلًا مختلفًا للغاية، وقد تَعرَّف علينا منذ فترةٍ قريبة (كان قد سمع بكارلايل في ألمانيا وغيرها)، وهو لا يزال يزورنا منذ ذلك الوقت حتى إنه أصبح صديقًا للعائلة يتردَّد على منزلنا كثيرًا، غير أنَّ زياراته قد صارت تَتباعَد وتقل أكثر فأكثر بمرور الوقت؛ نظرًا لما يعاني منه من اعتلال الصحة، ولضيق وقتي وانشغالي كذلك، وغير ذلك. لقد كان يتمتع بنبوغ حقيقي يبعث على السخرية، وهو رجلٌ من أكثر الرجال صدقًا وإخلاصًا، ومن أشدهم تواضُعًا. إنه الأخ الأكبر لتشارلز داروين (داروين المشهور هذه الأيام لكتابه عن الأنواع)، والحق أنني أُفضِّل إيرازموس عنه لتفكيره وعقله، لولا اعتلال صحته الذي أجبره على أن يلوذ بالصمت والصبر في سكون … لقد كان لسليلِ عائلةِ داروين الأمين هذا منزلة وحظوة خاصة لدى زوجتي العزيزة؛ فكثيرًا ما كان يصحبها في عربته، ويسير بها في مختلف الطرق إلى المحلات وغيرها (فكانت عربة داروين بمنزلة نجمة الملك جورج بالنسبة لها) إذ لم تكن أجرة ركوب الحافلات العامة بالهيِّنة في تلك الأيام، كما أنَّ ما كان يتفوه به من عباراتٍ قليلة وهي التي كانت ساخرة في معظم الأحيان، مَصدرَ سرورٍ كبير بالنسبة لها. لقد رأت فيه على الفور أنه «رجلٌ فاضل تمامًا»، ويتمتع برجاحةِ عقلٍ ورقَّةٍ لا حدود لهما.6

لم يُحب تشارلز داروين تلك الصورة التي رسمها كارلايل لأخيه؛ إذ كان يرى أنَّه لم يستطع أن يُصوِّر فيها جوهر طبيعته المحبوبة للغاية.

والآن، تدفعني رغبتي في أن أُسهب في تصويرِ شخصيةٍ من الشخصيات التي أحبها جميع أبناء تشارلز داروين بكلِّ صدق إلى أن أعرض هنا خطابًا قد كتَبَته ابنة عمه الآنسة جوليا ويدجوود إلى مجلة «ذا سبيكتاتور» (٣ سبتمبر ١٨٨١).

إنَّ الوصف الذي قدَّمه السيد كارلايل، الذي قد أعجب الجميع مِمَّن أحبُّوا الشخصية الأصلية، يُعبِّر ولا شك عن قدْرٍ كبير من التميُّز، مما يستدعي بعض كلمات الإشادة والتقدير، لا سيما وأنَّ الشخص الذي يصفه قد تُوفي بالفعل. إنَّ إيرازموس، الأخ الوحيد لتشارلز داروين، والصديق المخلص والمُحب للسيد كارلايل وزوجته، قد خلَّف من بعده دائرةً من الراثِين الذين لا يُعوِزهم الثناء من كاتبٍ لامع كي يُعطِّروا ذكرى هذا الشخص العزيزة إلى قلوبهم، غير أنَّ ذلك الثناء قد أثار دون شك اهتمامَ دائرةٍ أوسع، تلك التي ربما استَقبلَت هذه الذكرى بانتباهٍ شديد قد خلَّف لديها انطباعًا فريدًا لا يُمحى، بالرغم من أنه خُلف في قلوب أناس لا يستطيعون أن ينقلوه؛ ولهذا، فلا بد أنه سيتلاشى سريعًا معهم. وهم يتذكرون ذكراه بتقديرٍ يليق بعبقري؛ فهو قد أَثْرى الحياة وزاد من حلاوتها، وشكَّل نقطةَ التقاءٍ مشتركة لمن لم يكن لهم غيرها، وبِأثَر ذكراه القوي الفوَّاح بالفردانية، عزَّز من احترام ما يتميز به البشر من خصوصيةٍ وتفرد في طبائعهم، وهي التي بدونها، يصبح الحكم الأخلاقي قاسيًا وسطحيًّا دائمًا، وظالمًا في معظم الأحيان. لقد كان كارلايل يجد متعةً خاصة في رفقة إيرازموس داروين التي تجمع بين الحيوية والسكينة، اللتَين كانتا تبعثان فيمَن يكون في رفقته حالة من التحفيز والهدوء في الوقت نفسه، ولم يكن ما قاله كارلايل عن إيرازموس بعد موته، هي المرة الأولى التي يتضح فيها ما كان يُكنُّه له من تقدير ومودة؛ إذ لا تزال خطاباته التي تُعبِّر عن القلق والتي كتبها قبل ما يقرب من ثلاثين عامًا، حين كان يُهدِّد حياته الواهنة التي طالت حتى الشيخوخة، مرضٌ عضال، حاضرةً في ذاكرتي. لقد جَمعَت بينه وبين كارلايل وزوجته علاقةُ صداقةٍ دافئة. وأنا أتذكر جيِّدًا أنها قد أبدت اعتراضًا مثيرًا للضحك، حينما عبَّر إيرازموس داروين عن تفضيله للقطط عن الكلاب؛ إذ إنها قد اعتَبرَت ذلك إهانة لكلبها الصغير «نيرو»، وتشي النبرة التي كان عليها ردُّها الذي قالت فيه: «أوه، لكنك مولع بالكلاب! إنك رقيق للغاية، فلا يمكن ألا تكون مولعًا بها!» بأنها رأت منه الكثير من الأفعال التي تَنمُّ عن الكرم والطيبة، والتي كانت تتذكرها بامتنان. وقد جَمعَته علاقةٌ حميمة كذلك بهاريت مارتينو، التي كان أصدقاؤها، كأصدقاء السيد كارلايل، لا يشعرون دومًا بالفخر لوجودهم في معيتها. وقد سمعته غير مرة يدعوها بصديقتي المخلصة، ودائمًا ما كان ذلك يبدو لي أنه ثناءٌ غريب على شيءٍ ما في تلك الصداقة، لم يكن يقدمه سواه، غير أنني أعتقد أنها إن كانت قد كَتبَت عنه على الإطلاق، فقد كان ذكره سيحف بحرارة التقدير، وكان سيُشكِّل نقطةَ التقاء غريبةً ونادرة مع غيره مما يَرِد في كتاب «ذكريات»؛ فسوف يُوجد الكثير من التشابهات والكثير من الاختلافات كذلك. من غير الممكن أن ننقل طابع إحدى الشخصيات، وإنما يمكننا أن نُحاول طرحه فقط من خلال الشبه، وإنه لتمثيلٌ فريد لتلك المفارقة التي تحكم مشاعرنا أو تُوجِّهها، أنني حين أُحاول تقديم الرجل الذي يبدو أنَّه أكثر مَن أحبه كارلايل بخلاف أهله، فلا يمكنني أن أقول أيَّ شيء أكثر توضيحًا من أنه يبدو لي أنه يشترك في بعض السمات مع الرجل الذي لم يكن يحظى بتقدير كارلايل. في رأيي، إنَّ عالم إيرازموس داروين كان يتمتع بالجاذبية التي كانت تتمتع بها كتابات تشارلز لام؛ إذ نجد فيه ذلك النوع نفسه من المرح وخفة الظل والرقة وربما العيوب نفسها. وعلى جانبٍ آخر من طبيعته، لطالما ذكَّرني به حس الدعابة الغريب الرقيق والتعصُّب السطحي وتلك الينابيع العميقة من الشفقة وذلك المزيج العجيب من الحنَق والسخرية المبهجة، البعيد كل البعد عن الازدراء، التي تميز الحوارات القديمة التي كان السير آرثر هلبس يكتبها على لسانِ شخصيته إلزمير. ولعلنا نتذكر هذه الطباع بوضوح فائق؛ لمَّا كان هذا الشبه هو كلُّ ما يتبقى منها. إنَّ طباع المرء وشخصيته ليست مُركبةً فيه، وما نفقده بسبب ضعف قدرتنا على التعبير عن طباعنا، يبدو أننا نستعيده مرةً أخرى من خلال وضوح تلك الطباع. لقد تُوفي إيرازموس داروين وهو في سنٍّ كبيرة، غير أنَّ ذاكراه ما تزال تفوح برائحةِ نضارة الشباب؛ إذ كان وجوده ينشر قدْرًا كبيرًا من السعادة، من ذلك النوع المرتبط بالشباب، على العديد ممَّن هم حوله، ومنهم هذا القلم اللامع الذي تكفي شهادته لوضع هذا الإكليل الذاوي على قبره، بالرغم من أنها لا تشي بالتأكيد بالرغبة في ذلك.

إنَّ الصفحات السابقة قد قدَّمَت، على نحوٍ سريع، قدْرًا كافيًا قَدْر الإمكان من المعلومات عن الأُسرة التي نشأ فيها تشارلز داروين، وهي تصلُح كمقدمة لسيرته الذاتية التي سترد في الفصل التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤