الفصل الخامس

تعيين أبي في رحلة «البيجل»

في خطابٍ وجَّهه أبي إلى القبطان فيتزروي قبل أن تبحر «البيجل»، كتب يقول: «سيكون الرابع من نوفمبر يومًا عظيمًا بالنسبة لي. إنه سيمثل بداية حياة جديدة، وسوف يكون بمنزلة عيد ميلاد لي حتى آخر حياتي.» (جدير بالذكر أنَّ «البيجل» لم تبدأ أخيرًا في الإبحار بنجاح إلا في السابع والعشرين من ديسمبر.)

والظروف التي أدت إلى هذا الميلاد الثاني، والتي هي أهمُّ كثيرًا مما كان أبي يتخيله حينئذٍ، ترتبط بحياته في كامبريدج، لكن ربما يكون من الأفضل أن نسردها في الفصل الحالي. وتأتي في صدارة هذه الظروف التي أدت إلى تعيين أبي في رحلة «البيجل» صداقته مع البروفيسور هنزلو؛ فقد كتب في مفكرة جيب أو دفتر يوميات، والذي يضم سجلًّا موجَزًا بالتواريخ وغيرها من الأمور على مدى حياته ما يلي:

١٨٣١. عيد الميلاد. نجحتُ في اختبار درجة الليسانس، وأقمتُ للفصلَين الدراسيَّين التاليَين.

وخلال هذه الأشهر، عشتُ كثيرًا مع البروفيسور هنزلو، وكثيرًا ما كنت أتناول معه العَشاء وأسير معه؛ فتَعرَّفتُ بعض الشيء على عددٍ كبير من الرجال المُتعلمِين في كامبريدج، مما أثار الحماس الذي لم تُدمِّره حفلات العشاء والصيد.

في الربيع، زرتُ السيد دوز مع رامزي وكيربي، وتَحدَّثنا بشأنِ رحلةٍ إلى تينيريف. في الربيع، حثني هنزلو على التفكير في دراسة الجيولوجيا، وقدَّمَني إلى سيجويك. وخلال فترة منتصف الصيف، مارستُ بعض أنشطة الجيولوجيا في شروبشاير.

أغسطس، ذهبتُ في جولة جيولوجية.1 وقد كانت هذه الجولة في لانجولين وريثين وكوني وبانجور وكابل كيريج، حيث تركتُ البروفيسور سيجويك وعبَرتُ الجبل إلى بارماوث.
figure
سفينة «البيجل» ترسو على شاطئ نهر سانتا كروز.
وفي خطاب إلى فوكس (مايو ١٨٣١)، يكتب أبي: «إنني مشغول للغاية … ألتقي كثيرًا بهنزلو الذي لا أعرف إن كان حبي أم احترامي له أعظم.» وهو يعبر بدقة عن مشاعره لهذا الرجل الرائع في خطاب قد كتبه إلى المبجَّل إل بلومفيلد (وكان يُدعى حينها بالمبجَّل إل جينينز) وذلك حين كان الأخير منشغلًا في عمله «سيرة البروفيسور هنزلو» (الذي نُشر عام ١٨٦٢.) وقد استُخدم الجزء المقصود2 في أول مقالات الرثاء المنشورة في مجلة «نيتشر»، ويُوضِّح السيد رومينز أنَّ والدي «بينما يصف شخصيةً أخرى، فإنه، وبنحو لا واعٍ، يقدم أدق وصف لنفسه»:

لقد ذهبتُ إلى كامبريدج في بداية عام ١٨٢٨، ومن خلال بعض أصدقاء أخي من المُختصِّين في علم الحشرات، سرعان ما تعرَّفتُ إلى البروفيسور هنزلو، الذي كان يُشجِّع جميع المُهتمِّين بأيِّ فرعٍ من فروع التاريخ الطبيعي بالقَدْر نفسه. ولم يكن هناك ما هو أبسطُ وأكثرُ ودًّا وبعدًا عن الادعاء، من التشجيع الذي كان يمنحه لجميع الشباب من المُهتمِّين بالتاريخ الطبيعي. وسرعان ما توطَّدَت علاقتي به؛ إذ كان يتمتع بتلك المقدرة الهائلة في أن يجعل الشباب يتصرفون معه بارتياح، بالرغم من أننا كنا جميعًا مُنبهرين بمقدار معرفته. قبل أن ألتقي به، سمعتُ أحد الشباب يُلخِّص مؤهلاته بأن قال عنه ببساطة إنه يعرف كل شيء. وحين أفكر في كيف أننا قد شعرنا على الفور بالارتياح مع شخصٍ أكبر سنًّا منا، وهو يتفوق علينا من جميع الجوانب بدرجةٍ هائلة، أعتقد أنَّ ذلك كان يعود إلى ما كان في طبعه من إخلاصٍ واضح بقدْر ما يعود لما يتمتع به من طيبة القلب، وربما يعود على نحوٍ أكبر لافتقاره إلى جميع مظاهر الوعي بالذات؛ فقد كان المرء يدرك على الفور أنه لم يكن يُفكِّر على الإطلاق في معارفه المتنوعة أو ذهنه الحاد، وإنما في الموضوع محلِّ النظر فحسب. ومن محاسنه الأخرى، التي لا بُد أنها كانت تُبهر الجميع، هو أنَّ سلوكه في التعامُل مع الأشخاص المرموقين أو كبار السن لم يكن يختلف على الإطلاق عن سلوكه في التعامُل مع الطلاب الصغار؛ فقد كان يتعامل مع الجميع بتلك الدماثة الجذَّابة نفسها. لقد كان يُولي انتباهه إلى أبسطِ ملاحظةٍ في أيِّ فرع من فروع التاريخ الطبيعي، ومهما ارتكب المرء من خطأٍ تافه، فإنه كان يشرح له الأمر بوضوحٍ وعطف؛ فما كان لأحدٍ أن يتركه وهو يشعر باليأس، وإنما يصبح حريصًا على أن يكون أكثرَ دقةً في المرة القادمة. باختصار، لم يكن هناك مَن هو أفضل منه في نيل ثقة الشباب وتشجيعهم على ما يسعَون إلى تحقيقه.

لقد كانت محاضراته في علم النبات مشهورةً على نطاقٍ واسع، وكانت واضحةً كضوء النهار. لقد كانت معروفةً للغاية حتى إنَّ العديد من الأعضاء الأكبر سنًّا في الكلية كانوا يحضرون منها دوراتٍ دراسيةَ متتابعة. وكان يُقيم دعوةً مفتوحة إلى منزله في إحدى أُمسيات الأسبوع، وكان جميع المهتمِّين بالتاريخ الطبيعي يحضرون هذه الحفلات، وهي التي من خلال إتاحتها الفرصة للمهتمِّين بهذا المجال للتواصُل فيما بينهم كان لها الفائدة نفسها في كامبريدج، وبطريقةٍ جميلة جدًّا، التي للتجمُّعات الخاصة بالجمعيات العلمية في لندن. وفي بعض الأحيان، كان يحضر هذه الحفلات العديد من أكثر أعضاء الجامعة تميُّزًا، وفقط حين لا يكون عدد الحضور كبيرًا، فإنني كنت أستمع إلى عظماء الرجال في هذه الأيام، وهم يتحدثون في شتى الموضوعات بقُدراتهم المُتنوِّعة والمُذهِلة. ولم تكن تلك بالفائدة الهينة لبعض الشباب؛ إذ كان ذلك يحفز من نشاطهم الذهني وطموحهم. لقد كان يقوم ببعض الرحلات الاستكشافية مع طلابه في علم النبات، وذلك لمرتَين أو ثلاثٍ في كل دورة؛ فكان يأخذهم مثلًا في جولةِ سَيرٍ طويلة إلى موطنِ نباتٍ نادر، أو في زورق عبر النهر إلى المستنقعات، أو في عربات إلى بعض الأماكن الأبعد مثل جالمينجاي لرؤيةِ زهرةِ زنبق الوادي البرية، أو للإمساك في الأراضي البور بعلجوم ناترجاك natter-jack النادر. وقد كانت هذه الرحلات تترك في ذهني أثرًا ممتعًا. لقد كان يُصبح مُشرق النفس في مثل هذه المناسبات، وكأنه فتًى صغير، وكان يضحك من قلبه كفتًى صغير على الحظ السيئ لمن كانوا يُطارِدون الفراشات الخطَّافية الذيل الجذَّابة عبر المستنقعات المتكسِّرة الغادرة. وقد اعتاد أن يتوقف بين الحين والآخر ليشرح شيئًا عن نباتٍ ما أو غيره؛ وقد كان يخبرنا بمعلومة عن كل حشَرة أو صدَفة أو أُحفورة نجمعها؛ إذ كان ملمًّا بجميعِ فروع التاريخ الطبيعي. وبعد أن كنا ننتهي من يوم العمل، كنا نذهب لتناوُل العَشاء في نُزل أو منزل، وكلنا مرح وسرور. أعتقد أنَّ جميع من كانوا يشتركون في هذه الرحلات، سيتفقون معي في الرأي أنها تركَت انطباعًا بهيجًا لا يُنسى في عقولنا.

وبمرور الوقت في كامبريدج، توطَّدَت علاقتي بالبروفيسور هنزلو، الذي لم يكن لعطفه حدود؛ فقد كان يدعوني إلى منزله باستمرار، ويسمح لي بمرافقته في جولاته. كان يتحدث في جميع المواضيع، ومنها رؤيته للدين، وكان منفتحًا تمامًا. إنني أَدين لهذا الرجل الرائع بأكثرَ مما يمكن أن أُعبِّر عنه …

وعلى مدى السنوات التي صحبتُ فيها البروفيسور هنزلو، لم يحدث قطُّ أن رأيتُ مزاجه قد تَكدَّر ولو لمرة. لم يكن يُسيء الظن بطباعِ أيِّ شخص، بالرغم من أنه لم يكن بالغافل قط عن نواقصِ الآخرين. وقد كان يُدهشني دومًا أن عقله لم يكن حتى لِيتأثر بأيِّ مشاعرَ دنيا من الزهو أو الحسد أو الغَيرة. ومع كل هذا الهدوء في مزاجه وإحسانه الكبير، فهو لم يكن رجلًا خامل الطباع، وأعمى هو مَن لا يستطيع أن يرى أنَّ هذا السطح الخارجي الهادئ، يُخفي تحته عزيمةً قوية وثابتة. وحين كان الأمر يتعلق بالمبادئ، فلم يكن لقوة على الأرض أن تجعله يَحيد عنها ولو بمقدارِ شعرة …

وعند تقليبِ النظر في شخصيته بامتنانٍ وتبجيل، فإنَّ سماته الأخلاقية تتجلى في منزلةٍ أعلى رفعةً من قدراته الذهنية، وذلك كما هو معهودٌ لدى الأشخاص الأكثر رقيًّا.

وفي خطابٍ إلى المبجَّل إل بلومفيلد (جينينز)، ٢٤ مايو ١٨٦٢، نجد أنَّ أبي كان يعبر عن الشعور نفسه الذي عبَّر عنه في خطابه قبل ثلاثين عامًا:

إنني أشكُركَ بصدقٍ على هديتك الطيبة عن سيرة هنزلو. لقد قرأتُ نصفها تقريبًا، وقد أثارت اهتمامي للغاية. لم أكن أعتقد أنه كان بإمكاني أن أُجِلَّه أكثر مما فعلت، لكنَّ كتابَكَ قد أعلى من قَدْره في عيني حتى بدرجةٍ أكبر. ومن التقليب في صفحات النصف الأخير، أعتقد أنَّ روايتك عنه ستكون ثمينة للغاية لأيِّ رجلِ دينٍ يرغب في أن يحتذي بمثال عزيزنا المسكين والنبيل هنزلو. لكم كان رجلًا رائعًا!

لقد كان للعمل الجيولوجي الذي ورد ذكره في مفكرة أبي أهميةٌ أكيدة؛ إذ منحه بعض الخبرة العملية، وربما كانت أهميته الأكبر هي أنه قد ساعده في اكتساب بعض الثقة في نفسه. في يوليو من العام نفسه، ١٨٣١، كان «يعمل مثل نمر» في الجيولوجيا، وكان يُحاول عَملَ خريطةٍ جيولوجية لشروبشاير، لكنه «لم يجد الأمر بالسهولة التي كان يَتوقَّعها.»

وفي خطابه إلى هنزلو في الوقت نفسه تقريبًا، نجد أنه يحكي بعض الشيء عن عمله:

كان ينبغي أن أكتب إليك في وقت أبكر من ذلك، غير أنني أردت انتظار الكلينومتر، ويسرني أن أخبرك بأنني أعتقد أنه سيكون مفيدًا جدًّا. لقد وضعتُ جميع الطاولات في غرفةِ نومي ورتَّبتُها في كل اتجاهٍ وزاوية مُمكنَين. سوف أجرؤ وأقول إنني قد قِستها بهذا المقياس بأكبرِ درجةٍ من الدقة قد يتمكن أيُّ عالم جيولوجيا من تحقيقها … لقد كنتُ أعمل في العديد من الأمور، فلم أُحرز الكثير في الجيولوجيا. أشك بأنَّني سوف أعود من أول رحلة أقوم بها حاملًا المطرقة والكلينومتر في يدي، وأنا أتحلى بالمزيد من المعرفة والحكمة، بل ستُعيدني أكثرَ حيرةً مما كنتُ عليه حين بدأت. إنني لم أنغمس حتى الآن إلا في الفرضيات، لكنها قويةٌ للغاية حتى إنني أعتقد أنها لو تحقَّقَت ليومٍ واحد، فسوف تحلُّ نهاية العالم.

لقد كان من الجلي أنه متحمسٌ للغاية للعمل مع سيجويك؛ فقد كتب إلى هنزلو: «إنني لم أَتلقَّ خطابًا من البروفيسور سيجويك؛ لذا فإنني أخشى ألا يذهب لفحصِ تكوينات نهر السيفرن الجيولوجية. وأنا أتمنى أن تكون قد بذلتَ كلَّ ما في وُسعك لتحُثه على ذلك، وأثق بذلك.»

لقد حكى أبي في عمله «ذكريات» أجزاءً من تلك الجولة.

وفيه أيضًا نقرأ عن الجولة المتوقَّعة إلى جزر الكناري، والتي يذكرها بنحوٍ عابر في خطاباته إلى فوكس وهنزلو.

في أبريل عام ١٨٣١، يكتب إلى فوكس: «في الوقت الحالي، أتحدث وأفكر وأحلم بخطة قد وضعتها بالذهاب إلى جزر الكناري. إنني أرغب في رؤية النباتات والمناظر الطبيعية الاستوائية منذ وقتٍ طويل؛ ووفقًا لههومبولت، فإنَّ تينيريف مثال جميل للغاية.» ومرة أخرى في مايو: «بالنسبة إلى خطتي لزيارة جزر الكناري، فإنك قد تعجلت في سؤالك عنها. إنَّ أصدقائي الآخرين يتمنَّون بكل صدق أن أكون هناك؛ فأنا أزعجهم باستمرار بالحديث عن المناظر الطبيعية الاستوائية وغير ذلك. سيذهب إيتون في الصيف القادم، أمَّا أنا، فأتعلَّم الإسبانية.»

وفي وقتٍ لاحق في هذا الصيف، اتخذت الخطَّة شكلًا أكثر تحديدًا، وبدا أنَّ تاريخها قد تَعيَّن في يونيو عام ١٨٣٢. وفي لندن، حَصَل على معلوماتٍ عن تكلفة الانتقال لجزر الكناري بالبحر، وقضى شهر يوليو في دراسة الإسبانية وظل يدعو فوكس بالإيطالية ﺑ «الوغد العظيم»، للدلالة على معرفته بهذه اللغة، والتي كان يرى بالرغم من ذلك أنها «غبية جدًّا» مع ذلك، يبدو أنه كانت تُساوِره بعض الشكوك بخصوصِ حماسِ رفاقه بشأن الرحلة، حتى في ذلك الوقت؛ فهو يكتب إلى هنزلو (٢٧ يوليو ١٨٣١): «آمل أن تكون ما زلت محتفظًا بحماسك لرحلة الكناري. إنني أقرأ كتاب هومبولت مرةً بعد أخرى، فهل تفعل الأمر نفسه؟ إنني أثق أنه لا شيء سيمنعنا من شجرة التنين هناك.»

ظلت أحلامه المتعلقة بتينيريف والعمل الجيولوجي، تُلاحِقه طَوال الصيف، حتى عاد من بارماوث في يوم الأول من سبتمبر المقدَّس، وذلك حين تلقَّى خطاب تعيينه في رحلة «البيجل» بوصفه عالمًا في التاريخ الطبيعي.

وسيساعدنا المُقتطَف التالي من مفكرة الجيب في قراءة الخطابات:
عُدتُ إلى شروزبيري في نهايةِ أغسطس. رفضتُ عرض الرحلة.
سبتمبر، ذهبتُ إلى مير، وعُدت مع عمي جوز إلى شروزبيري ومنها إلى كامبريدج. لندن.
في الحادي عشر، ذهبتُ مع القبطان فيتزروي في سفينةٍ بخارية إلى بليموث لرؤية «البيجل».
في الثاني والعشرين، عدتُ إلى شروزبيري مرورًا بكامبريدج.
في الثاني من أكتوبر، غادرتُ منزلي، ومكثتُ في لندن.
في الرابع والعشرين، وصلتُ إلى بليموث.
أكتوبر ونوفمبر، كان هذان الشهران تعيسَين جدًّا.
في العاشر من ديسمبر، أبحرنا لكننا اضطُررنا إلى العودة.
في الحادي والعشرين، أبحرنا مجدَّدًا، ثم عدنا.
في السابع والعشرين، أبحرنا من إنجلترا في رحلتنا البحرية.

من جورج بيكوك (رئيس كاتدرائية إيلي سابقًا، وأستاذ الكرسي اللوندزي في علم الفلك في كامبريدج) إلى جيه إس هنزلو
٧ شارع سافك، بول مول إيست
[١٨٣١]
عزيزي هنزلو

سيقوم القبطان فيتزروي بعملِ مسحٍ للساحل الجنوبي لتييرا ديل فويجو، وبعد ذلك، سيزور العديد من جُزرِ بحر الجنوب، ثم يعود من طريق الأرخبيل الهندي. إنَّ السفينة مُجهزة خصيصًا للأغراض العلمية؛ لذا، فإنها مع هذا المسح، سوف تُوفِّر فرصةً نادرة للمختص في علم التاريخ الطبيعي، وسيكون ضَياعُها سوءَ حظٍّ عظيمًا.

ولقد عُرض عليَّ أن أُرشِّح شخصًا مناسبًا للذهاب في هذه الرحلة في وظيفةِ مختصٍّ في التاريخ الطبيعي، وسوف يُعامل بكلِّ احترام. والقبطان شابٌّ يافع يتحلى بالأخلاق الحميدة (فهو ابن أخي دوق جرافتون) وهو عظيمُ الحماس لمهنته، ويُشاد به كثيرًا. وإذا تمكن ليونارد جينينز من الذهاب، فتَخيَّل كمَّ الكنوز التي قد يحضرها معه! إذ سوف تُوضع السفينة تحت تَصرُّفه، متى احتاج إليها في أبحاثه، ورأى ذلك ضروريًّا أو محبَّذًا. وفي حالةِ غيابِ مثل هذا العالِم الرائع، فهل من شخصٍ آخر يمكنك أن تُرشِّحه بقوة؟ ولا بد لهذا الشخص أن يكون أهلًا لترشيحنا. فكر في هذا الأمر؛ فسوف تكون خسارةً كبيرة لعلوم التاريخ الطبيعي إن ضاعت هذه الفرصة الممتازة.

سوف تبحر السفينة بحلول نهاية سبتمبر تقريبًا.

اكتب إليَّ في الحال وأخبرني بما يمكن فعله.

خالص مودتي إليك يا عزيزي هنزلو
صديقك المخلص
جورج بيكوك

من جيه إس هنزلو إلى تشارلز داروين
كامبريدج، ٢٤ أغسطس، ١٨٣١
عزيزي داروين

قبل أن أتطرق إلى الموضوع المباشر لهذا الخطاب، لنتشاطر الأسى على فقدان صديقنا الغالي المسكين رامزي، الذي قد سمِعتُ بموته دون شكٍّ منذ فترةٍ طويلة.

لن أخوض طويلًا في هذا الحادث الأليم؛ إذ إنني آمُل في رؤيتك قريبًا، متوقِّعًا أن تتحمس لقبول العرض الذي سأُوشك أن أخبرك به، والذي يتمثل في ذهابك في رحلة إلى تييرا ديل فويجو، ثم العودة إلى الوطن عن طريقِ جُزر الهند الشرقية. لقد طلَب مني بيكوك، والذي سيقرأ هذا الخطاب ويرسله إليك من لندن، أن أُرشِّح له مختصًّا في التاريخ الطبيعي يرافق القبطان فيتزروي، وهو الذي عيَّنته الحكومة لعملِ مسحٍ لطرف أمريكا الجنوبي. وقد قلتُ بأنني أعتقد أنك أنسبُ شخصٍ مؤهَّل أعرفه ومن الأرجح أن يقبل بالقيام بمثل هذه المهمة. وأنا لم أقل ذلك على اعتبارِ أنكَ خبيرٌ في التاريخ الطبيعي، وإنما بوصفك مؤهَّلًا تمامًا للجمع والملاحظة والانتباه إلى أيِّ شيءٍ يستحق الانتباه إليه في التاريخ الطبيعي. إنَّ بيكوك يملك حق التصرُّف فيما يتعلق بهذا التعيين، وإن لم يجد شخصًا يقبل بهذا العمل، فسوف تضيع الفرصة على الأرجح. إنَّ القبطان فيتزروي (كما أفهم) يرغب في مرافقٍ أكثر مما يرغب في مجردِ جامع، ولن يقبل بأيِّ شخصٍ مهما كانت براعته في التاريخ الطبيعي، إلا أن يأتيه مِن ذكره أنه أيضًا «رجل فاضل». أمَّا التفاصيل المحدَّدة مثل الراتب وما إلى ذلك، فأنا لا أعرف عنها شيئًا. ستستغرق الرحلة عامَين، وإذا أخذتَ معك الكثير من الكتب، فسوف تتمكن من تحقيقِ كلِّ ما ترغب فيه، وسوف تحظى بالعديد من الفرص رهنَ إشارتك. باختصار، إنني أعتقد أنه لن تُوجد فرصةٌ أفضل من تلك لرجل يتمتع بالطاقة والحماس؛ فالقبطان فيتزروي رجلٌ شاب. وأمَّا ما أرغب في أن تفعله، فهو أن تحضُر هنا في الحال وتتشاور مع بيكوك (٧ شارع سافك، بول مول إيست، أو نادي الجامعة) وأن تعرف المزيد من التفاصيل. لا تسمح لأيِّ شكوكٍ أو مخاوفَ بأن تُراوِدك بأنك تفتقر إلى بعض المؤهِّلات؛ فأنا أؤكد لك أنَّك تتمتع بما يبحثون عنه تمامًا؛ ولهذا، فلتتخيلْ أنكَّ قد أُلقيَ القبضُ عليك وأُمر بإرسالك في هذه البعثة من قِبل صديقك المخلص.

جيه إس هنزلو

ستبحر هذه البعثة في الخامس والعشرين من سبتمبر (وليس قبل ذلك)؛ لذا فما من وقتٍ تضيعه.

من جي بيكوك إلى تشارلز داروين
[١٨٣١]
سيدي العزيز

لقد تلقيتُ خطاب هنزلو أمس في وقتٍ متأخر للغاية؛ فلم أستطع أن أرسله إليكَ في بريد الليل، وهو أمرٌ لم أندم عليه؛ إذ إنَّ ذلك قد سمح لي برؤية القبطان بوفورت من ديوان البحرية (كبير الهيدروجرافيِّين) وإخباره بالعرض الذي سأعرضه عليك. إنه يُوافق عليه تمامًا، ويمكنك أن تعتبر أنَّ الأمر قد أصبح تحت تصرفك تمامًا. إنني أثق بأنك ستقبله؛ فهو فرصة يجب ألا تُفوِّتها. وأنا أتطلع باهتمامٍ شديد إلى ما ستُثمر عنه جهودك من فائدة وإضافة إلى مجموعاتنا الخاصة بالتاريخ الطبيعي.

وبيان الأمر كما يلي:

القبطان فيتزروي (ابن أخي دوق جرافتون) سيُبحر في نهاية سبتمبر في سفينة لعملِ مسحٍ هو الأول من نوعه، للساحل الجنوبي لتييرا ديل فويجو، وبعد ذلك، سيزور جزر بحر الجنوب، ثم يعود إلى إنجلترا عن طريق الأرخبيل الهندي. البعثة مُخصَّصة بالكامل للأغراض العلمية، وبصفةٍ عامة، ستكون السفينة تحت إمرتك بينما تُجري أبحاثك في التاريخ الطبيعي وما إلى ذلك. وأمَّا القبطان فيتزروي، فهو ضابطٌ كريم، متحمس، دمث الأخلاق ويحبه جميع زملائه من الضباط. لقد ذهب مع القبطان بيتشي وأنفق من ماله الخاص ١٥٠٠ جنيه في إحضارِ ثلاثةٍ من السكان الأصليِّين من باتاجونيا وتعليمهم. [هناك خطأ هنا؛ فقد ذهب مع «كينج» وليس «بيتشي». وأنا لا أجد اسم فيتزروي في قائمةِ ضباطِ بيتشي. عاد الأشخاص الثلاثة من أهل فويجو مع رحلة القبطان كينج.] وهو ينفق من ماله الخاص ٢٠٠ جنيه في العام لكي يصطحب معه أحد الحرفيِّين؛ لذا، يمكنك أن تتأكد من أنه سيكون رفيقًا لطيفًا للغاية، وسيتجاوب بصدقٍ مع جميع آرائك.

ستُبحر السفينة في نهاية سبتمبر، وعليك ألا تتأخر في إبلاغ موافقتك للقبطان بوفورت، كبير الهيدروجرافيِّين بديوان البحرية. لقد ناقشتُ هذ الأمر كثيرًا في مراسلاتي [مع هنزلو] الذي يشعر، كما أشعر أنا أيضًا، بالتلهُّف الشديد لذهابك. وأتمنى ألا يحدث أيُّ شيءٍ آخر يحول دون ذلك الأمر.

إنَّ ديوان البحرية لا يملك حق إعطائك راتبًا، لكنهم سيُقدِّمون لك تعيينًا رسميًّا، ويُزوِّدونك بكل سبل الراحة. وإن كان الراتب ضروريًّا، فأعتقد أنه يمكن توفيره بالرغم من ذلك.

خالص تحياتي إليك يا سيدي الفاضل
المخلص لك
جورج بيكوك

من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
شروزبيري، الثلاثاء [٣٠ (؟) أغسطس ١٨٣١]
سيدي العزيز

لقد وصل خطاب السيد بيكوك في يوم السبت، وقد تسلَّمتُه في وقتٍ متأخر مساء أمس. بالنسبة لي، فأنا أعتقد أنه يجب عليَّ «بالطبع» أن أقبل، وبكلِّ سرور، هذه الفرصة التي تكرَّمتَ بعرضها عليَّ. لكن أبي، رغم أنه لا يرفض ذهابي، يُشدِّد في نصيحته إليَّ بعدم الذهاب؛ لذا فلن أشعر بالراحة إن لم أتبع نصيحته.

وتتمثَّل اعتراضاتُ والدي فيما يلي: إنها تُقلِّل فرصتي في الاستقرار والعمل كرجلِ دين، وكذلك خبرتي القليلة في السفر بالبحر، و«ضيق الوقت»، واحتمال أني لا أروق للقبطان فيتزروي. ولا شك في أنَّ ضيق الوقت فيما يتعلق بعملِ جميع الاستعدادات هو اعتراضٌ جادٌّ للغاية؛ فليس الجسم وحده هو الذي يحتاج إلى الاستعداد، وإنما يحتاج العقل أيضًا إلى الاستعداد للقيام بمثل هذا الأمر. بالرغم من ذلك، فلولا أبي، لقبلتُ بتحمُّل جميع المخاطر. ما السبب في عدم الاستقرار على تعيينِ مختصٍّ في التاريخ الطبيعي منذ فترةٍ طويلة؟ إنني مُمتنٌّ للغاية لما عانيته من متاعبَ في سبيل ذلك، ولا شك في أنها كانت ستُصبح فرصةً رائعة للغاية.

لقد جادت رحلتي مع سيجويك بنتائجَ رائعة. ولم أسمع بموتِ رامزي المسكين إلا قبل خطابك بأيامٍ قليلة. لقد كنتُ محظوظًا حتى الآن في عدم فقدان أيِّ شخصٍ أُكنُّ له تقديرًا أو عاطفة، وبالرغم من أنَّ معرفتي به لم تمتد إلا لفترةٍ قصيرة للغاية، فقد كانت كافيةً لكي تجعلني أشعر بهذه المشاعرِ كلها، وبدرجةٍ كبيرة. إنني لا أستطيع أن أُصدِّق أنه لم يعد موجودًا. لقد كان أفضلَ شخصيةٍ قد عرفتُها على الإطلاق.

المخلص لك يا سيدي العزيز
تشارلز داروين

لقد كتبتُ إلى السيد بيكوك، وذكرتُ أنني قد طلبتُ منك أن تُبلغني في حالة أنه لم يتسلم خطابي. وقد طلبتُ منه أيضًا أن يتواصل مع القبطان فيتزروي. وحتى إن قررتُ الذهاب، فإنَّ كراهية والدي لذلك سوف تستنفد جميع طاقتي، التي سوف أحتاج إلى قدْرٍ كبير منها. إنني أشكرك مرةً أخرى؛ فهذه الفرصة تضيف القليل إلى ذلك القَدْر الثقيل اللطيف الذي أَدين لك به من الامتنان.

من تشارلز داروين إلى آر دابليو داروين
[مير] ٣١ أغسطس [١٨٣١]
أبي العزيز

يؤسفني أن أضايقك مرةً أخرى. لكن بعد تفكير، أظن أنك ستعذرني مرةً أخرى إذ أُخبرك برأيي في عرض الرحلة. وأمَّا عذري وسببي فهو اختلاف الطريقة التي ينظر بها جميع آل ويدجوود عن الطريقة التي تنظر بها إليها، أنت وأخواتي.

لقد قدَّمتُ لعمي جوز [جوزايا ويدجوود] ما أثق تمامًا أنه قائمةٌ كاملة ودقيقة بجميع اعتراضاتك، وسيتكرَّم هو بأن يُخبرك بآرائه فيها كلها. وسأُرفق لك القائمة وردَّه عليها، لكن هل لي أن أطلب منك صنيعًا واحدًا؛ سيكون غاية في اللطف منك إن أرسلتَ لي إجابةً محددة، نعم أم لا؟ وإذا كانت الأخيرة، فسيكون نكرانًا عظيمًا مني ألا أخضع لحكمك الأفضل، ولعطفك الشديد الذي شملتَني به طَوال حياتي، ويمكنك أن تثق حينها بأنني لن أذكر الأمر مرةً أخرى. وإن كانت إجابتك بنعم، فسوف أذهب إلى هنزلو مباشرة وأتشاور معه بوضوح، ثم آتي إلى شروزبيري.

إنَّ الخطر لا يبدو لي عظيمًا، أنا وجميع وآل ويدجوود، ولا يمكن أن تكون الكلفة كبيرة، ولا أعتقد أنَّ هذا الوقت سيكون مهدرًا بدرجةٍ أكبر مما لو بقيتُ في المنزل. لكنني أرجوك ألا تظن أنني عازم على الذهاب مهما يكن الأمر ويجب أن تتأكد أنني لن أتردَّد ﻟ «لحظة واحدة» عن التراجع، إن رأيتُ أنَّ عدم ارتياحك لن يزول بعد فترةٍ قصيرة.

ولا بُد لي من أن أقول مجدَّدًا بأنني لا أظن بأنَّ هذا سيضر بسمعتي وحياتي العملية في المستقبل. إنني أتمنى ألا يُزعجك هذا الخطاب بدرجةٍ كبيرة. سوف أُرسله بالعَربة صباح الغد؛ فهل لك أن تُرسل لي الرد في اليوم التالي بالطريقة نفسها، إن اتخذت قرارك مباشرة؟ وإن لم يصلك هذا الخطاب وأنت في المنزل، فأتمنى أن تجيب فَور أن تتمكن من ذلك.

لستُ أدري كيف يمكنني أن أصف عطف عمي جوز؛ فلن أستطيع أن أنسى أبدًا مدى اهتمامه بأمري.

إليك خالص مودتي يا والدي العزيز
ابنك المُحب
تشارلز داروين
[فيما يلي قائمة بالاعتراضات المشار إليها في الخطاب التالي:
  • (١)

    الإساءة إلى سمعتي كرجلِ دين فيما بعدُ.

  • (٢)

    خطَّة جامحة.

  • (٣)

    إنهم لا بد قد عرضوا وظيفة المختص بالتاريخ الطبيعي على آخرين كُثر قبلي.

  • (٤)

    ولما أنهم لم يقبلوها، فلا بد أنَّه ثَمَّةَ بعض الاعتراضات الخطيرة على الباخرة أو الرحلة.

  • (٥)

    إنني لن أستقر في حياةٍ ثابتة في المستقبل.

  • (٦)

    إنَّ إقامتي لن تكون مريحة على الإطلاق.

  • (٧)

    إنك [أي، الدكتور داروين] لا بد تنظر للأمر باعتباره تغييرًا في مساري المهني.

  • (٨)

    إنها مهمةٌ عديمة الجدوى.]

من جوزايا ويدجوود إلى آر دابليو داروين
مير، ٣١ أغسطس، ١٨٣١
(اقرأ ذلك في النهاية) [كتب تشارلز داروين هذا بنفسه]
دكتور داروين العزيز

إنني أشعر بثقل مسئولية طلبِكَ لي بالمساعدة بخصوص العرض الذي قُدم إلى تشارلز، لكن لأنك كنت ترغب من تشارلز أن يستشيرني، فلا يمكنني أن أرفض ذكر وجهة نظري في هذه المسألة.

لقد أورد تشارلز ما يعتقد أنه يمثل اعتراضاتك الأساسية، وأعتقد أنَّ أفضل طريقة يمكن أن أتبعها في هذا الشأن هي أن أذكُر ما يخطر لي بشأنِ كلٍّ منها.

  • (١)

    إنني لا أعتقد أنَّ ذلك سوف يُسيء إلى سمعته كرجلِ دينٍ بأيِّ نحو، بل إنني أعتقد أنه عرضٌ مُشرِّف، وإن كان العمل بالتاريخ الطبيعي ليس بالتأكيد عملًا مهنيًّا، فإنه مناسب للغاية لرجال الدين.

  • (٢)

    إنني لا أعرف كيف أتطرق إلى هذا الاعتراض، لكنه سيكون لديه أهدافٌ محدَّدة يعمل على تحقيقها، وربما يساعده ذلك في اكتسابِ بعضِ عادات التطبيق ويُعزِّزها لدَيه، وأعتقد أنَّه قد يفعل ذلك بأيِّ طريقةٍ قد يقضي بها العامَين القادمَين في المنزل.

  • (٣)

    لم يَرِد في ذهني هذا الخاطر عند قراءة الخطابات، وإذ أعدتُ قراءتها مع التفكير في هذا الخاطر، فإنني لا أجد أيَّ أساسٍ له.

  • (٤)

    لا أعتقد أنَّ ديوان البحرية سوف يُرسل باخرةً سيئة لمثل هذا الغرض. وأمَّا بالنسبة إلى الاعتراضات على البعثة، فسوف تختلف في حالةِ كلِّ شخص، ولا أعتقد أنه يمكن الاستدلال على أيِّ شيءٍ في حالة تشارلز، إن كان قد عُرف أنَّ آخرين قد اعترضوا.

  • (٥)

    إنك أفضل مني بكثير تقديرًا لشخصية تشارلز. وإذا قارنت هذا النمط الذي سيقضي به هذَين العامَين، بالنمط الذي سيقضيهما به على الأرجح إن لم يقبل بهذا العرض وكنتَ تعتقد أنه سيحيا حياةً متقلبة ولن يكون قادرًا على الاستقرار، فإن ذلك اعتراضٌ وجيه بلا شك. لكن أوليس من المعتاد أن يستقر الملَّاحون في ظروفٍ منزلية هادئة؟

  • (٦)

    لا يمكنني أن أُبدِي أيَّ رأي بخصوص هذا الاعتراض سوى اعتقادي أنه لكونه يعمل لصالح ديوان البحرية، يحق له المطالبة بالحصول على أفضلِ ما تُقدِّمه الباخرة من سُبل الإقامة.

  • (٧)

    لو كنت أرى أنَّ تشارلز منهمك في الدراسات المهنية في الوقت الحالي، لكنتُ قد نصحتُ على الأرجح بعدم مقاطعتها، لكنَّ الحال ليست كذلك، ولا أظنها ستكون كذلك. إنَّ مسعاه الحالي للمعرفة يتفق مع المسار الذي سيسلكه في هذه البعثة.

  • (٨)

    المهمة ستكون عديمة الجدوى بالنسبة إلى مهنته، لكن عند النظر إليه كرجلٍ واسع الفضول، فإنَّ المهمة تُوفِّر له فرصةً لرؤية الأشخاص والأشياء، وهي فرصة لا تُتاح إلا للقليل من الناس.

يجب أن تُراعي أنه لم يكن لديَّ متسع من الوقت للتفكير، وأنَّكَ أنت وتشارلز مَن يجب عليهما اتخاذ القرار.

دكتور داروين العزيز
خالص مودتي إليك
المخلص
جوزايا ويدجوود

من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
كامبريدج، ريد لايون [٢ سبتمبر] ١٨٣١
سيدي العزيز

لقد وصلتُ للتو، وسوف تُخمِّن السبب. لقد غيَّر والدي رأيه. وأعتقد أنَّ الفرصة لا تزال موجودة.

إنني أشعر بالإرهاق الشديد وسوف أخلُد إلى النوم.

أكاد أجزم أنك لم تتسلَّم خطابي الثاني بعدُ.

متى يمكنني أن آتي لك في الصباح؟ أرسل لي إجابةً شفهية.

طابت ليلتك
المخلص
تشارلز داروين

من تشارلز داروين إلى الآنسة سوزان داروين
كامبريدج، الأحد صباحًا [٤ سبتمبر]
عزيزتي سوزان

لأنَّ الخطاب لم يكن ليُرسل البارحة؛ فقد أجَّلتُ كتابته إلى اليوم. لقد خُضتُ رحلةً شاقة، لكنني وصلتُ إلى كامبريدج وأنا في غاية النشاط. لقد قضيتُ يوم أمس بأكمله مع هنزلو، لنفكر فيما سنفعله، وذلك أمرٌ عظيم بالنسبة لي. ومن عظيمِ حُسن الحظ أنني أعرف شخصًا يحمل اللقب وود، وهو ابن أخي لورد لندنديري. إنه صديقٌ رائع للقبطان فيتزروي، وقد كتب له بشأني. لقد سمعتُ جزءًا من خطابٍ للقبطان فيتزروي مؤرَّخٍ بتاريخٍ سابق، وهو يقول فيه: «إنَّ لديَّ طاقمًا جيدًا ومناسبًا من الضباط، ومعظم رجالي قد ذهبوا إلى هناك قبل ذلك.» يبدو أنه ذهب إلى هناك في السنوات القليلة الماضية؛ لقد ذهب على متن هذه السفينة التي اختارها الآن، وكان يتولى المرتبة الثانية في قيادتها. إنه لا يبلُغ من العمر سوى ثلاثة وعشرين عامًا، لكنه تولى الكثير من المهام، وفاز بالقلادة الذهبية في بورتسموث. يقول عنه ديوان البحرية إنَّ خرائطه هي الأفضل. لقد كان لدَيه الاختيار من بين سفينتَين، وقد اختار الأصغر. سيعطيني هنزلو خطاباتٍ لجميع المسافرِين الموجودِين في المدينة، الذين يعتقد أنه يمكنهم مساعدتي.

لا يملك بيكوك سوى مكانٍ واحد لمختصٍّ في التاريخ الطبيعي، وكان ليونارد جينينز هو أول مَن عُرِضَت عليه هذه الفرصة، وقد كاد أن يقبل بها حتى إنه حزم أمتعته. لكن لمَّا أن كانت له وظيفةٌ يتكسَّب منها، فلم يَرَ أنه من الصواب أن يتركها؛ إذ كان ذلك سيتسبب في شعورِ جميعِ عائلته بالأسف الشديد. ولم يكن من المستبعد أن يقبل بها هنزلو نفسه؛ فقد تكرمت السيدة هنزلو بإعطاء موافقتها على ذلك دون أن يُطلب منها، لكنها قد بدت في غاية الحزن، فحدد هنزلو موقفه بالرفض على الفور.

يؤسفني أنَّ الأمر سيتطلب نفقاتٍ كثيرة في البداية. إن هنزلو شديد المعارضة لفكرة أخذ الكثير من الأغراض؛ إذ إن ذلك هو الخطأ الذي يقع به جميع الرحَّالة اليافعين. إنني أكتب وكأن الأمر قد تقرر، لكن هنزلو يخبرني بألا أتخذ قراراي «بأيِّ حالٍ من الأحوال»، حتى أخوض محادثاتٍ طويلةً مع القبطان بوفورت والقبطان فيتزروي. إلى اللقاء. سأكتب إليكِ باستمرار. أرسلي إليَّ على العنوان: ١٧ سبرينج جاردنز. لا تُخبري «أحدًا» في شروزبيري الآن. يجب أن تفعلي ذلك.

تشارلز داروين

لقد كنتُ مرهقًا للغاية في هذا المساء الذي قضيته في شروزبيري، حتى إنني لم أشكر أيًّا منكم على لطفكم، ولو حتى بنصفِ مقدارِ ما شَعرتُ به.

خالص مودتي إلى أبي.

إنَّ السبب في رغبتي بعدم إخبار الناس في شروزبيري، هو أنَّ ذلك سيجعل الأمر أكثرَ سهولةً إن لم أذهب.

من تشارلز داروين إلى الآنسة إس داروين
١٧ سبرينج جاردنز، الاثنين
[٥ سبتمبر ١٨٣١]

ليس لديَّ سوى القليل من الوقت؛ فما لديَّ وقتٌ أُضيعه في إعادة كتابة الخطابات؛ لذا فلتعذريني في إحضار الخطاب السابق وتعديله. لقد كتبتُ الخطاب السابق في الصباح، وفي منتصف اليوم، تسلَّم وود خطابًا من القبطان فيتزروي، والذي عليَّ أنَّ أُقرَّ بأنه كان «مباشرًا» للغاية كما أنه كان يعكس «نبل أخلاقه»، غير أنه كان يعارض ذهابي بدرجةٍ كبيرة؛ حتى إنني تخلَّيتُ عن الأمر في الحال، وكذلك فعل هنزلو قائلًا إنه يرى أنَّ بيكوك قد «أخطأ بشدة»؛ إذ أخفق كثيرًا في توضيح الأمور.

نادرًا ما كنتُ أفكر من قبلُ في الذهاب إلى المدينة، لكنني ها هنا الآن. والآن سأقُص عليكِ المزيد من التفاصيل، وهي تفاصيل مُبشِّرة. القبطان فيتزروي موجود [في] المدينة، وقد رأيتُه. من العبث أن أُحاول مديحه بالقَدْر الذي أشعر بأنني أرغب فيه؛ إذ إنكِ لن تُصدِّقيني. والأمر الوحيد الذي أثق به، هو أنني لن أجد مَن هو أكثر منه صراحةً معي ولطفًا تجاهي. يبدو أنه قد وعد بأن يصطحب معه صديقًا، لكنه لن يستطيع الذهاب بسبب العمل، وقد تلقى الخطاب الذي يفيد بذلك قبل أن أدخل عليه بخمسِ دقائقَ فقط، مما يجعل الأمور أفضل كثيرًا لي؛ إذ إنَّ الحاجة إلى غرفةٍ كانت من أكبر اعتراضات فيتزروي. إنه يعرض عليَّ أن نتشارك كل شيء في مقصورته إن أردتُ الذهاب، وكذلك جميع سبل الراحة التي يمكنني أن أحظى بها، لكنها لن تكون كثيرة. وهو يقول إنَّ أكثر ما سيغُمُّه على الإطلاق هو أن أُقيم معه في غرفته إن لم أكن أشعر بالارتياح، ولأننا سوف نكون معًا في سفينةٍ صغيرة، فقد رأى أنَّ من واجبه أن يُوضِّح الحال الأسوأ في كلِّ شيء. أعتقد أنني سأذهب يوم الأحد إلى بليموث لرؤية السفينة.

إنه يتمتع بقَدْرٍ كبير من الجاذبية في سلوكه وطريقته في معالجةِ صلب الموضوع. وهو يقول إنَّه سيكون عليَّ أن أعيش كفافًا إن عشتُ معه؛ دون نبيذ مع الاكتفاء بأبسط الوجبات. إنَّ الأمور ليست كما يصفها بيكوك بالطبع، والقبطان فيتزروي ينصحني بألا أتخذ قراري الآن، لكنه يعتقد جديًّا بأن الرحلة ستحمل لي من الاستمتاع أكثر مما ستحمله من متاعب. لن تُبحر السفينة حتى العاشر من أكتوبر، وهي تحمل ستين رجلًا، منهم خمسة ضباط أو ستة وغيرهم، لكنها سفينةٌ صغيرة. ستظل السفينة في مهمتها لمدةِ ثلاثةِ أعوام على الأرجح. وسيكون عليَّ أن أدفع مقابل طعامي كما يدفع القبطان نفسه؛ ثلاثين جنيهًا في العام، ويقول فيتزروي إنني إن أنفقتُ خمسَمائةِ جنيهٍ بما في ذلك نفقات تجهيزاتي، فسوف يكون ذلك في منتهى الإفراط. وأمَّا الأخبار الأسوأ، فهي أنَّ الدوران حول العالم ليس «أكيدًا»، لكن الفرصة لذلك ممتازةٌ للغاية. وأنا لن أحسم أمري إلى أن يتم تحديد هذا الأمر، ولعلك ترين أنه بعد جميع هذه التغيُّرات العديدة التي مرت بي؛ فلن يقودني في عمليةِ اتخاذِ القرار سوى عقلي.

يقول فيتزروي إنَّ عواصف البحر هي أمرٌ مُبالَغ فيه، وإنني يمكنني العودة إلى إنجلترا في أيِّ وقتٍ إن اخترتُ ذلك على البقاء معهم؛ إذ إنَّ العديد من السفن تُبحر في هذا الاتجاه، وخلال أوقات الطقس السيئة (شهران على الأرجح)، يمكنني أن أبقى في أيِّ بلدةٍ صحية وآمنة ولطيفة، إن رغبتُ في ذلك. وهو يقول أيضًا إنَّني سأحصُل دائمًا على المساعدة وإنه لدَيه الكثير من الكتب، وسوف تكون تحت تصرُّفي، هي وجميع الأدوات والبنادق، وإنه كلما قل عدد الملابس التي آخذها معي وكذلك ثمنها، كان ذلك أفضل. ستُناسبني الطريقة التي يتبعونها؛ فهم يُرسون السفينة، ويظلون لمدة أسبوعَين في مكانٍ محدَّد. لقد شرحتُ للقبطان بوفورت وجهة نظري تمامًا، وهو يقول إنني إن بدأتُ ولم أطُف حول العالم، فإنَّ لديَّ مُبرِّرًا قويًّا لأن أرى أنني قد تعرضتُ للخداع. يجب أن أتصل بهم بعدَ غدٍ وأحصل على المزيد من الإرشاداتِ المحدَّدة إن أمكن. إنَّ طلبي للحصول على غرفة هو الاعتراض الأكثر جدية، لكنَّ القبطان فيتزروي (بسبب خطاب وود على الأرجح) عازم على أن يُوفِّر لي أقصى ما يمكنه من وسائل الراحة. تعجبني طريقته في معالجة الأمور. لقد سألني على الفور: «هل ستتحمل أن أخبرك بأنني أريد المقصورة لنفسي حين أرغب في أن أكون بمفردي؟ إذا عامل كلٌّ منا الآخر بهذه الطريقة، فأتمنى أن نتوافق فيما بيننا، وإلا فسوف يتمنى كلٌّ منا الجحيم للآخر.»

سنتوقَّف لمدة أسبوعٍ في جزر ماديرا، وسوف نرى معظم المدن الكبيرة في أمريكا الجنوبية. وسوف يرسم القبطان بوفورت المسار عن طريقِ بحرِ الجنوب. إنني أكتب باستعجالٍ كبير، وأنا لا أعرف ما إن كان الأمر يُثير اهتمامك بالدرجة الكافية التي تجعلكِ تعذرين هذا الخطاب الذي يطول إلى ثلاثةِ أضعاف الحجم المعتاد للخطابات، أم لا. أتمنى أن يكون رأيي سليمًا في القبطان فيتزروي، وألا يكون بدافع التحيُّز؛ وإن كان كذلك، فأنا واثقٌ أننا سنتفق. سوف أتناول معه العَشاء اليوم. يمكنني أن أكتب الكثير إن كنتُ أعرف أنك ستُحبين هذا، وكذلك لو كان لديَّ وقت. لا شك بأنَّ المرء لَيصادف الفرص في حياته، ولقد خبرتُ ذلك، وقد تخلَّيتُ عنها «تمامًا» إلا فرصة اليوم.

خالص مودتي إلى أبي، وإلى اللقاء يا عزيزتي سوزان.

تشارلز داروين

من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
لندن، الاثنين [٥ سبتمبر، ١٨٣١]
سيدي العزيز

«المجد للرب»، ذلك هو أبسطُ ما يمكنني أن أفكر في البدء به. إنَّ الظروف مواتيةٌ بأكثرَ مما كنتُ أظُن أنها يمكن أن تكون عليه. القبطان فيتزروي رجلٌ رائع في كل شيء؛ فإن حاولتُ الثناء عليه ولو بنصف مقدار ما أُكنُّه له، لظننتَ بأنني أتكلم عبثًا؛ إذ إنني لم أره سوى مرةٍ واحدة. أعتقد أنه يَودُّ حقًّا في أن يصطحبني معه؛ فهو يعرض عليَّ أن أتناول الطعام معه، وأنه سيحرص على أن أحظى بأكبرِ مساحةٍ ممكنة، لكنه يقول إنَّ عليَّ تقليل حجم الأمتعة؛ فهو يفكر في الحجم من وجهة نظر البحارة. ويقول القبطان بوفورت بأنني سأُقيم على السفينة، وأنَّ ذلك لن يكلفني إلا كتكلفة باقي الضباط. ستُبحر السفينة في العاشر من أكتوبر، وستبقى أسبوعًا في جزر ماديرا، ثم ترحل إلى ريو دي جانيرو. يرى الجميع أنه من المُرجَّح جدًّا أن نعود إلى الوطن عن طريق الأرخبيل الهندي، لكنني لن أتيقن من ذلك حتى يصدُر القرار.

إنَّ ما حث القبطان فيتزروي على النظر للأمر بطريقةٍ أفضل هو أنَّ السيد تشستر الذي كان سيذهب معه بصفته صديقًا، لا يستطيع الذهاب؛ ولهذا، فإنني سوف أحظى بمكانه في جميع الجوانب.

يمتلك القبطان فيتزروي، مجموعةً جيدة من الكتب، وقد كان العديد منها ضمن قائمتي، وهو يمتلك كذلك بعض البنادق وغير ذلك؛ ولهذا فسوف تكون تكلفة التجهيزات أقلَّ مما كنت أحسبه.

ستظل السفينة في تَجوالها لمدةِ ثلاثةِ أعوام، وأنا لا أُمانع في ذلك، لمَّا كان أبي لا يعارضه. لديَّ مقابلةٌ أخرى مع القبطان بوفورت في يوم الأربعاء، وسأذهب مع القبطان فيتزروي إلى بليموث في يوم الأحد على الأرجح؛ لذا، أتمنى أن تُواصل التفكير في الأمر وأن تُسجِّل ما قد يتبادر إلى ذهنك بشأنه. سوف أزور السيد بورتشل على الأرجح وأُعرِّفه بنفسي. إنني أقيم بنُزُل في ١٧ سبرينج جاردنز. لا يمكنك أن تتخيل كيف كان القبطان فيتزروي لطيفًا وعطوفًا وصريحًا في تعامُله معي. إنني متأكد أنه سيكون خطئي إن لم نتوافق فيما بيننا.

لكَم مر بي من تغيُّرات! فحتى الساعة الواحدة اليوم، كنت أتطلع لصيد الثعالب في شروبشاير، والآن لصيد اللاما في أمريكا الجنوبية.

لا شك في أنَّ المرء يصادف الفرص في حياته التي عليه أن يغتنمها قبل فَوات الأوان. إذا رأيت السيد وود، فأبلغه أرق تحياتي.

إلى اللقاء يا عزيزي هنزلو
صديقك الأشد إخلاصًا
تشاز داروين

فلتعذرني في كتابة هذا الخطاب بمثل هذه العجلة.

من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
١٧ سبرينج جاردنز، لندن
٦ سبتمبر، ١٨٣١

لقد سرني خطابُكَ سرورًا عظيمًا. لا يمكنك أن تتخيل كيف أزعجني خطابُك السابق وآذاني. [كان قد أساء فهمَ أحدِ خطابات فوكس على أنه يشير إلى اتهامه بالكذب.] لكن شكرًا للرب، إنني متيقن من أنه كان خطئي «بالكامل» أنْ أسأتُ تأويل خطابك. لقد فقدتُ صديقًا مؤخَّرًا، وأنا أشك فيما إن كان الموت المعنوي لصداقتنا (كما أسأت الافتراض) لم يُحزنِّي بقَدْر ما أحزنَتني تلك الفاجعة الحقيقية بموت المسكين رامزي على حينِ غِرة. إنَّنا نعرف بعضنا منذ فترةٍ طويلة للغاية، مما يجعلني أثق أننا لا نحتاج إلى المزيد من التبريرات. لكنني سأذكر أمرًا واحدًا فقط: حين أكون على فراش الموت، أعتقد أنه يمكنني القول إنني لم أتفوه قط بأي عبارةٍ غيرِ صادقة عن قَدْرك عندي. وسأضيف أمرًا آخر: أُقسم بشرفي أنَّ موضوع إرسال الحشرات «في الحال» كان تصادُفًا غيرَ مُوفَّق. لقد نسيتُ كيف أنك ستأخذها بطبيعة الحال. أتمنى ألا يتبادر إلى ذهنك أيُّ مشاعرَ قاسية حين تنظر إليها الآن، وأتمنى أن تُصدِّق أنني كنتُ لك دومًا صديقًا مخلصًا وممتنًّا أيضًا. إنَّ ما قضيناه معًا في كامبريدج من الكثير من الأوقات السعيدة، قد ظَهرَت أمامي كأنها أرواح الراحلين تحاكمني. ليتنا نحظى بالمزيد من مثل هذه الأوقات، وستكون هذه هي آخر أمنياتي عند مغادرة إنجلترا. ليباركك الرب يا عزيزي الغالي فوكس، ولعلك تنعم دائمًا بالسعادة.

صديقك المخلص
تشاز داروين

لقد خلَّفتُ خطابك؛ لذا، فإنني لا أعرف ما إن كنتُ أُرسله إلى الوجهة الصحيحة أم لا.

من تشارلز داروين إلى الآنسة سوزان داروين
١٧ سبرينج جاردنز، الثلاثاء
[٦ سبتمبر ١٨٣١]
عزيزتي سوزان

سوف أُزعجك مرةً أخرى. أعتقد أنني إن واصلتُ بهذا المعدل، فإنكِ ستتمنَّين بصدقٍ أن أرحل إلى تييرا ديل فويجو أو أيِّ مكانٍ آخر سوى إنجلترا. في البداية، سأذكُر طلباتي. أخبري نانسي أن تصنع لي اثنَي عشر قميصًا بدلًا من ثمانية. وأخبري إدوارد أن يرسل لي في حقيبة سفري (يمكنه أن يضع المفتاح في الحقيبة مربوطًا بحبل) خُفِّي المنزلي، وحذاءً خفيفًا للسير، وكتبي الإسبانية ومِجهَري الجديد (الذي يبلغ طوله ست بوصات وعمقه ثلاث بوصات أو أربعًا) الذي يجب حشوه بالقطن من الداخل، وبوصلتي الجيولوجية؛ والدي يعرف هذا، وكتابًا صغيرًا، إن كان موجودًا في غرفتي، عنوانه «تحنيط الحيوانات». اسألي أبي إن كان ثَمَّةَ مانع إن تناولتُ الزرنيخ لفترةٍ وجيزة؛ فيَداي ليستا بخير، ولطالما لاحظتُ أنهما إذا تَحسَّنتا وغيرتُ أسلوب حياتي في الوقت نفسه، فسوف تظلان بخيرٍ بصفةٍ عامة. ما هي الجرعة؟ أخبري إدوارد أنَّ بندقيتي متسخة. أين يُوجد إيرازموس؟ أخبريني إن كنتِ تعتقدين أنَّه يُوجد وقتٌ للرد وتسلُّمه قبل أن أبدأ؛ إذ إنني أرغب في معرفة رأيه في الأمر تحديدًا. أظن أنكِ لا تَعرفِين مكان السير جيه ماكينتوش؟

إنني أكتب كل هذا وكأن الأمر قد تقرر بالفعل، لكنَّ الحال لم يتغير عما كان عليه، فيما عدا أنَّ القبطان فيتزروي يتمنى بشدة أن أذهب، ومما يُبديه من عطف فإنني أَشعُر بأنه سيكون من نصيبي أن أذهب. لقد قضيتُ معه أُمسيةً لطيفة للغاية أمس. لا بُد أنَّ عمره يزيد على ثلاثة وعشرين عامًا، وهو ضئيل الحجم، ويُشبه السيد كينستون في وسامته، لكنه أكثر اسمرارًا. وأمَّا أخلاقه، فأنا أرى أنه يتمتع بمكارم الأخلاق دون نزاع. إنه يُحب الاقتصاد في كلِّ شيء، فيما عدا أمرًا واحدًا، وهو الأسلحة النارية، وهو يُوصيني بشدة بأن أبتاع حقيبةً من المُسدَّسات مثل تلك التي يمتلكها، والتي يبلغ ثمنها ستين جنيهًا! وهو يُوصيني أيضًا بألا أذهب إلى أيِّ شاطئٍ دون أن يكون معي مسدَّساتٌ مَحشُوَّة، لكنه غير متأكد بشأن أهمية حصولي على بندقية؛ فهو يقول إنه لا يمكنني أن أُدرِك قيمةَ رفاهيةِ حصولي على اللحم الطازج هنا. لن أبتاع شيئًا بالطبع حتى يتحدد كلُّ شيء، لكنني أعمل طوال النهار على قوائمي، فأضع فيها بنودًا وأحذف منها أخرى. إنَّ هذا هو أولُ يومٍ مبهج بالفعل أقضيه منذ أن تسلمتُ الخطاب، وكل ذلك بسبب الثقة التي اخترتُ أن أضعها في تصوُّري المثالي للقبطان.

سنتوقف في تينيريف، وهدفه هو أن نتوقف في أكبرِ عددٍ ممكن من الأماكن. سيأخذ معه عشرين من أجهزة الكرونومتر، وسيكون «إثمًا» ألا نُحدِّد خط الطول. وهو يطلب مني أن أحصُل من ديوان البحرية على إذنٍ كتابي يفيد بأنَّ لي حريةَ الاختيار في المغادرة متى رغبتُ في ذلك على الفور. يمكنني القول بأنكِ تتوقَّعِين عودتي من جُزر ماديرا، لكنني لن أتخلى عن هذه الفرصة، ما دامت صحتي تسمح بذلك. فلتعذري إزعاجي إياكِ وكتابتي الكثيرة إليكِ؛ فالأمر الأول مفيد لي، وأمَّا الثاني، فهو ممتع للغاية. أغلب الظن أنني سأكتب لكِ غدًا، فلتُجيبي مع عودة البريد. خالص مودتي إلى أبي، أيتها الغالية سوزان.

سي داروين

نظرًا لأنَّ أدواتي تحتاج إلى التغيير، فلتُرسلي أغراضي عَبْر عربةِ بريد «ذي أوكسونين» في الليلة نفسها.

من تشارلز داروين إلى الآنسة سوزان داروين
لندن، صباح الجمعة، ٩ سبتمبر، ١٨٣١
عزيزتي سوزان

لقد تسلَّمتُ الطرد لتوي. أعتقد أنه لم يصل أمس بسبب مراسم التتويج [تتويج ويليام الرابع]. إنني في غاية الامتنان لوالدي، وكذلك الجميع. لقد تمَّ كلُّ شيء بالطريقة الصحيحة. أظن أنه بحلول هذا الوقت تكونين قد تسلَّمتِ خطابي في اليوم التالي، وأتمنى أن تُرسلي الأغراض. لا تزال أموري على ما هي عليه. يقول القبطان بوفورت إنني مُدرجٌ ضمن سجلات الطعام، وهو يعتقد أنني لن أواجه صعوبةً بشأن مجموعاتي من العينات حين أعود إلى المنزل. لكنه شخصٌ عميقٌ للغاية ولا يمكنني سَبر أغواره. إنَّ الشيء الوحيد الذي يمنعني الآن من حسم أمري بصفةٍ نهائية، هو أنني أحتاج إلى التأكُّد بشأن جُزر بحر الجنوب، بالرغم من أنني أثق في شعوري بأننا سوف نذهب إلى هناك، سواءٌ أكان ذلك ضمن التعليمات أم لا. ويقول القبطان فيتزروي إنني أفعل خيرًا بالإلحاح على القبطان بوفورت؛ إذ إنَّ ذلك يُذكِّره ويُحفِّزه. ويقول كذلك إنه واثق بأنه مهتمٌّ بالدرجة الكافية لأن يأمر بعودة السفينة من أيِّ طريقٍ يرغب فيه، حتى وهو بالخارج، (لا سيما إن كانت هذه الإدارة غير دائمة. إنني سوف أصبح مؤيِّدًا لحزب المحافظِين حين أعود!) ووفقًا لما يقوله وود، فإنني أعتقد أنَّ الدوق جرافتون والدوق ريتشموند، يهتمَّان لأمره. وبالمناسبة، لقد أَسدَى لي جمائلَ كثيرة، وأنا متأكدٌ من أنَّ تقديمه لي للقبطان فيتزروي قد جعله يميل إلى اصطحابي معه.

ولكي أشرح الأمور من البداية: كان القبطان فيتزروي يرغب في اصطحابِ مختص بالتاريخ الطبيعي، ثم يبدو أنه قد انتابه الذعر فجأة من احتماليةِ أن يصطحب شخصًا لا يُعجبه على متن السفينة. وهو يعترف بأنَّ خطابه إلى كامبريدج قد كان بغرضِ إحباطِ الخطَّة. لا أظن أننا سنتشاجر بشأن السياسة، بالرغم من أنَّ وود (وذلك كما هو متوقع منه بصفته واحدًا من أهل لندنديري) قد حذَّر فيتزروي كثيرًا من أنني مؤيدٌ لحزب الأحرار. كان القبطان فيتزروي في حضورِ عمي جوز، وقد قال: «والآن سيُخبرك أصدقاؤك بأنَّ القبطان هو أكثر المخلوقات قسوةً على وجه الأرض. وأنا لا أعرف كيف يمكن لي أن أُساعدك في هذه الحالة، إلا بأن أتمنى أن تُجرِّبني.» لكم تتغير الأمور! إنني أتمنى الآن بالفعل أن تطول الرحلة قبل أن تطأ أقدامنا اليابسة. إنني أشعر بدمي يجري باردًا من الرهبة إزاء كلِّ ما سيكون عليَّ القيام به. الجميع يَبدُون على استعدادٍ لمساعدتي، وترغب جمعية علم الحيوان في انضمامي لها بصفتي عضوًا بالمراسلة. كل ذلك يمكنني تحقيقه وأنا لم أعبر خط الاستواء بعدُ. والأهم أنني تعرفتُ على صديقٍ مهم للغاية، وهو السيد ياريل، وهو بائعُ كتب ومختصُّ تاريخٍ طبيعي ممتاز. وهو يذهب معي إلى المتاجر ويُساوم في الأسعار (لا يعني هذا أنني قد ابتعتُ شيئًا بعدُ)؛ حاسبيني إن أنفقت ستين جنيهًا على المسدَّسات.

أمس كانت جميع المتاجر مغلقة؛ لذلك لم أستطع أن أفعل أيَّ شيء، وقد تصرَّفتُ بقدْرٍ كبير من الطفولة حتى إنني دفعتُ جنيهًا وشلنًا لكي أحصل على مقعدٍ ممتاز لرؤية موكب التتويج، وقد كان جديرًا بالرؤية دون شك. لقد كنتُ مندهشًا من أنَّ أيَّ كميةٍ من الذهب قد تجعل صفًّا من الناس يلتمعون. لقد كان الأمر أشبه بما يراه المرء في الكتب المُصورة للمواكب الشرقية. بدا الملك بحالٍ جيدة للغاية، ومحبوبًا كذلك، غير أنَّ الحماس كان طفيفًا للغاية، حتى إنه لا يسعني سوى أنَّ أُفكِّر أنه لن يكون لدينا تتويجٌ ملكي بعد خمسين عامًا.

لقد استمتعتُ برؤية الحرس الملكي كثيرًا؛ فهم رائعون للغاية، ومن الرائع أن تَريهم وهم يُفرِّقون الحشود. يعتقد المرء أنهم لا بد سيقتلون عشرين شخصًا على الأقل، لكنهم لا يؤذون أيَّ أحدٍ فيما يبدو، وجُّل ما يفعلونه هو إخافة الناس ليس إلا؛ فمتى تكثَّف حشد في مكانٍ واحد وكان من الصعب إزاحته عن الطريق، تَقدَّم إلى هذا المكان أحد هؤلاء الرجال الذين يبلغ طول الواحد منهم ستة أقدام، على فرسٍ أسود يأخذ في الصهيل عاليًا جدًّا، ثم يهبط بقائمَيه في البقعة التي يتجمَّع بها أكبرُ عددٍ من الناس. وإنكِ ستتخيَّلين حينئذٍ أنَّ المادة المصنوع منها البشر هي الإسفنج؛ إذ ترينهم يتضاءلون مُبتعدِين.

في المساء، كانت ثَمَّةَ إضاءةٌ أضخم كثيرًا من تلك التي كانت موجودةً عند الاحتفال المتعلق بقانون إصلاح نظام الانتخاب. وكانت الشوارع الرئيسية كلها مكتظة وكأنها فِناءٌ للسباق. وعامةً كانت العربات تسير، ستٌّ في كل صف، بعضها بجوار بعض، وأكاد أجزم بأنها لا تسير بسرعةِ ميلٍ في الساعة. لقد تعلَّم دوق نورثمبرلاند درسًا في المرة الماضية؛ لقد كان منزله كبيرًا للغاية، وهو أكبر منزل في منازل النبلاء، وكذلك أفضلها ذوقًا؛ فقد كانت جميع النوافذ في هذا المنزل تمتلئ بخطوطٍ مستقيمة من الأضواء اللامعة، وقد كان لها تأثيرٌ جميل نظرًا لعددها وانتظامها الشديد. لقد كانت ندرة الابتكار أمرًا لافتًا للأنظار؛ فقد تكرَّرتِ التيجان والمراسي وكذلك الحرفان W. R. إلى ما لا نهاية. وأمَّا أجمل شيء، فقد تمثل في أنابيب الغاز التي كانت تحتوي على ثقوبٍ صغيرة؛ فقد كانت تلمع لمعانًا شديدًا حتى إنه يكاد يصبح مؤلمًا. لقد كتبتُ الكثير عن التتويج، لدرجة أنني أظن أنه لن يتسنَّى لك أن تقرئي جريدة «ذا مورنينج هيرالد».

للمرة الأُولى في حياتي تقريبًا أجد أنَّ لندن تُعجِبني بشدة؛ فالعجلة والنشاط والضوضاء، جميعها في تناغُم مع مشاعري. ولديَّ الكثير لأفعله في أوقاتِ فراغي القصيرة؛ إنني أَدرُس علم الفلك؛ إذ إنني أعتقد أنَّ عدم القدرة على تحديد دوائر العرض وخطوط الطول، سيكون أمرًا مفاجئًا لأيِّ بحَّار. سأذهب الآن إلى القبطان فيتزروي، وسأترك [هذا] الخطاب مفتوحًا حتى المساء؛ فلربما حدث شيء. سأُقدم لك دليلًا على كون فيتزروي ضابطًا جيِّدًا؛ إنَّ كل ضباطه لم يتغيروا؛ فثُلثا طاقمه وثمانية من ضباط البحرية الذين ذهبوا معه قبل ذلك، قد عرضوا عليه الذهاب مجدَّدًا؛ لذا لا يمكن أن يكون العمل معه سيئًا للغاية. وقد أصدر ديوان البحرية لِتوِّه أوامره بجلبِ كمياتٍ كبيرة من اللحوم المعلَّبة وعصير الليمون وغير ذلك. لقد عدتُ لِتوِّي بعد قضاء يومٍ طويل مع القبطان فيتزروي، إذ قضيناه في التجوُّل بعربته الخفيفة ذات العجلتَين والتسوُّق. إنَّ هذا الخطاب قد أصبح متأخِّرًا للغاية؛ فلا يمكن إرساله في بريد اليوم. يمكنك أن تعتبري أنَّ الأمر قد استقر على ذهابي، إلا أن يتغير أيُّ شيء أو يحدث ظرفٌ خارجي، وهو ما لا أستطيع أن أرى أيَّ سببٍ لتوقُّعه. إنني أشعر بالاقتناع بأنه لا شيء سيُغيِّر من رغبتي في الذهاب. لقد بدأتُ في ترتيب الأمور؛ فابتعتُ مجموعةً جيدة من المسدَّسات المتينة وبندقيةً ممتازة مقابل خمسين جنيهًا؛ لقد وفَّرتُ في هذه الصفقة، وابتعتُ تلسكوبًا جيِّدًا مع بوصلةٍ مقابل خمسةِ جنيهات، وذلك هو كلُّ ما سأحتاج إليه تقريبًا من الآلات الباهظة الثمن؛ فالقبطان فيتزروي يملك كل شيء. إنني لم أرَ قط (ما يمكنني أن أدعوه) رجلًا مسرفًا جدًّا فيما يخصه، ومقتصدًا فيما يخصني، غير أنه ينكر ذلك. لقد رتب الأمور بطريقةٍ مدهشة. إنَّ أسلحته النارية سيبلغ ثمنها أربعمائة جنيه على الأقل. لقد وجدتُ حقيبة السفر حين وصلتُ، وقد كانت سليمةً وبحالٍ جيدة، وأنا ممتنٌّ لذلك كثيرًا. أعتقد أنه لا ينبغي أن أتناول الزرنيخ على الإطلاق. سأُرسل طيور الحجل إلى السيد ياريل، شكرًا جزيلًا. اطلُبي من إدوارد أن «يتفق» مع كليمسون على أن يصنع لبندقيتي زنادَين إضافيَّين، ونابضَين أساسيَّين، ونابضَي حرق، وأربعَ فونياتٍ أو سدَّادات؛ أعني واحدًا لكل ماسورة، فيما عدا الفونيات؛ اثنتَين لكلِّ ماسورة، ويجب أن تكون جودةُ كلِّ هذه ممتازة، وأَخبرِيه أن يُرسِلها في الحال، واطلُبي من إدوارد أن يسأل عن الأسعار. سأذهبُ يوم الأحد إلى بليموث في قارب البريد والبضائع، وسأمكث هناك يومًا أو يومَين، وسأعود بعد ذلك، وآمُل أن أجد منك خطابًا حينئذٍ. سأقضي بضعةَ أيامٍ في لندن، ثم أذهب إلى كامبريدج، ومنها إلى شروزبيري، ثم إلى لندن، ثم بليموث، ثم ماديرا، وذلك هو طريقي. أعرف أنَّ إسهابي في الكتابة عن التتويج أمرٌ مُمل للغاية، وقد كان بإمكاني أن أملأ ورقةً أخرى. لقد كنتُ للتو مع القبطان كينج، وهو الضابط الذي كان يرأس فيتزروي في البعثة الماضية، وهو يعتقد أنَّ البعثة ستُناسبني. ودون أن أسأله، قال إنَّ مزاج فيتزروي ممتاز، وهو سيُرسل معه ابنه بصفته ضابطًا بحريًّا متدرِّبًا. لقد نُسي مِفتاحٌ مِجهري، لكنَّ هذا ليس بالأمر الهام. خالص مودتي للجميع.

تشاز داروين

من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
١٧ سبرينج جاردنز (وسوف أبقى هنا إلى أن أنطلق)
[١٩ سبتمبر ١٨٣١]
عزيزي فوكس

لقد عدتُ من رحلتي لرؤية «البيجل» في بليموث، في يوم السبت، ووجدتُ خطابكَ الكريم على طاولتي. إنه لأمرٌ غريب للغاية أن يبدو لي العشرون يومًا الماضية فترةً طويلة للغاية؛ لقد بدت بالفعل أطولَ كثيرًا من أسابيعَ عديدة في الأحوال المعتادة، وهو ما يُفسِّر نسياني للقَدْر الذي أخبرتُكَ به من خططي.

لكن بوجهٍ عام هذه فرصةٌ عظيمة وطيبة؛ فسوف يكون هناك الكثير من الأشياء التي تُثير اهتمامي؛ مثل المناظر الطبيعية الجميلة، والكثير جدًّا من العمل في مختلف فروع التاريخ الطبيعي والاستمتاع به، وكذلك فإنَّ السفر والجوانب المتعلقة بالأرصاد الجوية، من الأمور التي سأستمتع بها في الرحلة؛ ومع الوضع في الاعتبار الأمر الأساسي المتمثل في أنَّ طاقم الضباط فيها دمثُ الطباع، يمكنني القول بأنَّ ذلك أمرٌ مؤكَّد. وعلى الجانب الآخر، ثَمَّةَ قدْرٌ كبير جدًّا من المخاطرة بحياتي وصحتي، وكذلك الغياب لفترةٍ طويلة جدًّا عن الأشخاص الذين أُحبُّهم بشدة، يُصبِح مؤلمًا للغاية في أغلب الأحيان، حتى إنه يستلزم كل عزمي لأتغلَّب عليه. بالرغم من ذلك، فقد استَقرَّت الأمور الآن، وقبل حلول العشرين من أكتوبر، أثق في أنني سأكون في عُرض البحر. إنَّ اعتراضي على السفينة هو صِغر حجمها، وهو ما يُقيِّد المساحة التي سأحصل عليها لشخصي وكل أمتعتي وما إلى ذلك. وأمَّا بالنسبة إلى أمانها، فأعتقد أن ديوان البحرية هو الأكثرُ درايةً وخبرة به؛ فهي تبدو صغيرةً للغاية لرجلٍ قليلِ الخبرة بالبحر. إنها سفينةٌ مُسلَّحة بعشرة مدافع، ولها ثلاثةُ صَوارٍ ذات أشرعةٍ مربعة، لكنَّني أعتقد أنها سفينةٌ ممتازة. لقد حكيتُ الكثير عن خططي المستقبلية، والآن سأحكي عن خططي للوقت الحالي. سأذهب هذه الليلة إلى كامبريدج في عَربة البريد، وبعد أن أُرتِّب أموري، سأذهب من هناك إلى شروزبيري (سيكون ذلك على الأرجح في الثالث والعشرين الموافق يوم الجمعة أو ربما قبل ذلك) وسأبقى هناك لِبضعةِ أيام، ثم أذهب إلى لندن بحلول الأول من أكتوبر، ثم أنطلق إلى بليموث في التاسع من الشهر نفسه.

أمَّا الآن، فسوف أبدأ في الجزء الأهم من خطابي. إنني لا أدري كيف أُعبِّر لك عما رأيتُ أنه لطفٌ شديد من جانبك فيما يتعلق بما عَرضتَه عليَّ من المجيء لرؤيتي قبل أن أُغادر لندن. سوف أُحب ذلك كثيرًا بالطبع، لكنَّ عليَّ أن أخبرك بأنه لن يكون لديَّ سوى قدْرٍ ضئيل جدًّا من وقت الفراغ، وحتى هذا الوقت الضئيل الذي يمكن أن أقضيه معك سيُفسِده عليَّ غالبًا أنه سيكون لديَّ الكثير جدًّا من الأمور التي ينبغي أن أُفكِّر فيها، ثم إنني لا أظُن أنَّ الأمر يستحق أن تترك أبرشيتك لمثل هذا السبب، لكنني لن أنسى أبدًا لُطفكَ وكرمك هذا. والآن، فإنني أعرف أنك سوف تفعل ما ترى أنه الصواب، لكن لا تأتي من أجلي فقط. الوقت كلُّه سواء عندي، وأعتقد أنه بدايةً من هذا الخطاب، ستعرف خططي بقَدْر ما أعرفه منها، وسوف تُحدِّد المكان الذي يمكن أن تكتب لي فيه وكذلك الموعد المناسب لذلك. تنتابُني بين الحين والآخر لحظاتٌ رائعة من الحماس حين أُفكِّر في أشجار البلح والكاكاو والنخيل ونباتات السرخس، وهي جميلةٌ وباسقة للغاية، وكل شيءٍ جديدٌ وينطق بالجلال. ولو أنني عشتُ لأتأمل بعض السنوات بعد عودتي، فلكم ستكون عظيمةً هذه الذكريات! هل تعرف هومبولت؟ (إن لم تكن تعرفه، فتعرَّف إليه مباشرة.) لكم يبدو عليه السرور الشديد دومًا حين يتذكر الأيام التي قضاها في البلاد الاستوائية! في المرة التالية التي تكتُب فيها إلى أوزموستون، أتمنى أن تُخبرهم بخطتي، وأن تُبلغهم خالص تحياتي وأمنياتي بلقائهم على خير.

إلى اللقاء يا عزيزي فوكس
المخلص لك دومًا
تشاز داروين

من تشارلز داروين إلى آر فيتزروي
١٧ سبرينج جاردنز [١٧ (؟) أكتوبر ١٨٣١]
عزيزي فيتزروي

أشكُركَ شكرًا جزيلًا على خطابك. لقد بعث فيَّ راحةً كبيرة؛ إذ كان سيصبح أمرًا مؤلمًا للغاية إن ننسَ شيئًا، وما كان ينبغي لي قط أن أُفكِّر في إرسال الأغراض في سفينةٍ أخرى. أثق في أنَّ هذا الخطاب سيصل مع بعضٍ من مسحوق التلك. لقد قرأتُ خطابكَ دون الانتباه إلى الاسم، لكنني الآن قد حصلتُ على بعضه من جونز، وهو يبدو جيِّدًا للغاية، وسوف أُرسله مساءً في البريد. سوف تُفاجأ من عدم رؤية شخصي ورؤية خط يدي بدلًا منه، لكنني قد اكتشفتُ للتو أنَّ القارب البخاري الكبير لن يُبحِر يوم الأحد، وقد كنتُ أتخيل نفسي في مقصورةٍ صغيرة متسخة، مع ما يقرب من تسعة وثلاثين من الركاب أو أربعين منهم، يعانون من مرضٍ شديد، وذلك حين أتى السيد إيرل وأخبرني أنَّ «البيجل» لن تُبحِر حتى بداية نوفمبر؛ وبالتالي، فعليَّ أن أقضي أسبوعًا آخر في لندن. سوف أرسل الأغراض الثقيلة بالمركبة البخارية، وأنطلق أنا بالعَربة مساء يوم الأحد.

ألديكَ مجموعةٌ جيدة من أجهزة قياس الضغط الجوي للجبال؟ لقد أخبرني العديد من الخبراء الكبار في الأوساط العلمية ببعض النقاط في الجيولوجيا التي عليَّ أن أتأكَّد منها والتي تتوقَّف كليًّا على ارتفاعها النسبي. إذا لم يكن لديك عددٌ كافٍ منها، فسوف أُضيف واحدًا إلى القائمة. يجب أن أخجل من نفسي إذ أُحمِّلك هذا العناء، لكن هل لك أن «تُرسل خطابًا قصيرًا» لترُدَّ عليَّ في هذا الشأن؟ إنني أزداد تلهُّفًا إلى الانطلاق في كلِّ يوم، وإن كان ذلك هو حالي، فلا بد أنكَ أكثر مني تلهُّفًا وشوقًا. كم سيكون الرابع من نوفمبر يومًا رائعًا بالنسبة لي! ستبدأ حياتي الثانية حينئذٍ، وسوف يكون ذلك عيدَ ميلادٍ لي بقيةَ حياتي.

خالص الود يا عزيزي فيتزروي
المخلص لك
تشارلز داروين

الاثنين: أتمنى أنني لم أتسبَّبْ لك في الكثير من الإزعاج إذ طلبتُ أن تكون الغرفة جاهزة.

من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
ديفنبورت، ١٥ نوفمبر، ١٨٣١
عزيزي هنزلو

لقد صَدرَت الأوامر من ديوان البحرية بشأن الرحلة، واستَقرَّت الأمور جميعها أخيرًا. ومن المؤكَّد أننا سنُبحر في اليوم الأخير من هذا الشهر، وأعتقد أنَّ السفينة ستكون جاهزةً قبل حلول هذا الوقت. إنها تبدو جميلةً للغاية، ولا يسع المرء، حتى إن كان عديم الخبرة بالبحر، إلا أن يُعجب بها. «إننا» جميعًا نعتقد أنها أفضل السفن التي أنتجتها الترسانة البحرية. والأمر المؤكَّد أنها قد صُنعت بأثمنِ الخامات وجُهزت بعنايةٍ شديدة؛ فكلُّ ما يمكن أن يُصنع من خشب الماهوجني، قد صُنع به، ولا شيء يمكن أن يفوق أناقةَ جميعِ المرافق الخاصة بها وجمالها. إنَّ التعليمات الخاصة بالسفر عامةٌ للغاية، وهي تترك قدْرًا كبيرًا لتقدير القبطان وحكمه على الأمور، وهي تتضمن ثناءً جوهريًّا عليه، وثناءً لفظيًّا أيضًا.

إنها أولُ سفينةٍ تغادر إنجلترا، وهي تحمل هذا القَدْر من أجهزة الكرونومتر، التي يبلغ عددها أربعة وعشرين، والتي جميعها يتميز بجودته العالية. باختصار، إنَّ كل شيء على ما يُرام، ولا يتبقَّى لي سوى أن أدعو بأن تخِفَّ حدة المرض قليلًا، وسوف أكون بخيرِ حال. بالرغم من ذلك، فلن أقول إنها أفضلُ فرصةٍ قد حدثت في مجال التاريخ الطبيعي على الإطلاق؛ فضيق المساحة شرٌّ لا يمكن أن يعلو عليه شيء. أعتقد أنَّ إل جينينز قد تصرف بحكمةٍ كبيرة بعدم المجيء، وذلك رأيي وفقًا لما أشعر به؛ فأنا متيقن من أنني لم أكن لأستطيعَ تحمُّل ذلك «أبدًا»، لو أنني كنتُ قد تخرجتُ من الكلية قبل عدة سنوات أو كنتُ أكبر من ذلك بسنوات. إنَّ الضباط (فيما عدا القبطان) يبدُون كالمُبتدئين حديثي العهد في سلوكهم، لكنهم يختلفون عن ذلك كثيرًا في أيِّ شيءٍ آخر. أَبلِغه أرقَّ تحياتي، وأخبره بأنه إن كان يحلم في الليل أحيانًا بأشجار النخيل، فيمكنه أن يُعزِّي نفسه في الصباح بأنْ يؤكِّد لنفسه أنَّ الرحلة لم تكن لِتُناسبه.

إنني ممتنٌّ جدًّا لجهدك معي بشأن الرياضيات. أظن أنني حين أُواجه صعوبة مع أحد المثلثات، فإنني سأتمنى لو كنتُ في غرفتك، وأمَّا بالنسبة إلى هذه الجذور الصمَّاء اللعينة الكئيبة، فلستُ أدري ما كنتُ سأفعله دون أن تأتي أنت بِحلٍّ لها. إنني أستمتع كثيرًا بقضاء وقتي، وقد تعرَّفتُ على عددٍ من الأشخاص اللطفاء، وألطفهم على الإطلاق هو السيد ثاندَر آند لايتنينج هاريس [ويليام سنو هاريس، أخصائي الكهرباء]، الذي يمكنني أن أزعم أنكَ قد سمعتَ عنه. إنَّ شاغلي الأَهمَّ، هو أن أركب على ظهر «البيجل»، وأن أُحاول أن أبدو كبحَّارٍ قَدْر الإمكان. وليس لديَّ دليلٌ عن اصطحاب أيِّ نساءٍ أو أطفال.

سوف أطلُب منك مهمةً أخرى، وأنا أثق بأنها ستكون الأخيرة. حينما كنتُ في كامبريدج، أرسلتُ إلى السيد آش، أطلُب منه أن يُرسل حساب الكلية الخاص بي إلى أبي بعد خصم ثلاثين جنيهًا مقابل أثاثي. وقد نسي هو ذلك، ودفع أبي الفاتورة بأكملها وأنا أريد أن تُرسَل نقود الأثاث إلى أبي. فهل يمكنك أن تتكرم بالتحدث إلى السيد آش؟ لقد كلَّفتُ والدي الكثير من النقود، وإنني لأخجل من نفسي.

سوف أكتب إليكَ مرةً أخرى قبل الإبحار، وربما تمكنتَ أنت أيضًا من الكتابة لي قبل ذلك.

أبلِغ تحياتي للبروفيسور سيجويك والسيد بيكوك.

خالص مودتي إليك
المُخلص المُحب
تشارلز داروين

من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
ديفنبورت، ٣ ديسمبر ١٨٣١
عزيزي هنزلو

أكتب إليكَ في وقتٍ متأخر من المساء، وأنا، الليلة، سأبيت على متن السفينة. سنُبحر يوم الاثنَين بكل تأكيد؛ لذا يمكنك أن تُدرك ما نحن فيه جميعًا من ارتباكٍ شديد. لو أنكَ سمعتَ ما يتحدث به الضباط من تعجُّب، لظننتَ أننا لم نعرف بالأمر إلا منذ أسبوعٍ على أكثرِ تقدير. إنني «متفاجئ» أيضًا مثلهم ولا أدري ما الذي يجب أن أفعله في مثل هذه الجلبة؛ فالأشياء التي يجب فعلها لا تنتهي. إنني أتطلع إلى أيِّ شيء ولو حتى دُوار البحر بشيء من الرضا؛ فأيُّ شيءٍ سيكون أفضل من هذه الحالة من القلق. إنني ممتنٌّ للغاية لخطابك الأخير وما تُبديه فيه من عطفٍ ومَودَّة. إنني أُحب أن أطلُب منك النصيحة دومًا، وإنني لا أجد فيمن حَسُن حظي بمعرفتهم، مَن هو أَقدرُ منك على بذلها. تَذكَّر حين تكتب لي أنني تلميذك وأنه من واجبك أن ترشدني.

والآن، سوف أُخبرك باتجاهي؛ سوف نتجه أولًا إلى ريو، لكن إن كنتَ ستُرسل إليَّ خطابًا في أولِ يوم ثلاثاء (حين تُبحر الباخرة) في فبراير موجَّهًا إلى مونتي فيديو، فسوف يسُرني ذلك كثيرًا؛ فسوف أستمتع كثيرًا بمعرفة القليل من أخبار كامبريدج. ما أَروعَكِ يا جامعتي القديمة العزيزة المسكينة! إنني جديرٌ بأن أكون ابنًا لك، حين يتعلق الأمر بالعاطفة. لا يزال لديَّ القليل لأكتبه … لا يمكنني أن أُنهي هذا الخطاب دون أن أُخبركَ بمدى امتناني لما أبديتَه تجاهي من لطف خلال حياتي في كامبريدج؛ إذ يعود الفضل إليكَ في القَدْر الأكبر الذي حظيتُ به منها من السرور والمنفعة. إنني أشتاق للقائنا مجدَّدًا، وإلى ذلك الحين، لك مني خالص مودتي يا عزيزي هنزلو.

صديقك المُحِب والمُخلِص
تشارلز داروين

أبلغ تحياتي إلى جميع من يهتم لأمري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤