الفصل السادس

الرحلة

«ثَمَّةَ حيويةٌ تتسم بالتلقائية والانطلاق في خطاباته، كما هو الحال فيما يتعلق به تمامًا.» من خطابٍ من الدكتور آر دابليو داروين إلى البروفيسور هنزلو.

[يصف أبي الهدف من رحلة «البيجل» باختصار في عمله «يوميات الأبحاث»، الصفحة ١، فيقول: «استكمال مسح باتاجونيا وتييرا ديل فويجو، الذي بدأه القبطان كينج منذ عام ١٨٢٦ حتى عام ١٨٣٠، وكذلك مسح سواحل تشيلي وبيرو وبعض جُزر المحيط الهادئ، وإجراء سلسلةٍ من القياسات حول العالم، باستخدام أجهزة الكرونومتر.»

وتُوصف «البيجل» بأنها سفينةٌ صغيرة متينة البنيان تزن ٢٣٥ طنًّا، وهي سفينةٌ ثلاثية الصواري بأشرعةٍ مربعة، وتحمل ستةَ مدافع. لقد كانت تنتمي إلى الفئة القديمة من السفن الثلاثية الصواري التي تحمل عشرة مدافع، والتي كانت تُلقب باسم «التوابيت»؛ نظرًا لزيادة احتمالية تعرُّضها للغرق في الظروف الجوية القاسية. وقد كانت «عميقة الخصر»؛ أي إنَّ كثف السفينة العلوي كان مرتفعًا بالنسبة إلى حجمها؛ لذا فإنَّ اقتحام البحر للسفينة قد يُمثِّل خطورةً كبيرة. بالرغم من ذلك، فقد صَمدَت على مدى البعثة التي استمرت لخمسِ سنوات، في أكثر المناطق العاصفة في العالم تحت إشراف القائدَين ستوكس وفيتزروي، وذلك دون التعرض لحادثةٍ خطيرة. وحين أُعيد تكليفها برحلتها الثانية عام ١٨٣١، وجدوا أنها في حالةٍ سيئة للغاية (وذلك كما علمتُ من الأميرال السير جيمس سوليفان)، وكان لا بُد من إعادة بنائها فعليًّا، وذلك هو سبب التأخير الطويل في إعادة التجهيز. لقد زادوا من ارتفاع السطح العُلوي، مما جعلها أكثر أمانًا في الأحوال الجوية القاسية، وكذلك جعلوا المرافق والإقامة بالأسفل مريحةً بدرجةٍ أكبر. ومن خلال هذه التغييرات، وكذلك مع التصفيح المتين لقاعها، بلغ وزنها نحو ٢٤٢ طنًّا. إنَّه دليل على براعة القبطان فيتزروي وضُباطه في الملاحة البحرية، أن عادت السفينة دون أن تفقد أحد صواريها، وكذلك أنها لم تتعرض لخطرٍ عظيم إلا في إحدى العواصف العاتية التي واجهَتها.

لقد جُهِّزت للبعثة بكل العناية الممكنة، من تزويدها بالصواري والأحبال المنتقاة بعناية، وستة قوارب، و«زورق»، ومانعاتِ صواعق «وهي التي ابتكرها السيد هاريس وجرى تثبيتها على جميع الصواري والصواري المائلة في مقدمةِ السفينة، وحتى على الوصلات المُلحَقة بأذرعِ صواري المقدمة.» ويمكننا أن نستشهد بوصفِ أبي لها الذي كتبه في ديفنبورت في ١٧ نوفمبر عام ١٨٣١: «إنَّ الجميع من أهل الرأي يقولون إنها أحد أعظم البعثات التي أُرسِلت على الإطلاق. كلُّ شيءٍ مُجهَّز على مستوًى عظيم؛ أربعة وعشرون من أجهزة الكرونومتر، والسفينة نفسها قد زُودَت بأجزاءٍ عديدة من خشب الماهوجني، وهي محل إعجاب الجميع بالمكان. باختصار، فإنَّ كل شيء مُواتٍ بالقَدْر الذي يمكن أن تسمح به إمكانيات البشر.»

ونظرًا لصغر حجم السفينة، فقد كان على جميع مَن هم على متنها أن يعيشوا في أماكنَ ضيقة، ويبدو أنَّ المساحة المخصصة لأبي كانت ضيقةً بدرجةٍ كبيرة؛ فهو يكتب إلى هنزلو: «إنَّ المساحة المُخصَّصة لي لا تكفي إلا لأن أستدير فحسب.» ويكتب لي الأميرال السير جيمس سوليفان: «إنَّ المكان الضيق الموجود على طَرَف طاولة الخريطة، كان هو المكان الوحيد بالنسبة له للعمل وارتداء الملابس والنوم، وقد كانت شبكة النوم تُترك متدليةً بالقرب من رأسه بالنهار، حينما يكون البحر متلاطمًا؛ فيتسنَّى له الاستلقاء عليها بكتابٍ في يده حين لا يعود قادرًا على الجلوس عند الطاولة. وقد كان مكانه الوحيد لتخزين الملابس هو بضعةُ أدراجٍ صغيرة في الركن، كانت تمتد من الأرضية إلى السقف، فقد أُزيل الدرج العلوي حين عُلِّقت شبكة النوم، التي لم يكن الارتفاع ليكفي لوضعها دون إزالته؛ فحلَّت الحبال السفلية للشبكة مكان الدرج العلوي. وأمَّا العَيِّنات، فقد كان يمتلك لها خزانةً صغيرة للغاية أسفل العنبر الأمامي للبحارة.»

بالرغم من ذلك، فقد كتب عن هذه المساحة الضيقة بحماس في ١٧ سبتمبر ١٨٣١ يقول: «حين كتبتُ آخر مرة، كنتُ قلقًا للغاية بشأن مقصورتي؛ فلم تكن المقصورات قد خُصصت لأصحابها حينئذٍ، لكنَّها كانت قد خُصصت حين غادرت، وقد كانت مقصورتي من أفضلها؛ فهي بالتأكيد ثاني أفضل مقصورة بعد مقصورة القبطان، وهي مضاءةٌ بدرجةٍ كبيرة. وأعتقد أنَّ رفيقي فيها سيكون، لحُسن حظي، هو الضابط الذي أعتقد أنني سأُحبه كثيرًا. يقول القبطان فيتزروي إنه سيحرص على تجهيزِ ركنٍ فيها بأفضلِ صورةٍ ممكنة لأشعر فيه بالراحة، ويمكنني أن أعتبر أنه بيتي، غير أنه سيكون مُرحبًا بي في الجزء الخاص به أيضًا. مقصورتي هي مقصورة الرسم، ويُوجد في وسطها طاولةٌ كبيرة، ينام كلانا عليها، كلٌّ في شبكة نوم. لكن خلال الشهرَين الأَوَّلَين، لن يكون ثَمَّةَ رسمٌ من المطلوب إنجازه؛ لذا، فإنها ستكون غرفةً فاخرة إلى حدٍّ ما، وأكبر كثيرًا من مقصورة القبطان.»

لقد كان أبي يقول إنَّ الضرورة الحتمية إلى النظام في هذا المكان المكتظ على ظهر «البيجل» هي ما ساعدَته على «اكتساب عاداته المنهجية في العمل.» وقد كان يقول أيضًا، إنه تعلَّم على ظهر «البيجل» ما يرى أنه القاعدة الذهبية لتوفير الوقت، وهي: الحرص على الدقائق.

ويخبرني السير جيمس سوليفان أنَّ الخطأ الأكبر في إعداد البعثة، كان هو الحاجة إلى سفينةٍ أُخرى أصغر لتكون بمنزلةِ سفينةٍ تموين. لقد كان القبطان فيتزروي يرى أنَّ هذا الأمر ضروريٌّ للغاية، حتى إنه استأجر اثنَين من القوارب المُغطَّاة لمسح ساحل باتاجونيا، وذلك بتكلفة ١١٠٠ جنيه، وقد اضطُر إلى توفير هذا المبلغ من ماله، بالرغم من أنَّ القاربَين قد وفَّرا على البلد عدة آلافٍ من الجنيهات. وقد اشترى بعد ذلك مركبًا شراعيًّا بِصارِيَين ليكون بمنزلةِ سفينةِ تموين؛ ومِن ثَمَّ فقد وفَّر على البلد مبلغًا أكبر من المال. وفي نهاية الأمر، صَدرَت إليه الأوامر ببيع هذا المركب، واضطُر إلى تحمُّل الخسارة من ماله، ولم يحدث إلا بعد وفاته أن قُدِّم له تعويضٌ غير مناسبٍ عما تحمَّله من خسائرَ في سبيلِ حماسه.

ونظرًا للحاجة إلى سفينةِ تموينٍ مناسبة، فقد كان لا بد من إنجاز معظم العمل في قواربِ صيدٍ صغيرة ومفتوحة، وهي التي كانت تُرسل من السفينة لمدة أسابيعَ متواصلة، وقد كان ذلك في ظروفٍ جوية يتعرض الطاقم فيها إلى صعوباتٍ قاسية من المطر شبه المستمر، وهو الذي كان يستمر أحيانًا على مدى أسابيعَ متواصلة. وقد كان استكمال المعدات، من نواحٍ أخرى، يعود بدرجةٍ كبيرة إلى اهتمام القبطان فيتزروي بالمصلحة العامة. لقد وفَّر على نفقته الخاصة، حِرفيًّا وصانع معدَّاتٍ ماهرًا للاعتناء بأجهزة الكرونومتر. وقد كان القبطان فيتزروي يرغب في دعوة «أحد رجال العلم المثقَّفِين» ليكون في استضافته الخاصة، لكنَّ أحدًا لم يُلبِّ هذه الدعوة الكريمة سوى والدي بشرط أن يُسمح له بدفع مبلغٍ معقول من تكلفة مائدة القبطان، وقد كان مُسجَّلًا أيضًا في سجلات الطعام الخاصة بالسفينة.

وفي خطاب إلى أخته (يوليو ١٨٣٢)، يكتب ليعبر عن رضاه بأسلوب حياته في البحر: «إنني لا أعتقد بأنني قد حكيت لكِ من قبل عن يومي وكيف أقضيه. إننا نتناول الإفطار في الساعة الثامنة. والقاعدة التي لا تتغير هي أن ننسى جميع سلوكيات التهذيب واللياقة؛ أي ألا ننتظر بعضنا وأن نغادر على الفور حالما ننتهي من تناوُل الطعام، وما إلى ذلك. وحينما يكون الطقس هادئًا في البحر، أعمل على الحيوانات البحرية، التي يمتلئ بها المحيط. وحين يكون البحر هائجًا، فإنني أكون مصابًا بالدُّوار أو أُحاول أن أقرأ عن بعض السفريات أو الرحلات. وفي الواحدة، نتناول الغداء. من المؤسف أنكم — يا مَن تذهبون إلى الشواطئ — مخطئون بشأن أسلوب الحياة في السفن. إننا لم نتناول قط (ولن نتناول) لحومًا مملحة على الغداء، بل نتناول الأرز والبازلاء والقرع الهندي الغربي، التي هي من الخضروات الممتازة، وذلك مع الخبز الجيد؛ مَن ذا الذي قد يرغب فيما هو أكثر من ذلك؟ لم يكن للقاضي ألدِرسون أن يكون أكثر اعتدالًا؛ إذ لا يُوضع على الطاولة أيُّ مشروبٍ سوى الماء. في الخامسة، نتناول الشاي. يتناول الضباط المتدربون جميع وجباتهم قبلنا بساعة، ويتناول صغار الضباط وجباتهم بعدنا بساعة.»

كان طاقم سفينة «البيجل» يتألف من القبطان فيتزروي، «القائد والمسئول عن المسح»، واثنَين من النقباء؛ النقيب الأول هو الراحل القبطان ويكهام حاكم كوينزلاند، وأمَّا النقيب الثاني فهو الأميرال السير جيمس سوليفان، الحاصل على رتبة القائد الفارس. وإضافةً إلى القائد وزميلَيه، فقد كان هناك أيضًا مساعدٌ للمسح، وهو الأميرال لورت ستوكس. وكان هناك أيضًا جرَّاح، ومساعد جرَّاح، وضابطان بحريان متدربان، وضابطٌ بحري كبير، ومتطوع (درجة أولى)، ومحاسب، ونجار، وكاتبٌ مُوظَّف، ورئيس للبحارة، وثمانية من جنود البحرية، وأربعة وثلاثون بحارًا، وستة صبيان.

لا يُوجد الآن (عام ١٨٨٢) الكثير من زملاء أبي القُدامى في السفينة ممن لا يزالون على قيد الحياة. ومن الذين ما زالوا أحياءً الأميرال مليرش والسيد هاموند والسيد فيليب كينج من المجلس التشريعي لسيدني والسيد أوزبورن. وقد مات الأميرال جونسون في الوقت نفسه الذي مات فيه أبي تقريبًا.

لقد ظل يحتفظ حتى النهاية بأجمل الذكريات عن رحلة «البيجل»، وعن الأصدقاء الذين تعرَّف إليهم على متنها. لقد أَلِف أبناؤه أسماءهم من كثرةِ ما سمعوا منه من قصص الرحلة، وقد شعرنا بصداقته للعديد منهم، الذين لم يكونوا لنا سوى أسماءٍ ليس إلا.

ومن بواعث السرور أن نعرف كيف أنَّ أصدقاءه القدامى يتذكرونه بكلِّ وُد.

لقد ظل السير جيمس سوليفان أحدَ الأصدقاء المقرَّبِين لوالدي وأكثرهم إخلاصًا على مدى حياته، وهو يكتب: «يمكنني أن أقول بكلِّ ثقةٍ بأنه على مدى السنوات الخمس في «البيجل» لم يُعرف عنه قط أنه قد خرج عن شعوره، أو قال أيَّ كلمةٍ قاسية أو متعجلة إلى أيِّ شخصٍ أو عنه؛ ولهذا، يمكنك أن تفهم على الفور كيف أنَّ مثل هذا السلوك، إضافةً إلى إعجابنا بطاقته وقدراته، قد أدى بنا إلى أن نطلق عليه اسم «الفيلسوف الكبير العزيز».» ويكتب لي الأميرال مليرش قائلًا: «ما زلتُ أرى صورةَ والدكَ في عقلي بكلِّ وضوح، كما لو أنني كنت معه في «البيجل» قبل أسبوعٍ فحسب؛ فلا يمكن لأيِّ أحدٍ قد رأى ابتسامته وسمع كلامه الودود أن ينساهما. لقد بُعِثتُ مرتَين أو ثلاثَ مرات على قاربٍ معه في بعض جولاته العلمية، وكنت أتطلَّع دائمًا إلى هذه الرحلات بسرورٍ كبير، وهي أمنيةٌ كانت تتحقق دائمًا، بخلاف الكثير مما عداها. أعتقد أنه الرجل الوحيد الذي عرفتُه ولم أسمع كلمةً واحدة ضده، وإنَّ قولي ذلك ليس بالهيِّن على الإطلاق؛ إذ يصبح الناس أكثر عُرضةً للشِّجار حين يَبقَون مُنعزلِين في سفينة على مدى خمسة أعوام. لا شك بأننا كنا دائمًا نجتهد في العمل؛ فما كان لدينا وقتٌ للشجار، لكن حتى وإن كنا قد فعلنا ذلك، فإنني أثق بأنَّ والدك كان سيُحاول أن يُهدِّئ الأمور فيما بيننا (وأنه كان سينجح في ذلك).»

ويتحدث الأميرال ستوكس والسيد كينج والسيد أوزبورن والسيد هاموند جميعهم عن صداقتهم مع والدي بهذه الطريقة الودودة نفسها.

وتمنحنا خطاباته فكرة عن حياته على متن السفينة أو على الشواطئ التي كانوا يحلُّون بها. كان القبطان فيتزروي ضابطًا صارمًا، وقد فرض على الجميع احترامه، سواءٌ أكانوا من الضباط أم من الرجال المدنيِّين. وقد كانوا يتحمَّلون ما يَصدُر منه أحيانًا من حدة في التعامل؛ إذ كان الجميع يعرفون أنَّ الأولوية لديه للواجب دائمًا، وأنه كان سيضحي بأيِّ شيءٍ في سبيل المصلحة الحقيقية للسفينة. ويكتب أبي في يوليو من عام ١٨٣٤: «إننا جميعًا نتوافق معًا بنحوٍ جيد للغاية؛ فما من شجارٍ على متن السفينة، وهو أمرٌ عظيم. والقبطان يحافظ على سلاسة الأمور؛ إذ لا يُوبِّخ أيًّا منا إلا على انفراد.» إنَّ أفضل برهان على أنَّ فيتزروي كان قائدًا جيِّدًا يتضح في حقيقةِ أنَّ عددًا كبيرًا1 من الطاقم كان قد ذهب معه في رحلة «البيجل» السابقة، وكذلك كان يُوجد عددٌ قليل من الضباط والبحارة وجنود البحرية، ممن قد عَمِلوا على متن سفينة «أدفنتشر» أو «البيجل» خلال هذه البعثة بأكملها.

ويتحدث أبي عن الضباط بصفتهم مجموعةً راقية من أُولي العزم من الرجال، وهو يتحدث عن النقيب الأول ويكهام تحديدًا، بصفته «رجلًا جليلًا». وإذ كان الأخير مسئولًا عن ترتيب السفينة ومظهرها، فقد اعترض بشدةٍ على إلقاء أبي للفضلات على ظَهرِ السفينة، وكان يتحدث عن العينات بصفتها «أغراضًا مؤذيةً ميتةً بغيضة»، وكان يضيف: «لو أنني كنتُ القائد، لأخرجتُك أنت وكلَّ قُمامتك الميتة من المكان في الحال.»

ثَمَّةَ هالةٌ من القداسة كانت تُحيط بأبي لِتناوُله الطعام في مقصورة القبطان؛ لذا فقد كان الضباط المتدربون يتعاملون معه بطريقةٍ رسمية في البداية ويخاطبونه ﺑ «سيدي»، لكن هذا لم يحُل دون تكوينه بسرعةٍ لصداقاتٍ مع الضباط الأصغر سنًّا. لقد كتب تقريبًا في عام ١٨٦١ أو عام ١٨٦٢ إلى السيد بي جي كينج، عضو المجلس التشريعي لسيدني، والذي كان ضابط صفٍّ بحريًّا على متن «البيجل»، كما ذكرنا سابقًا: «إنَّ ذكرى الأيام الخوالي حينما كنا نجلس على عوارض صواري «البيجل» ونتحدث، ستجعلني دائمًا وحتى وفاتي، أَشعُر بالسعادة عندما أسمع بأخبار سعادتك وتقدُّمك في الحياة.» ويصف السيد كينج ما كان يبدو على أبي من استمتاع: «إذ يُوضِّح لي، بصفتي شابًّا صغيرًا، متعة الليالي الاستوائية ونسيمها المنعش الذي يُحرِّك أشرعة السفينة من فوقنا، بينما يضيء البحر لمرور السفينة عبر ذلك التيار اللانهائي من الكائنات المِجهَرية ذات الوميض الفوسفوري.»

لقد كان يُعتقد أنَّ السبب في اعتلال صحته في السنوات الأخيرة يعود إلى ما عاناه كثيرًا من دُوار البحر، لكنه هو نفسه لم يكن يعتقد بصحة ذلك، وإنما كان يعزو السبب في اعتلال صحته إلى العيب الوراثي المتمثل في النقرس الذي ظهر في بعض الأجيال السابقة. ولست متأكِّدًا تمامًا من مدى معاناته الفعلية من دُوار البحر؛ فانطباعي الواضح أنه، وفقًا لذاكرته، لم يعُد يعاني من الدُّوار بعد الأسابيع الثلاثة الأُولى، لكنه كان يشعر بعدم الارتياح باستمرارٍ حين كانت السفينة تَرتجُّ بشدة. بالرغم من ذلك، يبدو لنا من خطاباته ومن شهادة بعض الضباط، أنه قد نسي في السنوات اللاحقة، مقدار ما كان يَشعُر به من تعب. إنه يكتب في ٣ يونيو عام ١٨٣٦ من رأس الرجاء الصالح ويقول: «إنه لمن حسن حظي أنَّ الرحلة قد أَوشكَت أن تنتهي؛ إذ إنني قد أصبحتُ أعاني من دُوار البحر الآن، بدرجةٍ أكبر مما كنتُ أُعاني منه قبلَ ثلاثِ سنوات.» وقد كتب الأميرال لورت ستوكس إلى جريدة «ذا تايمز» في ٢٥ أبريل ١٨٨٣:

هل لي أن أُدلي بشهادتي المتواضعة عن التحمُّل والمثابرة المذهلَين اللذَين أبداهما في سبيل العلم عالم التاريخ الطبيعي العظيم هذا، صديقي القديم والفقيد السيد تشارلز داروين، الذي يجدر ببقاياه أن تُكرم بدفنها في ويستمينستر آبي؟

ربما أكون أنا أفضلَ من يمكنه الإدلاء بشهادته عن تلك الجهود الأُولى المضنية التي بذلها. لقد عمِلنا معًا على مدى عدة أعوامٍ على الطاولة نفسها في مقصورة الرسم في الجزء الخلفي لسفينة «البيجل» خلال رحلتها الشهيرة، فكان هو يفحص ما يُوجد تحت مِجهَره، وأدرس أنا خرائطي. وغالبًا ما كان هذا مكانًا رائعًا في تلك السفينة الصغيرة، لكنه كان مزعجًا للغاية لصديقي القديم الذي كان يعاني بشدة من دُوار البحر؛ فبعد ساعة من العمل تقريبًا، كان يقول لي: «صديقي العزيز، لا بد لي أن أتخذ الوضع الأفقي.» فقد كان ذلك هو أفضل الأوضاع التي تُوفِّر الراحة للشخص من حركة السفينة. وحين كان يُمدِّد جسمه على أحد جوانب الطاولة لبعض الوقت، كان يتمكن من مواصلةِ عملِه لفترة من الوقت، ثم يكون عليه الاستلقاء مجدَّدًا.

لقد كان من المحزن أن أشهد هذه التضحية المبكرة بصحة السيد داروين، الذي ظل بعد ذلك يُعاني من آثار المرض التي خلَّفَتها رحلة «البيجل».

ويكتب السيد إيه بي أوزبورن: «لقد كان يعاني بشدة من دُوار البحر، وفي بعض الأحيان عندما كان يحين دوري في المناوبة، كنتُ أخفض الأشرعة، مما يجعل حركة السفينة أكثر بطئًا، ويُخفِّف من حدة معاناته، كان يشهد لي بأنني «ضابطٌ جيد»، ثم يتابع ملاحظاته المجهرية في مقصورة الرسم.» إنَّ حجم العمل الذي أنجزه في رحلة «البيجل» يدُل على أنه كان يتمتع في أغلب الأحيان بكامل نشاطه؛ غير أنه أُصيب بمرضٍ خطير في أمريكا الجنوبية، حين استُضيف في منزل السيد كورفيلد، وهو رجلٌ إنجليزي قد اعتنى به بكلِّ رعايةٍ وعطف. وقد سمِعتُه يقول إنَّ جميع إفرازاتِ جسمه قد تأثرت في هذه النوبة المرَضِية، وحين وصف الأعراض إلى والده الدكتور داروين، لم يستطع أن يَتوصَّل إلى طبيعة المرض. وقد كان أبي أحيانًا يميل للاعتقاد بأنَّ السبب في تدهور صحته يعود إلى هذه النوبة المرَضِية بدرجةٍ ما.

إنَّ خطابات رحلة «البيجل» تُقدِّم دليلًا كافيًا على حب أبي القوي لبيته وجميع ما يتصل به، بدايةً من والده ووصولًا إلى نانسي، مُربِّيته القديمة التي كان يرسل لها تحياته أحيانًا.

ويتضح سروره بكتابة خطاباتٍ إلى المنزل في بعض الفقرات مثل: «فقط لو أنكم تعرفون ما شعرت به من سرورٍ شديد لا يمكن وصفه، حين عرفتُ بأنَّ أبي وأنتم جميعًا بخير، قبل أربعةِ شهورٍ فقط، لما بخلتم بهذا الجهد المبذول في الحفاظ على التتابُع المنتظم لسلسلة الخطابات فيما بيننا.»

ويتضح أيضًا شوقه للعودة في كلماتٍ مثل: «إنه لمن المبهج أيضًا أن أفكر في أنني سأشهد سقوط أوراق الشجر وأستمع إلى غناء أبي الحناء في شروزبيري في الخريف القادم. إنَّني أشعر تمامًا وكأنني صبي بالمدرسة، وإنني لأشُك فيما إن كان أيُّ صبيٍّ قد اشتاق إلى عطلاته على الإطلاق بقَدْر شوقي إلى رؤيتكم جميعًا مجدَّدًا. لقد بدأتُ الآن، بالرغم من أنَّ نصف العالم يفصل بيني وبين بيتي، في التخطيط للأمور التي سأفعلها والأماكن التي سأزورها خلال الأسبوع الأول من عودتي.»

ومن السماتِ الأخرى التي تتضح في خطاباته، دَهشتُه وابتهاجه حين يسمع بأنَّ مجموعاته وملاحظاته قد أتت ببعض النفع. يبدو أنه لم يبدأ في الاعتقاد إلا تدريجيًّا بأنه سيكون أكبر كثيرًا من مجرد جامعٍ للعينات والحقائق التي سيستخدمها العظماء من رجال العلم. إضافةً إلى ذلك، يبدو أنه كانت لدَيه الكثير من الشكوك بشأن قيمة مجموعاته؛ فهو يكتب إلى هنزلو عام ١٨٣٤: «لقد بدأتُ أعتقد بالفعل أنَّ مجموعاتي رديئةٌ للغاية حتى إنك لم تدرِ ما تقوله بشأنها؛ لقد أصبحت الأمور الآن في الاتجاه المعاكس تمامًا؛ فأنت مذنب لإثارتك جميع مشاعر الخُيلاء لديَّ إلى أقصى درجة؛ فإذا كان العمل الجاد سيُكفِّر عن مثل هذه الأفكار، فإنني أتعهد بألا أبخل به.»

بعد عودته إلى لندن واستقراره بها، بدأ يُدرك قيمة ما أنجزه، وكتب إلى القبطان فيتزروي: «مهما كانت الطريقة التي يتذكر بها الآخرون رحلة «البيجل»، فالآن بعد أن انقشَعتِ الأجزاء الصغيرة المزعجة من الذاكرة تقريبًا، أرى أنَّ «الحادثة الأفضل في حياتي على الإطلاق» هي الفرصة التي وفَّرها لي عرضُك باصطحابي كرفيقٍ ومختصٍّ بالتاريخ الطبيعي. إنني كثيرًا ما أرى صورًا مبهجة وواضحة للغاية، لما رأيته على متن «البيجل»، تمُر أمام عيني. وإنني لن أتنازلَ عن هذه الذكريات وما تعلَّمتُه في التاريخ الطبيعي، مقابل عشرين ألفًا في العام.»

وفي اختياري للمجموعة التالية من الخطابات، كنتُ مدفوعًا بالرغبة في تقديم أكبرِ قدْرٍ ممكن من التفاصيل الشخصية؛ فلم أُورِد سوى عددٍ قليل من الخطابات العلمية لتوضيح طريقته في العمل، وكذلك رأيه في النتائج التي حقَّقَها. وفي عمله «يوميات الأبحاث»، يُقدِّم هو بنحوٍ عارض نُبذةً عن طبيعته الشخصية، وسوف تُساعد الخطابات الواردة في هذا الفصل على توضيح الانطباع الذي تولَّد عن شخصيته لدى الكثير من قُراء هذا العمل.]

من تشارلز داروين إلى آر دابليو داروين
باهيا، أو سان سلفادور، البرازيل
[٨ فبراير ١٨٣٢]
لقد اكتشفت بعد كتابة الصفحة الأولى أنني كنت أكتب إلى أخواتي
أبي العزيز

إنني أكتب لكن هذا الخطاب في الثامن من فبراير، بعد يوم من إبحارنا من سانت جاجو (الرأس الأخضر)، وأنا أنوي أن أستغل فرصة الالتقاء بأي باخرة متجهة إلى الوطن، وذلك بالقرب من خط الاستواء. أمَّا تاريخ ذلك، فسوف يتحدد حين تأتي الفرصة. سأبدأ الآن في سردٍ مُختصَر لتقدُّمنا في الرحلة منذ يوم مغادرتنا لإنجلترا. لقد أبحرنا، كما تعرفن، في السابع والعشرين من ديسمبر، ومن حسن حظنا أننا ننعم منذ هذا الوقت وحتى الآن بنسيم لطيف ومعتدل. وقد ثبت بعد ذلك أننا قد أفلتنا من ريح عاصفة شديدة في القناة الإنجليزية، وأخرى في ماديرا، وثالثة عند ساحل أفريقيا. وبالرغم من أننا قد أفلتنا من تلك الريح العاصفة، فقد شعرنا بعواقبها والمتمثلة في بحر متلاطم الأمواج. في خليج بيسكاي، طغى البحر بالأمواج، وقد كان ما تحملته من ألم بسبب دوار البحر، يفوق كل ما تصورته على الإطلاق. أعتقد أنَّكن تتطلعن إلى معرفة ذلك؛ ولسوف أخبركن بتجربتي القاسية في هذا الشأن. ليس لأحد لم يقض في البحر سوى أربع وعشرين ساعة أن يزعم أنَّ دوار البحر غير مريح؛ فالمعاناة الفعلية لا تبدأ إلا بعد أن تصبح مستنزف القوى جدًّا بحيث تشعر بالإغماء من أقل مجهود. ولم أجد شيئًا يجديني نفعًا سوى الاستلقاء على شبكة النوم. لا بد لي أن أستثني وصفتكن لتناول الزبيب على وجه التحديد؛ فهو الطعام الوحيد الذي تتحمله المعدة في تلك الظروف.

في الرابع من يناير، لم نكن نبعد عن ماديرا سوى عدد قليل من الأميال، لكن لمَّا كان البحر متلاطم الأمواج، وكانت الجزيرة تقع باتجاه الريح، فقد رأينا أنَّ الإسراع إليها ليس بالفكرة السديدة. وقد اتضح بعد ذلك أنه من حسن حظنا أننا جنبنا أنفسنا عناء المحاولة. وقد كنت أشعر بدوار شديد للغاية حتى إنني لم أستطع القيام لرؤية الأفق البعيد. وفي مساء السادس من يناير، أبحرنا إلى ميناء سانتا كروز، وحينها فقط، شعرت لأول مرة بتحسن طفيف، وظللت أُصوِّر لنفسي بهجة نمو الفواكه الطازجة في الوديان الجميلة، بينما أقرأ وصف هومبولت لمناظر الجزيرة الرائعة، حتى أخبرنا رجل شاحب ضئيل الحجم بأنَّ علينا تنفيذ الحجر الصحي الصارم لمدة اثني عشر يومًا، ويمكنكن أن تتخيلن إحساسنا بخيبة الأمل حينئذ. ساد السفينة صمت كالموت إلى أن صاح القبطان: «ارفعوا شراع السارية الأمامية.» وغادرنا هذا المكان الذي تمنينا زيارته لفترةٍ طويلة.

لقد تَوقَّفنا لقلة الريح لمدة يومٍ بين تينيريف وجزيرة جراند كناري، وكانت تلك هي المرة الأولى التي أشعر فيها بالاستمتاع. كان المنظر رائعًا؛ فقد كانت أعلى قمة جبلية في تينيريف تبدو وسط السحب وكأنها من عالم آخر. لقد كان مصدر حزننا الوحيد هو رغبتنا الشديدة في زيارة هذه الجزيرة الرائعة. «أخبرن إيتون ألا ينسى زيارة جزر الكناري ولا أمريكا الجنوبية»؛ فأنا متأكد من أن ذلك سيعوضه عن أيِّ مشقةٍ قد تكون ضرورية، لكنَّ عليه أن يحسم أمره بحيث يرى قدْرًا جيِّدًا من الأخيرة. إنني متأكِّد بأنه سيندم إن لم يحاول. وقد كانت الرحلة من تينيريف إلى سانت جاجو لطيفةً للغاية. وقد وضعت شبكة في مؤخرة السفينة؛ فأمسكت بها عددًا كبيرًا من الحيوانات الغريبة، وقد شغل ذلك جميع وقتي في مقصورتي. وعلى ظهر السفينة، كان الطقس مبهجًا وصافيًا، حتى إنَّ السماء والماء كوَّنا معًا صورة رائعة. وفي السادس عشر من الشهر نفسه، وصلنا إلى بورت برايا، عاصمة الرأس الأخضر، ومكثنا هناك لمدة ثلاثة وعشرين يومًا؛ أي حتى أمس السابع من فبراير. لقد مضى الوقت سريعًا وكان رائعًا للغاية، والواقع أنه لا يمكن لشيء أن يكون أروع من ذلك؛ أن يكون المرء منشغلًا بالعمل للغاية، وأن يكون هذا العمل واجبًا ومصدرًا كبيرًا للسرور في الوقت نفسه. إنني لا أعتقد أنني قد أمضيت نصف ساعة من الراحة منذ أن غادرنا تينيريف. لقد جادت لي سانت جاجو بحصادٍ وفير للغاية في العديد من فروع التاريخ الطبيعي. وإنني أجد أنَّ الأوصاف تكاد لا تقترب على الإطلاق من تلك الخاصة بالعديد من الحيوانات الأكثر شيوعًا في المناطق الاستوائية. أنا أُشير بالطبع إلى الحيوانات التي تنتمي إلى الرتب الأدنى.

إنَّ الاستكشاف الجيولوجي في منطقةٍ بركانية لهو أمرٌ رائع للغاية؛ فبجانب المتعة المتأصلة فيه، هو يقودك إلى أجمل البقاع وأكثرها انعزالًا. لا يمكن لأحدٍ غير مُولَع بالتاريخ الطبيعي أن يتخيل السرور في التجوُّل تحت أشجار جوز الهند وبين أحراج الموز وشجيرات القهوة، وأعدادٍ هائلة من الزهور البرية. وهذه الجزيرة التي منحتني هذا القدر الكبير من التثقيف والسرور، يُفترض أنها المكان الأقل أهمية وإثارةً مِن بينِ جميع الأماكن التي سنحُل بها خلال هذه الرحلة. لا شك في أنها قاحلةٌ للغاية في المجمل، لكنَّ الوديان، على العكس من ذلك تمامًا، آية في الجمال. من العبث أن أحاول وصف المنظر؛ إذ إنَّ محاولةَ توضيح الاختلاف التام في المناظر الطبيعية بين أوروبا والمناطق الاستوائية لشخصٍ لم يخرج من أوروبا قَط، لن تُجدي بأكثر مما يُجدي المرءَ أن يصف الألوان لرجلٍ كفيف. وكلما استمتعتُ بشيء، هممتُ بتدوينه إمَّا في دفتري (الذي يزداد حجمًا) أو في خطاب؛ لذا عليك أن تعذرني في تعبيري عن جذلي، وتعذرني أيضًا عندما أُعبِّر عنه على نحوٍ سيئ. إنَّ مجموعتي تزداد بدرجةٍ مدهشة، وأعتقد أنني سأُضطرُّ إلى إرسالِ شحنةٍ إلى المنزل من ريو.

لقد اتضح أنَّ جميع التأخيرات اللانهائية التي مررنا بها في بليموث قد كانت في صالحنا؛ إذ إنني أُوقن تمامًا أنَّ أحدًا لم يذهب لجمع الملاحظات والعينات في مختلفِ فروع التاريخ الطبيعي، بحالٍ أفضل من الموارد أو التجهيزات. لقد جنيتُ نفعًا ولا شكَّ من وجود هذا العدد الكبير من المستشارِين. وقد أدهشني كثيرًا إذ وجدتُ أنَّ السفينة ملائمة بدرجةٍ استثنائية لجميع أنواع العمل؛ فكل شيء في المُتناوَل، وضيق المكان يجعل المرء منظَّمًا للغاية؛ لذا، فأنا الرابح في نهاية الأمر. لقد أصبحتُ أنظر إلى العودة إلى البحر كأنني أعود إلى مكانٍ هادئ مألوف؛ وكأنني أعود إلى البيت بعد الابتعاد عنه لفترةٍ من الوقت؛ باختصار، إنني أجد السفينة منزلًا مُريحًا جدًّا به جميع ما يحتاج إليه المرء، ولولا دوار البحر، لأصبح جميع مَن في العالم بحارين. ولستُ أرى خطرًا في أن يبدأ إيرازموس هذا الطريق، لكن تحسُّبًا للأمر، فليثق بأنه لا يعرف معشارَ حجم المعاناة بسبب دوار البحر.

لقد أصبحتُ أحب الضباط أكثر مما كنت أحبهم في البداية، لا سيما ويكهام، وكينج الصغير وستوكس، وجميع الضباط بالتأكيد. لم يزل القبطان ودودًا للغاية، وهو يبذل كل ما في وسعه لمساعدتي. إننا لا نلتقي إلا قليلًا جدًّا ونحن في الموانئ؛ إذ إنَّ مساعينا تذهب بكل منا في اتجاه مختلف. إنني لم ألتقِ في حياتي رجلًا يمكنه تحمُّل هذا القَدْر العظيم من الإجهاد؛ فهو يعمل بلا توقف، وحين يبدو أنه لا يعمل، فهو يفكر. إن نجا من هذه الرحلة، فسوف يكون قد أنجز قدْرًا هائلًا من العمل فيها. أشعر بأنني بخير وأنني أستطيع تحمل الارتفاع الطفيف في درجات الحرارة، بمقدار ما يفعل الجميع حتى الآن. قريبًا، سيبدأ الجِد؛ فها نحن نبحر باتجاه فرناندو نورونيا، بالقرب من ساحل البرازيل، ولن نبقى طويلًا هناك، ثم سنبدأ في دراسة المياه الضحلة بينها وبين ريو، التي ربما تمتد حتى باهيا. سوف أُنهي هذا الخطاب حينما تسنح الفرصة بإرساله.

السادس والعشرون من فبراير: نحن على بعد ٢٨٠ ميلًا من باهيا تقريبًا. وفي العاشر من فبراير، تواصلنا مع الباخرة «لايرا» التي كانت في رحلتها إلى ريو. وقد أرسلت عن طريقها خطابًا قصيرًا لكي يُرسَل إلى إنجلترا في أول فرصة. لقد تعثَّر حظنا بنحوٍ استثنائي في مقابلة أيِّ سفينةٍ تتجه إلى الوطن، لكنني أعتقد أننا سنتمكن من إرسال خطابات إلى إنجلترا حينما نصل إلى باهيا بالتأكيد. لم يحدث شيءٌ منذ أن بدأتُ في كتابة الجزء الأول من [هذا] الخطاب فيما عدا أننا قد عبَرنا خط الاستواء، وأنني قد حلقتُ ذَقني. وتتألَّف هذه العملية الكريهة من مسح الوجه بالطلاء والقار الذي يُكوِّن رغوة ليكشطها منشار والذي هو بديل الشفرة، ثم الغمر حتى المنتصف في الماء المالح. وعلى بُعدِ نحوِ خمسين ميلًا شمال الخط، لامسنا صخور سان بول، ولم يحُلَّ أحدٌ بهذه البقعة الصغيرة (التي يبلغ عرضها ربع ميل تقريبًا) والتي تقع في المحيط الأطلنطي إلا نادرًا. إنها قاحلةٌ تمامًا، غير أنها تُغطِّيها أسراب الطيور، ولم تكن هذه الطيور معتادة على البشر إطلاقًا، حتى إننا وجدنا أنه بإمكاننا قتل الكثير منها بالعصي والحجارة فحسب. وبعد أن مكثنا في الجزيرة لبضع ساعات، عدنا إلى متن السفينة على القارب المُحمَّل بفرائسنا. ومن هناك، ذهبنا إلى فرناندو نورونيا، وهي جزيرةٌ صغيرة يُرسل [البرازيليون] المحكوم عليهم بالنفي إليها. رسونا هناك بصعوبةٍ كبيرة، وذلك بسبب الأمواج العاتية، وهذا ما جعل القبطان يُصرُّ على الإبحار في اليوم التالي بعد الوصول. لقد كان اليوم الوحيد الذي قضيته على الشاطئ هناك مثيرًا للغاية، والجزيرة كلها غابةٌ واحدة تتشابك فيها النباتات المتسلقة بعضها ببعض، حتى إنه ليصعب الابتعاد عن الطريق الممهد. إنني أجد جوانب التاريخ الطبيعي في جميع هذه البقاع المهجورة غاية في الإثارة، لا سيما الطبيعة الجيولوجية. لقد كتبتُ كل هذا القدر من أجل توفير الوقت في باهيا.

إنَّ أكثر ما يثير الانتباه بشأن المناطق الاستوائية بكلِّ تأكيد، هو نضارة الأشكال النباتية فيها. يمكنك أن تتخيل أشجار جوز الهند جيِّدًا من الرسومات، إن أضفت إليها ذلك الإشراق البهي والذي لا تجده في أيٍّ من الأشجار الأوروبية. أمَّا أشجار الموز وأشجار موز الجنة، فهي تشبه تلك التي تنمو في الصوب الدافئة تمامًا، وأمَّا أشجار السنط أو التمر الهندي، فهي تتميز بأوراقها الزرقاء، وأمَّا أشجار البرتقال الرائعة، فلا يمكن لأيِّ وصفٍ أو رسم أن يعطي أيَّ فكرةٍ دقيقة عن شكلها؛ فبدلًا من تلك الخضرة السقيمة التي نراها في أشجار البرتقال لدينا، فإنَّ أشجار البرتقال هنا داكنةٌ أكثر من أشجار الخوخ البرتغالي، وهي أكثر منها جمالًا في الشكل بدرجةٍ لا تُوصف. وأشجار جوز الهند والباباو وأشجار الموز الفاتحة الخضرة وأشجار البرتقال، المحملة بالفاكهة، تحيط بالقرى التي هي أكثر غنًى ووفرة. وعند رؤية مثل هذه المناظر، يشعر المرء باستحالة أن يقترب أيُّ وصفٍ من توضيح المشهد، وليس المبالغة في وصفه بالطبع.

الأول من مارس: باهيا أو سان سلفادور. لقد وصلتُ إلى هذا المكان في الثامن والعشرين من فبراير، والآن أكتب هذا الخطاب بعد أن رحت أتجول بعزمٍ حقيقي في غابات العالم الجديد. لا يمكن لأحدٍ أن يتخيل أيَّ شيءٍ في جمال مدينة باهيا القديمة؛ إذ تحيط بها غابةٌ زاخرة بالأشجار الجميلة، وهي تُوجد على ضفةٍ منحدرة وتُطل على المياه الهادئة لخليج أول سينتس العظيم. المنازل بيضاءُ وعالية، وذاتُ نوافذَ طويلة وضيقة مما يمنحها مظهرًا رقيقًا وأنيقًا. أمَّا الأديرة والأروقة والمباني العامة، فهي تختلف عن ذلك الطراز الموحَّد للمنازل، وتتناثر السفن الكبيرة في الخليج. ماذا يمكن أن يُقال أكثر من ذلك! إنها باختصار، أحد أجمل الأماكن في البرازيل. غير أنَّ ذلك الشعور الاستثنائي الرائع بالسعادة والذي ينبع من السير بين هذه الزهور والأشجار، لا يمكن أن يستوعبه مَن لم يختبره. وبالرغم من أنَّ درجة الحرارة في المناطق القريبة من خط الاستواء لا تكون مرتفعة بدرجة مزعجة، فالجو رطب للغاية في الوقت الحالي؛ إذ إنه موسم المطر. إنني أجد أنَّ الطقس يلائمني بدرجةٍ رائعة حتى الآن، وهو يجعلني أتوق إلى العيش بهدوءٍ لبعض الوقت في بلدٍ كهذا. إذا كنتُنَّ ترِدْنَ حقًّا أن تُكوِّنَّ فكرةً عن البلدان الاستوائية، فَلْتدرسْنَ عمل هومبولت. تَخطَّين الأجزاء العلمية وابدأن بعد مغادرته تينيريف. إنَّ إعجابي به يزداد كلما قرأت له. أخبرن إيتون (ها أنا أكتشف أنني أكتب إلى أخواتي!) أنني أستمتع بأمريكا للغاية، وبأنها ستكون خسارةً عظيمة إن لم يقم بأيِّ خطوةٍ فيما يتعلق بزيارتها.

سأبعث بهذا الخطاب في اليوم الخامس من الشهر، وأعتقد أنه سيستغرق بعض الوقت إلى أن يصل إليكم، ولا بد من التذكير بأنه في بعض أنحاء العالم قد تطول المدة بدون وصول الخطابات؛ فقد يحدث أن يمر عام على هذه الحال. في الثاني عشر من الشهر تقريبًا، سنُبحر مُتجهِين إلى ريو، لكننا سنبقى لبعض الوقت في الطريق لِسَبْر أعماق المياه الضحلة في أبرولوس. أخبر إيتون بأنه وفقًا لتجربتي، أعتقد أنَّ عليه أن يدرس الإسبانية والفرنسية والرسم وكتاب هومبولت. إنني حقًّا أتمنى لو أسمع بأنه في أمريكا الجنوبية، وذلك إن لم أستطع أن أراه فيها. إنني أتطلع إلى تسلُّم الخطابات في ريو، وإلى أن يُجرى تسلُّمها جميعًا، فاذكر تاريخ كلٍّ منها في الخطاب الذي يليه.

لقد تَفوَّقنا على جميع السفن في المناورة تفوُّقًا عظيمًا، حتى إنَّ القائد يقول بأنه ليس علينا أن نتبع مثاله؛ إذ إننا نقوم بكلِّ شيء أفضل من سفينته العظيمة. لقد بدأتُ أهتم اهتمامًا كبيرًا بالنقاط البحرية، وقد ازداد هذا الاهتمام الآن على وجه التحديد؛ إذ أجد أنهم جميعًا يقولون إننا في النقطة الأُولى بأمريكا الجنوبية. أعتقد أنَّ القبطان هو أبرع الضباط على الإطلاق. لكم كان الأمر رائعًا حين تغلَّبنا اليوم على «سامارانج» في لف الأشرعة! إنه لأمرٌ جديد أن تتغلب «سفينةٌ مسحية» على سفينةٍ حربية معتادة الإبحار، غير أنَّ «البيجل» ليست سفينةً مميزة على الإطلاق. سيتخيل إيرازموس الصورة بوضوح حين يعرف بأنني قد جلستُ ليلًا بالفعل على ذلك الحرم المقدس؛ مؤخرة سطح السفينة. فلتعذرني على هذه الخطابات الغريبة، ولتتذكر أنني قد كنتُ أكتبها عادةً في المساء بعد يوم من العمل. إنني أبذل قصارى جهدي في الكتابة في دفتر اليوميات حتى يكون لديكم في نهاية المطاف وصفٌ جيد لجميع الأماكن التي زرتها. إنَّ الرحلة تلائمني «بنحوٍ رائع» حتى الآن، لكنني قد أصبحتُ الآن متفهِّمًا أكثر لحكمتك في عدم تحمُّسك للأمر بأكمله؛ فكثيرة هي احتمالات انقلاب الأمور إلى النقيض تمامًا، وإلى الحد الذي يجعلني أشعر بأنه إن كان أحدٌ يطلب نصيحتي بشأن أمرٍ مشابه لهذا، فإنَّه يجدر بي أن أكون حذِرًا للغاية في تشجيعه. ليس لديَّ وقت كي أكتب إلى أيِّ شخصٍ آخر؛ فلترسل إلى مير وأخبرهم بأنني، في خِضَم هذه الطبيعة الاستوائية الرائعة، لا أنسى دورهم الكبير في مجيئي إلى هنا. لن أُعبِّر عن جذلي ثانيةً، لكنني سأُعطي نفسي قدرها؛ إذ لم يذهب عقلي بعدُ من البهجة الخالصة التي أجدها هنا.

أبلغ جميع مَن في البيت، وآل أوين كذلك، محبتي لهم.

أعتقد أنَّ عواطف المرء، كجميع الأشياء الطيبة، تنمو وتزدهر في هذه المناطق الاستوائية.

إنَّ الاعتقاد بأنني أتجول في «العالم الجديد» يزيد من روعة الأمر بالنسبة لي، ويمكنني أن أقول إنَّ تسلم خطابٍ من ابنك وهو في هذه البقعة من العالم، لهو أقل روعة بدرجةٍ طفيفة بالنسبة إليك.

خالص مودتي إليك يا أبي
ابنك المُحب
تشارلز داروين

من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
خليج بوتوفوجو، بالقرب من ريو دي جانيرو
مايو ١٨٣٢
عزيزي فوكس

لقد أجَّلتُ الكتابة إليكَ وإلى جميع أصدقائي الآخرِين إلى أن أصل إلى هنا ويكون لديَّ القليل من وقت الفراغ. منذ أن غادرتُ إنجلترا، وقد هب بذهني «إعصارٌ» مثالي من البهجة والدهشة، وإلى هذه الساعة، لم أقضِ دقيقةً واحدة من الفراغ إلا نادرًا …

في سانت جاجو، بدأ عملي في التاريخ الطبيعي ومهامِّي الممتعة. وعلى مدى الأسابيع الثلاثة، جمعتُ الكثير من الحيوانات البحرية واستمتعتُ بالكثير من الجولات الجيولوجية الجيدة. أبحرنا إلى باهيا بعد مرورنا ببعض الجزر، ثم توجهنا منها إلى ريو، والتي أمكث فيها منذ بضعة أسابيع. العينات التي أجمعها تزداد بنحوٍ رائع في جميع الفروع تقريبًا. بالنسبة إلى الحشرات، أثق في أنني سأُرسل مجموعة من الحشرات التي لم تُصنَّف بعد إلى إنجلترا. إنني أوقن أنه لا يُوجد لديهم حشراتٌ صغيرة في مجموعاتهم، لكنني قد جمعتُ هذا الصباح خنافسَ صغيرةً للغاية من أنواع هايدروبوري Hydropori ونوتيريس Noterus وكوليمبتيس Colymbetes وهيدروفيليس Hydrophilus وهيدروبيس Hydrobius وجروميس Gromius باعتبارها عيناتٍ من الخنافس التي تعيش في المياه العذبة. إنني منهمك تمامًا في العمل على حيوانات اليابسة؛ إذ إنَّ الشاطئ رملٌ فحسب. أعتقد أنَّ أكثر ما استمتعتُ به هو العناكب والأنواع القريبة منها، وربما كان ذلك بسبب حداثتها. وأعتقد أنني جمعتُ بالفعل العديد من الأجناس الجديدة.

لكن العمل الجيولوجي هو الذي يسود المشهد؛ إنَّ الأمر يشبه متعة المقامرة. حين أبدأ في تخمينِ نوع الصخور في بداية وصولي، غالبًا ما أقول في نفسي بأنها ثالثيةٌ إلى أولية بنسبةِ واحد إلى ثلاثة، لكنَّ النوع الأخير هو الذي فاز بجميع الرهانات حتى الآن. يكفي حديثًا عن النتائج العظيمة لرحلتي، لكنَّ الأمور تسير بأفضلِ حال في نواحٍ أخرى كذلك. حياتي في البحر هادئة للغاية، وما أجمل من ذلك بالنسبة لشخص يستطيع أن يشغل نفسه؛ فجمال السماء وتلألؤ المحيط يرسمان معًا صورةً بديعة. أمَّا حين أكون على الشاطئ متجولًا في الغابات الرائعة، وتحيط بي المناظر الطبيعية التي هي أكثر روعةً مما كان يمكن للرسام كلود أن يتخيل على الإطلاق، فإنني أشعر ببهجة لا يمكن أن يفهمها إلا مَن اختبرها. وإن كان لا بد من فهمها، فلن يكون ذلك إلا بدراسة كتاب هومبولت. في لقاءاتنا القديمة الدافئة على الإفطار في كامبريدج، ما كنتُ لِأفكر بأنَّ المحيط الأطلنطي الشاسع سيفصل بيننا، غير أنها مَيزةٌ نادرة ننعم بها وهي أنَّ المشاعر والذكريات لا تنفصل بانفصال الأجساد؛ فعلى النقيض من ذلك، فإنَّ أجمل المناظر التي رأيتها في حياتي، والتي كان العديد منها في كامبريدج، تطرأ على مُخيِّلتي بوضوحٍ كبير، وذلك لِتناقُضها مع الحاضر. أتظن أنَّ أيَّ خنفساءَ ماسية ستمنحني من البهجة ما منحَتني إياه صديقتنا القديمة خنفساء الصليب الأرضية؟ … إنَّ أحد مصادر المتعة الدائمة بالنسبة لي هي أن أستدعي صورًا من الماضي، وفي معظم الأحوال، أراك فيها أنت وفان الصغيرة المسكينة. يا إلهي، وداش العجوز أيضًا، يا له من مسكين! أتذكر كيف أنكم جميعًا كنتم تحسدونني بسبب ذيله الجميل؟

… عندما تجمع الحشرات من أَسيِجة الزعرور في يومٍ صحو من شهر مايو (سيكون الطقس قارس البرودة بلا ريب)، فلتُفكِّر بأنني أجمع الحشرات بين أشجار الأناناس والبرتقال، وحين تتلطخ يدُك بتوت العليق الأسود القذِر، فتخيل ثمار البرتقال الناضجة وأنا أقطفها واحسُدني على ذلك. إنَّ ذلك تبجُّحٌ كبير مني؛ إذ إنني يمكن أن أسير أميالًا كثيرة في المطر الثلجي أو الثلج أو المطر، فقط لأصافحك. فليباركك الرب يا عزيزي الغالي فوكس. خالص مودتي إليك.

صديقك المخلص
تشاز داروين

من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
ريو دي جانيرو، ١٨ مايو ١٨٣٢
عزيزي هنزلو

حتى وصولنا إلى تينيريف (إذ لم نرسُ في ماديرا)، لم أنهض عن شبكة النوم إلا قليلًا، ولقد عانيتُ حقًّا أكثر مما يمكن لك أن تتخيل لمثل هذا السبب. في سانتا كروز، وبينما كنتُ أنظر فيما بين الغيوم بحثًا عن قمة تينيريف، وأُعيد على نفسي وصف هومبولت البديع، قد أُعلن أنه يجب علينا إجراء حَجرٍ صحي صارم لمدة اثنَي عشر يومًا؛ فتحركنا لمسافةٍ قصيرة ثم صاح القبطان: «ارفعوا شراع السارية الأمامية»، واتجهنا إلى سانت جاجو. ستقول إنَّ كل هذا يبدو سيِّئًا للغاية، وقد كان كذلك بالفعل، غير أنَّ الفترة فيما بين ذلك الوقت وحتى الآن قد كانت مشهدًا واحدًا من المتعة المتواصلة؛ فقد وضعتُ شبكة في مؤخرة السفينة وقد شغل ما حصلتُ عليه منها وقتي بأكمله إلى أن وصلنا إلى سانت جاجو. وهنا قضينا ثلاثة أسابيع غاية في الروعة. لقد كانت الطبيعة الجيولوجية مثيرة بدرجةٍ فائقة، وأعتقد أنها جديدة أيضًا؛ إذ تُوجد بعض الحقائق على نطاقٍ واسع عن ارتفاع الساحل (وهي حقبةٌ ممتازة يمكن تأريخ جميع الصخور البركانية بدايةً منها)، وسوف يثير ذلك اهتمام السيد لايل.

ومن الأمور التي تُمثل مصدر ارتباكٍ كبير بالنسبة لي، هو جهلي التام بما إن كنتُ أُلاحظ الحقائق الصحيحة، أم لا، وكذلك بما إن كانت ذاتَ أهميةٍ كافية لتثير اهتمام الآخرِين. إن جمع العينات هو الأمر الوحيد الذي لا يمكن أن أكون مخطئًا بشأنه. سانت جاجو قاحلة للغاية، وليس بها إلا القليل جدًّا من النباتات والحشرات؛ لذا، فإنَّ مطرقتي هي رفيقتي المعتادة، وأنا أقضي في رفقتها أفضل الساعات التي أستمتع بها. لقد جمعتُ من الساحل العديد من الحيوانات البحرية، ومعظمها من بطنيات القدم (أعتقد أنَّ بعضها جديد). لقد فحصتُ أحد الشعاب المرجانية من نوع كاريوفيليا Caryopyllia بدقةٍ كبيرة، وإن لم تكن عيناي بها مسٌّ من سحر، فالأوصاف السابقة لها لا تُشبِهها في شيء على الإطلاق. وقد جَمعتُ عددًا من العينات لأخطبوطٍ لديه قدرةٌ مدهشة على تغيير ألوانه، مثله في ذلك مثل الحرباء، ومن الواضح أنه يتكيف مع تغيُّر لون الأرضية التي يمر بها. وقد كانت الألوان البارزة له هي الأخضر المائل إلى الصفرة والبني الداكن والأحمر، ويبدو أنَّ هذه الحقيقة جديدة وفقًا لما تمكنتُ من التوصُّل إليه. وسيكون الهدف الأساسي لأبحاثي في هذه الرحلة بأكملها هو الجيولوجيا واللافقاريات.

لقد أبحرنا بعد ذلك إلى باهيا، ونزلنا عند صخور سان بول. إن التركيب الجيولوجي هنا سربنتيني. أليست هي الجزيرة الوحيدة في المحيط الأطلنطي التي ليست بركانية؟ قضينا بضع ساعات كذلك في فرناندو نورونيا، وقد مرت بنا أمواجٌ عاتية؛ فغرق أحد القوارب، مما جعل القبطان يُبحِر دون انتظار. إنني أشعر بأنَّ حياتي على متن السفينة ونحن في المياه الزرقاء ممتعة وهادئة ومريحة للغاية؛ فأنا لا أبقى دون عمل أبدًا، وذلك أمرٌ عظيم عندي. لا يمكن لأحدٍ أن يكون أكثر ملاءمة على جمع العينات مني، وذلك من جميع الجوانب؛ إن كثرة الطهاة لم يُفسِد المرق هذه المرة. إن النصائح الصغيرة التي قدَّمها السيد براون عن المجاهر وغيرها ثمينة للغاية. لديَّ عددٌ كبير من الكتب، وأنا أجد أنَّ كتاب «المعجم الكلاسيكي» هو «أكثرها نفعًا» لي. إن ورد ببالك أيُّ شيءٍ أو كتاب تعتقد بأنه سيفيدني، فاكتب إلى إي داروين، ويندهام، شارع سان جيمس، وسيحصل هو على ما تُوصي به ويرسله مع بعض الأغراض الأخرى إلى مونتي فيديو؛ حيث سيكون مقري على مدى العام التالي.

لقد رسونا عند أبرولوس ووصلنا إلى هنا في الرابع من أبريل، وحينها تلقَّيتُ، من بين آخرِين، خطابًا وكان هو خطابك الرقيق. أؤكد لك بأنني قضيتُ المساء وأنا أفكر في الأوقات الكثيرة السعيدة التي قضيتها معك في كامبريدج. إنني أعيش الآن في بوتوفوجو، وهي قرية تقع على مسافةِ فرسخٍ من المدينة، وسوف أبقى هناك على مدى شهرٍ آخر. لقد عادت «البيجل» إلى باهيا، وسوف تأخذني في طريق عودتها. ثَمَّةَ خطأ مهم للغاية في خط طول أمريكا الجنوبية، وقد نُفذت هذه الرحلة الثانية، للتوصل إلى حلٍّ بشأنه. أجهزة الكرونومتر تعمل بنحوٍ ممتاز؛ ستة عشر منها على الأقل؛ فلم يرد أنَّ أيَّ أجهزةٍ سابقة قد أَحرزَت مثل هذا التقدُّم.

بعد بضعة أيام من الوصول، بدأتُ في رحلةٍ استكشافية على نطاق ١٥٠ ميلًا باتجاه ريو ماكاو، وقد استمرت ثمانية عشر يومًا. وهنا، قد رأيتُ للمرة الأولى غابةً استوائية بجلالها العظيم، ولا شيء سوى الواقع، يمكن أن يعطي أيَّ فكرةٍ عن مدى روعة المشهد وعظمته. وإن كان عليَّ أن أذكر شيئًا على وجه التحديد، فإنني سوف أعطي الأولوية لمجموعة النباتات الطفيلية. إنَّ نقشك صحيح تمامًا، لكنه يُقلِّل من وصف هذا الثراء؛ لا يبالغ في تصويره. إنني لم أشهد قط مثل هذا السرور الشديد. لقد كنتُ معجبًا بهومبولت قبل ذلك، أمَّا الآن، فأنا أعشقه؛ فهو الوحيد الذي يقدم فكرة عن المشاعر التي تثور في الذهن عند دخول المناطق الاستوائية لأول مرة. أعمل الآن على جمعِ عيناتٍ لحيوانات اليابسة والمياه العذبة، وإذا كان ما سمعتُه في لندن صحيحًا، وأعني بذلك عدم وجودِ حشراتٍ صغيرة في مجموعات المناطق الاستوائية؛ فها أنا أقول لعلماء الحشرات أن يترقبوا ويجهزوا أقلامهم ويستعدوا للوصف. لقد جمعتُ عيناتٍ من حشراتٍ صغيرة للغاية في حجم حشرات إنجلترا (إن لم تكن أصغر) والتي من أنواع هايدروبوري Hydropori وهيجروتي Hygroti وهيدروبي Hydrobii وسيلافي Pselaphi وستافيليني Staphylini وكركليو Curculio وغيرها الكثير. ومن المثير جدًّا ملاحظة الاختلافات في الأجناس والأنواع بين هذه الحشرات والحشرات التي أعرفها، لكنها على أيِّ حالٍ أقل كثيرًا مما توقعت. في الوقت الحالي، يزداد حماسي للعناكب؛ فهي مثيرةٌ جدًّا للاهتمام، وإن لم أكن مخطئًا، فإنني قد جمعتُ بالفعل بعض الأجناس الجديدة منها. سوف أرسل صندوقًا كبيرًا إلى كامبريدج في وقتٍ قريب للغاية، ومعه سوف أذكر المزيد من التفاصيل الخاصة بالتاريخ الطبيعي.

القبطان يبذل كل ما في وسعه لمساعدتي، ونحن نتوافق معًا بنحوٍ جيد، غير أنني شاكر لحسن حظي لأنه لم يجعل القبطان يدفعني إلى خيانة مبادئ حزب الأحرار؛ فلن أكون مؤيدًا للمُحافظِين، ولو لم يكن ذلك إلا لما أبدَوه من قسوة القلب بشأن تلك الفضيحة التي تَشين البلاد المسيحية وهي العبودية. تجمعني علاقةُ صداقةٍ جيدة بجميع الضباط.

لقد عدت للتو من إحدى جولات السير الخاصة بي. إنَّ عينات الحشرات التي أجمعها لا يحيط بها إلا قدر ضئيل من المعرفة؛ ﻓ «المعجم الكلاسيكي» يذكر أنَّ نوع نوتيريس، لا يضم سوى ثلاثةِ أنواعٍ فرعية أوروبية. لقد جمعتُ في سحبة واحدة لشبكتي خمسة أنواعٍ مختلفة منها، أليس ذلك استثنائيًّا؟ …

أخبر البروفيسور سيجويك بأنه لا يعرف كم أنا مدينٌ له بالرحلة الاستكشافية في ويلز؛ فقد ولَّدت فيَّ الاهتمام بعلم الجيولوجيا، وهو ما لن أكف عنه لأي سبب من الأسباب. لا أعتقد بأنني قد قضيت ثلاثة أسابيع أروع من تلك التي قضيتها في العمل في جبال الشمال الغربي. إنني أتطلع إلى فحص الطبيعة الجيولوجية لمونتي فيديو؛ إذ إنني سمعت بوجود ألواحٍ صخرية هناك؛ ومن ثَمَّ فإنني أعتقد بأنني سأكتشف في هذه المنطقة نقاطَ التقاء الصفائح في سهول البامبا، والتكوين الجرانيتي الضخم الموجود في البرازيل. في باهيا، كان البيجماتيت والنايس يُوجدان في الاتجاه نفسه في الطبقات، وهو ما لاحظ هومبولت أنه يسود في كولومبيا التي تبعُد مسافة ١٣٠٠ ميل، أليس ذلك مدهشًا؟ ستظل مونتي فيديو هي وجهتي لفترةٍ طويلة. أتمنى أن تكتب إليَّ ثانية؛ فما من أحدٍ أُحبُّ أن أتلقى منه النصح أكثر منك … فلتعذرني على هذا الخطاب الذي يفتقر إلى الوضوح. خالص مودتي إليك يا عزيزي هنزلو، وأحر مشاعر الصداقة والاحترام.

المخلص إليك
تشاز داروين

من تشارلز داروين إلى جيه إم هربرت
خليج بوتوفوجو، ريو دي جانيرو
يونيو ١٨٣٢
عزيزي الغالي هربرت

لقد وصل خطابك حين كنتُ قد فقدتُ الأمل في تلقي خطابٍ آخر؛ لذا فقد منحني قدْرًا أكبر من السعادة. على مدى مثل هذه الفترة الزمنية، وهذا الحيز المكاني، يشعر المرء بالامتنان الحقيقي لمَن لا ينسَونه. وحين نستعيد في ذاكرتنا مَشاهدَ قد مضت، فإنَّ ذلك يمنحنا نحن «المنفيِّين» أحدَ أعظمِ مصادر السرور. كثيرًا ما أُفكِّر في بارماوث بينما أتجول بين هذه التلال، وكثيرًا أيضًا ما أتمنى مثل ذلك الرفيق الذي كان معي. يا له من تناقضٍ شاسع بين ما تُقدِّمه هذه الجولة وتلك! فهنا تجد القمم الحجرية الحادة تُغطِّيها إلى الحافة الأشجار الزاخرة؛ فسطح البلد بأكمله هو غابةٌ منيعة، إلا ما قطعه البشر منها. إنها تختلف كثيرًا عن ويلز بتلالها المنحدرة التي يُغطِّيها العشب، ووديانها الفسيحة. لم أكن أُدرك من قبلُ مدى الصلة الوثيقة بين ما يمكن أن نُسمِّيه الجانب المعنوي والاستمتاع بالمناظر الطبيعية. وأنا أعني بذلك تلك الأفكار مثل تاريخ البلد وفائدة المحصول، والأهم من ذلك سعادة الأشخاص الذين تعيش معهم. تخيَّل أنَّ العامل الإنجليزي قد أصبح عبدًا فقيرًا يعمل لصالحِ شخصٍ آخر، ولن تستطيع أن ترى المنظر نفسه الذي كنت تراه من قبل. أعرف أنك ستُسر حين تعرف أنَّ كل شيء في الرحلة يسير على نحوٍ جيد (فليحفظ ذلك الرب، باستثناء دوار البحر). لقد زرنا تينيريف بالفعل وكذلك جزر الكناري وسانت جاجو، حيث قضيت أروع ثلاثة أسابيع منتشيًا ببهجة دراسة الطبيعة في جزيرةٍ استوائية بركانية لأول مرة، وزرنا كذلك بعض الجزر الأخرى، إضافةً إلى الميناءَين الشهيرَين في البرازيل، وهما: باهيا وريو.

لقد كنتُ أقضي الوقت على شبكة نومي إلى أن وصلنا إلى جزر الكناري، ولن أنسى أبدًا ذلك الانطباع الرائع الذي انطبع في ذهني حين رأيت تينيريف لأول مرة. لقد كان وصولنا إلى الطقس الدافئ لأول مرة في غاية المتعة؛ فلم تكن السماء الزرقاء الصافية للغابات الاستوائية تغييرًا عاديًّا بعد تلك العواصف الجنوبية الغربية اللعينة التي هبَّت علينا في بليموث. وبالقرب من خط الاستواء، أصبح الطقس شديد الحرارة. قضينا يومًا واحدًا في سان بول، وهي مجموعةٌ صغيرة من الصخور تبرز في منتصف المحيط الأطلنطي ويبلغ محيطها ربع ميلٍ تقريبًا. وقد حدث فيها المشهد التالي. كنت أنا وويكهام (النقيب الأول) الوحيدَين اللذَين نزلنا على الجزيرة بالبنادق والمطارق الجيولوجية وغير ذلك. وقد كانت الطيور كثيرة جدًّا وقريبة جدًّا مما يُسهِّل اصطيادها؛ ومِن ثَمَّ، فقد حاولنا صيدها بالحجارة، وياللعار! في النهاية، كانت مطرقتي الجيولوجية هي أداة الصيد. سرعان ما حمَّلنا القارب بالطيور والبيض، وبينما كنا مُنهمكِين جدًّا في العمل، كان الرجال على القارب يتقاتلون مع أسماك القرش على هذا الصيد العظيم الذي لا يمكن أن ترى مثله في سوق لندن. كان قاربنا سيصبح موضوعًا جيِّدًا لسيندرس؛ إذ كان يضم مجموعة متنوعة من الطرائد. لقد وصلنا إلى هنا منذ عشرة أسابيع، وسوف ننطلق الآن إلى مونتي فيديو، بينما أتطلع إلى العَدو على سهول البامبا. إنني خجل من إرسال مثل هذا الخطاب المفكك، لكنك ستتفهم السبب لو أنكَ رأيتَ كومة الخطابات المتراكمة على منضدتي …

إنني سعيد لسماعي بازدهار الموسيقى في كامبريدج، غير أنَّ التحدث إليَّ عن «الحفلات الموسيقية الكبيرة» هو ضرب من ضروب القسوة كما لو أنك تتحدث إلى شخص في شبه الجزيرة العربية عن المياه الباردة. في رحلةٍ كهذه، إن يجنِ المرء قدْرًا كبيرًا من المسرات الجديدة، فإنَّ خسارته لا تكون طفيفة كذلك. كيف ستجد الأمر لو أنك قد حُرِمت فجأة من رؤية جميع الأماكن والأشخاص الذين عرفتهم وأحببتهم على مدى خمس سنوات؟ إنني أؤكد لك أنني «أُصدم» أحيانًا من التفكير في هذا الأمر، وليس من السهل على المرء ولا على السفينة أن يعودا إلى المسار السابق مجدَّدًا. أبلغ تحياتي الصادقة إلى مَن تبقى من خيرة الرفاق الذين أسعدني الحظ بمعرفتهم في كامبريدج، وأنا أعني بهؤلاء: ويتلي وواتكينز. وأخبر لو بأنني في حالةٍ سيئة للغاية لا تستدعي حتى احتقاره. قل له إنني آكل اللحم البقري المملح والبسكويت الزنخ على العشاء؛ أفَتَرى أيَّ سوءٍ قد يحل بالمرء؟!

ستكون وجهتي على مدى عام ونصف قادم هي مونتي فيديو.

فليباركك الرب يا هربرت، يا صديقي العزيز والغالي جدًّا. وأتمنى من كل قلبي أن تنعم دومًا بالسعادة والرخاء.

صديقك المخلص
تشاز داروين

من تشارلز داروين إلى إف واتكينز
مونتي فيديو، ريفر بلاتا
١٨ أغسطس ١٨٣٢
عزيزي واتكينز

لستُ متأكِّدًا إن كنت سترى أنَّ استقبال خطاب من شخص في مكانٍ ناءٍ للغاية هو أمرٌ مهم أم لا؛ ومِن ثَمَّ، فإنني أكتب لك انطلاقًا من الرغبة الأنانية المتمثلة في تلقي الرد. إنَّ ما أجده في البلاد المختلفة التي نزورها، من جدَّة واختلافٍ تامَّين عن إنجلترا، لا يزيدني إلا حرصًا على تذكُّر مناظر الأخيرة وجمالها. ومِن ثَمَّ، فإنَّ سرور المرء بتذكُّر أصدقائه القُدامى وسماع أخبارهم، يصبح عظيمًا بلا شك. فلتتذكر هذا، ولتتذكر إحدى جلساتنا في أمسيات الشتاء الطويلة، ولترسل لي خطابًا تحكي لي فيه الكثير عن نفسك وأصدقائنا؛ فلتخبرني عما تفعلونه وعما تنوون فعله في المستقبل، وإلا فسوف تصبحون جميعًا غرباء عني تمامًا حين أعود بعد ثلاث سنوات أو أربع. بالنظر إلى عدد الشهور التي قضيناها على متن «البيجل»، فإننا لم نقطع مسافة كبيرة حول العالم. وحتى الآن، فإنَّ كل شيء قد آتى ثماره وعوَّضَني جيِّدًا عن أيِّ تعبٍ أو مشقة لم يكن منها بُد. لقد مكثنا ثلاثة أسابيع في الرأس الأخضر، ولم يكن سروري بالسير على سهول الحمم البركانية وتحت الشمس الاستوائية، سرورًا عاديًّا، لكنني حين دخلت ورأيت الطبيعة النباتية الزاخرة في البرازيل لأول مرة، كان الأمر أشبه بتحقق إحدى رؤى كتاب «ألف ليلة وليلة». إنَّ روعة المنظر الطبيعي تلقي بالمرء في نوبة من البهجة، والتي ليس من المحتمل أن يفيق منها سريعًا صائد الخنافس؛ إذ أينما استدار بوجهه وقعت عيناه على كنوزٍ جديدة. في ريو دي جانيرو، مرت ثلاثة شهور وكأنها عدة أسابيع. وخلال هذه الفترة، قمت بجولةٍ رائعة للغاية على امتداد ١٥٠ ميلًا في البلد. أقمت في قطعة أرض هي آخر من جرى تمهيده من الأرض، ومن خلفي غابةٌ شاسعة منيعة. إن تخيل هدوء هذه الحياة يكاد يكون مستحيلًا. لا يُوجد إنسان على بعد أميالٍ ليقاطع هذه العزلة. إنَّ الجلوس على جذعِ شجرة في طريقه إلى التحلُّل في خِضَم روعة هذه الغابة، والتفكير في الوطن، لهو سرور يستحق بذل بعض العناء في سبيله.

إننا الآن في بلدٍ أقل إثارة بدرجةٍ كبيرة؛ فجولةٌ واحدة على السهول المتموجة المكسوة بالخضرة، تكشف لك عن كلِّ ما يمكن رؤيته. إنها لا تختلف عن كامبريدجشير على الإطلاق، فيما عدا أنه لا بد من تسوية جميع الأسياج الشجرية والأشجار والتلال، وتحويل جميع الأراضي الصالحة للزراعة إلى مراعٍ. إنَّ أمريكا الجنوبية بأكملها في حالة من عدم الاستقرار؛ فلم ندخُل ميناءً واحدًا دون شيء من القلاقل. في بوينس آيريس، سمعنا صوت طلقةٍ تصفر فوق رءوسنا؛ لقد كان صوتًا لم أسمعه من قبلُ، لكنني وجدتُ أنَّ لديَّ معرفة غريزية بما يعنيه. قبل أيام، أنزلنا رجالنا هنا، واستحوذنا على القلعة المركزية، بناءً على طلب السكان. إننا نحن الفلاسفة لا نتوقع هذا النوع من العمل، وأتمنى ألا يكون هناك المزيد. سنُبحر في غضونِ يومٍ أو يومَين لمسحِ ساحل باتاجونيا؛ إنه غير معروف على الإطلاق، وأنا أتوقع أنه سيكون مثيرًا للاهتمام بدرجةٍ كبيرة. بالرغم من ذلك، فأنا أُدرك بالفعل ذلك الاختلاف الشاسع بين الإبحار في هذه البحار، وبين الإبحار في المحيط الأطلنطي الاستوائي. في «خليج ليديز» كما يسميه الإسبان الأصليون، يكون من الممتع جدًّا أن تجلس على ظهر السفينة مع الاستمتاع ببرودة الليل، والإعجاب بالتجمعات النجمية الجديدة الخاصة بالجنوب … إنني أتساءل متى سنلتقي مجدَّدًا؛ ولكن، أيًّا كان الوقت الذي سيتحقق فيه ذلك، فإنَّ القليل من الأمور فقط، هي التي ستمنحني سرورًا أكبر من سروري برؤيتك مجدَّدًا والحديث عن ذلك الوقت الطويل الذي قضيناه معًا.

لو أنك كنت لتراني الآن، لنظرت إليَّ كما لو أنني وحش بري لا شك؛ فاللحية الكبيرة الشيباء وسترة التنظيف تُشوِّهان أيَّ أحدٍ ولو كان ملاكًا. خالص مودتي إليك يا عزيزي واتكينز، مع خالص مشاعر الصداقة.

المخلص لك دومًا
تشارلز داروين

من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
١١ أبريل ١٨٣٣
عزيزي هنزلو

ها نحن الآن نغادر جزر فوكلاند مُتجهِين إلى ريو نجرو (أو كولورادو). ستتجه «البيجل» بعد ذلك إلى مونتي فيديو، لكنني أنوي البقاء في المكان السابق إن كان ذلك ممكنًا. ها قد مضت عدة شهور منذ أن رسَونا بميناء متمدن؛ فقد قضينا معظم هذا الوقت تقريبًا في أقصى الجنوب من تييرا ديل فويجو. إنه مكانٌ بغيض؛ إذ تتوالى العاصفة بعد العاصفة على فتراتٍ زمنية قصيرة، مما يُصعِّب القيام بأيِّ شيء. لقد كنا نبعُد مسافة ثلاثة وعشرين يومًا عن رأس هورن، ولم نتمكن من الوصول إلى الجانب الغربي على الإطلاق. كانت العاصفة الأخيرة قبل أن نتوقف عن المحاولة تمامًا عاتية بنحوٍ استثنائي. لقد ثَقَب البحر أحد القوارب وتَسرَّبت على السطح الكثير من المياه؛ وغرق المكان بأكمله بالمياه، وفسد الجزء الأكبر من الأوراق المستخدمة في تجفيف النباتات، وكذلك نصف مجموعة النباتات الغريبة هذه.

وأخيرًا وصلنا إلى مرفأ واتجهنا إلى الغرب في القوارب عن طريق القنوات الداخلية؛ ولأنني كنت أحد أفراد هذه المجموعة، فقد سُرِرت بالأمر كثيرًا. أخذنا قاربَين وسرنا بهما مسافة ٣٠٠ ميل تقريبًا؛ ومِن ثَمَّ فقد حظيتُ بفرصةٍ رائعة لدراسة الطبيعة الجيولوجية ورؤية الهمج. إنَّ أهل فويجو يعيشون في حالةٍ من الهمجية هي أشد سوءًا مما توقَّعتُ أن يكون عليها أيُّ إنسان. إنهم يسيرون عُراةً تمامًا في هذه البلدة ذات الطبيعة القاسية، وأمَّا منازلهم المؤقتة، فهي تشبه تلك المنازل التي يبنيها الأطفال في الصيف بغصون الأشجار. لا أظن أنَّ هناك مشهدًا يمكن أن يكون أكثر إثارة من رؤيةِ رجلٍ على همجيته البدائية للمرة الأُولى، وهذا الشعور بالإثارة لا يمكن لأحدٍ أن يتخيله حقًّا إلى أن يُجرِّبه. إنني لن أنسى أبدًا عند دخول خليج جود ساكسيس لأول مرة تلك الصرخة التي استقبلَنا بها الجمع. كانوا يجلسون على بقعة صخرية، وتحيط بهم غابةٌ قاتمة من أشجار الزان، وإذ رفعوا أذرعهم حول رءوسهم بوحشية، وتدلَّى شعرهم الطويل؛ فقد بدَوا وكأنهم أرواحٌ معذَّبة من عالمٍ آخر. والطقس في هذا البلد يجمع في بعض النواحي، بين القسوة والاعتدال، وبالنسبة إلى المملكة الحيوانية فالسمة الأولى هي السائدة؛ ولهذا، فإنني لم أتمكن من إضافة عدد كبير إلى مجموعتي.

لقد كانت الطبيعة الجيولوجية في هذا الجزء من تييرا ديل فويجو، مثيرة للاهتمام بشدة بالنسبة لي، وذلك كجميع الأماكن بالطبع. إنَّ هذا البلد لا يحتوي على أحافير متحجرة، وهو يحتوي على نسبة متوسطة من الصخور والألواح الجرانيتية، وقد كانت محاولة الربط بين الصدوع والطبقات وغير ذلك هي أكبر مصادر استمتاعي. ومع ذلك، أعتقد أنَّ دراسة الطبيعة المعدنية لبعض الصخور ستكون مثيرة للاهتمام نظرًا لتماثلها مع تلك من ذوات الأصل البركاني.

بعد أن غادرنا تييرا ديل فويجو، أبحرنا إلى جزر فوكلاند. لقد نسيت أن أذكر مصير مواطني فويجو الذين أعدناهم مجدَّدًا إلى بلدهم. لقد أصبحوا أوروبيِّين تمامًا في عاداتهم ورغباتهم، حتى إنَّ أصغرهم قد نسي لغته الأصلية، ولم يُعِرهم أبناء بلدهم سوى قدْرٍ ضئيل من الاهتمام. لقد بنَينا لهم منازل وزَرَعنا من أجلهم حدائق، لكنني أتشكَّك كثيرًا في مقدارِ ما سنجده على حاله ولم يُسرق بعدُ من هذه الممتلكات حين نعود ثانيةً من طريقنا حول رأس هورن.

… حين أشعر بالتعب الشديد ودوار البحر، أتصور المستقبل حين نلتقي مجدَّدًا ونخطو معًا في الطرق المحيطة بكامبريدج، وذلك من أكبر أسباب تعزيتي، غير أنَّ ذلك اليوم بعيد والطريق إليه مرهق. سنقوم برحلة بحرية أخرى إلى تييرا ديل فويجو في الصيف القادم، وبعدها ستبدأ رحلتنا حول العالم بحق. لقد اشترى القبطان فيتزروي مركبًا شراعيًّا كبيرًا بِصارِيَين يزن ١٧٠ طنًّا. ستكون للصحبة فائدةٌ عظيمة من نواحٍ عديدة؛ فربما تُقصِّر مدة الرحلة بعض الشيء، وهو ما أرجوه من كلِّ قلبي. بالرغم من ذلك، فإنني أثق أنَّ الشعاب المرجانية وغيرها من حيوانات المحيط الهادئ، سوف تجعلني أحتفظ برباطة جأشي. أبلِغ السيدة هنزلو وجميع الأصدقاء بخالص تحياتي؛ فأنا محبٌّ صادق لكليتي القديمة وجميعِ رُوَّادِها.

خالص مودتي إليك يا عزيزي هنزلو
صديقك المحِّب والممتن إليك
تشارلز داروين

من تشارلز داروين إلى الآنسة سي داروين
مالدونادو، ريو بلاتا، ٢٢ مايو، ١٨٣٣

… إن الجزء التالي المتعلقة بالعمل موجه إلى والدي. إنَّ الاستعانة بخادمٍ خاص لي سيكون إضافةً عظيمة بحقٍّ لراحتي. ويرجع هذا لهذَين السببَين: أولًا، عيَّن القبطان فيتزروي أحد الرجال ليكون معي دائمًا، لكنني لا أعتقد أنه من الصحيح أن أحرم السفينة من أحدِ بحَّاريها؛ وثانيًا، عندما أكون على متن السفينة، أكون في حالةٍ سيئة للغاية بحيث أحتاج لأحدٍ أن يخدمني بنحوٍ خاص. إنَّ الرجل مستعد لأن يكون خادمي، وسوف تكون جميع النفقات أقل من ستين جنيهًا في العام. لقد علَّمته صيد الطيور وسلخها؛ لذا فسوف يكون مفيدًا جدًّا في إنجاز مهمتي الأساسية. لقد غادرت إنجلترا منذ عام ونصف تقريبًا، ونفقاتي لا تزيد عن ٢٠٠ جنيه في العام؛ ولأنه يتعذر الكتابة إليك طلبًا لموافقتك (بسبب الوقت)، فقد توصلت إلى أنك ستسمح لي بهذا المبلغ الإضافي. غير أنني لم أقرر بعد أن أطلب من القبطان هذا الأمر، وتتساوى الاحتمالات فيما يتعلق برأيه في وجود رجل إضافي على السفينة، وقد ذكرت ذلك لأنني أفكر فيه منذ فترة طويلة.

يونيو: لقد تسلمت للتو حزمة جديدة من الخطابات، ولست أدري كيف يمكنني أن أشكركم جميعًا بالدرجة الكافية. أحد الخطابات من كاثرين بتاريخ الثامن من فبراير، وآخر من سوزان بتاريخ الثالث من مارس، مع ملاحظات من كارولين وأبي؛ فلتبلغي أبي بخالص مودتي. لقد كدت أبكي فرحًا حين تسلمتها؛ فتفكيركم في الكتابة لي لهو أمر غاية في اللطف. إنَّ خطاباتي قليلة وقصيرة وسخيفة مقارنة بالخطابات التي ترسلونها جميعًا، لكنني أهون على ضميري دائمًا بأنَّ أعتبر دفتر اليوميات بمنزلة خطاب طويل. سوف أرسل الجزء المتبقي قبل الدوران حول هورن، إن استطعت ذلك. لقد سرني بشدة أنَّ جلد البَهضَم قد أثار اهتمامكم جميعًا بعملي بعض الشيء. بالرغم من ذلك، فهذه الشذرات ليست هي أثمن الآثار الجيولوجية على الإطلاق. إنني أومن وأثق أنَّ الوقت الذي قضيناه في هذه الرحلة سيؤتي بثماره كاملة في مجال التاريخ الطبيعي، حتى إن كان وقتًا مهدرًا من جميع الجوانب الأخرى، وأنا أرى أنَّ هذا القدر «الضئيل» الذي يمكننا القيام به لزيادة مخزون المعرفة، هو أشرف الأهداف التي يمكن أن يسعى المرء إلى تحقيقها في الحياة. إنَّ نتيجة مثل هذه التأملات (كما ذكرت من قبل) هي التي تدفعني الآن إلى الاستمرار في هذه الرحلة، أكثر مما يدفعني ما أستمده منها من سرور عظيم، إضافةً إلى ذلك الأمل الرائع في المستقبل، بأنه حينما نعبر مضيق ماجلان، سيكون العالم أمامنا بالفعل. تخيلي جبال الأنديز وغابة جواياكيل الزاخرة وجزر بحر الجنوب ونيو ساوث ويلز. كم من مناظر رائعة وبارزة سنراها وكم من قبائل غريبة سنلتقي بها! وكم من فرص رائعة لدراسة الأمور الجيولوجية وكذلك لدراسة عدد هائل من الكائنات الحية! أليس ذلك أملًا يوقظ الروح الواهنة؟ لئن تخليت عن هذه الرحلة، فلا أظن بأنني سأستريح في قبري أبدًا؛ فلا شك بأنني سأصبح شبحًا وأسكن المتحف البريطاني.

يبدو أنَّ الوزراء يتمتعون بشهرةٍ كبيرة. إنني دائمًا ما أستمتع كثيرًا بالنميمة السياسية وبما تعتقدون أنه سيحدث في الوطن. إنني أقرأ الجريدة الأسبوعية بانتظام، لكنها لا تكفي لإرشاد المرء في تكوين رأيه الخاص، وأنا أجد أنه من المؤلم جدًّا ألا أكون عنيدًا في تمسُّكي بآرائي السياسة. لقد رأيت كيف أنَّ مشاعر الناس أصبحت تناهض العبودية بثبات، كما اتضح في الانتخابات. كم سيكون فخرًا عظيمًا لإنجلترا أن تكون هي أُولى البلاد الأوروبية التي تلغيها نهائيًّا! لقد كانوا يُخبرونني قبل مغادرة إنجلترا أنَّ جميع آرائي ستتغير بعد أن أعيش في بلاد تعترف بالعبودية، والتغير الوحيد الذي أعيه، هو أنني أصبحتُ أكن تقديرًا أكبر كثيرًا للزنوج. من المستحيل أن ترى زنجيًّا وألا تشعر بالعطف نحوه؛ بما يبدو على وجهه من تعبيراتٍ بشوشة صريحة وأمينة وبما يتمتع به من جسمٍ قوي ورائع. إنني لم أَرَ قط أيًّا من البرتغاليِّين الصغار الحجم بهيئتهم التي تلوح فيها القسوة، إلا وكدت أتمنى أن تتبع البرازيل مثال هايتي؛ ونظرًا للعدد الكبير من السكان الزنوج، سوف يكون أمرًا مدهشًا ألا يحدث ذلك في يوم ما في المستقبل. يُوجد رجل في ريو، (لا أعرف لقبه) يتقاضى راتبًا كبيرًا لمنع مجيء العبيد إلى هناك (حسبما أعتقد). إنه يعيش في بوتوفوجو، وبالرغم من ذلك، فخلال إقامتي، كان ذلك هو الخليج الذي هبط فيه أكبر عددٍ من العبيد الذين جرى تهريبهم. وقد كان على بعض الأفراد المُناهضِين للعبودية أن يتشككوا في صنيعه، وكان ذلك موضوعًا للحديث بين الطبقات الأدنى من الإنجليز في ريو …

من تشارلز داروين إلى جيه إم هربرت
مالدونادو، ريو بلاتا، ٢ يونيو ١٨٣٣
عزيزي هربرت

لقد كنتُ محتجزًا على مدى الأيام الثلاثة السابقة في غرفةٍ بائسة مظلمة ببيتٍ إسباني قديم، محتميًا من سيول الأمطار؛ ولهذا، فأنا لست في حالةٍ جيدة جدًّا للكتابة، لكنني سأرسل لك بضعة سطور ردعًا للكآبة، ولو لم يكن ذلك إلا لكي أشكرك بصدق على الكتابة لي. لقد تسلمتُ خطابك المؤرخ في الأول من ديسمبر بعدها بوقتٍ قصير. إننا الآن نقضي جزءًا من الشتاء في ريو بلاتا، وذلك بعد أن عملنا بجد في الصيف باتجاه الجنوب. تييرا ديل فويجو مكان بائس بلا شك؛ فغضب العواصف العاتية الذي لا يتوقف هائل بحق. في إحدى الأمسيات، كنا نرى كيب هورن القديمة، وبعدها بثلاثة أسابيع، لم نكن نبعد عنها سوى ثلاثين ميلًا باتجاه الرياح. إنه لمشهدٌ عظيم حين ترى غضب الطبيعة وثورانها، لكنَّ الرب يعلم أنَّ جميع مَن هم على ظهر «البيجل» قد رأَوا خلال هذا الصيف ما يكفيهم على مدى حياتهم.

كان أول مكان رسونا عنده هو خليج جود ساكسيس، وهو المكان الذي لاقى فيه بانكس وسولاندر تلك المصائب عند صعودهم أحد الجبال. كان الطقس جيِّدًا بدرجةٍ معقولة، وقد استمتعتُ ببعض جولات السير في إحدى المناطق البرِّيَّة، والتي تشبه تلك التي تقع خلف بارماوث. لا يمكن اختراق الوديان بسبب الغابات المتشابكة، لكنَّ الأجزاء الأعلى منها، بالقرب من حدود ذلك الثلج الدائم، مقفرة. وعلى بعض هذه التلال، بدت المناظر الطبيعية في منتهى الجلال، وذلك لطبيعتها المتوحشة والمنعزلة. حيوانات الجوناق هي الساكن الوحيد لهذه المرتفعات، وكثيرًا ما تكسر الصمت بصوتها الحاد. وقد زاد من سروري بهذه الجولات معرفتي أنَّه لم يسبق من قبل أن خطت قدمٌ أوروبية على جزءٍ كبير من هذه الأرض. كم من مرة كانت العديد من الأوقات التي قضيتها في بارماوث تتبادر إلى ذهني، وبوضوحٍ شديد! إنني لا أتذكر ذلك الوقت بسرورٍ عادي؛ ففي هذه اللحظة، أستطيع أن أراك جالسًا على التل وراء النُّزُل، وإنني لأراك بوضوحٍ شديد كما لو أنك هناك بالفعل. يلزم على المرء أن يترك كل ما قد كان معتادًا عليه، لكي يعرف قيمة اعتزازه بمثل هذه الذكريات، ويمكنني أن أضيف يا عزيزي الغالي هربرت، أنه على هذه المسافة البعيدة، يعرف المرء جيِّدًا قيمة شخص مثلك. إنني أتساءل متى سنلتقي مجدَّدًا، وأتمنى أن يكون لقاؤنا، كما تقول أنت، بين أكوام الورق، غير أنه لا بد عاجلًا أم آجلًا، من وجود سيدةٍ صغيرة عزيزة لكي تعتني بك وببيتك. إنَّ هذه الصورة المبهجة تثير في نفسي بعض مشاعر الحسد؛ فتلك حياة غريبة لرجل مثلي يرتاد الشواطئ بانتظام، وأسوأ ما فيها هو طولها المفرط. إنَّها لا تخلو بالطبع من قدرٍ كبير من الاستمتاع، لكنَّ بها، من ناحيةٍ أخرى، قدْرًا محتملًا من ضجر الروح. بالرغم من ذلك، فكل شيءٍ يهون بالتأكيد في سبيل الفرحة لاستخراج عظامٍ قديمة وصيد حيواناتٍ جديدة. بالمناسبة، إنك تُعلي كثيرًا من قيمة جهودي في مجال التاريخ الطبيعي. لكنني لستُ سوى راعٍ للأُسود، وأنا لست واثقًا على الإطلاق من أنها لن تُكشِّر عن أنيابها في نهاية الأمر وتُدمِّرني.

يسرُّني أن أعرف كيف تسير الأمور في إنجلترا. فليحيَ الأحرار الصادقون! إنني أثق في أنهم سرعان ما سيهاجمون تلك البقعة التي لطَّخَت حريتنا التي نتفاخر بها، ألا وهي: العبودية الاستعمارية. لقد رأيتُ من العبودية وأحوالِ الزنوجِ ما يكفي لأن أشمئز تمامًا من العبث والأكاذيب التي يسمعها المرء في إنجلترا بشأن هذا الموضوع. فلنشكر الرب أنَّ المحافظِين القُساة القلوب الذين لا يُظهرون حماسًا إلا ضد الحماس، كما يقول جيه ماكنتوش، قد خاضوا سباقهم في الوقت الحالي. يؤسفني أن أعرف من خطابك أنكَ لستَ على ما يُرام، وأنك تعزو ذلك بصفةٍ جزئية إلى الحاجة إلى ممارسة التمرينات الرياضية. أتمنى لو أنك كنت هنا بين السهول الخضراء؛ فلقمنا إذن بجولات سير تنافس جولاتنا في دولجيلي، ولحكيت لي قصصًا والتي كنت سأُصدِّقها بالطبع، حتى وإن بلغ «هُراؤك قدْرًا كبيرًا». بالرغم من ذلك، ينبغي عليَّ أن أتجوَّل وحيدًا، بينما أتذكر أيام كامبريدج وألتقط الثعابين والخنافس والعلاجم. اعذرني على هذا الخطاب القصير (فأنت تعرف أنني لم أدرس قط «الدليل الشامل لكتابة الخطابات»)، وخالص مودتي إليك يا عزيزي هربرت.

صديقك المُحب
تشارلز داروين

من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
جزيرة فوكلاند الشرقية، مارس ١٨٣٤

… إنني مفتون بشدة بالطبيعة الجيولوجية، لكنني كالحيوان الحكيم بين كَومتَين من الحشيش المجفَّف، لا أدري ما أُحبه أكثر منهما؛ مجموعة الصخور القديمة المتبلورة، أم الطبقات الأرق التي تحتوي على أحافير. وحين أحتار بشأن ترتيب الطبقات وما إلى ذلك، أجد أنني أرغب في أن أصرخ: «تبًّا لمحارك الكبير، وحيوانات البهضم خاصتك الأكبر.» لكنني حين أستخرج بعض العظام الجيدة، أتعجب كيف أنه من الممكن لإنسان أن يرهق ذراعَيه في الطرق على الجرانيت. بالمناسبة، ليست لديَّ أدنى فكرة عن التشقُّق وترتيب الطبقات وخطوط التقبُّب؛ إذ إنني لا أمتلك كتبًا تخبرني بالكثير، وما أعرفه منها لا يمكنني تطبيقه على ما أراه. ونتيجةً لذلك، فإنني أتوصل إلى استنتاجاتي بنفسي، وكم هي سخيفة للغاية تلك الاستنتاجات التي أتوصل إليها أحيانًا. هل يمكنك أن تعطيني فكرة عن الموضوع بأن تخبرني بالعلاقة بين التشقق ومستويات الترسب؟

وأمَّا عن «قسمي» الثاني؛ علم الحيوان، فقد انهمكتُ بصفةٍ أساسية في إعداد نفسي لبحر الجنوب، من خلال دراسة سلائل الطحلبيات المرجانية الأصغر حجمًا في هذه المنطقة من دوائر العرض. إنَّ الكثير منها في حدِّ ذاته غريب للغاية وأعتقد أنه لا يمكن وصفها كليًّا؛ فمنها ذلك النوع الرهيب الذي يرتبط بنوع الفلاسترا، وأعتقد أنني قد ذكرتُ أنني وجدتُه باتجاه الشمال، حيث تحتوي الخلايا على عضو قابل للتحريك (مثل رأس نسر بمنقار قابل للتمدد) وهو مثبت على الطرف. بالرغم من ذلك، فإنَّ ما يثير اهتمامي بدرجة أكبر، الوجود المؤكد (كما يبدو لي) لنوعٍ آخر من النعام، بخلاف نوع ستروثيو ريا Struthio rhea. إنَّ جميع الجاوتشو والهنود يقولون بذلك، وأنا أثق بملاحظاتهم ثقة عظيمة. لديَّ الرأس والرقبة وجزء من الجلد والريش والسيقان لواحدة منها. والاختلافات بينهما تكمن بصفةٍ أساسية في لون الريش وحراشيف السيقان، ووجود الريش أسفل الركبتَين، وبناء الأعشاش، والتوزيع الجغرافي. يكفي حديثًا عما فعلتُه مؤخَّرًا؛ فالأفق أمامي مليء بالشمس المشرقة، والطقس الجميل والمناظر الطبيعية الرائعة، والطبيعة الجيولوجية للأنديز، والسهول التي تزخر بالبقايا العضوية (التي قد يُسعدني الحظ بالعثور عليها بينما أتحرك)، وأخيرًا، هذا المحيط بشواطئه التي تفيض بالحياة؛ ومِن ثَمَّ، إن لم يحدث أيُّ شيءٍ غير مُتوقَّع، فسوف أُواصل الرحلة، رغم أنَّها، وَفقًا لما أراه، قد تستمر إلى أن نصير شيوخًا قد شابت رءوسنا. إنني أشكرك من كلِّ قلبي على إرسال الكتب. وأنا أقرأ الآن «تقرير» أكسفورد [وهو ذلك الخاص بالاجتماع الثاني للجمعية البريطانية الذي عُقد في أكسفورد عام ١٨٣٢، وقد عُقد الاجتماع في العام التالي في كامبريدج.] لقد كانت مشاركتك رائعةً للغاية، ولا يمكنك أن تتخيل كيف أنَّ بقاءك في إنجلترا يجعل هذه التقارير مثيرةً للغاية بالنسبة لي. إنَّ شعوري الشديد بالإثارة يجعلني أثِق فيما لهذه التقارير من أثَرٍ ممتاز على جميع مَن قرءُوها من المُقيمِين في المستعمرات البعيدة، والذين لا يجدون فرصةً كبيرة للاطلاع على الدوريات. لقد انكفأتُ على قراءة الفقرات المتعلقة بعملي بعزيمةٍ مضاعفة، وبينما رحتُ أتأمل فصاحة رئيس اجتماع كامبريدج، ازداد تمعُّني فيها أكثرَ فأكثر، وأتمنى أن يمدني ذلك بعزيمةٍ أكبر لفهم السلسلة الجبلية في هذه المنطقة. وأتمنى أن ترسل لي من خلال القبطان بوفورت نسخةً من «تقرير» كامبريدج.

لقد نسيتُ أن أذكُر أنني منذ فترةٍ مضت، ولفترةٍ قادمة في المستقبل كذلك، سوف أضع علامةَ صليبٍ بالقلم الرصاص على عُلب أقراص الدواء التي أضع فيها الحشرات؛ فهذه العُلب بالتحديد سوف تستلزم أن تظل جافةً تمامًا، وربما يُوفِّر عليك ذلك بعض المشقة. إنني لا أعرف متى سيُبعث هذا الخطاب؛ فقد تصاعَدَت حدة الصراع في تلك الجزيرة البائسة مؤخَّرًا بسبب حالاتِ قتلٍ مريعة، وقد أصبح حاليًّا عدد المَسجونِين أكثر من عدد السكان. وإذا ذَهبَت سفينةٌ تجارية لأخذهم إلى ريو، فسوف أُرسل بعض العينات (لا سيما العدد القليل الذي جَمعتُه من النباتات والبذور). أبلِغ تحياتي إلى جميع أصدقائي في كامبريدج. إنني أحب جميع ذكرياتي في كامبريدج العزيزة الغالية وأعتز بها. وأنا ممتنٌّ إليك كثيرًا لأنك وضعتَ اسمي على النصُب التذكاري لرامزي المسكين؛ فأنا لا أَتذكَّره إلا بأصدقِ مشاعر الإعجاب. وداعًا يا عزيزي هنزلو.

خالص المودة والامتنان من صديقك
تشارلز داروين

من تشارلز داروين إلى الآنسة سي داروين
جزيرة فوكلاند الشرقية، ٦ أبريل ١٨٣٤
عزيزتي كاثرين

إنني لا أعرف متى سيصلك هذا الخطاب، لكن من المُرجَّح أن تأتي سفينةٌ حربية إلى هنا قبلُ، وفقًا للمسار المعتاد للأحداث، أن تتسنى لي الفرصة في الكتابة مجدَّدًا.

بعد أن زرنا بعض الجزر الجنوبية، انطلقنا عبر المناظر الطبيعية البديعة في قناة بيجل إلى بلد جيمي بوتون. [إن جيمي بوتون ويورك مينستر وفويجيا باسكت من السكان الأصليِّين لتييرا ديل فويجو، وقد أحضرهم القبطان فيتزروي إلى إنجلترا في رحلته السابقة، وأعادهم إلى بلدهم في عام ١٨٣٢.] لم نتمكن من تمييز جيمي إلا بصعوبة كبيرة؛ فبدلًا من الشاب القوي النظيف أنيق الثياب الذي تركناه، وجدنا همجيًّا متسخًا ونحيفًا وعاريًا. أمَّا يورك وفويجيا، فقد انتقلا إلى بلدتهما قبل بضعة أشهر، وذلك بعد أن سرق الأول جميع ثياب جيمي. والآن، فقد صار لا يملك سوى غطاء يلف به وسطه. إن جيمي المسكين كان سعيدًا للغاية برؤيتنا، ولمشاعره الطيبة المعتادة، فقد أحضر لأصدقائه القدامى العديد من الهدايا (جلود القضاعة، وهي ثمينة للغاية بالنسبة لهم). وقد عرض عليه القبطان أن يأخذه إلى إنجلترا، لكننا دُهشنا إذ رفض هذا العرض. في المساء، جاءت إلينا زوجته الصغيرة السن وأوضحت لنا السبب. لقد كان يشعر بالرضا على نحو كبير. لقد كان يقول وهو في قمة سخطه بالعام الماضي إنَّ «أهل بلده لا «يفقهون شيئًا»؛ فهم حمقى أغبياء»، والآن، قد أصبحوا أناسًا جيدِين للغاية ولديهم «الكثير» من الطعام، وجميعِ رفاهيات الحياة. جدَّف جيمي وزوجته مبتعدين بقاربهم المحمل بالهدايا التي أعطيناها لهما، وهما في غاية السعادة. وأغرب ما في الأمر، هو أنَّ جيمي لم يستعد لغته الأصلية، وإنما علَّم جميع أصدقائه بعض الإنجليزية. فقد سمعنا من العديد منهم بعض العبارات بالإنجليزية مثل: «قارب جيه بوتون» و«زوجة جيمي تأتي»، و«أعطني سكينًا»، وغيرها.

بعد ذلك، أبحرنا إلى الجزيرة الصغيرة البائسة الممتلئة بالصراع. لقد وجدنا أنَّ الجاوتشو قد قتلوا جميع مَن استطاعوا الإمساك بهم من الإنجليز ونهبوهم، إضافةً إلى بعض أبناء بلدهم، وذلك بدعوى الثورة. إنَّ الحالة الاقتصادية في الوطن، تجعل التحركات الخارجية لإنجلترا، جديرة بالازدراء. أيُّ اختلافٍ نُمثِّله عن إسبانيا القديمة؟! ها نحن نحتفظ بأشياءَ لا نريدها لكي نمنع غيرنا من أخذها؛ إذ نستولي على أيِّ جزيرةٍ ونترك علم الاتحاد ليحميها. لقد قُتِل القائم عليها بالطبع، والآن، سنرسل نقيبًا وأربعة بحارة دون سلطة أو تعليمات. بالرغم من ذلك، فقد غامرت سفينة حربية بترك جماعة من ضباط البحرية، ومن خلال مساعدتهم وخيانة بعض أفراد الجانب الآخر، تمكنا من القبض على جميع القتلة، وقد صار الآن عدد السجناء يساوي عدد السكان. لا بد أنَّ هذه الجزيرة ستصبح ذات يوم محطة توقف مهمة للغاية في أكثر بحار العالم اضطرابًا. إنها تقع في منتصف الطريق بين أستراليا وبحر الجنوب بالنسبة إلى إنجلترا، وهي كذلك بين تشيلي وبيرو وغيرهما، وكذلك بين ريو بلاتا وريو دي جانيرو. إضافةً إلى ذلك، يُوجد بها مرافئُ جيدة والكثير من المياه العذبة ولحمٌ بقري جيد. ولا شك في أنها ستنتج أنواع الخضروات الصلبة، غير أنها مكانٌ بائس من نواحٍ أخرى. منذ فترةٍ قصيرة، انطلقتُ في جولة عبر الجزيرة وعُدتُ بعد أربعة أيام، وقد كنتُ أُخطِّط لجولتي أن تطول أكثر من ذلك، غير أنَّ عاصفة من الرياح قد هبت، ومعها الثلج والبَرَد. لا يُوجد حطب لإشعال النار أكبر من نباتات الخلنج، والبلد كله أشبه بمستنقعٍ مطاطي. وقد كان النوم بالخارج ليلًا أمرًا يصعب تحمُّله للغاية، حتى ولو كان ذلك في سبيل جميع صخور أمريكا الجنوبية.

سنرحل عن مشهد الخطيئة هذا في غضون يومَين أو ثلاثةِ أيام، وسوف نذهب إلى ريو دي لا سانتا كروز. ومن أهدافنا في ذلك فحص قاع السفينة؛ فقد اصطدمنا بشدةٍ بصخرةٍ مجهولة بينما بالقرب من بورت ديزايار، وقد تلَفَت بعض الأجزاء النحاسية بالسفينة. وبعد إصلاحها، فإنَّ القبطان لديه خطة رائعة: وهي الذهاب إلى منبع هذا النهر، وسيكون هذا باتجاه الأنديز على الأرجح. المكان غير معروف على وجه التحديد، ويخبرنا الهنود بأنَّ اتساعه يبلغ مائتَي ياردة أو ثلاثمائة، ولا يمكن للخيول أن تخوضه على الإطلاق. لا يمكنني أن أتخيل شيئًا أكثر إثارة من هذا. خطتنا إذن هي أن نذهب إلى فورت فامين، وهناك سنلتقي بسفينة «أدفنتشَر» المكلفة بإعدادِ خريطةِ جزر فوكلاند. سيكون ذلك في منتصف الشتاء؛ لذا فإنني سأتمكن من رؤية تييرا ديل فويجو في ردائها الأبيض. سنترك المضيق لكي ندخل المحيط الهادئ عبر قناة باربرا، وهي قناة لا يعرفها الكثيرون، وتمر بالقرب من سفح جبل سارمينتو (وهو أعلى جبل في الجنوب، فيما عدا جبل داروين). بعد ذلك، سننطلق بسرعة إلى كونسيبسيون في تشيلي. أعتقد أنَّ السفينة سوف تتجه إلى الجنوب مرة أخرى، لكن إن أمسك بي أيُّ أحدٍ هناك، فسوف أسمح له بأن يُعلِّقني كفزَّاعةٍ لجميع علماء التاريخ الطبيعي في المستقبل. إنني أتوق إلى العمل في السلسلة الجبلية العظيمة هنا؛ فالطبيعة الجيولوجية في هذا الجانب، والتي أفهمها جيِّدًا، وثيقة الصلة بفترات العنف البركاني. إنَّني أرى المستقبل بالنسبة لي مشرقًا بالطبع، وأنتِ تقولين إنَّ هذا الإشراق بالذات هو ما يثير مخاوفك، لكنني حريص للغاية بالفعل، ويمكنني أن أبرهن على ذلك بأنني لم أتعرض لحادثةٍ واحدة أو حتى خدشٍ واحد في جميع الجولات التي قمت بها … واصلي عادتكِ الجميلة بكتابة الكثير من النميمة؛ فإنني أُحب أن أعرف كل شيء عن جميع الأمور. أبلغي أطيب تحياتي إلى عمي جوز، وإلى جميع آل ويدجوود كذلك. وأخبري تشارلوت (أسماؤهن بعد الزواج تبدو غريبة بالطبع) بأنني كنت أود الكتابة لها، وأن أخبرها كيف أنَّ كل شيء يسير على ما يُرام، لكنَّ ذلك لن يكون إلا نسخًا لهذا الخطاب، وأنا لديَّ مجموعة من الحيوانات تحيط بي الآن وعليَّ أن أحنِّطها كلها وأن أرقِّمها. إنني لم أَنسَ تلك الراحة التي شعرتُ بها ذلك اليوم في مير، حين كان عقلي يشبه بندولًا متأرجحًا. أبلغي أبي بخالص مودتي، وأتمنى أن يغفر لي بذخي، لكن ليس كمسيحي؛ فحينها، أعتقد أنه لن يرسل لي المزيد من النقود.

وداعًا يا عزيزتي، وسلامي إلى جميع أخواتك الطيبات.

أخوكِ المحب
تشاز داروين

خالص مودتي إلى نانسي [مربيته القديمة]، وأخبريها أنها إن رأتني الآن بلحيتي الكبيرة، فسوف تظن أنني أشبه رجلًا مهيبًا مثل الملك سليمان الذي قد جاء لبيع بعض الحُلي الرخيصة.

من تشارلز داروين إلى سي ويتلي
بالبارايسو، ٢٣ يوليو، ١٨٣٤
عزيزي ويتلي

لقد كنت أنوي الكتابة إليكَ منذ فترةٍ طويلة، وذلك لأُذكِّركَ بأن صائد الخنافس وطارق الصخور لا يزال موجودًا. لا أعرف لمَ لَمْ أكتب إليك قبل ذلك، وإن نسيتني تمامًا، فإنني أستحق ذلك. لم تصلني أخبارٌ عن كامبريدج منذ فترةٍ طويلة، وكذلك لا أعرف أين تعيش أو ماذا تفعل. لقد رأيتُ اسمكَ مذكورًا كأحد الحُماة الذين لا يكلون للفلاسفة الألف وثمانمائة. وقد سُررت حين رأيت ذلك؛ فحين غادرنا كامبريدج في المرة الأخيرة، كنتَ في خصومة حزينة مع العلوم المسكينة؛ وقد بدا أنك ترى أنها عاهرة تسعى إلى الشهرة. وإذا كانت آراؤك لم تتغير عما كانت عليه في السابق، فسوف تتفق مع القبطان فيتزروي بنحو رائع، والسبب في بغضه الخالص للعلم، هو أحدُ مؤيدي حزب الأحرار من المُشتغلِين بالعلم. ولأنَّ قادة السفن الحربية هم أعظم الرجال، وهم أعظم بكثير من الملوك ومديري المدارس، فعليَّ إخباره بكل شيء يكون في صالحي. لقد أخبرته كثيرًا أنه كان لديَّ صديق رائع للغاية يؤيد حزب المحافظين تأييدًا تامًّا، وقد تمكننا من التفاهم جيِّدًا فيما بيننا، لكنه يميل إلى الشك فيما إن كنت أتمتع بالشرف على الإطلاق. لم نعد نعرف من أخبار السياسة إلا قليلًا في هذه الأيام، مما يجنِّبنا قدْرًا كبيرًا من المتاعب؛ إذ إننا نتمسك جميعنا بآرائنا السابقة بعناد أكثر من ذي قبل، ولا يمكننا أن نقدم سوى عدد أقل من الأسباب التي تفسر قيامنا بذلك.

إنني أتمنى أن تكتب إليَّ (ستجدني في «إتش إم إس «البيجل»، محطة أمريكا الجنوبية»). سأحب كثيرًا أن أسمع عن أحوالك الجسدية والذهنية. مَن يدري (الله هو من يعرف إنَّ كان ذلك صحيحًا؛ فالناس لا يعرفون إلا القليل بالفعل) إذا لم تكن مُتزوِّجًا، وربما ترعى، كما تقول الآنسة أوستن، القليل من أغصان الزيتون، وبعض الوعود بتبادل العاطفة. ويحي! ويحي! إنَّ ذلك يذكرني بتصوراتي السابقة عن المستقبل، والتي كنت أتخيل فيها أنني أرى التقاعد والأكواخ الخضراء والبنات الغيد. إنني لا أعرف ماذا سيحل بي بعد ذلك؛ إنني أشعر بأنني رجل محطم لا يعرف كيف ينتشل نفسه ولا يهتم بذلك. إنَّ المنطق يخبرني بأنه لا بد لهذه الرحلة من نهاية، لكنني لا أستطيع أن أرى نهايتها. ومن المحال ألا يأسف المرء بمرارة على الأصدقاء وغير ذلك من مصادر البهجة التي تركها في إنجلترا، وبدلًا منها يُوجد الكثير من المتعة الشديدة، بعضها في الوقت الحاضر، لكن الأكثر منها في المستقبل، وذلك حين يمكن النظر إلى بعض الأفكار التي توصلتُ إليها في الرحلة على أنها أفكارٌ جديدة. إنَّ اهتمامي بالجيولوجيا لا ينضب؛ فهي كما قيل عنها من قبل، تشكِّل أفكارًا عامة عن هذا العالم، وذلك كما يفعل علم الفلك مع الكون. لقد رأينا الكثير من المناظر الطبيعية الجميلة، مثل تلك الخاصة بالغابات الاستوائية والتي تفوق في تألُّقها وثرائها لغة هومبولت في الوصف. ربما لن يتمكن من وصفها إلا كاتبٌ فارسي، وإن نجح في ذلك، فسوف يُطلق عليه في لندن لقب «الأب الروحي لجميع الكاذبِين».

إنَّني لم أَرَ شيئًا قد أدهشني تمامًا أكثر من رؤيتي لهمجيٍّ لأول مرة. لقد كان همجيًّا عاريًا من أهل فويجو، وكان شعره الطويل يطير في الهواء، وقد لطخ وجهه بالطلاء. إنني أعتقد أنَّ في سيمائهم تعبيرًا يبدو جامحًا بنحو لا يُصدق لمن لم يروه من قبل. كان يقف على صخرة بينما يردد بعض النغمات ويقوم ببعض الإيماءات، والتي أجد أنَّ صرخات الحيوانات الأليفة مفهومة أكثر منها بدرجة كبيرة.

حين أعود إلى إنجلترا، لا بد أن ترشدني فيما يتعلق بالفنون. ما زلت أتذكر أنه كان هناك رجل يُدعى رافايل سانكتس. كم سيكون ممتعًا أن نرى لوحة فينوس لتيتيان مرة أخرى في متحف فيتسويليام. وكم سيكون رائعًا للغاية أن نذهب إلى حفلة موسيقية جيدة أو أوبرا راقية. إنَّ هذه الذكريات لن تجديني نفعًا؛ فلن أتمكن غدًا من إخراج أحشاء حيوانٍ صغير وليس لديَّ سوى نصف مقدار إقبالي المعتاد. أرجو أن تخبرني ببعض الأخبار عن كاميرون وواتكينز وماريندين وتومسوني ترينيتي ولو وهيفيسايد وماثيو. لقد سمعتُ من هربرت. وكيف هي أحوال هنزلو؟ وجميع الأصدقاء الآخرين في كامبريدج العزيزة؟ إنني أفكر كثيرًا وكثيرًا في هذه الأوقات الماضية، والتي قد قضيت العديد منها معك. إنَّ مثل هذه الأوقات لا يمكن أن تعود، لكن ذكرياتها لا يمكن أن تموت أيضًا.

فليباركك الرب يا عزيزي ويتلي.

خالص المودة إليك من صديقك المخلص
تشاز داروين

من تشارلز داروين إلى الآنسة سي داروين
بالبارايسو، ٨ نوفمبر، ١٨٣٤
عزيزتي كاثرين

لقد كان خطابي الأخير كئيبًا بعض الشيء؛ إذ إنني لم أكن بخير حال حين كتبته. أمَّا الآن، فكل شيء مشرق كالشمس. لقد أصبحت بخير ثانية الآن بعد أن مرضت للمرة الثانية خلال أسبوعَين. لقد كان القبطان فيتزروي كريمًا معي للغاية؛ إذ أخَّر السفينة عشرة أيام من أجلي، ولم يخبرني بالسبب حينها.

لقد قمنا ببعض الإجراءات الغريبة على متن «البيجل»، لكنها انتهت بنحو رائع لجميع الأطراف. إن القبطان فيتزروي كان يعمل بكدٍ «شديد» على مدى الشهرَين الماضيَين، وفي الوقت نفسه، كان يتعرض باستمرار لمقاطعاتٍ مزعجة من ضباط السفن الأخرى. لقد كان بيع المركب الشراعي ذي الصارِيَين وعواقبه أمرًا مزعجًا للغاية؛ فقد كانت الطريقة الباردة التي عامله بها ديوان البحرية (وأعتقد أنَّ ذلك لكونه مؤيِّدًا لحزب المحافظين فحسب) وألفًا آخرين، قد جعلته نحيفًا ومريضًا للغاية. وقد صاحب ذلك اكتئابٌ مُريع للروح وفقدان القدرة على الحسم واتخاذ القرار … وكل ما قاله باينو [الجراح] — من أنَّ هذا من تأثيرِ ضعف الصحة والإرهاق فحسبُ بعد مثل هذا المجهود — لم يكن كافيًا؛ فقد قرر التخلي عن القيادة وتولاها ويكهام. ووفقًا للإرشادات، يمكن فقط لويكهام أن يكمل مسح الجزء الجنوبي، وبعد ذلك، سيكون عليه أن يعود مباشرةً إلى إنجلترا. كان الأسى الذي حل على «البيجل» بشأن قرار القبطان، شاملًا وعميقًا، ومن أحد الأسباب الكبيرة في انزعاج القبطان، هو شعوره باستحالة تنفيذِ جميع التعليمات؛ ونظرًا لحالته الذهنية، لم يخطر بباله قط أنَّ هذه التعليمات نفسها قد أمرته بمسح أكبرِ جزءٍ ممكن من الساحل الغربي «يسمح به وقته»، ثم المتابعة عبر المحيط الهادئ.

أمَّا ويكهام (متخلِّيًا عن ترقيته بعدمِ اكتراثٍ شديد) فقد حث على ذلك بكل قوة، وذكر أنه إذا تولى القيادة، فلن يدفعه شيء إلى العودة إلى تييرا ديل فويجو مجدَّدًا، ثم سأل القبطان: أيَّ خيرٍ سنجنيه من استقالته؟ ولماذا لا نقوم بالأمر الأكثر نفعًا ونعود عبر المحيط الهادئ كما أُمِرنا؟ وفي النهاية، وافق القبطان، وسُحِبت الاستقالة، وهو ما أسعد الجميع.

مرحى! مرحى! لقد استقر الأمر على أنَّ «البيجل» لن تبحر ميلًا واحدًا جنوب كيب تريس مونتيس (٢٠٠ ميل تقريبًا جنوب تشيلوي) وسوف تستغرق الرحلة من هذه النقطة إلى بالبارايسو نحو خمسة أشهر. سوف ندرس أرخبيل تشونوس، المجهول تمامًا، والبحر الداخلي العجيب الذي يقع خلف تشيلوي. وهذا أمر رائع بالنسبة لي. إنَّ كيب تريس مونتيس هي أبعد نقطة في الجنوب لذا فهي تستدعي قدْرًا كبيرًا من الاهتمام بطبيعتها الجيولوجية؛ فهناك تنتهي الطبقات الحديثة. ويتحدث القبطان بعد ذلك عن عبور المحيط الهادئ، لكنني أعتقد أننا سنقنعه بإكمال ساحل بيرو، حيث الطقس رائع، وبالرغم من أنَّ البلد مجدب بدرجة مخيفة، فإنه يزخر بالعديد مما يثير اهتمام الجيولوجيِّين. إنَّ هذه أول مرة، منذ أن غادرت إنجلترا، أرى فيها أملًا واضحًا وغير بعيد للغاية في العودة إليكم جميعًا: سوف نعبر المحيط الهادئ، ولن تستغرق الرحلة من سيدني إلى الوطن وقتًا طويلًا.

حينما تنحى القبطان، قررت على الفور أن أغادر «البيجل»، لكن تلك الثورة التي اندلعت بجميع مشاعري في خمس دقائق لم تكن منطقية على الإطلاق. إنني أشعر منذ وقت طويل بالحزن والأسف لطول مدة الرحلة (بالرغم من أنني لم أكن لأتخلى عنها)، لكن حين تقرر إنهاؤها، لم أستطع أن أتخذ قراري بالعودة. لم أستطع أن أتخلى عن تلك القلاع الجيولوجيا التي ظللت أبنيها في الهواء على مدى العامَين الماضيَين. لقد قضيتُ ليلةً بأكملها وأنا أحاول أن أفكر في السرور الذي سأشعر به عند رؤية شروزبيري مجدَّدًا، لكن سهول بيرو القاحلة قد فازت. لقد صمَّمتُ هذه الخطة (وأعرف أنكم ستُعنِّفونني عليها، وربما لو بدأت في تنفيذها، لأرسل أبي في طلبي بنحوٍ رسمي)، وهي المتمثلة في دراسة السلسلة الجبلية في تشيلي خلال هذا الصيف، ثم الانتقال من ميناء إلى آخر في الشتاء، على امتداد ساحل بيرو إلى ليما، ثم العودة في مثل هذا الوقت من العام القادم إلى بالبارايسو، وعبور السلسلة الجبلية إلى بوينس آيريس، فركوب السفينة إلى إنجلترا. أمَا كانت تلك لتصبح رحلةً جيدة، ولأصبحتُ معكم جميعًا في خلال ستة عشر شهرًا؟ إنَّ العودة لتييرا ديل فويجو دون رؤية المحيط الهادئ كانت ستصبح أمرًا بائسًا …

سأصعد على متن السفينة في الغد؛ فقد كنت في منزل كورفيلد منذ ستة أسابيع. لا يمكنكم أن تتخيلوا كم وَجدتُه صديقًا طيِّبًا. إنَّ الجميع يحبونه، ويحترمونه، سواء السكان الأصليون أو الأجانب. والعديد من الآنسات التشيليات يتلهفن بشدة على أن يصبحن ربَّات هذا البيت. أخبري والدي بأنني صنتُ وعدي بشأن عدم الإسراف في تشيلي. لقد كتبتُ قسيمة بمقدار ١٠٠ جنيه (لو أنه كان من الأفضل إرسالها إلى بنك السيدَين روبارتس وكيرتيس)؛ خمسون جنيهًا منها سيذهب إلى القبطان للسنة المقبلة، وسآخذ ثلاثين جنيهًا منها معي في البحر للموانئ الصغيرة؛ ومِن ثَمَّ، فإنني لم أنفق بالفعل ١٨٠ جنيهًا على مدى الشهور الأربعة الأخيرة. أتمنى ألا أكتب قسيمةً أخرى في الشهور الستة المقبلة. إنَّ جميع هذه التفاصيل السابقة لم تُحدَّد إلا أمس، وقد عادت عليَّ بالنفع أكثر مما قد يعود به تناوُل بعض الدواء، وكذلك لم أشعر بهذا القَدْر من السعادة على مدى العام الماضي. لولا مرضي، لكانت هذه الشهور الأربعة التي قضيتُها في تشيلي ممتعةً جدًّا. لكن كان حظي سيِّئًا فقط بحيث شهدتُ حدوث زلزالٍ واحد طفيف. لقد كنتُ مستلقيًا في الفراش، بينما كانت بالمنزل حفلة عَشاء، وفجأة سمِعتُ جلَبةً في غرفة المائدة، ودون أن يتفوه أحدٌ بأيِّ كلمة، حاول كلٌّ منهم الخروج أولًا لينقذ حياته، وفي اللحظة نفسها، شَعَرتُ باهتزازٍ «طفيف» في سريري في أحد الجوانب. كان الحضور في الحفل من المُسنِّين وقد سمعتُ تلك الضجة التي تسبق الصدمة دائمًا؛ فلا أحد من المُسنِّين يرى الزلزال من وجهةِ نظرٍ فلسفية …

أُودِّعكم جميعًا؛ فلن تتلقوا خطابًا مني إلا بعد حين.

عزيزتي كاثرين
أخوك المحِّب
تشاز داروين

خالص مودتي إلى أبي وإليكم جميعًا. أبلغي مودتي إلى نانسي.

من تشارلز داروين إلى الآنسة إس داروين
بالبارايسو، ٢٣ أبريل، ١٨٣٥
عزيزتي سوزان

لقد تلقيت منذ بضعة أيام خطابك الذي أرسلته في نوفمبر؛ والخطابات الثلاثة التي أشرت إليها من قبل ما تزال مفقودة، لكنني لا أشك في أنها ستظهر. لقد عدتُ منذ أسبوع من رحلتي عبر الأنديز وصولًا إلى مندوزا. إنني لم أقم برحلة بهذا النجاح منذ أن غادرت إنجلترا، لكنها كانت باهظة الثمن جدًّا. إنني على يقين بأنَّ أبي لن يكون نادمًا على قيامي بها، لو أنه أدرك كم استمتعت بها؛ بل كان ذلك شيئًا يفوق الاستمتاع، فلا يمكنني التعبير عما شعرت به من سرور بهذه الخاتمة الرائعة لعملي الجيولوجي بأكمله في أمريكا الجنوبية. إنني لم أكن أستطيع النوم في الليل بالفعل بسبب التفكير فيما أقوم به من عمل بالنهار. لقد كانت المناظر جديدة للغاية وجليلة للغاية؛ فكل شيء يبدو بمنظور مختلف من على ارتفاع ١٢ ألف قدم عما قد يبدو عليه من بلد منخفض. لقد رأيت العديد من المناظر الطبيعية التي هي أجمل منها، لكنها لم تكن قط بهذا الطابع المميز. وبالنسبة إلى الجيولوجي، تُوجد أدلةٌ واضحة على وجود عنفٍ شديد؛ إذ إنَّ طبقات الأبراج الصخرية الأعلى تتحرك من جانب إلى جانب كقاعدة فطيرة متشققة.

لقد مررت ببورتيلو باس، والذي قد يكون به بعض الخطر في هذا الوقت من العام؛ ولهذا لم أستطع أن أتأخر هناك. وبعد أن قضيت يومًا في مدينة مندوزا الغبية، بدأتُ في العودة من خلال أوسباليت، وقد تمهلت في ذلك كثيرًا. لقد استغرقت الرحلة كلها اثنين وعشرين يومًا فقط. لقد كان السفر مريحًا في هذه الرحلة، وهو أمر غير معتاد بالنسبة لي؛ إذ إنني كنت أحمل «سريري» معي! وقد كانت مجموعتي تتألف من عدد من العمال بالأجر اليومي وعشرة بغال، كان اثنان منها يحملان المتاع، أو الطعام بالأحرى، في حالة هطول الثلوج. بالرغم من ذلك، كانت الأمور كلها مواتية لي؛ فلم تسقط على الطريق ذرة ثلج واحدة. لا أعتقد أنَّ أيًّا منكم سيكون مهتمًّا كثيرًا بالتفاصيل الجيولوجية، لكنني سوف أذكر ما توصلت إليه من نتائج أساسية فحسب: إضافة إلى اكتساب مقدار محدد من الفهم لوصف القوة التي أدت إلى رفع هذا الخط الكبير من الجبال وطريقتها في ذلك، يمكنني أن أبرهن بوضوح على أنَّ أحد جزأَي الخط المزدوج يعود إلى زمنٍ متأخر عن الزمن الذي يعود له الجزء الآخر بفترةٍ طويلة. وفي الخط الأقدم، وهو الذي يمثل سلسلة جبال الأنديز الحقيقية، يمكنني أن أصف نوع الصخور الذي يتكون منها وترتيبها. وأهم ما يُميِّزها من الصفات، هي أنها تضُم طبقةً من الجص يبلغ سمكها ٢٠٠٠ قدمٍ تقريبًا، وأنا أعتقد أنَّ وجود هذه المادة بهذه الكمية هو شيء لا مثيل له في العالم. وأمَّا الأمر ذو النتيجة الأهم، فهو أنني قد وجدت حفريات لأصداف (من على ارتفاع ١٢ ألف قدم). وأعتقد أنَّ فحص هذه الحفريات سوف يمدنا بالعمر التقريبي لهذه الجبال، مقارنةً بطبقات أوروبا. وفي الخط الآخر من السلسلة الجبلية، ثَمَّةَ افتراض (يقين، في رأيي) قوي أنَّ هذه الكتلة الضخمة من الجبال، والتي تصل قممها إلى ارتفاع ١٣ أو ١٤ ألف قدم، حديثة جدًّا؛ بحيث يمكن أن تكون معاصرة مثل سهول باتاجونيا (أو الطبقات «العليا» من جزيرة وايت). وإذا نظرنا إلى هذه النتيجة باعتبارها نتيجة محققة [لقد حازت أهمية هذه النتائج على اهتمام علماء الجيولوجيا وتقديرهم]، فسوف تكون تلك حقيقةً مهمة في نظرية تكون العالم؛ ذلك أنه إذا كانت هذه التغيرات المدهشة قد حدثت في وقتٍ قريب للغاية في قشرة الكرة الأرضية، فلا يُوجد سبب يدعونا إلى افتراض حدوث فتراتٍ سابقة من العنف المفرط. وتتسم هذه الطبقات الحديثة بصفةٍ مميزة للغاية وهي أنها تحتوي على خطوط من العروق المعدنية من الفضة والذهب والنحاس وغير ذلك، وهي التي ما زلنا ننظر إليها حتى الآن على أنها تعود إلى تكويناتٍ سابقة. وفي هذه الطبقات نفسها، وبالقرب من أحد مناجم الذهب، وجدتُ مجموعة من الأشجار المتحجرة تقف منتصبة، وقد تَرسَّبَت حولها طبقات من الحجر الرملي الناعم؛ فتعطي انطباعًا بأنها لحاؤها. وتغطي هذه الأشجار أيضًا طبقاتٌ أخرى من الحجر الرملي وتياراتٌ من الحُمم البركانية، والتي يصل سمكها إلى عدة آلاف من الأقدام. لقد ترسبت هذه الصخور تحت الماء، غير أنه من الجلي أنَّ البقعة التي نمت فيها الأشجار، قد كانت قبل ذلك فوق مستوى سطح البحر بالطبع؛ ومِن ثَمَّ، فمن المؤكد أنَّ الأرض قد انخفضت بمقدار عدة آلاف من الأقدام على الأقل وذلك نظرًا لسمك الترسبات الفوقية تحت المائية. غير أنه يؤسفني أنكم ستخبرونني بأنني أضجركم بأوصافي ونظرياتي الجيولوجية …

لقد جعلني سردكِ لزيارة إيرازموس إلى كامبريدج أتوق إلى العودة إلى هناك. ولا يمكنني أن أتخيل شيئًا أكثر بهجةً من جولته التي يقوم بها يوم الأحد إلى كينجز وترينيتي، وإلى هذَين المتحدثَين العملاقَين؛ هيوويل وسيجويك. أتمنى أن تظل مواهبك الموسيقية على الدرجة نفسها من القوة؛ فسوف أكون نهمًا للغاية للاستماع إلى عزفك على البيانو …

إنني لم أُحدِّد بعدُ ما إن كنتُ سأبيت في نُزل «لايون» في أَوَّل ليلةٍ أصل فيها عن طريق «واندر»، أم أُزعجكم جميعًا في سكون الليل، أمَّا فيما عدا ذلك، فكل شيء مُخطَّط تمامًا. إنَّ كل شيء في شروزبيري يبدو في عقلي أكبر وأجمل، وأنا على يقين أنَّ أشجار السنط والزان النحاسي قد أصبحت كبيرة، وسوف أعرف كل أَجَمة، وأُزعجكن أيتها الفتيات وأطلب منكن الاحتفاظ ببعض الأشجار حين تبدأ كلٌّ منكن في قطعها. وأمَّا بالنسبة إلى المنظر من خلف المنزل، فإنني لم أرَ شيئًا مثله. وينطبق الأمر نفسه على شمال ويلز؛ سنودن يبدو في عقلي أعلى وأجمل بكثير من أيِّ قمةٍ في السلسلة الجبلية الموجودة هنا. أعرف أنكِ ستقولين إنه قد حان وقت الرجوع نظرًا لما أصابني من وهنٍ شديد، والواقع أنَّ ذلك صحيح وأنا أتوق لأن أكون معكم. وبغض النظر عن الأشجار، فأنا أعرف الحال التي سأجدكم جميعًا عليها. لقد صرتُ أهذي بالكلام؛ فإلى اللقاء. خالص مودتي إليكم جميعًا، وأنا أرجو المعذرة من أبي.

أخوكِ المحب دائمًا
تشارلز داروين

من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
ليما، يوليو، ١٨٣٥
عزيزي فوكس

لقد تلقيتُ اثنين من خطاباتكَ مؤخَّرًا، أحدهما مرسل في شهر يونيو والآخر في نوفمبر، من عام ١٨٣٤ (بالرغم من ذلك، فقد وصلا إليَّ بترتيبٍ عكسي). لقد سُررتُ للغاية بالاطلاع على أحداث هذه السنة الأهم في حياتك. قبل ذلك، لم أعرف سوى أنكَ قد تزوجت. إنك مسيحيٌّ صادق وتردُّ الإساءة بالإحسان؛ إذ أرسلتَ مثل هذَين الخطابَين لشخصٍ سيئٍ في التواصُل مثلي. فليباركك الرب على الكتابة إليَّ بمثل هذا العطف والود؛ لئن كنتُ أشعر بالسعادة لوجود أصدقاء لي في إنجلترا، فإنَّ هذه السعادة لتصبح مضاعفةً إذ أُدرك أنَّ هؤلاء الأصدقاء لم يَنسَوني بسبب الغياب. إنَّ هذه الرحلة طويلة للغاية، وأنا أرغب في العودة بشدة، غير أنني أهاب المستقبل؛ إذ إنني لا أعرف ما الذي سيصبح عليه حالي. إنَّ وضعك الآن يفوق الحسد: إنني لا أجرؤ حتى على أن أتصوَّر مثل هذه الرؤى السعيدة. إنَّ حياة رجل الدين — بالنسبة للشخص الملائم — ستُوفِّر له الاحترام والسعادة. إنك لتُغريني بالحديث عن مِدفأتك، بالرغم من أنه منظرٌ لا ينبغي لي أن أفكر فيه أبدًا. لقد رأيتُ سفينةً تبحر إلى إنجلترا قبل بضعة أيام، وقد كان خطرًا أن أعرف مدى سهولةِ أنني قد أُصبح هاربًا. وبالنسبة إلى السيدات الإنجليزيات، فقد كدتُ أن أنسى سماتهن الملائكية الطيبة. أمَّا نساء هذه البلاد، فهنَّ يرتدين القبَّعات والتنُّورات الداخلية، وليس بينهن إلا قلة يتمتعن بجمال الوجه، وهذا كل شيء. بالرغم من ذلك، إن لم تتحطم سفينتنا على حيدٍ بحريٍّ تعِس، فسوف أجلس بجوار المِدفأة نفسها في فيل كوتيدج، وأحكي بعض القصص الرائعة، والتي يبدو أنك تنتظرها، والتي أعتقد أنكَ لست مستعدًّا للغاية لتصديقها. الشكر لله أنَّ انتظار مثل هذه الأوقات صار أقرب من ذي قبل.

في غضون أسبوعَين، سنُبحر من «مدينة الملوك» الأكثر بؤسًا هذه، ثم نتجه إلى جواياكيل، وجالاباجوس وماركيساس وجزر سوسايتي وغيرها. وأنا أتطلع إلى زيارة جالاباجوس باهتمامٍ أكبر من اهتمامي بأي جزءٍ آخر في الرحلة؛ فهي تزخر بالبراكين النشطة، ويُفترض أنها تحتوي على طبقاتٍ ثالثية، وهو ما أرجوه. إنني سعيد بسماعي أنك تُفكِّر في البدء في العمل بالجيولوجيا. أتمنى أن تفعل ذلك حقًّا؛ فمجال التأمُّل بها أكبر كثيرًا من أيِّ فرعٍ من فروع التاريخ الطبيعي الأخرى. لقد أصبحتُ نصيرًا مُتحمِّسًا لآراء السيد لايل الواردة في كتابه الجدير بالإعجاب. ودراسة الطبيعة الجيولوجية في أمريكا الجنوبية تُغريني بأن أذهب بالأمور إلى أبعدَ مما ذهب هو. إنَّ اختيار البدء بالجيولوجيا هو اختيارٌ ممتاز؛ فهو لا يتطلب شيئًا سوى بعض القراءة والتفكير والطَّرق على الصخور. لقد جمعتُ مجموعةً كبيرة من الملاحظات، غير أنني أشعر بالحَيرة دائمًا بشأنِ ما إن كانت قيمتها تستحق الوقت الذي بذلَته لجمعها، أم أنَّ جمع الحيوانات كان لَيعود بقيمةٍ أكيدة أكبر.

سوف أكون سعيدًا بالطبع لأن أراك مرةً أخرى وأخبرك بمدى امتناني لصداقتنا المستمرة. ليباركك الرب يا عزيزي الغالي فوكس.

خالص مودتي إليك
صديقك المحِّب
تشاز داروين

من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
سيدني، يناير، ١٨٣٦
عزيزي هنزلو

هذه هي الفرصة الأخيرة للتواصل معك قبل ذلك اليوم السعيد الذي أصل فيه إلى كامبريدج. ليس لديَّ سوى القليل جدًّا من الكلام، غير أنه لا بد لي من الكتابة، ولو لم يكن ذلك لشيء إلا للتعبير عن فرحتي بانتهاء السنة الماضية، وأنَّ الحالية، وهي التي ستعود فيها «البيجل»، تمضي إلى الأمام. جميعنا هنا يشعر بخيبة الأمل؛ إذ إننا لم يصل إلينا خطابٌ واحد؛ وقد وصلنا قبل موعدنا المنتظر بالفعل، وإلا فيمكنني أن أقول بأنني كنت سأقرأ خطابًا لك. لا بد لي أن أتصبر بالمستقبل، وإنه لأمرٌ غاية في السرور أن أشعر باليقين بأنني سأكون مقيمًا مرةً أخرى في هدوء في كامبريدج بعد ثمانيةِ شهور. إن حياة السفر بالتأكيد لا تناسبني؛ فأفكاري تجول دومًا إمَّا في مشاهد الماضي أو المستقبل، ولا يمكنني أن أستمتع بسعادة اللحظة الحالية لانتظار المستقبل، وهو أمرٌ في منتهى الغباء، كفعل الكلب الذي ترك عظمةً حقيقية من أجل ظلها.

في مسيرنا عبر المحيط الهادئ، لم نرسُ إلا عند تاهيتي ونيوزيلاندا، ولم أحظ بفرصة كبيرة للعمل لا في هذين المكانين، ولا في البحر كذلك. تاهيتي مكان ساحر للغاية، وكل ما كتبه الملاحون السابقون عنها، حقيقي؛ «سايثيريا جديدة قد خرجت من المحيط». إن مناظرها الطبيعية الجميلة وطقسها وطباع أهلها، كل ذلك يتناغم معًا. إضافةً إلى ذلك، فإنه لمن الرائع حقًّا أن ترى الأثر الذي خلفته البعثات التبشيرية هناك وفي نيوزيلاندا كذلك. إنني أومن حقًّا بأنهم رجال صالحون يعملون لأجل قضية خيِّرة. وأنا أكاد أجزم بأنَّ مَن أساءوا إلى البعثات التبشيرية أو سخروا منهم، هم على الأرجح من هؤلاء الأشخاص الذين لا يهمهم أنَّ يجدوا السكان الأصليِّين يتمتعون بالأخلاق والذكاء. في الفترة المتبقية من الرحلة، لن نزور من الأماكن إلا ما يُعرف منها بوجهٍ عام بالتمدُّن، وسيكون معظمها تابعًا للعلم البريطاني. سوف تكون هذه الأماكن حقلًا فقيرًا للتاريخ الطبيعي، وقد اكتشفتُ مؤخَّرًا أنه بدون وجود فرصةٍ جيدة في مجال التاريخ الطبيعي، فإنَّ الاستمتاع برؤية الأماكن الجديدة لا يُساوي شيئًا. يجب أن أعود إلى منهلي القديم وأفكر في المستقبل، ولكيلا أسهب أكثر من ذلك، فسوف أقول وداعًا إلى أن يأتي اليوم الذي أرى فيه أستاذي في التاريخ الطبيعي وأستطيع أن أخبره بمدى امتناني لعطفه وصداقته.

خالص مودتي إليك يا عزيزي هنزلو
المخلص لك دائمًا وأبدًا
تشاز داروين

من تشارلز داروين إلى الآنسة إس داروين
باهيا، البرازيل، ٤ أغسطس [١٨٣٦]
عزيزتي سوزان

سأكتب بضعة سطور فقط لأشرح السبب في تأريخ هذا الخطاب على ساحل أمريكا الجنوبية. إنَّ الاختلافات البسيطة في خطوط الطول قد جعلت القبطان فيتزروي متلهِّفًا لإكمال الدائرة في نصف الكرة الأرضية الجنوبي، ثم تتبع خطواتنا ثانية على طريقنا الأَوَّل إلى إنجلترا. ومتابعة السير بهذا الأسلوب المتعرج أمر خطير، وقد كان له أثرٌ سيئ على نفسيتي. إنني أمقت البحر وأبغضه هو وجميع السفن التي تبحر فيه، لكنني ما زلت أعتقد أنَّنا سنصل إلى إنجلترا في النصف الثاني من أكتوبر. عندما كنت في أسينشان، تلقيت خطاب كاثرين المؤرخ في أكتوبر وخطابكِ المؤرخ في نوفمبر، أمَّا الخطاب الذي تلقيته في كيب، فقد كان بتاريخ لاحق، لكن الخطابات بجميع أنواعها هي كنز لا يُقدر بثمن، وأنا أشكركما عليها. إنَّ صحراء أسينشان وصخورها البركانية وبحرها الهائج، اكتست فجأة بهيئة جميلة فور أن عرفت بوصول أخبار من الأهل، وأصبحت مستعدًّا لاستكمال عملي السابق في الجيولوجيا بكل رضا. ستندهشين كثيرًا إذا عرفتِ كيف أنَّ الاستمتاع بمكانٍ جديد يتوقف كليًّا على الخطابات. لم نمكث في أسينشان سوى أربعة أيام، ثم توجهنا إلى باهيا في رحلة رائعة جدًّا.

لم أكن أظن بأنني سأخطو على ساحل أمريكا الجنوبية مجدَّدًا. وقد كان اكتشافي لمقدار الحماس الذي تبخَّر في هذه السنوات الأربع أمرًا لا يخلو من الألم. يمكنني الآن أن أسير بهدوء في الغابات البرازيلية، وذلك ليس لأنها غير جميلة للغاية، وإنما أصبحت الآن، بدلًا من أن أسعى وراء عقد مقارنات مدهشة، أقارن بين أشجار المانجو المهيبة وأشجار كستناء الحصان في إنجلترا. وبالرغم من أنَّ الأسلوب المتعرج هذا قد أضاع علينا أسبوعَين على الأقل، فإنني سعيد به من بعض الجوانب. أعتقد أنه سيمكنني من أن أحمل معي صورة حيوية للمناظر الطبيعية داخل الغابات الاستوائية. سنذهب من هنا إلى الرأس الأخضر، هذا إن سمحت لنا الرياح أو مناطق الركود الاستوائي. ليس لدي سوى أمل ضعيف في وجود تيار مستمر من الرياح القوية، مما قد يشجع القبطان على المتابعة مباشرة إلى منطقة الأزور، وأنا أدعو بإخلاص لوقوع هذا الحدث غير الملائم.

لقد كان خطاباكما يحملان الكثير من الأخبار الجيدة، ولا سيما العبارات التي تقولان إنَّ البروفيسور سيجويك قد استخدمها في الحديث عن العينات التي جمعتها. إنني أقر بأنها مرضية للغاية — وأنا أثق أنَّ جزءًا واحدًا على الأقل سيكون صحيحًا وأنني سأتصرف وفقًا للطريقة التي أفكر بها الآن — وهي أنَّ أيَّ شخصٍ يجرؤ على إهدارِ ساعةٍ من وقته، هو شخصٌ لم يعرف قيمة الحياة. إنَّ مُجرَّد ذكر البروفيسور سيجويك لاسمي يمنحني الأمل في أن يساعدني بتقديم النصيحة لي، والتي أنا في أشد الحاجة إليها في مسائلي الجيولوجية. لا حاجة لي بأن أخبركم أنني أكتب وأنا في سباق مع الزمن؛ إذ يتضح ذلك من هذه الكتابة السريعة المخزية؛ ذلك أنني كنت بالخارج طوال فترة الصباح، والآن، ثَمَّةَ غرباء على متن السفينة، وعليَّ أن أذهب وأتحدث إليهم بأدب وكياسة. وثَمَّةَ أمر آخر كذلك، وهو أنَّ هذا الخطاب سيذهب في سفينةٍ أجنبية؛ لذا، فليس من المؤكد إن كان سيصل أم لا. وداعًا يا عزيزتي الغالية سوزان، والوداع إليكم جميعًا. إلى اللقاء.

سي داروين

من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
سانت هيلينا، ٩ يوليو، ١٨٣٦
عزيزي هنزلو

سوف أطلب منكَ أن تُسدي لي صنيعًا. إنني متلهِّفٌ للغاية على الانضمام إلى الجمعية الجيولوجية، ولستُ أدري بشأن هذا الأمر لكنني أعتقد أنه يلزم التقدُّم بطلب الانضمام قبل أن يجري الاقتراع عليه؛ فإن كانت تلك هي الحال، فهلا تكرَّمتَ بإجراء الخطوات التحضيرية المناسبة؟ لقد تكرم البروفيسور سيجويك ووعدني بأنه سيُقدِّم الطلب قبل أن يغادر إنجلترا، إن كان في لندن. ويمكنني أن أقول إنَّ الاحتمال لا يزال قائمًا بأنه قد يفعل ذلك.

ليس لديَّ سوى القليل جدًّا لأكتبه؛ إذ إننا لم نرَ أو نفعل أو نسمع شيئًا مميَّزًا منذ فترةٍ طويلة مضت، أمَّا في الوقت الحاضر، فأعتقد أننا، إن رأينا أمامنا عجائب كوكب آخر، سوف نصرخ جميعًا في دهشة: يا له من وباءٍ تام! لم يحدث قط من قبلُ أن غنَّى أحدٌ من الطلاب أغنية «البيت الجميل» («دولاس دومام») التي تجمع بين الشجن والمرح، بعاطفة أكثر توهُّجًا مما نشعر جميعًا بأننا نرغب في غنائها بها. غير أنَّ موضوع «البيت الجميل» برُمَّته، وسرور المرء برؤية أصدقائه، لهو أَمرٌ خطير للغاية؛ إذ إنه ولا ريب يجعل المرء كثير الإسهاب أو كثير الصخَب. أوه، كم أتوق إلى الحياة الهادئة مرةً أخرى، دون وجود شيءٍ واحد جديد بالقرب مني! لا يمكن لأحدٍ أن يشعر بهذا إلى أن يدور حول العالم مثلي على مدى خمسةِ أعوامٍ بأكملها على متن سفينةٍ ثلاثية الصواري تحمل عشَرةَ مدافع. إنني أعيش الآن في منزلٍ صغير (بين السحب) يقع في قلب الجزيرة، على مقربة شديدة من مقبرة نابليون. تهب الآن عاصفة من الرياح والمطر الغزير مع الصقيع. ولئن كان شبح نابليون يسكن محبسه الكئيب، فإنَّ هذه الليلة ستكون رائعة لمثل هذه الأشباح الهائمة. أتمنى أن أتمكن من التعرف بعض الشيء على الطبيعة الجيولوجية للجزيرة (والتي لم توصف في الغالب إلا بنحو جزئي)، إذا سمح لي الطقس بذلك. وأنا أعتقد أنَّ تركيبها أكثر تعقيدًا على العكس من معظم الجزر البركانية. ويبدو غريبًا أنَّ تلك الرقعة الصغيرة التي تمثل مركز هذا التكوين المميز من المفترض أن تحمل علامات الارتفاع الحديثة، كما تؤكد النظرية.

ستتابع «البيجل» رحلتها من هذا المكان إلى أسينشان، ثم إلى الرأس الأخضر (يا لها من مناطق بائسة!) ثم بعد ذلك، ستتجه إلى الأزور، ثم إلى بليموث، ثم إلى الوطن. غير أنَّ اليوم الأكثر روعة في حياتي على الإطلاق لن يحل حتى منتصف أكتوبر. وفي يوم من ذلك الشهر، سوف تراني في كامبريدج، حيث سآتي إليك مباشرة أبلغك بحضوري، بصفتك قائد البحرية بالنسبة لي. في رأس الرجاء الصالح، كنا نشعر جميعًا بخيبةِ أملٍ مريرة لافتقادنا خطاباتِ تسعةِ أشهر والتي كانت تُلاحقنا بين أنحاء العالم. أعتقد أنه كان من بينها خطاب منك؛ إنني لم أرَ خط يدك منذ وقت بعيد، لكنني سأراك بشخصك قريبًا، وذلك أفضل بكثير. ولأنني تلميذك، فواجبك أن تتولى مهمة انتقادي وتوبيخي على جميع الأمور التي أسأت في فعلها، والأمور التي لم أفعلها على الإطلاق، وهو ما سأحتاج إليه كثيرًا بكل أسف، لكنني آمل خيرًا، وأنا على يقين من أنَّ لديَّ مشرفًا جيِّدًا، وإن لم يكن متساهلًا بدرجةٍ كبيرة.

في رأس الرجاء الصالح، حالفَني أنا وفيتزروي وافر الحظ في أن ننول تلك الفرصة الرائعة المتمثلة في لقاء السير جيه هيرشيل. لقد تناولنا العَشاء في منزله ورأيناه بضع مراتٍ أخرى. وقد كان كريم الطباع للغاية، غير أنَّ سلوكه قد بدا لي مُروِّعًا بعض الشيء في بداية الأمر. إنه يعيش في منزلٍ ريفي مريح للغاية، وتحيط به أشجار التنوب والبلوط، وهي كفيلةٌ وحدَها بأن تمنحني أجمل أجواء العزلة والراحة في مثل هذا الريف الفسيح. يبدو على الرجل أنه يجد وقتًا لكلِّ شيء؛ فقد أرانا حديقةً جميلة تزخر بالنباتات البصلية التي تنمو في هذا الإقليم، والتي قد جمعها هو بنفسه، وقد فهمتُ بعد ذلك أنَّ كل شيءٍ من عمل يديه. إنني بليدٌ للغاية وليس لديَّ المزيد لأقوله؛ فالرياح تُصفِّر بعُوائها الحزين على التلال الكئيبة، ولهذا فسوف أخلُد إلى النوم وأحلُم بإنجلترا.

طابت ليلتك يا عزيزي هنزلو.

وإليك خالص الحب والامتنان
تشاز داروين

من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
شروزبيري، الخميس، ٦ أكتوبر، [١٨٣٦]
عزيزي هنزلو

إنني واثق في أنكَ ستهنئني على سعادتي بعودتي إلى البيت مجددًا. لقد وصلت «البيجل» إلى فالموث في مساء الأحد، ووصلت أنا إلى شروزبيري صباح الأمس. إنني متلهِّف لرؤيتك للغاية؛ ونظرًا لأنه يتحتم عليَّ أن أعود إلى لندن في خلال أربعة أيام أو خمسة لكي أحصل على أغراضي الشخصية من «البيجل»، فإنني أعتقد أنَّ الخطة الأنسب هي أن أَمُر بكامبريدج. إنني أريد مشورتك في العديد من النقاط؛ فأنا حائر للغاية بالفعل ولا أدري ماذا أفعل ولا في أيِّ اتجاهٍ أسير. وأكثر ما يثير حيرتي هي العينات الجيولوجية: مَن سيتطوع لمساعدتي في وصف طبيعة تركيبها المعدني؟ هلا تكرمت بإرسال خطاب قصير لي «فور أن تتسلم الخطاب» تخبرني فيه بما إذا كنت في كامبريدج أم لا. ما زلت غير متأكدٍ مما إذا كان يجب عليَّ البدء في الرحلة قبل أن تصلني أخبار من القبطان فيتزروي أم لا، لكنني أتمنى أن تسنح الفرصة لتنفيذ خطتي. إنني أشتاق إلى رؤيتك جدًّا يا عزيزي هنزلو؛ لقد كنت لي أفضل صديق يمكن للمرء أن يفوز به. لا يمكنني أن أكتب أكثر من ذلك؛ فرأسي يميد بالفرحة والحيرة.

إلى لقاء قريب
خالص امتناني إليك
تشارلز داروين

من تشارلز داروين إلى آر فيتزروي
شروزبيري، صباح الخميس، ٦ أكتوبر، [١٨٣٦]
عزيزي فيتزروي

لقد وصلت إلى هنا صباح الأمس في وقت الإفطار، والشكر للرب أنني قد وجدت أبي وجميع أخواتي العزيزات بخير. يبدو أبي أكثر ابتهاجًا وأكبر سنًّا قليلًا عما تركته عليه. وأخواتي يؤكدن لي أنه ما من اختلاف على الإطلاق قد طرأ على هيئتي، ويمكنني أن أرُدَّ لهنَّ المجاملة نفسها. لا شك في أنَّ إنجلترا بأكملها تبدو مختلفة، إلا مدينة شروزبيري العزيزة الغالية وساكنيها، اللذَين، رغم كل ما أستطيع رؤيته، قد يظلان على حالهما الحالي إلى يوم الدينونة. إنني أتمنى من كل قلبي لو أنني كنتُ أكتب إليكَ وأنت بين أصدقائك، بدلًا من بليموث البغيضة تلك، لكن قريبًا سيأتي اليوم الذي تشعر فيه بالسعادة التي أشعر بها الآن. أؤكد لك أنني قد أصبحتُ رجلًا رائعًا في المنزل؛ فتلك السنوات الخمس التي قضيتُها في الرحلة قد جعلتني بالتأكيد ناضجًا تمامًا، ويؤسفني أنَّ مثل هذا السلوك الرائع سيتأثر سلبًا لا ريب.

إنني أشعر بالخجل الشديد من نفسي بسبب تلك الحالة التي انتابتني في الأيام القليلة الأخيرة على متن السفينة والتي كنتُ فيها بين الحياة والموت، وعذري الوحيد هو أنني لم أكن بخير. لقد كان اليوم الأول في عربة البريد مُرهقًا، لكن مع اقترابي من شروزبيري، بدا كل شيء أجمل وأكثر بهجة. وفي أثناء مروري بجلوسترشير ووسترشير، تمنيتُ كثيرًا أن تستمع بالحقول والغابات والبساتين. إنَّ هؤلاء الركاب الحمقى في العربة لم يبدُ عليهم أنهم يُدركون أنَّ الحقول أصبحت أكثر اخضرارًا من المعتاد، لكنني أثق بأننا كنا سنتفِق تمامًا على أنَّه ما من مشهدٍ يبعث على السعادة في هذا العالم الفسيح بأكمله أكثر من الأرض الخِصبة المزروعة في إنجلترا.

أتمنى ألا تنسى أن تبعث لي بخطابٍ تخبرني فيه بأحوالك. وأتمنى حقًّا أن تكون كل أسباب قلقك ومتاعبك المتعلقة برحلتنا، والتي نعلم الآن أنَّها «من المفترض» أن تنتهي قد انتهَت بالفعل. إذا لم تكن تشعُر بقدْرٍ كبير من الرضا عن كل هذه الطاقة الجسدية والذهنية التي بذلتَها في خدمة جلالة الملك، فسوف يكون من الصعب جدًّا أن تتعافى. لقد أغضبت أخواتي المتطرفات بشأن بعض الإجراءات المتحفظة (كنت سأقول الرديئة، إن لم يكُنَّ صادقاتِ التأييد لحزب الأحرار) التي تتخذها الحكومة. وبالمناسبة، ينبغي عليَّ أن أخبرك، لأجل شرف عائلتنا وإبائها، أنَّ أبي يمتلك صورةً كبيرة للملك جورج الرابع يُعلِّقها في غرفة الجلوس الخاصة به. غير أنني لن أرتدَّ عن آرائي، وحين نلتقي، سوف تكون آرائي السياسية على القَدْر نفسه من الرسوخ والتأسيس العقلاني كما كانت دائمًا.

لقد ظننت حين بدأت هذا الخطاب بأنني سوف أقنعك بأنني في حالة ذهنية مستقرة ومتزنة، غير أنني أرى أنني لا أكتب سوى محض هراء. أمس بدأ على الفور اثنان أو ثلاثة من العاملين لدينا في الشراب وثملوا للغاية على شرف وصول السيد تشارلز؛ فمن سينفي عندئذ إن كان السيد تشارلز نفسه يختار أن يجعل من نفسه أضحوكة؟ ليباركك الرب! أتمنى أن تكون سعيدًا مثل فيلسوفك المخلص، غير الجدير بهذا اللقب، لكن أكثر حكمة منه.

تشاز داروين

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤