الفصل السابع

لندن وكامبريدج

١٨٣٦–١٨٤٢

[تتضمن الفترة التي تمثلها هذه الخطابات، السنوات فيما بين عودة والدي من رحلة «البيجل» واستقراره في داون. وهي تتسم ببدء ظهور علامات اعتلال الصحة عليه، والذي أجبره في النهاية على مغادرة لندن والإقامة في منزل ريفي هادئ حتى آخر أيام حياته. في يونيو من عام ١٨٤١، كتب إلى لايل: «يبدو أنَّ أبي لا يتوقع أن أصبح قويًّا إلا بعد بضع سنوات، وقد كان هوانًا مريرًا لي أن أدرك حقيقة أنَّ «السباق للأقوى»، وأنني من المحتمل أن أضيف قدرًا ضئيلًا إلى العلم في المستقبل، وسأكتفي بالإعجاب بما يقطعه غيري من أشواط في مجال العلوم.»

لا يُوجد دليل على نيته بالالتحاق بأيِّ مهنة بعد عودته من الرحلة، وفي بداية عام ١٨٤٠، كتب إلى فيتزروي: «إنني لا أتمنى شيئًا سوى أن تتحسن صحتي لكي أتابع العمل على الموضوعات التي قررت بسعادةٍ أن أُخصِّص حياتي لها.»

إنَّ هذين الأمرين — اعتلال الصحة الدائم والشغف الخالص بالعمل في مجال العلوم — شكَّلا حياته المستقبلية بأكملها، في وقت مبكر من حياته العملية. لقد دفعتاه إلى أن يحيا حياة من الانعزال والعمل الدءوب، مع بذل أقصى قَدْر من طاقته الجسمانية، وهي حياة تنفي على نحوٍ واضح ما كان يتنبأ به من الكآبة.

شَهِدتُ نهاية الفصل السابق وصول أبي سالمًا إلى شروزبيري في ٤ أكتوبر ١٨٣٦، «بعد غياب خمسةِ أعوامٍ ويومَين». وقد كتب إلى فوكس: «لا يمكنك أن تتخيل مدى الروعة والبهجة التي كانت عليها زيارتي الأولى إلى المنزل؛ إنها تستحق هذا الاغتراب.» غير أنَّها مسرة لم يستطع أن يستمتع بها لفترةٍ طويلة؛ ففي آخر أيام شهر أكتوبر، ذهب إلى جرينتش لإحضار عيناته من «البيجل». وبالنسبة إلى وجهة مجموعات عيناته، نجد أنه يكتب إلى هنزلو بشيء من الإحباط قائلًا:

لم أُحرز تقدمًا كبيرًا مع رجال العلم العظام؛ فقد وجدتهم، كما أخبرتني، مُنهمكِين للغاية في أعمالهم الخاصة. لقد تطوع السيد لايل وتكرَّم «للغاية» بمساعدتي في جميع خططي، غير أنه يخبرني بالأمر نفسه، وهو أنَّه ينبغي عليَّ القيام بجميع العمل بنفسي. ويبدو السيد أوين متحمسًا لتشريحِ بعض الحيوانات؛ وبخلاف هذَين الرجلَين، لم ألتقِ أحدًا يُبدي الرغبة في العمل على أيٍّ من عيناتي. ولا بد لي أن أستثني هنا الدكتور جرانت؛ فهو يرغب في فحص بعض المرجانيات. إنني أرى أنه من غير المعقول أن آمل ولو للحظةٍ في أن يتولى رجلٌ واحدٌ مهمةَ فحصِ رتبةٍ بأكملها. ومن الواضح أنَّ عدد الجامعِين يفوق عدد علماء التاريخ الطبيعي بكثير؛ لذا، ليس لديهم من وقت فراغ يبذلونه في سبيل فحص عيناتي.

إنني أجد أنَّ حتى أماكن عرض المجموعات لا ترغب في استقبال العينات غير المسماة. إنَّ متحف جمعية علم الحيوان ممتلئ تقريبًا، وما تزال هناك ألف عينة إضافية لم تُعرض بعد. أعتقد أن المتحف البريطاني سيستقبلها، لكن، وفقًا لما أسمعه، فإنني لا أُكنُّ احترامًا كبيرًا لتلك المؤسسة بوضعها الحالي. لن تكون خطتك هي الأفضل فحسب، بل أيضًا هي الخطة الوحيدة: الذهاب إلى كامبريدج وترتيب العائلات المختلفة وتجمعيها معًا، ثم انتظار بعض الأشخاص الذين يعملون بالفعل في فروع مختلفة أن يرغبوا في الحصول على بعض هذه العينات. غير أنه يبدو لي أنَّ القيام بذلك سيتطلب الإقامة في لندن. وأفضل خطة أراها حتى الآن هي أن أقضي عدة أشهر في كامبريدج، وبعد أن تتضح لي الرؤية، بمساعدتك، أنتقل إلى لندن حيث أتمكن من الانتهاء من عملي في مجال الجيولوجيا، وإحراز تقدم أكبر في مجال علم الحيوان. إنني أؤكد لك أنه يؤسفني أنَّ أرى أنَّ أمورًا كثيرة تجعلني أدرك ضرورة الإقامة في تلك المدينة القذرة الكريهة المسماة لندن. فحتى في الجيولوجيا، أعتقد أنَّ الأمر سيتطلب قدْرًا كبيرًا من المساعدة والتواصل في هذا المكان: الحفريات العظمية، على سبيل المثال، لم يُفحص منها سوى أجزاء حفرية البهضم، وها أنا أرى بوضوح أنَّ ذلك ما كان ليحدث لولا وجودي هناك …

ليتني كنت أعرف أنَّ علماء النبات يولون اهتمامًا كبيرًا للعينات، بينما لا يوليها علماء الحيوان، سوى القدر الضئيل؛ فقد كان ينبغي أن تتخذ النسبة بين أعداد نوعي العينات، شكلًا مختلفًا. لقد نفد صبري مع علماء الحيوان، وليس ذلك بسبب أعباء عملهم الزائدة، وإنما بسبب طباعهم الخبيثة العدوانية. لقد ذهبت في مساء أحد الأيام إلى جمعية علم الحيوان، ووجدت المُتحدثِين فيها يتشاجرون بعضهم مع بعض بأسلوب هو بعيدٌ كل البعد عن خصال الأفاضل من الرجال. الشكر للرب أنه ما من خطرٍ بالخوض في مثل تلك المشاجرات الذميمة ما دمت في كامبريدج، أمَّا في لندن، فلست أرى طريقًا لتجنبها. بالنسبة إلى علماء التاريخ الطبيعي، فإن إف هوب خارج لندن، ولم ألتقِ بويستوود؛ لذا، فإنني لا أعرف شيئًا عن مصير حشراتي. لقد التقيتُ بالسيد ياريل مرتَين، لكن من الواضح جدًّا أنَّه محمَّل بالكثير من أعباء العمل؛ ولهذا فسوف تكون أنانيةً مني أن أُبليه بمشاغلي. لقد طلب مني حضور العشاء مع أعضاء الجمعية اللينية يوم الثلاثاء، ومع أعضاء الجمعية الجيولوجية يوم الأربعاء؛ كي أتمكن من رؤية جميع رجال العلم العظماء. وقد سمعت أنَّ السيد بيل منشغل للغاية؛ فما من فرصة في أن يرغب في الحصول على بعض عينات الزواحف. لقد نسيت أن أذكر السيد لانسدايل [الأمين المساعد للجمعية الجيولوجية]، وهو الذي استقبلني استقبالًا وديًّا للغاية، وحظيت معه بمحادثة هي الأكثر إمتاعًا. إن لم أكن أميل إلى الجيولوجيا بدرجةٍ أكبر كثيرًا من ميلي إلى بقية فروع التاريخ الطبيعي، فأنا أثِق بأنَّ عطف السيد لايل والسيد لانسدايل كانا سيصبحان كفيلَين بإصلاح ذلك الأمر. لا يمكنك أن تتخيل أيَّ شيءٍ أكثر ودية من تلك الطريقة التي أخلص بها السيد لانسدايل نفسه تمامًا في أن يضع نفسه في مكاني للتفكير في أفضلِ خطوةٍ يجب القيام بها. لقد كان يرى في البداية أنَّ الإقامة في لندن أفضل من كامبريدج، لكنني قد جعلتُه يعتقد في النهاية أنَّ الإقامة في كامبريدج ستكون هي الأنسب لي، وإن كان ذلك لبعض الوقت على الأقل. ما من شخصٍ آخر يمكنني أن أطلب منه أن يتحمل مشقة قراءة بعض الأوراق التي تركتها معك ونقدها سواك. وقد كان رأي السيد لايل أنَّ كامبريدج هي المكان الأفضل لعلماء التاريخ الطبيعي بعد لندن. أقسم لك إنني أشعر بالخجل من نفسي لكتابة الكثير من التفاصيل التافهة؛ إنَّ الشابات الصغيرة حتى لا يصِفن أُولى الحفلات الراقصة التي حضرنها بمثل هذا التفصيل.

بعد ذلك ببضعة أيام قليلة، يكتب بنبرةٍ أكثر ابتهاجًا قائلًا: «لقد تعرفت على السيد بيل [وهو تي بيل، زميل الجمعية الملكية، والأستاذ السابق لعلم الحيوان بكلية كينجز كوليدج في لندن، والذي شغل منصب أمين الجمعية الملكية لبعض الوقت، ووصف بعد ذلك الزواحف في «دراسة حيوانات رحلة «البيجل»»]، وقد أدهشني أنه عبَّر عن اهتمامه الكبير بعينات القشريات والزواحف التي جمعتها، وهو يبدو راغبًا في العمل عليها. وقد سمعت أيضًا أنَّ السيد برودريب سيسره فحص أصداف أمريكا الجنوبية؛ وبهذا، فإنَّ أموري تسير على خيرِ ما يُرام.»

وأمَّا بالنسبة إلى نباتاته، فهو يكتب عن جهله بها بصراحةٍ بارزة: «لقد جعلتني معروفًا بين علماء النبات، لكنني شعرت بأنني أحمق للغاية حين علَّق السيد دون على الشكل الجميل لنباتٍ ذي اسمٍ طويل للغاية، وسألني عن موطنه الأصلي. وقد بدا آخر مندهشًا من أنني لا أعرف شيئًا عن أحد أنواع السعادي الذي أجهل موطنه. وفي نهاية الأمر، اضطُررت إلى أن أُقر بجهلي الشديد وأنني لا أعلم عن النباتات التي جمعتُها أكثر مما أعرف عن الإنسان الموجود على القمر.»

وبالنسبة إلى جزء من مجموعته الجيولوجية، فقد تمكن بعد ذلك بفترة قصيرة من أن يكتب: «لقد وزَّعت الجزء الأهم من مجموعتي الجيولوجية؛ إذ أعطيتُ جميع الحفريات العظمية لكلية الجراحين، وسوف تُوزَّع قوالبها وتُنشَر أوصافها. وهي حفريات غريبة وقيمة: إنَّ بها رأسًا لأحد الحيوانات القارضة في حجمِ فرس النهر! وهناك أخرى لأحدِ آكلي النمل في حجم الحصان!»

ويجدر بنا أن نذكر هنا أنَّه في ذلك الوقت لم يُوصف من بقايا الثدييات المنقرضة التي جرى إحضارها من أمريكا الجنوبية سوى تلك الخاصة بحيوان الصناجة (ثلاثة أنواع) وحيوان البهضم. ولم تكن بقايا أحافير الدرداوات المنقرضة التي كانت ضمن مجموعة السير وودباين باريش قد وُصِفت. وتضمَّنَت عينات والدي (إضافةً إلى التوكسدون والسليدوثيريوم السابق ذكرهما) بقايا المايلودون والجلوسوثيريوم، وحيوانًا آخر ضخمًا يشبه آكل النمل والماكروكينيا. ولا يزال اكتشافه لهذه البقايا أمرًا مثيرًا للاهتمام في حدِّ ذاته، غير أنَّ له أهميةً خاصة في حياته؛ إذ إنَّ ذلك الانطباع القوي الذي تولَّد عن استخراجها بيدَيه هو الذي شكَّل إحدى نقاط الانطلاق الأساسية لنظريته عن أصل الأنواع. [لقد سمعته أكثر من مرة يتحدث عن يأسه الذي دفعه إلى كسر الطرف البارز لعظمةٍ كبيرة لم تُستخرج بأكملها؛ إذ إنَّ القارب الذي كان ينتظره لم يكن لِينتظرَ أكثر من ذلك.] ويتضح ذلك في الفقرة التالية التي نجدها في مُفكِّرة جَيبِه لذلك العام (١٨٣٧): «في يوليو، بدأت الكتابة عن تحول الأنواع الحية لأول مرة. ومنذ شهر مارس الماضي تقريبًا، وأنا أفكر كثيرًا في طبيعة أحافير أمريكا الجنوبية والأنواع الحية في أرخبيل جالاباجوس. وهذه الحقائق (ولاسيما المتعلقة بالأخيرة) هي الأصل الذي تفرعت عنه جميع آرائي».]

(١) ١٨٣٦-١٨٣٧

من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
٤٣ شارع جريت مالبوره
السادس من نوفمبر [١٨٣٦]
عزيزي فوكس

لقد استغرق مني الرد على خطابك وقتًا طويلًا للغاية؛ مما يدعوني إلى الخجل من نفسي، لكن أكثر أوقاتي انشغالًا في الرحلة يُعد هو السكينة نفسها مقارنةً بهذا الشهر الأخير. بعد أن زرت هنزلو زيارة سعيدة بالرغم من قصر مدتها، أتيت إلى المدينة انتظارًا لوصول «البيجل». وأخيرًا، أخذت جميع أغراضي من فوق متن السفينة، وأرسلت عينات التاريخ الطبيعي إلى كامبريدج، وبهذا، فقد أصبحت الآن حرًّا. لم يحدث في زيارتي إلى لندن الكثير فيما يتعلق بالتاريخ الطبيعي، لكنها كانت فترة ممتعة ومثيرة من التفاعل مع سادة العلم. إنَّ جميع أحوالي على خير ما يرام بكل تأكيد؛ فقد وجدتُ العديد من الأشخاص الذين سيتولون مهمة وصف قبائل بأكملها من الحيوانات التي لا أعرف عنها شيئًا. وبهذا، فإنني آمل أن أبدأ في هذا اليوم من هذا الشهر في العمل بأقصى جهدي في الجيولوجيا، والذي سوف أنشر نتائجه بمفردها.

إنه لأمر غريب للغاية أن أشعر أنَّ المدة التي قضيتها منذ أن رسونا في فالموث طويلة للغاية. والحق أنني قد تحدثت وضحكت بما يكفيني لسنوات لا أسابيع؛ لذا فإنَّ كل هذا الضجيج قد أربك ذاكرتي بعض الشيء. يسعدني أن أعرف أنك قد تحولت إلى دراسة الجيولوجيا: حين أزور جزيرة وايت، وأنا متأكد من المرور بها بطريقة ما، سوف تكون أنت دليلًا مهمًّا ترشدني بشأن خط الخلع الشهير. إنني أعتقد حقًّا أنَّ بضعة أماكن في العالم تثير اهتمام علماء الجيولوجيا أكثر من جزيرتك. من بين جميع رجال العلم العظام، فإنَّ لايل هو الأكثر طيبة وودًّا. لقد التقيت به مرات عديدة، وأشعر أنني أُكنُّ له كثير الإعجاب. لا يمكنك أن تتخيل كيف أنه قد ساعدني في جميع خططي بكل كرم. إنني أتحدث الآن عن اللندنيِّين فحسب؛ فقد كان هنزلو كسابق عهده تمامًا؛ ومن ثَمَّ، فقد كان أكثر الأصدقاء إخلاصًا وودًّا. حين تزور لندن، فسوف أفتخر كثيرًا باصطحابك إلى الجمعية الجيولوجية، ولتعرف أنني كنت مرشحًا لنيل لقب زميل الجمعية الجيولوجية يوم الثلاثاء الماضي، غير أنه من المؤسف حقًّا أنَّ مثل هذا اللقب وكذلك الألقاب الأخرى، لا سيما لقب زميل الجمعية الملكية، باهظة الثمن للغاية.

لن أتردد في أن أطلب منك أن تكتب لي خطابًا في غضون أسبوع وترسله إلى شروزبيري؛ فأنت كاتب جيد للخطابات، وعلى الأشخاص الذين يتمتعون بشخصية جيدة أن يدفعوا الثمن.

إلى اللقاء يا عزيزي فوكس
المخلص لك
سي دي
[ولما كانت أموره تسير هكذا على خيرِ ما يُرام حتى ذلك الوقت، فقد تمكن من تنفيذ خطته بالإقامة في كامبريدج، التي استقر بها في العاشر من ديسمبر عام ١٨٣٦. في بداية إقامته، حل ضيفًا في منزل آل هنزلو المريح، لكنه انتقل بعد ذلك للإقامة في غرفة بكليته، من أجل العمل دون مقاطعة. مِن ثَمَّ، في الثالث عشر من مارس عام ١٨٣٧، يكتب إلى فوكس من لندن:

لقد كانت إقامتي في كامبريدج أطول مما توقعت، وذلك بسبب عملٍ كنت قد عزمت على إنهائه هناك: وهو فحص جميع عيناتي الجيولوجية. لا تزال كامبريدج مكانًا لطيفًا للغاية، لكنها لم تعُد تتسم ولو بنصف البهجة التي كانت عليها من قبل؛ فالسير في ساحات كلية كرايست بينما لا أعرف أيَّ شخصٍ من ساكني الغرف هناك قد أشعرني بالكآبة إلى حدٍّ ما. والمثلَبة الوحيدة التي وجدتُها في كامبريدج هي أنها مبهجة للغاية؛ فثَمَّةَ حفلةٌ لطيفة أو غيرها كل ليلة، ولا يمكن للمرء هناك أن يفلت من حضور هذه الحفلات بقوله إنه منشغل في العمل مثلما يمكن له أن يفعل في هذه المدينة العظيمة.

يُوجد ذكرٌ طفيف لإقامة والدي في كامبريدج في السجلات التي تُدوَّن فيها الغرامات والرهانات، وهي تُوجد في غرفة الاستراحة بكلية كرايست، وتعطينا السجلات الأقدم انطباعًا غريبًا عن الحالة المزاجية للشباب في فَترةِ ما بعد العَشاء. لم يكُن يُسمح بأن تكون الرهانات على المال، وإنما كانت على زجاجات النبيذ، مثلها في ذلك مثل الغرامات. وأمَّا الرهان الذي قدَّمه أبي وخسره، فهو مسجل على النحو التالي:
٢٣ فبراير ١٨٣٧، السيد داروين في مقابل السيد بينس: قياس غرفة الاستراحة من السقف إلى الأرضية يساوي أكثر من «س» قدم.
زجاجةُ واحدة تُقدم في اليوم نفسه.
ملحوظة: يمكن للسيد داروين أن يأخذ القياس من أيِّ جزءٍ يرغب فيه في الغرفة.
إضافةً إلى ترتيب العينات المرتبطة بالجيولوجيا وعلم المعادن، كان يعمل على عمله «يوميات الأبحاث»، وهو ما كان يشغل أمسياته في كامبريدج. كما أنه قد قرأ ورقة بحثية قصيرة أمام جمعية علم الحيوان،1 وورقة بحثية أخرى أمام الجمعية الجيولوجية2 عن الارتفاع الحديث لساحل تشيلي.
في بداية ربيع عام ١٨٣٧ (السادس من مارس)، انتقل من كامبريدج إلى لندن، وبعد أسبوع، استقر في منزل يقع في ٣٦ شارع جريت مالبوره، وباستثناء «زيارة قصيرة قام بها إلى شروزبيري»، فقد استمر في العمل حتى شهر سبتمبر، وكان يقضي كل وقته تقريبًا في العمل على عمله «يوميات الأبحاث». بالرغم من ذلك، فقد استطاع أن يجد وقتًا لتقديم ورقتين بحثيتين أمام الجمعية الجيولوجية.3
وهو يكتب عن عمله إلى فوكس (مارس ١٨٣٧) قائلًا:

في خطابك الأخير، كنت تحثني على إعداد «الكتاب». ها أنا الآن أجتهد في العمل فيه، وقد تخليتُ عن كلِّ شيءٍ آخر لأجله. وخطتنا هي كالتالي: سيكتب القبطان فيتزروي مجلدَين عن المواد التي جُمعت خلال الرحلة السابقة إلى تييرا ديل فويجو بقيادة كينج، وكذلك المواد التي جُمعت خلال رحلتنا. أمَّا أنا، فسوف أكتب المجلد الثالث، والذي أخطِّط لأن أجعله على هيئة مذكراتِ عالم في التاريخ الطبيعي، دون اتباع ترتيب زمني على الدوام، بل سأرتب الحديث حسب المكان. وسوف تشغل عادات الحيوانات جزءًا كبيرًا منه، وسيكتمل هذا المزيج بعرض سريع للطبيعة الجيولوجية للبلاد ووصف مظهرها مع تقديم بعض التفاصيل الشخصية. بعد ذلك، سأكتب عن الجانب الجيولوجي بالتفصيل، وأقوم بالإعداد لبعض الأوراق البحثية في علم الحيوان؛ ومن ثَمَّ، يصبح لديَّ قدْرٌ كبير من العمل أقوم به على مدى العام القادم أو العامَين القادمَين، ولن أمنح نفسي أيَّ عطلةٍ حتى أنتهي منه.

وفي خطاب آخر إلى فوكس (يوليو)، يذكر التقدم الذي أحرزه في عمله:

لقد منحت نفسي عطلة وذهبت في زيارة إلى شروزبيري [في يونيو] فقد انتهيت من كتابة عملي «يوميات الأبحاث» وسوف أكون منشغلًا للغاية في سد الفجوات الموجودة به وإعداده ليكون جاهزًا للطباعة بحلول الأول من أغسطس. سوف أُكنُّ احترامًا على الدوام لكلِّ مَن ألَّف كتابًا، بصرف النظر عما يكون هذا الكتاب؛ إذ إنني لم يكن لديَّ أدنى فكرة عما يمكن أن يلقاه المرء من مشقةٍ في الكتابة باللغة الإنجليزية الدارجة. ومن المؤسف أنَّني لم أنتهِ من الجزء الأسوأ بعدُ، وهو تصحيحُ بروفاتِ الطباعة. وفور أن أنتهي من ذلك تمامًا، يجب عليَّ أن أَشحَذ كلَّ طاقتي وعزمي وأبدأ في العمل في مجال الجيولوجيا. لقد قرأتُ بعض الأوراق البحثية القصيرة أمام الجمعية الجيولوجية، وقد نالتِ استحسانًا كبيرًا من جانبِ كبارِ المُتخصِّصِين، مما يمنحني قدْرًا كبيرًا من الثقة، وأرجو ألا يتولَّد لديَّ قدْرٌ كبير من الخُيلاء، رغم أنني أعترف بأنني كثيرًا ما أشعر وكأنني طاوُسٌ مزهوٌّ بذيله. إنني لم أكن أتوقَّع قط أن إنتاجي في مجال الجيولوجيا سوف يحظى بتقديرِ رجلٍ مثل لايل، والذي أصبح بالنسبة لي صديقًا غايةً في النشاط منذ عودتي. إنَّ حياتي تمتلئ بالكثير من الأعمال في الوقت الراهن، وأتمنى أن تظل على هذه الحال دومًا، رغم أن الله وحده يعلم ما لمثل هذه الحياة من مثالبَ خطيرة، تلك التي أبرزها أنَّ المرء لا يستطيع رؤية أصدقائه الطيبين. لقد كنت أتوق بشدة على مدى السنوات الثلاث الماضية بأكملها إلى العيش في شروزبيري، والآن بعد كل هذا، فإنني لم أرَ أهلي الأعزاء في شروزبيري إلا لأسبوع واحد بعد غياب عدة شهور. غير أنَّ سوزان وكاثرين كانتا تقيمان هنا مع أخي لِبضعةِ أسابيع، لكنهما عادتا إلى المنزل قبل زيارتي.

إضافةً إلى العمل الذي ذكرناه بالفعل، كان لدَيه الكثير مما يشغله فيما يتعلق بالترتيب لنشر كتاب «دراسة حيوانات رحلة «البيجل»». وتوضح الخطابات التالية هذا الموضوع.]

من تشارلز داروين إلى إل جينينز
٣٦ شارع جريت مالبوره
١٠ أبريل، ١٨٣٧
عزيزي جينينز

في الأسبوع الماضي، راح العديد من علماء الحيوان في هذا المكان يحثونني على دراسة احتمالية نشر كتاب «دراسة حيوانات رحلة «البيجل»» وفقًا لخطةٍ نظامية ما. وقد أثار الموضوع اهتمام السيد ماكلاي [ويليام شارب ماكلاي] بدرجة كبيرة، وهو يرى أنَّ مثل هذه الكتب تحظى بالقبول؛ إذ إنها تجمع بين دفتَيها مجموعة من الملاحظات بشأن الحيوانات التي تقطن في الجزء نفسه من العالم، وتتيح لأيِّ مسافرٍ في المستقبل أن يأخذها معه. إنني متشكك للغاية فيما إن كان لتسهيل المرجعية هذه أيُّ أهميةٍ على الإطلاق، لكن إن كان الأمر كذلك، فسوف أشعر بقدْرٍ أكبر من الرضا عند رؤية ما جمَعتُه بيدي، قد جُمع في عملٍ واحد، بعد أن تكون قد استَوعبَته عقول علماء التاريخ الطبيعي الآخرين. في الوقت الحالي، لا تزال الخطة بأكملها أمرًا يبدو في الأفق فحسب، لكنني كنت مُصرًّا على إخبارك لأنني أرغب كثيرًا في معرفة رأيك فيها، وكذلك معرفة ما إن كنت ستوافق على كتابة أوصاف الأسماك في عمل كهذا، بدلًا من كتابتها في «ترانزاكشنز»، أم لا. إنني أدرك أنَّ تضمين المادة بأكملها لن يكون أمرًا عمليًّا، دون مساعدة الحكومة في طباعة الصور، ويؤسفني أنَّ ذلك مجرد احتمال، لكنني أعتقد أنَّه أمر يمكنني المطالبة به بقوة، ويمكنني كذلك أن أحصل على قدرٍ كبير من الدعم من علماء التاريخ الطبيعي في هذا المكان، والذين يُبدون جميعهم تقريبًا اهتمامًا كبيرًا بعيناتي. إنني أُخطِّط للقاء السيد ياريل غدًا، وإذا وافق، فسوف أبدأ باتخاذ المزيد من الخطوات الفعلية؛ إذ إنني أسمع أنه الأكثر حصافة وحكمة. قد لا يكون من المفيد على الإطلاق أن أطيل التفكير والنظر في خطَّتي، لكنني فكرت في الحصول على مُساهمين ونشر العمل على أجزاء (ما دام التمويل مستمرًّا؛ إذ إنني لن أخسر فيه أيَّ نقود). وفي هذه الحالة، يمكن لمَن ينتهي من الجزء الخاص به فيما يتعلق بأي رتبة أن ينشره منفصلًا، وذلك كيلا يتسبب أحدٌ في تأخيرِ شخصٍ آخر. ستُشبه الخطة «أطلس» روبل أو كتاب «علم الحيوان» لهومبولت، وهو الذي كتب فيه ليتري وكوفييه وآخرون، أجزاءً مختلفة، غير أنها ستكون على نطاقٍ أكثر تواضعًا. بالنسبة لي، فلن أشارك إلا بكتابة جزء ضئيل، باستثناء — فيما يتعلق ببعض الرتَب — إضافة بعض العادات وتوزيع الأنواع وغير ذلك، وتقديم وصف سريع للمواطن الجغرافية، وربما أضيف بعد ذلك بعض الأوصاف للافَقَارِيَّات …

إنني أعمل على كتابي «يوميات الأبحاث»، وهو يتقدم ببطء بالرغم من أنني لستُ متكاسلًا. لقد ظننتُ أن كامبريدج ليست بالمكان الجيد نظرًا لوجود حفلات العَشاء الجيدة وغير ذلك من الإغراءات، لكنني لم أجد لندن أفضل منها، بل يؤسفني القول إنها قد تصبح أسوأ. لايل صديقٌ رائع وأنا أراه كثيرًا؛ وهي مَيزةٌ عظيمة لي لمناقشة الطبيعة الجيولوجية لأمريكا الجنوبية. إنني أفتقد للغاية الذهاب في جولةِ سيرٍ بالريف؛ فلندن مكانٌ كريه مليء بالدخان، يخسر فيه المرء قدْرًا كبيرًا من أفضلِ مُتع الحياة. غير أنني لا أرى أيَّ فرصةٍ للهروب من هذا السجن ولو لأسبوع واحد؛ وذلك على مدى فترةٍ طويلة تالية. يؤسفني أننا لن نتمكن من اللقاء إلا بعد فترة؛ إذ إنني أعتقد أنك لن تأتي إلى هنا خلال الربيع، وأعتقد أنني لن أستطيع المجيء إليك في كامبريدج. كم سأحب أن أحظى بجولة سير جيدة على طريق نيوماركت غدًا، لكن لا بد لي من الاكتفاء بالسير في شارع أكسفورد. هلا أخبرت هنزلو بأن يكون حذرًا مع الفطريات «الصالحة للأكل» التي أحضرتها من تييرا ديل فويجو؛ إذ إنني أرغب في بعض العينات من أجل السيد براون الذي يبدو مهتمًّا بها «على وجه الخصوص». أخبر هنزلو أنني أعتقد أنَّ الخشب المتحجر بالسليكا الذي أحضرته، قد رقق من قلب السيد براون؛ إذ كان كريمًا معي للغاية، وتحدث معي عن نباتات جالاباجوس، أمَّا في السابق، فلم يكن لينطق بكلمةٍ واحدة. ها هي الساعة تدق الثانية عشرة؛ لذا فإنني أتمنى لك ليلةً هنيئة للغاية.

عزيزي جينينز
صديقك المخلص
سي داروين

[بعد بضعة أسابيع، يبدو أنَّ الفكرة كانت قد نَضجَت، وأنهم تبنَّوا فكرة طلب المساعدة من الحكومة.]

من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
٣٦ شارع جريت مالبوره
[١٨ مايو، ١٨٣٧]
عزيزي هنزلو

لقد سُرِرت للغاية بتلقي خطابك؛ فقد كنت أرغب بشدة في معرفة كيف تسير الأمور معك في أعمالك المتشعبة. وأنا لا أتعجب بالطبع أنكَ قد بدأتَ تشعر بألمٍ في رأسك، بل إنني قد أتعجب من أنه ما زال لديك أيُّ جزءٍ من رأسك على الإطلاق. لقد كان سردك للجولة الاستكشافية في جاملينجاي مُغريًا بدرجةٍ شديدة، لكنني لا أستطيع مغادرة لندن على أي حال. لقد كنتُ أرغب في قضاء بضعةِ أيامٍ مع أهلي الأعزاء في شروزبيري، لكنني وجدتُ أنني لا أستطيع أن أتدبَّر ذلك. في الوقت الحالي، أنتظر توقيع دوق سومرست، بصفته رئيسًا للجمعية اللينية، وتوقيع اللورد ديربي وهيوويل، على بيانٍ بقيمة عيِّناتي، وفور أن أحصل على هذه التوقيعات، سوف أتقدم إلى الحكومة بطلب المساعدة في طباعة الصور؛ ومن ثَمَّ نشر كتاب «دراسة حيوانات رحلة البيجل» وفق خطةٍ نظامية. إنه لَأمرٌ سخيف كل هذا الوقت الذي تتطلبه أيُّ عمليةٍ يشترك فيها عددٌ كبير من الأشخاص …

إنني أُواظب على العمل بانتظام، غير أنني لم أُنجز سوى ثُلثَي جزئي في كتاب «يوميات الأبحاث» فحسب. إنني أقضي عددً كبيرًا من الساعات في العمل كل يوم، غير أنَّ التقدم الذي أحرزه بطيء للغاية؛ إنَّ ذلك من الأمور المريعة التي يقولها المرء لنفسه؛ إذ يمكن لجميع الحمقى وجميع الرجال البارعين في إنجلترا أن يُلقوا بعددٍ كبير للغاية من التعليقات الخبيثة على هذه الجملة التعيسة، إن هم اختاروا ذلك.

[في أغسطس، يكتب أبي إلى هنزلو لكي يخبره بنجاحِ خطةِ نشرِ عمل «دراسة حيوانات رحلة «البيجل»»، وذلك من خلال وعد بالحصول على منحةٍ قدْرها ألف جنيه من وزارة الخزانة:

لقد أجَّلتُ الكتابة إليك لكي أشكرك بكل صدقٍ على تدبيرك لأمري بفاعليةٍ كبيرة. لقد انتظرتُ حتى ذهبت إلى لقائي بوزير الخزانة [تي سبرينج رايس]. لقد حدَّد موعدًا للقائه في هذا الصباح، وقد خضتُ معه محادثةً طويلة، في حضور السيد بيكوك. لقد كان غاية في اللطف والكرم؛ فلم يفرض أيَّ قيود، واكتفى فقط بأن يُخبرني أن أضع النقود في أفضلِ استخدامٍ لها، وهو ما أنوي فعله بالطبع.

لقد كنت أتوقع لقاءً مُريعًا للغاية، لكنني لم أختبر في حياتي ما هو أفضل من ذلك. سوف يكون الخطأ خطئي إن لم أقُم بعملٍ جيد، غير أنه ينتابني ذعرٌ شديد في بعض الأحيان من أنني لا أمتلك المواد الكافية. وسوف يكون من أسباب الرضا الغامر أن تكون جميع المواد قد وُضِعت في أفضل استخدام لها في نهاية العامَين.

في وقتٍ لاحق في الخريف، كتب إلى هنزلو: «صحتي ليست على ما يُرام في الآونة الأخيرة؛ فنبض القلب غير مريح، ويحُثني أطبائي «بشدة» على التوقُّف عن العمل تمامًا، والانتقال إلى العيش في الريف لبضعة أسابيع.» وبناءً على هذا، فقد أخذ عطلة لمدة شهرٍ تقريبًا، قضاها في شروزبيري ومير، وكذلك زار فوكس في جزيرة وايت. وأعتقد أنه خلال هذه الزيارة، وفي منزل السيد ويدجوود في مير، قد لاحظ لأول مرة الأثر الناتج عن ديدان الأرض، وفي نهاية الخريف، قرأ ورقةً بحثية عن هذا الموضوع أمام الجمعية الجيولوجية.4 وخلال هذَين الشهرَين أيضًا، كان منشغلًا أيضًا بإعدادِ خطةِ عمله «دراسة حيوانات رحلة «البيجل»»، وكذلك بالبدء في تجميع النتائج الجيولوجية المتعلقة بأسفاره.

يشير الخطاب التالي إلى العرض المتعلق بتوليه منصب أمين الجمعية الجيولوجية.]

من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
الرابع عشر من أكتوبر، [١٨٣٧]
عزيزي هنزلو

… إنني في غاية الامتنان لخطابك بشأن تولِّي منصب الأمين. وأنا متلهِّف للغاية على سماعك لرأيي في هذه المسألة، وأرجو أن تتكرم بإخباري برأيك المحايد بعد ذلك. لقد ظل الموضوع مستحوذًا على تفكيري طوال الصيف. وأنا لا أرغب في تولي المنصب للأسباب التالية: أولًا، جهلي التام بمجال الجيولوجيا في إنجلترا، وهو جانبٌ ضروري من المعرفة لاختصار العديد من الأوراق البحثية قبل قراءتها أمام الجمعية، أو بالأحرى معرفة الأجزاء التي يجب إسقاطها. ثم يأتي بعد ذلك جهلي التام بجميع اللغات، وعدم معرفتي بكيفية قراءة كلمةٍ «واحدة» بالفرنسية، وهي لغةٌ يُستشهَد بمصادرها على الدوام، وسيكون عارًا على الجمعية أن يكون أمينها لا يعرف كيف يقرأ الفرنسية. ثانيًا، ضياع الوقت: أرجو أن تأخذ في الحسبان أنه سيكون عليَّ متابعة الرسَّامين، وكذلك الإشراف على المواد وتوفيرها للعمل الحكومي، الذي سيأتي على هيئة أجزاء، ويجب أن يصدر بصفةٍ دورية منتظمة. إنَّ جميع ملاحظاتي الجيولوجية لا تزال مبدئية، ولم أعمل على أيٍّ من حفريات الأصداف التي جمعتُها، وكذلك لا يزال أمامي الكثير مما يجب قراءته. لقد كنتُ آمُل أنه، من خلال التخلي عن المناسبات الاجتماعية، وعدمِ إهدارِ ساعةٍ من الوقت، يمكنني أن أنتهي من عملي المُتعلِّق بالجيولوجيا في عام ونصف، وبحلول هذا الوقت، سيكون الآخرون قد انتهَوا من إعدادِ أوصاف الحيوانات الأعلى؛ وعندئذٍ، سيكون من الضروري أن أُخصِّص وقتي بأكمله لكي أكمل بنفسي أوصاف الحيوانات اللافقارية. وإذا فشلت هذه الخطة، فسيتحتم تأخير نشر الجزء المتعلق بالجيولوجيا لمدة ثلاثِ سنوات على الأقل من هذا الوقت؛ إذ إنَّ العمل الحكومي لا بد أن يستمر؛ ونظرًا لحالة العلم في الوقت الراهن، فإنَّ جزءًا كبيرًا من فائدة هذا القدر الضئيل الذي حقَّقتُه سوف يضيع، وسيضيع مني كل الحيوية والسرور.

إنني أعرف من واقع التجربة مقدار الوقت الذي يتطلبه إعدادُ مُلخَّصات للأوراق البحثية، حتى إن كانت لأوراقي، من أجل الاجتماعات. فإذا توليتُ منصب الأمين، وكان عليَّ إعداد مُلخَّصَين لكل ورقة، مع دراسة هذه الأوراق البحثية قبل القراءة والحضور، فإنَّ ذلك سيستغرق مني «على الأقل» ثلاثة أيام (أو أكثر في معظم الأحيان)، وذلك كلَّ أسبوعَين. وهناك أيضًا غير ذلك من الأمور العرضية والطارئة التي تتسبب في ضياع الوقت؛ فأنا أعلم أنَّ الدكتور رويل قد وجد أنَّ هذا المنصب يستهلك الكثير من وقته. فقط إن تمكنتُ من توفير بعض الوقت عن طريق التخلِّي عن جميع أوقاتي المُخصَّصة للترفيه، أو الاجتهاد في العمل بأكثر مما كنتُ أفعل، فسأقبل بمنصب أمين الجمعية. لكن بالنظر إلى أسلوبي البطيء في الكتابة، وعملي على كتابَين في الوقت نفسه، وكذلك حقيقة أنني إذا لم أتمكن من الانتهاء من الجزء المتعلق بالجيولوجيا في فترةٍ محدَّدة، فسوف يتأخر نشره لفترةٍ طويلة للغاية، فإنني أتوسَّل إليكَ للسؤال عما إذا كان يمكن لأيِّ جمعيةٍ على الإطلاق أن تحظى من وقتي بثلاثةِ أيام كل أسبوعَين أقضيها في القيام بعملٍ مزعج. إنني أعتقد أنَّه من واجبي، بصفتي أحدَ المشتغلين بالعلم، ألا أُؤجِّل العمل الذي أُكرِّس نفسي حاليًّا للانتهاء منه، لكي أتولى منصبًا يمكن لشخصٍ آخر لديه من وقت الفراغ قدْرٌ أكبر من الذي لديَّ في الوقت الراهن أن يتولاه. علاوةً على ذلك، في هذه المرحلة المبكرة للغاية من حياتي العلمية؛ حيث ما زال أمامي الكثير جدًّا لأتعلَّمه، سوف يكون المنصب حملًا جسيمًا للغاية، بالرغم من كونه بلا شكٍّ شرفًا عظيمًا وما إلى ذلك. سيظن السيد هيوويل، قياسًا على نفسه، (وأنا أُدرِك ذلك جيدًا) أنني أبالغ في تقدير الوقت الذي سيتطلبه تولِّي منصب الأمين، لكنني أعرف تمامًا مقدار الوقت الذي تستهلكه مني أبسطُ مهامِّ الكتابة. إنني لا أرغب على الإطلاق في أن أبدو أنانيًّا إذ أرفض طلب السيد هيوويل، لا سيما وأنه دائمًا ما كان يُبدي اهتمامه بأموري، وبألطفِ طريقةٍ ممكنة. غير أنني لا يمكنني أن أتطلَّع ولو بقدْرٍ مقبول من الراحة، إلى تولي منصبٍ دون الانخراط فيه بكلِّ كياني، وسيكون ذلك مُحالًا مع العمل الحكومي وكذلك الجزء المُتعلِّق بالجيولوجيا الذي أعمل عليه في الوقت الحالي.

وأمَّا اعتراضي الأخير، فهو أنني لا أثق فيما إن كانت صحتي ستتحمَّل قيامي بما عليَّ أن أفعله الآن، دون إضافة المزيد من العمل. إنني أُكرِّر هنا — حتى لا تعتقد أنني أتحدَّث من مُنطلَق التكاسُل — أنني حين استشرت الدكتور كلارك في المدينة، كان يحثُّني في البداية على التوقُّف عن جميع أنشطة الكتابة وحتى تصويب بروفات الطباعة لبضعة أسابيع. لقد أصبح كلُّ ما يثير انفعالي مؤخرًا، يؤذيني بالكامل بعدها، ويتسبب لي في خفقانٍ عنيف بالقلب. سيصبح منصب الأمين مصدرًا مستمرًّا للمتاعب المزعجة، وستكون هذه المتاعب أكثر مما أُلاقيه على مدى بقية الأسبوعَين بأكملهما. في الواقع، حتى أعود إلى المدينة وأرى كيف ستسير أموري، إن كنتُ حقًّا أرغب في المنصب بشدة، فلا «يمكنني» أن أقول إنني سأتولاه بكلِّ تأكيد. أرجوك أن تعذرني على هذا الإسهاب في الحديث عن نفسي، لكنَّ الأمر مهمٌّ للغاية؛ إذ لا يمكنني أن أتحمل أن يُنظر إليَّ على أنني أناني ونكد جدًّا، وكذلك لا أرى إمكانية أن أتولى منصب الأمين دون التضحية بجميعِ خططي وقدْرٍ كبير من راحتي.

هلَّا أخبرت هيوويل بفحوى هذا الخطاب إن التقيت به؟ أو يمكنه أن يقرأَه، إن تكرم بذلك. عزيزي هنزلو، إنني ألجأ إليكَ لكونك «في مقام والدي». أرجو منك أن تخبرني برأيك، وأرجو ألا تُصدر حكمك بناءً على مستوى النشاط الذهني الذي تتمتع به أنت وقلة غيرك؛ ففي هذه الحالة، كلما زاد عدد المهام الصعبة التي يُجرى العمل عليها، زادت متعة العمل، لكن هذا ليس هو الوضع بالنسبة لي، رغم أنني أتمنى أن أظل أعمل دائمًا.

عزيزي هنزلو
صديقك المخلص إلى الأبد
سي داروين

[في نهاية الأمر، قبِل المنصب وظل فيه مدة ثلاثة أعوام؛ من ١٦ فبراير ١٨٣٨ إلى ١٩ فبراير ١٨٤١.

وبعد أن تأكد من الحصول على المنحة الحكومية لنشر عمله «دراسة حيوانات رحلة «البيجل»»، أصبح لديه الكثير من الترتيبات التي يجب أن يقوم بها فيما يتعلق بخطة النشر، وقد شغل ذلك وقته على مدى جزءٍ من أكتوبر ونوفمبر.]

من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
[٤ نوفمبر، ١٨٣٧]
عزيزي هنزلو

… أرجو منك أن تخبر ليونارد أنَّ عملي مع الحكومة يتقدم بسلاسة، وأتمنى أن يكتمل بنجاح. سوف يرى اسمه في «النشرة التمهيدية» مرتبطًا بالأسماك؛ فأنا أواظب على العمل باجتهاد، شاعرًا بتفاؤلٍ كبير. وقد صِرتُ أفضل كثيرًا مما كنتُ عليه في الشهر الماضي قبل زيارتي إلى شروزبيري. يؤسفني أنَّ الجزء المتعلق بالجيولوجيا سيستغرق مني فترةً طويلة من الوقت؛ فقد كنت أستعرض مجموعةً واحدة من الملاحظات، ووجدت أنَّه يجب عليَّ قراءة كميةٍ مهولة من المواد المتعلقة بهذا المجال فقط. إن عشتُ حتى أبلغ الثمانين عامًا، فلن أكف عن التعجب من أنني قد أصبحتُ مؤلِّفًا؛ فلئن أخبرني أحدهم، في الصيف الذي سبق بدايتي في التأليف، بأنني سوف أصبح ملاكًا بحلول هذا الوقت، لكنتُ قد رأيت أنَّ ذلك مستحيل بنفس درجة قيامي بالتأليف. وقد حدث هذا التحول الرائع بفضلك.

يؤسفني أنني قد وجدتُ عددًا كبيرًا من الأخطاء الكتابية في المجلد الخاص بي بعد طباعته. في أثناء غيابي، وظَّف السيد كولبيرن شخصًا مهملًا للقيام بالمراجعة، وقد ضاعف من عدد هفواتي بدلًا من تقليصها. بالرغم من كل ذلك، فمنظر ورق الطباعة الناعم والكتابة الواضحة رائع للغاية، وقد جلستُ في ليلةٍ سابقة أُحدِّق في صمت وإعجاب في الصفحة الأُولى من المجلد الذي ألَّفته من الكتاب، وذلك حين استلمتُه من المطابع!

إلى اللقاء يا عزيزي هنزلو
سي داروين

(٢) ١٨٣٨

[منذ بداية هذا العام وحتى نهاية شهر يونيو تقريبًا، كان منشغلًا بالعمل على نتائجِ رحلته المتعلقة بعلم الحيوان والجيولوجيا. ولم يقطع هذه الفترة المتواصلة من العمل سوى زيارة إلى كامبريدج في مايو، مدتها ثلاثة أيام، وحتى هذه العطلة القصيرة، لم يأخذها إلا بعد أن تَدهورَت صحته، كما يمكننا أن نلاحظ من الإدخال التالي من دفتر يومياته: «الأول من مايو، لست بخير»، وكذلك من خطاب إلى أخته (١٦ مايو ١٨٣٨) والذي كتب فيه:

«لقد كانت رحلتي إلى كامبريدج، والتي استَمرَّت لثلاثة أيامٍ رائعةً وعادت عليَّ بالخير الكثير؛ فقد ملأَت أطرافي بمرونةٍ كبيرة، وعليَّ أن أستفيد بجسمي في العمل قبل أن أحتاج للذهاب في عطلةٍ أخرى.» يبدو أنه قد استمتع بهذه العطلة للغاية؛ فقد كتب إلى أخته:

والآن، سأُحدِّثك عن كامبريدج: لقد أقمتُ في منزل هنزلو واستمتعتُ بزيارتي للغاية. لقد رحب بي أصدقائي ترحيبًا غاية في الود، وفي واقع الأمر، كنت الضيف الأبرز هناك. لقد اضطُرت السيدة هنزلو للأسف إلى الذهاب في زيارة إلى الريف يوم الجمعة. وفي هذا المساء، أقمنا حفلةً رائعة في منزل هنزلو، حضرها جميع عباقرة كامبريدج، وهم مجموعةٌ من أبرز الرجال ولا شك. وفي يوم السبت، ذهبتُ إلى منزل إل جينينز، وقضيتُ فترة الصباح معه. لقد وجدتُه مبتهجًا للغاية، لكنه كان يشكو بمرارة من عزلته. وفي مساء السبت، تناولتُ العَشاء في إحدى الكليات، ثم مارستُ لعبة البولينج العشبي في ساحة كوليدج جرين بعد العشاء، وقد صمَّ غناء العنادل أذنيَّ. وفي يوم الأحد، تناولتُ العَشاء في كلية ترينيتي، وقد كان عَشاءً رائعًا، وقد سعدتُ جدًّا بجلوسي بجوار البروفيسور لي [وهو صامويل لي، البروفيسور بكلية كوينز، وأستاذ اللغة العربية من ١٨١٩ إلى ١٨٣١، الذي قد شغل أحد الكراسي الملكية للغة العبرية من ١٨٣١ إلى ١٨٤٨] … لقد وجدتُه شخصًا ممتعًا للغاية في الحديث، وقد كان فرحًا كصبيٍّ صغير، لعودته مؤخَّرًا من توليه لمنصب في رعاية كنيسة أو أبرشية في سومرستشير، على مدى سبع سنوات، إلى المجتمع المتمدن والمخطوطات الشرقية. لقد بدَّل بكنيسته كنيسة أخرى على بعد أربعة عشر ميلًا من كامبريدج، وقد بدا سعيدًا بذلك للغاية. في المساء، ذهبتُ إلى كنيسة ترينيتي، وسمعت ترنيمة «السموات تُردِّد مجد الرب»، بأسلوبٍ بديع للغاية؛ لقد بدا أنَّ المقطع المتكرر يهز جدران الكلية. وبعد الكنيسة، أقمنا حفلةً كبيرة في غرفة سيجويك. يكفي هذا فيما يتعلق بمغامراتي هناك.

قرب نهاية شهر يونيو، بدأ في رحلته الاستكشافية إلى منطقة جلين روي، وهي التي يكتب عنها لفوكس: «صحتي ليست جيدة في الآونة الأخيرة، مما جعلني أُصمِّم فجأة على مغادرة لندن في وقتٍ أبكر مما كنت أتوقع. سأذهب بالمركبة البخارية إلى إدنبرة، وأذهب في جولةِ سيرٍ بمفردي على جروف سولزبيري كريجز، وأستدعي ما كان لديَّ من ذكريات عن الماضي، ثم أذهب إلى جلاسكو ووادي إنفرنيس العظيم، الذي أنوي التوقُّف بالقرب منه لمدة أسبوع لدراسة الطبيعة الجيولوجية للطرق المتوازية في جلين روي، ومن هناك سأذهب إلى شروزبيري، ثم مير ليومٍ واحد فقط، ثم إلى لندن من أجل الدخان والمرض والعمل الشاق.»

لقد قضى «ثمانيةَ أيامٍ جيدة» في الطرق المتوازية. وقد كتب مقاله عن هذا الموضوع خلال فصل الصيف نفسه، ونشرته الجمعية الملكية.5 لقد كتب في مفكرة الجيب الخاصة به: «٦ سبتمبر [١٨٣٨]. انتهيتُ من كتابة الورقة البحثية الخاصة ﺑ «جلين روي»، وهي أحدُ أكثر المهام التي انخرطتُ فيها صعوبةً وتثقيفًا.» ومن الجدير بالذكر أنه يذكر هذه الورقة البحثية في عمله «ذكريات» على أنها ورقةٌ بحثية فاشلة يخجل منها.

في الوقت الذي كتب فيه، كانت أحدث نظرية عن تكوُّن الطرق المتوازية هي تلك الخاصة بالسير لودر ديك والدكتور ميكاليك، اللذَين كانا يعتقدان أنَّ البحيرات كانت تُوجد في جلين روي منذ زمنٍ قديم، بسبب وجود سدود من الصخور أو الرواسب. وفي حجاجه ضد هذه النظرية، كان يرى أنه قد أثبت عدم إمكانية قبولِ أيِّ نظريةٍ تقول بوجود بُحيرات، لكنه كان مخطئًا في هذه النقطة. لقد كتب (في الورقة البحثية الخاصة بجلين روي، صفحة ٤٩) يقول: «إنَّ النتيجة حتمية بعدم إمكانية قبولِ أيِّ نظريةٍ تقوم على أساس افتراضِ وجودِ طبقةٍ من الماء يحدُّها عدد من «الحواجز»؛ أي بحيرة، باعتبارها حلًّا للمسألة الخلافية المتعلقة بنشأة الطرق المتوازية في لوخابر.»

لقد كان السيد آرتشيبولد جيكي كريمًا معي للغاية؛ إذ سمح لي بأن أستشهد بالفقرة التالية من خطاب كان قد أرسله إليَّ (١٩ نوفمبر ١٨٨٤) ردًّا على سؤالي عن رأيه بشأن عمل والدي المتعلق بجلين روي:

إنني لا أحتاج إلى القول إنَّ ورقة السيد داروين البحثية عن «جلين روي» تتسم بجميع بما يتميز به من دقة الملاحظة والتصميم على وضع جميع الاعتراضات الممكنة في الحسبان. بالرغم من ذلك، فهي مثالٌ دقيق على خطورة التسويغ المنطقي في مجال العلوم الطبيعية باستخدام أسلوب الاستبعاد. حين وجد السيد داروين أنَّ المياه التي كوَّنت الشرفات في منطقة جلين روي لا يمكن أن تكون قد حُصِرت في مكانها بفعل حواجز أو فتاتٍ صخرية، لم يَرَ بديلًا سوى أن يقول بأنها تكوَّنت بفعل البحر. ولو كانت فكرة الحواجز العابرة التي تتكون من ثلج الأنهار الجليدية قد خطرت له، لاستطاع أن يرى أنَّ المشكلات التي كان يجدها في نظرية البحيرة التي كان يعارضها تختفي، ولما انساق بنحوٍ غير واعٍ إلى التقليل من شأن الاعتراضات الهائلة التي يُمكن أن تُقدم على الافتراض القائل بأنَّ الشرفات قد تكوَّنت بفعل البحر.

ويمكننا أن نضيف أنَّ فكرة تكوُّن الحواجز بفعل الأنهار الجليدية كان من الصعب أن تخطر له؛ نظرًا لحالة المعرفة في ذلك الوقت، وكذلك يجب ألا ننسى حاجته إلى أن يحظى بفرصٍ لملاحظة التأثير الجليدي على نطاقٍ واسع.

لقد قضى النصف الثاني من يوليو في شروزبيري ومير. والجزء الوحيد المثير للاهتمام من يومياته في هذه الفترة، هو الجزء الذي يذكر فيه أنه «متكاسل للغاية في شروزبيري»، وأنه قد فتح «دفترًا مُتعلِّقًا بالمسائل الميتافيزيقية». وفي أغسطس، يسجل أنه قد قرأ «قدْرًا كبيرًا من الكتب المختلفة الممتعة، وأعار بعض الاهتمام إلى الموضوعات الميتافيزيقية».

ويتمثل العمل الذي أنجزه على مدى الجزء المتبقي من العام في كتابه عن الشعاب المرجانية (الذي بدأه في أكتوبر)، وبعض الأعمال عن ظاهرة الارتفاع في أمريكا الجنوبية.]

من تشارلز داروين إلى سي لايل
٣٦ شارع جريت مالبوره
٩ أغسطس [١٨٣٨]
عزيزي لايل

لم أكتب إليك وأنا في نوريتش؛ إذ إنني كنت أظن أنه سيكون لديَّ المزيد مما أقوله إذا انتظرت لبضعة أيام أخر. شكرًا جزيلًا على هديتك لي المتمثلة في كتابك «عناصر الجيولوجيا» والذي تسلمته مع خطابك، (والذي أعتقد أنَّه «أول نسخة» توُزع منه.) لقد قرأتُه كلمة بكلمة، وأنا معجب به كل الإعجاب، ولأنني لم أعُد أرى أيًّا من علماء الجيولوجيا، فلا بد أن أتحدث عنه معك. فما من متعة يجدها المرء في قراءة كتاب إن لم يخض حديثًا جيدًا بشأنه، وأنا أُكرِّر أنني معجب به كل الإعجاب، وهذا واضح وضح النهار، والواقع أنني شَعرتُ ببعض الخزي عند قراءة العديد من الأجزاء؛ إذ رحتُ أفكر فيما خاضه علماء الجيولوجيا من شقاء ومعاناة لإثبات ما يبدو بوضوح أنه مرجح. لقد قرأتُ وصفك السريع للترسُّبات الثانوية باهتمام كبير؛ فقد خطَّطتَ لأن تجعله «مَشوقًا»، كما كنا نقول عن القصص الجيدة، ونحن أطفال صغار. وقد كان به أيضًا قدْرٌ كبير من المعلومات الجديدة عليَّ، وسيكون عليَّ أن أنسخ منه ما يقرب من خمسين ملاحظةً ومرجعًا. لا بد أنَّ هذا الكتاب سيكون مفيدًا، ويجب أن يستسلم من يعارضون الحس السليم … بالمناسبة، هل تتذكر إخباري لك بعدم حبي للطريقة التي أشار بها … إلى أعماله الأخرى، وكأن لسان حاله يقول: «ينبغي عليكم أن تبتاعوا كلَّ ما كتبته». بالنسبة لي، فقد تفاديتَ أنت فعل هذا بطريقة أو بأخرى؛ فإشاراتك إلى أعمالك السابقة لا يبدو أنك تقول بها سوى: «لا يمكنني أن أذكُر كلَّ شيء في هذا العمل، ولولا ذلك لفعلت؛ لذا، يجب عليكم الرجوع إلى كتاب «مبادئ»»، وأنا أثق بأنك ستجعل العديد من القُراء يرجعون إليه، وستجعلهم مثلي عُشاقًا لعلم تكسير الصخور المبارك. سوف تُلاحظ أنني في فورة من الحماس، ولديَّ سببٌ وجيه يجعلني كذلك بالطبع؛ إذ أجد أنك قد استفدتَ من يومياتي أكثر مما كنتُ أتوقَّعه بكثير. لن أتحدث عن الكتاب أكثر من ذلك؛ فليس لديَّ سوى الثناء عليه. بالرغم من ذلك، لا بد أن أُعبِّر عن إعجابي بتلك الأمانة الجلية التي تتضح في استشهادِكَ بكلماتِ جميع علماء الجيولوجيا، الأموات منهم والأحياء.

إنَّ رحلتي الاستكشافية في اسكتلندا كانت رائعةً للغاية؛ فقد كانت رحلتي في المركبة البخارية لطيفةً للغاية، وقد استمتعتُ — لوضاعتي — برؤية سيدتَين وبعض الأطفال الصغار وهم يعانون من دُوار البحر؛ إذ كنت أنا بخير. وعلاوةً على ذلك، في طريق عودتي من جلاسجو إلى ليفربول، حدث نفس الشيء ولكن مع مجموعةٍ من الرجال البالغِين. قضيتُ يومًا بأكمله في إدنبرة، أو في سولزبيري كريجز لأكون أكثرَ دقة، وأنا أريد أن أسمعَ رأيكَ ذاتَ يومٍ بشأن تلك الأرض القديمة؛ لقد بدا تركيبها جديدًا عليَّ، وغريبًا بعض الشيء — هذا إن كنتُ أفهم الأمر على وجهه الصحيح. لقد انتقلتُ من إدنبرة إلى بحيرة لوخ ليفين في عرباتٍ ذات عجلتين، وعربات ذات دولابين (والتي لم تكن على نوابض، وهو ما لن أنساه أبدًا). خاب أملي في المناظر الطبيعية، ووصلت إلى جلين روي مساء السبت، أي، بعد أسبوع من مغادرة شارع مالبوره. وقد استمتعت هناك بخمسة [؟] أيام كان طقسها غايةً في الجمال، وغروب شمسها في غاية الروعة، وقد كانت الطبيعة كلها تبدو سعيدة بقَدْر السعادة التي أشعر بها. تجولتُ فوق الجبال في كل الاتجاهات، وفحصت أكثر منطقة استثنائية على الإطلاق. أعتقد أنني — وبدون أيِّ استثناءات — لم أشعر بهذا القَدْر الذي شَعرتُ به من الإثارة في هذا الأسبوع، ولا حتى عند زيارة أوَّلِ جزيرةٍ بركانية، أو أوَّلِ شاطئٍ مرتفع، أو حتى عند عبور السلسلة الجبلية في أمريكا الجنوبية. إنها أكثر المناطق التي فحصتُها تميُّزًا على الإطلاق. لقد اقتنعتُ تمامًا (بعد بعض الشك في البداية) أنَّ الرفوف الصخرية، هي شواطئُ بحرية، بالرغم من أنني لم أتمكن من العثور على صدفة واحدة، وأعتقد أنه يمكنني تنفيذ معظم الاعتراضات على ذلك، إن لم يكن كلها. لقد وجدتُ جزءًا من طريق في وادٍ آخر، لم تكن قد سُجلت عنه أيُّ ملاحظاتٍ حتى الآن، وهو أَمرٌ مهم للغاية، وكذلك لديَّ بعض الحقائق الدقيقة عن الكتل الصخرية المنجرفة بالأنهار الجليدية، والتي جثمت إحداها على ارتفاع ٢٢٠٠ قدم فوق سطح البحر. أعمل الآن على كتابة ورقة بحثية عن الموضوع، وأجده عملًا ممتعًا للغاية، فيما عدا أنني لا أعرف كيف يمكنني تكثيفه ضمن الحدود المطلوبة. أرجو أن أتحدث إليك في المستقبل بشأن بعض الاستنتاجات التي قادني إليها فحصي لمنطقة جلين روي. ها أنا الآن قد أفصحت عما بداخلي، وقد أصبحت أكثر راحة الآن؛ إذ يمكنني أن أؤكد لك أنَّ جلين روي قد أدهشتني.

إنني أعيش حياةً هادئة للغاية؛ ولهذا فهي حياةٌ سارَّة، وأنا أُحرِز تقدمًا بطيئًا في العمل، لكنه ثابت. وقد توصلتُ إلى نتيجةٍ واحدة، وهي التي أعتقد أنك سترى أنها تثبت أنني رجل رشيد جدًّا؛ وهي أنَّ كلَّ ما تقوله يَثبُت أنه صحيح، ولكي أُبرهِن على ذلك، فقد أَصبحتُ أتبع طريقتك في العمل لنحوِ ساعتَين فقط في فترة العمل الواحدة، ثم أخرج وأقضي شئوني، ثم أعود إلى العمل مرةً أخرى؛ ومِن ثَمَّ، يصبح لديَّ يومان منفصلان في اليوم الواحد. وتلك الخطة الجديدة تُلبِّي احتياجاتي بنحوٍ رائع؛ فبعد انتهاء النصف الثاني من اليوم، أذهب وأتناول العَشاء في نادي الأثنيام كأحد النبلاء، بل كأحد اللوردات؛ إذ إنني على يقين بأنني قد شَعرتُ وكأنني أحد الدوقات في المرة الأُولى التي جلستُ فيها على الأريكة بمفردي في غرفة الاستقبال العظيمة هناك. إنني أمتلئ بالإعجاب تجاه هذا النادي؛ إذ ألتقي هناك العديدَ من الرجال الذين أُحب أن أراهم. في المرة الأُولى التي تناولتُ فيها العَشاء هناك (أي الأسبوع الماضي)، التقيتُ الدكتور فيتون على الباب. [الدكتور فيتون هو دابليو إتش فيتون (١٧٨٠–١٨٦١)، الذي كان طبيبًا وعالم جيولوجيا، والذي قد تولى رئاسة الجمعية الجيولوجية لبعض الوقت. وقد أسَّس نظام نشر «محاضر اجتماعات الجمعية» وهو الذي تبنَّته جمعياتٌ أخرى بعد ذلك.] وقد كان معه حشدٌ مميَّز؛ روبرت براون الذي ذهب إلى باريس وأوفيرن، وماكلاي [؟] والدكتور بوت [وهو فرانسيس بوت (١٧٩٢–١٨٦٣) الذي اكتسب شهرته في علم النبات من خلال عمله على جنس السعادي.] إنَّ مساعدتك لي في انضمامي إلى هذا النادي، لم تذهب سُدًى، وأنا أستمتع به للغاية لأنني كنت أتوقَّع تمامًا أن أمقُته.

إنني أكتب إليكَ خطابًا طويلًا للغاية، لكنني سوف أعطيه إلى أوين لكي يأخذه إلى نيوكاسل. وإذا أردتَ أن تكون كريمًا للغاية، فاكتب لي من كينوردي [منزل والد لايل] وأخبرني بأخبار نيوكاسل، وكذلك أخبرني بشأن كريج، وأخبرني عن نفسك وعن السيدة لايل، وعن جميعِ ما هنالك من أمورٍ في العالم. سوف أُرسل لك مع هولِ نسخةٍ من مجلة «إنتومولوجيكال ترانزاكشنز» التي استعرتُها لك، وسيخيب ظنك بشأن الأوراق البحثية الخاصة ﺑ… هذا إن كنتَ تعتقد أنَّ صديقي العزيز لديه فكرةٌ واحدة واضحة عن أيِّ موضوع. لقد أَوردَ الحشرات الحديثة وحفريات الحشرات في جدولٍ واحد؛ لذا أعتقد أنك لن تستفيد منه كثيرًا للأسف، غير أنني أعتقد أنَّ هذا الموضوع كان ينبغي أن يَرِد في كتاب «مبادئ». سوف تندهش من بعض الفقرات البارزة التافهة التي ستجدها في هذه الأوراق، ولا شك بأنك ستشعُر فيها بأنه يسخر منك بشدة. لقد سمعتُ من أكثر من جهة أنَّ العِراك من الأمور المتوقَّعة في نيوكاسل [في اجتماع الجمعية البريطانية]، ويؤسفني سماعُ ذلك. لقد قابلتُ … العزيز هذا المساء في نادي الأثنيام، وقد تمتم بشيء عن الكتابة إليك أو إلى شخصٍ آخر عن الموضوع، غير أنني لا أعرف عن ذلك شيئًا على الإطلاق. بالرغم من ذلك، أعتقد أنَّ الأمور ستتضح لي؛ إذ إنني سأتناول العَشاء معه خلال بضعةِ أيام؛ فقد فشِلَت قدراتي في الابتكار على الإتيان بأيِّ عذر. صديقٌ لي قد تناول العَشاء معه في يومٍ سابق، وقد كانوا جمعًا من أربعةِ أشخاص، وقد تناولوا عشر زجاجاتٍ من النبيذ؛ وهذه بادرةٌ لطيفة لي، غير أنني عازمٌ على ألا أَتذوَّق نبيذه على الإطلاق، ويعود السبب في ذلك جزئيًّا إلى رغبتي في الاستمتاع برؤية تقزُّزه الشديد ودهشته …

إنني أشعر بالشفقة عليكَ لابتلائِكَ بمثل هذا الخطاب الطويل للغاية. أرجو منك أن تبلغ تحياتي الحارة إلى السيدة لايل حين تصل إلى كينوردي. لقد رأيت اسمها في سجل مالك فندق إنفرورم. أخبر السيدة لايل أن تقرأ السلسلة الثانية من «أقوال السيد سليك من سليكفيل» … إنه يكاد أن يتفوق على أمير الأبطال «ساميفل». طابت ليلتك يا عزيزي لايل، سوف تعتقد أنني قد شربتُ شرابًا قويًّا، وهو الذي جعلني أكتب لك هذا القَدْر الكبير من الهُراء، لكنني لم أتذوق حتى زجاجةً صغيرة من جِعَة المينرفا اليوم.

المخلص إليك دومًا
تشاز داروين

من تشارلز داروين إلى سي لايل
ليلة الجمعة، الثالث عشر من سبتمبر [١٨٣٨]
عزيزي لايل

لقد كنت مندهشًا ومسرورًا للغاية من خطابك الطويل الرائع، وأنا أُكنُّ عظيم الامتنان إلى السيدة لايل؛ إذ تكبدَت عناء كتابة هذا القَدْر الكبير. [إذ كان لايل يملي أغلب خطاباته.] وأنا أنوي أن أقضي ساعة أستمتع فيها بالكتابة إليك؛ إذ إنك تتشارك معي في الاهتمام بالجيولوجيا حتى إنني لا أهتم بمدى أنانيتي في الكتابة إليك …

لديَّ الكثير مما أقوله عن جميع أصناف الأمور التافهة، حتى إنني لا أعرف بأي أمر أبدأ الحديث … إنني لا أحتاج إلى أن أخبرك بمدى سعادتي إذ عرفت أنَّ [والدك] السيد لايل قد أعجبه عملي «يوميات الأبحاث». إنَّ سماعي لمثل هذا الخبر الرائع لهو بمنزلة نوع من البعث؛ إذ إنني أشعر وكأن طفلي الأول قد مات منذ فترةٍ بعيدة، ودُفِن وصار منسيًّا، لكنَّ الماضي لا يهم بالنسبة لنا — نحن علماء الجيولوجيا — والمستقبل هو كلُّ ما يهم، وذلك كما تُوضِّح أنت في شعارك الرائع في كتاب «عناصر الجيولجيا». بالمناسبة، هل قرأتَ المقالة الواردة في مجلة «ذي إدنبرة ريفيو»، التي عنوانها «مسار الفلسفة» (أو شيء كهذا) لإم كونت؟ إنها مقالةٌ رائعة؛ إذ تَرِد بها بعض الجمل الجيدة عن أنَّ جوهر العلم هو القدرة على التنبُّؤ، وهو ما يُذكِّرني بالعبارة القائلة بأنَّ «قانونه هو إحراز التقدم.»

والآن، سأبدأ بالحديث عن خطابك متناولًا كل نقطة فيه بالترتيب. يمكنني القول إنَّ خطتك بوضع الفصل الذي يتحدث عن إيلي دو بومون، منفصلًا وفي البداية، لهي خطةٌ جيدة للغاية؛ فسوف يمثل هذا، على أيِّ حال، معارضةً جريئة لما جاء في الطبعة الأُولى، وهي التي سوف تُترجم إلى الفرنسية. وسوف يكون ذلك مثالًا مُدهشًا لعلماء الجيولوجيا في المستقبل على طول المدة التي يمكن لعالمٍ بارز مثلك أن يدعم فيها نظريةً هشَّة تمامًا، كنظرية دو بومون؛ أنت تقول إنك «بدأتَ تأمل في أن تصمد المبادئ العظيمة التي أكَّدتَها في عملِك عبر الزمن». «بدأت تأمل»: عحبًا! إنَّ «إمكانية» الشك فيها لم تخطر بذهني على الإطلاق لفترةٍ طويلة. ربما لا يكون ذلك من الحكمة على الإطلاق، غير أنَّ خَلاصي الجيولوجي مرهونٌ به؛ فبعد أن عُدتُ من جلين روي، ورأيتُ كيف أنَّ مبادئك تُذلِّل الصعوبات تمامًا، فإنَّ حديثك عن «الأمل» يُغضِبني كثيرًا. وبالنسبة إلى سؤالك عن مدى التأثير الذي يمكن أن تُحدثه نظريتي عن الشعاب المرجانية على نظرية دو بومون، فأعتقد أنه سيكون من الحكمة أن تستشهد بي بقدْرٍ كبير من التحوُّط، إلى أن يُنشر تفسيري بأكمله، وعندها يتسنَّى لك (ولآخرين) أن تُدلوا برأيكم في مدى إمكانيةِ وجودِ أساسٍ لمثل هذا التعميم. ولتعلم أنني لا أشك في صحتها، غير أنه يجب التحوُّط كثيرًا عند قبولِ أيِّ رأيٍ يمتد ليشمل مثل هذه المساحات الكبيرة، وذلك في ضَوء قدْرٍ قليل نسبيًّا من الحقائق. وأنا عن نفسي لا أشك على الإطلاق أنَّه في غضون الفترة الحديثة (والتي تُسمِّيها أنت «العصر البليوسيني الجديد» وهو ما يزعجني كثيرًا)، قد ارتَفعَت الأشرطة المتعرِّجة، وليس كل الأشرطة الموازية لبعضها، وهَبطَت الأشرطة المقابلة لها؛ بالرغم من ذلك، فقد ظلَّت بعض الأجزاء على الأرجح، كما هي لفترة من الوقت، أو حتى هَبطَت. وأنا أعتقد أنَّه لم يكن من الممكن أن يأتي أحدهم بنظريةٍ أشد خطأً من تلك التي تزعم وجودَ خطوطٍ مستقيمة عظيمة قد ظَهرَت فجأة.

وأمَّا عن موعد نشر كتابي عن «البراكين والشعاب المرجانية»، فهذا ما لا أعرفه، لكنه، مع الأسف، لن يكون قبل أربعة شهور أو خمسة على الأقل، لكن لتعلم أنَّني قد انتهيت من كتابة الجزء الأكبر منه. إنني أجد أنني أهدر الكثير من الوقت في تصويب التفاصيل والتحقق من دقتها. إنَّ العمل الحكومي المتعلق بمجال علم الحيوان عبء يثقل كاهلي، وقد أضاعت عليَّ ورقتي البحثية عن «جلين روي» ستة أسابيع. بالرغم من ذلك، فلن أقول إنه وقتٌ مهدر؛ فإذا استطعتُ أن أُثبت للآخرين ما أرى أنه هو الواقع فعلًا، فأعتقد أنَّ ذلك سيكون أمرًا هامًّا. لا يمكن أن أشك في أنَّ المادة المنصهرة الموجودة تحت القشرة الأرضية تتمتع بدرجةٍ عالية من الميوعة؛ فهي أشبه بالبحر تحت الجليد القطبي. وبالمناسبة، أتمنى أن تمدني ببعض الأمثلة من السويد، لكي أستشهد بها والمتعلقة ببقاء الأصداف على السطح، وعدم وجودها في الطبقات المعاصرة من الحصى …

إنني أتذكر ما سمعتك تقوله كثيرًا وهو أنَّ للريف تأثيرًا سيئًا جدًّا على المفكرين؛ فالضباب الكثيف مع الرذاذ الخفيف سيطفئ بعض التخمينات المهمة. لعلك ترى أنني قد بدأتُ أشبه اللندنيِّين في حديثي، وأمقُت أهل الريف المساكين الذين يتنفسون الهواء النقي بدلًا من الدخان، ويرون الحقول الواسعة بدلًا من المنازل المصنوعة من الطوب في شارع مالبوره، وهو المنظر الذي أعترف بأنني أبغضه. إنني سعيد لسماع تقريرك الإيجابي عن اجتماع الجمعية البريطانية، ومما يزيد سعادتي أنني كنت أخوض معاركه مع باسيل هول وستوكس وغيرهما الكثير، وكنت قد توصلت إلى أنه كان اجتماعًا ممتازًا بلا شك، وذلك من خلال قراءتي للتقرير في نادي الأنثيام. وقد استمتعتُ كثيرًا بما سمعتُه عن الخلاف بين دون رودريك [موركيسون] وبابيدج. يا له من أمرٍ مثير للشفقة أنَّ الأخير كان عنيدًا للغاية … إنَّ هذا الخطاب مُفكَّك ومليء بالهراء، حتى إنني أتوقف للتنفُّس بعد كلِّ جملة، وستحتاج أنت أيضًا إلى أن تفعل الأمر مثله حين تقرؤه …

إنني أتمنى من كلِّ قلبي لو كان كتابي الجيولوجي قد نُشر. لديَّ كل الأسباب التي تحفزني على الاجتهاد في العمل، واتباعًا لخطاك سوف أُواصل العمل بهذا القَدْر نفسه من الاجتهاد لكي أُحافظ على تحقيقِ تقدُّمٍ جيد. سأُحب أن يُنشَر كتابي قبل صدور الطبعة الجديدة من كتابك «مبادئ». وبالإضافة إلى تقديمِ نظرية الشعاب المرجانية، أعتقد أنَّ الفصول المتعلقة بالبراكين سوف تتضمن حقائقَ جديدة. يؤسفني أنني قد أصبحتُ أميل إلى التكاسُل — عن العمل الجيولوجي الخالص في الفترة الأخيرة؛ إذ يغريني هذا العدد الرائع من الآراء الجديدة التي تَصدُر بغزارة وثبات عن تصنيف الحيوانات والحشرات، وعن العلاقات بينها وكذلك عن غرائزها، والتي تتعلق جميعها بمسألة الأنواع. لقد ملأتُ الدفتر تلو الدفتر بالكثير من الحقائق عن هذه المسألة، والتي قد بدأ تجتمع معًا «بوضوح» تحت قوانينَ فرعية.

طابت ليلتُك يا عزيزي لايل. لقد أطلت في خطابي، واستمتعتُ بالحديث إليك بأقصى درجةٍ ممكنة دون أن ألتقي بك شخصيًّا. فلتضع في الحسبان ما للريف من تأثيرٍ سيئ؛ لذا، طابت ليلتك مرةً أخرى.

المخلص دومًا
تشاز داروين

أرجو منك أن تخبر السيدة لايل بخالص شكري.

[إنَّ ما دونه عما كتبه من أعمال خلال هذا العام لا يشير على نحوٍ واضح لأهم عمل كان لا يزال طور الإعداد، ألا وهو: وضع حجر الأساس لما سيكون فيما بعد الإنجاز الأهم في حياته. ويتضح ذلك في خطابه السابق إلى لايل، الذي يتحدث فيه عن كونه «متكاسلًا»، وكذلك تؤيد الفقرة التالية من أحد خطاباته إلى فوكس، وجهة النظر تلك:

إنني سعيد لإدراك أنك شخصٌ رائع للغاية؛ إذ إنك لم تنسَ أسئلتي عن تلقيح الحيوانات. إنها هوايتي الأساسية، وأنا أعتقد فعلًا أنني سأتمكن ذات يوم من إضافةِ شيءٍ في المجال المعقَّد للغاية المتعلق بالأنواع الحية والضروب.]

(٣) من ١٨٣٩ إلى ١٨٤١

[في شتاء عام ١٨٣٩ (٢٩ يناير)، تزوج أبي بابنة عمه، إيما ويدجوود [ابنة جوزايا ويدجوود من مير، وحفيدة مؤسِّس مصنع إتروريا بوتري ووركس، الذي كان يعمل في مجال الفخار.] كان المنزل الذي شهد السنوات القليلة الأُولى من حياتهما الزوجية، وهو المنزل رقم ١٢ في شارع أبَر جاور في لندن، منزلًا عاديًّا، وكان يضم غرفةَ استقبال في الأمام، وغرفةً صغيرة في الخلف، وهي التي كانا يعيشان فيها طلبًا للهدوء. في السنوات اللاحقة، اعتاد أبي أن يسخر من القبح الشديد للأثاث والسجاد وغير ذلك في هذا المنزل. أمَّا السمة الوحيدة التي كانت بمنزلة تعويض لهما، فهي أنَّ حديقة المنزل كانت أفضل من معظم المنازل في لندن؛ فقد كانت رقعة بعرض المنزل نفسه، وكان يبلغ طولها ثلاثين ياردة. إنَّ هذه الرقعة الصغيرة من العشب الرث قد جعلت منزل لندن مقبولًا أكثر لِقاطنَيه اللذين نشآ في الريف.

وعن حياته في لندن، يكتب إلى فوكس (أكتوبر ١٨٣٩): «إننا نحيا حياةً غاية في الهدوء؛ إنَّ ديلامير نفسها، والتي تصفها أنت بأنها مكانٌ منعزل للغاية، تُعد مكانًا صاخبًا مقارنةً بشارع جاور، وأنا أتحمل مسئولية قولي هذا. لقد توقفنا عن حضور جميع الحفلات؛ إذ إنها لا تتوافق مع كلَينا، وإذا كان المرء يتمتع بالهدوء في لندن، فما من شيء يعادل هذا الهدوء؛ فثَمَّةَ جلال في ضبابها المختلط بالدخان، والأصوات البعيدة الخافتة لمركباتها وعربات الأجرة. وربما تدرك أنني في طريقي إلى أن أصبح لندنيًّا تمامًا، وأنا أبتهج جدًّا حين أفكر أنني سأظل هنا على مدى الشهور الستة القادمة.»

يزداد عدد الإدخالات التي يُذكر فيها المرض في مفكرته اليومية، في هذه الفترة؛ ونتيجةً لذلك، فقد زاد تواتُر العطلات وطالت مدتها؛ فقد قضى الفترة من ٢٦ أبريل إلى ١٣ مايو من عام ١٨٣٩ في مير وشروزبيري، ومرةً أخرى، في الفترة ما بين ٢٣ أغسطس إلى ٢ أكتوبر، سافر من لندن إلى مير، وشروزبيري، وبيرمينجهام والتي حضر فيها اجتماع الجمعية البريطانية.

على سبيل المثال، نجد هذا الإدخال المؤرَّخ في أغسطس ١٨٣٩: «في أثناء زيارتي إلى مير، قرأت قليلًا، وكنت مريضًا للغاية، وخاملًا بدرجةٍ فاضحة. لقد توصلت بكل تأكيد إلى أنَّه لا يُوجد شيء لا يُطاق مثل الخمول.»

في نهاية عام ١٨٣٩، وُلِد طفله الأول، وحينها بدأ ملاحظاته التي نُشِرت في النهاية في كتاب «التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوان». ويُوضِّح هذا الكتاب، وكذلك الورقة البحثية القصيرة التي نُشِرت في دورية «مايند» [يوليو ١٨٧٧] كيف أنه كان يراقب ابنه عن قربٍ شديد. ويبدو أنه كان متفاجئًا من مشاعره تجاه الرضيع الصغير؛ فقد كتب إلى فوكس (يوليو ١٨٤٠): «إنه [أي، الرضيع] ساحر للغاية، حتى إنني لا أستطيع ادعاء التواضُع. لا يمكن لأيِّ أحدٍ أن يجاملنا بشأنِ مَدحِ رضيعنا؛ إذ لا يمكن لأحدٍ أن يقول أيَّ شيءٍ في مديحه لسنا على وعيٍ تام به … إنني لم أكن أتخيل على الإطلاق أنَّني قد أُكِن هذا القَدْر الكبير من المشاعر لرضيعٍ عمره خمسة شهور. سوف تدرك من هذا أنَّني أتمتع بدرجةٍ عالية من مشاعر الأبوة المتوهجة.»

خلال هذه السنوات، كان يعمل بنحوٍ متقطع على كتابه عن «الشعاب المرجانية»؛ إذ كان يمنعه المرض باستمرار عن مواصلة العمل. ولهذا، فهو يتحدث عن «إعادة البدء» في الكتابة فيه في فبراير ١٨٣٩، ثم في أكتوبر من العام نفسه، ومرة ثالثة في يوليو ١٨٤١، «بعد فترة انقطاعٍ تزيد على ثلاثة عشر شهرًا». وأمَّا عن أعماله العلمية الأخرى، فقد تمثَّلَت في مساهمة له في الجمعية الجيولوجية6 عن الجلاميد الصخرية و«الحريث الجليدي» في أمريكا الجنوبية، إضافةً إلى عددٍ قليل من الأوراق البحثية الصغيرة عن موضوعاتٍ جيولوجية. وقد انشغل أيضًا في العمل على الجزء الخاص بالطيور من كتاب «دراسة حيوانات «البيجل»»، الذي كان يتمثل في الكتابة عن عادات الطيور التي وصفها جولد، وتوزيع أنواعها.]

من تشارلز داروين إلى سي لايل
صباح الأربعاء [فبراير ١٨٤٠]
عزيزي لايل

أشكرك شكرًا جزيلًا على خطابك الطيب. سوف أرسل للحصول على نسخة من جريدة «ذا سكوتسمان». يعتقد الدكتور هولاند أنه قد عرف ما بي من علَّة، وهو يأمل الآن أن يتمكن من مساعدتي على استرداد عافيتي. أليس من المخزي حقًّا أنه قد مرَّت الآن تسعةُ أسابيع منذ أن تمكنت من إنجازِ عملِ يومٍ بأكمله، وأنه لم تتجاوز فترة عملي أربعة أيام ونصف؟ لكنني سأكف عن التذمُّر، رغم أنه من الصعب تجنُّب ذلك. منذ أن قرأتُ خطابك، رحت أُراجع الفصل الذي كتبتُه عن الشعاب المرجانية، وقد وجدتُ أنني مستعد للدفاع عن كلِّ ما جاء فيه تقريبًا؛ فهو مكتوبٌ بحذر ودقةٍ أكثرَ مما توقعت. لقد عزمتُ على أن أنتهي من كتابي حول هذا الموضوع، قبل نشر الطبعة الجديدة من عملك، وصدِّقني في أنَّ ذلك ليس لكي تلاحظ فيه أيَّ شيءٍ جديد (إذ ليس به من جديدٍ سوى القليل جدًّا بجانب التفاصيل)؛ فأنت الرجل الوحيد في أوروبا الذي أَتلهَّف دومًا على أن أسمع منه الحقيقة بشأن أيِّ مسألةٍ تتسم بالتعقيد. إنَّ مخطوطتي تعم فيها الفوضى، ولولا ذلك، فأنا أثق في أنكَ كنت لَتُلقي نظرة على أيِّ جزءٍ تختاره منها، إذا كنت ترى أنَّ ذلك يستحق وقتك …

[في خطاب إلى فوكس (يناير ١٨٤١) يُوضِّح أنَّ «عمله عن الأنواع» لا يزال يشغل ذهنه:

إذا كان لا يزال لديك أيُّ اهتمامٍ بالتاريخ الطبيعي، فإنني أُرسل لك هذا التذييل تذكيرًا لك بأنني أُواصل جمعَ كلِّ أنواع الحقائق المتعلقة بموضوع «الضروب والأنواع» وذلك لأستخدمها في عملي الذي سيظهر ذات يوم بهذا الاسم. وأنا أقبل حتى أصغر الإسهامات وسأكون شاكرًا عليها؛ أوصاف السلالات الناتجة عن جميع أنواع التلقيح المتبادل بين جميع الطيور الداجنة والحيوانات مثل الكلاب والقطط، وما إلى ذلك، ذات قيمة وفائدةٍ كبيرة للغاية. ولا تَنسَ أنه حين تموت قطتك الأفريقية الهجينة، فإنني سأكون ممتنًّا للغاية إذا أرسلتَ لي جثتها في سلةٍ صغيرة لأفحص هيكلها العظمي، وستكون هي أو غيرها من أيِّ طيورٍ هجينة مثل الحمام أو الدواجن أو البط أو ما شابه، أفضل من أجودِ فِخاذ الغزلان أو السلاحف.

وفي فترةٍ لاحقة من العام (سبتمبر)، يكتب إلى فوكس عن صحته، ويشير أيضًا إلى خطته بشأن الانتقال إلى الريف:

إنني أُحقِّق تقدمًا ثابتًا، وأعتقد حقًّا أنني سأسترد صحتي بعض الشيء ذات يوم. إنني أكتب يوميًّا لبضع ساعات في كتابي عن الشعاب المرجانية، وأقوم بجولةِ سَير أو جولةِ ركوبٍ قصيرة كل يوم. إنني أصير مرهقًا جدًّا في المساء، ولا أكون قادرًا على الخروج في ذلك الوقت، ولا حتى على استقبال أقرب أقاربي، غير أنَّ حياتي لم تعُد عبئًا مُضنيًا بعد أن صرتُ الآن قادرًا على العمل. إننا نخطط لمغادرة لندن، والعيش على بُعد قرابة العشرين ميلًا منها على أحد خطوط السكة الحديدية.]

(٤) ١٨٤٢

[يتضمن ما دوَّنه عما كتبه من أعمال كتابه عن «الشعاب المرجانية»7 الذي قد أُرسلَت مخطوطته إلى المطابع أخيرًا في يناير من هذا العام، وصُحِّحت آخر بروفات الطباعة الخاصة به في مايو. وهو يكتب عن هذا العمل في مفكرته اليومية ما يلي:

لقد بدأت هذا العمل قبل ثلاث سنوات وسبعة أشهر. وقد قضيتُ من هذه المدة عشرين شهرًا في العمل عليه (إضافةً إلى الوقت الذي استغرقتُه في العمل عليه خلال رحلة «البيجل»). وإلى جانب هذا، جمعتُ في هذه المدة أيضًا الجزء الخاص بالطيور في كتابِ «دراسة حيوانات رحلة «البيجل»»، وكتبتُ ملحقًا ﻟ «يوميات الأبحاث»، وورقةً بحثية عن الجلاميد الصخرية، وصوبتُ أوراقًا بحثيةً حول جلين روي والزلازل، بالإضافة إلى القراءة عن الأنواع. أمَّا بقية هذه المدة، فقد أضاعها عليَّ المرض.

قضى مايو ويونيو في شروزبيري ومير، ومن هناك، ذهب في جولةٍ صغيرة في ويلز، والتي تحدث عنها في عمله «ذكريات» ونُشِرت نتائجها في ورقته البحثية «ملاحظات عن آثار الأنهار الجليدية القديمة في كارنارفنشير وعن الجلاميد الصخرية التي نقلها الجليد المنجرف».8
ويقول السيد آرتشيبولد جيكي عن هذه الورقة إنها تأتي «في مقدمة القائمة الطويلة للإسهامات الإنجليزية فيما يتعلق بالعصر الجليدي».9

أمَّا الجزء اللاحق من هذه السنة، فهو يعود إلى الفترة التي تتضمن استقراره في داون؛ ولهذا، فإننا سنتناولها في فصلٍ آخر.]

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤