الفصل التاسع

الحياة في داون

١٨٤٢–١٨٥٤

تسير حياتي كالساعة، وإنني مستقر في المكان الذي سوف تنتهي فيه.

من خطاب إلى القبطان فيتزروي، أكتوبر، ١٨٤٦

[مع نيتي في رواية قصة نشأة كتاب «أصل الأنواع» روايةً متصلة في الفصول التالية، فقد أخرجتُ أهم الخطابات المتعلقة بذلك الموضوع من ترتيبها الزمني الصحيح هنا ووَضعتُها مع بقية المراسلات المتصلة بنفس الموضوع؛ وهكذا لن نحصل في المجموعة الحالية من الخطابات إلا على إشاراتٍ من حينٍ لآخر عن نشأةِ رؤى أبي فيما يتعلَّق بهذا الموضوع، ولنا أن نعتبر أننا نرى حياته هنا كما ربما رآها أولئك الذين لم يكن لديهم علم بالنشوء الهادئ لنظريته عن التطوُّر أثناء هذه الفترة.

في ١٤ سبتمبر عام ١٨٤٢، غادر أبي لندن مع أُسرته واستقر في داون. وقد ذُكرت دوافعه لاتخاذ هذه الخطوة بالانتقال للريف في فصل السيرة الذاتية باختصار. إنه يتحدث عن حضورِ اجتماعات الجمعيات العلمية والواجبات الاجتماعية العادية قائلًا إنها لا تُناسب صحته «بالمرة حتى إننا اعتزمنا العيش في الريف، وهو ما فضَّلناه ولم نندم عليه قَط.» وقد عبَّر عن نواياه لمواكبة الحياة العلمية في لندن في خطاب إلى فوكس (ديسمبر، ١٨٤٢)، قائلًا:

أتمنى أن أحافظ على اتصالي برجال العلم وعلى حماسي العلمي بالذهاب إلى لندن لليلةٍ كلَّ أسبوعَين أو ثلاثة، وذلك حتى لا أتحول تمامًا إلى كائن خامل.

وقد ظل محافظًا على هذه الزيارات إلى لندن لسنواتٍ عدة على حسابِ بذلِ مجهودٍ كبير من جانبه. وطالما سمعتُه يتحدث عن الرحلات المضنية التي كان يقطع فيها عشرة أميال من كرويدن أو سيدنام أو إليها — اللذَين هما أقرب محطتَين — مع بستانيٍّ عجوز يعمل كحوذي، الذي كان يقود به بحذر وبطء بالغَين في صعوده التلال العديدة وهبوطه منها. لكن في السنوات اللاحقة، صار أي تواصُلٍ علمي منتظم مع لندن ضربًا من المستحيل، كما ذُكر سلفًا.

وكان اختيار داون ناتجًا بالأحرى عن يأس لا عن تفضيلٍ حقيقي؛ فقد أعيا أبي وأمي البحث عن منزل، وهكذا، بدا لهم في النقاط الجاذبة في المكان تعويضًا إلى حدٍّ ما عن عيوبه الجلية بعض الشيء؛ فقد كان على الأقل يُلبي مبتغًى ضروريًّا، ألا وهو الهدوء. لا شك أن العثور على مكانٍ أكثرَ عزلة وقريبًا هكذا إلى لندن كان سيكون أمرًا عسيرًا. في عام ١٨٤٢ كان استقلالُ عربة لمسافةِ عشرين ميلًا تقريبًا هو السبيل الوحيد للوصول إلى داون؛ وحتى الآن بعد أن صارت السكك الحديدية أقرب لها، فإنها بمعزل عن العالم على نحوٍ فريد، وليس لديها ما يوحي بمجاورتها للندن إلا غَيمة الدخان الغَبشاء التي تغشى السماء أحيانًا. وتقع القرية في زاوية بين اثنَين من أكبر الطرق الرئيسية في الريف، اللذَين يؤدي أحدهما إلى تونبريدج والآخر إلى ويسترام وإدينبريدج. ويفصلها عن منطقة ويلد سِلسلةٌ من التلال الطباشيرية المنحدرة في الجنوب، وتلٌّ شديد الانحدار، وهو الذي صار الآن ممهدًا عن طريقِ عملِ نفق وجسر، لكن لا بد أنه شَكَّل في السابق عائقًا أمام أيِّ تقدُّم من ناحية لندن. في ظل هذا الوضع، أمكن للقرية، التي لا تتصل بخطوط النقل الرئيسية إلا عن طريقِ طرقٍ حجرية ملتوية، أن تحافظ على شخصيتها المنعزلة. ولم يكن من الصعب تصديقُ وجودِ مُهرِّبِين وقوافلِ خيولهم المُحمَّلة وهم يشُقُّون طريقهم من قرى ويلد القديمة غير الخاضعة للقانون، وهي التي كانت ذكراها ما زالت باقيةً حين استقر أبي في داون. وتقوم القرية على أرضٍ مرتفعة منزوية، على ارتفاع ٥٠٠ إلى ٦٠٠ قدمٍ فوق سطح البحر، وهي منطقةٌ شحيحة من حيث جمال الطبيعة، لكنها تمتلك سحرًا خاصًّا مَكمنُه في الآجام، أو المساحات المُتناثِرة من الغابات، التي تُغطِّي الضفاف الطباشيرية وتُطلُّ على أراضي الوديان الهادئة المحروثة. وتلك القرية، التي يأهلها ٣٠٠ أو ٤٠٠ من السكان، تتألف من ثلاثةِ شوارعَ صغيرة من الأكواخ التي تلتقي لدى الكنيسة الضئيلة المبنية من حجر الصوان. وهي مكان يندُر فيه رؤية وافدِين جُدد، والأسماء الواردة في الصفحات الأُولى من السجلات القديمة للكنيسة ما زالت معروفة في القرية. أمَّا عن العباءات الريفية، فهي لم تندثر تمامًا بعدُ، وإن كان يستخدمها في المقام الأول «حملة التوابيت» في الجنازات كرداءٍ رسمي، لكنني أتذكر تلك العباءات، سواءٌ الأرجواني منها أو الأخضر، وهي التي كان يرتديها الرجال في الكنيسة حين كنتُ صبيًّا.

ويقع المنزل على بُعد رُبع ميل من القرية، وقد بُني، شأن الكثير من منازل القرن الماضي، قريبًا قَدْر الإمكان من الطريق — الذي هو عبارة عن مسارٍ ضيق متعرج يؤدي إلى طريقِ ويسترام الرئيسي. وكان المنزل في عام ١٨٤٢ على قدْرٍ كبير من الكآبة وانعدام عناصر الجاذبية؛ فقد كان مبنًى مُربَّعًا من الطوب مُكوَّنًا من ثلاثةِ طوابق، مغطًّى بطلاءٍ جيري أبيض وبلاطٍ ناتئ من نوعٍ رديء. أمَّا الحديقة فلم يكن بها أيٌّ من الشجيرات أو الأسوار التي تحيط بها الآن، وكان يُطل عليها من الطريق، وكانت مفتوحة ومقفرة وموحشة. وكان من أُولى المهام التي أَقدَم أبي عليها تخفيضُ الطريق بقَدْر قدمَين تقريبًا، وبناءُ سُورٍ من حجر الصوان بامتداد ذلك الجزء الذي يحدُّ الحديقة منه. وقد استُخدِمَت التربة التي استُخرجَت في إنشاءِ هضابٍ وروابٍ حول المرج، والتي قد زُرعَت بنباتاتٍ دائمة الخضرة، والتي تعطي الآن الحديقة طابعها المنعزل والمَصون.

وقد جرى تعديل المنزل ليبدو أكثر أناقة وذلك بطلائه بالجص، لكن التعديل الرئيسي الذي أُدخل عليه كان بناء شرفة كبيرة ناتئة ممتدة عبر الثلاثة طوابق. وقد صارت هذه الشرفة مغطاة بشبكة من النباتات المتسلقة، وقد غيَّرت الجانب الجنوبي من المنزل تغييرًا مبهجًا. أمَّا غرفة الاستقبال بشرفتها المؤدية إلى الحديقة، وكذلك حجرة المكتب التي كان أبي يعمل فيها خلال السنوات اللاحقة من حياته، فقد أُضيفتا في أوقات تالية.

بيع مع المنزل ١٨ فدَّانًا من الأراضي، شكل ١٢ فدَّانًا منها في الناحية الجنوبية للمنزل حقلًا جميلًا، تفَرَّقَت فيه أشجارُ بلوط ودردار كبيرةُ الحجم إلى حدٍّ ما. وقد اقتُطِعت مساحة من هذا الحقل وحُولَت إلى حديقة للمطبخ، والتي أُقيمت فيها قطعة الأرض المخصَّصة للتجارب، وحيث أُنشئت الصوبة الزراعية في نهاية الأَمر.

الخطاب التالي الموجه إلى السيد فوكس (٢٨ مارس، ١٨٤٣) يوضح، من بين أشياء أخرى، انطباعات أبي الأُولى عن داون:

سأُخبرك بكلِّ ما يمكن أن يخطر على بالي من تفاصيلَ تافهةٍ تخصني. نحن الآن مشغولون بشدة باللبنة الأُولى التي وُضعت أمس في الجزء الذي جرى إلحاقه بمنزلنا؛ وهكذا تجد أيامي مشحونةً بسبب هذا وبإقامة حديقةٍ جديدة للمطبخ ومشاريعَ أخرى متنوعةٍ مزمعة. وأجد في كل هذا إضرارًا كبيرًا بعملي الجيولوجي، لكنني أتقدم على مهلٍ شديد في كتابةِ عمل، أو بالأحرى كُتيِّب، حول الجزر البركانية التي زرناها: فلا أتدبر سوى ساعتَين يوميًّا وذلك دون انتظامٍ حقيقي. إنها لمهمةٌ عسيرة أن تكتب كتبًا تتكلف مالًا لنشرها ولا يقرؤها حتى الجيولوجيون. لقد نسيتُ ما إن كنتُ قد وصفتُ هذا المكان على الإطلاق: إنه منزلٌ جيد، لكن قبيح جدًّا، معه ١٨ فدَّانًا، ويقع على أرضٍ طباشيرية مسطَّحة، على ارتفاع ٥٦٠ قدمًا فوق سطح البحر. وتلوح مَشاهد من الريف البعيد والمنظر جميل إلى حدٍّ ما. إن مَيزتَه الرئيسية هي طابعه الريفي الشديد. أعتقد أنني لم أعهَد من قبلُ ريفًا يفوقه في هدوئه الشديد. على بعد ثلاثة أميال جنوبًا يفصلنا جرفٌ طباشيري كبير عن الأرض المنخفضة في كِنت، ولا تجد بيننا وبين الجرف قرية أو منزلًا لأحد السادة، وإنما فقط غاباتٌ شاسعة وحقولٌ قابلة للزراعة (الأخيرة بأعدادٍ كبيرة لدرجة تثير الحزن)؛ ومِن ثَمَّ، فنحن قطعًا نقف في أقصى حدود العالم. وتتقاطع أنحاء البلد من خلال ممرات المشاة؛ لكن السطح الطباشيري طيني ودبق، وهذه أسوأ سمات المنزل. كثيرًا ما تُذكِّرني الوديان الحرجية والضفاف بكامبريدجشير وجولات السير معك إلى منطقة تشيري هينتون، وغيرها من الأماكن، وإن كان المظهر العام للمكان مختلفًا للغاية. كنتُ أَتفحَّص خزانتي المرتبة (التي تضم البقايا الوحيدة التي حفظتها من كل حشراتي الإنجليزية)، فأخذتُ أُطالع بإعجاب خنفساء الصليب الأرضية؛ من الغريب كيف تستدعي هذه الحشرة صورتَك حيةً في ذهني، حين قُدِّمتُ إليكَ أول مرة، بينما كانت فان الصغيرة تُهروِل وراءك. إن أيام العمل في مجال علم الحشرات تلك كانت سعيدةً جدًّا. إنني أقوى كثيرًا بدنيًّا، لكنني لست أفضل حالًا بكثير في قدرتي على تحمُّل الإنهاك الذهني، أو بالأحرى الإثارة، حتى إنني لا أقوى على تناوُل العَشاء بالخارج أو استقبال الزائرِين، عدا الأقارب الذين أستطيع قضاء بعض الوقت معهم بعد العَشاء في صمت.

كنتُ أتمنى لو أستطيع هنا إعطاء فكرة عن المكانة التي شغلها أبي، خلال هذه الفترة من حياته، بين رجال العلم وجمهور القُراء عامةً. لكن المقالات النقدية المعاصرة لهذه الفترة قليلة ولا تُفيد غرضي بوجهٍ خاص — الذي سيظل بالتالي غيرَ مُتحقِّق — للأسف الشديد.

إن كتابه «يوميات الأبحاث» كان الوحيد بين كتبه الذي أتيح له فرصة أن يُعرف بعض الشيء. لكن نشره مع سرد القبطانَين كينج وفيتزروي لِرحلتَيهما ربما حال دون اكتسابه لشهرةٍ واسعة؛ ومِن ثَمَّ، فقد كتب له لايل عام ١٨٣٨ («حياة لايل»، المجلد الثاني، صفحة ٤٣)، قائلًا: «أؤكد لك أن أبي متحمس تمامًا بشأنِ يومياتك … وهو يوافقني الرأي أنها كانت ستُباع بأعدادٍ كبيرة لو كانت نُشرت بمفردها. وقد شعر بخيبةِ أملٍ حين سمع أن المجلدَين الآخرَين سيعوقان شهرتها؛ فرغم أنه ما زال سيشتريها، فإنه خشي أن كثيرًا جدًّا من العامة سيحجمون عن ذلك.» ولم يرد في المقال النقدي الذي جاء عن العمل في مجلة «ذي إدنبرة ريفيو» (يوليو، ١٨٣٩) شيئًا يجعل القارئ يعتقد أنه سيجد اليوميات أكثر جذبًا من المجلدين اللذين صاحباها. وهي، في الواقع، لم تصبح معروفة على نطاقٍ واسع حتى نُشرت وحدها في ١٨٤٥. لكن يمكن الإشارة هنا إلى أن دورية «ذا كورترلي ريفيو» (ديسمبر، ١٨٣٩) في مقالٍ نقدي لها عن العمل وجَّهَت انتباه قُرائها إلى مزايا اليوميات بوصفها كتابَ أسفار؛ حيث يتحدث كاتب المقال عن «السحر الناشئ عن حيوية الروح المنطلقة في هذه الصفحات البكر لمُفكرٍ رائع ومُلاحظٍ بصير وثاقب.»

تحدث مقالٌ نقدي ظهر في العدد ١٢ من صحيفة «هايديلبيرج ياربوشير دير ليتاتور»، عام ١٨٤٧ — على نحوٍ إيجابي عن الترجمة الألمانية (١٨٤٤) لليوميات — حيث يتحدث كاتبه عما يرسمه المؤلف «من لوحةٍ متنوعة الجوانب، يرسم عليها بألوانٍ نابضة بالحياة العادات الغريبة لتلك المناطق النائية بتفاصيلها الحيوانية والنباتية والجيولوجية المميزة.» وقد كتب أبي في إشارة إلى الترجمة قائلًا: «الدكتور ديفينباخ … تَرجَم كتابي إلى الألمانية، ولا بُد أن أتباهى في خُيلاءَ شديدة بأن ذلك كان بتحفيز من ليبيخ وهومبولت.»

أمَّا العمل الجيولوجي الذي يتحدث عنه في الخطاب الوارد أعلاه إلى السيد فوكس، فقد انشغل به طَوالَ عام ١٨٤٣، ونُشر في ربيع العام التالي. وكان يحمل عنوان «ملاحظات جيولوجية حول الجزر البركانية التي جرى زيارتها في رحلة سفينة جلالتها «البيجل» مع بعض الملاحظات المختصرة حول الطبيعة الجيولوجية لأستراليا ورأس الرجاء الصالح»، وقد شكل الجزء الثاني من سلسلةِ كُتبٍ أُلفت حول «جيولوجيا رحلة «البيجل»»، التي نُشرت «بموافقة اللوردات المُفوَّضِين عن وزارة الخزانة». إن الكتاب الذي يتناول «الشِّعاب المرجانية» يُشكِّل الجزء الأول من السلسلة، ونُشر، كما رأينا، في عام ١٨٤٢. ومن أجل القارئ غير المُتخصِّص في الجيولوجيا أقتبس كلماتِ البروفيسور جيكي1 حول هذَين الكتابَين، اللذَين كانا حتى هذا الوقت أهم أعمال أبي الجيولوجية؛ حيث يتحدث عن عمل «الشعاب المرجانية» في صفحة ١٧، قائلًا: «هذه الأطروحة المشهورة، الأكثر أصالة بين كلِّ أبحاثِ كاتبها في علم الجيولوجيا، صارت إحدى كلاسيكيات الأدبيات الجيولوجية. لقد أدى وجود تلك الحلقات البارزة من الصخور المرجانية في وسط المحيط إلى تخميناتٍ كثيرة، لكن لم يُتوصل لحلٍّ مرضٍ للمسألة. وبعد زيارة المؤلِّف للعديد منها، وكذلك معاينة الشعاب المرجانية الممتدة على أطراف بعض الجُزر والقارات، تقدم بنظريةٍ تثير في كلِّ قارئٍ الاندهاش من بساطتها وعظمتها. وإنه مما يبعث على السرور، بعد انقضاء العديد من السنوات، أن يتذكر المرء البهجة التي قرأ بها عمل «الشعاب المرجانية» أول مرة؛ وكيف شاهد الحقائق وهي تُنظم في أماكنها، دون تجاهُلِ أيِّ شيء أو التغاضي عنه باستخفاف؛ وكيف انقاد، خطوةً بخطوة، إلى الاستنتاج العظيم بشأن وقوع هبوط محيطي واسع. لم يُقدَّم للعالم من قبلُ نُموذجٌ لتطبيق المنهج العلمي أجدر بالإعجاب من هذا، وحتى إن لم يكن داروين قد كتب شيئًا آخر، فالأطروحة وحدها كانت ستضعه في طليعةِ باحثي الطبيعة.»
من المثير للاهتمام أن نرى في المقتطف التالي من أحد خطابات لايل2 تقبُّله لنظرية والدي بحماسٍ وطيبِ خاطر. كذلك يتصادَف أن يعطي المقتطف أيضًا فكرة عن النظرية نفسها.
«إنني مهتمٌّ جدًّا بنظرية داروين الجديدة عن الجُزر المرجانية، وقد ألححتُ على هيوويل حتى أجعله يقرؤها في اجتماعنا التالي. لا بد أن أتخلى عن نظريتي عن الفوهات البركانية إلى الأبد، رغم ما سيُسبِّبه لي ذلك من ألم في البداية؛ إذ إنها تفسر الكثير من الأشياء؛ الشكل الحلقي، والبحيرة الشاطئية الوسطى، والارتفاع المفاجئ لجبلٍ معزول في بحرٍ عميق؛ كل هذا كان مُجارِيًا لفكرة البراكين المغمورة والفُوَهيَّة الشكل والمخروطية … والحقيقة التي مؤدَّاها أننا في المحيط الهادئ الجنوبي بالكاد لدينا أيُّ صخورٍ في مناطق الجُزر المرجانية، عدا نوعين، البركانية والجيرية المرجانية! إلا أن النظرية بأكملها قد أُجهضَت رغم كل ذلك، والشكل الحلقي والبحيرة الشاطئية الوسطى لا علاقة لهما بالبراكين، ولا حتى القاع فُوَّهي الشكل. ربما أخبرك داروين حين كان في جزر الرأس الأخضر بما يعتبره السبب الحقيقي. إذا ما غَمرَت المياه أي جبل تدريجيًّا، ونما المرجان في البحر الذي غرِق فيه، فستكون هناك حلقة من المرجان، وأخيرًا لن يكون هناك سوى بُحيرةٍ شاطئية في الوسط. لماذا؟ لنفس سببِ نمو حاجزٍ مرجاني من الشعاب بامتداد سواحلَ معينة: أستراليا وغيرها. الجزر المرجانية هي آخر الجهود التي بذلتها القارات الغارقة لترفع قممها فوق الماء. يمكن تتبُّع أثَر مناطق الارتفاع والهبوط في المحيط من خلال حالة الشعاب المرجانية.» ليس هناك الكثير ليقال من ناحية النقد المعاصر المنشور؛ فالكتاب لم يُستعرض في دورية «ذا كورترلي ريفيو» حتى عام ١٨٤٧، حين استُقبل على نحوٍ إيجابي؛ إذ تحدث الكاتب عن شخصية العمل «الجسورة والمبهرة»، لكن يبدو أنه كان يدرك حقيقة أن الآراء الواردة فيها تُلاقي قبولًا بين الجيولوجيِّين عامةً. في ذلك الوقت كانت عقول الرجال أكثر استعدادًا لتقبُّل هذا النوع من الأفكار الجيولوجية، بل حتى قبل ذلك بعشرة أعوام، في عام ١٨٣٧، يقول لايل:3 «الناس الآن أكثر استعدادًا بكثيرٍ لتصديق داروين حين يُقدِّم أدلة على ارتفاع جبال الأنديز ببطء، عما كانوا في عام ١٨٣٠، حين صدمتُهم بهذه الفكرة.» وتشير هذه الجملة للنظرية التي جاءت بالتفصيل في ملاحظات أبي الجيولوجية عن أمريكا الجنوبية (١٨٤٦)، لكن لا بد أن التغيُّر التدريجي في قدرة العقل الجيولوجي على التقبُّل كان مؤاتيًا لكل أعماله في مجال الجيولوجيا. غير أنه يبدو أن لايل لم يتوقع في البداية على الإطلاق قبولًا سريعًا لنظرية الشعاب المرجانية؛ وهكذا كتب إلى أبي خطابًا عام ١٨٣٧ قال فيه: «ظللتُ لعدة أيام غيرَ قادرٍ على التفكير في أي شيءٍ بخلاف قِمم القارات المغمورة، بعد كلمتك حول الشعاب المرجانية. إن كلَّ ما قلته صحيح، لكن لا تدع الزهو بنفسك يدفعك لتظن أنك ستلقى تصديقًا قبل أن يغزو الصلعُ رأسَك مثلي، بالعمل الشاق والامتعاض إزاء ارتياب العالم.»

الجزء الثاني من سلسلة الكتب التي تتناول «جيولوجيا رحلة «البيجل»»؛ أي كتاب «الجزر البركانية»، الذي يعنينا بوجهٍ خاص الآن، لا يمكن وصفه بشيء أفضل من الاقتباس من كلام البروفيسور جيكي مرةً أخرى (صفحة ١٨):

«هذا العمل المليء بالملاحظات المفصَّلة لا يزال أفضلَ مرجعٍ فيما يتعلق بالتركيب الجيولوجي العام لأغلب المناطق التي يصفها. في الزمن الذي كُتب فيه كانت «نظرية فوهة الارتفاع» مقبولةً بوجهٍ عام، في أوروبا على الأقل، رغم معارضة كونستا بريفو وسكروب ولايل لها. فإن داروين لم يستطع تقبُّلها باعتبارها تفسيرًا سليمًا للواقع؛ ورغم أنه لم يشارك معارضيها الرئيسيِّين في وجهة نظرهم، وأقدم على تقديمِ نظريةٍ خاصة به، فالملاحظات التي قام بها ووصفها بحيادية في هذا الكتاب يجب النظر لها باعتبارها قد ساهمت في الوصول لحلٍّ نهائي للمسألة.» ويكمل البروفيسور جيكي كلامه قائلًا (صفحة ٢١): «إنه أحد أوائل الكُتاب الذين أدركوا حجم التعرية التي تعرَّضَت لها حتى التراكُمات الجيولوجية الحديثة. وأحدُ أروع الدروس المستخلَصة من بيانه عن الجزر البركانية هو الدرجة الهائلة التي تعرَّت بها … وقد مال إلى أن ينسب هذا إلى البحر أكثر مما قد يرى أغلب الجيولوجيِّين الآن؛ لكنه عاش حتى عدَّل آراءه الأصلية، وإن أقواله الأخيرة في هذا الموضوع مواكبة للعصر تمامًا.»

ويُعبِّر أبي عن تقديره لعمله في هذا الاقتباس من أحد خطاباته إلى لايل؛ إذ يقول: «لقد أسعدتَني كثيرًا بقولك إنك تنوي الاطلاع على كتابي «الجزر البركانية». لقد استغرق ثمانية عشر شهرًا! وسمعتُ أن قليلًا جدًّا مَن قرءوه. وأنا الآن أشعر أنه مهما كان التأييد قليلًا (وهو قليل فعلًا) للعمل القديم، أو الجديد، فسيترك جهدي أثرًا ولن يضيع.»

ويمكن هنا ذِكرُ كتابه الثالث في الجيولوجيا، «ملاحظات جيولوجية عن أمريكا الجنوبية»، رغم أنه لم يُنشر حتى عام ١٨٤٦. «في هذا العمل، ضمَّن المؤلف كل المواد التي جمعَها لشرح الطبيعة الجيولوجية لأمريكا الجنوبية، ما عدا بعضًا منها الذي نُشر في موضعٍ آخر. إحدى أهمِّ سمات الكتاب كان الدليل الذي تقدَّم به لإثبات الارتفاع البطيء المتقطع لقارة أمريكا الجنوبية خلال فترةٍ جيولوجيةٍ حديثة.»4

وقد كتب أبي إلى لايل متحدثًا عن هذا الكتاب، فقال: «سيقع كتابي في نحو ٢٤٠ صفحة، وسيكون مملًّا لدرجةٍ رهيبة، لكن مكثفًا للغاية. وأعتقد أنك، متى تسنَّى لك الوقت لتصفُّحه، فستجد أن مجموعة الحقائق المتعلقة بارتفاع الأرض وتكوُّن الشرفات جيدةٌ إلى حدٍّ ما.»

وقد علَّق البروفيسور جيكي على أعماله المتميزة في مجال الجيولوجيا ككل، مع الإشارة إلى أنها لم تكن «مُبشِّرة بعهد جديد كأبحاثه البيولوجية»؛ فيقول إنه «أعطى دفعةً قوية» للترحيب العام بأفكار لايل «من خلال الطريقة التي جمع بها حقائقَ من شتَّى أجزاء العالم لدعمها.»

(١) عمله في الفترة من ١٨٤٢ إلى ١٨٥٤

يمكن تقسيم العمل الذي أَنجَز خلال هذه السنوات بوجهٍ عام إلى فترة خاصة بالجيولوجيا من ١٨٤٢ حتى ١٨٤٦، وأخرى خاصة بعلم الحيوان من ١٨٤٦ لما بعده.

أقتبس هنا من مذكراته ملاحظاته عن الوقت الذي قضاه في كتبه في الجيولوجيا وكتابه «يوميات الأبحاث».

  • «الجزر البركانية». من صيف عام ١٨٤٢ حتى يناير ١٨٤٤.

  • «ملاحظات جيولوجية عن أمريكا الجنوبية». من يوليو ١٨٤٤ حتى أبريل ١٨٤٥.

  • الطبعة الثانية من كتاب «يوميات الأبحاث». من أكتوبر ١٨٤٥ حتى أكتوبر ١٨٤٦.

إن الوقت بين أكتوبر ١٨٤٦ وأكتوبر، ١٨٥٤، كُرِّس تقريبًا للعمل على هدابيات الأرجل (البرنقيلات)؛ ونَشرَت جمعية راي النتائج في مجلدَين في عامَي ١٨٥١ و١٨٥٤. ونَشرَت جمعية علم الحفريات التصويري مجلدَيه عن حفريات هدابيات الأرجل في عامَي ١٨٥١ و١٨٥٤.

ستَرِد بعض المعلومات عن هذه المجلَّدات لاحقًا.

يمكن وضع الأعمال الصغيرة معًا، بصرف النظر عن الموضوع.

«ملاحظات حول تركيب، إلخ، جنس الدودة السهمية»، مجلة «أنالز أوف ناتشورال هيستوري»، المجلد ١٣، عام ١٨٤٤، الصفحات ١–٦.

«وصف مختصر لعدة ديدان مسطحة أرضية، إلخ»، مجلة «أنالز أوف ناتشورال هيستوري»، المجلد ١٤، عام ١٨٤٤، الصفحات ٢٤١–٢٥١.

«بيان عن الغُبار الذي يسقط عادةً على السفن في المحيط الأطلنطي»، دورية «جيولوجيكال سوسيتي جورنال»، المجلد الثاني، عام ١٨٤٦، الصفحات ٢٦–٣٠. (جدير بالذكر أن ثَمَّةَ جملةً مثيرة للاهتمام في هذه الورقة البحثية تدُل على إدراك المؤلف لأهمية كل وسائل التوزيع: «الحقيقة التي مؤداها أن جسيماتٍ بهذا الحجم جُلبت لمسافة ٣٣٠ ميلًا على الأقل من البر لهي أمرٌ مثير للاهتمام وذلك فيما يخُص توزيع النباتات اللازهرية.»)

«عن الطبيعة الجيولوجية لجزر فوكلاند»، دورية «جيولوجيكال سوسيتي جورنال»، المجلد الثاني، عام ١٨٤٦، الصفحات ٢٦٧–٢٧٤.

«حول نقل الجلاميد التي جرفتها الأنهار الجليدية، إلخ»، دورية «جيولوجيكال سوسيتي جورنال»، المجلد الرابع، عام ١٨٤٨، الصفحات ٣١٥–٣٢٣.

مقال «الجيولوجيا» في كتاب «دليل ديوان البحرية للاستقصاء العلمي» (١٨٤٩)، الصفحات ١٥٦–١٩٥. كُتب هذا المقال في ربيع ١٨٤٨.

«حول حفريات الليباديديات Lepadidae البريطانية»، دورية «جيولوجيكال سوسيتي جورنال»، المجلد السادس، ١٨٥٠، الصفحتان ٤٣٩-٤٤٠.

«مقارنة تركيب بعض الصخور البركانية مع تركيب الأنهار الجليدية»، دورية «إدنبرة رويال سوسيتي بروسيدينجز»، المجلد الثاني، عام ١٨٥١، الصفحات ١٧-١٨.

وقد تكرم البروفيسور جيكي بإعطائي انطباعاته (في خطاب بتاريخ نوفمبر ١٨٨٥) عن مقال أبي في «دليل ديوان البحرية للاستقصاء العلمي»، حيث يذكر النقاط التالية باعتبارها السمات المميزة للعمل:
  • (١)

    سَعَة كبيرة في الرؤية. لا يمكن لشخص لم يدرس المسائل التي نُوقشت دراسةً عملية أو يفكر فيها تفكيرًا عميقًا أن يكتبه.

  • (٢)

    نفاذ البصيرة الواضح للغاية فيما يتعلق بكلِّ ما قدمه السيد داروين. الطريقة التي يعرض بها خطوط الاستقصاء التي ستحُل المشكلات الجيولوجية من السمات المميزة له بدرجةٍ كبيرة. بعض هذه الخطوط لم يُجرَ اتباعها على نحوٍ ملائم قط؛ لذا فقد كان سابقًا لعصره بشأنها.

  • (٣)

    معالجة ممتعة ومثيرة للاهتمام؛ فالمؤلِّف يجعل القُراء في حالة من الانسجام معه في الحال؛ حيث إنه يعطيهم معلوماتٍ كافية حتى يَرَوا مدى بهجة المجال الذي يدعوهم للانخراط فيه، وحجم ما قد يُحقِّقونه في إطاره. ويُوجد مخطَّطٌ واسع للموضوع يستطيع أيُّ شخصٍ اتباعه، وهناك تفاصيلُ كافية لتوجيه أي مبتدئ وإرشاده ووضعه على المسار الصحيح.

لقد تقدَّمَت الجيولوجيا بالتأكيد بخطواتٍ واسعة منذ عام ١٨٤٩، وكان المقال، إن كُتِب الآن، فسيحتاج لإيلاء الاهتمام لفروعٍ أخرى من الاستقصاء، وتعديل الجمل التي لا تُعد دقيقة تمامًا الآن؛ إلا أن أغلب النصائح التي يُقدِّمها السيد داروين لا تزال ضروريةً وقيِّمة الآن كما كانت حين قدَّمها. ومن الغريب ملاحظة ما لدَيه من بديهةٍ سديدة في تبني المبادئ التي صَمدَت أمام تحدِّي الزمان.

قال أبي في خطاب إلى لايل (١٨٥٣): «لقد كان هناك بحثٌ قدَّمه دكتور ساذرلاند، المتخصص في منطقة القطب الشمالي، حول فعل الجليد، والذي قد قرأتُ ملخَّصه فقط، لكنني أعتقد أنه ذو محتوًى جيد جدًّا. وكان من دواعي سروري الشديد أن أعرف أنه كُتب بسبب كتاب «دليل ديوان البحرية للاستقصاء العلمي».»

لإعطاء فكرة عن الحياة المنعزلة التي بدأها أبي في داون في ذلك الحين، سأعرض من مذكراته الفترات القصيرة التي غاب خلالها عن البيت بين خريف ١٨٤٢، حين جاء إلى داون، ونهاية ١٨٥٤.

  • ١٨٤٣، يوليو: أسبوع في مير وشروزبيري.

  • ١٨٤٣، أكتوبر: اثنا عشر يومًا في شروزبيري.

  • ١٨٤٤، أبريل: أسبوع في مير وشروزبيري.

  • ١٨٤٤، يوليو: اثنا عشر يومًا في شروزبيري.

  • ١٨٤٥، ١٥ سبتمبر: ستة أسابيع، «شروزبيري، ولينكنشير، ويورك، ورئيس كاتدرائية مانشستر، والسيد ووترتون، وضيعة تشاتسوورث».

  • ١٨٤٦، فبراير: أحد عشر يومًا في شروزبيري.

  • ١٨٤٦، يوليو: عشرة أيام في شروزبيري.

  • ١٨٤٦، سبتمبر: عشرة أيام في ساوثامبتون، إلخ، من أجل الجمعية البريطانية.

  • ١٨٤٧، فبراير: اثنا عشر يومًا في شروزبيري.

  • ١٨٤٧، يونيو: عشرة أيام في أكسفورد، إلخ، من أجل الجمعية البريطانية.

  • ١٨٤٧، أكتوبر: أسبوعان في شروزبيري.

  • ١٨٤٨، مايو: أسبوعان في شروزبيري.

  • ١٨٤٨، يوليو: أسبوع في سوونيدج.

  • ١٨٤٨، أكتوبر: أسبوعان في شروزبيري.

  • ١٨٤٨، نوفمبر: أحد عشر يومًا في شروزبيري.

  • ١٨٤٩، من مارس إلى يونيو: ستة عشر أسبوعًا في مولفرن.

  • ١٨٤٩، سبتمبر: أحد عشر يومًا في برمينجهام من أجل الجمعية البريطانية.

  • ١٨٥٠، يونيو: أسبوع في مولفرن.

  • ١٨٥٠، أغسطس: أسبوع في ليث هيل، في منزل أحد الأقارب.

  • ١٨٥٠، أكتوبر: أسبوع في منزل قريبٍ آخر.

  • ١٨٥١، مارس: أسبوع في مولفرن.

  • ١٨٥١، أبريل: تسعة أيام في مولفرن.

  • ١٨٥١، يوليو: اثنا عشر يومًا في لندن.

  • ١٨٥٢، مارس: أسبوع في راجبي وشروزبيري.

  • ١٨٥٢، سبتمبر: ستة أيام في منزل أحد الأقارب.

  • ١٨٥٣، يوليو: ثلاثة أسابيع في إستبورن.

  • ١٨٥٣، أغسطس: خمسة أيام في معسكر الجيش في تشوبهام.

  • ١٨٥٤، مارس: خمسة أيام في منزل أحد الأقارب.

  • ١٨٥٤، يوليو: ثلاثة أيام في منزل أحد الأقارب.

  • ١٨٥٤، أكتوبر: ستة أيام في منزل أحد الأقارب.

سنلاحظ أنه غاب عن المنزل ستين أسبوعًا خلال اثنَي عشر عامًا. لكن لا بد أن نتذكر أن كثيرًا من الوقت المتبقي الذي قضاه في داون ضاع بسبب اعتلال صحته.]

(٢) الخطابات

من تشارلز داروين إلى آر فيتزروي
داون [٣١ مارس، ١٨٤٣]
عزيزي فيتزروي

أمس قرأتُ، في دهشةٍ وحماس شديد، خبر تعيينك حاكمًا لنيوزيلاندا. لا أعلم إن كان عليَّ أن أُهنِّئك على ذلك، لكن أعلم يقينًا أنني لا بد أن أُهنِّئ المستعمرة، على فوزها بهمتك ونشاطك. إنني في غاية التلهُّف لمعرفة ما إذا كان الخبر صحيحًا؛ فلا يسعني احتمال خواطر مغادرتك البلاد دون أن أراك ثانيًا؛ فكثيرًا ما يراود الماضي ذاكرتي، وأَشعر أنني أَدين لك بكثير من بهجتي الماضية، والمصير الذي آلت إليه حياتي بالكامل، الذي كنت سأجد فيه غاية الرضا (لو كانت حالتي الصحية أشد بأسًا). وما من مرة ذَهبتُ فيها إلى لندن خلال الثلاثة الشهور الماضية إلا ولديَّ نية الزيارة على أمل رؤية السيدة فيتزروي ورؤيتك؛ لكنني أجد، لسوء حظي الشديد، أن الانفعال البسيط الناتج عن الخروج من نظام حياتي بالغ الهدوء يصيبني بالإرهاق الشديد عامةً، حتى إنني بالكاد أستطيع فعل أي شيءٍ حين أكون في لندن، بل حتى إنني لم أستطع حضور أحد الاجتماعات المسائية للجمعية الجيولوجية. بخلاف ذلك، أنا على خيرِ ما يُرام، وكذلك، حمدًا لله، زوجتي والطفلان. إن العزلة الشديدة التي تلُف هذا المكان تناسبنا تمامًا، وإننا مستمتعون بحياتنا الريفية للغاية. لكنني أكتب أمورًا تافهة عني، بينما لا بد أن ذهنك ووقتك مشغولان تمامًا. ما أرمي إليه في كتابتي إليك هو أن أرجوك أنت أو السيدة فيتزروي أن تتفضلا بإرسال خطاب قصير تقول لي فيه ما إن كان الأمر صحيحًا أم لا، وما إن كنت ستسافر قريبًا. سوف آتي الأسبوع القادم ليوم أو اثنَين، فهل يمكنك مقابلتي ولو حتى لخمسِ دقائق، إذا جئت مبكرًا صباح يوم الخميس؛ أي في التاسعة أو العاشرة، أو في أيِّ ساعةٍ تكون قد أنهيتَ فيها فُطورك (إن كنتَ تُبكِّر في الاستيقاظ كما كنتَ تفعل في أثناء قيادتك للسفن)؟ أرجوك أن تُوصل أطيب تحياتي إلى السيدة فيتزروي، التي أثِق أنها تستطيع التطلُّع لرحلتها الطويلة بشجاعة.

لك مني خالص الود يا عزيزي فيتزروي
الممتنُّ لك بصدق دائمًا
تشارلز داروين

[قد يستحق اقتباس من خطابٍ آخر (١٨٤٦) إلى فيتزروي أن أعرضه، حيث يُبرهِن على حبه الشديد لقبطانه العجوز.

«وداعًا يا عزيزي فيتزروي، كثيرًا ما أفكر في الأفعال الكثيرة التي تنم عن الكرم والطيبة التي أَسديتَها إليَّ، وبخاصةٍ تلك المرة، التي لا شك أنك نسيتها تمامًا، قبل الوصول إلى ماديرا، حين جئتَ وأعددتَ أرجوحتي الشبكية بيدَيك، وهو ما سمعتُ فيما بعدُ أنه أجرى الدموع في مقلتَي أبي».]

من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
[داون، ٥ سبتمبر، ١٨٤٣]
صباح الاثنين
عزيزي فوكس

حين أرسلت بحث الأنهار الجليدية، كنتُ في طريقي للخارج، لذلك لم يكن لديَّ وقتٌ للكتابة. أرجو أن يستمتع صديقك بجولته بقَدْر ما استمتعتُ (وأتمنى لو كنت ذاهبًا معه إلى هناك)؛ فقد كانت بمنزلة روايةٍ جيولوجية. لكن لا بد أن يتحلى صديقك بالصبر؛ فهو لن يحظى بالقدرة على ملاحظة الأنهار الجليدية قبل بضعةِ أيام؛ فقد خاض موركيسون والكونت كايزرلينج شمال ويلز مسرعَين في الخريف نفسه ولم يستطيعا رؤيةَ أيِّ شيءٍ سوى آثارِ الأمطار المنسابة فوق الصخور! وقد ناقشتُ موركيسون قليلًا، فبدا لي واضحًا أنه لم يمعن النظر في أي شيء. لديَّ «يقين» إزاء تأثير الأنهار الجليدية في شمال ويلز. إن استمر هذا الطقس، فلتشحذ طاقتك، واذهب في جولة في ويلز؛ فإن مناظرها البديعة كفيلة أن تُفيد قلب المرء وجسده. ليتني كانت لديَّ الطاقة لآتي إلى ديلامير وأذهب معك؛ لكن هذا في عِداد المستحيل، كما ترى. أعتقد أنني إذا ذهبتُ في رحلة فستكون إلى اسكتلندا، بحثًا عن المزيد من الطرق المتوازية؛ فقد قضت أبحاث أجاسي عن فعل الجليد على نظريتي البحرية عن هذه الطرق لبعض الوقت، لكنها عادت الآن للحياة مرةً أخرى …

الوداع — لقد شارف العمل على الانتهاء — حيث رحل جميع العمال تقريبًا، والحصى مرصوص في الممرات. السلام عليكِ يا مريم! يا للطريقة التي تتبدَّد بها النقود! فإغراءات الترف التي في الريف تُعادل ضعف تلك الموجودة في لندن. إلى اللقاء.

المخلص
سي داروين

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون [١٨٤٤؟]

… لقد قرأت أيضًا كتاب «بقايا» [أي، كتاب «بقايا التاريخ الطبيعي للخلق» والذي نُشر بدون ذكر اسم مؤلفه في عام ١٨٤٤، وثَمَّةَ اعتقادٌ جازم بأن مؤلفه كان الراحل روبرت تشيمبيرز.] لكنني وجدتُ فيه متعة أقل مما وجدت كما يبدو لي؛ فالكتابة والتنظيم جديران بالإعجاب بالتأكيد، لكن أرى الجانب الجيولوجي سيئًا، والجانب الخاص بعلم الحيوان أسوأ كثيرًا. سأكون في غاية الامتنان، إذا استطعتَ في أي وقت فيما بعدُ أو متى أُتيح لكَ وقتُ فراغ أن تخبرني بما تستند إليه في اعتقادك المريب بأن خيال الأم يُؤثِّر على الابن. [هذه إشارة إلى حالةِ إحدى قريبات السير جيه هوكر، التي أَصرَّت على أن الشامة التي ظَهرَت لدى أحد أطفالها، كانت نتيجة الذعر الذي اعتراها، قبل ولادة الطفل، إثر تلطيخها بحبر الحبار نسخةً من كتاب تيرنر «كتاب الدراسات»، التي أُعيرت لها مع تشديداتٍ على توخِّي الحذر.] لقد أحطتُ بالأقوال المتعددة المتناثرة حول هذا الموضوع، لكنني لا أعتقد أن الأمر يعدو مُجردَ مصادفاتٍ عابرة. دبليو هانتر أخبر أبي، حين كان في أحد مستشفيات الولادة، أنه قد سأل الأمهات في حالاتٍ كثيرة، «قبل مخاضهن»، إن كان أيُّ شيء قد أثَّر على خيالهن، ودوَّن الإجابات؛ ولم تصدق ولو حالة واحدة، رغم أنه حين كان يظهر على الطفل أيُّ شيءٍ مميز، كُن فيما بعدُ يلوين عنق الحقيقة. يبدو أن التوالُد تسيطر عليه قوانينُ متشابهة في المملكة الحيوانية بأَسرِها، حتى إنني آبى بشدة [أن أُصدِّق] …

من تشارلز داروين إلى جيه إم هربرت
داون [١٨٤٤ أو ١٨٤٥]
عزيزي هربرت

سرَّني للغاية أن أرى خطَّك وأسمع بعض الأخبار عنك. ورغم أنك لا تستطيع أن تأتي إلى هنا هذا الخريف، فإنني أرجو حقًّا أن تأتي أنت والسيدة هربرت في الشتاء، وسوف نتبادل الكثير من الأحاديث عن الأيام الخوالي، ونستمع إلى الكثير من موسيقى بيتهوفن.

لديَّ القليل أو بالأحرى لا شيء لأقوله عن نفسي؛ فالحياة تسير بنا كالساعة، وبالطريقة التي قد يعتبرها أغلب الناس في غاية الملل. مؤخَّرًا كنتُ أكدح كدحًا شديدًا في تأليف كتابي عن الملاحظات الجيولوجية الخاصة بأمريكا الجنوبية، مسبِّبًا الاضطراب لجهازي الهضمي البائس، والشكر للرب؛ فقد أنجزتُ ثلاثة أرباعه. ما زالت الكتابة بلغةٍ إنجليزية بسيطة تزداد عسرًا عليَّ، ولا يمكنني التمكُّن منها قط. أمَّا زعمُك أنك ستقرأ أوصافي الجيولوجية على ما فيها من مللٍ شديد، فدع عن روحي هذا البلسم الخدَّاع؛ فهو غير معقول. لقد اكتشفتُ منذ زمنٍ بعيد أن الجيولوجيِّين لا يقرءون أعمال بعضهم البعض، وأن الهدف الوحيد من تأليف أيِّ كتاب هو إعطاء دليل على الجدية، وأنك لا تُكوِّن أفكارك بدون تكبُّدِ مشقةٍ من نوعٍ ما. صارت الجيولوجيا شفهية للغاية في الوقت الحاضر، وما أقوله صحيح تمامًا إلى حدٍّ كبير. لكنني أُدخِلك في مناقشةٍ طويلة كطول أحد فصول هذا الكتاب الممل.

لقد زرتُ شروزبيري مؤخَّرًا، ووجدتُ أبي في حالة من الصحة والبشاشة لدرجةٍ مدهشة.

لك مني كل الصدق يا صديقي العزيز الغالي
المخلص لك دائمًا
سي داروين

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، الاثنين [١٠ فبراير، ١٨٤٥]
عزيزي هوكر

إنني في غاية الامتنان على خطابك اللطيف جدًّا؛ كان تصرُّفًا في غاية الكرم أن تفكر في كتابة خطابٍ طويل إليَّ، في خضم انشغالك العلمي والطبي. إنني مندهش مما سمعتُه من أخبارك، ولا بد أن أحزن على رأيك «الحالي» في منصب الأستاذية المعروض عليك [إذ كان مرشَّحًا لمنصب أستاذ علم النبات في جامعة إدنبرة]، وإنني أستهجن الأمر بإخلاصٍ شديد من جانبي. ثَمَّةَ شيءٌ مخيف جدًّا في أن يفصل بيننا عدة مئات من الأميال، رغم أننا لم نلتقِ كثيرًا حين كنا أكثر قربًا أحدنا من الآخر. لن تُصدِّق كم يعتريني من أسفٍ بالغ على الفرصة الحالية المعروضة عليك؛ فقد كنت أتطلع إلى أن نتقابل كثيرًا خلال حياتنا. يا لها من خيبة أمل كبيرة! ومن وجهةِ نظرٍ أنانيةٍ محضة؛ إذ إنك تساعدني في عملي، أجد خَسارتَك لا تُعوَّض حقًّا. لكن من ناحيةٍ أخرى، لا يُساورني شك أنك ترى هذه الفرصة بعينٍ يائسة، بدلًا من أن تراها بنظرةٍ مشرقة. بالطبع ثَمَّةَ مزايا عظيمة، مثلما هناك مساوئ؛ فالمنصب ذو مكانةٍ رفيعة، ويبدو لي حقًّا أن هناك الكثير جدًّا من الأساتذة غير المُبالِين، والقليل جدًّا من الأساتذة المساعدين، حتى إنها لمَيزةٌ كبرى، من منظورٍ علمي بحت، أن يشغل شخصٌ جيِّد منصبًا يؤدِّي بالآخرين إلى الانتباه إلى عمله. لقد نسيتُ ما إن كنتُ درستُ في جامعة إدنبرة طالبًا، لكن حين كنتُ هناك كان يُوجد مجموعة من الرجال أبعد ما يكونون عن المستمعِين اللامبالِين والبُلداء الذين تتوقَّعهم في جمهورك. تأمَّل أيَّ سعادة وشرف أن تكون عالمَ نباتٍ بارزًا؛ فبما لديك من استعداد ستكون للجميع مثلما كان هنزلو لي ولآخرِين في كامبريدج، أطيب صديق وموجه. كذلك ستستمتع هناك بحديقةٍ غنَّاء، ومكتبةٍ عامة ثرية. حقًّا، إن فوربس دائم التحسُّر على المزايا المتوفِّرة في العمل في إدنبرة، فلتُفكِّر في المَيزة التي لا تُقدَّر بثمنٍ في أن تكون على بُعدِ مسافةٍ قصيرة تُقطَع سيرًا على الأقدام من تلك الصخور والتلال والشطآن الرملية الرائعة القريبة من إدنبرة! بالتأكيد، لا أستطيع أن أُعبِّر عن حزني لِسفرِكَ أكثر من ذلك، وإن كنتُ أرثي نفسي بشدة على فقدانك. بالطبع، سيصير التدريس، خلال عام أو اثنَين، بقدرتك «الجبارة» على العمل (مهما داخلَتك رغبة في أن تقول العكس) أمرًا سهلًا، وسيُتاح لك وقتٌ معقول من أجل دراسة نباتات القطب الجنوبي ونظرياتك العامة عن التوزيع. لو كنتُ أعتقدُ أن اشتغالك أستاذًا سيُوقف عملك، لتمنيتُ أن يذهب هو وكل عواقبه الدنيوية الطيبة إلى الجحيم. أعلم أنني سأعيش حتى أراك المرجعية الأُولى في أوروبا في هذا المجال العظيم، الذي يكاد يكون حجر الأساس لقوانين الخلق، ألا وهو التوزيع الجغرافي. حسنًا، سيكون ثَمَّةَ عزاءٌ واحد، وهو أنك ستكون في كيو، بلا شك، كل عام، وهكذا سأُنهي خطابي بالإعراب عن تهانئي القلبية رغمًا عن رأيك. أشكرك على كل الأخبار التي نَقلتَها إليَّ. يؤسفني ما سمعتُه عن تدهوُرِ حال هومبولت؛ لا يسعني مغالبة الشعور، وإن كان بلا حق، بأن تلك النهاية مهينة، حتى حين رأيته تكلم كلامًا بعيدًا كل البعد عن المنطق. إن رأيتَه مرة أخرى، أرجوك أن تُبلغه أسمى وأرقَّ تحياتي، وأَخبِره أنني لا أنسى مطلقًا أن المسار الذي أخذَته حياتي كلها يرجع لقراءتي كتابه «سرد شخصي» مرارًا حين كنت شابًّا. كم هي صحيحةٌ وسارة كل ملحوظاتك حول لطفه؛ فلتتأمَّل كم فرصة ستَسنَح لك، في مكانك الجديد، لتكون شخصًا مثل هومبولت للآخرِين. فلتسأله حول النهر الذي في شمال شرق أوروبا، الذي تختلف الحياة النباتية جدًّا على ضفتَيه المتقابلتَين. لقد حصَلتُ على نسخةِ كتاب ويلكس التي أرسلتَها إليَّ وقرأتها؛ يا له من كتابٍ ضعيف في المحتوى والأسلوب، وكم قُدِّم تقديمًا مبهرًا! فلتكتب لي خطابًا من برلين. أشكرك أيضًا على بروفات الطباعة، إلا أنني لم أقصد ألواح بروفات الطباعة؛ فإنني أُقدِّر قيمتها لأنها تُوفِّر عليَّ نسخ المُقتطَفات. الوداع يا عزيزي هوكر، بقلبٍ مثقَل أتمنى لك السعادة في حياتك المستقبلية.

صديقك المخلص
سي داروين

[اكتملَت الطبعة الثانية من كتاب «يوميات الأبحاث» التي يشير إليها الخطاب التالي، فيما بين ٢٥ أبريل و٢٥ أغسطس. ونشرها السيد موراي في سلسلة «كولونيال أند هوم ليبراري»، وسرعان ما بيعت بأعدادٍ كبيرة في هذا الشكل الأكثر يسرًا.

حتى وقت مفاوضاته الأولى مع السيد موراي لنشرها بهذا الشكل، كان الأجر الوحيد الذي يتلقاه هو عدد كبير من نُسَخ أعماله، ويبدو أنه كان سعيدًا ببيع حق نشر الطبعة الثانية إلى السيد مواري مقابل ١٥٠ جنيهًا.

إن نقاط الاختلاف بين هذه الطبعة والطبعة الأولى مثيرةٌ للاهتمام خاصةً فيما يتعلق بنمو وجهاتِ نظر المؤلِّف عن التطوُّر، وسوف تُنظر فيما بعدُ.]

من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون [يوليو، ١٨٤٥]
عزيزي لايل

أُرسل لك الجزء الأول من الطبعة الجديدة [من كتاب «يوميات الأبحاث»]، التي أدين لك بها كاملةً. سترى أنني أقدمتُ على إهدائها إليك، وأعتقد أن هذا لا يمكن أن يكون شيئًا مزعجًا. طالما تمنيتُ أن أعترف، على نحوٍ أكثر جلاءً وليس بمجرد الإشارة، كم أَدين لك في مجال الجيولوجيا، ليس من أجلك بقَدْر ما هو لأجل الأمانة العلمية. إلا أن من هم مثلك من المؤلِّفِين، الذين يُثقِّفون عقول الناس وكذلك يُعلِّمونهم حقائقَ خاصة، لا يمكن أبدًا، حسبما أعتقد، أن يُنصفوا تمامًا إلا بعد أجيال؛ فالعقل حين يرتقي هكذا بلا اكتراث بالكاد يستطيع أن يُدرِك مدى ارتقائه لمستوياتٍ عليا. كنتُ أنوي وضع هذا التقدير الراهن في الكتاب الثالث من سلسلة كتبي عن الجيولوجيا في رحلة البيجل، لكن مبيعاته قليلةٌ للغاية حتى إنه ما كان سيمنحني رضا الاعتقاد بأنني قد اعترفتُ بجميلك عليَّ في حدود المتاح لي، حتى إن كان ذلك بصورةٍ ناقصة. أرجو ألا يأخذك الظن بأني من الحماقة بحيث أفترض أن إهدائي قد يكافئك بأيِّ طريقة، إلا في حدودِ ما يُداخلني من ثقة بأنك ستتلقاه بصفته أصدق آيات العرفان والصداقة. أعتقد أنني حسَّنتُ هذه الطبعة، خاصةً الجزء الثاني، الذي انتهيتُ منه للتو. لقد أضفتُ إضافةً كبيرة عن أهل فويجو، وقلَّلتُ النقاش الممتد طويلًا بلا هوادة حول المناخ والأنهار الجليدية … إلخ، إلى النصف. لا أَتذكَّر أنني أضفتُ للجزء الأول أيَّ شيءٍ طويل طولًا يستحق أن ألفِت انتباهَك إليه؛ ثَمَّةَ صفحةٌ بها وصف لسلالةٍ غريبة جدًّا من الثيران في منطقة باندا أورينتال. أرجو أن تقرأ الصفحات القليلة الأخيرة؛ حيث ثَمَّةَ نقاشٌ صغير حول الانقراض، الذي قد لا تجده جديدًا، رغم أنني وَجدتُه كذلك، وقد وضعتُ في ذهني كل الصعوبات المتعلقة بمسببات الانقراض، في نفس الفئة مع الصعوبات الأخرى التي يغفُل عنها علماء التاريخ الطبيعي ويستخفُّون بها تمامًا في العموم؛ إلا أنني كان لا بد أن أسترسل في نقاشي وأن أُبرهِن بالحقائق، بأيسرِ طريقةٍ ممكنة، كيف لا بد أن أعداد كل الأنواع قد قلَّت باطِّراد.

لقد تلقيتُ أمس نسخة من كتابك «أسفار» [«أسفار في أمريكا الشمالية» الذي يقع في مجلدَين، وظهر في ١٨٤٥.] ويروق لي بشدة مظهره الخارجي ومحتواه؛ لم أقرأ سوى نحو اثنتَي عشرة صفحة ليلة أمس (حيث انتابني التعب من إعداد الدريس)، لكنني رأيتُ ما يكفي لأدرك كم سيُثير اهتمامي «بدرجةٍ كبيرة»، وعدد الفقرات التي سأخُط خطوطًا تحتها. ويُسعدني أنني وجدتُ لمحةً جيدة عن التاريخ الطبيعي؛ وسوف أدهش إن لم يُبَع بأعدادٍ كبيرة جدًّا …

كم أشعر بالأسف حين يخطر لي أننا لن نراك هنا ثانيةً لمدةٍ طويلة؛ أرجو أن تسترخي قليلًا قبل السفر، وتلتمس يومًا تنعم فيه بالنسيم العليل قبل أن تهب عليك نسمات المحيط …

صديقك للأبد
سي داروين

من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، السبت [١ أغسطس، ١٨٤٥]
عزيزي لايل

ظلت أمنيةُ الكتابة إليك تراودني طَوال الأسبوع الماضي، لكنني استنفدتُ كلَّ ما أُوتيتُ من قوة في الإعداد لنشر الجزء الثاني [من الطبعة الثانية من «يوميات الأبحاث».] أسعدَني خطابك كثيرًا، بل أكثر مما أسعدك إهدائي على ما أعتقد، وأشكرك شكرًا جزيلًا عليه. لقد أثار عملك اهتمامي بشدة، وسأُطلعك على انطباعاتي، رغم أنني لم أكتب ملحوظات، ولا تجشمتُ عناء تذكُّر أي انطباعٍ معيَّن عن ثلثَي المجلد الأول؛ إذ لم يخطر لي قَط أنك قد تأبه لسماع ما يدور بخَلَدي بشأن الأجزاء غير العلمية. أعتقد أن الانطباع الأول هو الأسف الذي سيشاركني فيه الأغلبية (رغم أنني لم أَرَ فعليًّا مخلوقًا منذ قراءته) لعدمِ عرض المزيد من [الأجزاء] غير العلمية. أنا لستُ حَكمًا جيدًا؛ فأنا لم أقرأ شيئًا؛ أي شيئًا غيرَ علمي، عن أمريكا الشمالية، لكن العمل ككل وجدتُه جديدًا ومبتكرًا وشائقًا. لقد بدا لذهني أن مناقشاتك تحمل الدليل الواضح على الفكر الناضج، والاستنتاجات المستمدة من الحقائق التي عاينتُها بنفسك، وليس من آراء الأشخاص الذين قابلتهم؛ وأعتقد أن هذا أمرٌ نادر نسبيًّا.

أثار انزعاجي بشدة مناقشتُك لمسألة العبيد؛ لكن حيث إن اهتمامك برأيي في هذه النقطة يكاد يكون معدومًا، فلن أقول سوى أنها سبَّبَت لي ساعاتٍ من الأرق والضيق. إن وصفك للحالة الدينية للولايات المتحدة على وجه الخصوص أثار اهتمامي؛ فإنني في غاية الدهشة من جرأتك الشديدة في مواجهةِ رجال الكهنوت. في فصل الجامعة، تناولتَ رجال الكهنوت، بدلًا من القائمِين على التعليم، بأقصى درجات القسوة والعدل، وأرى أن في هذا جرأةً شديدة؛ فأنا أحسب أنك ستكون في أمانٍ أكثر إن سحقتَ رأس أستاذٍ جامعي عجوز جامد الفكر عن أن تمسَّ إصبعَ أحد أفراد قطيع رجال الكهنوت. يا للنقيض الذي تبدو عليه إنجلترا في مجال التعليم! وجدتُ دفاعك (مستخدمًا المصطلح مثل المتدينِين المتعصبِين القُدامى الذين كانوا يقصدون أي شيء إلا الدفاع) عن المحاضرات غاية في البراعة؛ لكن لو كانت لديك كل الحُجج التي في العالم إلى جانبك، فهي لن تساوي سلسلةً واحدة من محاضرات جيميسون في الجانب الآخر، التي حضرتُها سابقًا بكل أسف. ورغم أنني قرأتُ عن «حقول الفحم في أمريكا الشمالية»، فإنني حقًّا لم أُلمَّ قَطُّ ولو بالقليل عن مساحتها، وسمكها وموقعها الملائم؛ لم يفاجئني في كتابك شيءٌ أكثر من هذا.

ثَمَّةَ أجزاءٌ قليلة وجدتها غير متجانسة، لكن لا أعلم ما إذا كان ذلك ذا بال لدرجةٍ ما أم لا. إلا أنني افتقدت، لدرجةٍ كبيرة، وجود بعض العناوين العامة للفصول، كالمكانَين أو الثلاثة الأماكن الرئيسية التي قُصدَت على سبيل المثال. لا يحق لأحد أن يتوقع من المؤلف أن يَتبسَّط في كتاباته لمواكبة الجهل الجغرافي المُطبِق لدى القارئ؛ لكنني لعدم معرفتي بأيٍّ من هذه الأماكن، فقد عانيتُ من حين لآخر في تتبُّع مسارك. أحيانًا، في بداية أحد الفصول، وفي إحدى الفقرات، تسلُك مسارًا عابرًا كثيرًا من الأماكن؛ أيُّ شخصٍ، جاهل مثلي — إن كان هذا ممكنًا — سيُفضِّل أن يتجنب مثل هذا الفصل المزعج. لقد نزعتُ خريطتك، ووجدتُ راحةً كبرى في ذلك؛ فإنني لم أستطع متابعة مسارك المنقوش. أعتقد أن إضافة فراغات من سطرٍ واحد هنا وهناك في الطبعة الثانية، سيكون من قبيل التحسين. بالمناسبة، أنسب لنفسي الفضل في التقليل من الطابع العلمي لكتابي «يوميات الأبحاث» بكتابةِ كلِّ أسماء الأنواع والأجناس بالحروف الرومانية، كما أن الطباعة تبدو أفضل. تبدو لي كل الصور رائعة، أمَّا الخريطة فهي عملٌ جدير بالتقدير في حد ذاته. إن كان كتابك «مبادئ» لم يحظَ بما حظي به من تقديرٍ عام، كنتُ سأخشى أن المحتوى الجيولوجي في هذا الكتاب سيكون كبيرًا جدًّا بالنسبة للقارئ العادي؛ وبالطبع تكفَّل الأسلوب الشديد الوضوح والسهولة بكلِّ ما كان يمكن فعله. من ناحيتي أرى أن الجانب الجيولوجي كان ملخَّصًا ممتازًا ومختصرًا على أكملِ وجهٍ ومبسطًا على نحوٍ جيد لكلِّ ما جرى في أمريكا الشمالية، وعلى كل جيولوجيٍّ أن يدين لك بالامتنان. وقد بدا لي ملخَّص الفصل الخاص بشلالات نياجرا الجزء الأروع، كذلك أثار استعراضك لأصل تكوينات العصر السيلوري بالغَ شغفي. لقد ميَّزتُ عددًا كبيرًا جدًّا من الفقرات التي من شأنها أن تُفيدني فيما بعدُ.

بدت لي نظرية الفحم بأكملها جيدة جدًّا، لكن لا جدوى من الاسترسال في التعديد على هذا المنوال. كنت أتمنى لو كان هناك المزيد عن التاريخ الطبيعي؛ لكن راقت لي «كل» الشذرات المتفرقة. ها قد أعطيتُك الآن وصفًا دقيقًا بخواطري، لكنها بالكاد ترقى لأن تقرأها …

من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٢٥ أغسطس [١٨٤٥]
عزيزي لايل

هذا فعليًّا أول يومٍ يُتاح لي فيه أيُّ فراغٍ من الوقت؛ وسوف أُرفِّه عن نفسي بكتابة خطاب إليك …

سُررتُ بخطابك الذي تطرَّقتَ فيه إلى موضوع العبودية؛ أتمنى لو كانت نفس المشاعر واضحةً في نقاشك المنشور. لكنَّني لن أكتب عن هذا الموضوع؛ فربما أتسبَّب في تكديرك، وتكدير نفسي بكلِّ تأكيد. لقد نفَّستُ عن غضبي بفقرة أو اثنتَين في كتابي «يوميات الأبحاث» حول خطيئة العبودية في البرازيل. قد تعتقد أن هذا ردٌّ عليك، لكن الأمر ليس كذلك. فلم أُشر إلا لما سمعتُه في ساحل أمريكا الجنوبية. إلا أن ما ذكرته من جملٍ قليلة ما هو إلا فورة مشاعر؛ إذ كيف استطعتَ أن تروي بهدوءٍ شديد ذلك الشعور البغيض حيالَ فصل الأطفال عن ذَوِيهم [في الفقرة المقصودة، لم يكن لايل يُعبِّر عن وجهة نظره، وإنما وجهة نظر أحد المزارعِين]، وفي الصفحة التالية تتحدث عن شعورك بالأسى لعدمِ ازدهار البيض؛ أؤكِّد لك أن التناقُض حملَني على الصراخ. لكنني خالفتُ ما نَويتُه، لذا سأكف عن هذا الموضوع البغيض الممل.

ثَمَّةَ مقالٌ نقدي إيجابي عنك في دورية «ذا جاردينرز كرونيكل»، لكنه ليس قويًّا بما يكفي. يؤسفني أن أرى أن ليندلي يُؤيِّد نظرية غاز حمض الكربونيك. بالمناسبة، أسعدني للغاية اقتباس ليندلي لفقراتي المتعلقة بالانقراض ووضعها دون اختصار. أعتقد أن وضع الندرة النسبية لأنواعٍ موجودة في نفس التصنيف مع الانقراض قد أزاح عبئًا كبيرًا؛ ورغم أن هذا لا يفسر أي شيء بالطبع، فهو يوضح أننا يجب ألا تعترينا أيُّ دهشة لعدم تفسير الانقراض إلى أن نستطيع تفسير الندرة النسبية …

سرَّني أيما سرور أن طُلب منك عملُ طبعةٍ جديدة من كتاب «مبادئ»؛ كم هي عظيمة الفائدة التي قدَّمها ذلك العمل! أخشى أنك لن تكون بين الصخور القديمة هذه المرة؛ كم يبهجني أن أعيش حتى أراك تنشر عن مرحلةٍ أخرى قبل مرحلة العصر السليوري وتكتشفها؛ ستكون أعظم خطوة ممكنة، فيما أعتقد. إنني سعيد للغاية أيضًا لسماعي بالتقدُّم الذي أحرزه بانبري في علم الحفريات النباتية؛ ثَمَّةَ فجوةٌ واضحة عليه أن يملأها في هذا البلد. لا شك أنني سأزوره هذا الشتاء … يمكنني أن أُصدِّق تمامًا كلَّ ما تقوله عن مواهبه، من القليل الذي رأيتُه منه.

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
شروزبيري [١٨٤٥؟]
عزيزي هوكر

تلقيتُ للتو خطابك الذي جعلَني في دهشةٍ شديدة، وأثار بالغَ حزني بحق. لم يُساوِرني الشك للحظةٍ واحدة قَط في نجاحك، وتصورتُ خاطئًا أشد الخطأ أن تلك الكفاءة كان مؤكدًا أن يُكتب لها النجاح. يُخامرني يقينٌ راسخ أنه قريبًا سيأتي اليوم حيث سيشعر بالخزي أولئك الذين صوَّتوا ضدك [فيما يتعلق بكرسي أستاذية علم النبات في جامعة إدنبرة]، إن كان بهم أيُّ ذرةٍ من حياء أو ضمير، على السماح للسياسة بأن تُعمي بصيرتهم عن مؤهِّلاتِك، تلك المؤهِّلات التي شهد بها هومبولت وبراون! حسنًا، لا بد أن يكون في تلك التزكيات عزاءٌ لك. يا للعار! تتناوبني مشاعرُ متعاقبة من الحنَق والنقمة. ولا أستطيع حتى أن أجد العزاء حين أُفكِّر أنني سوف أراك أكثر، وأنهل المزيد من المعرفة من مخزونك المعرفي المنظم. أشعر بالسعادة حين يخطر لي أنني، بعد قراءة القليل من خطاباتك، لم أشُكَّ مرةً واحدة في المكانة التي ستشغلها في النهاية بين علماء النبات الأوروبيِّين. لا يمكنني التفكير في شيء آخر، وإلا كنتُ سأريد أن أناقش معك كتاب «الكون». أرجو أن تزورني أنا وزوجتي هذا الخريف في داون. سوف أكون في داون في الرابع والعشرين من هذا الشهر، وحتى ذلك الحين سأظل متنقلًا من مكانٍ لآخر.

عزيزي هوكر، فلتسمح لي أن أدعو نفسي
صديقك المخلص جدًّا
سي داروين

من تشارلز داروين إلى سي لايل
٨ أكتوبر [١٨٤٥]، شروزبيري

… كنت مؤخَّرًا في جولةٍ قصيرة لرؤية مزرعةٍ اشتريتها في لينكنشير، ثم ذهبتُ إلى يورك؛ حيث زرتُ رئيس كاتدرائية مانشستر [المُبجَّل دبليو هربرت]، صانع الهجائن العظيم، الذي أعطاني معلوماتٍ مثيرة للاهتمام للغاية. كذلك زرتُ ووترتون في ضيعة وولتن هول، واستمتعتُ للغاية بزيارتي. إنه شخصٌ مُسلٍّ وغريب؛ ففي عَشائنا المُبكِّر، تكوَّنَت صُحبتنا من كاهنَين كاثوليكيَّين وسيدتَين خلاسيتَين! إنه يُجاوز الستين من العمر، ورغم ذلك ركَض أمس حتى اصطاد أرنبًا صغيرًا في حقلِ لفت. أمَّا الضيعة، فهي عبارة عن منزلٍ قديم وفخم، وتعُج البحيرة بالطيور المائية. بعد ذلك رأيتُ تشاتسوورث، حيث فرحت بالصوبة الدافئة الكبيرة؛ إنها تبدو تمامًا وكأنها جزءٌ من غابةٍ مدارية، حتى إنَّ رؤيتها جعلَتني أُفكِّر مسرورًا في ذكرياتٍ قديمة. أعطَتني جولتي الصغيرة التي استغرقت عشرة أيام شعورًا رائعًا بالقوة في حينها، لكن الآثار الطيبة لم تستمر. ويؤسفني أن أقول إن زوجتي لا تستعد عافيتها، أمَّا الأطفال، فهم أمل الأسرة؛ فهم كلهم سعداء وتملؤهم الحيوية وحب الحياة. لقد أثار اهتمامي بشدة مقال سيجويك النقدي [المتعلق بكتاب «بقايا التاريخ الطبيعي للخلق» الذي نشره في مجلة «ذي إدنبرة ريفيو»، يوليو، ١٨٤٥]؛ رغم أنني لم أجد له رواجًا بين قُرائنا العلميِّين. أعتقد أن بعض فقراته يشي بالدوجماتية المتصلة بالوعظ، بدلًا من التناوُل الفلسفي اللازم لمقعد الأستاذ الجامعي؛ ويبدو لي أن بعض سخريته جديرة ﺑ… في «ذا كورترلي ريفيو». رغم ذلك فهو عملٌ رائع من المُحاجَّة ضد قابلية الأنواع للتحوُّل، وقد قرأته خائفًا مرتعدًا، لكن أسعدني جدًّا أن أجد أنني لم أغفُل عن أيٍّ من الحُجج الواردة فيه، رغم أنني شرحتُها لنفسي شرحًا ركيكًا. هل قرأتَ كتاب «الكون»؟ إن الترجمة الإنجليزية رديئة، والأوصاف شبه الميتافيزيقية السياسية في الجزء الأول بالكاد مفهومة؛ لكن أعتقد أن النقاش الخاص بالبراكين جدير جدًّا باهتمامك؛ فقد أَدهشَني بحيويته ومعلوماته. يُؤسفني ما وجدتُ من أن هومبولت عاشق لفون بوخ، بتصنيفه للبراكين، وفُوَّهات الارتفاع، إلخ؛ إلخ، والغلاف الجوي المتكون من غاز حمض الكربونيك. إنه رجلٌ غريب حقًّا.

أرجو أن أعود للديار خلال أسبوعَين وأن أعكُف على كتابي الشاق عن جيولوجيا أمريكا الجنوبية حتى أنتهي منه. سأكون في غاية اللهفة لسماع أخبارك من آل هورنر، لكن لا تُفكِّر في إضاعة وقتك بالكتابة إليَّ. لا شكَّ أننا سنفتقد زياراتك إلى داون، وسوف أشعر كأنني شخصٌ ضائع في لندن بدون «لقاءاتنا» الصباحية في شارع هارت …

لك مني صادق ودائم الإخلاص يا عزيزي لايل
سي داروين

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، فانبرا، كِنت
الخميس، سبتمبر، ١٨٤٦
عزيزي هوكر

أرجو أن يلحق بك هذا الخطاب في كليفتون؛ فلم يحُل بيني وبين الكتابة إليك إلا أنني لم أكن على ما يرام، وكذلك زيارة آل هورنر لي، وهو ما شغل وقتي بالكامل بجانبِ بروفاتِ الطباعة الكريهة. لا شك أنه قد مضى وقتٌ طويل منذ أن تَبادَلنا الخطابات، لكن اسمح لي أن أُخبرك أنني آخر من كتب، إلا أنني لا أستطيع أن أتذكَّر عن ماذا، وإن كنتُ أعتقد أنه كان بعد قراءة عملِكَ الأخير [«نباتات القطب الجنوبي»]؛ حيث أرسلتُ إليك خطاب مديحٍ فريد من نوعه، مع الوضع في الاعتبار أنه من رجلٍ بالكاد يستطيع التفريق بين زهرة الأُقحوان وزهرة الهندباء البرية إلى عالم نباتاتٍ متمرس …

لا أَتذكَّر الأبحاث التي أعطتني هذا الانطباع، لكن يَرِد على ذهني بثباتٍ هذا البحث، الذي تُقرُّ بصحةِ ما أقوله بشأنه، والذي يتعلق بالأهمية الصغيرة التي يُشكِّلها تركيب التربة الكيميائي بالنسبة للحياة النباتية عليها. يا لها من حقيقة جازمة! تلك التي لفت نظري إليها آر براون ذات مرة، عن كلسية نباتاتٍ معينة هنا، وهي التي لا تكون كذلك في ظروفٍ مناخية ملائمة أكثر في القارة الأوروبية، أو العكس؛ فقد نسيتُ أيهما صحيح، لكن لا شك أنك ستُدرك ما الذي أُشير إليه. بالمناسبة، ثَمَّةَ بعض الحالات المشابهة في بحث هربرت في دورية «جورنال أوف ذا هورتيكالتشرال سوسايتي» [١٨٤٦]. هل قرأته؟ أراه في غاية الأصالة، ويرتبط ارتباطًا «مباشرًا» بأبحاثك الحالية [المتعلقة بتعدُّد الأشكال والتباين وغير ذلك.] بالنسبة لشخصٍ «غير متخصص في علم النبات»، تُمثِّل الطبيعة الكلسية أكثر السمات تميُّزًا في أي حياةٍ نباتية في إنجلترا. لماذا لا تأتي هنا لتقوم بملاحظاتك؟ سوف «نذهب» إلى ساوثامبتون، من أجل الجمعية البريطانية، إن لم تخذُلني شجاعتي ومَعدتي. (ألا تعتبره من واجباتك أن تكون هناك؟) ولمَ لا تأتي هنا بعد ذلك و«تعمل»؟ …

(٣) أُفرودة هُدابيَّات الأرجل، من أكتوبر ١٨٤٦ إلى أكتوبر ١٨٥٤

[كتب أبي خطابًا إلى السير جيه دي هوكر عام ١٨٤٥، قائلًا: «أرجو أن أُنهي في الصيف القادم كتابي «جيولوجيا أمريكا الجنوبية»، ثم أنشر عملي الصغير المتعلق بعلم الحيوان ثم أعمل في عمل عن الأنواع …» تُوضِّح هذه الفقرة أنه لم يكن ينوي في ذلك الوقت أن يضع دراسةً مستفيضة عن هُدابيات الأرجل. في الواقع، يبدو أن نيته الأصلية كانت حَلَّ مشكلةٍ مُعيَّنة فحسب؛ وذلك كما عرفتُ من السير جيه دي هوكر. وهذا يتفق تمامًا مع الفقرة التالية من السيرة الذاتية التي كتبها: «حين زرتُ ساحل تشيلي، وجدتُ نوعًا غريبًا للغاية يحفِر في أصداف حلزونيات أذن البحر التشيلي، وقد كان يختلف اختلافًا كبيرًا عن جميع ما رأيته من هدابيات الأرجل، فاضطُررت إلى أن أضعه في رتبةٍ فرعية جديدة له وحده … وحتى أفهم تركيب هذا النوع الجديد من هدابيات الأرجل، كان عليَّ فحصُ كثيرٍ من الأشكال الشائعة وتشريحها؛ وهذا أدى بي تدريجيًّا إلى دراسة المجموعة كلها.» لكن يبدو أنه في السنوات اللاحقة قد انتابه بعض الشك بشأنِ قيمة هذه السنوات الثماني من العمل؛ على سبيل المثال حين قال في سيرته الذاتية: «كان العمل ذا فائدةٍ كبيرة بالنسبة لي، حين كان يتحتم عليَّ مناقشة مبادئ التصنيف الطبيعي في كتاب «أصل الأنواع». رغم ذلك يُساوِرني شكٌّ فيما إن كان العمل يستحق استغراقَ كلِّ ذلك الوقت.» إلا أنني عرفتُ من السير جيه دي هوكر أنه أدرك بحقٍّ في ذلك الوقت قيمته باعتباره تدريبًا تصنيفيًا؛ فقد كتب السير جوزيف إليَّ قائلًا: «أدرك أبوك ثلاثَ مراحلَ في حياته المهنية بصفته عالمَ أحياء: مجرد جامع للأشياء في كامبريدج؛ ثم جامع للأشياء وملاحظ لها في رحلة سفينة «البيجل»، ولعدة سنوات بعد ذلك؛ ثم عالم التاريخ الطبيعي المدرَّب فقط بعد دراسته عن هُدابيات الأرجل. أمَّا عن إن كان مفكرًا طيلة ذلك الوقت، فهو أمر صحيح جدًّا، وجزءٌ كبير من كتاباته السابقة لدراسة هدابيات الأرجل لا يملك أيُّ عالمٍ مُدرَّب في التاريخ الطبيعي إلا الاقتداء بها … وكثيرًا ما كان يشير إلى هذا المجال باعتباره فرعًا هامًّا من المعرفة، وكان يضيف أنه حتى العمل «البغيض» المتعلق بالوصف والبحث عن المترادفات، لم يُحسِّن طرقه فحسب، وإنما أيضًا فتح عينَيه على عيوبِ أعمالِ أقلِّ علماء التصنيف براعة ومزاياها. وكان من نتائج ذلك أنه لم يكن لِيسمحَ قَط بمرور أي ملحوظةِ انتقاصٍ عن أقل العاملِين براعةً في مجال العلم دون الاعتراض عليها، على أن تكون أعمالهم أمينةً وجيدة في فئتها. وطالما اعتبرتُ هذه إحدى أفضل الخصال في شخصيته؛ هذا التقدير الكريم لبُناة العلم، ومجهوداتهم … وكانت كتابة أُفرودةِ هدابيات الأرجل هي التي أدَّت إلى ذلك.»

سمح البروفيسور هكسلي لي باقتباس رأيه عن قيمة السنوات الثماني التي خُصصَت لدراسة هدابيات الأرجل:

في رأيي، لم يفعل أبوك الفطِن شيئًا أكثر حكمةً من تكريس نفسه للعمل على كتابه عن هُدابيات الأرجل الذي كلَّفه سنواتٍ من الكدح والصبر.

إنه، مثل بقيَّتنا، لم يتلقَّ تدريبًا لائقًا في علم الأحياء، وطالما اعتقدتُ أن رؤيته لضرورةِ إعطاءِ نفسه ذلك التدريبَ مثالٌ واضح على بصيرته العلمية وكذلك على شجاعته؛ لأنه لم يتهرب من الجهد اللازم للحصول عليه.

الخطَر العظيم الذي يُحدِّق بكل الرجال من ذوي الملكة الجبارة على التخمين هو الإغراء المتمثل في التعامُل مع الحقائق المعترف بها في مجال العلوم الطبيعية، كما لو كانت ليست صحيحةً فحسب، وإنما جامعة أيضًا؛ كما لو كان يمكن التعامُل معها بالاستنباط، بنفس طريقة التعامُل مع فرضيات إقليدس. في الواقع، كلٌّ من هذه الحقائق، مهما كانت صحيحة، لا تُعد صحيحةً إلا في ضوءِ وسائلِ ملاحظةِ أولئك الذين أعلنوا عنها ووجهاتِ نظرهم. وهي يمكن الاعتماد عليها حتى هذا الحدِّ فقط. أمَّا ما إن كانت ستدعم كل الاستنتاجات التخمينية التي قد تُستخلص منها منطقيًّا، فهذه مسألةٌ مختلفة تمامًا.

كان أبوك يقيم بنيةً فوقية عريضة على الأُسس التي وَضعَتها حقائق العلوم الجيولوجية والبيولوجية المُعترَف بها. لقد اكتسبَ تدريبًا عمليًّا كبيرًا في الجغرافيا الطبيعية والجيولوجيا البحتة، والتوزيع الجغرافي وعلم الحفريات أثناء رحلة «البيجل». وهكذا تَوصَّل من المعرفة التي لدَيه لطريقة الحصول على موادِّ خامِ هذه الفروع من العلم؛ ومِن ثَمَّ، كان يستطيع الحكم بكفاءةٍ شديدةٍ على ما يمكنه التخمين بشأنها. وما كان يحتاجه بعد عودته إلى إنجلترا هو الحصول على معرفةٍ موازية بالتشريح والنمو، وعلاقتهِما بعلمِ التصنيف، وقد اكتسب هذا من خلال دراسته لهدابيات الأرجل.

مِن ثَمَّ، لا تكمن قيمةُ أفرودة هدابيات الأرجل، من وجهةِ نظري، في أنها وحسبَ عملٍ جدير جدًّا بالتقدير، شكَّلَت إضافةً كبيرة للمعرفة الوضعية، ولكن أيضًا يكمن الجزء الأكبر من قيمتها في أنها كانت عملًا ناتجًا عن انضباطٍ نقدي، تجلَّت آثاره في كلِّ ما كَتبَه أبوك فيما بعدُ، ووفَّر عليه أخطاءً لا نهايةَ لها في التفاصيل.

لذا بعيدًا عن أن هذا العمل كان مَضيعةً للوقت، أعتقد أنه كان سَيُصبِح جديرًا بما أنفقه فيه لو كان بالإمكان أن يُكمِله بدراسةٍ خاصة في علم الأَجنَّة وعلمِ وظائف الأعضاء. بذلك كان سيُصبِح أشدَّ تمرُّسًا حين أتى لكتابةِ فصولٍ متنوعة من كتابِ «أصل الأنواع». لكن بالطبع كان عُثُوره على فرصٍ للقيام بهذا شبهَ مستحيلٍ في تلك الأيام.

لا يمكن لأحدٍ أن ينظر لِلمجلدَين اللذَين كَتبَهما والدي عن هدابيات الأرجل الحديثة، اللذَين بلَغ عددُ صفحاتهما ٣٩٩ و٦٨٤ على التوالي (ناهيك عن المجلدَين اللذَين كَتبَهما عن الأنواع المُتحفِّرة منها) دون أن يَنبهِر بالكم الهائل من التفاصيل المُتضمَّنة. الأربعون لَوحة، التي تحتوي بعضها على ثلاثين شكلًا، وصفحات الفهرس الأربع عشرة في المجلدَين معًا، تُعطي فكرةً بسيطة عن المجهود الذي بُذل في العمل.5 كانت حالة المعرفة فيما يخُص هدابيات الأرجل، غيرَ مرضيةٍ تمامًا في الوقت الذي بدأ أبي فيه دراستها. من الجدير بالذكر، كمثالٍ على هذه الحقيقة، أنه اضطُر لإعادةِ ترتيبِ مُسمَّيات المجموعة، أو على حدِّ قوله «وجد أنه من الضروري إعطاءُ أسماءٍ لعدة صِمَامات، ولبعض الأجزاء الأكثر دقةً في هدابيات الأرجل.»6 وإنه من المثير أن نعرف من مُذكِّراته حجم الوقت الذي أعطاه للأجناس المختلفة؛ فقد انشغَل بجنس الخملوس Chthamalus، الذي يشغَل وصفُه ستًّا وثلاثين صفحة، لمدةِ ستةٍ وثلاثين يومًا، بينما استغرق جنس الكورونولا Coronula منه تسعةَ عشر يومًا، ووُصف في سبعٍ وعشرين صفحة. وقد تحدَّث في خطابٍ إلى فيتزروي عن «العمل كادحًا يوميًّا طوال نصف الشهر الأخير في تشريحِ حيوانٍ صغير في حجمٍ قريبٍ من رأس الدبُّوس، من أرخبيل تشونوس، ويمكنني أن أقضِي شهرًا آخر، وأرى كلَّ يومٍ المزيد من التركيب الجميل.»

رغم أنه صار مُنهكًا لدرجةٍ مفرطة من العمل قبل نهاية السنوات الثماني، فقد استمتع أيَّما استمتاعٍ على مَداها؛ لذا فقد كتب إلى السير جيه دي هوكر (١٨٤٧ (؟)) قائلًا: «كما تقول، ثَمَّةَ سعادةٌ غيرُ عادية في الملاحظة المحضة؛ إلا أنني أشك أن السعادة في هذه الحالة مُستمدَّة من المقارنات التي تتكون في الذهن بين تراكيب الأنواع القريبة. وبعد الانشغال طويلًا جدًّا في كتابة ملاحظاتي الجيولوجية، أجد سعادةً في استخدام عينيَّ وأصابعي مرةً أخرى.» كان ذلك، في الواقع، رجوعًا للعمل الذي شغَل الكثير جدًّا من وقته حين كان في البحر أثناء الرحلة. إن ملاحظاته الخاصة بعلم الحيوان في تلك الفترة تعكس عملًا دءوبًا، يُعرقله الجهل والحاجة لأدوات؛ ولا بد أن عمله بلا كللٍ في تشريح الحيوانات البحرية، خاصةً القشريات، قد أفاده كتدريبٍ من أجل عمله عن هدابيات الأرجل. كان أغلب عمله يُؤدَّى باستخدامِ مجهرِ التشريح البسيط — لكن الحاجة لقدراتٍ أكبر هي التي حثَّته على شراءِ مجهرٍ مُركَّب في عام ١٨٤٦. لقد كتب إلى هوكر قائلًا: «بينما كنت أرسم مع إل، غَمرَتني سعادةٌ عارمة بسبب شكل الأشياء، لا سيما بمنظرها كما يبدو من خلال العدسة الدقيقة لمجهرٍ مُركَّب جيد، حتى إنني سأطلب واحدًا؛ بالتأكيد، فكثيرًا ما تكُون لديَّ تراكيبُ لا يكون معها التكبير بقَدْر ١ / ٣٠ كافيًا.»

خلال جزءٍ من الوقت الذي يُغطِّيه هذا الفصل، عانى أبي من اعتلال صحته ربما أكثر من أيِّ وقتٍ آخر في حياته. وقد كابد بشدةٍ الآثارَ المُكدِّرة التي خلَّفَتها تلك السنوات الطِّوال من المرض؛ حتى إنه مبكِّرًا في عام ١٨٤٠ كتب خطابًا إلى فوكس قال فيه: «لقد تغيَّرتُ عن حالي السابق وصرتُ مثل كلبٍ عجوز مُملٍّ خامل. أعتقد أن المرء يزداد غباءً مع تقدُّمه في العمر.» إن كتابته لهذا الكلام لا تدعو للدهشة، وإنما ما يُثير الدهشة هو أن رُوحه تحمَّلَت ذلك الجهد الهائل والمستمر. وفي عام ١٨٤٥ كتب إلى السير جيه دي هوكر يقول له: «كم أنت شديد الفضل في سؤالك المستمر عن صحتي! ليس لديَّ شيءٌ لأقوله عنها؛ فأنا دائمًا على الحال نفسه إلى حدٍّ كبير؛ في بعض الأيام أفضل حالًا، وفي أيامٍ أخرى أسوأ. أعتقد أنني لم أحظَ بيومٍ كامل، أو بالأحرى ليلةٍ كاملة، دون أن تضطرب معدتي اضطرابًا شديدًا، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وفي أغلب الأيام تخور قواي بشدة: شكرًا على لطفك؛ فالعديد من أصدقائي، على ما أظن، يعتقدون أنني مصاب بوسواس المرض.»

وفي عام ١٨٤٩، قال مرةً أخرى في يومياته: «من ١ يناير حتى ١٠ مارس — حالتي الصحية سيئة للغاية؛ إذ يزيد المرض عليَّ بشدة وكثيرًا ما تخور قُواي. لكنني أعمل في كل الأيام التي أكون فيها على ما يُرام.» وقد كتب هذا مباشرةً قبل زيارته الأولى لمصحة العلاج المائي الخاصة بالدكتور جالي في مولفرن. وفي أبريل من نفس العام، كتب قائلًا: «أعتقد أنني على خيرِ ما يُرام، لكنني برِمٌ بشدة من حياتي الراكدة الحالية؛ فللعلاج المائي آثارٌ استثنائية للغاية ينتج عنها الخمول وكسل الذهن؛ لم أكن لأُصدِّق أن هذا ممكن قبل أن أَمُر به. الآن وزني يزداد، وأَفلتُّ من قبضة المرض طَوالَ ثلاثين يومًا.» وقد عاد في يونيو، بعد غياب لمدة ستة عشر أسبوعًا، وقد تحسنت صحته كثيرًا، واستأنف العلاج المائي في المنزل لبعض الوقت، كما ذُكر من قبلُ (في الفصل الثالث).]

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون [أكتوبر، ١٨٤٦]
عزيزي هوكر

لم تصلني خطابات من سوليفان مؤخَّرًا. حين كتب آخرَ خطابٍ لي، حدَّد الفترة الزمنية من الثامن وحتى العاشر كالوقت الأرجح لزيارته لي؛ لذا، بمجرد أن يصلني منه خطاب، سأُعرِّفك بالأمر في خطابٍ قصير، وذلك لترى إن كان يمكنك الحضور أم لا. نسيتُ إن كنت تعرفه أم لا، لكنني أفترض أنك تعرفه؛ إنه شخصٌ طيب بحق. على أيِّ حال، إن لم تأتِ حينها، فسيسُرني كثيرًا أن تقترح الحضور قريبًا فيما بعد …

سأبدأ بعض الأبحاث حول الحيوانات البحرية الدنيا، سأستمر فيها بضعة أشهر، أو ربما عام. وبعد ذلك سوف أبدأ في مطالعة ملاحظاتي عن الأنواع والضروب المتراكمة طوال عشر سنوات، وهي التي أعتقد أنها ستستغرق مني خمس سنوات في كتابتها، ويُخيَّل إليَّ أنها حين تُنشر ستهبط مكانتي هبوطًا ساحقًا في نظرِ كلِّ علماء التاريخ الطبيعي الحصفاء — وهذا هو ما أتوقَّعه للمستقبل.

هل تُجيد ابتكار الأسماء؟ فلديَّ جنسٌ جديد وغريب تمامًا من البرنقيل، أُريد تسميته، وإنني في حَيرةٍ تامة بشأن ابتكارِ اسمٍ له.

بالمناسبة، لم أُخبِرك بأيِّ شيءٍ عن ساوثامبتون. لقد استمتعنا (أنا وزوجتي) بالأسبوع الذي قضيناه هناك إلى أقصى درجة؛ كانت كل الأبحاث مملة، لكنني التقيتُ العديد من الأصدقاء وكوَّنتُ الكثير من المعارف الجديدة (من علماء التاريخ الطبيعي الإيرلنديِّين على وجه الخصوص)، وذهبتُ في العديد من الجولات الممتعة. أتمنَّى لو كنتُ معنا هناك. في يوم الأحد ذهبنا في رحلةٍ ممتعة للغاية إلى وينتشستر مع فالكونر [هيو فالكونر (١٨٠٩–١٨٦٥)، الذي عُرف في المقام الأول بصفته عالمَ حفريات، رغم أنه عمل كعالمِ نباتٍ طَوال حياته المهنية في الهند؛ حيث كان أيضًا طبيبًا في شركة الهند الشرقية] والكولونيل سابين [الراحل السير إدوارد سابين، الرئيس السابق للجمعية الملكية، ومؤلِّف سلسلةٍ طويلة من الأبحاث حول المغناطيسية الأرضية] والدكتور روبينسون [الراحل الدكتور توماس رومني روبينسون، من مرصد آرما]، وآخرِين. لم أستمتع في حياتي استمتاعي بذلك اليوم. إلا أنني افتقدتُ رؤية إتش واطسون [الراحل هيويت كوتريل واطسون، مؤلف «النباتات البريطانية وعلاقتها الجغرافية»، الذي يُعد من ضمن سلسلةِ كُتبٍ مهمة للغاية عن طبوغرافيا الجُزر البريطانية والتوزيع الجغرافي لنباتاتها.] أعتقد أنكَ عرفتَ أنه التقى فوربس وأخبره أن له مقالًا قاسيًا منشور عنه. ونما إلى علمي أن فوربس أَوضَح له أنه ليس له مُبرِّر للشكوى، لكن حيث إن المقال طُبع، فهو لن يسحبه، لكنه عرض على فوربس أن يُلحق به ملحوظات، وهو ما رفضه فوربس بطبيعة الحال …

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٧ أبريل [١٨٤٧؟]
عزيزي هوكر

كان لا بد أن أكتب إليكَ قبل الآن، لولا أنني كنت مريضًا على نحوٍ شبهِ دائمٍ طَوال الفترة السابقة، حتى إنني حاليًّا أُعاني من أربع بثور وتورُّمات، وهي التي تجعلني إحداها بالكاد قادرًا على استخدام ساعدي الأيمن، مما منعني عن العمل تمامًا، وأحبط حماسي كليةً. شعرت بخيبةِ أملٍ كبيرة لمَّا فاتتني رحلتي إلى كيو، ومما ضاعف من شعوري هذا أنني نسيتُ أنك ستكون بعيدًا طَوال هذا الشهر؛ لكنني لم يكن لديَّ اختيار، وقد لازمتُ الفِراش تقريبًا طوال يومَي الجمعة والسبت. أُهنِّئك على تحسُّن فرصك في الهند [إذ غادر هوكر إنجلترا في رحلة إلى الهيمالايا والتبت في ١١ نوفمبر، ١٨٤٧. كانت البعثة مدعمة بمنحةٍ صغيرة من وزارة الخزانة، وبذلك اكتَسبَت صفة المهمة الحكومية]، ولكنني في الوقت نفسه يجب أن أحزن لذلك؛ فسوف أشعر بالضياع تمامًا دونك؛ إذ سأفتقد مناقشتي لك فيما يتعلق بنقاطٍ عديدة، وتوضيحي لك (لِسوء حظك) لصعوباتِ فرضياتي حول الأنواع والاعتراضات عليها. سيكون من العار الشديد أن يُوقِف المال بعثتك؛ لكن لا بد أن الحكومة سوف تساعدك إلى حدٍّ ما … رحلتك الحالية، مع آرائك الجديدة، وسط البقايا النباتية الموجودة في طبقات تكوُّن الفحم، ستكون شائقة جدًّا. إذا أُتيحت لك فسحة من الوقت؛ «فقط في هذه الحالة»، فسيسُرني أن أسمع بعض الأخبار عما تُحرزه من تقدم. ستصير رحلتك الحالية مُوفَّقة إذا ذهبتَ إلى أيٍّ من مناطق استخراج الفحم في الهند. ألن يكون هذا أمرًا جيِّدًا للتباهي به أمام الحكومة؛ إذ سيُقدِّر النفعيون هذا. بالمناسبة، سأطلب منك بعض الأمور حول سُلالات الحيوانات المُستأنَسة في الهند …

من تشارلز داروين إلى إل جينينز (بلومفيلد)
داون [١٨٤٧]
عزيزي جينينز

إنني في غاية الامتنان على الروزنامة الصغيرة الرائعة؛ فقد تصادَف أنني كنت أتوق للحصول على واحدةٍ حتى أحتفظ بها في حقيبة أوراقي. [إن الروزنامة الصغيرة المُشار إليها هنا قد نُشرت لأولِ مرة عام ١٨٤٣، باسم «روزنامة جيب علماء التاريخ الطبيعي» للسيد فان فورست، وقد حرَّرتها له. وكانت موجهةً بنحوٍ خاص لأولئك المُهتمِّين بالظواهر الدورية للحيوانات والنباتات، وهي التي أدرجت قائمةً مختارة منها تحت كل شهر من شهور العام.] لم أَرَ هذا النوع قَط من قبلُ، وسوف أحصُل على واحدةٍ بالتأكيد في المستقبل. أعتقد أنه من الممتع للغاية أن تكون لديك قُبالة عينَيك قائمةٌ بترتيب نمو النباتات والحيوانات حولك؛ فهذا من شأنه إعطاء إثارةٍ جديدة لكل يومٍ طيب. لكن ثَمَّةَ شيئًا أَودُّ أن يُجرى له تحسينٌ صغير؛ ألا وهو تصحيح الوقت ليكون على فتراتٍ زمنية أقصر؛ فإنني أشُك أن أغلب الناس الذين لديهم مَزاوِل مثلي سيرغبون في دقة تتعدَّى هامش الدقائق الثلاث. إنني دائمًا ما أشتري الروزنامة التي تُكلِّفني شلنًا من أجل ذلك «فقط». بالمناسبة، «روزنامتك» — أقصد، روزنامة فان فورست — باهظة الثمن جدًّا؛ لا بد، على الأقل، أن تُعفى من رسوم البريد مقابل الشلن ثمنها. ألا تعتقد أن وجود جدول (وليس قواعد) للتحويل من المقاييس، وربما الأوزان، الفرنسية إلى الإنجليزية، سيكون مفيدًا فائدةً كبرى؛ وكذلك من الدرجات المئوية إلى الفهرنهايت، — قدرات العدسات على التكبير وفقًا للمسافات البؤرية؟ في الواقع قد تجعلها هكذا أعظم منشورات العصر فائدة. إنني أعلم أكثر ما سأرغب فيه على الإطلاق، وهو وجود ملحوظاتٍ جوية لكل شهر، مع بيانٍ تقريبي لمسار الرياح وتوقُّعات الطقس، حسب حركات البارومتر. أعتقد أن الناس دائمًا ما يستمتعون بمعرفة درجات الحرارة القصوى والمتوسطة في الفترات الزمنية المقابلة في السنوات الأخرى.

أرجو أن تستمر في هذا الأمر لعامٍ آخر. أشكرك شكرًا جزيلًا يا عزيزي جينينز.

المخلص لك جدًّا
تشارلز داروين

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، الأحد [١٨ أبريل، ١٨٤٧]
عزيزي هوكر

أردُّ إليكَ مع وافرِ شكري خطاب واطسون، الذي نسختُه. إنه خطابٌ رائع، وإنني ممتنٌّ لكَ للغاية لحصولك لي على تلك المعلومات القيمة. لا شك أنه قد تَعجَّل بقوله إن الضروب الوسيطة لا بد بالضرورة أن تكون نادرة، وإلا فقد تُعتبر أنماط أنواع؛ فهو يغفُل عن التواتُر العددي كأحد العناصر. بالتأكيد إذا كان أ وب وج ثلاثةَ ضروب، وإذا كان أ هو الأكثر انتشارًا بدرجةٍ كبيرة (ومِن ثَمَّ عُرف أولًا أيضًا)، فسيُعتبر هو النمط، دون الالتفات إلى ما إذا كان ب وسيطًا تمامًّا أم لا، أو ما إذا كان نادرًا أم لا. يا للمقالات الرائعة التي سيكتبها دبليو! لكنني أعتقد أنه كتب الكثير في دورية «ذا فايتولوجيست». لا بُد أن تُشجِّعه على النشر حول التباين؛ إنه من العار أن تظل حقائق مثل تلك التي في خطابه دون نشر. يجب أن أجعلك تُعرِّفني إليه؛ هل سيكون رجلًا لطيفًا واجتماعيًّا بحيث يذهب معنا إلى دروبمور؟ [إنه يقصد الرحلة التي كانا يُخطِّطان لها أثناء أسبوعِ اجتماع الجمعية البريطانية في أكسفورد عام ١٨٤٧.] رغم أنه إذا جاء، فيجب ألا يأتي فوربس (وأعتقد أنك تحدثتَ عن دعوة فوربس)، وإلا فسنشهد معركةً كبرى. سأود أن أرى يومًا ما مراسلات الحرب. هل لديك مجلَّداتٌ دورية «ذا فايتولوجيست»، وهل يمكنك الاستغناء عنها لبعض الوقت؟ سوف أَتصفَّحها سريعًا … لقد قرأتُ أعدادك الخمسة الأخيرة [من عمله عن الجانب النباتي لرحلته إلى القطب الجنوبي]، وكالعادة أثارت عدةُ نقاط اهتمامي الشديد، خاصةً مناقشاتك حول أشجار الزان والبطاطس. ورأيتُ أنك قدَّمتَ عدة عباراتٍ ضدَّنا نحن مؤيِّدي نظرية تحوُّل الأنواع. كذلك كنتُ أتصفَّح المجلداتِ الأخيرة من مجلة «أنالز أوف ناتشورال هيستوري»، فقرأتُ بحثَين يتسمان بالعبارات الطنَّانة والافتقار للروح بقلم — وهما يليقان تمامًا بمؤلفِ كتاب … إن التناقُض بين الأبحاث التي في هذه المجلة وتلك التي في نظيرتها الفرنسية مُخزٍ إلى حدٍّ ما؛ فهناك كثيرٌ من الأبحاث في الأُولى، بأوصافٍ قصيرة للأنواع، ودون كلمةٍ واحدة حول علاقاتها، أو تراكيبها الداخلية، أو توزيعها أو عاداتها. أنا الآن أقرأ كتابًا ﻟ … وهناك بعض الأشياء التي أثارت اهتمامي فيه، لكنه يبدو لي مملًّا بعض الشيء، وكل مفرداته الطبية والدوائية تُذكِّرني بعيادة الطبيب. سأظل للأبد كارهًا لذكر هذه المفردات، وهذا الكُره قد بدأ منذ حضوري لمحاضرات دانكان التي كانت تُعقد في الساعة الثامنة في صباح أيام الشتاء — فقد كانت ساعةً كاملةً باردة دون إفطارٍ حول خواصِّ موادَّ مثل الراوند!

أرجو أن تكون رحلتك مثمرة للغاية. إليك صادقَ مودتي يا عزيزي هوكر.

صديقك إلى الأبد
سي داروين
ملحوظة: أعتقد أنني لم أُكوِّن سوى صداقةٍ واحدة جديدة مؤخَّرًا، وهي صداقة آر تشيمبيرز؛ وقد تلقَّيتُ للتوِّ نسخةً من الطبعة السادسة لكتاب «بقايا». وأشعر الآن باقتناعٍ تام على نحوٍ ما أنه هو المؤلف. إنه في فرنسا، ويُراسلني من هناك.

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون [١٨٤٧؟]

… يسُرني ما سمعتُه عن اعتقاد برونيار أن السيجلاريا نباتٌ مائيٌّ، وأن بيني يعتبر الفحم نوعًا من الخُث تحت المائي. أُراهن بخمسةٍ مقابلَ واحد أن هذا الأمر سيصير معترفًا به بوجهٍ عامٍّ خلال عشرين عامًا [وهي نبوءة لم تتحقق]، ولا أكترث لأي صعوباتٍ أو تعذُّراتٍ مُتعلِّقة بعلم النباتات في هذا الشأن. إن كان بإمكاني إقناعُ نفسي أن السيجلاريا ومثيلاتها تمتَّعَت بنطاقٍ كبير من العمق؛ بعبارة أخرى، كانت تستطيع العيش على عمقٍ يتراوح من خمس لمائةِ قامة تحت الماء، فستنكشف كل الصعوبات بكل أنواعها تقريبًا (استنادًا للحقيقة البسيطة التي مفادُها أن البحر الضحل العادي المُوحِل يدُلُّ على القُرب من اليابسة). (ملحوظة: ينتابني الضحِك حين أتخيَّلُكَ وأنت تتهكَّم بشأنِ هذا طَوال هذا الوقت.) وعدم وجود أصدافٍ في الفحم ليس بالمشكلة الكبيرة، إذا وضعنا في الاعتبار أن عُمق الوحل لا يناسب أغلب الرخويات، وأن الأصداف غالبًا ستتآكلُ من حمض الهيوميك، كما يبدو أنه حدث في الخث وفي العفن «الأسود» (كما يخبرني لايل) الذي في نهر المسيسيبي. وهكذا تكون مسألة الفحم قد حُسمت — وهو المطلوب إثباته. ولتتهكَّم بعيدًا!

أشكرك شكرًا جزيلًا على خطاب الترحيب الذي أَرسلتَه من كامبريدج، وإنني مسرورٌ أنَّ جامعتي لاقت استحسانك، وهي التي أَحتقِرها من أعماقي كمكانٍ للتعليم، ولكن أُحبُّها للذكريات السعيدة الكثيرة التي لي هناك …

شكرًا على عرضِ إعارة «ذا فايتولوجيست»؛ سأكون ممتنًّا للغاية لذلك؛ فلا أعتقد أنني قد أستطيع اقتراضها من أيِّ شخصٍ آخر. لن أَنخدِع كثيرًا بثنائك، لكنني لا أَعتقِد أنني أضعتُ كتابًا قَط أو سهوتُ عن إرجاعه لفترةٍ طويلة من الزمن. إن كتاب «ويب» الخاص بك غُلِّف جيِّدًا، وكُتب عليه اسمُك بحروفٍ كبيرة «من الخارج».

وصل مجهري الجديد («لعبة مذهلة» كما يدعوه المُحنَّك آر براون)، وإنني سعيد به؛ فهو حقًّا لعبةٌ مذهلة. لقد بقيتُ في لندن مدةَ ثلاثةِ أيام، ورأيتُ العديد من أصدقائنا. كذلك أحزنني كثيرًا سماعي خبرًا غيرَ طيبٍ عن السير ويليام. الوداع يا عزيزي هوكر، ولتكن فتًى مطيعًا، وعُدَّ السيجلاريا من النباتات تحت المائية.

صديقك إلى الأبد
سي داروين

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون [٦ مايو، ١٨٤٧]
عزيزي هوكر

لقد هاجمتَني هجومًا شرسًا، ولا بد أن أُحاول الدفاع عن نفسي. لكن أولًا اسمح لي أن أقول إنني لم أكتب إليك قَط إلا من أجل مسرتي الخاصة؛ والآن أخشى أن ترد عليَّ وأنت منشغل ودون رغبة (وإنني على يقينٍ أنني ما كان ليصير لديَّ أيُّ رغبةٍ في الكتابة إن كنتُ في انشغالك). أرجوك لا تفعل ذلك، وإنْ خطَر لي أن كتابتي تستلزم منك ردًّا سواءٌ شئتَ أم أبيت، فستَتحطَّم كل السعادة التي أشعر بها في الكتابة إليك. أولًا، لم أعتبر خطابي «استدلالًا» أو حتى «افتراضًا»، وإنما ببساطةِ تمرُّدٍ ذهني؛ فبينما كنتُ أُرسل بحث بيني، بُحتُ لك بنتيجة قراءته. ثانيًا، أنت على حق، بالتأكيد، في اعتقادكَ أنني مجنون، إذا كنتَ تفترض أنني قد أُصنِّف أي سراخس كنباتاتٍ بحرية؛ لكن بالطبع ثَمَّةَ بَونٌ شاسع بين النباتات التي يُعثر عليها قائمةً في طبقات الفحم وتلك التي ليست قائمة، والتي ربما تكون قد انجَرفَت. أليس جائزًا أن تكون نفس الظروف التي حفِظَت الغطاء النباتي في موضعه الأصلي، هي التي حفِظَت النباتات المنجرفة؟ أعلم أن نباتات الكالاميت يُعثر عليها قائمة؛ لكني أعتقد أن النباتات القريبة الصلة بها مُبهمةٌ جدًّا؛ مثل السيجلاريا. أمَّا بالنسبة للنباتات الحرشفية، فقد نسِيتُ وجودها، كما يصير حين يتمرد الشخص، وأنا الآن لا أدري ما هي، ولا إذا كانت قائمةً أم لا. إن كانت هذه النباتات؛ أي نباتات الكالاميت والنباتات الحرشفية، «قريبة الصلة جدًّا» من الخُضروات الأرضية، كما هو الحال مع السراخس، ووُجدت قائمةً في موضعها الأصلي، فلا بد بالطبع أن أتخلى عن رأيي. لكن السيجلاريا هي النبات المنتصب الرئيسي بالتأكيد، وقد سمعتُك تُبالغ بشأن قريباتها المبهمة.

ثالثًا، لم يطرأ على بالي قَط التقليل من قيمة الدليل المتعلق بعلم النبات لحساب الدليل المتعلق بعلم الحيوان؛ إلا في حدود اعتقادي أنه من المسلَّم به أن التكوين النباتي قلَّما أعطى دليلًا على قرابةٍ أقرب من تلك التي بين الفصائل، وهذا ليس دائمًا. أليس من الخطر الحكم على العادات في النباتات، كما هو في الحيوانات بالتأكيد، بدون وجودِ قرابةٍ وثيقة جدًّا؟ هل يستطيع عالم النبات أن يعرف من التكوين وحده أن فصيلة المانجروف، هي الوحيدة تقريبًا أو تمامًا من النباتات ذوات الفلقتَين، التي تستطيع العيش في البحر، وكذلك الحال بالنسبة لفصيلة الزوستيرا من بين النباتات ذوات الفلقة الوحدة؟ هل هي حُجةٌ سليمة أنه بما أن الطحالب هي تقريبًا النباتات البحرية الوحيدة المغمورة، فإن المجموعات الأخرى المنقرضة لم يكن بها أعضاءٌ لها مثل هذه العادات؟ تلك الحُجة لن تكون حاسمة مع الحيوانات، وأستطيع إثبات ذلك بعدة أمثلة؛ لكنني أشعر أنني بدأتُ الآن أُسيء إلى نفسي؛ فأنا لا أريد سوى الدفاع عن نفسي بعض الشيء، لا أن أجُر على نفسي الخسائر بالهجوم عليك. إن أساس خطابي، ورأيي المدروس، رغم أنني أحسب أنكَ ستعتقد أنه غيرُ معقول، هو أنني قد أعتمد بالأحرى على الدليل الجيولوجي البحت، مع تساوي الأدلة الأخرى، عن الدليل المتعلِّق بعلم الحيوان أو علم النبات. ولا أعني أنني سأعتمد قريبًا على الدليل الجيولوجي «الضعيف» بدلًا من الدليل الحيوي «الجيد». أعتقد أن أساس الاستدلال الجيولوجي المحض (الذي يتعلق في معظمه بتأثير الماء على قشرة الأرض، وحركاتها لأعلى وأسفل) أبسطُ من الأساس المستخلص من الموضوع الصعب المتعلق بالصلات والبنية وذلك فيما يتعلق بالعادات. بالكاد أستطيع تحليل الحقائق التي بلغتُ بها هذا الاستنتاج، لكن يمكنني التدليل عليه. إن رؤية بالاس ستؤدِّي بأيِّ شخصٍ لافتراض أن الطبقات السيبيرية، التي تجمَّدَت بها هياكل الحيوانات، قد ترسَّبَت سريعًا؛ ومِن ثَمَّ فإن تلك الحيوانات كانت تعيش في المناطق المجاورة؛ لكن معلوماتنا المستقاة من علم الحيوان منذ ثلاثين عامًا جعلَت الجميع يرفضون على نحوٍ خاطئ هذا الاستنتاج.

لتخبرني أن السراخس القائمة في موضعها الأصلي تُوجد مع نباتات السيجلاريا والاستجماريا، أو أن علاقات القرابة بين نباتات الكالاميت والنباتات الحرشفية (بافتراض أنهما يُعثر عليهما في موضعهما الأصلي مع نباتات السيجلاريا) «واضحة» جدًّا، حتى إنه من غير الممكن أنهما كانتا بحريتَين، كما هو الحال لكن بدرجةٍ أكبر مع المانجروف والأعشاب البحرية، وسوف أعتذر لك ولكلِّ علماء النبات بكلِّ خنوعٍ لسماحي لعقلي بأن يجمح في موضوعٍ لا علم لي به بالتأكيد. لكن حتى أسمع هذا، سأظل محتفظًا برأيي سرًّا بنفس التشبُّث وكما ستعتقد، بنفس الروح الفلسفية التي يؤكِّد بها كينيج أن آثار أقدام التشيروثيريوم طحالب فوكوس.

لا أعلم ما إن كان هذا الخطاب سيُسقطني أكثر من نظرك، أم سيُصلِح موقفي قليلًا، لكنني أرجو الأخير. على أيِّ حال، لقد ثأرتُ لنفسي بإصابتك بالضجر بخطاب طويل جدًّا. الوداع، ولتكن متسامحًا معي.

صديقك للأبد
سي داروين
ملحوظة: متى ستعود إلى كيو؟ لقد نسيتُ أحد الأغراض الرئيسية من خطابي، وهو أن أشكرك شكرًا «جزيلًا» على عَرضِك إعارتي دوريةَ «جورنال أوف ذا هورتيكالتشرال سوسايتي»، لكنني طلبتُ العددَين.

[المقتطفان التاليان [١٨٤٧] يشيران لاستمرار معركة الفحم وحسمها.

بالمناسبة، حيث إن الفحم تحت المائي قد جَعلَك في غاية السخط، فقد فكرتُ في اختبار الأمر مع فالكونر وبانبري [الراحل السير سي بانبري، الذي اشتُهر بصفته عالم حفرياتٍ نباتية] معًا، وهو ما جعلهما أكثر سخطًا وشراسة؛ «لا بد لي أن أُخرج هذا الهُراء الملعون من رأسي.» كان بانبري أكثر تهذيبًا واحتقارًا. وهكذا صرتُ الآن أعلم كيف أُثير سخط أيِّ عالمِ نباتٍ وأختال عليه. أتساءل ما إذا كان هناك أمور يمكن أن تثير سخط علماء الحيوان والجيولوجيِّين؛ ليتني أستطيع معرفة ذلك.

لا أملك سوى شكركَ على خطابك الشديد الرقة. أرجوك لا تعتقد أنني انزعجتُ من خطابك؛ فقد أدركتُ أنكَ كُنتَ تُفكِّر بانفعال، وبالتالي عبَّرتَ عن مكنونك بغلظة، وقد تفهَّمتُ هذا. معاذ الله أن أكون رجلًا يزن كل تعبير بحرصِ رجلٍ اسكتلندي. أتمنَّى لك من كل قلبي النجاح في مُعضلتِك النبيلة، أمَّا أنا، فأتوق بشدة لإجراءِ بعض الحديث معك وسماعِ رؤيتك النهائية.]

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر [وهو عبارة عن أجزاء من خطابَين]
داون [أكتوبر، ١٨٤٧]

أُهنِّئك تهنئةً حارة على اكتمال استعداداتك، مع تمني مزيدٍ من التوفيق في المستقبل. سوف تكون رحلة ومهمةً نبيلة، لكن أتمنى لو كانت قد انتهت؛ إذ سوف أَفتقِدك على المستوى الشخصي وعلى كل المستويات لدرجةٍ فظيعة … إنني في حَيرةٍ بالغة حيال السبيل للقائنا … أعي جيِّدًا أنه لا بد أنك منشغل لدرجةٍ فظيعة. إن كنت «لا تستطيع» أن تأتي إلى هنا، فلا بد أن تسمح لي بالمجيء إليك لليلة؛ فيجب أن تكون لي معك دردشةٌ أخرى وعِراكٌ آخر حول الفحم.

بالمناسبة، لقد حاولتُ أن أحث لايل (الذي ظل مقيمًا هنا معي عدة أيام) على أن يُقدِّم لي نظريته حول الفحم؛ إن ما أتى به عن الكنباث «القائم» السرئي رهيب بالنسبة لنظريتي عن النباتات التحت مائية. سأموت مطمئنًّا أكثر إن وجد لي أحدٌ حلًّا لمسألة الفحم. يخطر لي أحيانًا أنه لا يمكن أن يكون الفحم قد تكوَّن على الإطلاق. قال لي السير أنتوني كارلايل العزيز ذاتَ مرةٍ بجدية، إنه يعتقد أن البهضم وما شابهه من الحيوانات قد أُرسلَت من السماء لمعرفةِ ما إذا كانت الأرض ستُوفِّر لها سبل العيش؛ وإنني أعتقد أن الفحم قد انهمر من السماء لِيُوقع البشر في حيرة. يجب أن تُبحث مسألة الفحم جيِّدًا في الهند.

صديقك إلى الأبد
سي داروين

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
[٦ نوفمبر، ١٨٤٧]
عزيزي هوكر

تلقيتُ للتو خطابك بحزنٍ شديد؛ فلا حيلة لنا في ذلك. سأظل دائمًا أرى نيتك المجيء إلى هنا، في ظل تلك الظروف، باعتبارها أعظمَ برهان على الصداقة تلقيتُه على الإطلاق من أحد البشر. كان ضميري سيؤنبني لعدم ذهابي إليكَ يوم الخميس، لكنني لم أستطع؛ حيث لم أكن قادرًا بتاتًا على ترك شروزبيري قبل ذلك اليوم، ولم أرجع للبيت إلا ليلةَ أمس، وقد بلغَ مني الإنهاك مبلغه. إذا لم يصلني خطاب غدًا منك (وهذا بالكاد ممكن)، وإذا كنتُ على ما يُرام، فسأستقل عربةً إلى كيو صباح الاثنَين، فقط لأُودِّعك. وسأمكث لساعة فقط …

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
[نوفمبر، ١٨٤٧]
عزيزي هوكر

إنني متوعك جدًّا، وغير قادر على فعلِ أيِّ شيء. أرجو حقًّا ألا أكون قد ضايقتُك. كنتُ في حالٍ سيِّئ جدًّا طَوالَ أمس، حتى إنني سُرِرتُ أنك لم تكن هنا؛ فقد كنتُ سأشعر بمرارةٍ شديدة لو كنتَ لديَّ هنا دون أن تستمتع بيومك الأخير معي. والآن لن أراك. الوداع، وليباركك الرب.

صديقك المحب
سي داروين

سوف أكتب إليك في الهند.

في عام ١٨٤٧ ظهر مقال للسيد دي ميلن، [الذي يُدعى الآن السيد ميلن هوم] انتُقد فيه عمل أبي بشأن جلين روي، وهذا هو المُشارُ إليه في الاقتباس المميَّز التالي من خطاب لأبي إلى السير جيه هوكر: «كنتُ في حالةٍ سيئة للغاية طَوال الأيام القليلة الماضية، لاضطراري إلى التفكير في جلين روي والكتابة عنها كثيرًا … فقد هاجم السيد ميلن نظريتي، مما أزعجني لدرجةٍ مُروِّعة.» لم أستطع العثور على أيِّ ردٍّ منشور على كلام السيد ميلن؛ لذا أعتقد أن «الكتابة» المذكورة اقتَصرَت على خطابات. لم يكن بحث السيد ميلن هادمًا لبحث جلين روي، وهذا ما يُقِر به أبي في الاقتباس التالي من خطاب إلى لايل (مارس، ١٨٤٧). إن الإشارة إلى تشيمبيرز لها ما يُفسِّرها، وهو أنه اصطحب السيد ميلن في زيارته إلى جلين روي. «جَعلتُ آر تشيمبيرز يعطيني موجزًا لآراء ميلن حول جلين روي، ثم أعدتُ قراءة بحثي، والآن بعد سماعي ما لديه ليقوله، أنا حتى لم أندهش؛ فمن المثير للسخط والإهانة أن تجد أن تشيمبيرز لم يقرأ بحثي حول هذا الموضوع بأيِّ اهتمام، أو حتى يطالع الخريطة المُلوَّنة، وبذلك لم يُبحث عن الرصيف الجديد الذي وصفتُه، ولم تُعطَ الحُجج أو الحقائق المتعلِّقة بالتفاصيل التي قدَّمتُها أقلَّ قدْرٍ من الاهتمام. لقد كنتُ مستسلمًا تمامًا، ومخلوع الفؤاد إلى حدٍّ ما في الجمعية الجيولوجية، حتى طمأنتَني وذكَّرتَني بالحقائق الرئيسية في القضية كلها.»

الخطابان التاليان إلى لايل، وإن كانا بتاريخ لاحق (يونيو، ١٨٤٨)، يتعلقان بنفس الموضوع:

كنتُ في الاجتماع المسائي [للجمعية الجيولوجية]، لكنني لم أكن على مقربةٍ منك. كم جعل — من نفسه أحمقَ (وإن كان لا بد أن أقول إنه أحمقُ مُسلٍّ للغاية). لقد جاء حديثك بعده منعشًا للأذهان، وقد أحسن فوكس (ابن عمي) وصفه في بضع كلمات بقوله: «يا له من تناقض!» لقد بدا لي كلامك افتراضًا ممتازًا حول هبوط التكوينات الويلدنية. لم أسمع ما انتهيتَ إليه في المجلس؛ فقد كنتُ في إعياء وذهول تام. لقد وجدتُ أن سميث، الذي من منطقة جوردان هيل، لديه رأيٌ حتى أسوأ من رأيي بشأن كتاب آر تشيمبيرز. لقد أغضبني تشيمبيرز قليلًا؛ فهو يقول إنني «أفترض» و«أُجاهر باعتقادي» أن منطقة جلين روي بحرية، وإن الفكرة قد قُبلت لأن «قدرة اليابس على الحركة كانت الفكرة السائدة في ذلك الوقت.» وهو يُضيف بعض الخطوط «الفوقية» الضعيفة جدًّا إلى جلين سبين (التي رآها بالمناسبة أجاسي)، ويُوضِّح أن ميلن وكيمب على حقٍّ في أن ثَمَّةَ علاماتٍ مائية أفقية (وهي التي «ليست» على مستوياتٍ متطابقة مع تلك الخاصة بجلين روي) في أجزاءٍ أخرى من اسكتلندا على ارتفاعاتٍ شاهقة، ويضيف حالاتٍ أخرى متعددة. هذا جُل ما أضافه إلى المعلومات الخاصة بهذا الأمر. وهو لا يستولي فحسبُ على حُجتي المتعلقة بالدعائم والشرفات التي أسفل الرصيف السفلي وبعض الحُجج الأخرى (دون إشارة إلى صاحبها)، وإنما يسخر من كل سابقِيه لعدم إدراكهم أهمية الأجزاء القصيرة من الخطوط الواقعة بين الخطوط الرئيسية في جلين روي؛ في حين أنني بدأتُ وصفها بقولي «لقد فحصتها باهتمامٍ شديد، لما أدركته من أهميتها»، وأسهبتُ في الحديث عنها باستفاضة. وقد أخبرتُه على نحوٍ غير مباشر أنني لا أعتقد أن له ذريعةً حقيقية لاعتبار نفسه الوحيد (وهو ما يؤكده بطريقةٍ مباشرة نوعًا ما) الذي حل مشكلة جلين روي. وبالنسبة للشرفات القائمة على المستويات الأقل ارتفاعًا والمتطابقة في الارتفاع في جميع أنحاء اسكتلندا وإنجلترا، فإنني أميل للاعتقاد أنه أعطى احتمالًا قليلًا لوجود بعض الشرفات الرئيسية المتطابقة، لكن يلزم وجود دليل دقيق على ذلك. هل تجد ذلك معقولًا؟ إنه يفترض كتفسير محتمل لارتفاع بريطانيا العظمى أنه في أحد المحيطات الكبرى سقط واحد على عشرين من قاع السطح المائي كله (لا يقول أين ذلك) مسافة نصف ميل، وهو ما نجم عنه ارتفاع ظاهر حسبه بمقدار مائة وثلاثين قدمًا.

من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون [يونيو، ١٨٤٨]
عزيزي لايل

من باب إنصاف تشيمبيرز أنا مضطر لإزعاجك بهذا الخطاب لأقول إنه، في حدود ما يخصني شخصيًّا في مسألة جلين روي، قد اعتذر اعتذارًا رسميًّا، ويقر بما اقترفه من خطأ غير مقصود باستيلائه على اثنَين من الحجج والحقائق التي تخصني دون الاعتراف بذلك. وختم كلامه بقوله إنه «بلغ نفس النقطة عن طريق سَلكِ مسارٍ بحثي مستقل، مما يغفر إلى حدٍّ ما هذا السهو.» وينمُّ خطابه برُمته عن نيةٍ طيبة جدًّا؛ إذ يقول إنه «مغتبط للغاية بالثناء «الحذِر» الذي أسبغتُه عليه، إلخ.» إنني سعيد بحق أنني استطعتُ أن أقول بأمانة إنني اعتقدتُ أنه قد أسدى خدمةً جليلة باستدعاء المزيد من الاهتمام إلى موضوع الشرفات. وهو يعترض قائلًا إنه ليس من العدل القول بأن نظرية سقوط البحر نظريته؛ فهو دائمًا ما يتحدث بحذر عن وجود تغيُّر في المستوى فقط، وهذا صحيح تمامًا؛ لكن القسم الذي يُوضِّح فيه كيف يتصور احتمال سقوط البحر مثيرٌ جدًّا للدهشة، حتى إنني أعتقد أنه سيبدو بالنسبة لي، كما هو الحال بالنسبة للآخرِين، متناقضًا جدًّا مع حذَره السابق. أرجو أن يجد كتابه لديك استحسانًا أكثر مما وجده لديَّ.

مع إخلاصي الشديد
سي داروين

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
٦ أكتوبر، ١٨٤٨

… كنتُ أحاول مؤخَّرًا إثارة حملة (لكنني لن أنجح، وقطعًا أشك إن كان لديَّ الوقت والقوة لمواصلتها)، ضد ما يفعله علماء التاريخ الطبيعي من إلحاق اسم «أول» واصفٍ لأي نوعٍ باسم النوع للأبد. أرى هذا كمكافأةٍ فورية على عملٍ متسرع؛ على «التسمية» وليس «الوصف». يجب أن يكون للنوع اسمٌ معروف جيدًا بحيث تكون معه إضافة اسم الكاتب أمرًا لا داعي له، و[نوعًا] من الغرور الأجوف. وليس من المقبول في الزمن الحاضر إعطاء أسماءٍ نوعية فحسب؛ لكن أعتقد أن علماء الحيوان ربما يفتحون المجال لحذف هذه الأسماء، بالإشارة إلى كُتَّابٍ تصنيفيين أَكْفاء بدلًا من الواصفِين الأوائل. أعتقد أن علم النباتِ لم يُعانِ فيما يتعلق بالتسمية بقدْرِ معاناة علم الحيوان؛ فالشخصيات مغمورةٌ أكثر، لحسن الحظ. هل فكرتَ في هذه النقطة من قبل؟ لماذا يُلحق علماء التاريخ الطبيعي أسماءهم بأسماء الأنواع الجديدة، في حين أن علماء المعادن والكيمياء لا يفعلون هذا بالمواد الجديدة؟ أرجو أن تُبلغ فالكونر مودتي عند الكتابة إليه. إنني في أشد الأسف على ما سمعتُه من أنه مريض. فليباركك الرب يا عزيزي هوكر، وأرجو لك التوفيق.

صديقك المخلص
سي داروين

من تشارلز داروين إلى هيو ستريكلاند [هيو إدوين ستريكلاند (١٨١١–١٨٥٣)، واضع النظام الشهير الخاص بتسمية الكائنات في علم الحيوان، الذي لا تزال مبادئه متبعةً بوجهٍ عام]
داون، ٢٩ يناير [١٨٤٩]

… يا لها من مهمة التي اضطلعتَ بها! إنني «أُجلُّ» بالفعل حماسك المتفاني في سبيلِ مجالِ علوم التاريخ الطبيعي. هل لديك نسخةٌ «إضافية» من قواعد التسمية التي نُشرَت في «محاضر اجتماعات الجمعية البريطانية»؟ إذا كانت لديك، وستعطيني إياها، فسوف أكون ممتنًّا حقًّا؛ فإنني آبى شراء المجلَّد بالكامل من أجلها. لقد وجدتُ القواعد مفيدة جدًّا؛ فمما يبعث على الاطمئنان تمامًا أن يكون لديك شيءٌ تستند إليه في بحر التسمية المضطرب (ومِن ثمَّ، فإنني ممتنٌّ لك)، رغم أنني أجد أن الالتزام بها دائمًا شديد الصعوبة. ولديكَ هنا حالة (وأعتقد أنه كان يجب الالتفات إليها عند وضع القواعد)؛ حيث إن أسماء الكورونولا والسينيراس Cineras والأوشن Otion استخدمها كوفييه ولامارك وأوين، وتقريبًا «كل» الكُتَّاب المعروفِين، لكنني أجد أن أحد الألمان قد استَبقَ تلك الأسماء الثلاثة جميعًا بأسماء أخرى؛ إذن أعتقد أنني إن كنت سأتبع قاعدة الأسبقية الصارمة، فالضرر الذي سينجُم عن ذلك أكثر من النفع، ولا سيما أنني متأكدٌ أن الأسماء الجديدة المفترض استخدامها لن تُستخدم. أعتقد أنني أرفضُ تطبيقَ قاعدةِ الأسبقية في هذه الحالة؛ فهل تجد غضاضةً في أن تُرسل إليَّ رأيك بهذا الشأن؟ لقد جعلَتني الظروف مؤخَّرًا أُفكِّر كثيرًا في موضوع التسمية، وقد وصلتُ إلى رأيٍ راسخ بأن نهج إلحاق اسم المكتشف الأول لأيِّ نوعٍ للأبد باسم هذا النوع، كان أكبر لعنةٍ حلَّت على علوم التاريخ الطبيعي. ومنذ بضعة شهور، كتبتُ البحث الرديء المرفق، معتقدًا أنني ربما أثير الموضوع، لكن حماسي تلاشى، ولا أعتقد أنني سأُكرِّر هذا أبدًا؛ وإنني أُرسِله إليك لعله يحظى باهتمامك لمطالعة أفكاري. لقد أدهشني أن أجد أثناء حديثي مع علماء التاريخ الطبيعي أن العديد منهم يَرونَ تقريبًا ما أرى في هذه المسألة. وإنني واثقٌ أنه ما دام يُرضَى غرور «تُجار الأنواع» بأن يَروا أسماءهم تُضاف للأنواع؛ لأنهم وصفوها على نحوٍ بائس في سطرَين أو ثلاثة، فسيصير لدينا نفس الكم «الهائل» من العمل السيئ الذي لدينا الآن، وهو ما يكفي ليثبط همة أيِّ رجلٍ لديه استعدادٌ لأن يهب أيَّ فرع من العلم اهتمامه ووقته. إنني أجد لكلِّ جنس من هُدابيات الأرجل ستة أسماء، لكن لا يُوجد وصفٌ دقيق واحد لأيِّ نوعٍ في أيٍّ من الأجناس. ولا أعتقد أن الحال كان سيُصبح هكذا لو كان كلُّ رجل يدرك أن تخليدَ ذِكرى اسمه يتوقف على تأديته عملًا على أكملِ وجه، ولا يقتصر على إضافةِ اسمٍ إلى بضعة سطورٍ هزيلة تُشير إلى القليل من الصفات الخارجية البارزة فحسب. لكنني لن أُرهقك بالمزيد من الخطابة المستفيضة. فلتقرأ بحثي أو لا تقرأه، فلتفعلْ ما يحلو لك، وأَرجِعه متى أردت.
صديقك الوفي جدًّا
سي داروين

من هيو ستريكلاند إلى تشارلز داروين
ذا لودج، تيوكسبيري، ٣١ يناير، ١٨٤٩

… عليَّ بعد ذلك تأمُّل اعتراضك الثاني — وهو أن الاحتفاظ باسم المُكتشِف «الأول» للأبد مع اسم النوع، هو مكافأة على عملٍ متسرع وغيرِ مُتقَن. هذه المسألة مختلفة تمامًا عن مسألةِ قاعدة الأسبقية نفسها، ولم يخطر على بالي قَط، رغم أنه يبدو محتملًا للغاية، أن التطبيق العام لهذه القاعدة قد تنتج عنه تلك النتيجة. لا بد أن نُحاول مواجهة هذا الشر بطريقةٍ أخرى.

ليس الهدف من إضافةِ اسمِ أحد الرجال لاسم أحد الأنواع إشباعَ غرور هذا الرجل، وإنما تحديد النوع بدقةٍ أكثر. أحيانًا يعطي رجلان، بالصدفة، نفس الاسم (كلُّ منهما على حدة) لنوعَين من نفس الجنس. والأكثر تواترًا أن يخطئ كاتبٌ لاحق في استخدام الاسم النوعي لكاتبٍ سابق له؛ ومِن ثَمَّ فإن حلزون هيليكس بوتريس Helix putris الخاص بمونتاجو ليس هو حلزون هيليكس بوتريس الخاص بلينيوس، رغم أن مونتاجو افترض أنه كذلك. في حالةٍ كهذه لا يمكننا الاكتفاء باسم هيليكس بوتريس فقط، وإنما يجب إضافةُ اسم المؤلِّف الذي نقتبس كلامه. لكن إن كان النوع لم يكن له سوى اسمٍ واحد فقط (مثل غراب القيظ)، ولم يحمل أيُّ نوع من الغربان نفس الاسم، فمن غير الضروري، بالتأكيد، أن نُضيف اسم المؤلِّف. لكن حتى في هذه الحالة أُفضِّل إضافة اسم لينيوس لاسم الطائر لأنه يُذكِّرنا أنه أحد الأنواع القديمة، المعروفة منذ زمنٍ طويل، ويمكن العثور عليها في كتاب «نظام الطبيعة» وغير ذلك؛ ولذلك أخشى أنه (على الأقل إلى أن يصير نظام التسمية الخاص بنا أكثر استقرارًا على نحوٍ تام) سيكون من المستحيل تحديد الأنواع بدقةٍ علمية، بدون إضافةِ اسمِ كاتبِها الأول. يمكن بالتأكيد أن تفعل هذا بالطريقة التي تقترحها، بأن تقول مثلًا «في كتاب لامارك عن اللافقاريات»، لكن عندئذٍ لن يكون هذا متفقًا مع قانون الأسبقية؛ إذ لا يمكن استخدام اسم لامارك، ما دام قد خرق ذلك القانون. إلا أنه مما يساهم في تحقيق درجةٍ كبيرة من الدقة في التحديد أن تُضيف إلى الاسم النوعي (الأقدم) إشارةً «واحدة» مناسبة إلى عملٍ نموذجي، وحبذا إن كان إلى شخصيةٍ بارزة، مع مرادف إذا لزم الأمر. قد تكون هذه الطريقة مرهقة، لكن الإرهاق أقل شرًّا كثيرًا من عدم اليقين.

كما أنه يبدو بالكاد ممكنًا أن نُطبِّق مبدأ الأسبقية، دون المساعدة التاريخية التي تسديها إضافة اسم الكاتب إلى الاسم النوعي. إذا أطلقتُ أنا، أحد المنادين بقاعدة الأسبقية، على نوعٍ ما اسم سي دي، فهذا يوحي بأن سي دي هو أقدم اسم أعرفه؛ لكن حتى يمكن لك ولآخرِين الحكم على صلاحية الاسم، فيجب أن تعرف من الذي صك الاسم أولًا ومتى. أمَّا إذا أضفتُ للاسم النوعي سي دي الاسم إيه بي، اسم واصفه الأول، فسأُمدُّك في الحال بدليل عن التواريخ التي أُعطي خلالها هذا الوصف، والكتاب التي ذكر فيه، وبهذا أساعدك في تحديد ما إذا كان سي دي هو بحق الأقدم، ومِن ثَمَّ التسمية الصحيحة.

إلا أنني أُقر بأن مبدأ الأسبقية (رغم جدارته)، ينزع، عند إضافة اسم الكاتب، إلى التحريض على الغرور والعمل غير المتقن. ورغم ذلك أعتقد أن ثَمَّةَ الكثير مما يمكن فعله لإحباط تلك التعريفات المبهمة وغير المرضية التي شكوتُ منها عن وجه حق، عن طريق «التشهير» بتلك الممارسة. لندع علماء التاريخ الطبيعي الأفضل استعدادًا يعترضون رسميًّا على كل التعريفات المبهمة والمرسلة وغير الملائمة للأنواع الجديدة (المفترضة). ولندع لجنةً (تابعة للجمعية البريطانية مثلًا) تُعين لإعدادِ قائمةٍ بمختلف الأعمال الحديثة التي وُصفَت فيها أنواعٌ جديدة، مع ترتيبها وفقًا للجدارة. وسيضم المستوى الأدنى فيها أسوأ الأمثلة في هذا الشأن، وبهذا سيتعرض مؤلِّفوها للخزي الذي يستحقونه، وسيُشهَّر بهم كرادع ليتعظ أولئك الذين قد يأتون بعدهم.

هكذا أكون قد أعربتُ عن آرائي بصراحة (وكما أرجو، على نحوٍ مفهوم) عما يبدو الحل الأفضل في الحالة الانتقالية والخطيرة الحالية للتصنيف في علم الحيوان. يتدافع نحو المجال عددٌ لا يُحصى من العاملِين، الذين الكثير منهم غريبو النزعات وأنصاف مُتعلمِين، وأعتقد أن الجيل الحالي مُلقًى على عاتقه مسئوليةُ ما إن كان العلم سيئول للأجيال المستقبلية على هيئةِ كتلةٍ مُشوَّشة أم تحكُمه بعض القواعد والتنظيم. لو كان باستطاعتنا تكوين مجلس نُوابٍ من الكيانات العملية الرئيسية في أوروبا وأمريكا، لكان من الممكن فعلُ شيء، لكن مما يبدو عليه الحال، أُقر أنني لا أرى نفسي قادرًا على فعل شيءٍ يتعدَّى محاولةً متواضعة للقيام بالخطوة الأُولى في عملية الإصلاح.

صديقك إلى الأبد
إتش إي ستريكلاند

من تشارلز داروين إلى هيو ستريكلاند
داون، الأحد [٤ فبراير، ١٨٤٩]
عزيزي ستريكلاند

إنني حقًّا «شديد» الامتنان لك، على خطابك المستفيض والشائق للغاية والواضح، وعلى التقرير أيضًا. سوف أنظر في حُججك، ذات الأهمية الشديدة، لكن أُقر مع ذلك أنني لا أستطيع أن أحمل نفسي على رفضِ أسماءٍ «معروفة» جدًّا، ليس في بلدٍ «واحد» فقط، ولكن حول العالم، مقابل أسماء مجهولة؛ فقط لأنني لا أظن أن أحدًا سيحذو حذوي. أرجو أن تُصدِّق أنني لن أخرق قانون الأسبقية إلا في حالاتٍ نادرة. هلا قرأتَ المرفَق (وأعدته لي)، وأخبرني ما إذا كان لا يصيبك بالدهشة! (ملحوظة: «أعِدُك» أنني لن أُسبِّب لك المزيد من المتاعب.) أريد إجاباتٍ بسيطة، وأرجو ألا تُهدر وقتك في ذِكرِ أسباب؛ إنني متلهفٌ لإجابتك بشأنِ حيوانِ بلوط البحر. لقد طرحتُ مسألة الأوشين … إلخ، على دابليو تومسون، المتعصب لقانون الأسبقية، واستسلم بشأن هذه الأسماء المعروفة. إنني في متاهةٍ تامة من الشك حيالَ نظام التسمية؛ فلا يُوجد في جنس هدابيات الأرجل الكبير «أي» نوعٍ مُعرَّف تعريفًا صحيحًا؛ فالتعرُّف على أيِّ نوعٍ هو مسألة تخمينٍ محض (يُسترشد فيه بالتوزُّع والشيوع والعادات)؛ هكذا بالكاد أستطيع معرفةَ أيٍّ من هدابيات الأرجل الجالسة البريطانية من الرسوم أو الأوصاف. لا يمكنني تحمُّل إعطاءِ أسماءٍ جديدة لكل الأنواع، لكنه ربما سيكون من الخطأ أن أُعطي أسماءً قديمة بالتخمين فحسب؛ في الوقت الحالي ليس لديَّ أدنى فكرةٍ أيٌّ من النوعَين كان يقصد؟ كل الكتاب باسم أناتيفيرا لافيس Anatifera lævis؛ لذلك فقد أعطيتُ ذلك الاسم للنوع الأكثر شيوعًا بعض الشيء. في واقع الأمر، لا يُوجد أيُّ نوعٍ موصوف وصفًا دقيقًا؛ فلم يتكبد أيُّ عالم تاريخٍ طبيعي مَشقَّة أن يفتح صُدفةً أيًّا من الأنواع ليصفها وصفًا علميًّا، ورغم ذلك كل الأجناس لديها نصف دزينة من الأسماء المرادفة. لنفترض «جدلًا» أنني أؤدِّي عملي بدقةٍ تامة، لكن تَصادَف أن شخصًا أعطى أسماءً للعينات الأصلية، لنقل مثلًا شونو، الذي رسم مئات الأنواع وأسماها، وهكذا فهو سيستطيع أن يُلغي كل أسمائي وفقًا لقانون الأسبقية (فهو قد يؤكد أن الأوصاف التي أعطاها كافية)؛ فهل تعتقد أنه من المفيد للعلم أن يحدث هذا؟ أنا لا أعتقد ذلك، وأعتقد أن الفائدة والجدارة (اللتَين أذكرهما جدلًا فحسب) كان لا بد أن يكون لهما دور. إن الموضوع يفطِر القلب.

أرجو أن تُقلِّب في رأسك من حينٍ لآخر الحُجة التي سُقتُها عن الضرر الناتج عن إلحاق اسم المكتشف بالأسماء النوعية؛ أستطيع أن أرى بوضوحٍ شديد الضرر «الشديد» الذي سبَّبه ذلك، وقد وجدت بنفسي في علم المعادن أنه لا يُوجد ولع بإضافة المُكتشفِين أسماءهم للمواد التي يكتشفونها؛ فلا يتولى أحد موضوعًا دون أن ينوي أن يُنهيه على أكمل وجه؛ حيث يعلم أن سبيله «الوحيد» للتميُّز يقوم فقط على قيامه بعمله بمهارة، ولا علاقة له على الإطلاق ﺑ «التسمية». لكنني أُسلِّم بإحدى النقاط، وأُقر بأن الإشارة لاسمِ الواصف الأَوَّل لا بد أن تحدُث في كل الأعمال التصنيفية، لكنني أعتقد أن ثَمَّةَ فائدةً ستُجنى إذا ما ذُكرَت الإشارة بدون إضافة اسم الكاتب فعليًّا كجزء من الاسم الثنائي، وأعتقد أن الإشارة، على النحو الذي أقترحه، إلا إذا كانت في الأعمال المنهجية، من شأنها أن تقمع الغرور كثيرًا. يُخيَّل لي أن روحًا فاسدة جدًّا تحوم في جميع أنحاء علوم التاريخ الطبيعي، كأن التقدير لا يستحقه الشخص إلا على تسميةِ أحدِ الأنواع وتعريفها؛ وأنا أعتقد أنه يستحق القليل منه أو لا يستحقه على الإطلاق. أمَّا إذا درس أيَّ نوعِ دراسةً «دقيقة» وتشريحية، أو درس مجموعةً كاملة دراسةً تصنيفية، فالتقدير مُستحَق، لكنني أعتقد أن وصف أحد الأنواع وحده لا يُعد شيئًا، وأنه لن يقع على من يقوم بذلك «ظلم» إذا أَغفلتُ الإشارة إليه، رغمَ ما يُسبِّبه ذلك من مشاكلَ هائلةٍ في علوم التاريخ الطبيعي. وأرى أن أيَّ شخصٍ يصف أحد الأنواع لا يستحق تقديرًا أكثر من التقدير الذي يستحقه النجار على صُنعِ صندوق. إنني أتعامل بطيشٍ وتشدُّد في مواجهة تُجار الأنواع، أو بالأحرى في مواجهة غرورهم؛ فعملهم عملٌ نافع وضروري لا بد أن يُنجز؛ لكنهم يتصرفون كأنهم هم الذين صنعوا الأنواع، وكأنها ملكيتهم الخاصة.

إنني أستخدم قائمةَ أسماء أجاسي؛ وعلى الأقل ثلثا التواريخ المتعلقة بهدابيات الأرجل خاطئةٌ خطأً جسيمًا.

سوف أفعل ما بوُسعي في مجالِ حفريات هدابيات الأرجل، وسأكونُ ممتنًّا للغاية لتزويدي بالعينات، إلا أنني لا أعتقد أن الأنواع (وبالكاد الأجناس) يمكن تعريفها بالصِّمَامات وحدها؛ فأشكالها تَتبايَن كثيرًا في كلٍّ من الأنواع الحديثة التي فُحصَت، وإنَّ وَصْف أحد الأنواع بالصِّمَامات فحسب، لَيشبه وَصْف أحد سرطاناتِ البحر من خلالِ أجزاءٍ «صغيرة» من درعه فقط، في حين أن هذه الأجزاء متباينة لدرجةٍ كبيرة، ولا تُغطِّي الأحشاء كما في القشريات. أُقدِّم خالص اعتذاري على المتاعب التي سبَّبتُها لك، لكنني بالتأكيد لن أُسبِّب لك المزيد منها.

صديقك الوفي
سي داروين
ملاحظة: في مناقشاتي مع أوين وأندرو سميث، وجدتُهما ميالَين كثيرًا إلى التخلي عن عادة إلحاق أسماء الكُتَّاب بالأنواع، وأعتقد أنني إذا حركتُ حملةً في هذا الشأن، فقد أحمل قطاعًا كبيرًا على الانضمام إليها. اتفق دبليو تومسون معي على نحوٍ ما، لكنه لم يكن مستعدًّا للتوسُّع في الأمرِ بقدْرِ ما فعلت.

من تشارلز داروين إلى هيو ستريكلاند
داون، ١٠ فبراير [١٨٤٩]
عزيزي ستريكلاند

مرةً أخرى عليَّ أن أشكرك شكرًا حارًّا على خطابك. ستؤتي ملاحظاتك ثمارها إلى حدٍّ ما، وسوف أحاول أن أكون أكثر التزامًا بقاعدة الأسبقية المتشددة؛ أمَّا بالنسبة لتسمية بلوط البحر باسم «ليباس» (وهو ما لم يخطر لي)، فلا يمكنني فعله؛ فسيأبى قلمي كتابته — إنه «مستحيل». وتحدوني آمالٌ عريضة أن تتبدَّد بعضُ الصعوبات التي أُواجهها، والناتجة عن التواريخ الخاطئة في كتاب أجاسي، واضطراري لدمجِ عدةِ أجناس في جنسٍ واحد؛ حيث إنني حتى الآن كنتُ ألجأ إلى المصادر الأصلية، إلا في حالاتٍ قليلة. أمَّا بالنسبة لتطبيق أفكاري في كتابي عن هُدابيات الأرجل، فلن أَودَّ فعل ذلك دون أن أحصُل على موافقة الآخرين، وبطريقةٍ علنيةٍ ما، ودون أن تكون مناسبة تمامًا بالطبع؛ فإنني لا أستطيع مطلقًا التعرُّف على نوعٍ ما دون أن يكون لديَّ العينة الأصلية، التي لحسن الحظ تتوفر لي في حالاتٍ عدة في المتحف البريطاني. لكنني أنوي تطبيق قناعاتي، في عدم إثبات ملكيتي أو وضع اسم «داروين» بعد اسم أنواعي، أو تقديم أسماءِ أيِّ كِتاب على الإطلاق في النص التشريحي؛ حيث إن الجزء التصنيفي سيفي بالغرض لأولئك الذين يريدون معرفة تاريخ أحد الأنواع بالقَدْر غير الكامل الذي أستطيع توضيحه.

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
[ذا لودج، مولفرن ٢٨ مارس، ١٨٤٩]
عزيزي هوكر

خطابك الذي بتاريخ ١٣ أكتوبر ظل بلا رد حتى هذا اليوم! يا له من ردٍّ جاحد على خطاب أثار اهتمامي للغاية، واحتوى على أشياءَ كثيرةٍ ومعلوماتٍ مثيرة! لكنني مررت بشتاءٍ قاس.

في الثالث عشر من نوفمبر، تُوفي أبي العزيز المسكين، ولا أحد مِمَّن لم يعرفوه كان سيصدق أن رجلًا تعدَّى الثالثة والثمانين من العمر استطاع أن يحتفظ بطبيعةٍ مرهفة ومحبة للغاية، وبكلِّ ما يتمتع به من بصيرة دون أن تشوبها شائبة حتى النهاية. كنت أثناء ذلك معتلًّا للغاية، حتى إنني لم أَقوَ على السفر، مما زاد من بؤسي. حقًّا كنتُ في حالةٍ سيئة جدًّا طوال هذا الشتاء … وبدأ جهازي العصبي يتأثر، حتى إن يديَّ كانتا ترتعشان، وكان رأسي يدور كثيرًا. ولم أكن أستطيع فعل أي شيء لمدة يوم كل ثلاثة أيام، وكنت في يأس شديد منعني من الكتابة إليك، أو فعل أي شيء إلا ما كنت مضطرًّا إليه. وخال لي أن حياتي في طريقها للنهاية سريعًا. لكن حين سمعت بالصدفة، عن شخصين استفادا كثيرًا من العلاج المائي، حصلت على كتاب دكتور جالي وقمت بالمزيد من الاستفسارات، وأخيرًا انتقلت إلى هنا مع زوجتي وأبنائي وكل خدمنا. فقد استأجرنا منزلًا لمدة شهرين، ونحن هنا منذ أسبوعَين. لقد صرت أقوى قليلًا بالفعل. يساور الدكتور جالي يقينٌ كبير أنه يستطيع أن يعالجني، وهو ما لم يستطع فعله الأطباء العاديون بكل تأكيد. إنني على ثقة أن العلاج المائي ليس دجلًا.

كم سأستمتع بالعودة إلى داون بصحةٍ متجددة، إذا أسعدني الحظ بذلك، واستكمال عملي العزيز عن البرنقيلات. أرجو أن تسامحني على تقصيري بعدم الرد على خطابك مبكِّرًا. لقد أثار اهتمامي لدرجةٍ غير عادية الموجز الذي أعطيته عن رحلتك الاستكشافية الكبرى المزمعة، التي أعتقد أنك سترجع منها سريعًا. كم أرجو صادقًا أن يحالفها التوفيق في كل النواحي.

[حين كان أبي في مصحة العلاج المائي في مولفرن، حدث له موقف مع موضوع الاستبصار، وهو ما يكتب عنه في الاقتباس التالي من خطاب إلى فوكس، بتاريخ سبتمبر، ١٨٥٠.

إنك تتحدث عن المعالجة المثلية، وهو موضوع يثير غضبي، أكثر حتى من الاستبصار. إن الاستبصار يتجاوز الإيمان، حتى إن قدرات المرء العادية تُنحَّى جانبًا، لكن في المعالجة المثلية تدخل الملاحظة والإدراك السليم في الاعتبار، وكلاهما لا بد أن يتنحَّيا جانبًا، إذا كان للجرعات الصغيرة أن يكون لها أيُّ تأثيرٍ على الإطلاق. كم هي صحيحةٌ الملحوظة التي رأيتُها في يومٍ سابق لكيتليه، فيما يتعلق بدليل الطرائق العلاجية؛ بعبارة أخرى، إنه لا أحد يعلم فيما يتعلق بالمرض ما النتيجة المترتبة على عدمِ فعلِ شيء، كمقياس للمقارنة مع المعالجة المثلية، وسائر الأشياء الأخرى المماثلة. لا أملك سوى الاعتقاد أنه عيبٌ مؤسف في عزيزي الدكتور جالي؛ أنه يؤمن بكل هذه الأشياء. حين كانت الآنسة … في غاية المرض، استعان بفتاةٍ مستبصرة لتخبره بالتغيُّرات الداخلية، ومُنومٍ مغناطيسي ليجعلها تنام، وأحد المُعالجِين المثليِّين، وهو الدكتور … وعمل هو نفسه كمعالج مائي لها، والفتاة تعافت.

يتبين في فقرة من خطابٍ سابق لهذا إلى فوكس (ديسمبر، ١٨٤٤) أنه كان على نفس القدْر من التشكك بشأن موضوع التنويم المغناطيسي: «فيما يخص التنويم المغناطيسي، فالبلد بأكمله تتردد فيه حقائق أو حكايات تثير الدهشة. لقد سمعت للتو عن طفل، ذي ثلاثة أو أربعة أعوام (كنت أعرفه هو وأبوَيه جيِّدًا)، نوَّمه أبوه مغناطيسيًّا، وهي أُولى الحقائق التي ذُهلتُ لها. وإنني لن أصدق الأمر تمامًا حتى أرى أدلةً قوية أو أسمع بها عن حيوانات (كما ذكر أنه ممكن) دخلت في سبات دون أن تُخدر؛ بالطبع استحالة ذلك لن تثبت أن التنويم المغناطيسي لا أصل له؛ لكنها مجرد تجربةٍ واضحة للحسم، وإنني أتعجب لعدم اختبار الأمر بأسلوبٍ منهجي. لو كان التنويم المغناطيسي دُرس، كأنه علم، لما كان الأمر قد تُرك حتى الزمن الحاضر «ليتم على نحوٍ مرضٍ»؛ حيث أعتقد أن أحدًا لم يقم به. فلتأتِ ببعض القطط، واستعن بمُنومٍ مغناطيسي ليجري التجربة. أخبرني أحد الرجال أنه قد نجح في التجربة، لكن تجاربه كانت مبهمةً للغاية، كما هو مُتوقَّع من شخص قال إن القطط يسهل تنويمها أكثر من الحيوانات الأخرى؛ لأنها تحمل شحناتٍ كهربائية كثيرة!».]

من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٤ ديسمبر [١٨٤٩]
عزيزي لايل

لا يحتاج هذا الخطاب ردًّا، وإنني أكتبه منتشيًا بالزهو. لقد أرسل لي دانا تقريره عن «الجانب الجيولوجي للبعثة الاستكشافية الخاصة بالولايات المتحدة»، وقد قرأتُ لتوي الجزء الخاص بالمرجانيات. أقول، بكل تواضُع، «إنني مندهش من دقتي»! فإن كنتُ سأعيد الآن تأليف كتابي عن المرجانيات، فبالكاد سأضطر لتغيير أيِّ جملة، ما عدا أنني كان لا بد أن أعزو للنشاط البركاني الحديث أثرًا أكبر في إعاقة نمو المرجانيات. ما دمتُ قلتُ كل هذا، فيجب أن أضيف أن «تبعات» النظرية على مناطق الهبوط قد جرت معالجتها في فصلٍ مستقل لم أصل إليه بعدُ، وأشك أننا سنختلف في ذلك أكثر. يتحدث دانا عن اتفاقه مع نظريتي «في أغلب النقاط»؛ وأنا لا أستطيع أن أجد نقطة يختلف فيها معي. وبالنظر إلى أنه رأى شعابًا مرجانية أكثر مما رأيت لدرجةٍ هائلة، فهذا الأمر يعطيني شعورًا رائعًا بالرضا. فهو يتعامل معي بلطفٍ شديد؛ ومِن ثَمَّ، فإن كبريائي في حالة تامة من الرضا.

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
مولفرن، ٩ أبريل، ١٨٤٩
عزيزي هوكر

في صباح اليوم التالي بعد أن أرسلت لك خطابي الأخير (أعتقد في الثالث والعشرين من مارس)، تلقيتُ خطابَيك المثيرَين الحافلَين بالنميمة والجيولوجيا؛ وقد تبادلتُ الأخير مع لايل مقابل خطابه بعد ذلك. سوف أكتب بأسلوبٍ عشوائي حسبما ترِد الموضوعات. رأيت المقال النقدي في دورية «ذا أثنيام»، ووَجدتُ أنه كُتب بنيةٍ شريرة؛ لكن الداء بالكامل يكمن في القول بأنه لم يكن ثَمَّةَ جديد في ملاحظاتك بحيث تستحق النشر. لا أحد يأبه هذه الأيام للمقالات النقدية. ولي أن أذكر أن يومياتي تعرضت لبعض «القدح الشديد»، وجرى تناولها بنوع من «الغطرسة» وما إلى ذلك، حتى انتهوا إلى القول بأن العمل بدا «مكوَّنًا من قصاصات وترهات من يوميات المؤلف». أقدر جدًّا بحقٍّ ما تقوله، وأصدقك تمامًا في أن اهتمامك بالمقال محدود بما يتعلق بأبيك؛ وأن هذا «وحده» ما يجعلك ترغب في رؤية أجزاء من خطاباتك تلقى الانتباه اللائق في نفس الدورية. لقد تأملتُ بكلِّ ما أوتيت من قوةٍ ما إن كان أي جزءٍ من خطاباتك الحالية مناسبًا للنشر في دورية «ذا أثنيام» (التي ليس لي اهتمام بها؛ فهؤلاء الأوغاد حتى لم «يُعيروا أي اهتمام» لأعمالي الجيولوجية الثلاثة التي أرسلتها لهم)، وقد توصلتُ إلى نتيجةٍ مفادها أنه من الأفضل ألا ترسلها. يخالجني يقين، واضعًا كل الظروف في الاعتبار، أنه من الأفضل ألا ترسل أيَّ شيء إلا إن كنت ستَتجشَّم العناء وتكتب «باهتمام» موجَزًا مكثَّفًا وتامًّا لإحدى السمات البارزة في أسفارك. كما أن هذين الخطابَين، بهما الكثير من المحتوى الجيولوجي بالنسبة لدورية «ذا أثنيام»، ويكادان يحتاجان صورًا مطبوعة من قوالبَ خشبية. من ناحيةٍ أخرى، التفاصيل المتوفرة ليست كافيةً بحيث يمكن عرضها أمام الجمعية الجيولوجية. لا يساورني «أدنى شك» أن الحقائق التي لديك ذات أهميةٍ قصوى فيما يتعلق بالنشاط الجليدي في الهيمالايا؛ لكن بدا لي أنا ولايل أن برهانك كان يجب أن يُساق بوضوح أكثر …

لقد كتبتُ لك منذ وقتٍ قريب جدًّا حتى إنني ليس لديَّ شيء لأقوله عن نفسي؛ لقد منعتني حالتي الصحية عن الاستمرار في حملة ضد إضافة العلماء أسماءهم لأسماء الأنواع، وهو ما حذَّرتني من عواقبه. لقد عرضتُ بحثي على ثلاثة أو أربعة علماءِ تاريخٍ طبيعي، واتفقوا جميعًا معي إلى حدٍّ ما: لو كنت متمتِّعًا بصحتي ونشاطي، لما كنتُ استسلمت، [و] أعتقد أنه بمساعدةِ نصف دزينة من علماء التاريخ الطبيعي الأَكْفاء بحق، كان من الممكن فعلُ شيءٍ لمواجهة الولع البائس المخزي بتسمية الأنواع. تتساءل في خطابك عن العلاقة بين «طيور الزينة الداجنة» والبرنقيلات، لكن لا يغرك الاعتقاد أنني لن أعيش حتى أفرغ من عملي عن الأخيرة، ثم أجعل نفسي أبدو أحمقَ في موضوع الأنواع، الذي يكون في إطاره موضوع طيور الزينة الداجنة شائقًا جدًّا.

من تشارلز داروين إلى سي لايل
ذا لودج، مولفرن [يونيو، ١٨٤٩]

… لقد وصلني كتابك [«زيارة ثانية إلى الولايات المتحدة»]، وقرأتُ المجلَّد الأوَّل كلَّه وجزءًا صغيرًا من المجلد الثاني (فالقراءة هي أصعبُ عملٍ مسموح به هنا)، وقد أثار اهتمامي لدرجةٍ بالغة. فهو يجعلني توَّاقًا لأكون أمريكيًّا. تريد إيما أن أقول إنها «شعرت بارتياحٍ خبيث» فيما يتعلق بصحة ملاحظاتك حول التطور الديني … أشعر بسعادة حين يخطر لي كم ستُثير استياء بعض المتعصبِين والقائمِين على التعليم الجامعي. حتى الآن لم يكن به «الكثير» عن الجيولوجيا أو التاريخ الطبيعي، وهو ما أرجو أن تكون خجلانَ قليلًا منه. تبدو لي ملاحظاتك حول كل الموضوعات الاجتماعية لائقةً بمؤلِّفِ كتاب «مبادئ»، إلا أنه لو كنتُ أنا من كتبتُ «مبادئ» (أعلم أن هذا نوع من التحيُّز والفخر)، لما كنتُ كتبتُ عن أيِّ أسفار؛ لكني أعتقد أنني أغارُ على مكانة كتاب «مبادئ» وعظمته أكثر منك أنت نفسك.

من تشارلز داروين إلى سي لايل
١٤ سبتمبر، ١٨٤٩

… إنني مستمر في جلساتي الخاصة بالعلاج المائي، وها أنا أستعيد صحتي وقوتي بالتدريج ولكن ببطء. تحدَّيتُ كل التعليمات، وتناولتُ العَشاء في تشيفنينج مع اللورد ماهون، الذي شرَّفَني كثيرًا بزيارته لي، وإن كنت لا أستطيع تخمين كيف سمع بي. وقد سحَرتني الليدي ماهون، وإن أيَّ شخص ليتملكه الزهو أمام العبارات اللطيفة التي جاءت من شفتَيها الجميلتَين عنك. أُحب اللورد ستانهوب العجوز كثيرًا؛ رغم أنه أهان الجيولوجيا وعلم الحيوان بشدةٍ عندما قال: «الافتراض بأن الرب القدير خلق العالم، ثم وجده عاطلًا، فحطَّمه، ثم صنَعه مرةً أخرى، ثم حطَّمه مرةً أخرى، كما يقول الجيولوجيون، ما هو إلا تُرَّهات. إن وصف أنواع الطيور والأصداف … إلخ، ما هو إلا تُرَّهات.»

إنني في سعادةٍ غامرة أننا سوف نلتقي في بيرمينجهام؛ إذ أثق من ذلك، إذا ظلت صحتي في تحسُّن. أعمل الآن يوميًّا في أفرودة هدابيات الأرجل لمدة ساعتَين ونصف، وهكذا أتقدم فيها قليلًا، لكن ببطءٍ شديد. وأحيانًا، بعد العمل طَوالَ أسبوعٍ كامل وبعد وصفِ ربما نوعَين فقط، أجد نفسي متفقًا فكريًّا مع اللورد ستانهوب أن ذلك كله ترهات؛ إلا أنني قبل أيام وجدتُ حالةً غريبة لإحدى هدابيات الأرجل الوحيدة الجنس، وليس الخنثى؛ حيث كان للأنثى السمات الشائعة لهدابيات الأرجل، وكان لديها في صِمامي صدفتها جيبان صغيران، احتَفظَت في «كلٍّ» منهما بذكرٍ صغير؛ وليس لديَّ علمٌ بأيِّ حالاتٍ أخرى حيث يكون للأنثى بنحوٍ دائم زوجان. ما زال لديَّ واقعةٌ أغرب، وهي شائعة في عدة أنواع، وهي أنه رغم أنها خنثى، فلديها ذكورٌ صغيرة إضافية، أو سأُسمِّيها، مكملة، وواحدة من العينات التي كانت خنثى، كان لديها ما لا يقل عن سبعة، من هذه الذكور المكملة ملتصقة بها. حقًّا إن حيل الطبيعة وعجائبها بلا حدود. أعتذر عن إسهابي في الحديث عن هدابيات الأرجل كما فعلت مع الجيولوجيا؛ يؤلمني الاعتقاد أنني قد لا يُتاح لي مرةً أخرى الإحساس بالسعادة الشديدة المرتبط باستكشاف منطقةٍ جديدة، وبعث ضوءٍ يُبدِّد الظلمة والاضطراب فيما يتعلق بإحدى المناطق المعروفة. هكذا لا بد أن أبذل قصارى جهدي في بحثي عن هدابيات الأرجل.

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ١٢ أكتوبر، ١٨٤٩

… بالمناسبة، كان من أمتع أجزاء اجتماع الجمعية البريطانية رحلتي إلى بيرمينجهام مع السيدة سابين والسيدة ريف والكولونيل؛ وكذلك الكولونيل سايكس وبورتر. اتفقت أنا والسيدة سابين على نحوٍ رائع حول عدة نقاط، وأكثر ما كنا صادقِين في اتفاقنا بشأنه هو الأمور المتعلقة بك. تحدثنا عن خطاباتك من سفينة إريبس؛ ووافقتني الرأي تمامًا أنك وصاحب وصفِ صيد الماشية في جزر فوكلاند كان بإمكانكما تأليف كتابٍ رائع معًا! [كتب السير جيه هوكر الوصف المفعم بالحيوية لصيد الماشية في كتاب السير جيه روس «رحلة استكشافية في المناطق الجنوبية» ١٨٤٧، المجلد الثاني، صفحة ٢٤٥.] إنها امرأةٌ لطيفة للغاية، وكذلك أمها الحاذقة الحكيمة. كانت بيرمينجهام غايةً في الرتابة مقارنةً بأكسفورد، رغم أنني كنت مصطحبًا زوجتي معي. وقد التقينا كثيرًا بآل لايل وهورنر وروبينسون (رئيس الجمعية)؛ لكن المكان كان كئيبًا، ومنعني سوءُ حالتي من الذهاب إلى ووريك، رغم أن هذه الرحلة كانت، بكل المقاييس، أدنى مرتبة كثيرًا من تلك الخاصة ببلينيم، ولا تُقارَن على الإطلاق باليوم الخلاب الذي قضيناه في دروبمور. إن المرء ليعتريه الملل الشديد من كل هذا الصراخ.

سألتني عن علاجي بالماء البارد؛ إنني مستمر فيه على خيرِ ما يُرام، وحقًّا أشعر بتحسُّنٍ طفيف في كل شهر، وإن كنت أفضل حالًا نهارًا عن الليل. لقد بنيتُ منضحة، وسوف أستحم باستخدامها طوال الشتاء، سواءٌ كان هناك صقيع أم لم. يشتمل علاجي الآن على التعرُّض لمصباحٍ كحولي خمس مراتٍ أسبوعيًّا، والاستحمام في حوضِ ماءٍ ضحل لمدة خمسِ دقائق بعد ذلك؛ والتعرض للمنضحة لمدة خمسِ دقائق والالتفاف بمُلاءةٍ مبتلة يوميًّا. هذا العلاج منشط على نحوٍ رائع، وتعاقبَت عليَّ أيام هذا الشهر وأنا في صحةٍ أفضل من الشهور الماضية. أستطيع الآن العمل ساعتَين ونصف الساعة يوميًّا، وأجد هذا أقصى ما في إمكاني؛ حيث إن العلاج بالماء البارد، مع ثلاثِ جولاتِ سَيرٍ قصيرة، متعب لدرجةٍ غريبة؛ حتى إنني أجد نفسي «مجبرًا» على الخلود للفراش في الساعة الثامنة وأنا مُنهَك تمامًا. وما زال وزني يزداد باستمرار، وأتناول الطعام بكمياتٍ كبيرة، ولا أُجبر على الطعام مطلقًا. لقد انتهى الانقباض اللاإرادي لعضلاتي، وكلُّ ما كان ينتابني من إغماءات وما شابه، والبقع السوداء التي كانت تَغشى عينيَّ وما شابه. يعتقد الدكتور جالي أنني سوف أُشفى تمامًا خلال ستة أو تسعةِ شهورٍ أخرى.

أكثر ما يثير ضجري في العلاج المائي هو اضطراري للامتناع عن أي قراءة، عدا قراءة الجرائد؛ فالعمل في أفرودة البرنقيلات ساعتين ونصفًا يوميًّا هو أقصى ما يمكنني فعله من الأشياء التي تشغل ذهني؛ وبالتالي فإنني متأخر لدرجةٍ فظيعة في كل الكتب العلمية. اقتصر عملي مؤخَّرًا على وصف الأنواع فحسب، وهو أصعب كثيرًا مما توقعت، وبه من أنواع الإثارة ما للأحاجي لحدٍّ كبير؛ لكن أعترف أنني كثيرًا ما يصيبني العمل بالإرهاق، وأحيانًا لا أستطيع أن أكُف عن سؤال نفسي ما الجدوى من قضاء أسبوع أو أسبوعَين في التأكُّد أن بعض الاختلافات الملحوظة بالكاد تندمج معًا لتشير إلى ضروبٍ لا أنواع. ما دمتُ أعمل في التشريح لا أجد نفسي بتاتًا في ذلك المزاج المُقزِّز الفظيع المتسائل عن الفائدة في القيام بالأشياء. مرةً أخرى، يا له من عملٍ بائس أن تبحث عن الأسماء ذات الأسبقية! انتهيتُ للتو من نوعَين لهما سبعة أسماءِ أجناس وأربعة وعشرون اسمًا نوعيًّا! إن أكثر ما أجد فيه الراحة هو الاعتقاد بأن العمل لا بد أنه سيتم في وقتٍ ما، وأنني قد أُنجزه، مثل أيِّ شخصٍ آخر.

لقد توقفتُ عن حملتي ضد إلحاق أسماء العلماء بالأنواع، أمَّا البحث الخاص بي، فهو طويل بما لا يسمح لي أن أرسله لك، لذلك لا بد أن تراه، إن كنت تَودُّ ذلك، حين ترجع. بالمناسبة، تقول في خطابك إنك تُولي عملي عن الأنواع اهتمامًا أكبر من عملي عن البرنقيلات؛ هذا خطأٌ كبير من ناحيتك؛ فإنني أرى أن اهتمامك الشديد ببحثي البسيط حول البرنقيلات مقارنةً ببحثي النظري عن الأنواع كان له أثرٌ كبير جدًّا فيما قررته من الاستمرار في الأول، وتأجيل بحثي عن الأنواع …

[يشير الخطاب التالي إلى وفاة ابنته الصغيرة، وهو الأمر الذي حدث في مولفرن في الرابع والعشرين من أبريل، ١٨٥١.]

من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
داون، ٢٩ أبريل [١٨٥١]
عزيزي فوكس

لا أعتقد أنكَ قد سمعتَ بخسارتنا الأليمة والقاسية. بينما كانت صغيرتنا العزيزة المسكينة آني في حالةٍ طيبة جدًّا في مولفرن، انتابتها نوبةُ قيء، وظننا في البداية أنها ليست ذات أهمية، لكنها سريعًا ما أخذَت شكل حُمى مستمرةٍ ومخيفة، وهي التي قضت عليها خلال عشرة أيام. أحمد الله أنها لم تُعانِ مطلقًا، وأَسلمَت الروح في وداعة مثل ملاكٍ صغير. عزاؤنا الوحيد أنها عاشت حياةً سعيدة، وإن كانت قصيرة. لقد كانت طفلتي المفضلة؛ فمشاعرها الودود وصراحتها وبهجتها المرحة وعواطفها الجياشة جعلتها محبوبة للغاية. يا للروح الصغيرة العزيزة المسكينة! إنني أشعر بها حولي في كل مكان.

من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
داون، ٧ مارس [١٨٥٢]
عزيزي فوكس

لقد مضى حقًّا وقتٌ طويل منذ أن جرى بيننا أي اتصال، وكنتُ سعيدًا للغاية لِتلقِّي خطابك. لقد تذكرتُ الصمت الذي طال أمده بيننا منذ عدة أسابيع، وفكرتُ حينذاك في الكتابة إليك، لكنني كنتُ مريضًا. أُهنِّئك وأُواسيك في الوقت نفسه على طفلك «العاشر»؛ أرجو منك أن ترسل لي مواساتك فقط حين أُرزق بطفلي العاشر. لدينا الآن سبعةُ أطفال، كلهم في خيرِ حال، حمدًا لله، وكذلك أمهم. إن خمسةً من هؤلاء من الأولاد، وقد اعتاد أبي أن يقول إنه من المؤكد أن المتاعب التي يأتي بها الولد تساوي متاعبَ ثلاثِ بنات؛ هكذا يصير لدينا سبعة عشر طفلًا في الواقع. ينتابُني الغثَيان كلما فكرت في المهن؛ فجميعها تبدو سيئةً لدرجةٍ ميئوس منها، وحتى الآن لا يمكنني أن أرى أيَّ بصيصٍ من الأمل بشأنها. أَودُّ بشدة أن أتحدَّث عن هذا (بالمناسبة، مصادر قلقي الثلاثة هي أولًا اكتشاف الذهب في كاليفورنيا وأستراليا؛ حيث إن هذا سيجعلني معدمًا بأن يجعل أموالي المستثمرة في الرهونات بلا قيمة؛ وثانيًا أن يأتي الفرنسيون عبر طريقَي ويسترام وسيفيناوكس، وهكذا يطوقون داون؛ وثالثًا، المهن التي سيعمل بها أبنائي)، وأرغب في التحدُّث عن التعليم، الذي سألتني عما سنفعله بشأنه. لا يمكن لأحدٍ أن يحتقر بحقٍّ التعليمَ الكلاسيكي النمطي الغبي أكثر مني؛ إلا أنني لم أَتحلَّ بالشجاعة الكافية لعدم الالتحاق به؛ فبعد شكوكٍ عديدة، أرسلنا للتو ابننا الأكبر إلى راجبي؛ حيث وُضع في مكانٍ مناسب جدًّا لِسنِّه … أُكنُّ لك الاحترام والإعجاب وأَحسُدك على تعليم أبنائك في المنزل. ماذا عسانا أن نفعل بأبنائنا؟ قُبيل نهاية هذا الشهر سنذهب لرؤية ويليام في راجبي، ومن هناك نتوجه إلى شروزبيري لقضاء خمسةِ أو ستةِ أيام مع سوزان؛ بعد ذلك سأعود للمنزل للعناية بالأطفال، وستذهب إيما إلى إف ويدجوود في إتروريا لمدةِ أسبوع. أشكرك شكرًا جزيلًا على دعوتك الشديدة الرقة والكرم للذهاب إلى ديلامير، لكن أخشى أننا لا نستطيع تدبُّر ذلك؛ فأنا أَتوجَّس من الذهاب لأيِّ مكان، بسبب تدهوُرِ معدتي بسرعة مع أيِّ انفعال. وأنا الآن نادرًا ما أذهب إلى لندن؛ ليس لأنني أسوأ حالًا، بل قد أكون بالأحرى أفضل حالًا، وأعيش حياةً مريحة جدًّا بثلاثِ ساعات من العمل اليومي، لكنها حياة زاهد. تمر عليَّ الليالي «دائمًا» صعبة، وذلك يحول دون أن أصبح نشيطًا. تسألني عن العلاج المائي. أنا أخضع كل شهرَين أو ثلاثة، لخمسةِ أو ستةِ أسابيع من العلاج المكثف بعض الشيء، ودائمًا ما يأتي ذلك بنتائجَ طيبة. إنني لأرجو وأتضرع إليك أن تأتي هنا متى استطعتَ أن تجد الوقت لذلك؛ فلا تعلم كم سيجلب هذا لي ولإيما من سعادة. لقد انتهيتُ من المجلد الأول لصالحِ جمعيةِ راي عن هدابيات الأرجل ذوات السويقات، الذي ستحصل عليه قريبًا، بصفتك عضوًا في الجمعية كما أعتقد. اقرأ الوصف الذي وضعتُه للنوع الجنسي فيما يتعلق ﺑالإبلا Ibla والسكالبيلوم Scalpellum. أعمل الآن في دراسةِ هُدابيات الأرجل الجالسة، وأعياني التعب من العمل؛ على الرجل أن يعمل ثماني ساعاتٍ يوميًّا على الأقل حتى يكون عالمَ تاريخ طبيعي منهجيًّا. كأنكَ أُطلِعتَ على ما بداخلي حين قلت إنني لا بد أن أكون قد تمنيتُ رؤية آثار الكارثة التي حلَّت بقرية هومفيرث؛ فمنذ أسبوعٍ كنتُ أقول لإيما إنني لو كنتُ على عهدي في الماضي، لكنتُ رحلتُ إلى هناك على الفور. لقد سألتَني عن إيرازموس؛ إنه على نفس الحال إلى حد كبير؛ تقريبًا في توعُّكٍ مستمر. وسوزان أفضل كثيرًا، وفي عافية وسعادةٍ غامرة. أمَّا كاثرين فهي في روما، وقد استَمتعَت بها لدرجةٍ مدهشة تمامًا بالنسبة لعظامي المُسنَّة اليابسة. والآن أعتقد أنني أخبرتُكَ بما يكفي، وأكثر مما يكفي عن آل داروين؛ لذا عليَّ أن أُودِّعك الآن يا صديقي العزيز الغالي. كم كانت سعيدةً الأوقاتُ التي قضيناها في احتساء القهوة في غرفتك في كلية كرايست، ونحن نفكر في خنفساء الصليب الأرضية. أوه، في تلك الأيام لم يكن يشغلنا مهن الأبناء، ولا نخشى عليهم من اعتلال صحتهم، ولا ذهب كاليفورنيا، ولا غزو الفرنسيِّين. كم يصير للمستقبل أهميةٌ قصوى عن الحاضر حين يحيط بالمرء أطفاله! وما يثير ذعري هو اعتلال الصحة الوراثي. حتى الموت يبدو أفضل لهم.
خالص تحياتي عزيزي فوكس، صديقك المخلص
سي داروين
ملحوظة: كانت سوزان تعمل مؤخَّرًا بطريقةٍ أراها بطوليةً بحقٍّ فيما يتعلق بالانتهاك الفاضح لقانونِ مكافحة استخدام الأطفال في تنظيف المداخن. لقد أقمنا جمعيةً صغيرة في شروزبيري لمقاضاة أولئك الذي يخرقون القانون. وقد تكفَّلَت سوزان بالأمر كله. وقد تلقَّت خطاباتٍ لطيفةً جدًّا من اللورد شافتسبري ودوق ساذرلاند، لكن إقطاعيِّي شروبشير القُساة في جمود الحجر. يبدو أن انتهاك القانون أكثر شيوعًا خارج لندن. إن المرء لَتنتابه القشعريرة حين يتخيل أحد أبنائه وهو في السابعة يُجبَر على صعودِ مدخنةٍ لتنظيفها، ناهيك عما يتبع ذلك من أمراضٍ شديدة وأطرافٍ متقرحة ومهانةٍ معنوية تامة. إذا كان هذا الموضوع يشغلك بشدة، فلتُجرِ بعض الاستفسارات، وأضف لأعمالك الطيبة الكثيرة هذا العمل، وحاول إلهاب حماس القضاة. هناك أشخاصٌ كُثر يثيرون ضجة في أجزاءٍ مختلفة من إنجلترا بصدد هذا الموضوع. ليس مُرجَّحًا جدًّا أنك قد ترغب في فعل ذلك، لكن يمكنني أن أُرسل لك بعض المقالات والمعلومات إذا أردتَ ذلك، سواءٌ لِتقرأَها أو لِتُوزعها.

من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
داون [٢٤ أكتوبر، ١٨٥٢]
عزيزي فوكس

تلقيتُ هذا الصباح خطابك الطويل والعزيز جدًّا عليَّ، وسوف أُجيب عليه هذا المساء؛ إذ سأكون مشغولًا للغاية مع أحد الرسامِين، الذي سيرسم هدابيات الأرجل، وسأظل مثقلًا بالأعمال طوال الأسبوعَين القادمَين. لكنك تستحق مني أولًا توبيخًا كبيرًا — وأرجو أن تعتبر نفسك قد وُبخت على هذا النحو — للاعتقاد أو كتابةِ أنني قد ينتابني الضجر من أيِّ كمٍّ من التفاصيل تُخبرني به عنك أو عما يخصك؛ فهذا فقط ما أهوى سماعه؛ صدِّقني أنني كثيرًا ما أُفكِّر في الأيام الخوالي التي قضيتُها معك، وأحيانًا لا أستطيع أن أُصدِّق كم كان المرء مبتهجًا وغير مبالٍ في تلك الأيام. وكثيرًا ما تُذكِّرني أمسيات الخريف الصافية بجولات الصيد التي تنطلق من أوزموستون. يؤسفني بحقٍّ أننا نعيش بعيدًا جدًّا عن بعضنا، وأن تحركاتي قليلةٌ جدًّا. كنت مؤخرًا في صحةٍ طيبة على غير العادة (بدون علاجٍ مائي)، لكن لا أجد قدرتي على تحمل أي تغيير أفضل من ذي قبل … فمنذ أيام، ذهبتُ إلى لندن وعدتُ منها، فأعاد إليَّ الإجهاد، وإن كان طفيفًا، نوباتي السيئة من القيء. يحزُّ في نفسي ما سمعته عن توعُّك صدرك، وأرجو مخلصًا حقًّا أن يكون الألم ناتجًا عن العضلات فحسب؛ كثيرًا ما يتعَب صوت رجال الدين. أستطيع أن أتفهم جيدًا إحجامك عن الافتراق عن جماعتك الكبيرة السعيدة والذهاب إلى الخارج؛ لكن حياتك ثمينة للغاية، لذلك يجب أن تكون حذرًا للغاية بشأنها قبل فوات الأوان. إنك تسأل عنا جميعًا؛ لديَّ الآن خمسة أولاد (آه من المهن! وآه من الذهب! وآه من الفرنسيِّين! هذه الآهات الثلاثة تُشكِّل مصادر قلقٍ مفزعة) وبنتان … لكن هناك مصدرٌ آخر للقلق وهو الأسوأ وهو الضعف الوراثي. كل شقيقاتي بخيرٍ ما عدا السيدة باركر، التي ساءت صحتها كثيرًا. أمَّا عن إيرازموس، فهو في حالته الصحية الضعيفة المعتادة: لقد انتقل مؤخَّرًا إلى شارع كوين آن. سمعتُ عن زواج شقيقتك فرانسيس المزمع. أعتقد أنني رأيتها قبل ذلك، لكن ذاكرتي تأخذني للوراء نحو خمسة وعشرين عامًا مضت حين رأيتها وهي مريضة. أتذكر جيدًا نظرة السرور على مُحيَّاها. أتمنى لها بإخلاصٍ شديد السعادة التامة.

أرى أنني لم أُجب على نصف استفساراتك. يروق لنا كثيرًا ما رأيناه من مدرسة راجبي وما سمعناه عنها، ولم نندم قَط على إرسال [ويليام] إلى هناك. أعتقد أن المدارس تحسَّنَت كثيرًا منذ زمننا؛ لكنني أكره المدارس وكل جوانب النظام الذي ينتهك المشاعر الأُسرية بفصل الأولاد في مرحلةٍ مبكرة جدًّا من حياتهم عن أسرهم؛ لكنني لا أرى بدًّا من ذلك، ولا أجرؤ على المجازفة بتعريضِ شابٍّ لمغريات العالم دون أن يكون قد خضع للمحنة الأقل وطأة بدخول إحدى المدارس الكبرى.

أرى أنك تسأل حتى عن أشجار الإجاص التي لدينا. لدينا الكثير من أشجار الإجاص من نوعيةِ بير دي ألينبيري ووينتر نيليس، وماري لوي، وغيرها من «أفضل أنواع أشجار الإجاص»، لكن كلها غريبة؛ لقد حملت الأشجار القصيرة القياسية ثمارًا قليلة، لكن ليس لديَّ مساحةٌ لمزيد من الأشجار؛ لذا ستكون أسماؤها بلا جدوى لي. يجب حقًّا أن تأخذ إجازة وتأتي لزيارتنا يومًا ما؛ فلا يمكن أن تجد ترحيبًا أكثر حرارة في أي مكانٍ آخر. أعمل الآن في المجلَّد الثاني من عملي عن هدابيات الأرجل، التي أرهقتني مخلوقاتها إرهاقًا شديدًا. إنني لأبغض البرنقيل كما لم يُبغضه أحدٌ قَط من قبلُ، حتى إن كان بحَّارًا على متن سفينةٍ بطيئة الإبحار. لقد نُشر مجلَّدي الأول، والجزء الوحيد الذي يستحق المطالعة هو الذي عن النوع الجنسي في الإبلا والسكالبيلوم. أرجو أن أكون قد انتهيتُ من عملي المضجر بحلول الصيف القادم. وداعًا، فلتأتِ متى استطعتَ أن تتدبر ذلك.

لا أملك سوى الرجاء أن يأتي الدمل عليك بفائدة؛ فقد سمعتُ عن أنواعٍ كثيرة من الأمراض التي اختفت إثر الإصابة بدمل. أعتقد أن الألم رهيب. أتفق معك تمامًا بشدة أن مادة الكلوروفورم اختراعٌ رائع. إن تفكير المرء في أبنائه يزيد سعادته على نحوٍ كبير. منذ بضعة أيام خلعتُ خمسة ضروس (اثنان منهما بالمخلاع) في جلسةٍ واحدة تحت تأثير هذه المادة الرائعة، ولم أشعر بشيء تقريبًا.

خالص تحياتي صديقي العزيز الغالي، صديقك المحب جدًّا
تشارلز داروين

من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
داون، ٢٩ يناير [١٨٥٣]
عزيزي فوكس

لم تكن أخبارك الأخيرة التي نقلتها لي منذ عدة شهورٍ مرضية حتى إنني لم أَنفكَّ أُفكِّر فيك، وسأكون ممتنًّا حقًّا إذا كتبتَ لي سطورًا قليلة، وأخبرتني فيها كيف صار حال صوتك وصدرك. أرجو صادقًا أن تكون أخبارك طيبة … ثاني أبنائنا لديه ميولٌ ميكانيكية قوية، ونُفكِّر في أن نجعله مهندسًا. سوف أُحاول أن أجد له مدرسةً أقل كلاسيكية، ربما بروس كاسل. أَودُّ بالطبع أن أرى تنوُّعًا في التعليم أكثر من الموجود في أي مدرسةٍ عادية — حيث لا يُوجد استخدام لملكات الملاحظة أو الاستدلال، أو اكتساب لمعلوماتٍ عامة — أعتقد أنه نظامٌ بائس. من ناحيةٍ أخرى، الفتى الذي تعلَّم المثابرة في تعلُّم اللغة اللاتينية والتغلُّب على صعوباتها، لا بد أن يكون قادرًا على المثابرة في أيِّ مجال. سأكون دائمًا مسرورًا بسماع أيِّ شيء عن المدارس أو التعليم منك. ما زلتُ أعمل في موضوعي القديم الذي يبدو أنه بلا نهاية، لكنني مُتأكِّد أنني سأذهب للمطبعة خلال شهورٍ قليلة بمجلَّدي الثاني حول هدابيات الأرجل. سرَّني كثيرًا أن أجد أن أوين وقلةً آخرِين اعتقدوا صحة بعض الحقائق الغريبة التي وردت في مُجلَّدي الأول، وهذا الرأي الطيب اعتبره نهائيًّا … فلتكتب لي في القريب العاجل، وأخبرني بكلِّ ما تستطيع عن نفسك وأُسرتك؛ وأرجو أن تكون أخبارك عن نفسك أفضل كثيرًا من أخبارك الأخيرة.

… لم أزُرْ لندن كثيرًا مؤخَّرًا، ولم أَرَ لايل منذ عودته من أمريكا؛ كم كان محظوظًا حين استخرج بيدَيه أجزاءً من ثلاثةِ هياكلَ عظميةٍ لزواحف من طبقات العصر الكربوني، ومن داخلِ شجرةٍ متحفرة، كانت مُجوَّفة من الداخل.

الوداع يا عزيزي فوكس، صديقك المحب
تشارلز داروين

من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
١٣ سي هاوسيز، إيستبورن
[١٥ (؟) يوليو، ١٨٥٣]
عزيزي فوكس

إننا هنا في حالةٍ شاملة من التبطُّل، وفي هذا رفاهية لي. وأعتقد أننا جميعًا كنا سنصبح في حالة من السعادة الفائقة، لولا العواصف الباردة المقيتة والأمطار الكثيرة، وهو ما يُسبِّب دائمًا الكثير من الضجر للأطفال وهم بعيدون عن ديارهم. تلقيتُ خطابكَ الذي يحمل تاريخ الثالث عشر من يونيو، بينما كنتُ أكدح بشدة مع السيد ساوربي في وضع الرسوم من أجل مجلَّدي الثاني؛ ولذلك فقد أجَّلتُ الردَّ عليه حتى أجد مُتسعًا من الوقت. لقد سرني لأقصى درجة أن أتلقَّى خطابك. كنتُ قد نويتُ منذ عدة شهور أن أرسل لك خطاب توبيخٍ قاسيًا أو مستعطفًا لأعلم كيف كان حالك، حتى التقيتُ بالسير بي إيجرتون، الذي أخبرني أنك بخير، وكالعادة، أبدى إعجابه بأعمالك، خاصةً في الزراعة، وعدد الحيوانات، بما في ذلك الأطفال، التي تحتفظ بها في أرضك. أحد عشر طفلًا، السلام عليكِ يا مريم! أعتقد أنهم يمثلون مصدر قلقٍ هائل لك. في واقع الأمر، أنا أنظر لأولادي الخمسة باعتبارهم همًّا فظيعًا، وأكره مجرد التفكير في المهن التي سيمتهنونها، إلخ. لو كان بوسع المرء أن يضمن لهم صحةً جيدة، فلن يهم ذلك كثيرًا، فأنا لا يسعني سوى أن أرجو أن يتحسن مستوى المهن بعض الشيء، مع الهجرات الضخمة. لكن ما يُثير جزعي هو الضعف الوراثي. أَودُّ بوجهٍ خاص سماعَ كلِّ ما يمكنكَ قوله عن التعليم، وإنك تستحق التوبيخ على قولك إنك «لم تقصد «الإثقال عليَّ» بقصةٍ طويلة.» لقد سألتَني عن مدرسةِ راجبي. إنها تروق لي تمامًا، استنادًا إلى نفس المبدأ الذي يُحب لأجله جاري، السير جيه لاباك مدرسة إيتون، وهو أنها ليست أسوأ من أي مدرسةٍ أخرى. إن المصروفات، وجميع الأشياء الأخرى المشابهة، بما في ذلك بعض الملابس، ومصروفات السفر، إلخ، تتراوح بين ١١٠ و١٢٠ جنيهًا إسترلينيًّا سنويًّا. لا أعتقد أن المدارس سيئة كما كانت، كما أنها أكثر اجتهادًا بكثير. أعتقد أن الأولاد يعيشون في عزلةٍ شديدة في دراساتهم المنفصلة؛ وأَشُك أنهم سيختلطون كثيرًا بالآخرِين كما اعتاد الأولاد قبل ذلك؛ وهذا، في رأيي، مَيزةٌ كبيرة للمدارس الداخلية على المدارس الصغيرة. وأعتقد أن مَيزة المدارس الصغيرة الوحيدة على المنزل هو الانتظام الإجباري للأولاد في عملهم، وهو ربما ما يحصل عليه أبناؤكَ في منزلك، وما لا أعتقد أن أبنائي سيحصلون عليه في منزلي. بخلاف ذلك، من المؤسف تمامًا إرسال الأولاد بعيدًا عن منزلهم في مرحلةٍ مبكرة جدًّا من حياتهم.

… دعنا نعُد للحديث عن المدارس. اعتراضي الرئيسي عليها بصفتها أماكن للتعليم، هو القدر الهائل من الوقت الذي يُقضى في دراسة الكلاسيكيات. يُخيل لي (رغم أنه قد يكون مجرد خيال) أنني أستطيع ملاحظة الأثر السيئ والانكماشي على ذهنِ ابني الأكبر، من وقف اهتمامه بأيِّ شيءٍ يلعب فيه الاستدلال والملاحظة دورًا. يبدو أن ملكة الحفظ والتذكُّر وحدها هي التي تُستخدم. لا شك أنني سوف أبحث عن مدرسةٍ ذات دراساتٍ أكثر تنوُّعًا من أجل أبنائي الأحدث سنًّا. كنت أتحدَّث مؤخَّرًا إلى رئيسِ كاتدرائية هيرفيرد، المؤمن إيمانًا قويًّا جدًّا بوجهة النظر هذه؛ حيث أخبرني أن إحدى المدارس في هيرفيرد ستبدأ في هذه الخطة؛ وأن الدكتور كينيدي في شروزبيري سيشرع متحمِّسًا في تعديل تلك المدرسة …

يسُرني «للغاية» أن أسمع أنكَ استَحسنتَ عملي عن هُدابيات الأرجل. لقد بذلتُ قدْرًا يكاد يكون غيرَ منطقيٍّ من الجهد في هذا الموضوع، ولا شك أنني ما كنتُ لأعمل به لو كنتُ توقَّعتُ ما به من مشقة. أرجو أن أنتهي من المجلد الثاني بحلولِ نهاية العام؛ فلتكتب ثانيةً دون أن يمُر زمنٌ طويل جدًّا؛ إنه من دواعي سعادتي الحقيقية أن أسمع أخبارك. الوداع، مع أطيب تحيات زوجتي لك وللسيدة فوكس.

مع حبي يا صديقي العزيز الغالي
سي داروين

من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
داون، ١٠ أغسطس [١٨٥٣]
عزيزي فوكس

أشكرك شكرًا جزيلًا على الكتابة إليَّ بهذه السرعة بعد مُصابك الفادح جدًّا. لَشدَّ ما تأثرتُ بخطابك! وكلانا يُعزِّيك بشدة حقًّا أنت والسيدة فوكس؛ فنحن أيضًا، كما قد تذكُر، فقدنا منذ مدةٍ ليست بعيدةً جدًّا، طفلةً عزيزة للغاية، لا أملك حتى الآن التفكير فيها ساكن النفس. بيد أن الزمن، كما لا بد أنكَ عرفت من تجربتك الشديدة المرارة، يُخفِّف آلام المرء وأحزانه ويُخمدها، على نحوٍ عجيب حقًّا. لا شك أن الأمر يكون صعبًا في البداية. لكن لا يسعني سوى أن أرجو العافية لك وللسيدة فوكس المسكينة، وأن يجلب الدهر صروفه برفق، ويجمع شملكم جميعًا معًا، مرةً أخرى، كعهد الأسرة السعيدة التي كونتها مؤخَّرًا، كما أثق تمامًا.

مع حبي يا عزيزي فوكس، صديقك
تشارلز داروين

[يشير الخطاب التالي لميدالية الجمعية الملكية، التي مُنحت له في نوفمبر ١٨٥٣.]

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٥ نوفمبر [١٨٥٣]
عزيزي هوكر

من بينِ الخطابات التي تلقيتُها هذا الصباح، كان أول خطابٍ فتحتُه من الكولونيل سابين؛ وقد أدهشني المحتوى كثيرًا بلا شك، لكن رغم أن الخطاب كان «رقيقًا جدًّا»، فبطريقةٍ ما، لم أهتمَّ كثيرًا بالإعلان الذي احتواه. بعد ذلك فتحتُ خطابك، فكان له أثر الدفء والود واللطف لأنه جاء من شخصٍ عزيز، حتى إن الحقيقة نفسها، بالطريقة التي قلتَها بها، جعلتِ السعادة تغمرني حتى ارتجف قلبي من الفرحة. صدِّقني عندما أقول إنني لن أنسى سريعًا السرور الذي بعثه فيَّ خطابك؛ فتلك المشاركة الوجدانية المخلصة الحنونة أهمُّ من كل الميداليات التي تُمنح أو ستُمنح. أشكرك مرةً أخرى يا عزيزي هوكر. أرجو ألا يعرف ليندلي [جون ليندلي (١٧٩٩–١٨٦٥)] أنه كان منافسًا لي؛ فعدم حصوله على الميدالية قبلي بفترةٍ طويلة يُعد أمرًا «سخيفًا» (أنت بالطبع لن تخبر أحدًا على الإطلاق بقولي هذا؛ فالآخرون سيظنون أنه نوعٌ من التصنُّع من جانبي، وإن كنت أعتقد أنك لن تظن ذلك)؛ أنا «متأكد» أنك فعلتَ الصواب تمامًا بترشيحه، ورغم ذلك كم كنتَ رفيقًا طيبًا وعزيزًا ورقيقًا لابتهاجك بهذا الشرف الذي مُنح لي!

إن «السعادة» التي شَعرتُ بها في هذه المناسبة أدين بها كاملةً لك.

الوداع يا عزيزي هوكر
صديقك المحب
سي داروين
ملحوظة: لك أن تُصدِّق كم كان الأمر مفاجأةً لي؛ حيث لم أسمع قَط أن الميداليات يمكن أن تُمنح إلا للأبحاث المنشورة في «محاضر اجتماعات الجمعية». كل هذا سيجعلني أعمل بحماسٍ أكثر على إتمام المجلد الثاني.

من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ١٨ فبراير [١٨٥٤]
عزيزي لايل

كان لا بد أن أكتب لكَ قبل ذلك، لولا تأكُّدي من ذهابك إلى تينيريف، أمَّا الآن فإنني في غاية السرور لسماعي أن إحرازك مزيدًا من التقدُّم شيءٌ أكيد؛ وليس السبب أنني لديَّ الكثير من أيِّ نوعٍ لأقوله، كما قد يخطر لك حين تسمع أنني لم أذهب إلى لندن سوى مرةٍ واحدة منذ سافرت. وقد سُررتُ بوجهٍ خاص، منذ يومَين، لرؤية خطابك إلى السيد هورنر، بما حمله من أخبارٍ جيولوجية؛ كم أنت سعيد الحظ لشفاء ركبتيك! إنني مذهول لما تحكيه عن الجمال الذي هناك، رغم أنني أعتقد أنه رائع. إن التفكير في تسلُّقكَ تلك الوديان المنحدرة ونزولك منها يجعلني أحسدك بشدة حقًّا. ويا لها من مجموعةٍ جميلة التي تنتظرك عند رجوعك من رحلاتك الاستكشافية! كثيرًا ما أُفكِّر في البهجة التي اعترتني حين تفحَّصتُ الجزر البركانية، بل يمكنني حتى تذكُّر صخورٍ بعينها قمتُ بالدق عليها، ورائحة الجروف الساخنة السوداء الجفائية؛ لكن يبدو أنكَ لم تنل الكثير من تلك الروائح «الساخنة». إنني أحسُدك حقًّا. كم أَودُّ لو كنتُ معك، وأتأمل الوديان السحيقة والضيقة.

كم هي فريدة جدًّا المعلومة التي ذكرتها عن أن ميل الطبقات أكبر حول محيط الجزيرة عنه في منتصفها؛ هل تفترض أن الارتفاع كان له شكل القبة المسطحة؟ أتذكر أنني «كثيرًا» ما كنتُ أندهش حين كنتُ في سلاسل جبال أمريكا الجنوبية من انحدارِ طبقات الأرض بقَدرٍ أكبر في السلاسل «المنخفضة المتطرفة جدًّا»، مقارنةً بالأغلبية العظمى للجبال الداخلية. أعتقد أنه كان سيخطُر لك أن تقيس بدقةٍ عرض أيِّ قواطعَ صخرية في قمةِ أيِّ جرفٍ كبير وقاعه (وهو ما فعله السيد سيرل [؟] في سانت هيلينا)؛ فطالما بدا لي أنه من «الغريب جدًّا» عدم تلاشي التصدُّعات «أكثر» في المناطق العليا. بالكاد أستطيع تذكُّر أيِّ أخبار لأخبرك بها؛ فلم أَرَ أحدًا منذ كنتُ في لندن، حين سُررتُ برؤية فوربس في أفضلِ حال، وكان ممتلئًا ومتين البنية تمامًا. ورأيتُ في المتحف بعضًا من الذهب الخام الثمين لدرجةٍ مدهشة المجلوب من شمال ويلز. كذلك أخبرني رامزي أنه نسب مؤخَّرًا كميةً كبيرة من الحجر الرملي الأحمر الجديد وتيهيات الأسنان إلى العصر البرمي. لا شك أنك تُطالع الجرائد، وتعلم أن إي دو بومون صار سكرتيرًا دائمًا، وسيصبح أقوى نفوذًا عن ذي قبل، حسبما أعتقد، وقد أخذ لو فيريه مكان أراجو في المرصد الفلكي. كذلك عُقد مؤخَّرًا اجتماع في الجمعية الجيولوجية، حيث طرح بريستويتش (حسب ما أخبرني به آر جونز) نظريتك؛ أقصد تلك القائلة بأن كل الطين الأحمر والحجر الصوان المُنتشرِين بالقرب من الهضبة الطباشيرية هي رواسبُ ناتجة عن التحلُّل البطيء للطباشير!

أمَّا نحن، فليس هناك أخبار بشأننا، وكلنا على ما يُرام. منذ فترة، أقام معنا آل هوكر لمدة أسبوعَين، ومما أثار بهجتنا للغاية أن هنزلو قد جاء إلينا، وكان في حالةٍ تامة من الهدوء والراحة هنا؛ فإنه لمن بواعث السعادة أن ترى وجهًا هادئًا وطيبًا وذكيًّا هكذا. كانتِ المخاوف من وجودِ مشكلةٍ بقلبه هائلة، لكنني، أدعو الرب، ألا يكون لها أيُّ أساس. لقد نُشر كتاب هوكر [«مذكرات الهيمالايا»]، وقد أُعد على نحو «غاية في الجمال». وقد أسدى إليَّ شرفًا لا حد له بإهدائه إليَّ! أمَّا أنا، فقد وصلت للصفحة رقم ١١٢ من عملي عن البرنقيلات، وهذه هي قصتي مجملةً. بالمناسبة، بما أنك مهتمٌّ كثيرًا بأمريكا الشمالية، فلي أن أذكر أنني تلقيتُ خطابًا من بحار زميل في أستراليا، يقول إن المستعمرة تتحول إلى النظام الجمهوري حتمًا بسبب تدفُّق الأمريكيِّين إليها، وإن كل المشروعات الرائعة المبتكرة لاستخراج الذهب يضعها ويُنفِّذها هؤلاء الرجال. يا لها من أمةٍ سباقة! فلتبلغ الليدي لايل والسيدة بانبري وبانبري أطيب تحياتي. أرجو من كل قلبي أن يكون بجزر الكناري عشرةُ أضعاف ما في ماديرا من إثارة، وأن تسير كل الأمور على خيرِ حالٍ مع مجموعتك كلها.

الوداع يا عزيزي لايل
مع وافر إخلاصي وحبي لك
سي داروين

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ١ مارس [١٨٥٤]
عزيزي هوكر

انتهيتُ أمسِ مساءً من قراءة المجلد الأول [من كتاب «مذكرات الهيمالايا»]، وأُهنئك بإخلاصٍ شديد على إنتاج «كتاب من الطراز الأول»؛ كتاب سيُكتب له الخلود بلا ريب. ولا يُساورني شكٌّ أنه سيأخذ مكانه الصحيح باعتباره معيارًا، ليس فقط لأنه يحتوي على مادةٍ قوية بحق، لكن أيضًا لأنه يعطي صورة للبلد بالكامل؛ فبإمكان المرء أن يشعر أنه قد رآه (مثلما انتابني شعورٌ غير مريح للغاية عند القراءة عن بعض الجسور والمنحدرات الشديدة)، وكذلك «يدرك» كل السمات الطبيعية الرائعة. لديك بالفعل سبب للفخر؛ فلتتأمَّل كم هم قليلون الرحَّالة الذين لديهم معرفةٌ عميقة بمجالٍ واحد، واستطاعوا إلى جانبِ ذلك أن يضعوا خريطة (والتي هي بالمناسبة إحدى أكثر الخرائط التي رأيتها تميُّزًا، ولهذا السبب أدعو لك بالبركة) وأن يدرسوا الجيولوجيا والأرصاد الجوية! كنتُ أعتقد أنني أعرفك معرفةً جيدة جدًّا، لكن لم يكن لديَّ أدنى فكرة أن أسفارك كانت هي هوايتك؛ لكنني سعيد بالكتاب بحق؛ فأنا على يقينٍ أنه لن يأتي عليك أنت والسيدة هوكر أبدًا الوقت الذي لن تشعرا فيه بالفخر حين تتذكَّران الجهد الذي بُذل في هذَين المجلدَين الرائعَين.

إن خطابك، الذي تلقَّيتُه هذا الصباح، أثار اهتمامي «لأقصى درجة»، وأشكرك بحقٍّ على إخباري بتطلُّعاتك وأفكارك القديمة. وكلُّ ما تقوله يزيد من شعوري العميق بالسعادة من الإهداء، لكن هل تذكُر، أيها الرجل الشرير، أنك سألتَني كيف سيكون شعور لايل حيال إهداء العمل إليه في اعتقادي؟ أتذكُر كيف أجبتُ بحزم، وأفترض أنكَ أردتَ أن تعرف كيف سأشعر؛ من كان يتخيل أنك بهذا المكر؟ إنني سعيد أنك أبديتَ القليل من الطموح حيال كتابك؛ فلا بُد أنك تذكُر أنني طالما وبَّختُكَ لعدم إيلاءِ قدْرٍ أكبر من الاهتمام بالشهرة، رغم أنني يجب، في نفس الوقت، أن أُقر أنني كنت أحسُدك وأُبجِّلك لكونك متحرِّرًا (متحرِّرًا للغاية، كما اعتقدتُ دائمًا) من هذه العلة التي تُعد «آخر رذيلةٍ يُتخلى عنها …» ولا تقل «ليس لديَّ سابقةٌ قَط في هذا الشأن؛ كان الشبح موجودًا دائمًا» لأنك سرعان ما ستجد أشباحًا أخرى ماثلةً أمامك. كم أعرف هذا الشعور جيِّدًا، بل كانت معرفتي به في الماضي أكثر حيوية؛ لكن أعتقد أن حالة معدتي قد أَوهنَت لحدٍّ كبير حماسي السابق الصِّرف للعلم والمعرفة.

إنني أكتب خطابًا طويلًا لدرجةٍ غير معقولة، لكن لا بد أن أعود إلى كتابك، الذي لم أقل عنه أيَّ شيءٍ بالتفصيل. بادئَ ذي بَدء، تبدو لي الصور والخرائط أفضلَ ما رأيت على الإطلاق؛ ويبدو لي الأسلوب واضحًا وضوحًا مثاليًّا في كل الأجزاء (ويا لها من فضيلةٍ نادرة الوجود!) وبعض الفقرات بليغة حقًّا. كم هي ممتازة الطريقة التي وصَفتَ بها الوديان العلوية، وكم هو بغيض طقسها! تملَّكَني هلعٌ شديد من تلك الليلة المخيفة التي تساقطَت فيها الثلوج والتي قضيتَها على منحدرات كينتشين. ولم أندهش لشيءٍ قدْر اندهاشي من قوتك البدنية؛ وكل تلك الجسور المزعجة! حسنًا، الحمد لله! إنه ليس من المرجَّح «كثيرًا» أنني قد أذهب إلى الهيمالايا على الإطلاق! لقد أثار اهتمامي الكثير من الجوانب العلمية، خاصةً كلَّ ما ورد عن تلك الركامات الجليدية الرائعة. أعتقد بالطبع أنني أتخيل الوديان بوضوحٍ أكثر إلى حدٍّ ما، ربما لرؤية وديان تاهيتي. لا يمكنني الشك أن الهيمالايا تَدين فيما يتعلق بكل معالمها للمياه الجارية، وأنها تعرَّضَت لهذا النشاط لمدةٍ أطولَ من أيِّ جبال (وُصفت حتى الآن) في العالم. يا له من تناقُض مع جبال الأنديز!

ربما تَودُّ أن تسمع القليل جدًّا الذي يمكنني قولُه من نقد، وهذا ينطبق فقط على البداية؛ حيث لم تكن هناك «انسيابيةٌ» كافية (وهو الأمر الذي فاجأني) حتى بلغت مدينة ميرزابور على نهر الجانج (لكن الجزء الخاص بقُطاع الطريق الهنود كان مثيرًا للاهتمام للغاية)، حيثُ بدا أن التيار حملَك على نحوٍ أكثر رصانة لجملٍ أطول وحقائقَ ومناقشات أكثر امتدادًا، إلخ. أتساءل ما إذا كان هذا الجزء لا يمكن تلخيصه في الطبعة الجديدة (إنني مسرور لِما سمعتُه عن أن موراي قد باع الطبعة الأُولى كلها). وإذا وضع الجزء الخاص بالطقس في حواشٍ سفلية، فإنني أعتقد أن هذا سيكون من قبيل التحسين الجيد. إن رؤية الأسماء اللاتينية مكتوبةً بخطٍّ مائل، وكلها مختلطة بأسماءٍ إنجليزية مكتوبة بخطٍّ عادي تجعلني حزينًا للغاية، رغم أن العالم بأَسْره يرى بخلاف ذلك، لكن لا بد أن أتحمل هذا العبء، حيث يبدو أن كل رجال العلم يعتقدون أن تأنيق اللغة اللاتينية بكتابتها بخطٍّ عادي مثل اللغة الإنجليزية القديمة المسكينة سيفسدها. حسنًا، إنني فخور جدًّا ﺑ «كتابي»؛ لكن ثَمَّةَ أمرًا واحدًا يُضجِرني، وهو أنني لا أميل كثيرًا إلى سؤال الناس إذا كانوا قد اطلَعوا عليه، وعن رأيهم فيه؛ فإنني أشعر أنني متماهٍ معه بشدة، حتى إن تلك الأسئلة تصير شخصية بعض الشيء؛ لذلك، لا أستطيع أن أُخبرك برأي الآخرين. لكنك سترى في دورية «ذا أثانيام» مقالةً نقدية جيدة عنه.

يا له من خبرٍ رائع الذي ورد من تاسمانيا! إنه حقًّا حدثٌ هام ويستحق التقدير للمستعمرة. [إنه يشير إلى منحةٍ طوعية من الحكومة الاستعمارية لتغطيةِ نفقاتِ كتاب السير جيه هوكر، «نباتات تاسمانيا».] إنني دائمًا ما أُشيِّد قصورًا في الهواء بشأن الهجرة، وكانت تاسمانيا مقرًّا لي مؤخَّرًا؛ ومِن ثَمَّ، أشعر بفخرٍ شديد ببلدي المختار؛ فذلك الحدث بحقٍّ فريدٌ ومبهج للغاية، لتناقُضه مع ضعفِ تقدير العلم في بلدي القديم. أشكرك من كل قلبي على خطابك هذا الصباح، وعلى كل البهجة التي أعطاها لي إهداؤك، لكن لا أستطيع مقاومة التفكير في كم سيزدريك … لعدم إهداء الكتاب لأحد الرجال العظام، وهو الذي كان سيأتي عليك وعلى الكتاب ببعض الفائدة في نظر العالم. آه يا عزيزي هوكر، لقد كنتَ شديدَ الحماقة في هذا الأمر، وبهذا تبرر ما أقوله عن عدم اكتراثِكَ لشهرتك بالقَدْر الكافي. أتمنى أن أكون مستحقًّا لرأيك الطيب فيَّ من جميع النواحي. الوداع. كم من السار أن تستريح أنت والسيدة هوكر من أعبائكم الكثيرة! …

الوداع مرةً أخرى. لقد كتبت خطابًا طويلًا جدًّا. أراك لاحقًا، وليباركك الرب.

تحياتي لك هوكر، صديقك إلى الأبد
سي داروين
ملحوظة: لقد ألقيتُ للتوِّ نظرةً عاجلة على خطابي غير المترابط، وأرى أنني لم أَبُح بإعجابي الشديد على الإطلاق بحجم الجهد العلمي الذي قمت به، في فروعٍ كثيرة جدًّا؛ فهو عظيم حقًّا. ولديك حقٌّ أن تلتمس بعض الراحة، أو حتى أن تقول، إذا كان هذا يروق لك، إن «ساعة مجدي قد ولت»، لكنني أشعر بثقةٍ تامة أن فجر مجدك والاعتراف العام بقيمتك قد بدأ يُشرق للتو.
[في سبتمبر، من عام ١٨٥٤، كان عمله عن هدابيات الأرجل قد انتهى تقريبًا، فكتب إلى الدكتور هوكر مخبرًا إياه بذلك:

لقد كنتُ أُبدِّد وقتي خلال الأسابيع القليلة الماضي بطريقةٍ مضجرة؛ جزئيًّا في التكاسل، وأشياء متفرقة، وإرسال عشرة آلاف من عينات البرنقيلات من المنزل لشتى أنحاء العالم. لكنني سوف أشرع خلال يوم أو اثنَين في الاطلاع على ملحوظاتي القديمة حول الأنواع. كم سيكون لديَّ من أشياء لأُناقشها معك، ولا بُد أن أبدو ذكيًّا حتى لا «أصير» واحدًا من أكثر الأشخاص إثارة للضجر في الحياة، بالنسبة للقليلِين من أمثالك الذين لديهم الكثير من المعرفة.]

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤