من معاركنا الفلسفية

أُمُّ المشكلات في حياتنا الفكرية هي محاولة التوفيق بين تراث الماضي وثقافة الحاضر؛ فمن الماضي تتكون الشخصية الفريدة التي تتميز بها أمةٌ من أمة، ومن الحاضر تستمد عناصر البقاء والدوام في معترك الحياة؛ فالأمة العربية عربيةٌ بما قد وَرِثَته عن الأسلاف من عوامل، أهمها اللغة والعقيدة ومواضعات العرف. وكذلك نقول إن الأمة العربية قد استطاعت الصمود في دَوَّامات هذا العصر الجارفة العنيفة، بمقدار ما استطاعت أن تُساير حضارة العصر في وسائله وتصوراته، وإنها لتقع بين ماضيها وحاضرها في مأزق حرج؛ فإذا هي اقتصرت — من جهة — على فكر الماضي وطرائق عيشه ووجهة نظره، جرفها الحاضر في تياره؛ لأن له من الوسائل المادية ما لا قِبل لها بدفعه، وإذا هي اقتَصرَت — من جهةٍ أخرى — على الحاضر وعلمه وفنه وسائر معالمه، ضاعت ملامح شخصيتها، وانطَمسَت فرديتها، ولم يعُد لها وجودٌ إلا كما يكون لقطرة الماء في البحر المتجانس وجودٌ مُتميزٌ خاص، فهل من سبيل إلى التقاء الطرفَين في مركبٍ واحد، يُزيل ما بينهما من تَبايُن وتضاد، ويُؤلِّف بينهما في نسيجٍ ثقافيٍّ مُتسقٍ مُنسجم، يكون هو ما نُطلِق عليه اسم الثقافة العربية المعاصرة؟ ذلك هو السؤال الذي أُلقي في حياتنا الفكرية منذ قرنٍ أو يزيد، والذي كانت محاولة الإجابة عنه إجابةً مُقنعةً هي ميدان الصراع بين المُفكِّرين بعامة، ورجال الفلسفة من هؤلاء المُفكِّرِين بخاصة.

إن محاولة التوفيق بين تراث الماضي وثقافة الحاضر (أو ثقافة الغرب حاضرها وماضيها على السواء) مشكلة بالنسبة إلى كل مجتمعٍ متطور؛ فقد شهدناها عند العرب الأَقدمِين في محاولتهم التوفيق بين العقل والنقل — بين فلسفة اليونان وأحكام الشرع — وشهدناها عند مفكري الغرب إبَّان القرون الوسطى في قيامهم بالمحاولة نفسها التي حاولها فلاسفة المسلمين، وشهدناها في النهضة الأوروبية حين حاول أعلامها الجمع بين النهضة العلمية في عصرهم وبين التراث الكلاسيِّ الذي ابتعثوه عن أسلافهم الرومان واليونان، كما شهدناها في روسيا القرن التاسع عشر بين الثقافة السلافية وثقافة غربي أوروبا، لكن محاولة التوفيق هذه أشد إشكالًا وتعقيدًا بالنسبة إلى الشعوب الآسيوية والأفريقية — بما في ذلك الأمة العربية — التي ظَفِرَت بحريتها حديثًا من براثن المستعمرِين؛ وذلك لأن المشكلة قد أُضيفت إليها من العناصر ما زادها عسرًا؛ فمن هذه العناصر المضافة أن ثقافة العصر التي يُراد التوفيق بينها وبين تراث الماضي، هي نفسها ثقافة المستعمر. وإنه لعسير على النفس أن تُقبِل على ثقافةٍ ارتَبطَت عندها بمن استغلها واستذلها، واستهان بثقافتها وعقائدها. فإذا كان المستعمر كريهًا ممقوتًا، فكذلك كانت — عند معظم الناس — ثقافته المرتبطة به؛ إذ ليس من اليسير على الكثرة الغالبة من الناس أن تقوم بعملية التجريد العقلية التي تفصل بين المستعمر وثقافته؛ بحيث ترفض الأول وتقبل الثاني؛ ولهذا سرعان ما ارتَبطَت النزعة القومية من جانبها السياسي الذي حاول الفِكاك من قيود المستعمر ليظفر بالحرية والاستقلال، سرعان ما ارتبط هذا الجانب السياسي من الحركة القومية، بالجانب الثقافي الذي حاول تثبيت الجذور المحلية في تربة الأرض، لتعود إلى الأمة شخصيتها التي أَوشَكَت على الضياع؛ فرأينا حركة إحياءٍ شاملٍ لما كان قد اندثر — أو أوشك — من مُقوِّمات الحياة الماضية إبَّان قوتها، وفي مقدمة هذه المُقوِّمات العقيدة الدينية، لا لأن هذه العقيدة هي في حقيقتها من أهم أركان البناء الثقافي — إن لم تكن أهمها جميعًا — فحسب، بل لأنه قد تصادف أن عقيدة المستعمر في معظم البلاد الآسيوية والأفريقية مُخالِفةٌ لعقيدة الشعب في هذه الأمة أو تلك، كالإسلام في الشرق العربي، وكالهندوكية أو البوذية في الهند وبلاد الشرق الأقصى، فكان من الطبيعي — إذن — أن تقترن الحركات الوطنية بالدعوة إلى إحياء العقيدة الدينية وتنقيتها مما قد علق بها من أوشاب الخُرافة في فترات الضعف السياسي والتدهور الفكري.

إن الروح السائدة في البلاد المتحررة حديثًا من قبضة المستعمر، يمكن تلخيصها في هذا السؤال: كيف نَردُّ لأنفسنا كرامتها، بإحياء ثقافتنا التقليدية والرفع من شأنها، مع إقامة البرهان العملي — في الوقت نفسه — على كفاءتنا في ميدان التنافُس مع من كانت لهم السيادة علينا ظلمًا وعدوانًا؟ فهذه السيادة المعتدية الظالمة كانت ترتكز أولًا وقبل كل شيء على ركيزة العلم والصناعة. وإذن لا بد لنا من هذه الركيزة بكل ملحقاتها، لنستطيع الصمود في ميدان التنافس. وها هنا يعود سؤالنا الأول من جديد: هل في ثقافتنا التقليدية التي نُريد إحياءها وتقويتها ما يتعارض مع هذه الركيزة التي نحن في أشد الحاجة إليها؛ ركيزة العلم والصناعة؟

هنا كثُر بيننا الخلاف وتَشعَّب الرأي؛ فكان منا فريقٌ يُعلي من شأن الطابع القومي الأصيل، على حساب الجوانب الأخرى جميعًا إذا اقتضى الأمر ذلك؛ أي إنه يلوذ بالثقافة الموروثة ليضمن لنفسه مقومات الشخصية المميزة الفريدة التي هي في ظنه درعٌ واقيةٌ من المُعتدِين. وفريقٌ آخرُ كان همه الأول هو أن نلحق بركب الحضارة العصرية؛ لأنه لو كان المستعمر قد وجد فينا ثغرةً ينفذ منها، فتلك الثغرة هي ما أَعوزَنا من العلم والصناعة، ولم نكن لِنُفلِح في صده — بغير هذَين العاملَين — حتى وإن تَجمَّعَت لدينا كل ثقافات الغابرِين. لكن أيكون الصواب إمَّا مع أنصار التراث وحدهم، وإمَّا مع أنصار الثقافة العصرية وحدهم؟ ألا يجوز أن يكون بين الطرفَين وسطٌ يجمعهما في تركيبةٍ جديدة؟ تلك وقفاتٌ ثلاثٌ، طرفان ووسطٌ بينهما، وهي الوقفات التي على أساسها تَفرَّق رجال الفكر الفلسفي عندنا منذ منتصف القرن الماضي، وإلى يومنا هذا، حتى لَنُوشك أن نتعقب سير الحركة الفكرية خلال هذه الفترة في مراحلَ ثلاثيةِ الجوانب؛ فمن طرف إلى نقيضه إلى وسطٍ يُؤلِّف بينهما. على أن النقيض والوسط كانا دائمًا يتخذان موقف المُدافِع عن الدين مما يُظَن أنه خطرٌ عليه، سواءٌ كان هذا الخطر حقيقيًّا أو موهومًا، وسواء كان آتيًا من مفكرٍ غربيٍّ يتحدث عن الإسلام مباشرة، أو من فكرٍ غربيٍّ عامٍّ يُوصف بالمادية فيُخشى خطره على العقيدة، أو حتى من مفكرٍ عربيٍّ ينهج نهج الغربيِّين في تفكيره، فيُنظر إليه بعين الرِّيبة والحذَر.

فأُولى المعارك الفكرية معركةٌ كان أحد طرفَيها أنصار نظرية التطوُّر والمذهب المادي في القرن التاسع عشر، والطرف النقيض هو الردُّ على هؤلاء تفنيدًا لدعواهم، ويَتوسَّط بين الطرفَين وسطٌ يحاول أن يُبيِّن ألَّا خوف على عقائدنا الموروثة من الفكر الجديد الوافد.

وكانت المعركة الثانية أجلى وأوضح؛ لأن أحد طرفَيها هجومٌ صريحٌ على الإسلام من مُفكِّرٍ عربي، وطرفها الثاني دفاعٌ صريح، لكنه دفاع مَن يبدأ بالتسليم بصحة عقيدته، فيقع إقناعه على المؤمن بها قبل المُنكِر لها. وأمَّا الوسط فهو دفاعٌ صريحٌ كذلك عن الإسلام، ولكنه هذه المرة دفاع الفيلسوف الذي يُوجِّه إقناعه نحو المُنكرِين قبل أن يُوجِّهه نحو المُؤمنِين؛ لأنه اختار نقطةَ ابتداءٍ محايدة، ثم أخرج منها النتائج.

وكانت المعركة الثالثة أوغل في الفلسفة بمعناها الاحترافي؛ لأنها معركةٌ حول وسيلة المعرفة ماذا تكون؟ أتكون هي الحواس والتجربة بحيث نُغفِل في ميدان العلم ما لم نُدركه عن طريق المشاهدة الحسية والتجارب المعملية، أم تكون وسيلة المعرفة هي الحَدْس؛ أي العِيان الوجداني المباشر؟ وإنا لنلاحظ أن الفريق الأول يصب اهتمامه على العلم، وأن الفريق الثاني يصب اهتمامه على الدين. الفريق الأول يُوجِّه بصره نحو ثقافة العصر، والفريق الثاني يُوجِّه انتباهه نحو صيانة التراث، فهل يمكن أن نُوفَّق إلى موقفٍ وسطٍ يعطينا علم الغرب دون أن يكون ذلك على حساب العقيدة الموروثة؟

وكانت المعركة الرابعة بين فريقَين: أولهما يجعل للوجود الفردي في المكان والزمان الأصالة والأولوية، وثانيهما يجعل الأصالة والأولوية للفكرة التي تسبق خلق الأفراد، وتلك هي نفسها المعركة بين أنصار الفكر الحديث الذي يصاحب التفكير العلمي المعاصر وأنصار الفكر الموروث. ومرةً أخرى كذلك ينشأ السؤال: أليس هناك موقفٌ وسطٌ يصون فردية الأفراد لكنه كذلك لا يُضحِّي بالفكرة المُطلَقة السابقة على هؤلاء الأفراد؟

ذلك مُوجَزٌ وسبيلنا إلى تفصيله.

•••

إن حديثنا عن الصراع الفكري بين رجال الفلسفة في الأمة العربية إبَّان المرحلة الأخيرة من تاريخها الحديث لتَتعذَّر فيه الدقة لاختلافنا ابتداءً على ماذا تكون الفلسفة ومن هم رجالها؟ فلقد جرى العرف بيننا أن نَسلُك في جماعة المُشتغلِين بالفلسفة رجالًا من طرازَين يختلفان جوهرًا «اختلافًا هو نفسه الاختلاف القائم بين معنيَين تُفهم بهما الفلسفة، ساد أولهما في «حكمة» الشرق وساد ثانيهما في «تحليلات» الغرب؛ فالفلسفة بالمعنى الأول هي «فلسفة حياة» والفلسفة بالمعنى الثاني هي «فلسفة تجريدٍ نظريٍّ»، وبالمعنى الأول تكون الفلسفة في صياغتها أقرب إلى الصياغة الأدبية، وبالمعنى الثاني تكون الفلسفة أقرب في أسلوبها إلى الصياغة العلمية» (راجع للكاتب «فلسفة وفن» ص٦)؛ ومن ثَمَّ فقد يصطرع رجلان على فكرةٍ بعينها، ولكن من زاويتَين مختلفتَين؛ إذ قد يكون أحدهما منصرفًا إلى مجرد تحليل الفكرة ويَردُّها إلى عناصرها الأولية، على حين يكون الثاني مُنصرفًا إلى وزن هذه الفكرة واتساقها مع بقية الأفكار السائدة في المجتمع، فيراها من هذه الناحية ضارةً أو نافعة، وفي مثل هذه الحالة لا يكون في الموقف صراعٌ حقيقيٌّ بين الرجلين، بل ربما كان ما بينهما أقرب إلى التعاوُن على أن يُكمل أحدهما عمل الآخر؛ فالأول يُلقي الأضواء على معنى الفكرة ومحتواها، والثاني يُصدِر الحكم على صلاحيتها أو فسادها بالنسبة إلى حياتنا العملية وإلى سائر معتقداتنا.

لقد كتب أستاذٌ جليلٌ — هو في مُقدِّمة المُشتغلِين بالفلسفة عندنا — كتابًا بالغ الأهمية في هذا الميدان، ذهب فيه إلى أن «الفقه» هو «فلسفةٌ» إسلاميةٌ أصيلة. وقرأ الكتابَ كاتبُ هذه السطور حين صدوره منذ عشرين عامًا، فأذهلَته الفجوة العميقة بينه وبين المُؤلِّف في تصوُّرهما للفلسفة ماذا تكون وكيف تكون، لكنه لم يجرؤ على المعارضة العلنية لمكانة المُؤلِّف في النفوس، فلَجَأ إلى مقالٍ رمزي، لا أظن قارئًا واحدًا قد الْتَفَتَ إلى مرماه، ولكن الكاتب في مقاله الرمزي ذاك — وكان عنوانه «نملتان في الفلفل» (منشور في كتاب «شروق من الغرب») — قد عبَّر عن فكرته واستراح؛ إذ أخذ يقص قصة نملتَين تعلمتا القراءة، لتهتديا «بالعلم» إلى ما ليست تهدي إليه الغريزة، وكان أن قرأتا على عُلبةٍ بطاقةً تقول إنه «سكر» (كما قرأ صاحبنا على غِلاف الكتاب عنوانًا يقول إنه «فلسفة»)، فدَخلَتا على هذا الزعم، وإذا بهما تُعانيان مما وَجدَتا. أمَّا إحداهما فقد وَثِقَت ثقةً — لا يأتيها الشك — فيما كتبه البقَّال على جدار العلبة. وأمَّا الأخرى فقد شكَّت على أساس ما رأته بعينَيها وما طَعِمَته بلسانها، ودار بينهما حوار، لو زال عنه الرمز، لكان هو نفسه الحوار الذي يدور بين أي رجلَين من رجال الفلسفة عندنا عما يكتبان، أيكون فلسفة أم لا يكون؟

لكننا في تعقُّب مواضع الصراع بين رجال الفلسفة في تاريخنا الحديث، سنجري مع العرف المألوف، فنَعُد شبلي شميل فيلسوفًا، مع أنه هو نفسه — فيما أظن — يأبى على نفسه أن يُوصف بهذه الصفة؛ لأنه مؤمن بالعلم وحده، وأمَّا الفلسفة «فإن كان لها بعض معنًى اليوم» — كما قال — «فإنها ستُصبح مُبتذلةً في مستقبل الأيام؛ فالمستقبل اليوم للعلم، وللعلم العملي وحده.» وسنَعُد الأفغاني فيلسوفًا، كما نَعُد محمد عبده، وعباس محمود العقاد، برغم اعتقادنا بأنه توسُّعٌ في المعنى شديد، ذلك الذي يُجيز أن نسلُك هؤلاء جميعًا في زُمرة «الفلاسفة» بالمعنى الذي تُكتَب به مُؤلَّفات المُؤرخِين للفلسفة كما تُدْرَس في أقسامها بالجامعات.

نقول بعد هذا التمهيد، إن المعركة الفلسفية الأولى قد دارت رحاها حول نظرية التطوُّر والمذهب المادي في الفلسفة (وقد لا يلزم أن تكون بينهما صلةٌ ضرورية؛ إذ قد تأخذ بنظرية التطوُّر في الأحياء دون أن تلتزم المذهب المادي الذي يَرُدُّ كل شيء إلى مادة، والعكس صحيح أيضًا؛ فقد تذهب إلى أن الكون كله مادة، دون أن تأخذ بنظرية التطوُّر). أقول إن المعركة الأولى قد دارت رحاها بين نظرية التطوُّر والمذهب المادي في الفلسفة من ناحية، وبين المُناصرِين للعقيدة الدينية من ناحيةٍ أخرى، على اعتبارٍ من هؤلاء أن ثَمَّةَ تناقُضًا بين هذه العقيدة وبين ما جاءت به نظرية التطوُّر وما جاء به المذهب المادي.

وكان الدكتور شبلي شميل، بكتابه «فلسفة النشوء والارتقاء» هو أَوَّل ناقلٍ إلى اللغة العربية للمذهب المادي على صورته التي سادت ألمانيا في القرن التاسع عشر، على يدَي «بخنر»، كما نقل كذلك نظرية دارون في التطوُّر. ولعله لم يفطن إلى الفرق بين أن تُناصر النظرية الداروينية من جهة، وأن تُنكر كل ما عدا المادة من جهةٍ أخرى.

وليس يهمنا أن نورد تفصيلات هذا المذهب المادي، أو تلك النظرية الداروينية في التطوُّر — فهما مما يمكن الرجوع إليه في مصادره — لكن الذي يهمنا هو كيف قُوبِلَت هذه الأفكار الغربية الحديثة عند مُفكِّرينا لنرى مواضع الصدام بين ثقافة العصر من جهة، وثقافة التراث من جهةٍ أخرى. وإن الموقف بِطرفَيه لَيتمثَّل في كتاب «الرد على الدهريِّين» لجمال الدين الأفغاني.

والدهريون الذين يَردُّ عليهم الأفغاني برسالته هذه هم أصحاب الفلسفة المادية التي أَخذَت تتناثر أنباؤها. وقد كتب الأفغاني رده باللغة الفارسية، ثم نقلها إلى العربية الإمام محمد عبده، مستعينًا في ذلك بأديبٍ أفغاني. وإنما كتبها ليُجيب بها عن سؤالٍ جاءه من رجلٍ فارسيٍّ يستفسره حقيقة المذهب المادي الذي أخذ يشيع في الناس: «يقرع آذاننا في هذه الأيام صوت «نيشر نيشر» (= طبيعة). ولا تخلو بلدة من جماعةٍ يُلقَّبون بلقب «نيشري». ولقد سألت أكثر من لاقَيتُ من هذه الطائفة ما حقيقة النيشرية؟ وفي أي وقتٍ كان ظهور النيشريِّين؟ وهل طريقهم تنافي الدين المُطلَق؟ ولكن لم يُفدني أحدٌ منهم عما سأَلتُ بجوابٍ شافٍ كافٍ؛ ولهذا ألتمس من جنابكم العالي أن تشرحوا حقيقة النيشرية والنيشريِّين بتفصيلٍ يَنقَع الغلة ويشفي العلة والسلام.»

ذلك هو مُوجَز الخطاب الذي ورد إلى الأفغاني، فكانت رسالته «الرد على الدهريِّين» هي الجواب، وقد قسمها قسمَين؛ أولهما «في حقيقة مذهب النيشرية والنيشريِّين وبيان حالهم» والثاني في أن الدين الإسلامي أعظم الأديان، وهذا التقسيم كافٍ وحده للدلالة على أن الخطر المَخُوف من ثقافة الغرب الوافدة، هو ما عساها أن تُؤثِّر به في ديانة المسلمين؛ لأن الحرص على نقاء هذه الديانة، هو — فوق كونه من واجبات المُؤمنِين — ضروريٌّ لتثبيت أركان القومية السياسية التي كان الأفغاني من طلائع دعاتها، وإلَّا لما اقتضاه الرد على مذهبٍ فلسفيٍّ مُعيَّن، أو الرد على نظريةٍ بيولوجيةٍ بعينها، دفاعًا عن الإسلام وبرهانًا على عظمته بالنسبة إلى سائر الأديان.

نعم، إنه ليس من الإنصاف في شيء أن نَنقُد رسالة الأفغاني بنظرة الدارس العالم، سواءٌ كان ذلك في جانبها الذي يمس العلوم الصرف، أو كان في جانبها الذي يمس مذاهب الفلسفة الأوروبية؛ لأننا لا نظن أن الأفغاني كان مزودًا بعلم العلماء ولا بفلسفة الفلاسفة في دقائقها وتفصيلاتها، إنما أخذ الموضوع أخذ «المُثقَّف» العام، لا أخذ الدارس المتخصص، وحسبنا في هذا أن نقرأ له ختام خطابه الذي أرسله ردًّا على خطاب السائل الفارسي؛ إذ يقول: «أرجو أن تكون (أي رسالة الرد على الدهريِّين) مقبولةً عند العقل الغريزي لذلك الصديق الفاضل، وأن تنال من ذوي العقول الصافية نظرة الاعتبار.» فمن هذه العبارة يَتبيَّن أن الأفغاني قد وجَّه الحديث في رسالته إلى فئتَين من الناس؛ إحداهما أصحاب «العقل الغريزي» — ومنهم صاحب الخطاب — والأخرى أصحاب «العقول الصافية» ونحن وإن كنا لا ندري على وجه الدقة ماذا يُراد ﺑ «العقل الغريزي» عند الأفغاني (لأن لغة العلم الحديث تجعل العقل والغريزة ضِدَّين؛ فالعقل منطقٌ مكتسب والغريزة فطرةٌ موروثة) إلا أننا نأخذ العبارة على أنها تعني ما نُسمِّيه اليوم ﺑ «الإدراك المشترك» الذي لا يحتاج صاحبه إلى تعلُّمٍ مُتخصِّص، بل يكفيه أن يُشارك الناس في جوهم الثقافي العام. وكذلك لا ندري على وجه الدقة مراده ﺑ «العقول الصافية» سوى أن نُرجِّح أنه يعني بها عقولًا صفت من الغريزة لتُصبح «منطقًا» صِرفًا. لكن العقول المنطقية الخالصة في حد ذاتها لا تكفي للدلالة على نوع الموضوع الذي تخصَّصَت في دراسته؛ ولهذا لم يكن بين من خاطبهم الأفغاني برسالته أحدٌ هو بالضرورة ممن أجادوا دراسة الفلسفة المادية ولا دراسة النظرية الداروينية اللتَين تعرَّض للردِّ عليهما. والظاهر أنه قد اكتفى في ذلك كله بما عنده هو من «إدراكٍ مشتركٍ عام» وبما عند قارئِيه — على تفاوُت درجاتهم — من ذلك الإدراك المُشترَك نفسه.

وأعود فأقول إنه ليس من الإنصاف أن نجد الأفغاني يتناول موضوعه تناوُل «الأديب» لا تناوُل «العالِم» ثم نُصِرُّ مع ذلك على نقده بنظرة العلماء المُتخصِّصِين، ولو فعلنا ذلك لما ثَبتَت رسالة الرد على الدهريِّين لحظةً واحدةً أمام النقد، حتى وإن قَصَرنا أنفسنا على علوم عصره، ودَعْ عنك أن نُضيف إليها ما قد وصل إليها العلم بعد ذلك. وإلَّا فماذا يقول الأفغاني وهو يأخذ على أصحاب الفلسفة المادية اعتمادهم على «أحكام الصدفة» إذا قلنا له إن «أحكام الصدفة» هذه — وهي نفسها قوانين الاحتمال — قد أَصبَحَت الآن قاعدةً أساسيةً تنبني عليها العلوم الطبيعية، فضلًا عن العلوم الإنسانية جميعًا، وشرح ذلك يطول. وماذا يقول الأفغاني الذي أخذ على أصحاب المذهب المادي بأن مذهبهم يُؤدِّي إلى تَسلسُل الأطوار إلى غير ابتداء وهو تسلسلٌ غيرُ مُتناهٍ، «وغفل أصحاب هذا الزعم عما يلزم من وجود مقادير غير متناهية في مقدارٍ مُتناهٍ، وهو من المُحالات الأولية.» هكذا يقول الأفغاني. فماذا لو أنبأناه بحقيقةٍ يأخذ بها الرياضيون اليوم، وهي إمكان «وجود مقاديرَ غيرِ متناهيةٍ في مقدارٍ مُتناهٍ»، ومثال ذلك أن أي خطٍّ مستقيمٍ مُحددٍ بطرفَين معلومَين مُتناهيَين يمكن أن يتألف من أجزاء، كل جزءٍ منها فيه مقدارٌ لا مُتَناهٍ من النقط، وبذلك يشتمل طول الخط المتناهي على مقاديرَ غيرِ متناهية، وشرح ذلك أيضًا يطول. وهل ترى رجلًا أبعد عن دراسة النظرية الداروينية من الأفغاني حين يقول: «وعلى زعم داروين يمكن أن يصير البرغوث فيلًا بمرور القرون وكر الدهور، وأن ينقلب الفيل برغوثًا كذلك.» أو حين يزعم أن داروين قد حكى عن جماعة أنهم «كانوا يقطعون أذناب كلابهم، فلما واظبوا على عملهم هذا قرونًا صارت الكلاب تُولَد بلا أذنابٍ؛ كأنه يقول حيث لم تعُد للذنَب حاجة كفَّت الطبيعة عن هِبَته.»

لا، لا ينبغي، بل لا يجوز أن يُؤخذ رد الأفغاني كما تُؤخذ ردود العلماء بعضهم على بعض؛ لأنه ردٌّ خطابيٌّ صادرٌ عن موقفٍ وجدانيٍّ رافض، ليخاطب به جمهورًا هو بدوره يقف موقفًا وجدانيًّا رافضًا بالنسبة إلى الثقافة الوافدة من الغرب الحديث؛ فلو نظرنا إلى الموقف كله على أنه موقفٌ وطنيٌّ قوميٌّ ينشُد التمييز من الغرب الهاجم بعلمه وبقوته، فقد كسب الأفغاني ما أراد، لكننا لو نظرنا إليه على أنه ردٌّ علميٌّ على نظريةٍ علمية، لمَا تَردَّدنا في القول بأنه قد خَسِر المعركة، وترك النصر لخصومه.

لكن لماذا نقف في حَيرة أمام هذَين الطرفَين، وهنالك مَخرجٌ ممكنٌ يُكسبنا مضمون الثقافة الغربية في هذا المجال، ويُبقي لنا ما نحن حريصون على الإبقاء عليه من تراثنا؟ وذلك الموقف الوسط هو ما حاوله إسماعيل مظهر في كتابه «ملقى السبيل» إذ أوضح بقدر مستطاعه شيئين: أولهما أن ليس ثَمَّةَ علاقةٌ ضروريةٌ بين المذهب المادي من جهة ونظرية التطوُّر البيولوجي من جهةٍ أخرى، والآخر هو أن قبول النظرية التطوُّرية عند دارون لا يتنافى مع عقيدتنا في وجود الله وقدرته على الخلق؛ لأن سلسلة التطور إنما تبدأ من الخلية الحية، وإذن فما تزال ثغرة الانتقال قائمة بين المادة الموات وظواهر الحياة.

يقول مظهر: «إن نظرةً واحدةً في المذهب (الدارويني) كافيةٌ لأن تُبعد عن العقول ما علق بها من أثر القول بدهرية الذين يعتنقون مذهب النشوء؛ فالمذهب بعيد عن البحث في أصل الحياة، ولا شأن له بالبحث في التولُّد الذاتي، ولا في القول بأن الحياة قوةٌ ماديةٌ أو غير مادية؛ ذلك لأن المذهب مقصور على البحث في نشوء بعض العضويات من بعض، بعيد عن البحث في الأصل الذي تستمد منه حياتها. من هنا تُزاح أكبر عقبةٍ تقف في سبيل القول بأن المذهب بعيد عن مخاصمة الشرائع المنزلة. كذلك لا يمكن لمنصف أن يُحمِّل مذهب داروين في النشوء، تبِعة ما سبق إليه بعض الباحثِين فيه، وتوسُّعهم في مدلولاته إلى حد القول بالمادية وإنكار الألوهية» (ص٥٤).

وبهذه الوجهة من النظر، التي تجعل خلق الحياة — أصلًا — أمرًا خارجًا عن نطاق النظرية الداروينية التي تقتصر على تطوُّر الأحياء بعد أن كانت ثَمَّةَ حياة؛ تَسقُط دواعي الاعتراك بين «الدهريِّين» من جهة وبين أصحاب «الرد على الدهريِّين» من جهةٍ أخرى؛ لأنه إذا كان الأولون قد خلَطوا مسألة الألوهية بنظرية التطور فقد أخطئوا، وإذا كان الآخرون كذلك قد ظنوا أن لنظرية التطور مساسًا بمسألة الألوهية فقد أخطئوا؛ إذ يمكن الجمع بين الطرفَين دون أن يكون قبولنا لأحدهما مُستتبِعًا بالضرورة رفضنا للآخر.

•••

كانت المعركة الأولى بين ثقافةٍ غربيةٍ حديثةٍ وفَدَتْ إلينا على أقلامٍ عربيةٍ آمَنَت بها، قوامها الرئيسي جانبٌ من علم البيولوجيا — وأعني نظرية التطوُّر — وجانب من الفكر الفلسفي الذي ساد — مع غيره من مذاهب الفلسفة — أوروبَّا القرن التاسع عشر. وكان الجانب المنقول هو المذهب المادي الذي شاع هناك نتيجةً لانتصارات العلم في الحياة النظرية والعملية على السواء. وقد كان يجوز أن يُنقل عن أوروبا عندئذٍ فلسفاتٌ هيجليةٌ مثاليةٌ لم تكن أَقلَّ شيوعًا من المذهب المادي — بل ربما كانت أوسع وأشمل. أقول إن المعركة الأولى كانت بين ذلك الجانب من الثقافة الغربية الوافدة وبين قيادة الفكر الإسلامي عندنا، واتخذ الدفاع لنفسه وجهتَين: إحداهما أن يُبرهن بما يُشبه الحُجَّة العلمية على أن النظرية البيولوجية المنقولة لم تكن على صواب، والأخرى تُبيِّن قوة العقيدة الإسلامية بالقياس إلى غيرها من العقائد. فجاءت الوجهة الأولى من وِجهتَي الدفاع ضعيفةً لعدم إلمام المُدافِعِين بالعلم الذي تَصدَّوا لتفنيده، ثم جاءت الوجهة الثانية من وجهتَي الدفاع — على قوتها الذاتية — غير ذات نسب بموضوع النقاش؛ ولذلك كانت لغة الهجوم الثقافي أرجح من كفَّة الدفاع. وأمَّا المعركة الثانية فقد انقلب بها الوضع؛ لأن ميدانها كان دينيًّا على الأغلب؛ إذ أخذ المهاجم يوُازِن بين الديانتَين المسيحية والإسلامية، فاضطرَّ المُدافع أن يَردَّ على الموازنة بموازنة مثلها، فكانت الحُجة قوية في جانب الدفاع. وقد تبلور الهجوم في هذه المعركة فيما كتبه هانوتو في فرنسا من جهة، وما كتبه فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة في مصر من جهةٍ أخرى. وكان أقوى من تولَّى الردَّ على الرجلَين هو الإمام محمد عبده، الذي أدار دفاعه على البيان بأن ما اتُّهِم به «الإسلام» باطل من وجهَين: الأول أن شواهد التاريخ لا تؤيده، والثاني أنه كلما صحَّت التهمة كانت واقعةً على «المسلمين» بما أحاط بهم من ظروف أفقدتهم لب عقيدتهم، لا على «الإسلام» من حيث هو عقيدة استطاع المؤمنون بها أن يَعلُوا إلى ذروة العلم والعمل معًا، هذا فضلًا عن أن ما اتُّهِم به المسلمون، يمكن مشاهدته في المسيحيِّين كذلك، مما يدل على أن المسألة لا تتعلق بالعقيدة الدينية، إنما هي نتيجة لظروفٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ واقتصادية.

كان هانوتو في مقاله (نُشر في جريدة «الجرنال» الفرنسية، وترجمه محمد مسعود إلى العربية في جريدة المؤيد) قد أدخل في موازنته بين الديانتَين موازنةً أُخرى ظنها وثيقة الصلة بالموضوع، وهي الموازنة بين «الآريِّين» و«الساميِّين» ليخرج من المفاضلة بتفضيل الأولِين على الآخرِين، فيتناول الأستاذ الإمام هذه النقطة بقوله إن الهند هي منشأ الجنس الآري، وفيها ما فيها من التمايُز الطبقي الذي يصِم بالنجاسة فريقًا كبيرًا من البشر، فهل جاءت هذه الخصلة إليهم من حضارة الساميِّين؟ ثم من أين وصلت المدنية إلى أوروبا؟ أمن الشرق الآري أم من الأمم السامية؟ لقد حُمل الإسلام إلى أوروبا بما استفاد من صنائع الفرس، وسكان آسيا من الآريِّين، زحف عليهم بعلوم أهل فارس والمصريِّين والرومانيِّين واليونانيِّين، نظَّف جميع ذلك ونقَّاه من الأدران والأوساخ التي تراكَمَت عليه بأيدي الرؤساء في الأمم الغربية لذلك التاريخ، وذهب به أَبلجَ ناصعًا. إن أول شرارة أَلهبَت نفوس الغربيِّين فطارت بها إلى المدينة الحاضرة كانت من تلك الشعلة المُوقَدة التي كان يسطع ضوءُها في بلاد الأندلس على ما جاورها. إنه لو صح الحكم على الأديان بما يُشاهَد في أحوال أهلها وقت الحكم، لجاز لنا أن نحكم بأنْ لا علاقة بين الدين المسيحي والمدنية الحاضرة؛ إذ يأمر الإنجيل أهله بالانسلاخ عن الدنيا والزهد فيها، وليس ذلك هو الأساس الذي أُقيمَت عليه مدنية الغربيِّين. كلا، إن النظرة المُنصفة لَتُدرك على الفور أن الحضارة الإنسانية قد أخذ آريها من ساميِّها وساميُّها من آريِّها ولا فرق بين هؤلاء وأولئك «فلا زالت الأمم يأخذ بعضها عن بعض في المدنية لا فرق عندهم بين آريٍّ وساميٍّ متى مسَّت الحاجة إلى تناوُل عمل، أو مادة، أو ضربٍ من ضروب العرفان. وقد أخذ الغرب الآريُّ عن الشرق الساميِّ أكثر مما يأخذ الشرق المُضمحِل، عن الغرب المُستقِل.»

وينتقل الأستاذ الإمام من نقطة الآرية والسامية إلى لب المشكلة عنده، وهو الدين؛ فقد زعم هانوتو أن ديانة التشبيه والتجسيم أفضل من ديانة التوحيد والتنزيه، قائلًا إن الأُولى ترفع الإنسان إلى منزلة الآلهة بينما تهبط الثانية بالإنسان إلى حضيض الضعف والحيوانية، ثم أَقحَم مسألة القَدَر في هذه القسمة فجعل أتباع الديانة الأُولى يؤمنون بالإرادة الإنسانية الحرة، على حين أن أتباع الديانة الثانية يؤمنون بسلطان القَدَر عليهم. فيرد الأستاذ الإمام على هذا الزعم بأنه لا دخل لنوع العقيدة — مُشبِّهةً كانت أو مُنزِّهةً — بالكلام في القدَر، بل إن الأمر في هذا لَيتفرَّع عن الاعتقاد بإحاطة الله بكل شيء وشمول قدرته لكل ممكن، سواء كان صاحب هذا الاعتقاد من أصحاب التشبيه أو من أصحاب التنزيه، «ولقد عظُم الخلاف في المسألة بين المسيحيِّين أنفسهم، وهم مُشبِّهة في رأي مسيو هانوتو، وبدأ النزاع بينهم قبل الإسلام، واستمر إلى هذه الأيام.»

ومع ذلك فليست جبرية القدَر من الإسلام في شيء، إذ «جاء القرآن الشريف — وهو الكتاب المُنزَّل بالإسلام — يعيب على أهل الجبر رأيهم ويُنكر عليهم قولهم، وأثبت الكسب والاختيار في نحو أربعٍ وستين آية، وما جاء به مما يتوهم الناظر فيه ما يخالف ذلك، فإنما جاء في تقرير السنن الإلهية العامة، المعروفة بنواميس الكون.» نعم، لقد «وُجِد بين المسلمين طائفةٌ تُعرف بالجبرية، ولكنها كانت ضعيفةً ضئيلةً يقذفها الحق، ويطردها العقل، وينبذها الدين. وغلب على المسلمين مذهب التوسُّط بين الجبر والاختيار، وهو مذهب الجِد والعمل.» إن هانوتو قد بنى حُكمه على المُسلمِين في أَخذِهم بالقدَر، على ظنه أن الإسلام جاء ليقطع الصلة بين العبد وربه، «ولكنه وَهِم في ذلك، فإن الإسلام أفضى بالعبد إلى ربِّه وجعل له الحق أن يقوم بين يدَيه وحده بلا واسطةٍ تبيعه رِضاءه.»

أمَّا الاتهام الذي وجَّهه صاحب مجلة الجامعة فيَتلخَّص في قوله إن المسيحية كانت أكثر تسامحًا مع العلم من الإسلام، وإن الإسلام أكثر اضطهادًا للعلم والفلسفة من النصرانية. فأجاب الأستاذ الإمام عن ذلك بما نُشِر في كُتيِّبٍ صغير عنوانه «الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية»، وأخذ يستعرض التاريخ كله، بل ويستشهد بالعصر الحاضر نفسه، لِيُبيِّن في جلاء أن الاتهام باطل من أساسه. أفلا يكفي أن الكاتب نفسه قد استطاع أن ينشر في الإسلام ما نشره في مجلَّته، في بلدٍ مسلمٍ دون أن يتعرَّض له واحدٌ بأذًى؟

ثم يأخذ الأستاذ الإمام في القول المُفصَّل، المُؤيَّد بالشواهد؛ فلم يشهد الإسلام قتالًا نشِب بين أصحاب المذاهب المختلفة لاختلافهم في الاعتقاد؛ فلم يقع قتالٌ بين السلفيِّين والأشاعرة مع الاختلاف العظيم بينهما، ولا بين هذَين الفريقَين من أهل السنة، والمعتزلة — مع شدة التبايُن بين عقائد أهل الاعتزال وعقائد أهل السنة سلفيِّين وأشاعرة، وكذلك لم يقع قتالٌ بين الفلاسفة الإسلاميِّين لاختلافهم في الرأي. وإن تاريخ المسلمين لَمليء بالشواهد التي تدُل على أنهم في مجال العلم لم يُميِّزوا بين دين ودين، واستفادوا من أهل العلم من النصارى النسطوريِّين ومن اليهود وغيرهم.

على أن مذهب الأستاذ الإمام في مقارنة الأديان بعضها ببعض هو أن يُؤخذ كل دين «مُمحَّصًا مما عَرَض عليه من بعض عادات أهله أو مُحدَثاتهم التي ربما تكون جاءتهم من دينٍ آخر.» وعلى هذا المذهب طَفِق باحثًا عن أصول الديانتَين اللتَين أجرى هانوتو المقارنة بينهما — النصرانية والإسلام — فوجد أن الأصول التي تنبني عليها النصرانية هي؛ أولًا: اعتمادها على الخوارق في إقناع الأتباع بصحة الاعتقاد «ولا يخفى أن خارق العادة هو الأمر الذي يصدر مخالفًا لشرائع الكون ونواميسه.» ولما كانت العلوم قائمةً كلها على أساس التسليم باطِّراد العلية في ظواهر الكون، كانت العقيدة الآخذة بانتفاء هذا الاطراد مضادةً للأساس العلمي. وثانيًا: أعطت النصرانية سلطةً دينيةً للرؤساء على المرءوسِين في عقائدهم، مما ينفي أن يكون الفرد صادرًا في عقيدته عن ضميره «وهذا الأصل إن نازع فيه بعض النصارى اليوم فقد جرت عليه النصرانية خمسة عشر قرنًا طوالًا.» وثالثًا: تدعو النصرانية إلى التجرُّد من الدنيا والانقطاع إلى الآخرة «فماذا يكون حظ صاحب الاعتقاد بهذا الأصل من النظر في أي علم والعلم لا دخل له في شئون الآخرة والدنيا قد حرمَت عليه.» ورابعًا: الإيمان بغير المعقول، «وهو عند عامة المسحيِّين أصل الأصول، وهو أن الإيمان منحة لا دخل للعقل فيها، وأن من الدين ما هو فوق العقل، بمعنى ما يناقض أحكام العقل وهو مع ذلك مما يجب الإيمان به.» وهناك أصلٌ خامسٌ يقصر نظر النصراني على ما ورد في الإنجيل مهما يكن الموضوع الذي يبحث فيه، زعمًا منهم بأن الإنجيل حاوٍ على كل معرفة يحتاج إليها البشر، حتى لقد «قال بعض فضلائهم إنه يمكن أن يُؤخذ فن المعادن بأكمله من الكتاب المُقدَّس.» وأصلٌ سادسٌ يحمل صاحب العقيدة على التفرقة بين المسيحي وغيره.

ويستطرد الأستاذ الإمام في تعقُّب آثار هذه الأ صول في موقف المسيحيِّين من العلم كما شَهِد التاريخ نفسه فلم يجد «في التاريخ ذكرًا للعلم والفلسفة بعد ظهور المسيحية في مظهر القوة لعهد قسطنطين وما بعده إلا في أثناء المُنازَعات الدينية التي كان يُفصل فيها تارةً بسلطان الملوك وأخرى بجمع المجامع، وثالثة بسفك الدماء، فتخمد شعلة العلم وينتصر الدين المحض.»

ولكي تتم المقابلة ذكر الإمام أصول الإسلام وبخاصةٍ ما له علاقة منها بالحث على العلم — وهو موضوع النقاش — فالأصل الأول هو النظر العقلي لتحصيل الإيمان، وقد «بلغ هذا الأصل بالمسلمين أن قال قائلون من أهل السنة — إن الذي يستقصي جهده في الوصول إلى الحق ثم لم يصل إليه ومات طالبًا غير واقف عند الظن فهو ناجٍ «فهل يكون ركونٌ إلى العقل أوسع من ذلك وأقوى؟ والأصل الثاني للإسلام هو تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارُض، فإذا تعارَض العقل والنقل أخذنا بما دل عليه العقل. وأمَّا موقفنا إزاء المنقول فأحد اثنَين: إمَّا أن نُسلِّم بصحته تسليمًا نعترف فيه بالعجز عن فهمه وتفويض الأمر إلى الله، وإمَّا أن نحاول تأويله تأويلًا يجعل معناه متفقًا مع ما أثبته العقل. وإن هذَين الأصلَين من أصول الإسلام لَيكفيان وحدهما للدلالة على موقفه من العلم، الذي هو أظهر ما تظهر فيه الحجة العقلية» (ويذكر الإمام من أصول الإسلام ثمانية، ويتعقَّب آثارها بشيء من التفصيلِ من حيث مناصرة البحث العلمي والنظر العقلي).

•••

لم تكن الدعوة ونقيضها في هذه المعركة على المستوى الفلسفي بالمعنى الخاص لكلمة «فلسفة» بل كانت على هذا المستوى بالمعنى العام للفلسفة وهو المعنى الذي يتسع ليُدخل في رحابه الجَدَل الديني على نحو ما كان شائعًا عند فرق المُتكلمِين. وعلى أي حال فالذي يهمنا من الأمر هو ما حدث من صدامٍ بين فكرٍ وافدٍ وتراثٍ أصيلٍ كيف كان وإلى أية نتيجة أدَّى؟

إن لقاء التعارُض بين هانوتو — وغيره — من جهة، والشيخ محمد عبده من جهةٍ أُخرى لم يقتصر على فعلٍ ورده بحيث ينتهي الأمر إلى صفر كأن لم يحدث تعارضٌ ولا لقاء، بل كان من أثره أن تَنَبَّهَت أذهاننا — ابتداءً من الشيخ نفسه — إلى وجوب أن نُعيد النظر إلى تراثنا الفكري وإلى السائد بيننا من عُرف وتقليد، لنسلط عليه أشعة من تفكير العصر الحديث — وهو في صميمه تفكيرٌ علمي — لنرى على أي وجهٍ نوائم بين أنفسنا وبين روح العصر بحيث يتكون من هذه المواءمة شخصيةٌ جديدةٌ لا تُفرِّط في ملامحها الأصيلة ولا تُغمِض العين على ضرورات العصر الراهن.

وفي سبيل بناء هذه الشخصية العربية الجديدة نشِبَت صراعاتٌ فرعيةٌ بين رجال الفكر عندنا؛ فمنها صراع هو استمرار لما قام به الشيخ محمد عبده من دحضٍ لمُفتريات خصوم الإسلام، دفعًا لكل شبهة عن صلاحية أصولنا الثقافية للبقاء، حتى وإن اقتضى أمر بقائه ملاءمة تجذ الفروع وتُبقي على الجذور. وكان عباس محمود العقاد هو فارس هذه الجولة، يمتطي الجواد نفسه الذي امتطاه من قبله الشيخ محمد عبده، مع زيادةٍ في محصول الثقافة الغربية الجديدة وزيادةٍ في التقريب بين الضدَّين ليلتئما في كيانٍ عضويٍّ واحد. على أن الإضافة الحقيقية التي أضافها العقاد إلى الإمام محمد عبده والتي جعلته بمثابة «التأليف» الذي يُؤلِّف بين الدعوى ونقيضها في نتاجٍ يحافظ عليهما معًا ويعلو درجة، هي أنه لم يسلُك مسلك الأستاذ الإمام في اصطناعه لمنهجٍ هو أقرب إلى منهج المُتكلمِين الذين يُولِّدون عن الأصول الدينية نتائجها دون أن يعرضوا لهذه الأصول نفسها، وبذلك يُقنعون بكلامهم من يتفق معهم على الإيمان بتلك الأصول، وأمَّا المُنكِر لتلك الأصول فيُوشك ألَّا يكون الحديث مُوجَّهًا إليه. وأمَّا منهج العقاد فهو منهج الفلاسفة الذين لا يبدءون بفروضٍ مُسلَّمٍ بصحتها، ليكون الحديث مُوجَّهًا إلى المؤمن والمُنكر على حدٍّ سواء.

يقول العقاد في فاتحة كتابه «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» إنه «لا محل للكلام على فضل دين من الأديان ما لم يكن أمر الدين كله حقيقةً مقررةً أو ضرورةً واضحة، ولا معنى كذلك لأن نقصُر الخطاب على المؤمنِين المُصدِّقِين ولا نشمل به المُتشكِّكِين والمُتردِّدِين بل المُنكِرِين والمُعطِّلِين؛ لأن المُتشكِّك والمُعطِّل أولى بتوجيه هذا الخطاب من المُؤمِن المُصدِّق.»

ويبدأ العقاد بتحليل فكرة «الدين» نفسها — بغض النظر عن هذا الدين أهو هذا الدين أم ذاك — لِيرُدَّ عنها ما قد تُفهم به من دواعي التشكُّك أو الرفض، حتى إذا ما انتهى إلى نتيجةٍ تُرضي أصحاب الأديان جميعًا وهي أن الدين ضرورةٌ إنسانية، يعود فيتناول أَوجُه المُفاضَلة بين الإسلام وغيره من الديانات ليجد في الإسلام كل ما يُطلب من عقيدةٍ دينية، لكنه في هذا الكتاب وفي غيره (مثل كتابه «الفلسفة القرآنية» وكتابه «التفكير فريضة إسلامية») يُلِح إلحاحًا شديدًا على وجوب احتكام الإنسان إلى عقله الحر، وفي هذا الاحتكام تكمن نقطة الالتقاء بين تُراثنا من جهة وقَبولنا لحضارة العلم الحديث من جهةٍ أخرى.

لكن الذي يَلفِت النظر في هذا الصدد هو أن العقاد الذي أَلحَّ هذا الإلحاح كله على الجانب العقلي في تفهُّم العقيدة والدفاع عنها وفي وجوب اضطلاع الفرد بالتفكير العقلي لأنه فريضةٌ إسلامية، قد دخل في معركةٍ جانبيةٍ مع الزهاوي في أهمية العقل بالنسبة إلى أهمية الخيال والعاطفة؛ ذلك أن الزهاوي ذو فلسفةٍ ماديةٍ علميةٍ يؤمن بالعقل وقدرته دون سائر القوى الإنسانية. فتَصدَّى له العقاد مقيمًا له الحجة على أن الخيال والعاطفة لازمان للإنسان لزوم العقل أو هما ألزم؛ فيقول مشيرًا إلى الزهاوي «يريد أن يعيش أبدًا في دنيا تضيئها الشمس لا تُغشِّيها سُحب النهار ولا تنطبق فيها الأجفان ولا تُناجي فيها الأحلام، وليست دنيا الحقيقة كلها نهارًا وشمسًا ولكنها كذلك ليلٌ وغياهبُ لا تُجدي فيها الكهرباء. وقد خُلق الخيال والبداهة للإنسان قبل أن يُخلق العقل ثم جاء العقل لِيُتمِّمهما ويأخذ منهما لا ليُلغيهما ويُصِم دونهما أُذنَيه.» لقد ظن الزهاوي — هكذا قال عنه العقاد في هجمته الناقدة — أن الإنسان لا يتصل بالكون إلا عن طريق عقله، مع أن العقل وحده لا يكفي، فانظر إلى الزهاوي نفسه وهو يعرض إحدى نظرياته الفلسفية التي أسماها بنظرية الدور، تَرَ أن دفعة الحياة قد حرَّكَته إلى الكلام قبل أن يستطيع إخضاع هذا الكلام لقواعد المنطق العقلي «على أنه بعدُ منطقٌ لم يمتزج بالحياة في الصميم؛ لأنه يتعزَّى بالعلم، والحياة لا يُعزِّيها أن تعلم بأنها خالدة إنما يُعزِّيها أن تشعر بالخلود.»

•••

وننتقل إلى معركةٍ ثالثةٍ هي في صميمها معركةٌ حول وسيلة المعرفة: ماذا تكون؟ فمن المعلوم أن في الفلسفة طريقَين للنظر إلى هذا الموضوع؛ أحدهما يجعل طريق المعرفة بادئًا من داخل الإنسان متجهًا إلى خارجه، والآخر يجعله بادئًا من خارج الإنسان متجهًا إلى داخله، والمثاليون والعقليون هم من أنصار الطريق الأول، والتجريبيون والعلميون هم من أنصار الطريق الثاني. الأَوَّلون يرون أنه لا بُد من أصولٍ ومقولاتٍ مجبولةٍ في فطرة العقل على أساسها يمكن استنباط دقائق المعرفة كما تُستنبَط الرياضة من مُسلَّماتها دون حاجةٍ منا إلى اللجوء إلى مشاهداتٍ خارجية. والآخرون يرون أنه لا معرفة ما لم نبدأ بتحصيل مُعطياتٍ حسيةٍ تجيئنا عن طريق الحواس مرئياتٍ ومسموعاتٍ وملموساتٍ إلى آخر ما قد تخصَّصَت حواسنا في نقله إلينا عن العالم الخارجي، عالم الأشياء. على أن مِن الفلاسفة مَن يحاول الجمع بين الطريقَين في عملية المعرفة ليقول إنه لا بد من مقولات العقل ومبادئه إلى جانب معطيات الحواسِّ لكي يتم تحصيل المعرفة، لكن المُعوَّل في تقسيم المذاهب الفلسفية في موضوع المعرفة ووسيلتها هو: لأي جانبٍ من الجانبَين تكون الأولوية المنطقية؟ فمَن جعل مِن الفلاسفة الأولوية للعقل، كان من المثاليِّين أو العقلانيِّين، ومَن جعل الأولوية للحواسِّ كان من التجريبيِّين.

وفي هذا اختلفنا اختلافًا يمكن النظر إليه النظرة الجدلية التي تقسمها إلى دعوى ونقيضها ثم تأليفٍ بينهما، أو محاولة ذلك، لولا أن الترتيب الزمني لهذه الأضلاع الثلاثة لم يأتِ على هذا التتابُع بل جاءت مرحلة التأليف في ترتيب الظهور أسبقَ من المرحلتَين الأُخريَين.

أمَّا ما سأجعله بمثابة الدعوى في هذه المعركة فهو المذهب التجريبي العلمي (الوضعية المنطقية) التي ذهب إليها كاتب هذه السطور، ونشَرها ودعَمَها بكل وسائل النشر والتدعيم؛ فماذا يقول هذا المذهب — أو بتعبير أدق — هذا المنهج لأنه ليس مذهبًا ذا فلسفةٍ إيجابيةٍ بقَدْر ما هو طريقةٌ للنظر بالنسبة إلى كل ما تُستخدم فيه اللغة والرموز الأخرى، من مذاهب الفلسفة ونظريات العلم وغير هذه وتلك من ضروب القول والكتابة.

يقوم هذا المنهج التجريبي على أساس تحليله للغة كيف نَشأَت وعلى أي صورةٍ تجري في الاستعمال اليومي وفي الاستعمال العلمي وفي غير هذَين من مجالات الخلق الأدبي. وينتهي به التحليل إلى أن للغة ميدانَين كبيرَين تُستعمل فيهما بطريقتَين مختلفتَين؛ أحدهما هو حين تُستخدم اللغة «لتشير» برموزها إلى أشياء العالم الخارجي، والآخر هو حين تُستخدم في غير هذه العملية الإشارية كأن يُراد بها إثارة عواطف السامع أو إقامة بناءٍ ذهنيٍّ صِرفٍ تتسق أجزاؤه من داخل، ولكنه لا يعني شيئًا في خارج. فإذا رأيتُ عِلم الضوء — مثلًا — يُقدِّم لي قولًا في مسار الضوء، ما سرعته، وكيف ينعكس أو ينكسر أو غير ذلك، كان مدار قوله هذا هو التطبيق الخارجي؛ ولذلك يتحتم أن يكون قابلًا لهذا التطبيق الذي على أساسه نحكم بقبوله أو برفضه، وكذلك قل في شئون الحياة اليومية. فإذا زَعَمتُ لك أن القطار السريع من القاهرة إلى الإسكندرية يغادر القاهرة في تمام الساعة السابعة صباحًا ليصل إلى محطة الإسكندرية بعد ساعتَين وربع ساعة، كان قَبولك لزعمي هذا مرهونًا بقياسه على الواقع الفعلي؛ وعندئذٍ فقط يتبين لك مدى ما فيه من صدق على ذلك الواقع — وبمقدار ما يكون في الصياغة اللفظية من رسمٍ لطريق التطبيق الفعلي يكون لها «معنًى» على أن ما له «معنًى» قد يصيب وقد يخطئ فيكفي للعبارة أن تُبيِّن كيف يكون طريق تطبيقها على الواقع — سواءٌ وجدناها تنطبق أو وجدناها لا تنطبق لنقول إنها ذات معنى؛ فمن حيث «المعنى» لا فرق بين أن أقول إن الشمس تدور حول الأرض في أربع وعشرين ساعة، وأن أقول إنها تفعل ذلك في مائتَين وأربعين ساعة. لكلٍّ من هاتَين العبارتَين صورةٌ معينةٌ تَهدينا إلى طريقة المُطابقة بينها وبين الواقع، لكنَّ إحداهما سيتبين صدقها عند المطابقة كما سيتبين كذب الأخرى.

وأمَّا الميدان الثاني في استعمال اللغة فهو حيث لا يُقصد بها الإشارة إلى العالم الخارجي، بل يُراد بها أثرها الوجداني أو يُراد بها إقامة بناءاتٍ ذهنيةٍ تقتصر على مجرد التصوُّر ولا نزعم لها أن تُسمِّي جانبًا أو آخر من جوانب العالم؛ فالشاعر الذي يروي عن الليل أنه كموج البحر، لا يَلفِت نظرك إلى شيءٍ في محيطك الخارجي، تنظر إليه لِتُطابق بينه وبين ما زعمه لك، بل يلفت نظرك إلى خبرةٍ داخليةٍ تُحسُّها في شعورك. وكذلك الرياضي حين يبني نسقًا رياضيًّا — كما فعل إقليدس — لا يدعي أن نسقه هذا يشير بالضرورة إلى كائناتٍ خارجية؛ إذ قد يخلو العالم الخارجي من المُثلَّثات أو من المُربَّعات، ومع ذلك يظل نسقه الرياضي صحيحًا؛ لأن صحته قائمةٌ على طريقة تكوينه لا على إشارته إلى مُسمَّيات في دنيا الأشياء. وقل هذا نفسه بالنسبة إلى فريقٍ من الفلاسفة يلجأ أفراده إلى ما يفعله الرياضي من حيث طريقة البناء، وهو أن يبدءوا بحقائقَ معينةٍ لا يدعون أنها مكسوبةٌ بالمَشاهد الحسية، بل يقولون إنها من إدراك الحَدْس، ثم يستنبطون من ذلك الإدراك الحدْسي ما يمكن استنباطه من نتائج، ومن مجموع هذه النتائج مرتبةً «منسقة» يتكون البناء الفلسفي المُعيَّن. فافرض أنك وَقَفتَ عند مرحلةٍ بذاتها من هذا البناء تسأل: كيف أستيقن من صوابها؟ فعندئذٍ يحيلونك على المقدمات التي استُنبِطَت منها لترى أن استدلالها كان استدلالًا صحيحًا. وهكذا دوالَيك تُحال في كل مرحلة إلى سابقتها، حتى تصل إلى نقطة الابتداء الأولى، فتسأل الرياضي أو الفيلسوف الاستنباطي من أين جاءت؟ فيكون الجواب: هي مُسلَّمة الصدق لأنها مفروضة (بلغة الرياضيِّين) أو لأنها مدركةٌ بحدْس البصيرة (بلغة الفلاسفة).

هذان هما الميدانان الرئيسيان للغة، وعليك حين تستخدم اللغة أن تكون على بينةٍ في أي ميدان من ميدانَيها تستخدمها، أتشير بها إلى كائناتٍ خارجيةٍ؛ وعندئذٍ يتحتم عليك الركون إلى تجربة الحواس، أم تقصر نفسك على البناءات الذهنية التصوُّرية؛ وعندئذٍ لا تُطالَب بالرجوع إلى تجربة الحواسِّ وتكون مُلزمًا بمراعاة مقاييسَ أُخرى ملائمة لنوع البناء التصوُّري الذي تُقيم أركانه في ذهنك.

هذا هو ما يقوله المنهج الوضعي المنطقي أو التجريبي العلمي، وإنما سُمي «وضعيًّا منطقيًّا» لأنه أولًا: يشترط لكل عبارة تدَّعي الإشارة إلى دنيا الأشياء أن يقوم صوابها على تصويرها لتجربة الحواس — وهذا هو الجانب الوضعي من الموقف — ولأنه ثانيًا: يكتفي بتحليل لغة العبارة نفسها، وهذا التحليل وحده كفيل بإرشادنا إن كانت العبارة مقبولة من ناحيتها المنطقية أو غير مقبولة — وهذا هو الجانب المنطقي من الموقف — فافرض مثلًا، أنني زَعَمتُ لك عن «الروح» أنها «مادية» في جوهرها، فليس بك حاجةٌ إلى البحث عن روح تتناولها لترى إن كانت ماديةً أو لم تكن وحسبك في رفضك لهذا القول أنْ تُحلِّل هاتَين الكلمتَين، فإذا انتهى بك التحليل إلى أن كلمة «الروح» تُطلَق على كائناتٍ غيرِ مادية، عَلِمت على الفور أنه من التناقُض — إذن — أن تُوصَف بأنها مادية؛ لأنني أكون عندئذٍ كمن يقول «اللامادي مادي» فرفضنا لهذه العبارة قائم على «المنطق» وحده — منطق اللغة ومنطق الفكر.

تلك هي الدعوى، فكيف جاء نقيضها — أو نقائضها إذا جاز أن يكون للفكرة الواحدة أكثر من نقيضٍ واحد؟ — جاءت تلك النقائض على مستوياتٍ مختلفةٍ باختلاف أشخاصها في جِدية المأخذ وعمق التفكير؛ فمنها ما عارض به العقاد على أساسٍ جدليٍّ فيه متانة الحجة، لكنها حجةٌ مردودٌ عليها؛ فمن أقوى ما اعترض به — وهو اعتراضٌ شائعٌ بين أعداء الوضعية المنطقية — أنه إذا كان هذا المنهج يرفض في باب العلم كُل ما عدا نوعَين فقط من القول؛ أحدهما قولٌ تجريبيٌّ قياسه الواقع المحسوس والثاني قولٌ فيه تحصيل حاصل (كالمعادلات الرياضية) باعتبار أن ما عدا هذَين النوعَين من الكلام هو أقوالٌ فارغةٌ من المعنى، إذن فالعبارة نفسها التي سبق بها هذا المذهب هي من قبيل الأقوال الفارغة لأنها لا هي من قوانين العلم الطبيعي (النوع الأول) ولا هي من قبيل العلم الرياضي (النوع الثاني)، لكن هذه الحجة مردودٌ عليها بما يُسمَّى «نظرية الأنماط المنطقية» التي مُؤدَّاها أن العبارات اللغوية ليست من مستوًى واحد، ومقياس الصدق في أحد هذه المستويات ليس هو مقياسه في المستوى الآخر. مثال ذلك، افرِض أنني حلَّلتُ الجمل اللغوية التي وَردَت في هذه الصفحة فوجدتُها جميعًا قد كُتبَت باللغة العربية، فسَجَّلتُ هذه الحقيقة عندي بعبارةٍ إنجليزيةٍ أقول بها ما معناه: «إن جميع العبارات على هذه الصفحة عباراتٌ عربية.» أَفَيجُوز أن يعترضني معترضٌ بقوله: لكنَّ حكمك هذا لو صحَّ لوجب أن يكون هو كذلك عبارةً عربية؟ كلَّا؛ لأن حكمي هذا من «نمطٍ» منطقيٍّ أعلى، يحكم على ما دونه، ولا يخضع هو نفسه لحكم نفسه. وأمثال ذلك في الحياة كثيرةٌ كثرةً لا يجوز معها أن يقع ناقدٌ في مثل هذا الخطأ المنطقي، ومع ذلك فالذي وقع فيه كثيرون؛ فقد أكتب بطاقةً على صندوقٍ كلُّ ما فيه برتقال، لِتدُل البطاقة على محتوى الصندوق، دون أن يطوف ببال ناقدٍ أن يقول: «لكن لو كان الوصف الموجود على البطاقة لما بداخل الصندوق وصفًا صحيحًا لوجب أن يكون هو نفسه برتقالة من البرتقال.» نعم إن هذا هو الموقف نفسه حين نُحلِّل العبارات العلمية لنقول عنها آخر الأمر: العبارات العلمية كلها إما عباراتٌ وصفيةٌ تشير إلى الواقع المحسوس وإما عباراتٌ تحليليةٌ تنطوي على تحصيل حاصلٍ كمعادلات الرياضة، فلا يكون هذا الحكم العام نفسه خاضعًا لقاعدة نفسه؛ بحيث أقول عنه إن هذا الحكم لا هو من قوانين العلوم الطبيعية ولا هو من تحصيلات الحاصل إذن فهو خِلوٌ من المعنى.

ويزيد العقاد على هذا الاعتراض اعتراضًا آخر فيقول: «إن الإنسان يستطيع أن يجزم بحقيقةٍ لا صورة لها في الخارج على الإطلاق لأنه يستطيع أن يقول: «إن العدم مستحيل» ولا يمنعه من تقرير ذلك أن المحسوسات خلت من شيءٍ يُسمَّى العدم أو شيءٍ يسمى المستحيل.» وردًّا على ذلك نقول إن مثل هذه الجملة هي — كمعادلات الرياضة — تحصيلُ حاصل، وليست مما يصف الواقع، وصدقها كامنٌ في أنها تُكرِّر معنًى واحدًا مرتَين؛ وذلك لأنك لو سألت: ماذا تعني بكلمة «العدم»؟ لأجبت نفسك بأنه هو «ما لا يكون» وإذا عُدتَ فسأَلتَ وماذا تعني كلمة «المستحيل»؟ لأجبت نفسك هنا أيضًا بقولك إنه هو «ما لا يكون»، وإذن فترجمة الجملة بعبارةٍ أخرى تُصبِح «ما لا يكون لا يكون» وهو قول صحيح؛ لأنه تحليليٌّ تَكراريٌّ وشبيه بقولك ٢ = ٢ أو بقولك ١ + ٣ = ٤، وليس في هذا ما ينفي ما ذَهبَت إليه الوضعية المنطقية في تحليلاتها لتقبل ما تقبله وترفض ما ترفضه. وهكذا يمضي العقاد (راجع كتابه «بين الكتب والناس») في معارضاتٍ جدلية، تدل على أخذه للقضية أخذًا جادًّا لكنها لا تدُلُّ بالضرورة على أنه قد أصاب.

•••

ومن النقائض كذلك فصلٌ خصَّصه الدكتور محمد البهي في كتابه «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي»، لا أقول «للرد» على الوضعية المنطقية — لأن الرد يتطلب درجةً من دقة التحليل لا أظنه قد درب على مثلها — بل أقول إنه خصَّص فصلًا ألقى فيه ما هو أقرب إلى الخطبة الحماسية التي أراد بها — وسأفرض فيه النية الحسنة لأنه ليس ثَمَّةَ ما يدعوه إلى غير ذلك — أراد بها أن تثير نفوس قُرائه — لا أقول عقولهم؛ لأن العقول تحتاج إلى منطقٍ صرف، والخطب الحماسية لا تلتزم مثل هذا المنطق — نعم، أراد بها أن يثير نفوس قُرائه على طائفةٍ من مواطنيهم، كان كاتب هذه السطور أَحدَهم بسبب كتابٍ أخرجه وجعل عنوانه «خرافة الميتافيزيقا» ليقول به إنه إذا أراد المتكلم أن يتصدَّى لقولٍ علميٍّ يتصل بالعالم الخارجي فليكن سنده تجربة الحواس؛ لأن ما هو مُجاوزٌ لمجال الإدراك الحسي سبيله آخر، وطريقة تصديقه طريقةٌ أخرى. فإذا جاء فيلسوفٌ ميتافزيقي يزعم لنا أن للبرتقالة «جوهرًا» وراء لونها وشكلها وطعمها كان من حقنا أن نسأله أن يقيم لنا البرهان على أساسٍ من تجاربنا نحن ما دمنا نحن الذين نستمع إليه.

ويبدأ الدكتور محمد البهي حملة إثارة النفوس منذ عنوان كتابه؛ إذ يجعل جزءًا من هذا العنوان عبارةً تقول إن هؤلاء المواطنِين الذين هاجمهم في دعاواهم الفكرية ذوو صلة بالاستعمار الغربي. ولست أظن أن مما يُشرِّفه ولا مما يُشرِّف قُراءه أن يجعل رجالًا من أمثال طه حسين وعلي عبد الرازق (وهما أيضًا ممن خَصَّص لاتهامهم فصولًا من كتابه) أعوانًا للمستعمر على تحقيق أغراضه. ثم يتابع حملة الإثارة الانفعالية بالنسبة إلى كاتب هذه السطور بأن يجعل عنوان الفصل الذي خصصه لمهاجمته «الدين خرافة» وكأنه يستنتج من عنده أن الخائن الوطني الذي عاون الاستعمار بكتابه قد خرج كذلك على دينه. ألم يقُل أن الميتافيزيقا خرافة؟ إذن يكون الدين خرافة. وحتى إذا سلمنا معه أن هذه نتيجة تلزم عن العنوان الأصلي للكتاب الذي يهاجمه، فلماذا لم يذكر هذا العنوان مكانَ بديلهِ الذي اختاره له؟ أَلِأَنَّ كلمة «ميتافيزيقا» لا تثير النفوس بمثل ما تثيرها كلمة «الدين»؟

وإن هذه البداية لَتكفي لِصَدِّنا عن مناقشته فيما أورده من حديث؛ لأنها بدايةُ مَن لا يعتزم الدخول في جدالٍ فلسفيٍّ نزيه، ومع ذلك فماذا قال؟ أخذ ينثر الأسماء الإفرنجية يمينًا ويسارًا بالأحرف العربية تارةً وبالأحرف الإفرنجية تارةً أخرى، وهي أسماءٌ لفلاسفةَ ومذاهب، لا لأنها تصلح أن تكون ردًّا لما أراد أن يَردَّ عليه، بل لأنها تتعاون مع ما أثبته على غلاف الكتاب من أنه دكتور من جامعتَي برلين وهامبورج بألمانيا، دكتور من هناك في «الفلسفة وعلم النفس والدراسات الإسلامية» — كما أثبت على غلاف كتابه — ولست أدري في الحق كيف اجَتمعَت هذه الفروع كلها في رسالة للدكتوراه، ولم يكن ذلك ليكون من شأني لولا أنه يدُلُّني على أنه لم يُخصِّص نفسه للدراسة الفلسفية التي تُعينه على تتبُّع تحليلات الفلاسفة حين تُجاوِز هذه التحليلات حدود المفاهيم الخطابية التي تُستخدم في إثارة النفوس، ولا يهمها أن تتجه بالمنطق البارد نحو العقول. وحسبنا من ضعف إلمامه بالحركات الفكرية في ميدان الفلسفة أن يخلط بين «الوضعية المنطقية» وبين «المذهب الوضعي» الذي يقوله به أوجست كونت، حتى لقد طفِق يشرح للناس هذا المذهب ويَكيل له الضرباتِ وهو يظن أنه يُهاجم ما ندعو إليه.

إن في هذا الخلط وحده لَفصل الخطاب، لكننا على سبيل التفكُّه نذكر أن صاحب هذا الخلط الفكري بين وضعية كونت ووضعية شليك، وفتجنشتين، وكارناب، ونيورات، الذين لم يخطُر بباله أن يقرأ سطرًا واحدًا لواحد منهم. أقول إن صاحب هذا الخلط الفكري العجيب هو الذي يأخذ على مُؤلِّف «خرافة الميتافيزيقا» أنه يُردِّد فكر الغربيِّين باسم التجديد وأنه يُردِّده «مُشوهًا أو مُحرفًا»، ثم انظر إلى طريقة مُؤلِّف «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» في استدلال النتائج من المقدمات؛ فقد ذكر عبارةً وردت في «خرافة الميتافيزيقا» تقول «نشأت الميتافيزيقا من غلطةٍ أساسية، وهي الظن بأنه ما دامت هناك كلمة في اللغة فلا بد أن يكون لها مدلول ومعنى، وكثرة تداوُل اللغة ووجودها في القواميس يزيد الناس إيمانًا بأنها يستحيل أن تكون مجرَّد ترقيم أو مجرَّد صوت بلا دلالة، لكن التحليل يُبيِّن لك أن «مئات من الألفاظ» المُتداوَلة والمسجلة في القواميس هي ألفاظٌ زائفة. وما أشبه الأمر هنا بظرفٍ يتداوله الناس في الأسواق مدةً طويلةً على أنه يحتوي على ورقةٍ من ذوات الجنيه حتى يكتسب الظرف قيمة الجنيه في المُعامَلات وبعدئذٍ يجيء مُتشكِّك ويفُضُّ الظرف ليستوثق من مكنونه ومحتواه وإذا هو فارغ، وكان ينبغي أن يبطل البيع به أو الشراء لو تنبه الناس إلى زيفه من أول الأمر.» يذكر المؤلف هذا النص من كتاب «خرافة الميتافيزيقا» ليستدل منه — واعَجَباه — أن الكلمة (وهل كان حديثنا عن كلمةٍ واحدةٍ مُعيَّنة يا دكتور بهي؟ أم هكذا أَردتَ لها أنت لتستدل من ذلك ما يتفق مع هواك لا مع النص؟) أن الكلمة التي يتداولها الناس في كثرةٍ لا بُد أن تكون اسم الجلالة «الله» وإن لم يُصرِّح مُؤلِّف خُرافة الميتافيزيقا بذلك. ولنضرب عُرض الحائط بعبارة «مئات من الألفاظ المُتداوَلة» التي وَردَت في النص — هكذا يقول لسان الحال عند الدكتور البهي — لأننا نحن — أولاد البلد — يفهم بعضنا بعضًا، ونفهمها من وراء السطر — وهي طائرة — ومحال أن يضحك على ذقوننا كاتبٌ ماديٌّ لعيبٌ كمُؤلِّف «خرافة الميتافيزيقا». إنه يقول شيئًا لكننا نفهمه على وجهٍ آخر لأننا لسنا من الغفلة بحيث يفوتنا ما يعنيه وإن لم يُصرِّح به. وأستحلفك بالله — أيها القارئ — لا تضحك إذا ما أنبأتك بأن مُؤلِّف كتاب «الفكر الإسلامي الحديث» الذي يستنتج من نصٍّ كهذا نتيجةً كهذه، هو نفسه الذي يقول عن صاحب «خرافة الميتافيزيقا» إن كلامه هذا «لا يدل فحسب على قلة إدراك اللغة العلمية بل يدل أيضًا على أن «البَتر» في النقل عن الغير يكاد يكون صفةً من صفات التجديد في الفكر الإسلامي الحديث عند هؤلاء المُردِّدِين» (والمقصود بالمُردِّدين عنده هم الدكتور طه حسين والأستاذ علي عبد الرازق وكاتب هذه السطور الذي هو مُؤلِّف «خرافة الميتافيزيقا»). ورحمكم الله يا أصحاب العقول السليمة؛ فقد تولى الحديث عنكم الدكتور محمد البهي وهو أستاذٌ أجاد «اللغة العلمية» إجادةً تامةً، وتَنزَّه عن «البتر» الذي يقترفه «المُردِّدون» لما ليس يفقهون.

•••

ونترك هذه الوقفة الانفعالية التي لم يُحسن صاحبها فهم ما يَتصدَّى لنقده وبالتالي لم يُحسن النقد العلمي النزيه، واكتفى بإلقاء خطبةٍ وجدانيةٍ يلهج فيها بخوفه على الإسلام من طائفةٍ مُفكرةٍ أسلَمَت كما أسلم ثم استَخدَمَت واجبها الإسلامي في التفكير، وأَحبَّت وطنها كما أَحَب، ثم رأت أن ترتفع بمداركها العقلية إلى منزلةٍ أراد المستعمرون احتكارها لأنفسهم. نترك هذه الوقفة الانفعالية — إذن — لننتقل إلى فيلسوفٍ عربيٍّ دحض المذهب التجريبي الحسي كما يدحض الفلاسفة بعضهم بعضًا: بالحجة المنطقية الرصينة، لكن دحضه للمذهب التجريبي الحسي لم يجعله يتطرف إلى نقيضه وأعني المذهب المثالي الذي يُحوِّل الدنيا بأسرها إلى أفكارٍ مجردةٍ في عقل مُدركيها، وإنما هو يختار موقفًا أشبه بموقفٍ وسطٍ بين الطرفَين وهو أن يكون العقل أداة الإدراك، لكن معقولاته لا تقتصر على نفسه بل إن وجودها في الذهن لَيدُل على وجود الموجودات الخارجية، وذلك الفيلسوف العربي هو يوسف كرم، في كتابَيه «العقل والوجود» و«الطبيعة وما بعد الطبيعة». لقد أرسل يوسف كرم خطابًا قصيرًا إلى كاتب هذه السطور بتاريخ ٦ مايو (أيار) ١٩٥٩م؛ أي قُبيل وفاته بأيام (مات فجر الخميس ٢٨ مايو ١٩٥٩م)، يقول فيه: «تحيةً واحترامًا وإعجابًا بكثرة تآليفكم وإن كان ما قرأته لكم يحفر بيننا هُوةً سحيقة؛ فإن أول ما يُقتضى من رجل العلم خُلوص النية والجِد في البحث وهما متوافران لكم وأنا مواصلٌ قراءة «نحو فلسفةٍ علمية» ومُكرِّرٌ الوعد بالكتابة عنه إليكم، وأستطيع أن أقول منذ الآن إن الفلسفة التي تفرضونها هي الفلسفة المادية. وإننا لن نتفق في الرأي وسيبدو لكم هذا الاختلاف حين تُطالِعون كتابًا لي، تُوشِك دار المعارف أن تُصدِره، واسمه «الطبيعة وما بعد الطبيعة» وسيادتكم تثقون طبعًا أني كتبته بإخلاص.»

وصدر الكتاب بعد وفاته، وهذا هو نص التصدير الذي صدَّره به؛ لأنه يُوجز القول فيما جاء فيه وفي الكتاب الذي سبقه وهو «العقل والوجود» يقول التصدير:

أثبتنا في كتاب «العقل والوجود» أن للإنسان قوةً داركةً متمايزةً من الحواس، تُدعى بالعقل، شأنها أن تُدرك معاني المحسوسات مجرَّدة عن مادتها، ومعانيَ أخرى مجردةً بذاتها، وأن تُؤلِّف هذه المعاني في قضايا وأقيسةٍ واستقراءاتٍ فتَنفُذ في إدراك الأشياء إلى ما وراء المحسوس، محاولةً استكناه ماهيته وتعيين علاقاته مع سائر الموجودات. ولمَّا كانت موضوعات العقل مجردةً كانت أفعاله التي ذكرناها مجردةً كذلك، فأبطلنا المذهب الحسي الذي يَقصُر المعرفة الإنسانية على الحواس ويرمي إلى أن يرُدَّ إليها ويُفسِّر بها سائر الكائنات.

وبعد إثبات وجود العقل بوجود موضوعاته وأفعاله، عَرَضْنا لقيمة الإدراك العقلي، فأَدحَضْنا مذهب الشك المُنكِر لجميع الحقائق حتى الحسية منها والهادم للعلم من أساسه، وأدحضنا المذهب التصوُّري الذي — وإن آمن أصحابه بوجود العقل وبمُدرَكاتٍ عقلية — فهم يقصرون هذا الوجود على داخل العقل، ويعتبرون هذه المُدركاتِ تصوُّراتٍ وحسب، فينكرون على الإنسان حق الخروج من التصوُّر إلى الوجود، وبعد إثبات بُطلان تلك الدعاوى بيَّنَّا تهافُت المذاهب الميتافيزيقية المبنية عليها.

والآن نقصد إلى النظر في طبائع هذه الموضوعات وأن نُبدِي الرأي فيها، آملِين أن نُقدِّم صورةً سليمةً للطبيعة بقوانينها وبموجوداتها، من جماد ونبات وحيوان وإنسان، على هذا الترتيب التصاعديِّ الظاهر لأَوَّل وهلة.

ونقصد أخيرًا إلى إتمام البحث الشامل، واستيفاء اليقين الكلي، بالصعود إلى العلة الأولى للطبيعة؛ أي لخالقها ومُشرِّع قوانينها، المُفارِق لها، العالي على موجوداتها.

على أن الناقدِين الناقضِين للتجريبية العلمية التي اضطلع بعرضها والدفاع عنها كاتب هذه السطور، لم يقتصروا على الأستاذ العقاد والدكتور البهي والأستاذ يوسف كرم (في توسُّطِه بين طرفَي التجريبية والمثالية)، بل كان من بينهم كذلك الدكتور عثمان أمين في كتابه «الجُوانيَّة»، ولكنني لا أنوي التعرُّض لما يُقدِّمه في هذا الكتاب؛ لأنني غير مُؤهَّل لذلك؛ إذ يقول في التقديم «منذ البداية أرى لزامًا أن أُنبِّه إلى أن هذا الكتاب الصغير لم يُكتب إلا للقراء الجوانيين حقًّا. ومعنى هذا أن القارئ الذي يقف عند حرفية الألفاظ وظاهر العبارات دون أن يحاول أن ينفذ إلى فهم «ما بين السطور» لن يستطيع أن يصحبني في هذه الرحلة الفلسفية الطويلة؛ لأن اللغة المقروءة أو المسموعة ليس في طاقتها أن تنقل كل ما يعتلج في نفس الكاتب أو المُتكلِّم، ما لم يصحبها من جهة القارئ أو السامع ضرب من «التهيُّؤ النفسي» أو التأهُّب الوجداني.»

ولما كُنتُ — لِحُسن الحظ أو لِسوئه — ممن يُلزِمون الكاتب بحرفية ألفاظه — وإلا كان عابثًا حين استخدمها — وكذلك لمَّا كنت — لحسن الحظ أو لسوئه — ممن لا يجدون «بين السطور» إلا بياضًا لا يعني شيئا، ولما كُنتُ أُومِن — لحسن الحظ أو لسوئه — أن ما لا يستطيع الكاتب أن يُجرِيه في «لغةٍ مقروءةٍ أو مسموعة» فليصمت عنه؛ لأنه لا جدوى عندئذٍ من شغل أعين القُراء أو آذان المُستمعِين برموزٍ عاجزةٍ عن نقل ما أراد الكاتب أو المُتكلم أن ينقله. أقول إني لما كنت هذا وهذا وذاك، فسآخُذ بِنُصح مؤلِّف «الجوانية» بألَّا أتبعه في رحلته الفلسفية الطويلة.

•••

ودارت المعركة الرابعة حول موضوع لا تَبلَى جِدَّته ولا يذهب عنه خطره؛ لأنه وثيق الصلة بقضيةٍ فكريةٍ هي من أهم ما يشغل الإنسان في حياته من قضايا؛ ألا وهي قضية الحرية الإنسانية ما مداها؟ أنجعل الفرد الإنساني كِيانًا مستقلًّا بذاته عن سائر الذوات وسائر الأشياء، حتى لَنجعل من كل فرد عالَمًا قائمًا بذاته، فنضمن له أوسع ما يمكن ضمانه من حُرية، أم نجعله تجسيدًا لحقيقةٍ نوعيةٍ تشمله وتشمل سواه من أفراد نوعه، وبذلك لا يُجاوز أن يكون مُمثلًا لطبيعةٍ معينةٍ مفروضةٍ عليه لا يَملِك الفِكاك من حدودها وقيودها؟

وقد أَخذَت الفلسفة الوجودية الحديثة — على اختلاف صورها — بفردية الوجود الإنساني، لتجيء ردًّا على طغيان الجماعة على الفرد وتحكُّمها في ضميره، وهو طغيانٌ كثُرت أشكاله في عصرنا الحديث بما ظهر فيه من ضروب «الشمولية» التي تُلغي وجود الأفراد بالقِياس إلى وجود «الكل» كما هي الحال في الأنظمة الشيوعية والفاشية والنازية.

وكان في مقدمة من اضطلع بالدفاع عن الوجود الفردي الحر الفعال، الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه «الزمان الوجودي»؛ فالوجود عنده نوعان «فزيائي وذاتي» الثاني وجود الذات المفردة، والأول كل ما عدا الذات، سواءٌ أكان ذاتًا واعيةً أم كان أشياء. وليس ثَمَّةَ فارقٌ ضخمٌ بين وجود الغير كذواتٍ واعيةٍ أو كأشياءَ جمادية؛ فكلاهما بالنسبة إلى الذات المفردة من ناحية المعنى سيَّان؛ فالوجود الذاتي وجودٌ مستقلٌّ بنفسه في عزلةٍ تامةٍ من حيث الطبيعة عن كل وجود للغير. ولا سبيل إلى التفاهُم الحق بين ذاتٍ وذات؛ إذ كلٌّ منهما عالمٌ قائمٌ وحده. أمَّا وجود الغير فلا نسبة له إلى الذات إلا من حيث الفعل؛ ولذا لا تنظر إليه الذات إلا من هذه الناحية وتبعًا لها يتحدد موقفها بإزائه (ص١٣٥).

إن الذات الإنسانية المفردة الفريدة التي لا تنظر إلى سائر الذوات الأخرى وسائر الأشياء إلا من حيث هي وسائل تحقق لها إرادة الفعل. أقول إن هذه الذات الإنسانية كائنةٌ حتمًا في زمانٍ مُتعيِّن الحدود له أَوَّل وله آخِر وله امتدادٌ محدودٌ بهذَين الطرفَين، وهي خلال هذه الفترة الزمانية المحدودة لا تنفك مُحقِّقةً بأفعالها ما هو في وُسْعها تحقيقه من إمكانات، لكن الإمكانات لا تَحدُّها حدود. وأمَّا الفعل المُتحقِّق فمحدود؛ ومن ثَمَّ كان سعادة الذات وشقاؤها؛ سعادتها بما تُحقِّقه، وشقاؤها بما لم تُحقِّقه. إن مجرد قولنا إن الإنسان حر يتضمن بالضرورة أنه يختار من بين الممكنات اللامتناهية أفعالًا محدودة العدد؛ أي إن حرية الإنسان قاضية حتمًا على الإنسان الحر بقصور في سعادته؛ لأن السعادة لا تتم إلا بالتحقق الكامل لكل الإمكانات. وإذن «فالوجود شقيٌّ بطبعه، وسيظل شقيًّا؛ لأن الإمكانيات لا متناهية واللامتناهي لا يمكن اجتيازه. فإذا كانت السعادة الكلية لن تتحقق إلا بإحراز الكل، وإحرازُ الكل معناه اجتياز اللامتناهي، واجتيازُ اللامتناهي مستحيل، فالسعادة الكلية — إذن — مستحيلة» (ص٢٢٢).

ولا يزول عن الإنسان شقاؤه إلا بأحد طريقَين؛ فإما أن يجتاز اللامتناهي وهذا مستحيل عليه، وإمَّا أن يُبعد الإمكانات وهذا معناه إبعاد الفعل، وفي هذا مَحوٌ لطبيعته الأصيلة التي هي فِعل قبل أن تكون أي شيءٍ آخر. لقد حاول فلاسفة أن يُحقِّقوا للإنسان سعادةً كاملةً فوضعوه في سرمدية لا تَحدُّها حدود الزمان، لكنهم بهذا إنما يضعونه في حياةٍ خاويةٍ لا معنى لها «وقد لآن للإنسان أن يتخلص من كل هذه الأوهام التي تُقرِّر وجودًا غير الوجود المُتزمِّن بالزمان؛ فهذا واجبٌ لا بد من أدائه إذا كان لنا أن نُعيد للإنسان معناه وقيمته؛ ولهذا فإننا نُقرِّر هنا في صراحةٍ تامة، وبلا أدنى مواربة، أن كل وجود غير الوجود المُتزمِّن بالزمان وجودٌ باطلٌ كل البطلان وأن السرمدية المضادة للزمانية وَهْم من أشنع الأوهام» (ص٢٢٣).

•••

وهذه النتيجة الأخيرة هي التي تقتضي أن يُردَّ عليها بما يُخفِّف من حِدَّتها تخفيفًا يلائم بينها وبين جونا الفكري العام. ولستُ أعرف من تصدَّى للردِّ الجاد من مُفكِّرينا سوى العقاد؛ لأنه — بعد أن حَمِد للوجودية تقريرها لحرية الضمير عند الفرد الإنساني — أخذ عليها خلطها بين وجود الفرد والوجود كله، وظنها أنه لا مكان لحرية الفرد إلا إذا ألغينا حقيقة النوع، على حين أن «وجود النوع الإنساني وجودٌ حقيقيٌّ صادقٌ في الحس كصدق وجود الفرد أو أصدق، ووجود النوع الإنساني حقيقةٌ بيولوجيةٌ من حقائق اللحم والدم، وليس كما يقولون فرضًا من فروض التصوُّر في الأذهان، ولا يتم كيان الفرد نفسه إلا إذا نضِجَت فيه الوظائف النوعية التي يتحقق بها وجود النوع.

واختلاف الأفراد في ملامح الشخصية لا ينفي التشابُه بينهم في الخصائص النوعية ولا يجعل كلًّا منهم عالمًا مستقلًّا بأخلاقه وآدابه ومَواطن اختياره واضطراره» (بين الكتب والناس، ص١٥-١٦).

وليس فيما كتبه العقاد ردٌّ مباشرٌ على الدكتور بدوي، فضلًا عن أنه لا يقع منه موقع النقيض بل هو أقرب إلى من أراد أن يُؤلِّف بين النقيضَين لو كان هناك قولٌ ينقض ما ذهب إليه الدكتور بدوي في مذهبه الوجودي. أضِف إلى ذلك كله أن العقاد يكتب عن الوجودية على إطلاقها، وللدكتور بدوي وجوديته المتميزة من سواها.

لم تكن هذه المعارك الأربع هي كل ما شهده الميدان الفلسفي عندنا من معارك لكنِّي أراها أحق بالإثبات من سواها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤