الفرد، والمواطن، والإنسان

أمَّا إن العالم قِوامه — آخر الأمر — أفرادٌ، فذلك ما لَستُ أشك فيه لحظةً واحدة، بل إنه ليأخذني العجب كلما صادفتُ أحدًا ممن يَشكُّون فيه، حتى لتراني — عندئذٍ — أُوقِن بيني وبين نفسي، أننا لا بد متحدثان عن أمرَين مختلفَين، بلغتَين مختلفتَين. وإن ذهب بنا الظن الواهم أن موضوع الحديث واحد، وأن لغة التفاهم واحدة، فدفاتر المواليد وحدها شاهدٌ حاسمٌ بأننا — عند الدولة وعند الناس — محسوبون أفرادًا، لكل فردٍ منا اسمه الخاص، وساعة ميلاده الخاصة، من والدَين مَعلومَيْن، وعلى كل فردٍ منا — بمفرده — تقَع التبِعة الخُلقية أمام ضميره وأمام الله وأمام الناس، عما يقول وعما يفعل، كما تقع عليه التبِعة الجنائية أمام القانون. وإن المجتمع ليكافئ من أبنائه الفرد المُحسِن من حيث هو فرد، ويُعاقِب الفرد المسيء من حيث هو فردٌ كذلك.

فإذا كان الأمر بهذا الوضوح كله، فكيف — إذن — يقع في الرأي اختلاف؟ أغلب ظني أن موضع الخلاف إنما هو في طريقة فهمنا لكلمة فرد، لا في طريقة سلوكنا الفعلي في مواقف الحياة العملية. وحَسْبُك — لكي تعلم أن أصحاب الرأيَين جميعًا متفقون على سلوكٍ واحد — أن تجد هؤلاء وأولئك معًا يَلجَئون في نشر الرأي الذي يرونه، إلى الكتابة أو إلى الخطابة، أو إلى أية وسيلةٍ أُخرى من وسائل النشر، مما يدل على أن كليهما سواء، في الرغبة في الاتصال بالناس. ولو كانت «الفردية» معناها عند فريقٍ منهما عُزلة تفصِل صاحبها عن المجتمع، لمَا لجا إلى نشر رأيه في هذا المجتمع نفسه، وبنفس الطريقة التي يلجأ إليها الفريق الآخر.

إن ثَمَّةَ اختلافًا جوهريًّا بين منطق الفكر القديم ومنطق الفكر الحديث، في تصوُّرهما «للفرد» وهو اختلافٌ لو ألقينا عليه الضوء، لأمكن أن تتقارب وجهتا النظر بين «الفرديِّين» وغير الفرديِّين؛ فقد كانت الفردية قديمًا تعني ذاتًا غير منقسمة، كأنما هي كيانٌ قائمٌ بذاته، لا يعتمد في وجوده على سواه، حتى ذهب بعض الفلاسفة إلى أن هذه الفردية لا تتحقق ولا تكتمل إلا في الوجود كله مأخوذًا على أنه وحدةٌ واحدة، ولكن من الفلاسفة كذلك من كان يُعدِّد الذوات المفردة دون أن يجد في هذا التعدُّد تناقضًا. على أن هؤلاء وأولئك لتركيز اهتمامهم على النواة التي يمكن تصوُّرها مستقلةً بذاتها، لم يُوجِّهوا إلا قليلًا من اهتمامهم إلى «العلاقات» التي تربط الذوات بعضها ببعض. وإنه لمن الفوارقِ الرئيسية بين الفكر الحديث والفكر القديم، أن الفكر الحديث كاد يَرُدُّ كل شيء وكل فرد إلى مجموعة من علاقات، على خلاف الفكر القديم الذي كان أَميَلَ إلى النظر إلى الشيء المعيَّن أو إلى الفرد المُعيَّن وكأنه وحدةٌ قائمةٌ برأسها. خذ — مثلًا — فكرة «الذَّرَّة» قديمًا وحديثًا؛ فربما اتفق مُفكرٌ قديمٌ (مثل ديمقريطس) ومُفكِّرٌ حديثٌ على أن العالم مُركَّب من ذرات، لكن الاختلاف بينهما يبدأ حين تناقُشهما في معنى «الذرة»؛ فعندئذ تجد التصوُّر القديم هو أن الذرَّة الواحدة كيانٌ مُصمَتٌ مستقلٌّ قائمٌ بذاته؛ هي «جوهرٌ فردٌ» كما كان يُقال. وأمَّا التصوُّر الجديد فهو — كما نعلم — يُخلخِل الذرَّة إلى كهاربَ سالبةٍ وكهاربَ موجبة، أهم ما فيها «العلاقات» التي تربطها بعضها ببعض.

هكذا نجد الفكرة عن «الفردية» قد تغيَّرَت؛ فبعد أن كانت تدل على وحداتٍ مُستقلٍّ بعضها عن بعض كِيانًا ووجودًا، أصبَحَت تدُلُّ على «علاقات»، من مجموعها يتكون هذا الذي نُسمِّيه فردًا، دون أن يصح القول بأن الفردية قد زالت وانمحت؛ إذ الذي تغير هو المعنى الذي نفهم به الكلمة. وعلى أساس المعنى الجديد، الذي نفهم به الفردية على أن قِوامها علاقات، نجد أن «الأفراد» — أو إن شِئتَ فقل «المفردَات» — تَتفاوَت سَعةً وضيقًا؛ فإسماعيل الطالب بكلية الآداب «فرد»، ثم كلية الآداب بكل طلابها «فرد»، ثم جامعة القاهرة بكل ما تضم من كليات مختلفة «فرد»، ثم القاهرة بكل ما تزخر به من الأشياء والأحياء «فرد». وهكذا وهكذا تستطيع أن تُوسِّع من نطاق «الفرد» توسعةً قد تنتهي إلى ضم الإنسانية كلها في حقيقةٍ واحدة.

ولكي تفهم ما نعنيه بقولنا إن «الفرد» في التصوُّر الحديث هو مجموعة علاقات، اختر من شِئتَ من أفراد، وحاول أن تُوسِّع علمك به لتُلِم بحقيقته، تجد أنك — عندئذٍ — قد أصبَحتَ أمام شبكةٍ متشابكة الخيوط من علاقات، تمتد بكلٍّ في كل اتجاه؛ فعلمك بهذا «الفرد» يزداد إذا عَلِمتَ ابنَ من هو؟ ومَن أفراد أسرته؟ وأين يسكن؟ وماذا يعمل؟ إلى آخرِ ما يتصل به من أشخاص ومن أمكنة ومن أشياء، إذا استَطعتَ أن تصل في هذا كُلِّه إلى آخر.

إنها تفصيلات وتفصيلات لا أَوَّل لها ولا آخر، كل تفصيلةٍ منها تنطوي على علاقةٍ تربط «الفرد» بشيءٍ مُعيَّنٍ أو بِشخصٍ مُعين، أو بنقطةٍ معينةٍ من مكان أو بلحظةٍ معينةِ من زمان، ومن مجموع هذه التفصيلات يتكون «هذا الفرد»؛ لأن هذه التفصيلات هي تاريخ حياته؛ هي «سيرته» التي سارها خطوةً خطوة، ويومًا يومًا، لكن مجموعة التفصيلات التي تُؤلِّف سيرة حياة، هي مجموعةٌ فريدةٌ متفردة، يستحيل عمليًّا ونظريًّا، أن تتكَرر مرتَين في فردَين على طُول الزمان وامتداده وعَرض المكان واتساعه.

ومن هنا كان «تفرُّد» الفرد الواحد هو بما لا يُشاركه فيه فردٌ آخرُ من حيث مجموعه الكلي، ولكن من هنا كذلك كان ارتباط الفرد بسواه حتمًا وضرورة؛ إذ ما دامت حقيقته مجموعة «علاقات»، فلا بد أن تكون هنالك أطرافٌ أخرى يتعلق بها، وهذه الأطراف الأخرى قد تكون أشياء — فتكون ما نُسمِّيه بالبيئة الطبيعية — وقد تكون أُناسًا من أهلٍ وجيرةٍ وأصدقاء وغير ذلك، ومن هؤلاء من هو حي، ومنهم من مات فأصبح جزءًا من تاريخه، ومن هؤلاء وأولئك تتكون بيئته الاجتماعية، ثم تمتد البيئتان الطبيعية والاجتماعية إلى حدودٍ معلومةٍ فيكون الوطن، وإلى غير حُدودٍ فيكون العالم وأُسْرته الإنسانية بأَسْرها.

كلامٌ واضحٌ وبسيطٌ إلى حد السذاجة، لكنه يُزيل أكثر الخلاف بين الرأيَين في «الفردية» و«الجماعية» فالقائلون بالأولى يقصدون ما في مجموعة العلاقات المُكوِّنة للفرد الواحد، من تَفرُّد لا يَتكرَّر في سواها، والقائلون بالثانية يقصدون ما في قوام الفرد الواحد من علاقات تربطه بسواه، والجانبان — كما ترى — مرتبطٌ أحدهما بالآخر أشد ارتباط وأوثقه. ولقد كان هذا الارتباط لتنفصم عراه، لو أمكن للفرد أن ينعزل انعزالًا تنقطع معه كل صِلاته بالآخرِين، لكن تصوُّر هذه العزلة — مجرد التصوُّر — أمرٌ محال. وإذن تُصبِح المسألة تفاوُتًا في درجة التوشُّج والتشابُك؛ فمن الناس من تزداد وشائجه وصِلاته، ومنهم مَن تقل في حياته هذه الوشائج والصِّلات. على أن هذا التفاوُت لا يعني إلا تَفاوُتًا في غزارة الحياة وخصوبتها بين الأفراد.

•••

فإذا اتفقنا على أن العالم قِوامه أفراد — مع اتفاقنا على أن الفرد ينحل إلى شبكة من علاقاتٍ تربطه بالأشياء والأحياء من حوله — فقد اتفقنا في الوقت نفسه على أن لكل فرد محلًّا من مكان ولحظةً من زمان، بهما تتعين حدوده ويتحدد وجوده؛ فليس منا من يعيش خارج مكانه وزمانه، مهما شطح به الوهم وطار الخيال؛ لأن وهمه هذا أو خياله هو «حالةٌ» نفسيةٌ أو ذهنيةٌ قائمةٌ راهنة؛ فهو دائمًا «هنا» و«الآن»، إذا أعاد الماضي بذاكرته، فقد أصبح الماضي عنده «حاضرًا»، وإذا تَشوَّف المستقبل بخياله، فقد ارتد المستقبل «حاضرًا» كذلك.

ومعنى ذلك أننا «محليون» ليس لنا من «المحلية» فكاك، فإذا تحدث منا متحدث، أو كتب كاتب، جاء ما يتحدث به أو ما يكتبه مرتبطًا بمحله الذي يعيش فيه، وبلحظته التي يحياها، والرابطة هي اللغة التي يستخدمها في حديثه أو كتابته — على أقل تقدير — إن لم تكن كذلك هي المضمون الذي تحمله تلك اللغة في طيها، لا، بل إن هذا المضمون نفسه ليتأثر باللغة التي تحمله تأثرًا شديدًا؛ لأن اللغة ليست مجرد ترقيماتٍ خاوية، بل هي أوعيةٌ مليئةٌ بخبرة أصحابها على مر تاريخهم؛ ومن هنا كانت ترجمة المضمون من لغة إلى لغةٍ أخرى ضربًا من المحال، اللهم إلا على سبيل التقريب (وتخرج من هذا الحكم العام حقائق العلم التي تُصاغ في رموزٍ غيرِ لغوية). وقل أية جملةٍ شِئتَ، مهما بَلغَت بساطة مضمونها، ثم انقل هذا المضمون إلى لغةٍ أخرى، تجدك قد اضطُرِرتَ إلى نقصٍ هنا وزيادة هناك، مما تقتضيه «ثقافة» تلك اللغة الأخرى. قل مثلًا: «الكتاب على المنضدة» ثم انقل هذا المعنى إلى الإنجليزية The book is on the table، تجد هنا كلمة دالة على «الكينونة» — هي كلمة is — لا يناظرها شيء في التركيب العربي، ولكي تعلم خطورة هذه الإضافة التي قد تبدو لك تافهةً يسيرة، فلتعلم أن وراء هذه الكلمة من الدلالات الثقافية ما صَدرَت فيه — ولا تزال تصدر — مُؤلَّفاتٌ بعد مُؤلَّفات، فما بالك إذا لم تكن الجملة المراد نقلها بهذه البساطة كلها، وكانت مما يحمل في ألفاظه وفي طريقة تركيبه انفعالاتٍ وعواطف؛ أعني مما يحمل شعرًا أو عقيدة؟

نعم إننا محليون، ليس لنا من المحلية فكاك، بحكم اللغة التي نتحدث بها، وما يتعلق بألفاظها من مضموناتٍ ثقافيةٍ تتصل بتاريخنا وبواقعنا. ولا غرابة أن تكون اللغة أقوى العوامل جميعًا، التي تتحدد بها «القومية»؛ لأنه إذا اختلف قوم عن قوم في اللغة، فقد اختلفا كذلك في الحصيلة الثقافية التي ينظران بها إلى الحياة بأَسْرها. وسؤالنا الآن هو هذا: مع اعترافنا بأن الترجمة من لغةٍ إلى لغةٍ أخرى هي دائمًا نقل على وجه التقريب فحسب، فهل يمكن لجماعةٍ من الناس أن تنقل ثقافتها إلى جماعةٍ أخرى، عن طريق الترجمة؛ بحيث تصبح الثقافة المنقولة في لغتها الجديدة مثيرةً لاهتمام الجماعة المنقول إليها، وإذا كان الأمر كذلك، فما هي الشروط التي لا بد من تَوافُرها ليكون للثقافة المنقولة هذه القوة؟ ونُعيد هذا بعبارةٍ أبسطَ فنقول: هل يمكن للفكر والأدب المحليَّين أن يُصبحا فكرًا وأدبًا عالميَّين؟ ومتى يكون ذلك؟

•••

إنه ليبدو لي أن المسألة المطروحة هنا تكون أوضح ظهورًا، إذا وضعناها في أصغر نطاقٍ ممكنٍ لها، فنقول: متى يتحدث الإنسان عن نفسه، فإذا بحديثه هذا يثير اهتمام الآخرِين، حتى وإن كان هؤلاء الآخرون من بني قومه الذين يتكلمون لغته ويتثقفون بثقافته؟ أحسب أن اهتمام هؤلاء الآخرِين يتحرك لحديث المتحدث، إذا كان لهذا الحديث علاقةٌ بحياتهم على أية صورة من الصور؛ لأنه بغير هذه العلاقة، يصبح المتكلم وكأنه يتكلم بلغةٍ يفهمها هو وحده، وإنما يكون لحديث المتحدث علاقة بحياة السامع من أحد وجهَين، أو من كلا الوجهَين معًا؛ أولهما أن يجيء الحديث كاشفًا عن حقيقة صاحبه، فيعلم السامع أي نوع من الناس يكون هذا المتحدث، ليعلم — بالتالي — كيف يعامله في الحياة المشتركة بينهما. وثانيهما أن يجيء الحديث كاشفًا للسامع عن حقيقة نفس السامع ذاته؛ بحيث يُخيل إليه أن المتحدث إذا تحدث عن إنسان ما، فهو إنما كان يتحدث في الوقت نفسه عن السامع؛ لما بينهما من تشابُه في الطبع والتكوين. ومن هنا نستطيع أن نصوغ التعميم الآتي: إذا تكلم متكلمٌ عن حالةٍ محليةٍ خاصة، ثم وجد الناسُ — من قومه ومن سائر الأقوام — أن هذه الحالة برغم محليتها وخصوصها، هي حالتهم كذلك، فإن كلام المتكلم حينئذ يُجاوز محليته وخصوصه، ليُصبِح عامًّا مشتركًا في كشفه عن جانبٍ من طبيعة الإنسان، أنَّى كان وأينما كان.

لقد يَسهُل على الإنسان أن يتحدث عن نفسه، أو عن سواه، حديثًا يروي به ما شاء من أحداث، لكن العسير هو أن يجيء حديثه هذا حاملًا من دقائق الحياة الفردية ما يُجاوِز نطاق الفرد المروي عنه، ليصبح ذا دلالةٍ إنسانيةٍ عامة؛ فما أهونَ على الإنسان أن يروي عن أحد الأفراد أنه تزوج من امرأةٍ أحبَّها وأحبَّته، لكن ما أصعبَ أن يقع الراوي على حادثةٍ يتزوج فيها الابن من أمه وهو لا يعلم أنها أمه، وكل ما يعلمه أنها امرأةٌ أحبها (قصة أوديب)؛ فعندئذٍ تمتلئ الحادثة بالدلالة الإنسانية؛ لأنها تكشف عن طبعٍ أصيلٍ في جِبلَّة الإنسان، وهو هذه العلاقة الغريزية بين الابن وأمه. أقول: ما أصعبَ أن يقع الراوي على حادثةٍ كهذه، إمَّا من الواقع المحيط به، أو من خلق خياله المُنبني على علمه بسر الحياة الإنسانية؛ ذلك السر الذي قد يُخفيه الواقع الظاهر وراء أقنعة من التحريمات الاجتماعية؛ فها هنا لا تكون الحادثة المروية منحصرةً في حدود مكانها وزمانها، بل تُجاوز تلك الحدود لتصبح كاشفة عن الطبع المستقر الراسخ بغض النظر عن المكان والزمان.

وما أَهونَ على الإنسان الراوية أن يروي عن أبٍ يُحب بناته حبًّا يُحفِّزه إلى قسمة أملاكه بينهن قبل أن يستوفي الأجل، ولكن ما أصعب أن يقع هذا الراوية على حادثةٍ يَرُدُّ فيها البنات على مكرمة الوالد بمثل ما ردت بنات الملك لير على صنيعه (في مسرحية الملك لير لشيكسبير) من نكرانٍ للجميل نكرانًا أبرز الطبيعة الإنسانية على حقيقتها. إن الراوية الذي لم يُرزَق موهبة الأديب في قدرته على النفاذ إلى أعماق الطبيعة الإنسانية، قد يخدعه ما يدور على الألسنة من عباراتٍ مصكوكةٍ جاهزة، يتناقل فيها الناس ما بين الوالد والولد من حُبٍّ مُتبادَل، لكن الأديب الموهوب النافذ البصر، هو الذي ينفخ هذه القشور الظاهرة على السطح، لينظر إلى الراسخ وراءها، أهو حبٌّ صافٍ أم هو حبٌّ مشوبٌ بكراهية، وعطفٌ مختلطٌ بالمُنافسة والحسد والنفور؟ أيًّا ما كانت الحال، فإن من يكشف للناس عن هذا السر الإنساني الراسخ وراء السطح الظاهر، فإنما يكشف لهم عن حقيقةٍ لا تتقيد بمكانها وزمانها، بل تتعدى ذلك إلى التعميم الشامل الذي يكشف عن فطرة الإنسان من حيث هو إنسان.

وما أهون على الإنسان الراوية أن يروي عن عالمٍ فذٍّ من علماء الطبيعة، كيف يعيش حياته العلمية في وقار العلماء، حتى ليحسبه تلاميذه وخلصاؤه أنه إلى خصائص الملائكة أقرب منه إلى خصائص البشر، لكن ما أَصعبَ أن يقع هذا الراوية في حياة هذا العالم على حقيقةٍ عجيبة، وهي احتفاظه في مكتبته ببعض الكتب التي تُخاطب الغريزة في أحط دركاتها، ليُنفِّس عن نفسه بها أثناء خلوته (اقرأ قصة «العبقري والإلهة» لأولدس هكسلي)؛ ففي الكشف عن مثل هذا الضعف وأمثاله في طبيعة البشر، ما يُبصِّر الإنسان بحقيقة نفسه، كائنًا من كان ذلك الإنسان. وإني لأذكر قصةً رواها لي صديقٌ عن أستاذَين من أجلِّ أساتذته — ومن أجلِّ من نعرف من أساتذة — خُيِّل إليه عنهما، حين لم يكن يراهما إلا في قاعات الدرس، وبين الكتب وفي غمار البحث العلمي؛ خُيِّل إليه أنهما صنف من الكائنات يستغني عما يضطر إليه سائر الناس من طعام وشراب، حتى كان ذات يوم، رآهما معًا — وكانا صديقَين مُتلازمَين — يمُصَّان القصب في جانب من الطريق العام، فهاله ما رأى لأنه لم يكن يتوقعه، لكنها الطبيعة الإنسانية بما تنطوي عليه من رفعة وانخفاض ومن قوة ومن ضعف، إذا كَشَف لنا عنها كاشف، جاء كشفه هذا متخطيًا لحدود المكان والزمان.

لماذا انتَشرَت حكايات ألف ليلة وليلة، في أرجاء العالم أجمع، لا تنحصر في عصر بعينه، ولا في أمة بذاتها، ما لم تكن قد بَسطَت في حوادثها كثيرًا مما تنطوي عليه النفس البشرية حين تنساب في أحلام يقظتها فيما هي محرومةٌ منه؟ إن هذه النفس — لا سيما إبَّان المراهقة — إذا كانت تعاني فقرًا في العيش، وحرمانًا من لذائذه، راحت تُمزِّق بخيالها جدران القصور، لترى هناك الموائد قد مُدَّت بأشهى الطعام، والأماسي قد زَخرَت بأجمل النساء، فإذا وقع قارئٌ مراهقٌ — بحكم السن أو بحكم الطبع — على هذه السَّرَحَات التي لا تصُدُّها حوائل، لا من المجتمع ولا من الطبيعة، فبساط الريح ينقله أينما أراد، والخاتم السحري ينقل إليه كل ما شاء، فإذا هو يحيا حياةً يتمناها ولا يجدها؛ فإنه مستمتع بما يقرأ، بغض النظر عن الجنس والوطن واللغة والعصر الذي يعيش فيه.

فتحدث كيف شِئتَ عن نفسك، أو عمن حولك، حديثًا تغترفه من الواقع الفعلي، أو من خلق الخيال، فأنت بالضرورة «محلي» في نوع التفصيلات التي تسوقها، لكنك تُجاوز هذه المحلية إذا كشَفتَ للناس عما لم يكونوا قد رَأَوه من أنفسهم، ثم يلمحون فيه الصدق بمجرد روايته لهم.

•••

وليس الأمر في ذلك مقصورًا على الأدب، بل إنه ليشمل سائر ضروب الفكر والفلسفة والسياسة والفن. ولنبدأ حديثنا بالفن من تصوير ونحت؛ فلئن كان الأدب مرتكزًا على اللغة، التي هي بدورها مشحونة بالخبرة المحلية إلى الدرجة التي يَتعذَّر نقلها كاملة إلى أية لغةٍ أُخرى، وبذلك لا يُتاح للأدب أن يتخطى حدوده المحلية تخطيًا كاملًا؛ إذ لا بد أن يبقى منه جزءٌ لصيقٌ بأرضه وبأهله، فإن الفن التشكيلي من نحت وتصوير مُتحرِّر من هذا القيد؛ لأنه لا يحتاج من متذوقه إلا إلى الرؤية المباشرة، وبلمحةٍ بصريةٍ نافذة، يجوز للفن المحلي أن ينتقل كاملًا إلى المتذوق من أي موطنٍ جاء ومن أي عصر. إن كل صورة وكل تمثال مما تركه لنا الفنان المصري القديم، يُجسِّد الروح المصرية الفرعونية تجسيدًا لا تخطئه حتى النظرة السريعة العابرة، فتنتقل قيمه الفنية كلها إلى الإنسان الرائي، لا تحول دون ذلك حواجز المكان والزمان. وكذلك قل في الفن الإسلامي، وما ينطبع به من طابعٍ يُميِّزه في كل جزء منه. وكذلك قل في كل فنٍّ أصيل، من فنون الشرق والغرب والشمال والجنوب؛ فالحدود المحلية تذوب ذوبانًا بحيث يصبح — بالإضافة إلى كونه حاملًا لكافة الخصائص المحلية — فنًّا يتذوقه كل إنسان. وهل حال شيء دون أن يستوحي الفن الحديث الفن الإفريقي بكل ما فيه من بساطة ورمز وتجريد؟ ولك أن تقول ذلك وأكثر منه بالنسبة إلى الموسيقى؛ فقد يكون العزف إفريقي المنشأ، فيرقص له الإنسان النشوان في كل مكان.

والفلسفة على ما فيها من موضوعية وتجريد يُحررانها من قيود مكانها وزمانها، حتى ليصغي إلى الفيلسوف سكان الأرض جميعًا، وفي كل العصور بغض النظر عن موطنه وعصره، فإنها مع ذلك متأثرةٌ بمكانها وزمانها تأثُّرًا بجعل الفلسفة في إنجلترا غيرها في فرنسا أو ألمانيا أو أمريكا أو الروسيا. أُريد أن أقول إن الفيلسوف برغم موضوعيته في النظر، مُتأثرٌ بطابع قومه في التفكير، ومع ذلك فلأنه يعكس في فلسفته خصائص العقل الإنساني من إحدى نواحيه، فهو مقروء في غير أرضه وفي غير أمته. وإذن فالعبرة دائمًا هي في الوقوع على جذرٍ عميقٍ من جذور الفطرة الإنسانية، ثم دقَّة التعبير عنه وصدق التصوير والتحليل، وذلك وحده كفيلٌ للأثر الفكري أو الأدبي أو الفني بأن يُجاوز حدود الإقليمية إلى حيث الإنسانية كلها، مع احتفاظه بكل خصائص الإقليم.

وانتقِلْ من مجال الأدب والفن والفلسفة إلى مجال الفعل، تجِد الظاهرة نفسها. ولنأخذ مثلًا من ضروب الفعل ثورات الشعوب؛ فكم من شعبٍ ثار داخل إقليمه على هذا أو ذاك من أوضاعه التي أثارت فيه الغضب، ولكن ما كل ثورةٍ تُجاوز حدود إقليمها إلى غيره من الأقاليم؛ وذلك لأن من الثورات ما ليس يحمل من القيم إلا ما يهم أهل إقليمه وحده، كأن يثور الثائرون على حاكم بعينه، حتى إذا ما تبدل حاكم بحاكم انتهى الأمر، لكن من الثورات كذلك ما هو مُترعٌ بالقيم الإنسانية، التي من أجل تحقيقها قامت، والقيم الإنسانية لا تخص إقليمًا دون إقليم؛ فسرعان عندئذٍ ما تطغى موجتها عبر حدود وطنها، لتجتاح غيره من الأوطان التي تتعطش للقيم الجديدة ذاتها، وكانت تنتظر القيادة لتنفجر، ولا فرق في هذه الحالة بين أن تجيء القيادة الثورية من داخل أو من خارج. وما الرسالاتُ السماوية في الديانات إلا ثوراتٌ من هذا القبيل، جاءت لتستبدل قيمًا بقيم، وضربًا من الحياة بضرب؛ ولذلك لم تقتصر رسالةٌ منها على إقليمها، بل امتدت كلها حتى شمِلَت رقعةً فسيحةً من الأرض، في هذا الاتجاه أو ذاك. وكذلك الحال بالنسبة للثورات السياسية؛ فالثورة الفرنسية، والثورة الروسية، والثورة المصرية كلها من ثورات القيم، التي لا تكاد تنبثق في مكان، حتى تجد الأشياع في كل مكان.

•••

ليس في الجمع بين المحلية والعالمية سِرٌّ مُلغِز؛ فسِره مكشوفٌ واضح، وهو العثور على أصلٍ من أصول الفطرية البشرية — في قوتها أو في ضعفها — من حيث الذوق، والشعور، أو منطقية الفكرة، أو القيم، وفي كل حالة من هذه الحالات ينضح الكاتب أو الفنان أو السياسي أو الفيلسوف، من بيئته المحلية؛ إذ لا يسعه غير ذلك، ثم يتوقف الأمر في عالمية الإنتاج على مضمونه؛ فهل يمس فطرة الإنسان في أصل من أصولها؟ وإن الفطرة البشرية لهي من الخصوبة والغنى بحيث لا يستنفدها الأدب والفكر في أمةٍ واحدةٍ أو في عصرٍ واحد؛ فهي قد تعلو إلى معارج الملائكة في روحانيتها وصفائها، وقد تَسفُل إلى مهاوي الشياطين في خبثها وخستها وشرها. وإنه ليكفينا من المُفكِّر أو الأديب لمحةٌ صادقةٌ واحدة، يضيء لنا بها جانبًا مظلمًا من هذا العالم الرحيب، فإذا ما فعل ذلك ووُفِّق فيه، اجتاز من فَوره حدود مكانه وزمانه ليُرحِّب به العالم أجمعِين.

لكنني أتساءل ها هنا: لماذا نقرأ نحن هنا في الوطن العربي لأدباء العالم ومُفكِّريِه — وبخاصة أوروبا وأمريكا الشمالية — أكثر ألفَ ألفِ مرة مما يقرأ ذلك العالم لأدبائنا ومفكرينا؟ لماذا اجتاز أدبهم وفكرهم حدود المحلية ليصبحا أدبًا وفكرًا عالميَّين، ولم يَجتَزْ هذه الحدود أدبُنا وفكرُنا، حتى ليقرأ بعضنا لبعضنا وكأننا نتهامس في غرفةٍ مغلقة؟ لقد وُفِّقنا في ثورتنا السياسية والاجتماعية أن نجعلها ثورةً إنسانيةً تتأثر بها بلادٌ كثيرةٌ جدًّا في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، كأننا كنا نثور لهم ولنا في آنٍ واحد، لكونها ثورةً تقوم على قيم ومبادئ، فلماذا يخوننا التوفيق في دنيا القلم؟ ألِأن الأدب والفكر عندنا لم يستطيعا لمسة الإنسان من حيث هو إنسان، واقتصرا على المُواطن وعلى الفرد من جوانبهما التي لا تعمق حتى تمس جذور الفطرة المشتركة العامة؟ أم إنها هي اللغة التي نكتب بها، والتي قلما تجد من يترجمها إلى لغاتٍ أوسَع انتشارًا؟ إننا نحن الذين نترجم لأنفسنا من اللغات الأخرى إلى لغتنا العربية، فهل يطلب منا كذلك أن نترجم لأنفسنا من لغتنا العربية إلى اللغات الأخرى؟ يخيل إليَّ ألَّا مَنَاص لنا من أن نفعل ذلك، برغم أن الأقرب إلى الطبيعي أن ينقل عنا الراغبون فينا، كما هي الحال دائمًا في حركات النقل الثقافي صغراها وكبراها على السواء.

على أن ترجمة آثارنا الأدبية والفكرية ليست هي الوسيلة الوحيدة في إخراجنا من المحلية إلى العالمية؛ لأن ثَمَّةَ من الوسائل الأخرى ما يمكن اللجوء إليه، من أهمها نقل الفنون التي لا يحتاج تذوقها إلى لغة تترجم أو لا تترجم، فثقافتنا المحلية التي فيها بعض القدرة على أن تكون رسالةً عالميةً، مبثوثةً في ثمرات التصوير والنحت، وفي عدد لا بأس به من الأفلام السينمائية والتليفزيونية، حيث تكفي رؤية البصر، وفي بعض معزوفاتنا الموسيقية والغنائية التي يكفي لتقويمها إنصات الأذن. وإذن فلزامٌ علينا أن نعرض على العالم كل ما يمكن عرضه لنُحطِّم حواجز المحلية التي تحصُرنا في نطاق أنفسنا أو تكاد.

إن من حقنا الطبيعي أن نُثبت ذواتنا، في إنتاج يحمل خصائصنا المحلية، بكل ما فيها من ألوانٍ تُميز الأفراد من حيث هم أفراد، وتُميِّزهم من حيث هم مواطنون، لكن خطوةً ثالثةً وأخيرة لا بد من اجتيازها لتكون لنا رسالةً فكرية وهي أن نطلع العالم على ذلك الجانب من ذواتنا، الذي يتجلى فيه «الإنسان» من حيث هو إنسانٌ ذو فطرةٍ عامةٍ شاملة، وذو قيمٍ ومبادئَ تسعى إلى تحقيقها الإنسانية في سيرها الدائب نحو الكمال، لا تعرف لنفسها في ذلك قيودًا من مكان ولا حدودًا من زمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤