من هو المثقف الثوري؟

استوقف نظري فيما قَرأتُ منذ قريب، قولان مختلفان، لكنهما يلتقيان عند نقطةٍ واحدة، فيها من الخصوبة والثراء ما يُوحي للفكر المتأمِّل بمعانٍ كثيرةٍ غزيرة، من بينها معنًى قد يكون هو الفصل الحاسم عند تحديدنا للمُثقَّف الثوري: من ذا يكون؟ فمتى يكون المثقف مثقفًا وكفى، ومتى يكون مثقفًا وثوريًّا معًا؟ أمَّا أحد القولين فقد صادَفتُه خلال قراءتي لديوان ابن عربي «ترجمان الأشواق» الذي تولى فيه ابن عربي بنفسه شرح شعره، ليُبيِّن مَراميَه في الرموز التي لجأ إلى استخدامها في ذلك الشعر. وقد أورد في غضون هذا الشرح حديثًا للنبي عليه السلام يقول فيه: «مَا ابتُلِيَ أَحدٌ من الأنبياء بمثل ما ابتُلِيتُ.» مشيرًا بذلك — فيما يقول ابن عربي — إلى رجوعه من حالة الرؤية — رؤية الحق — إلى دنيا الناس ليُخاطِب فيهم من ضل ليهديه سواء السبيل؛ أي إن رؤية الحق لم تكن عنده هي كل الطريق، وإنما يُكمِلها أن يُغيِّر الحياة على هذه الأرض بما يجعلها تعلو إلى الكمال الذي رأى.

وأمَّا القول الثاني فقد وَجَدتُه عند محمد إقبال، حينما عاوَدتُ قراءة كتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام» إذ وجدته يستهل الفصل الخامس من هذا الكتاب بهذه العبارة: «صَعِد محمد النبي العربي إلى السموات العلى، ثم رجع إلى الأرض، قسمًا بربي لو بَلَغتُ هذا المقامَ لما عُدتُ أبدًا.» وهي عبارة قالها — فيما يحكي محمد إقبال — وليٌّ مسلمٌ عظيم، هو عبد القدوس الجنجوهي، ثم يمضي إقبال في القول بأنه من العسير — في ظنه — أن نجد في الأدب الصوفي كله ما يُفصِح في عبارةٍ واحدةٍ عن مثل هذا الإدراك العميق للفَرقِ السيكولوجي بين نمطَين مختلفَين من أنماط الوعي؛ أمَّا أحدهما فهو النمط الذي تتميز به حالة النبوة، وأمَّا الآخر فهو ذلك الذي تتميز به حالة التصوف؛ ففي هذه الحالة الثانية — حالة التصوف — ترى المتصوف إذا ما بلغ شهود الحق، تَمنَّى ألَّا يعود إلى دنيا الناس، وحتى إذا هو عاد — كما لا بد له أن يعود — جاءت عودته غير ذات نفعٍ كبيرٍ للناس؛ لأنه سينحصر في ذات نفسه، مُنتشِيًا بما قد شَهِد، ولا عليه بعد ذلك أن تتغير أوضاع الحياة من حوله أو لا تتغيَّر. وأمَّا في حالة النبوة فالأمر على خلاف ذلك؛ لأن مشاهدة الحق يتلوها رجوعٌ إلى الناس في دنياهم، لا ليقف النبي مما يجري حوله موقفًا سلبيًّا غير مكترث، بل ليغامر فيه بما يُغيِّره التغيير الذي يُخلِّصه من أوجه الفساد، ويصعد به نحو مثال الكمال كما ارتسم في إدراكه الواعي لحظة الشهود.

إن إدراك الحق عند الصوفي هو غاية يُوقَف عندها. وأمَّا عند النبي فهو بمثابة يقظةٍ تصحو بها كوامن نفسه، حتى لتتحول تلك الكوامن بين جوانحه إلى قُوًى تَهزُّ أركان العالم هزًّا ليستفيق من سباته، فيبدل قيمًا باليةً بقيمٍ جديدة؛ فكأنما عودة النبي من حالة الشهود إلى حالة الفعل، هي بمثابة مقياسٍ يقيس شيئَين في وقتٍ واحد؛ يقيس مدى ما تنطوي عليه المُثل العُليا التي شُوهِدَت في حالة الرؤية الروحية، من قدرةٍ على التطبيق والإصلاح، ثم يقيس مدى ما تستطيعه الإرادة القوية والعزيمة الماضية من مواجهة الصعاب حتى تُزيل حياةً فَسدَت لتقيم مكانها حياةً جديدةً منشودة.

هذان هما القولان اللذان صادَفتُهما فيما قرأتُ منذ قريب، واللذان يلتقيان عند نقطةٍ واحدةٍ مشتركة، هي التفرقة بين رجلَين؛ رجلٍ يرى الحق فتكفيه الرؤية، ورجلٍ يرى الحق فلا يستريح له جنبٌ حتى يُغيِّر الحياة وفق ما رأى.

ولئن كنت قد وجدت هذه التفرقة مقصورةً على التمييز بين حالتَي التصوف والنبوة، فلَستُ أرى ما يمنع من التوسُّع في التطبيق؛ بحيث نجعلها تفرقةً بين المثقَّف الذي ينعم بثقافته ثم لا يُغيِّر من مجرى الحياة شيئًا، والمثقَّف الذي لا ينعم بثقافته إلا إذا استخدمها أداةً لتغيير الحياة من حوله، وفي هذه الحالة الثانية، يكون المثقَّف مثقفًا وثائرًا معًا.

•••

لكن هذه التفرقة تحتاج إلى مزيد من التحديد؛ لأن «الثقافة» كلمةٌ خَلقَها من خَلقَها من صُناع الكلام، لتنقلب على خالقها نفسه شيطانًا مريدًا تُغالِبه فتغلبه؛ فهو هو الذي صنعها، لكنه بعد صنعها عجز عن تحديدها وتقييدها، وكلما حاول، وحاول الناس معه، أن يُحددوها ويقيدوها، اتسَعَت فيها رُقعة الغموض واشتد الظلام؛ كأنها المارد الذي انبثق من قُمقُمه، لينشر دخانًا يملأ صفحة السماء قتامةً وسوادًا، لكننا — لكي نمض في حديثنا الراهن — سنفرض أنها كلمةٌ يُقصَد بها حصيلة العلم والمعرفة التي حَصَّلها الإنسان بالموهبة أو بالكسب أو بهما معًا، وعلى هذا الاعتبار يكون عالم الرياضة وعالم الكيمياء وغيرهما من رجال العلم أفرادًا من زُمرة المثقَّفِين، كما يكون المؤرخ والشاعر والفيلسوف. فهل يجوز لنا أن نُقارِن بين عالمَين من علماء الرياضة؛ أحدهما درس الرياضة ولم يُطبِّقها في بناء الجسور، والآخر درسها ثم طبَّقها. أقول هل يجوز لنا أن نُقارِن بين هذَين العالمَين، فندعو ثانيهما دون أولهما بأنه مثقفٌ ثوريٌّ لأنه طبَّق ما قد تَعلَّم، بمثل ما نُقارِن بين فيلسوفَين أو عالمَين من علماء الاجتماع أو الاقتصاد؛ أحدهما عرف واكتفى، والثاني عرف وطبَّق معرفته على مشكلات الحياة الجارية ليحلها، فنصف هذا الثاني — دون الأول — بأنه مثقَّف وثوري معًا؟ أحسب أن ثَمَّةَ اختلافًا ظاهرًا بين الحالتَين؛ حالة الرجلين من رجال الرياضة والعلوم الطبيعية، وحالة الرجلَين من رجال العلوم الإنسانية؛ بحيث تكون صفة «الثورية» حين تُضاف إلى المثقَّف، أكثر انطباقًا على ميدان العلوم الإنسانية منها على ميدان العلوم الطبيعية، فإذا صح هذا، كانت التفرقة التي أسلفناها، لنُميِّز بها بين «المثقَّف» المكتفي في ذاته بثقافته، و«المثقَّف الثوري» الذي يُجاوِز ذاته بثقافته ليَمسَّ بها مجرى الحياة من حوله، تفرقةً مقصورة — في الأعم الأغلب — على أصحاب الثقافة الإنسانية؛ لأنها هي التي تشتمل على القيم، والقيم هي التي يُصيبها التغيُّر حين يُقال إن ثورةً قامت وغيَّرَت وجه الحياة.

هذا — إذن — وجهٌ من وجوه التحديد، لكنه وحده لا يكفي؛ لأن الذي يُغيِّر وجه الحياة وفق أفكارٍ مُختزنةٍ في رأسه، قد يُغيِّره راجعًا به إلى وراء، لا دافعًا به إلى أمام. وأظن ألَّا خلاف على أن صفة «الثورية» حين تُضاف إلى المثقف، إنما يُراد لها أن تُقصَر على من يدفع الحياة الإنسانية إلى الأمام، تُقابلها صفة «الرجعية» لمن يُريد من أصحاب المعرفة أن يَرُدَّ الحياة إلى الوراء، لكننا ما دمنا ننشد الدقة الدقيقة في استخدام كلماتنا، فلا بد لنا من البحث عن الفرق بين «الأمام» و«الوراء»؛ لأن هذه التفرقة لا تكون مفهومةً إلا بالنسبة إلى هدفٍ معلوم. فإذا كان هدفي — وأنا ساكن القاهرة — هو الوصول إلى الإسكندرية، فالسير إلى الشمال سير إلى الأمام، والسير إلى الجنوب سير إلى الوراء، لكن قد يكون هدفي هو أسوان، فعندئذ يكون السير إلى الشمال سيرًا إلى الوراء، والسير إلى الجنوب سير إلى الأمام. وإذن فاستخدام «الأمام» و«الوراء» لا يتم معناه إلا مقرونًا بالهدف المنشود، فما هو الهدف الذي يجعل التغيير الذي يُحدثه المثقف في الحياة تقدُّمًا إلى الأمام، أو رجوعًا إلى الوراء؟ يُخيَّل إليَّ أن الفيصل هنا هو مسار التاريخ؛ فلو وقعنا في مسار التاريخ على خصائصَ بعينها، كان تأييدها وتعميقها دفعًا بالحياة إلى أمام، وتعويقها دفعًا بالحياة إلى الوراء. ويُخيَّل إليَّ كذلك أن ثَمَّةَ طائفةً من ملامح، لا اختلاف عليها، هي التي يجاهد التاريخ في تحقيقها، كالحرية لأكبر عدد ممكن من الناس، والعلم لأكبر عدد ممكن من الناس، وهكذا، لقد كان هنالك حرية دائمًا، لكن الفرق هو في عدد من يتمتعون بها، وقد كان هنالك علم دائمًا، لكن الفرق هنا أيضًا هو في عدد من يتاح لهم تحصيله، والتاريخ سائر نحو توسيع الرقعة من فردٍ واحدٍ إلى قلة إلى كثرة، إلى كل أفراد البشر إذا كان ذلك مستطاعًا، وبهذا يتحدد معنى «المثقف الثوري» فيما أرى: هو من أدرك مُثلًا جديدةً للحياة الإنسانية، ثم لم يقف عند مجرد الإدراك، بل حاول تغيير الحياة وَفقَ ما أدركه، شريطة أن يجيء هذا التغيير في الاتجاه الذي يسير فيه التاريخ، من حيث توسيع الرقعة البشرية التي تتمتع بما كان مقصورًا على القلة من جوانب القوة والحرية والعلم وسائر أوجه الكمال كما ارتَسمَت في تصوُّر الإنسان منذ أقدم عصوره.

•••

على أن المُثُل الجديدة التي ترتسم في ذهن المُثقَّف المعتزل فيكفيه ارتسامها، والتي يحاول المثقف الثوري أن يجاوز بها حدود ذهنه إلى حيث العالم الخارجي ليُرغِم هذا العالم على أن ينقاد للمُثل الجديدة وأن يَتشكَّل على أساسها، ليست مجرد رغباتٍ وأمنياتٍ يرغب فيها المثقف لنفسه ويتمناها لذاته، وإلَّا لمَا استحقت أن تُسمَّى «مثلًا» أي «نماذج» تُحتذى. ولَكَم وَددتُ في هذا الموضع من الحديث أن كانت تكون لي القدرة في اللغة العربية لأجد لفظتَين متقاربتَين في الجَرْس، متباينتَين في المعنى، أقابل بهما كلمتين في اللغة الإنجليزية هما: ideals, ideas، فالأولى «أفكار» ترتسم في ذهن صاحبها، والثانية «أفكار تتحول إلى نماذج» لصاحبها ولغير صاحبها على السواء. وها هنا يكمن الفرق البعيد بين ما يتمناه الإنسان لنفسه ولحياته بحيث لا يعنيه أن يتغير من الناس سواه، وبين ما يتمناه للناس جميعًا، على تفاوُت الدوائر في الاتساع؛ فأحيانًا يكون جميع الناس هم أبناء الوطن الواحد، وأحيانًا أخرى يكون جميع الناس هم أفراد الأسرة البشرية كافة. إن «الفكرة» لا تكون «مَثلًا أعلى» إلا إذا آمن بها صاحبها إيمانًا يدعوه إلى تطبيقها على نفسه أولًا، ثم إلى العمل الجاد في تطبيقها على سائر الناس؛ فلو كُنتُ — مثلًا — أتمنى لنفسي منزلًا أملكه وأسكنه، كانت هذه فكرةً مُبطنةً برغبة، وأمَّا إذا تمنيتُ لكل أسرة على أرض الوطن أن تملك مسكنًا، فعندئذٍ تتحول الفكرة مثلًا أعلى، وبعد ذلك قد أقف عند ارتسام هذا المثل الأعلى في صفحة ذهني، لكنني قد أُجاوِز ذلك إلى محاولة التنفيذ والتحقيق بكل ما عندي من إرادةٍ مُصمِّمة، وها هنا أُصبح «المثقف الثوري» الذي يرى المثل الأعلى بذهنه ويسعى إلى تجسيده في الحياة الفعلية بإرادته.

وما أبعد ما يختلف به «المثقفون الثوريون» فيما يحاولون تطبيقه على حياة الناس من أفكار، رأوها، ثم عاشوها، ثم هموا بتحويل مجموعة الناس على أساسها. وهاك بعض الأمثلة المُوضِّحة نسوقها من تاريخ الفكر الفلسفي بصفةٍ خاصة:

سقراط هو مثلنا الأول، نسوقه نموذجًا للمثقف الثوري الذي تتمثل فيه الخصائص التي بينَّاها في الأسطر السابقة. هاله أن يرى الناس يسلكون في حياتهم على غير مبدأ، فما يفعله هذا عن إيمان قد يفعل نقيضَه آخر وعن إيمان كذلك، كأنما أمور العيش مرهونةٌ بأمثال هذه النزوات المجنونة الهوجاء، وكأنما أمور العيش هذه يستحيل عليها أن تنطوي تحت أحكامٍ عقليةٍ يتساوى فيها جميع الناس على حدٍّ سواء؛ فهل يجوز لرجلَين أن يذهب كلٌّ منهما على هواه في زوايا المثلث كما يكون مقدارها؟ كذلك — فيما اعتقد سقراط — ينبغي أن تكون حالهم في أمور الحياة الجارية، فإمَّا أن تكون الفكرة صوابًا، على أساسٍ علميٍّ عقلي، فيأخذ بها الجميع، وإمَّا أن تكون خطأً فيرفضها الجميع. تلك إذن هي الصورة التي ارتَسمَت في ذهن سقراط وكان يمكن أن يَقنَع بها ويستريح، لكنه بدأ بنفسه أولًا وأخضع تلك النفوس إخضاعًا، لا هوادة فيه، لأحكام العقل في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ من صغائر الحياة وكبائرها. وهنا أيضًا كان يمكن أن يرضى بذلك ويستريح، لكن صوتًا قويًّا أخذ يُدوِّي في فؤاده، ألَّا يستريح وألَّا يطمئن، حتى يحمل سائر الناس على قَبول ما قد ارتسم في ذهنه، فطَفِق يجوب في الطرقات وبين المتاجر، ويطوف بالأصدقاء ويجمع حوله التلاميذ، يناقش ويناقش، ويحاور ويحاور، حتى يتبين له وللناس جميعًا وجوب أن يكون زمام الأمر كله لمبادئ العقل؛ أعني وجوب أن تُؤسَّس الحياة على العلم، فلا نزوة ولا رغبة ولا عاطفة أجدى على الإنسان من عقله؛ فلئن كانت التفرقة متعذرة بين نزوة ونزوة، ورغبة ورغبة، وعاطفة وعاطفة، ففي ميدان العقل وحده لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ها هنا يكون الفرق واضحًا بين الصواب والخطأ، بين الهدى والضلال.

غير أن الحياة بدفعة العاطفة سهلةٌ مُيسَّرة، وأما الحياة مقيدةً بقَيدِ العقل ولِجامِه فصعبةٌ عسيرة. ما أَهونَ أن تحب شيئًا فتأخذه وأن تكره شيئًا فتنفر منه وتتركه، لكن ما أَشقَّ أن يصرفك العقل عن شيء تحبه، وأن يُرغمك العقل على شيءٍ تكرهه؛ ولذلك جاءت دعوة سقراط إلى احتكام الناس إلى عقولهم في أمور الحياة اليومية مُضنِيةً مُرهِقة، فما استراح الناس عندئذٍ إلا بعد أن جرَّعوه السم ليموت وتموت معه دعوته، فينصرفوا من جديدٍ إلى دفعة النزوة والهوى بغير وازعٍ من العقل ولا رادع من العلم؛ فلو كان سقراط «مثقفًا» وكفى لنَعِم بفكرته وعاش، لكنه أبى إلا أن يكون «مثقفًا ثوريًّا» يحاول تغيير الناس وتبديل الحياة، فمات ضحية دعوته، لكنه مات سعيدًا برسالته.

ومَثلُنا الثاني للمثقف الثوري هو أفلاطون، ارتَسمَت في ذهنه صورةٌ عقليةٌ للدولة المُثلى كيف تكون بحيث تجيء دولةً قائمةً على دعامة العدل، وأخذ في محاورة «الجمهورية» بفصل القول في صورة هذه الدولة العادلة، بادئًا ببحثٍ مستفيضٍ — على طريقة المحاورة — عن معنى العدل الذي يريده، متناولًا بالتحليل معنًى بعد معنى، وزعمًا في إثر زعم، حتى ينتهي إلى ما ظنه هو معنى العدل المقبول عند العقل، وهو أن تُتاح الفرصة لجميع الأفراد، بحيث يُوضع كل فرد في المكان الذي يلائم طبيعته واستعداده وقدراته، قائلًا في ذلك إن الدولة هي فردٌ كُتب بخطٍّ كبير، فما يكون في الفرد الواحد يكون في الدولة، إلى آخر ما ذهب إليه من تفصيلات في رسم الصورة المُثلى، مما أحسبه قد بات معرفةً شائعةً عند أوساط المُثقَّفِين.

ولو اكتفى أفلاطون بهذه الصورة العقلية للدولة يَتصوَّرها ويرسمها كتابةً مفصلة، لعددناه «مثقفًا» يرى «الفكرة» ويُحلِّلها ويصل إلى النتائج التي يطمئن إليها، فيسترخي ويستريح، لكنه كان «مثقفًا ثوريَّا» بالمعنى الذي حدَّدناه، وهو أن يلتمس طريق التنفيذ لفكرته التي ارتآها، فما أرسل إليه ديونيسيوس الشاب، الذي آل إليه الحكم في سرقوسا — بجزيرة صقلية — بعد أبيه. أقول ما أرسل إليه هذا الحاكم الشاب يدعوه لتطبيق فكرته على دولته، حتى لبى الدعوة فرحًا؛ لأنه أراد أن يشهد فكرته مجسدةً في حياة، ولكن الملك الشاب سرعان ما ضاق بالفلسفة وقيودها، وكاد يبطش بالفيلسوف لولا أن الفيلسوف قد لاذ بالفراد عائدًا إلى أثينا. وتمضي أعوام، ويعود ديونيسيوس مرةً أُخرى إلى دعوة أفلاطون، ليحاول تطبيق فكرته محاولةً ثانية. ويقبل فيلسوفنا الدعوة برغم ما كاد يَتعرَّض له من أذًى في الدعوة السابقة؛ وذلك لشدة رغبته في أن يُجاوز بفكرته حدود ذهنه إلى حيث العالم الحي، لكن الذي حدث للحاكم الشاب من ضيقٍ في الزيارة الأولى، عاوده في الزيارة الثانية. وفَرَّ أفلاطون من تعذيبٍ أوشك هذه المرة أيضًا أن يناله من الحاكم العابث، كما فَرَّ في الدعوة الأُولى.

والحاكم الشاب هنا في ضيقه، هو كشعب أثينا في حالة سقراط حين ضاق الشعب بدعوته إلى الأخذ بأحكام العقل دون نزوات الهوى؛ ففي كلتا الحالتَين «مثقف ثوري» يُدرك الفكرة، ولا يُريد قصرها على نفسه ليتركها حبيسة رأسه، بل يخرج بها إلى الحياة الواقعة، فيجد الناس على عناد وتشبُّث بما ألفوه، فيكون الصراع وما يؤدي إليه الصراع من غلبةٍ هنا أو هناك؛ فقد تكون الغلبة لصاحب الفكرة فتتغير الحياة برغم عبيد العادات المألوفة، أو قد تكون الغلبة لهؤلاء على صاحب الفكرة، فتختفي الفكرة حتى ينهض لها على مجرى التاريخ داعيةٌ جديد.

وفي ظني أن الغزالي — في تاريخ الفكر الإسلامي — هو خير الأمثلة التي تُضرب للمثقَّف الثوري؛ لأنه غيَّر بفكره حياته وحياة الناس من بعده لعدة قرون؛ فليس الفرق بين «المثقف» و«المثقف الثوري» فرقًا في الكم؛ بحيث يكون الثاني أغزر إنتاجًا من الأول، أو أكثر فكرًا منه، بل هو فرق في «الكيف» لأن الأول والثاني معًا كليهما «يعلم» لكن الثاني وحده هو الذي ينقل العلم إلى عمل وسلوك؛ فالجاحظ وأبو حيان التوحيدي يُمثِّلان قمة ما وصل إليه «المثقف» العربي في العصور القديمة، بمعنى الثقافة العام، الذي لا يتخصص في فلسفة أو لغة أو فقه أو نحو ذلك، لكن لا الجاحظ ولا أبو حيان كان ثوريًّا في ثقافته؛ لأنك تقرأ لهما فتزداد «علمًا» لكنك لا تدري كيف تُغيِّر من أوضاع حياتك وَفْق هذه الزيادة العلمية. وأمَّا الغزالي فشأنه غير هذا؛ لأنك تقرأ له، فإذا أَخذتَ بوجهة نظره، كان لا بد لك من تغيير أسلوب الحياة والنظر؛ فها هو ذا رجلٌ يقول لك إن التجربة النفسية — لا المنهج العقلي — هي طريقك إلى رسم خطة الحياة، وإن الحياة المُثلى هي الحياة الروحية العملية في آنٍ؛ فالروحانية بغير عملٍ خَواء، والعمل بغير روحانية جفافٌ ويأس. وأَلَّف الغزالي كتاب «الإحياء» ليبث به في «علوم الدين» حياةً جديدةً يتحقق بها ما قد أَوصَلَته إليه تجربةٌ نفسيةٌ مارسها وعاناها.

ونعبر القرون لنصل إلى تاريخنا الثقافي الحديث، فنرى الأمثلةَ واضحةً للمثقف المعتزل، والمثقف الثوري. وأبدأ بجمال الدين الأفغاني، الذي هو «سقراط» حياتنا الفكرية الحديثة، يطوف كما كان يطوف سقراط، ويُجادل ويُناقش كما جادل سقراط وناقش، ويخلق التلاميذ والأتباع كما خلق سقراط تلاميذه وأتباعه، يشعل الروح كما أشعل، وُيوقظ النفوس كما أيقظ، نعم إن رسالة الأفغاني لم تكن هي رسالة سقراط، لكن الأداء واحد في الحالتَين؛ كانت رسالة سقراط — كما أسلفنا — أن يكون الاحتكام في أمور الحياة كلها إلى العقل في تجريده المنطقي الخالص. وكانت رسالة الأفغاني أن يكون الاحتكام إلى القومية الدينية المفهومة على ضوء العقل، لا على ضلال الخرافة، لكن طريقة الأداء عند الرجلَين متشابهة؛ فكلاهما مثقف ثوري؛ لأن كليهما لم يَكفِه أن «يعرف» لنفسه، بل أراد أن يعرف للناس من حوله.

ويجيء بعد الأفغاني إمامنا محمد عبده، فيكون هو «أفلاطون» حياتنا الفكرية الحديثة؛ فهو تلميذ الأفغاني كما كان أفلاطون تلميذًا لسقراط، وهو يستقر للكتابة والدرس والمحاضرة بعد تطواف أستاذه الأفغاني، كما استقر أفلاطون للكتابة والدرس والمحاورة بعد تطواف أستاذه سقراط. كان مستقر الإمام هو الأزهر، وكان مستقر أفلاطون هو الأكاديمية. كلاهما يتصور بعقله حياةً جديدة، ويجعل وسيلته إلى إقامتها تعليم الناس وتنوير العقول. لم يكن الإمام محمد عبده يدرُس ما يدرُسه ليزداد فقهًا لنفسه، بل كان يفعل ذلك ليزداد فقهًا بما يُغيَّر دنيا الناس، كان يفعل ذلك ليصلح وليبني ولينشئ وليعلم وليربي، لم يكن «مثقفًا» وكفى، بل كان «مثقفًا ثوريًّا».

وقل هذا في قاسم أمين، وفي لطفي السيد؛ فالأمر فيهما أوضح من أن يحتاج إلى شرح وتوضيح. الأول يكتب ليُغير أوضاع الحياة بالنسبة إلى نصف الشعب؛ المرأة. والثاني يكتب ليُؤصِّل حياةً سياسيةً على أصولٍ ديمقراطيةٍ. كلاهما مُثقَّفٌ ثوري، يُحصِّل العلم، لا ليضعه في رأسه كما تُوضع الآثار في المُتحَف، بل ليتخذ منه أداة فعل وعمل وتطوير وتغيير.

•••

إن التفرقة بين «المثقف» و«المثقف الثوري» هي نفسها التفرقة بين «العلم للعلم» و«العلم للمجتمع». نعم، إنه لا مِراء في أن العلم في حد ذاته قيمة؛ فمن يعلم خيرٌ ممن لا يعلم، مهما تكن مادة علمه، لكن العلم الذي من شأنه أن يُعالج مشكلات الناس في حياتهم اليومية، فيه علمٌ وزيادة، فيه قيمة العلم مضافًا إليها قيمة التطبيق. والحق أني — بحكم ما أذهب إليه في فلسفة المعرفة بصفةٍ عامةٍ — لا أعترف بعلمٍ لا تكون فيه قابلية التطبيق، بل لا أدري كيف يكون ذلك، اللهم إلَّا في حالةٍ واحدة، وهي أن يجعل الدارس من نفسه «ذاكرة» تحفظ ما قاله الأولون، وعندئذٍ لا يكون ثَمَّةَ «علم» بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، بل يكون في رأس الدارس «مكتبة» يُرجَع إليها كما يُرجع إلى الكتب المرصوصة فوق الرفوف.

العلم علم بشيء، ولا يتم لك مثل هذا العلم إلا إذا أَلمَمتَ بذلك الشيء حلًّا وتركيبًا؛ ومن ثَمَّ تصبح لديك القدرة على التصرُّف فيه تصرفًا تخدم به أغراضك؛ ولذلك قيل إن «العلم قوة» أعني أن العلم «قدرة»؛ قدرةٌ على تغيير جزء من العالم الخارجي — جزءٍ كبيرٍ أو جزءٍ صغيرٍ — تغييرًا يُصيِّره بيئةً صالحةً لحياة أفضل، قدرةٌ على أن أجعل من الماء مصدرًا للري ولتوليد الكهرباء وتسيير السفن، وعلى أن أجعل من الهواء أجنحةً للطيران، وأسلاكًا تنقل الصوت والصورة من مكانٍ إلى مكان. ليس العلم حالةً بَكماءَ خَرساء، نقف بها إزاء الدنيا مُتفرِّجِين لما يحدث، دون أن نُغيِّر بها تيَّار الحوادث ونُوجِّهه كيفما نشاء؛ فما لم يكن العلم «قوة» أو «قدرة» على إخصاب الأرض، وإزالة المرض، وتنقية الماء والهواء، وتيسير الانتقال، وغير ذلك من إقامة جوانب الحياة، فماذا يكون؟

هذا ما أذهب إليه في فلسفة المعرفة بصفةٍ عامة، حتى لأرفض «التأمُّل» بالمعنى الذي يُركِّز المُفكِّر به فكره في لا شيء — وأعني لا «شيء» بالمعنى الحرفي لكلمة شيء — فكل علمٍ مُتعلِّقٌ «بشيء»، «بظاهرة»، «بمشكلة» بموقف من مواقف الحياة، لنبقيه على حاله إذا كان صالحًا لأغراضنا، أو لنُغيِّره بما يخدم تلك الأغراض. وإذن فعندي أن المثقف لا يتم تكوينه إلا بأن يكون مُثقفًا يستخدم ثقافته في حياته. على أن أصحاب الثقافة يعودون بعد ذلك فيتفاوتون؛ فمنهم من يقصر استخدام ثقافته على حياته الخاصة، ومنهم من يتأرَّق وكأنه يرقد على شوك، ما لم يستخدم تلك الثقافة في رقعةٍ أوسعَ من حياته الخاصة، رقعةٍ قد تمتد حتى تشمل الوطن، وقد تُمعِن في الامتداد لتشمل الإنسانية كلها؛ فعندئذ يكون مثل هذا الرجل أَجدرَ الناس بصفة «المثقف الثوري».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤