تيارات الفكر والأدب في مصر المعاصرة

لم يكن قد بقي على ختام الحرب العالمية الأولى إلا وقتٌ قصير، حين نظم عباس محمود العقاد قصيدته العظيمة «ترجمة شيطان»، التي جاءت — كما يقول الشاعر نفسه عنها في مقدمةٍ نثريةٍ قدَّمها بها — لفحةً من نار الحرب، وغيمةً من دخانها؛ فكأنما جاءت هذه القصيدة — والعشرة الأعوام الثانية من هذا القرن تدنو من ختامها — لِتُصوِّر حالةً من اليأس، استولت على شعبٍ ظل يُطالِب بحريته السياسية من الحاكم المستبد تارة، ومن المستعمر البريطاني الدخيل تارة، فجاءت الحرب العالمية الأولى، لتكمَّ الأفواه، وتكتم الأنفاس حينًا؛ إذ لم تكن الدولة المستعمرة لِتأذن لمُفكرٍ أو أديبٍ بالمُضي فيما كان قد بدأه المُفكِّرون والكُتاب منذ احتَلَّت بريطانيا مصر سنة ١٨٨٢م، من حملاتٍ يُشعلون بها النفوس ويُحرِّكون العقول، طلبًا للحرية. ولما أن طالت أعوام الحرب، أخذ القلق يَدبُّ في أنفس الشعب الصامت إلى حين، الصابر بمطلبه حتى تزول محنة الحرب. وجاءت قصيدة العقاد تعبيرًا عن هذا القلق، وهي قصيدةٌ تستطيع أن تستبدل فيها بالمواجهة التي تمت بين الله والشيطان، مواجهةً أخرى بين الحاكم والمستعمر من ناحية، والمُفكِّر الحر من ناحيةٍ أخرى، لتتحول القصيدة بين يديك إلى ترجمةٍ لكل مُفكرٍ حرٍّ لا يريد لحريته أن تَحُدها قيود.

فإذا كانت العشرة الأعوام الأولى من هذا القرن، قد شَهِدَت طائفة من أعلام الأدب والفكر، تصوغ للناس قضية الحرية من بعض نواحيها: الإمام محمد عبده بمقالاته الإصلاحية وبدفاعه عن الإسلام، يُوضِّح كيف يمكن أن يلتقي تراثنا الفكري والديني مع روح العصر التي يسودها العلم، وهو بهذا قد وضع أمامنا المشكلة الرئيسية في حياتنا الثقافية كلها خلال أعوام هذا القرن، وإلى يومنا هذا، وهي: كيف نُوحِّد بين تراثنا القومي والإسلامي من جهة، وعوامل الفكر والحضارة في هذا العصر من جهةٍ أخرى، توحيدًا يدمج الجانبَين معًا في وحدةٍ عضويةٍ واحدة، تحمل الطابع المحلي والطابع العالمي في آن معًا. وقاسم أمين بكتابَيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» يمُد من نطاق الحرية المنشودة حتى تشمل مع الحرية السياسية حريةً اجتماعيةً للمرأة المغلولة بقَيد السنين. وأحمد لطفي السيد الذي أصدر صحيفة «الجريدة» سنة ١٩٠٧ لتكون منبرًا للفكر العصري الحر، ولسانًا يطالب بالاستقلال وبالدستور. وكان لطفي السيد ممن عَمِلوا على إنشاء الجامعة الأهلية سنة ١٩٠٨، إيمانًا منهم بضرورة الروح العلمية الجامعية لتدعيم حركة التحرُّر الشامل. أقول إنه إذا كانت العشرة الأعوام الأولى من هذا القرن قد حَفلَت بطائفةٍ من المُفكرِين والأدباء، ينشرون في الناس دعواتهم صريحة في الصحف والكتب، فإن العشرة الأعوام الثانية التي شَهِدَت هول الحرب العالمية الأولى، والتي كان من نتائجها السياسية في مصر، أن أُعلنَت الأحكام العرفية ثم أُعلنَت حماية بريطانيا لمصر، قد اضطرَّت رجال الفكر والأدب أن يُغيِّروا من أَوجُه نشاطهم: أحمد لطفي السيد يعتزل في الريف ليترجم إلى العربية كتاب الأخلاق لأرسطو، وطه حسين ينصرف إلى دراسته الأكاديمية لينجز رسالته عن «ذكرى أبي العلاء» و«محمد حسين هيكل» يكتب أول قصةٍ طويلةٍ في أدبنا الحديث وهي قصة «زينب»، والعقاد ينظم القصائد المُعبِّرة عن ذات نفسه ليبلغ بها الذروة في قصيدة «ترجمة شيطان».

•••

دعوات إلى الحرية السياسية والحرية الاجتماعية، لبِثَت تنبعث من أقلام المُفكرِين والأدباء، منذ القرن التاسع عشر، وأخذت آثارها تتراكم في النفوس، حتى انفَجرَت ثورةٌ سياسيةٌ عقب الحرب العالمية الأولى مباشرةً سنة ١٩١٩م ثم لم تلبث هذه الثورة إلا قليلًا، حتى اتسَعَت رُقعتُها لتصبح ثورةً تَتعدَّى حدود السياسة والحرية السياسية والاستقلال عن بريطانيا، وتكون ثورةً فكريةً عامة، تشمل الأدب بكل فنونه، والنقد، والفلسفة، والتعليم، وغير ذلك من جوانب الحياة العقلية. وحسبنا في هذا البعث الشامل، أن نلتمس على الطريق معالمه الرئيسية، متمثلةً في مؤلفات أو في حركاتٍ تشير إلى الاتجاه الجديد.

وأَوَّل ما نُصادِفه من معالم الطريق، في العشرة الأعوام الثالثة من هذا القرن، كتاب «الديوان في الأدب والنقد» الذي أخرجه العقاد مع صديقه إبراهيم عبد القادر المازني سنة ١٩٢١، ليُوجِّها به حملةً نقديةً في مجال الشعر، يبغيان بها التحرُّر من قيود التقليد، والدعوة إلى شعرٍ جديد، يكفل لصاحبه التعبير الحُر عن ذات نفسه الفريدة، حتى لا تنطمس معالمها في سواها فينمحي وجودها. وإن الشاعر بتقريره لوجوده الفردي المتميز، لَيضع حجر الأساس في بناء الحرية الإنسانية المنشودة.

ولكي نرى الصورة في مجال الشعر على حقيقتها، ينبغي أن نَذكُر حالة الضعف الشديد التي أَلمَّت به في النصف الأول من القرن التاسع عشر، نتيجةً لعصور الظُّلمة إبَّان الحكم التركي، وهي عصورٌ امتدت ثلاثة قرون، إذا عددنا الحملة الفرنسية على مصر، واستيلاء محمد علي على حكم البلاد، نهايةً حقيقيةً — إن لم تكن نهايةً شرعيةً — للعهد التركي. فلمَّا انسلخ من القرن التاسع عشر ثلثاه، ونُكبَت البلاد بالاحتلال البريطاني فوق نكبتها بالأُسرة الحاكمة، اشتدت الرغبة عند المصريِّين في أن يلتمسوا ملامح شخصيتهم الضائعة، وكانت أولى خطواتهم نحو هذا الهدف، أن يُعيدوا إلى الأذهان كل ما يُذكِّرهم بمجدهم الماضي؛ ومن ثَمَّ نَشأَت حركةٌ في الشعر، يتخلص بها أصحابها من ركاكة العهد التركي، ويعودون إلى النماذج العربية القديمة في قوتها ورصانتها، وساعدهم على ذلك، ما كانت المطبعة العربية قد أَخرجَته خلال القرن الماضي من دواوين الشعراء القدامى؛ فرَأَوا أمامهم نماذجَ تُحتذى، ذلك فضلًا عن أساتذةٍ للأدب في الأزهر، تولَّوا حركة الإحياء الأدبي ونخص منهم بالذكر الشيخ حسين المرصفي بكتابه «الوسيلة الأدبية» الذي أوضح فيه بأسلوبٍ جديدٍ قواعد اللغة والنحو والبلاغة والعَروض، وعَرضَ هذه القواعد في نماذجَ مختارةٍ من الأدب القديم.

وكان محمود سامي البارودي هو الرائد الأول في حركة الإحياء الشعري ثم تبِعه أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وخليل مطران الذي وفد من سوريا ليقيم في مصر. وعلى أيدي هؤلاء جميعًا عاد الشعر العربي إلى سابق مجده، مع تغذيته بغذاءٍ من الثقافة الأوروبية التي اكتسبها بعض هؤلاء الشعراء من صلتهم بالغرب وثقافته.

لكن هذه الحركة — برغم قوتها — كانت حركة «إحياء» للقديم، ولم تكن في صميمها «تجديدًا» يساير العصر الحديث؛ ولهذا سرعان ما جاء جيلٌ جديد، يتهمها بالقصور عن بلوغ ما ينبغي للشعر الجديد أن يبلغه. ومن أهم الخصائص التي كانت تنقص شعر هؤلاء في نظر الجيل الجديد، وحدة القصيدة من حيث الشكل، وذاتية التعبير من حيث المضمون، بعد أن كانت القصيدة العربية تجعل لكل بيتٍ منها كِيانًا مستقلًّا، ولا تهتم بأن تنسكب أبيات القصيدة الواحدة في تجربةٍ شعوريةٍ واحدة، وكذلك بعد أن كان الشاعر العربي يُعبِّر عن الجماعة قبل أن يُعبِّر عن ذات نفسه الفريدة، أو يدفعه طغيان الحكم واستبداد المال أن ينفق جهده الشعري في مدحٍ وهجاء وفي تهنئةٍ ورثاء، بحسب ما تقتضيه المناسبات.

وكان رُوَّاد الحركة الجديدة التي لم تُرِد أن يقف التجديد عند حد إحياء القديم، بل أرادت أن تُضيف قيمًا جديدة من شأنها أن تئول بالمجتمع إلى التحرُّر من قيوده جميعًا، لا فرق في هذه القيود بين ما يجيء مع إحياء التراث، وما يجيء عن ضعف الحياة في عصورها المتأخرة. أقول إن رواد حركة التجديد هذه، كانوا ثلاثة هم: عبد الرحمن شكري، والعقاد، والمازني، الذين أخذوا ينظمون الشعر خلال العشرة الأعوام الثانية من القرن، على النهج الذي كانوا يُروِّجون له، لكن أنصار الإحياء — برغم هذا — لبثوا يسدون أمامهم الفضاء، فكان لا بد من زلزلةٍ عنيفةٍ تهُدُّ البناء القائم، فكان أن صدر الكتاب الذي ذكرناه: «الديوان في الأدب والنقد» يُوجِّه به صاحباه (العقاد والمازني) حملةً مدمرةً نحو أمير الشعراء عندئذٍ «أحمد شوقي» لعلهما بذلك أن يُزيلا عن الوجود الأدبي صفحة، ليفتحا للناس صفحةً جديدة.

وكأنما سُنة الحركات الفكرية أن تسير في خطواتٍ مثلَّثة؛ فمن طرفٍ إلى نقيضه إلى مرحلة تجمع بين النقيضَين؛ فرأينا رُوَّاد المدرسة الجديدة في الشعر يقفون موقفًا عنيدًا من شعراء البعث. لكن العقد الرابع من هذا القرن لم يَكَد يبدأ، حتى ظهرت جماعة أطلقت على نفسها «جماعة أبولو»، وكان صاحب فكرتها والداعي لها أحمد زكي أبو شادي. وقد تألَّفَت هذه الجماعة الأدبية في خريف عام ١٩٣٢م، لتجمع بين أعضائها كل من أراد من الشعراء؛ فلا تفرقة هنا بين مذهب ومذهب من مذاهب الشعر؛ فرأينا من أعضائها من يجري مع التقليد في شعره — مثل رجال حركة البعث أنفسهم: شوقي، ومطران — كما رأينا من أعضائها كذلك من انتَحَوا بالشعر منحًى جديدًا مُتأثرِين بما قرءوه لشعراء الغرب — والرومانسيِّين منهم بصفةٍ خاصة — وعلى رأس هؤلاء إبراهيم ناجي (وهو طبيب) وعلي محمود طه (وهو مهندس). ولم تكن هذه آخر الحركات في تطوُّر الشعر، لكننا سنرجئ المرحلة الجديدة التالية إلى موضعٍ آخر من هذا المقال.

•••

ومن معالم الطريق فيما بين الحربَين، حركةٌ عقلانية، نزع أصحابها نحو الاحتكام إلى منطق العقل قبل أي شيءٍ آخر. وقد تمثَّلَت هذه الحركة في كثيرٍ من البحوث والكتب والمواقف، منها كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لِمُؤلِّفه علي عبد الرازق (١٩٢٤م) فقد كادت مصر حينئذٍ أن تتورط بدافع من أطماع حاكمها (الملك أحمد فؤاد) في أن يجتمع في شخص ذلك الحاكم لقب «الخليفة» — خليفة المسلمِين — إلى جانب لقب «الملك»، وذلك بعد أن ألغت تركيا الخلافة من عندها — وكان سلاطين تركيا هم أيضًا خلفاء المسلمِين — على أَثَر ثورتها السياسية الاجتماعية بزعامة مصطفى كمال. وإنما أراد ملك مصر أن يرث الخلافة بعد زوالها عن الأتراك، لتجتمع في يدَيه رياسة الدين ورياسة الدولة معًا، وفي هذا الجمع خطورةٌ كبرى على حركة التقدُّم الذي كانت مصر قد أخذت بأسبابه؛ لأن تستُّر الحاكم وراء قناعٍ من الدين، من شأنه أن يُطلِق يدَيه في فرض ما شاء من قيود، بحجة أنها قيودٌ تفرضها مبادئ الإسلام؛ فكان لا بد أن يظهر منا مفكرٌ باحث، ليقول للناس عن دراسة وتحقيق، إن الإسلام لا يُحتِّم أن يكون للدولة خليفة، وما أغنانا عن الوقوع في مشكلاتٍ كالتي وَقعَت فيها أوروبا حين جمعت الدين والدولة في يدٍ واحدة!

وفي سنة ١٩٢٥م أُنشئَت جامعة القاهرة، وأُدمجَت فيها الجامعة الأهلية التي كانت قد نَشأَت سنة ١٩٠٨م، كما أُدمجت فيها كذلك مجموعة المعاهد العليا التي كانت تتفاوت أعمارها بين قرنٍ كاملٍ لبعضها — مثل كلية الطب — وبعض القرن لبعضها الآخر؛ فجاء إنشاء جامعة القاهرة علامةً من أبرز العلامات الدالَّة على نهوض الشعب بثورةٍ عقليةٍ تُتمِّم الثورة السياسية، ولم يكد يمضي عامٌ على إنشائها، حتى أَخرَجَت المطبعة للدكتور طه حسين كِتابَه «في الأدب الجاهلي»، الذي ظهر وكأنه إعلانٌ بقيام منهجٍ علميٍّ جديد، يترسَّم خطوات المنهج الديكارتي في البحث؛ فيفرض الخطأ فيما توارثناه من معرفة، حتى يَثبُت صوابه بالبرهان العلمي، صوابًا لا يرتكز على تَحيُّزٍ سابقٍ لفكرةٍ معينة. فإذا كان المعلوم الشائع المُتوارَث هو أن الشاعر الفلاني قد عاش في العصر الفلاني ونظَم القصائد الفلانية، فلنفرِض بادئَ ذي بَدءٍ أن لم يكن لهذا الشاعر وجود؛ ومن ثَمَّ لا يكون هو ناظم القصائد المنحولة له، ثم نمضي في البحث على هذا الأساس الحر، لننتهي إلى ما يُؤدِّي إليه السير المنهجي من نتائج. وإنها لقفزةٌ طويلةٌ نحو البعث الفكري، أن تدعو الناس إلى ضرورة الشك في صحة النصوص الموروثة، قبل أن تُعيد إليها الصواب عن طريق البحث العقلي المُجرَّد.

وإنه لمما يدل على سريان الروح العقلية إبَّان الفترة التي نتحدث عنها أن نظرية التطوُّر الداروينية وما يتشعب عنها من فروع بعد أن كان الجهر بها في نهايات القرن التاسع عشر، يستدعي من رجال الفكر يقظةً لِيَردُّوا على ما كان يُظن أنه خطرٌ على العقيدة الدينية — كما حدث عندما نشر جمال الدين الأفغاني كتابه في «الرد على الدهريِّين» — أصبحتِ الآن مادةً شائعةً بين طبقات المُثقَّفِين؛ ففي سنة ١٩٢٤م أصدر إسماعيل مظهر كتابه «ملقى السبيل» (وكان مظهر قد ترجم إلى العربية قبل ذلك كتاب أصل الأنواع لداروين)، ليكون هذا الكتاب الجديد تطبيقًا للنظرية على موضوعاتٍ عامَّةٍ مما كان يُعنى به الكُتاب المُصلِحون عندئذٍ؛ وهو يقول في مقدمته لهذا الكتاب: «إن لمذهب النشوء والارتقاء من الأَثَر في فروع العلوم الحديثة، ما يجعلني أعتقد تمام الاعتقاد بأن هذا المذهب جديرٌ بأن يقف الإنسان أكبر شطر من حياته وجهوده في سبيل درسه ونقله إلى العربية، وأبناء الضاد على أبواب انقلابٍ علميٍ أدبي، أَخذَت معاوله تهدم في بناء أساليبنا القديمة، لتحل محلها أساليب حديثة للتفكير.» ويهمنا من هذا النص هذه الجملة الأخيرة لأنها تُؤيِّد ما نَصِف به فترة ما بين الحربَين في مصر، من الناحية الفكرية، وهو أنها فترة انقلابٍ علميٍّ وأدبي، تهدم أسلوبًا قديمًا لتُحِل مَحلَّه أسلوبًا جديدًا، هو الأسلوب العلمي العقلاني القائم على الدرس والتمحيص.

وهنا نذكر كاتبًا آخر أصدر سنة ١٩٢٥م كتابًا آخر عن «نظرية التطوُّر»، مما يدل على أن الفكرة كانت عندئذٍ تشغل الأذهان، لكن هذا الكتاب من هذا الكاتب لم يكن عرضًا طارئًا في حياته الفكرية بل كان جزءًا لا يتجزأ من طريقٍ واحدٍ عاشه الكاتب ليبلغ به هدفًا واحدًا جعله نُصب عينه. وأمَّا هذا الكاتب فهو سلامة موسى، وأمَّا طريق حياته الفكرية فهو الإيمان بالعلم الحديث وما يقتضيه من ضرورة تطوير الأدب والحياة بأَسْرها. وأمَّا الهدف المقصود بهذا كله فهو أن يُقيم بناءً جديدًا على أنقاض بناءٍ قديم؛ فلم يألُ سلامة موسى جهدًا في كل ما كَتب، لُيقاوم الأسلوب القديم في التفكير وفي الكتابة. فإذا كان التقليديون يُعنَون بصقل العبارة اللفظية عنايةً تستنفد كل طاقاتهم بحيث لا يبقى شيءٌ منها لأي معنًى ينقلونه إلى القارئ، فقد أراد هو بما أسماه «الأسلوب التلِغرافي» في الكتابة أن تجيء العبارة خادمةً للمعنى المُراد نقله، بحيث لا تُحشَر فيها لفظةٌ واحدةٌ لا تخدم المعنى المقصود.

لقد تميَّزَت فترة ما بين الحربَين بكثيرٍ من القلق الفكري، الناتج عن إحساس المُثقَّفِين بضرورة الجمع بين طرفَين كانا ما يزالان يبدوان وكأنهما نقيضان لا يجتمعان، وهما: الثقافة التقليدية الموروثة من جهة، والثقافة الأوروبية المنقولة من جهةٍ أخرى. وكان السؤال قد بدأ يطرح نفسه على رجال الفكر، وهو: هل من سبيلٍ إلى الجمع بين الثقافتَين في وحدةٍ عضويةٍ واحدة، لا تتخلى عن الطابع المحلي المميز، ولا تُقصِّر في مسايرة العالم المعاصر؟ هنا كنتَ تجد ثلاث إجاباتٍ تَصدُر عن ثلاث فئاتٍ من المُفكرِين وتستتبع ثلاثة أساليب في الكتابة؛ فإجابةٌ يَتمسَّك بها أصحابها بالقديم الموروث فكرًا وأسلوبًا، ومن هؤلاء مصطفى صادق الرافعي، وإجابةٌ يريد بها أصحابها القضاء الكامل على القديم الموروث والأخذ عن الثقافة الأوروبية — علمًا وأدبًا وأسلوبَ كتابةٍ وطريقةَ حياة — أخذًا مطلقًا غير مشروط بشرطٍ ولا مُقيَّد بقيود، ومن هؤلاء: سلامة موسى، وإجابةٌ ثالثةٌ يُحاول بها أصحابها أن يجدوا موقفًا وسطًا يجمع بين الطرفَين؛ فهم إذا كتبوا جاءت عبارتهم ملتزمةً قواعد الأسلوب العربي المتين، وهم إذا فكَّروا حاولوا المزج بين موضوعات القديم وموضوعات الجديد. وكان من حُسن الطالع أن وَقعَت في هذه الطائفة جمهرة الأعلام من رجال الفكر والأدب: العقاد، طه حسين، هيكل، المازني، وغيرهم؛ فلهؤلاء جميعًا مجموعاتٌ من مقالاتٍ كتبوها خلال الفترة التي نتحدث عنها، ثم جمعوها في كتبٍ يكفي أن تُطالِع أي كتابٍ منها، لتجد ثقافة الغرب قد جاوَرَت ثقافة العرب الأَقدمِين في تآلُفٍ وانسجام؛ إذ قد تجد فصلًا عن هومر أو شيكسبير أو شلي، يعقبه فصلٌ عن امرئ القيس أو ابن الرومي أو المتنبي، وهكذا.

للعقاد في هذه الفترة «مطالعات في الأدب والحياة» (١٩٢٤م)، و«ساعات بين الكتب» (١٩٢٩م) وللمازني «حصاد الهشيم» (١٩٢٤م) و«قبض الريح» (١٩٢٧م) و«صندوق الدنيا» (١٩٢٩م). وإن القارئ ليُدرك من مجرَّد المقارنة بين عنوانات الكتب عند الأول وعنوانات الكتب عند الثاني، أن هذَين الزميلَين الصديقَين، وإن يكونا قد اتفقا على الهدف (وهو الجمع بين الثقافتَين) فقد اختلفا في طريقة التناوُل: الأول جادٌّ إلى درجة التزمُّت فكرًا وأسلوبًا، والثاني جادٌّ في فكرته ساخرٌ تملؤه روح الفكاهة في طريقة عرضه. ولهيكل من أمثال هذه المجموعات الجامعة بين الثقافتَين «في أوقات الفراغ» (١٩٢٥م) سبقه كتاب من جزأين عن جان جاك روسو (١٩٢١–١٩٢٣م) أسهم به في إثراء الفكر السياسي الذي صاحب الثورة السياسية، ليكون الفعل مقرونًا بالنظر، وهو في طريقة كتابته وسطٌ بين العقاد والمازني؛ فهو لا يبلغ من الأسلوب العابس مبلغ العقاد، ولا من الأسلوب الضاحك مبلغ المازني، ويكتفي بروحٍ سمْحةٍ منبسطة الأسارير تسري بين أسطره.

وأمَّا طه حسين فقد كانت طريقته في الجمع بين الثقافتَين، أن يعالج موضوعًا عربيًّا قديمًا بأسلوبٍ غربيٍّ جديد، وأن يكون مع الدعوة إلى العقل العلمي مرة، ومع الدعوة إلى وجدان القلب مرة. فانظر إليه كيف فجَّر قنبلته الفكرية العقلانية سنة ١٩٢٦ بكتابه عن الأدب الجاهلي، ليعود سنة ١٩٣٣م فيُصدر رائعته الأدبية «على هامش السيرة» فيقول في مقدمته: «أنا أعلم أن قومًا سيضيقون بهذا الكتاب؛ لأنهم مُحدَثون يُكبرون العقل، ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه؛ وهم لذلك يضيقون بكثيرٍ من الأخبار والأحاديث التي لا يُسيغها العقل ولا يرضاها. وأُحِب أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس مَلَكاتٍ أُخرى ليست أقل حاجةً إلى الغذاء والرضى من العقل.»

لا عجب أن رأينا النقاد من زملائه يَتصدَّون له بالتحليل والمُقارَنة فهذا هيكل يكتب فور صدور «على هامش السيرة» فيقول: «إنه (أي طه حسين) إلى حين وَضعِ كتابه هذا، كان من أولئك الذين يُكبرون العقل ولا يثقون إلا به، فهذا الكتاب تطوُّرٌ عظيمٌ في نفسية طه وفي نظرته للحياة، تطوُّرٌ واضحٌ صارخٌ يكفي لتبيينه أن نقرأ معًا مُقدمتَين: مقدمة «على هامش السيرة» ومقدمة «في الأدب الجاهلي». إن بين «في الأدب الجاهلي» و«على هامش السيرة» موضعًا للمُقارَنة؛ فكلاهما يتحدث عن العصر الجاهلي الذي سبق مولد النبي عليه السلام، والذي عاصر هذا المولد، والكتاب الأول يهدم ما جاءت به الأساطير عن الجاهلية، بل يهدم الكثير مما يُنسب للجاهلية من شعرٍ ونثر، ويراه من وضع المتأخِّرِين لأغراضٍ دينيةٍ أو مخالفة للدين، والكتاب الأخير يجلو هذه الأساطير ويُنمِّقها، ويرى في ذلك غذاءً لما سوى العقل من مَلَكات الناس.»

تلك كانت طريقة طه حسين في الجمع بين الثقافتَين؛ فهو «لم يتطوَّر في نفسيته ولا في نظرته للحياة» كما يُعلِّل هيكل لهذا الجمع، بل إن الثقافتَين كلتَيهما قد اجتمعتا فيه على نحوٍ يُجسِّد لنا في رجلٍ واحد، ما كنا وما نزال نأمل أن نبلغه من وحدةٍ ثقافيةٍ تجمع لنا الطرفَين. ولعل الدكتور محمد عوض محمد كان أصدق تصويرًا في تعليقه على كتاب «على هامش السيرة» حين قال عن طه حسين — بطريقته الفكِهة: «إن ثقافته الحقيقية هي ثقافةٌ أزهريةٌ متينةٌ قوية الأسس، وأن ليست ثقافة الغربيِّين إلا رواء وطلاء، إن يُبهر العينَ مَنظَرُه، فإنه لا يذهب إلى غورٍ بعيد. وقديمًا قال نابليون في الروس: إنك إذا حكَكتَ الروسي بدا لك التتري. وفي وسعنا أن نقول إذا حَكَكتَ طه حسين برفق، بدا لك الأزهري القُح الصميم بكل ما تحمله هذه الكلمة من فضلٍ وعلم.»

ولو كان طه حسين حين كتب «على هامش السيرة» قد تطوَّر في نفسيته وفي نظرته للحياة — كما قال هيكل عنه — لما رأيناه بعد «على هامش السيرة» يعود مرةً أخرى فيُصدر كتابه الهام «مستقبل الثقافة في مصر» (١٩٣٩م) ليقول به للناس إنه لا بد لنا من الأخذ عن الأصول الثقافية اليونانية، استمرارًا لما كان آباؤنا الأقدمون قد فعلوا في نهضتهم الفكرية، حين طفِقوا ينقلون ثقافة اليونان العلمية والفلسفية بغير حرجٍ ولا تردُّد. ولا نترك الحديث عن طه حسين في هذا الموضع من المقال، دون أن نذكر ترجمة حياته الرائعة التي كتبها سنة ١٩٢٩م بعنوان «الأيام»، فجاءت هذه الترجمة الذاتية من أجمل الثمار الأدبية في تلك الفترة، التي اجتَمعَت فيها روافد الثقافة كلها من شرق ومن غرب.

هكذا قضَينا أعوام العقدَين الثالث والرابع من هذا القرن، نمد ذراعًا إلى تراثنا فنُحيِيه، وذراعًا إلى الثقافة الأوربية فننقلها. وإنه لجديرٌ بالذكر في هذه المناسبة، أن نشير إلى عددٍ من المجلَّات التي ظَهرَت عندئذٍ وشاعت شيوعًا واسعًا، وكانت من أفعل الأدوات الثقافية التي هيَّأت النفوس والعقول لتقبُّل نهارٍ جديدٍ في تاريخنا الثقافي، ستظهر بوادره بعد الحرب العالمية الثانية، ويبلغ النضج بعد ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م. وأمَّا هذه المجلات التي نشير إليها، فهي «السياسة الأسبوعية» التي كان يرأس تحريرها محمد حسين هيكل، و«البلاغ الأسبوعي» الذي كان يكتب فيه العقاد، و«المجلة الجديدة» التي أصدرها وكان يرأس تحريرها سلامة موسى، و«الرسالة» التي اصدرها وكان يرأس تحريرها أحمد حسن الزيات، و«الثقافة» التي كان يشرف عليها أحمد أمين، وأصدرتها لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهي لجنة تتألَّف من جماعةٍ من رُوَّاد الثقافة الجديدة، أُنشئَت سنة ١٩١٤م لتدل باسمها وبنوع جهودها على اتجاهات الحركة الثقافية في هذا القرن العشرين كله؛ إذ هي حركة تقوم على «الترجمة» عن الفكر والأدب الأوروبيَّين، و«النشر» لذخائر التراث القديم، لتُخرجها إلى النور من خزائن الكتب، و«التأليف» الجديد الذي يحمل طابعنا الحديث بما فيه من أصالةٍ تستمد غذاءها من المادة المترجمة والمادة المنشورة على السواء.

•••

لا أحسب الحركة الثقافية التي عاشتها مصر فيما بين الحربَين، تحاول فيها الجمع بين ثقافتَين، لا أحسب تلك الحركة تتضح معالمها بأنصعَ مما تتضح به في أمثلةٍ نسوقها لبعض الموضوعات التي كانت تشتجر فيها الأقلام خلال تلك الفترة، خصوصًا إذا تذكرنا حقيقةً هامةً جدًّا في هذا الصدد، هي أن الكاتب الواحد قد يأخذ بهذا الرأي مرةً وبذلك الرأي مرةً أخرى، مما يدل على أن فوران الآراء والمذاهب لم يأذن لأحد عندئذٍ بالاستقرار على فكرةٍ واحدةٍ أمدًا طويلًا، ما دامت هذه الفكرة ماسةً بأركان البناء الفكري الجديد الذي كان المصريون عندئذ في سبيل إقامته. ومما يدُل كذلك على إخلاص المُفكِّرِين حينئذٍ لبلوغ غايتهم في بعث الأمة بعثًا فكريًّا شاملًا، إخلاصهم لذلك إخلاصًا لم يسمحوا لأنفسهم معه أن يتعصَّبوا لفكرةٍ أو لِأخرى، إذا أثبت تطوُّر الأحداث خطأها وتعويقها لمجرى التاريخ.

وأَوَّل موضوعٍ نسوقه مثلًا للصراعات الفكرية في عشرينيات هذا القرن وثلاثينياته، هذا الموضوع الأساسي بالنسبة إلى إقامة البناء الثقافي الجديد: ما هي الأصول الأُولى التي نَردُّ المصريين إليها؟ أهي أصولٌ فرعونيةٌ أم هي أصولٌ عربيةٌ لا نجاوزها إلى ما وراءها في التاريخ؟ وقد ناصر الفرعونية سلامة موسى ومحمد حسين هيكل وغيرهما إلا أن هيكلًا عاد فتبين وجه الخطأ فيما بدأ بالدفاع عنه؛ فقد بدأ هيكل — بمناسبة صدور كتابٍ عن (قصص البردي) لعالمٍ أثريٍّ عصري (١٩٢٦م) — بدأ هيكل في ربط الصلة بين مصر القديمة ومصر الحديثة مؤكدًا أن بين الحالتَين «اتصالًا نفسيًّا وثيقًا ينساه كثيرون ويحسبون أن ما طرأ على مصر منذ عصور الفراعنة من تطوُّراتٍ في نظم الحكم وفي العقائد الدينية وفي اللغة وفي غير ذلك من مُقوِّمات الحياة، قد فصل بين هذه الأمة الحاضرة وبين الأمة المصرية القديمة، فصلًا حاسمًا، جعلنا إلى العرب أو إلى الرومان أقرب منا إلى أولئك الذين عمروا وادي النيل في ألوف السنين التي سبقت المسيحية.»

فيَرُدُّ على هذه النزعة الفرعونية كُتابٌ يؤمنون بأن جذورنا عربية، وبأنه من العبث أن نرُدَّها إلى أبعدَ من ذلك في التاريخ، لتضل في متاهات القرون، ومن هؤلاء أحمد حسن الزيات حين قال: «اشتُهر بالرأي الفرعوني اثنان أو ثلاثة من رجال الجدل وساسة الكلام، فبسطوه في المقالات، حتى خال بنو الأعمام في العراق والشام أن الأمر جِد، وأن الفكرة عقيدةٌ وأن ثلاثة من الكتاب أمة، وأن مصر — رأس البلاد العربية — قد جَعلَت المآذن مَسلَّات، والمساجد معابد، والكنائس هياكل، والعلماء كهنة.» وبعد أن يمضي الزيات بأسلوبه العربي البليغ في التهكُّم من الفكرة الفرعونية وأصحابها يُلخِّص الموقف بعبارة، فيقول: «وبعدُ فإن ثقافتنا الحديثة إنما تقوم في روحها على الإسلام والمسيحية، وفي آدابها على الآداب العربية والغربية، وفي علمها على القرائح الأوروبية الخاصة، أمَّا ثقافة البردي فليس يربطها بمصر العربية رباط، لا بالمسلمِين ولا بالأقباط.»

•••

ونسوق مثلًا ثانيًا للموضوعات التي اختلف فيها رجال الفكر في الفترة التي نُحلِّلها، وكيف جاء اختلافهم في موضوع الخصائص الأصلية التي يتميز بها المصريون، وهل هي أقرب إلى خصائص اليونان، أو إلى خصائص العرب. ومرةً أُخرى نُنبِّه إلى نقطةٍ هامة، وهي أن المُتعارضِين لم يثبتوا على آرائهم فيما كانوا يعرضون بالرأي فيه، ومبادلة الرأي هذه المرة كانت بين توفيق الحكيم وطه حسين، فيطرح الحكيم المشكلة بقوله: إنما الأمر الذي يحتاج إلى كلامٍ هو معرفة مميزات الفكر المصري، معرفة أنفسنا، حتى تَتبيَّن لجيلنا مهمته: هذه هي المسألة (وليلاحظ قارئ اليوم أن هذه نفسها ما زالت هي المسألة المطروحة أمام المُفكرِين، وقد دَنَونا من ختام العقد السابع من القرن العشرين). ويمضي الحكيم في حديثه لِيؤكِّد أن الروح المصرية والروح العربية مختلفتان، ولقد اختَلطَت إحداهما بالأخرى على نحوٍ يصعب معه فصلهما، لنميز الواحدة من الأخرى، لكن هذا الفصل أمر لا بُد منه، إذا أردنا أن نتبين أنفسنا. ويعرض الحكيم تحليله هو على قُرائه، فيبين — أولًا — أن دراسة الفن المصري والفن الإغريقي كفيلة بأن تُبرِز الفرق بين العقليتَين: «ما بال تماثيل الآدميِّين عند المصريِّين مستورة الأجساد، وعند الإغريق عارية الأجساد؟ هذه الملاحظة الصغيرة تطوي تحتها الفرق كله، نعم، كل شيء مستتر خفي عند المصريين، عارٍ جليٌّ عند الإغريق، كل شيء في مصر خفي كالروح، وكل شيء عند الإغريق عارٍ كالمادة، كل شيء عند المصريين مستترٌ كالنفس، وكل شيء عند الإغريق جليٌّ كالمنطق، في مصر الروح والنفس، وفي اليونان المادة والعقل.» وبعد هذه المقارنة يُجري الحكيم مقارنةً أخرى لتتم له المقدمات، مقارنة بين اليونان والعرب، فيقول إن خط الإغريق مماثل لخط العرب: «كل تفكير العرب وكل فن العرب في لذة الحس والمادة، عند الإغريق الحركة، أي الحياة، وعند العرب السرعة.» والخلاصة هي أنه «من المستحيل أن نرى في الحضارة العربية كلها أي ميل لشئون الروح والفكر بالمعنى الذي تفهمه مصر والهند من كلمتَي الروح والفكر.» و«لا ريب عندي أن مصر والعرب طرفا نقيض: مصر هي الروح، هي السكون، هي الاستقرار، هي البناء، والعرب هي المادة، هي السرعة، هي الطعن، هي الزخرف، مقابلةٌ عجيبة: مصر والعرب وجها الدرهم، وعنصرا الوجود، أي أدبٍ عظيمٍ يخرج من هذا التلقيح؟ إني أتمنى للأدب المصري الحديث هذا المصير: زواج الروح بالمادة والسكون بالحركة، والاستقرار بالقلق، والبناء بالزخرف.»

ويَردُّ طه حسين على الحكيم، رافضًا أن تُنسَب الروح المصرية إلى أصول تبعد بها عن العرب وعن اليونان؛ ذلك أن الغوص بالروح المصرية الحديثة إلى الأصول الفرعونية مضطر إلى الضرب في مجاهل التخمين، على أن النسبة إلى العرب أمرٌ قائمٌ مشهود: «نحن — إذن — أمام أمرَين؛ أحدهما عرضة للشك الشديد، لا تكاد تعرف منه شيئًا، والآخر لا سبيل إلى الشك فيه، أحدهما حياة مصر القديمة وحضارتها العقلية — إن صح هذا التعبير — والآخر حياة العرب وحضارتهم، فإلى أي الأمرين نفزع لنقيم عليه بناء أدبنا الجديد؟ أَإِلَى الشك أم إلى اليقين؟» ويمضي الدكتور طه حسين في رده على الحكيم ليخلُص إلى جوهر الموضوع، وهو: مِمَّ تتكون روح مصر منذ استَعربَت؟ ويجيب بأنها تتكون من عناصرَ ثلاثة؛ أولها العنصر المصري الخالص الذي ورثناه من المصريِّين القدماء، وثانيها هو العنصر العربي الذي يأتينا من اللغة ومن الدين ومن الحضارة، وثالثها هو العنصر الأجنبي الذي أثَّر في الحياة المصرية دائمًا، والذي سيؤثر فيها دائمًا، وهو هذا الذي يأتيها من اتصالها بالأمم المُتحضِّرة في الشرق والغرب؛ جاءها من اليونان والرومان واليهود والفينيقيِّين في العصر القديم، وجاءها من العرب والترك والفرنجة في القرون الوسطى، ويجيئها من أوروبا وأمريكا في العصر الحديث (راجع مجلة الرسالة، أعداد شهر يونيو ١٩٣٣م).

ونسوق مثلًا ثالثًا مما كان يدور فيه القول بين الأدباء والمُفكِّرين في فترة ما بين الحربَين، موضوع القديم والجديد في تصور الناس للأدب؛ فهنالك من ينصرفون باهتمامهم إلى صقل اللغة وتجويدها دون أن تكون هنالك الفكرة التي ينقلونها بتلك اللغة، وهؤلاء هم أنصار القديم، وهنالك من يهتمون بالفكرة أول ما يهتمون، وهؤلاء هم أنصار الجديد — بتعبير أبناء الفترة التي نعرضها هنا — ونستطيع أن نتخذ سلامة موسى مثلًا متطرفًا لفريق المُجدِّدِين، ومصطفى صادق الرافعي مثلًا متطرفًا لفريق المُتشيِّعِين للقديم. كتب سلامة موسى — مهاجمًا يقول: «أدباء الصنعة يكتبون وكل همهم محصور في تأليف استعارةٍ خلَّابةٍ أو مجازٍ جميل، أو كنايةٍ بارعة، أو غير ذلك من الفقاقيع. فإذا أراد أحدهم أن يُؤلِّف كتابًا أو يضع مقالة، لم يُعنَ أقل عنايةٍ بالموضوع الذي يكتب فيه، وإنما يعمِد إلى الفقاقيع، فيُؤلِّف منها عبارةً خلَّابة، فيُتوبِل بها إنشاءه، أو يَرصُّها رصًّا، وكثيرًا ما يعجز أمثاله عن تأليف عبارة من إنشائهم الخاص.» وكتب كذلك في موضعٍ آخر يقول: «في مصر وسوريا طبقة من الأدباء لها عيون من خلف رءوسها، فإذا نَظرتَ لم تَرَ سوى الماضي ثم هي مع ذلك لا ترى كل الماضي، وهي لو استطاعت أن تفعل ذلك، لكان لها من ذلك بصيرةٌ بالحاضر والمستقبل. أجل، لو كانت هذه الطبقة تنظر إلى الماضي خلال تلسكوب العلوم الحديثة لاستطاعت أن تقرأ لغة الطبيعة، وتدرك أن روح العالم هي روح نشوء وتطوُّر.»

ويرد الرافعي على هذا الهجوم، فيؤكد أن علته الحقيقية ترجع إلى التمكُّن من لغة العرب وأدبهم؛ فمن لم يجد في حياته الفرصة لهذه الدراسة، وشاءت له ظروفه أن يدرس لغةً أجنبية، راح يتهم اتهاماتٍ مصدرها عجزه عن التعبير بلغة العرب. وهنا يتدخل الدكتور طه حسين، فيُناصر سلامة موسى بعض المناصرة، ويُصحِّح الرافعي فيما ذهب إليه، فيقول: «نعتقد أن الأستاذ الرافعي يُسرف في هذا الحكم، ولعل مصدر إسرافه أنه أخطأ فهم ما يكتب أنصار المذاهب الغربية، وهو إنما أخطأ الفهم لأنه أخطأ الذوق وإنما أخطأ الذوق لأنه أخطأ الفهم. إن بعض أنصار المذهب الجديد قد أخذوا من اللغة العربية وآدابها بحظٍّ لا بأس به. وإن قوتهم في اللغة الأجنبية وآدابها لم تحملهم على أن يُضيِّعوا حظهم في اللغة العربية وآدابها. إذن فانتصار هؤلاء لمذهبٍ جديدٍ ليس ضعفًا، وليس اعتذارًا لأنفسهم وليس تعصُّبًا للأدب الأجنبي الذي تفوقوا فيه.»

وهذا مثلٌ رابعٌ نُقدِّمه لما كان يشغل الأدباء والمُفكرِين في مصر إبَّان الفترة التي نتحدث الآن عنها — فترة ما بين الحربَين — فلم يكن يكفي أن يختلف المختلفون على أي الثقافتَين يجب علينا الانتماء إليها في نهضتنا الأدبية: العربية القديمة أم الأوروبية الحديثة؟ بل حدث خلافٌ فرعي بين أنصار الثقافة الأوروبية الحديثة أنفسهم. كان السؤال هذه المرة هو: أي الثقافتَين الأوروبيتَين يجب الأخذ بها قبل أختها؟ أهي ثقافة اللاتين أم ثقافة السكسون؟ وبدأ الحوار في هذا الموضوع بمقالةٍ نشرها العقاد تعليقًا على كتابٍ أصدره أنطون الجميل عن «شوقي شاعر الأمراء»، فجاءت في هذا التعليق موازنةٌ بين طريقة اللاتينيِّين في النقد الأدبي وطريقة السكسونيِّين، خلاصتها أن الأولِين ينقدون الأدب، وكأنهم يتحدثون حديثًا ظريفًا في صالون، وأن الآخرين ينقدون الأدب نقدًا موضوعيًّا يضرب في لُباب الموضوع بغير اصطناع الظرف الاجتماعي الواجب اصطناعه في ندوات الأصدقاء. وكان العقاد فيما كتب على اعتقادٍ بأن ثَمَّةَ فرقًا بين الثقافتَين ينبثق من الفرق بين المِزاجَين، وأن هذا الفرق واضحٌ في مُفكِّرينا وأُدَبائنا أنفسهم؛ فمن دَرَس منهم الثقافة اللاتينية وَجدتَه أقرب إلى أن يكون مؤرخًا للأدب أو شارحًا له، ومن دَرَس منهم الثقافة السكسونية وَجدتَه أقرب إلى أن يكون هو نفسه كاتبًا أديبًا أو شاعرًا.

وهنا تَصدَّى الدكتور طه حسين للرد والتصحيح، زاعمًا أن «ليس هناك نقدٌ لاتينيٌّ ونقدٌ سكسوني، وإنما هناك نقدٌ فحسب، نقدٌ يعتمد على هذا الذوق الفني العالي الذي أَحدثَته الثقافة اليونانية واللاتينية، وورثته عنهما الأمم الحديثة على اختلاف أجناسها وبيئاتها؛ فكل النقاد من الفرنسيِّين والإيطاليِّين والألمانيِّين والإنجليز قد قرءوا آيات البيان اليوناني واللاتيني وذاقوا آيات الفن اليوناني والروماني لأنفسهم، أو كَوَّنَت لهم هذه القراءة ذوقًا عامًّا مشتركًا بينهم جميعًا يختلف في ظاهره ولكنه لا يختلف في جوهره لأن هذا الجوهر واحدٌ مستمدٌّ من هوميروس وبندار وسوفوكل وأرستوفان وأفلاطون.»

•••

هكذا كنا في فترة ما بين الحربَين، نحاول العثور على الجذور العميقة التي يمكن أن نُنبِت منها شجرة الحياة المصرية الجديدة، نحاول ذلك في الشعر، وفي النقد الأدبي وفي الفكر النظري، لكن هذه المحاولة جاوَزَت ذلك كله، جاوزته إلى مجال الخَلق الأدبي الجديد في القصة والمسرحية؛ فلئن كان الشعر صورةً مألوفةً في الأدب العربي منذ أقدم العصور فلم تكن القصة — بمعناها الفني الحديث — ولا المسرحية مألوفتَين معروفتَين. فماذا لو أجرينا عليهما المحاولات، فلنتخذ منهما وسيلتَين جديدتَين في البحث عن أنفسنا؟ لقد بحثنا عن هذه النفس في القصيدة وفي المقالة، وبقي أن نلجأ إلى طريقتَين أخريَين في التحليل والتجسيد؛ التحليل الذي يتعقب سلوك الناس إلى أصوله الأولى، والتجسيد الذي يُبلوِر روح المجموع في أشخاص يُصوِّرهم كاتب القصة أو كاتب المسرحية.

وكانت أُولى محاولاتنا الجادة في القصة — كما ذكرنا — هي «زينب» وهي القصة التي كتبها محمد حسين هيكل في منتصف العَقد الثاني من القرن، كتبها ليُجسِّد فيها دعوة قاسم أمين إلى حرية المرأة، وليَعرِض في حوادثها عيوب المجتمع التقليدي الذي يحول دون امرأة ورجل متحابَّين لا لشيء إلا لأنهما من طبقتَين متفاوتتَين من حيث الغنى والفقر.

ونمضي إلى العقد الثالث من القرن، فنرى «المقالة» قد مَلأَت الفراغ الأدبي كله سواء في ذلك المقالة السياسية التي اشتَعلَت حرارة من نار الثورة، والمقالة الأدبية والفكرية التي انتقل إليها الخلاف السياسي المذهبي بين الكُتاب ليصبح خلافًا فكريًّا فلسفيًّا، حتى إذا ما بلغنا أواخر العَقد الثالث هذا، صادفتنا ألوانٌ أدبيةٌ جديدة: صادفتنا «الأيام» للدكتور طه حسين، و«عودة الروح» لتوفيق الحكيم، وبعض المسرحيات الشعرية لأحمد شوقي، وهي كلها — بمعنًى من المعاني — محاولات في سبيل العثور على حقيقة أنفسنا: أهي تغوص بنا إلى جذورٍ فرعونيةٍ كما يذهب توفيق الحكيم في عودة الروح؟ أم هي جمعٌ بين الثقافة العربية الأصيلة والروح الغربية، كما يتمثل هذا الجمع في ترجمة طه حسين لحياته، وفي مسرحيات شوقي الشرقية المضمون الغربية الشكل؟

لقد جاءت قصة «عودة الروح» في موضعها الزمني من تاريخنا الفكري الحديث، شاهدًا قويًّا على رغبة المصري — إذ يرى نفسه في دَوَّامة التيارات الثقافية الوافدة إليه من كل صوب — في أن يثبت ذاته إثباتًا يجعلها «مصريةً» خالصةً تتميز بطابعٍ خاص، وهي ذاتٌ تُصارع الزمن لتخلد وتستعصي على الفناء، ثم هي في هذا الصراع لا تَجمُد ولا تَخمُد إلا لكي تثور حين يظهر لها من أصلابها زعيمٌ قائد. ولئن جَرَت الأسطورة المصرية القديمة بروايةٍ عن إيزيس وكيف طفِقَت تجمع أوصال أخيها أوزُريس المُمزَّقة المُبعثَرة حتى أعادَته كائنًا سويًّا تدِبُّ فيه الروح من جديد؛ فهكذا تجري الحياة في مصر أبدًا على مرِّ التاريخ الطويل؛ يُمزِّق أشلاءها من يُمزِّق، لكن ذلك لا يطول طويلًا حتى يتولاها زعيمٌ من أبنائها فيجمع شملها ويعيدها أمةً سويةً ممتلئةً بدوافع الحياة.

ونمضي مع الزمن إلى العَقد الرابع من هذا القرن — الثلاثينيات — لنجد أنفسنا أمام حصادٍ غنيٍّ من ثمار القريحة الأدبية في القصة والمسرحية. لكن المحاولة الرئيسية لم تزل هي هي، وأعني محاولة البحث عن حقيقة أنفسنا فيما نُحلِّله من شخصياتٍ نُصوِّرها بوحيٍ من الواقع الملموس، كل كاتب بحسب استعداده وطريقته في الخَلق الفني. فإذا كان توفيق الحكيم قد لمس الصراع العنيف بين المصري وتيار الزمن، لمسه في قصته «عودة الروح»، فقد عاد إليه بصورةٍ أصرح — وأقوى — في مسرحيته «أهل الكهف» (١٩٣٣م) التي بناها على القصة الواردة في الكتاب المُقدَّس وفي القرآن الكريم، إلا أن الكاتب هنا قد جعل فعل الزمن أقوى من عواطف الإنسان؛ فهؤلاء هم أهل الكهف بعد أن استغرقوا في نومٍ طويل، أبعدهم عن مجرى الحوادث مئات السنين، عادوا إلى الحياة من جديد، وانطلقوا يبحثون عما كان يربطهم بها من روابط: الوالد يبحث عن ولده فيعلم أنه مات منذ قرنٍ كامل، فلا يطيق العيش بعد أن انفصمت روابطه بالناس من حوله، وهذا حبيب يلتمس حبيبته، فيلتقي بحفيدةٍ لها، شبيهةٍ بها، فيحسبها الحبيبة القديمة، ويحدث أن تحبه هذه الحفيدة، لكن ما إن اكتشف كلاهما حقيقة الواقع، حتى تصعقهما هذه الحقيقة، فلا يحتملانها، وهكذا قل في سائرهم، كلٌّ منهم تفجؤه الفجوة بين حقيقته هو، والحقيقة الخارجية: فيؤثر الموت على حياةٍ لا روابط فيها بينه وبين أهلها.

إن كاتبنا المسرحي العظيم، يؤمن في أعماق نفسه بوجود قوةٍ غيبيةٍ لا قِبل للإنسان بردها، فإن أوهمه خياله — أو أوهمه العقل المحدود — بأنه قادر على أن يفرض سلطانه، حَدثَت الفاجعة ونزلت المأساة؛ ولذلك لا مفر للإنسان إذا أراد لنفسه عيشًا سعيدًا، من أن يحيا في ظل إيمانه وعلى دفء عاطفته، وأن يحصر المعرفة العلمية في حدودها مهما ضاقت تلك الحدود. ولعل هذا هو الفارق الرئيسي بين ما يُسمَّى بالشرق وما يُسمَّى بالغرب — في التقسيم الثقافي لمجموعات البشر — وهو أن الغرب يدَّعي بعلمه العقلي أكثر مما يستطيع. وأكثر مما يُوفِّر للحياة الإنسانية هناءتها. وأمَّا الشرق، فلو تُرك لطبيعته، آثر أن يستمع إلى صوت وجدانه، حتى وإن لم يعُد له بالعلم الكثير من هذا الكون الكبير. وإذا شِئتَ عبارةً موجزةً تُلخِّص هذا الفارق بين الثقافتَين، فقل إن في الغرب علمًا وفي الشرق تصوُّفًا، وإن التصوُّف أعلى مرتبة من العلم.

هذا وهو في مسرحيةٍ أخرى له، مسرحية «شهرزاد» يجعل بطلها شهريار يبلغ من المتعة الحسية الجسدية أقصى مداها، لكنه بعد ذلك لم يسترح ولم يطمئن، يريد معرفة سر الكون، لكن هذا السر يستغلق على فهمه العقلي، ولم يكن له بد — إذا أراد الوصول — من أن يلجأ إلى بصيرته التي تنفذ به خلال العالم المنظور، وإلا فهذا العالم المنظور ضاربٌ حوله بنطاقه، لا يجد له منه مهربًا، لو جعل أدواته هي الحواس التي تشتهي، والعقل الذي يُفسِّر. ومن هذه الزاوية نفسها — زاوية الإيمان بقصور العقل والعلم، يكتب الحكيم قصة «عصفور من الشرق» ليرد بها على غرور الغرب بعلمه وآلاته: «فماذا صنع لنا العلم؟ وماذا أفدنا منه؟ الآلات التي أتاحت لنا السرعة؟ وماذا أفدنا من هذه السرعة؟ البطالة التي تُلِم بعمالنا، وإضاعة ما يزيد من وقت فراغنا فيما لا ينفع.» ولا نترك توفيق الحكيم في ثلاثينيات هذا القرن، دون أن نذكر كتابه «يوميات نائب في الأرياف» الذي يُقدِّم صورةً نضرةً للحياة في الريف المصري، ومدى ما كان يفصم أهل الريف عن التشريعات والقوانين؛ فهم لا يفهمونها ولا يدركونها، وهي لا تراعي حقائق معاشهم ومدى إدراكهم.

وظهرت في الثلاثينيات قصتان للصديقَين المازني والعقاد؛ فقصة المازني عنوانها «إبراهيم الكاتب» (١٩٣٢م) وهي بمثابة ترجمةٍ ذاتيةٍ للكاتب، تُحلِّل ظاهرة الحب التي تربط بين الرجل والمرأة، كما تشير إلى صفةٍ رئيسيةٍ في الكاتب، وهي انحصاره في ذاته. وأمَّا قصة العقاد فعنوانها «سارة» (١٩٣٨م) وهي — كزميلتها — تحليلٌ لظاهرة الحب بين الرجل والمرأة، لكن التحليل هنا مأخوذ من زاويةٍ جديدة، هي الزاوية التي يكون فيها المحب عقلًا كله والحبيبة حيويةً جسديةً كلها. تُرى هل شُغِل الكاتبان في قصتَيهما هاتَين بتحليل الحب، نتيجةً لظفر المرأة بحريتها عندئذٍ على نطاقٍ ملحوظ؟ وبهذا تكون هاتان القصتان مُكملتَين — من حيث الوظيفة الاجتماعية التي تُؤدِّيانها — لقصة «زينب» التي أخرجها هيكل سنة ١٩١٤م؛ فكلها تجسيدٌ للنتائج التي تترتَّب على دعوة قاسم أمين إلى حرية المرأة: في «زينب» لم تكن المرأة قد ظفِرت من حريتها إلا بقبسٍ ضئيلٍ يُتيح لها أن تُحب، دون أن تجهر بحبها، وفي «إبراهيم الكاتب» تَتعدَّد المحبوبات للحبيب، وفي «سارة» تلعب المحبوبة بعقل حبيبها، كأنما في هذا إشارة إلى أن الحرية للمرأة قد زادت على حدها المأمول.

•••

وتنشَب الحرب العالمية الثانية سنة ١٩٣٩م، لتدوم حتى سنة ١٩٤٥م، فتكون نتيجتها على تيارنا الفكري شبيهةً من بعض الوجوه بنتيجة قيام الحرب العالمية الأولى ١٩١٤–١٩١٨م؛ ففي أعوام الحرب الثانية — كما هي الحال في أعوام الحرب العالمية الأولى — ينطوي الكتاب على أنفسهم، لكن انطواءهم هذه المرة كان معناه العودة إلى ماضي الأمة العربية يَجترُّونه، ويحيون أبطاله إحياءً قد يُقيم أمام الجيل الصاعد صورة مجدهم الذي لم يكن ينبغي لفيضان الثقافة الغربية أن يطغى عليه. لقد رأينا خلال الصفحات السابقة كيف تلازم خطَّان ثقافيَّان في حياتنا، فسارا جنبًا إلى جنب، تكون الغلبة آنًا لهذا الخط، وآنًا آخر لذاك، وأعني بهما الثقافة العربية القديمة في ناحية، والثقافة الغربية في كل عصورها، من اليونان فنازلًا، في ناحيةٍ أخرى. وكثيرًا ما وُفِّق رجال الفكر والأدب إلى ضَفرِ هذَين الخطَّين ليجعلا منهما كيانًا واحدًا كما هي الحال في بعض أعمال العقاد، وفي طه حسين، وتوفيق الحكيم وغيرهم. لكن قيام الحرب جاء مُذكرًا لنا بوجوب الجِد في البحث عن أنفسنا، لنخلق لأنفسنا شخصيةً جديدةً نستعد بها للحياة الجديدة التي لا بد أن تتمخض عنها الحرب العالمية.

وفي سبيل هذا البحث، طفِق كُتابنا ينكتون الماضي ويُنقِّبون في حناياه وخفاياه ويرسمون لنا صورًا قويةً مشرقةً لأعلام ذلك الماضي ومواقفه: هذا هو العقاد يُخرج سلسلة متعاقبة الحلقات من «العبقريات» الإسلامية، فيخرج «عبقرية عمر» و«عبقرية الإمام» (علي) سنة ١٩٤٢م، و«عبقرية محمد» و«عبقرية الصديق» (أبي بكر) سنة ١٩٤٣م، ثم يتابع الحلقات حتى تشمل السلسلة عددًا غيرَ قليل من شخصيات الإسلام في عصره الأول الزاهر. ويكتب محمد حسين هيكل عن أبي بكر وعن عمر من خلفاء المُسلمِين وكان قبل ذاك قد كتب عن محمد عليه السلام. ويكتب توفيق الحكيم عن محمد. ويكتب كثيرون آخرون عن بطولات الإسلام، إمَّا مقالاتٍ في المجلَّات الأدبية، أو كتبًا كاملة. وسيظل هذا الاتجاه قائمًا في حياتنا الأدبية عبر الخمسينيات والستينيات، ليضيف طه حسين روائع من روائعه عن صدر الإسلام متمثلًا في تضحياته وبطولاته، ومما نذكره له في ذلك كتابه «الشيخان».

وقد كانت التكملة الطبيعية لهذه العودة إلى الماضي في صور أبطاله ومواقفه، أن تنصرف بعض الجهود إلى تحليل العقيدة الإسلامية نفسها، وفلسفتها، وإلى بحوثٍ علميةٍ في تأصيل الفكر الإسلامي على اختلاف عصوره وأطواره؛ ففي تحليل العقيدة الإسلامية يُصدِر العقاد عددًا من الكتب ويكتب مقالاتٍ كثيرة، ومن أهم كتبه في ذلك: «الله — كتاب في نشأة العقيدة الإلهية» (١٩٤٧م) و«الفلسفة القرآنية» (١٩٤٧م)، حتى إذا ما جاءت خمسينيات القرن، أكثر من تأليفه في هذا الاتجاه، ومن أهم ما أخرجه «التفكير فريضة إسلامية» (١٩٥٧م) و«حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» (١٩٥٧م).

كثُرَت الدراسات الإسلامية والعربية فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وتفسير ذلك — فيما أظن — أنه كان تمهيدًا قويًّا لولادةٍ جديدة، تُولد فيها أمة تتعرف على سماتها العربية الإسلامية، بعد أن كادت تضيع هذه المعالم في غمرة النقل عن ثقافة الغرب. فإذا كان الكُتاب خلال العشرينيات والثلاثينيات، قد وجدوا أحيانًا ما يُبرِّر تساؤلهم: من نحن؟ أنحن فرعونيون أم عرب؟ وما إلى هذه الأسئلة من أسئلة، فهم اليوم قد باتوا على يقينٍ لا يُفسح المجال حتى للسؤال، هم اليوم على يقين من أنهم أمةٌ عربية، أو هم بتعبيرٍ أدقَّ جزءٌ من الأمة العربية، التي تربط أجزاءها روابطُ قويةٌ من لغةٍ ودينٍ وتاريخٍ ومصير. إذن فلنُحلِّل كل هذه الروابط في دراساتٍ علميةٍ أحيانًا، وفي مقالاتٍ شعبيةٍ أحيانًا أخرى. نعم لنُحلِّل عناصر الدين وعناصر اللغة وحوادث التاريخ وأهداف المصير. تلك كلها دراساتٌ شَغلَتنا بعد الحرب الثانية.

وقد شُغل الناس بموضوعَين عن اللغة دارت حولهما معاركُ فكريةٌ هادئةٌ حينًا عنيفةٌ أحيانًا؛ أولهما هو: أنكتب بالعامية أم نكتب بالفصحى؟ وثانيهما: أنكتب بأحرفٍ عربيةٍ أم نكتب بأحرفٍ لاتينية؟ فأمَّا أَوَّل الموضوعَين فما زال إلى هذه الساعة قائمًا تدور فيه المُساجَلات، يُدافع عن الكتابة العامية فريقٌ يضع جماهير الشعب نُصب عينَيه، ويُدافع عن الكتابة بالفصحى فريقٌ آخرُ يجعل الأولوية للوحدة العربية التي تقتضي أن يكون اللسان واحدًا مفهومًا في مصر والعراق وسوريا وتونس والجزائر وسائر أقطار الأمة العربية، ذلك فضلًا عن الحفاظ على التراث المشترك، ومنه القرآن الكريم.

وأمَّا ثاني الموضوعَين فقد ثار في الأربعينيات حينًا، ثم مات ولم تقم له بعد ذلك قيامة. وكان بطل الكتابة بأحرفٍ لاتينيةٍ عبد العزيز فهمي في تقرير قدمه سنة ١٩٤٤م إلى المَجمع اللغوي، مُبينًا فيه صعوبة التعلم باللغة العربية كتابةً وقراءة، ومستشهدًا بما حدث في تركيا من تسهيل في عملية التعليم نتيجة لاستخدامهم أحرفًا لاتينية بدل الأحرف العربية التي كانوا من قبلُ يستخدمونها في كتابة اللغة التركية، ثم اقترح طرائقَ مُفصَّلةً لتنفيذ اقتراحه.

لكنَّ اقتراحًا كهذا لم يكن ليمضي بغير معارضةٍ شديدةٍ من جهاتٍ كثيرة، في مصر وفي غيرها من أقطار الأمة العربية، ومن المُعارِضِين محمود محمد شاكر وكان مما احتج به قوله: «إن أول التضليل في رسم العربية باللاتينية أن يضيع على القارئ تَبيُّن اشتقاق اللفظ الذي يَقرءُه، فإذا عَسَر عليه ذلك صار اللفظ عنده بمنزلة المجهول الذي لا نَسَب له. نعم، وإذا ضل عن تبيُّن الاشتقاق والتصريف، فقد ضل عن العربية كلها؛ لأنها لم تُبنَ إلا عليهما، وهي في هذه الوجهة مُخالِفةٌ لجميع اللغات التي تُكتب بالحرف اللاتيني؛ لأن الاشتقاق والتصريف يَعرِضان لها من قبل بناء الكلمة كلها حتى تختلف الحركات على كل حرف … إلخ.» وتَعرَّض للرد غير هذا الكاتب كتابٌ آخرون، كلٌّ منهم يُقيم الحُجة من زاويةٍ مُعيَّنة.

وربما كان من أبرز الملامح في حياتنا الثقافية في الأعوام التالية للحرب الثانية، ما أدَّاه أساتذة الفلاسفة الجامعيون، وكان ذلك ذا شِقَّين: أولهما تأصيل الفلسفة الإسلامية على أصولٍ إسلاميةٍ خالصة، بعد أن كان الظن أنها نقولٌ وشروحٌ من الفلسفة اليونانية وعليها. وثانيهما إدخالُ تيارَين مُعاصرَين كُنا بحاجةٍ إليهما، هما الفلسفة الوجودية توكيدًا للحرية، والوضعية المنطقية توكيدًا للطريقة العلمية في صياغة القول وفي فهمه على السواء.

فمن باب البحث في الفلسفة الإسلامية، أصدر الشيخ مصطفى عبد الرازق كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» (١٩٤٤م) الذي وقف فيه وقفة العالم المُحايِد؛ فهو يختفي وراء نصوصه اختفاء من لا يريد أن يكون له ميلٌ مُرجِّحٌ سوى ما تُوجبه النصوص؛ فالكتاب يشتمل على بيانٍ لمَنازع الغربيِّين والإسلاميِّين ومناهجهم في دراسة الفلسفة، فالباحثون الغربيون في طريقة عرضهم للموضوع تراهم وكأنما يَقصِدون إلى القول بأن في الفلسفة الإسلامية عناصرَ أجنبية، ثم يأخذون في رد تلك العناصر إلى مصادرها غير العربية وغير الإسلامية، مُوضِّحِين أثرها الذي يرونه فعالًا في توجيه الفكر الإسلامي. وأما الباحثون الإسلاميون فيغلِب عليهم أن يزنوا الفلسفة بميزان الدين. لكن مُؤلِّف «التمهيد» يتخذ لنفسه منهجًا آخرَ في درسه لتاريخ الفلسفة الإسلامية؛ إذ هو يتوخى «الرجوع إلى النظر العقلي الإسلامي في سذاجته الأُولى، وتَتبُّع مَدارجه في ثنايا العصور، وأسرار تطوُّره والنتيجةُ العامَّة التي ينتهي إليها هذا الكتاب هي أن للمُسلمِين فلسفةً خاصةً بهم، مطبوعةً بطباعهم، لها بداياتها البسيطة وأدوار نموِّها وازدهارها — وهي نتيجةٌ كَوَّنَت مدرسةً بأسرها في البحث الفلسفي منذ ظهر هذا الكتاب وإلى يومنا هذا.

وأما التياران المعاصران اللذان أُدخِلا في حياتنا الثقافية، فهما — كما ذكرنا — الوجودية، والوضعية المنطقية، الأولى لتكون فلسفة حياة، والثانية لتكون فلسفة علم، وكانت حياتنا الفكرية بحاجةٍ إلى الفلسفتَين؛ ولذلك أحدث هذان التياران أصداءً متفاوتةَ القوة، فهنا مؤيدٌ وهناك معارض. وكان أهم من قدَّم لنا الوجودية من زاويةٍ جديدة، هو عبد الرحمن بدوي في كتابه «الزمان الوجودي» (١٩٤٤م) وأهم من قدَّم الوضعية المنطقية بتطبيقٍ عربيٍّ هو زكي نجيب محمود في كتابه «المنطق الوضعي» (١٩٥١م) وكتابه «خرافة الميتافيزيقا» (١٩٥٣م).

إن العوامل المختلفة التي أَخذَت تعتمل في الثقافة العربية في مصر، منذ أواخر القرن الماضي، والتي ما انفَكَّت منذ ذلك التاريخ تُوسِّع من نطاق فعلها، فكلما امتدت إلى جانبٍ من جوانب الحياة، جاوزته إلى جانبٍ آخر؛ فمن مُطالَبةٍ بالحرية السياسية، إلى مطالبة بالحرية الفكرية، وبالحرية الاجتماعية. أقول إن هذه العوامل المختلفة كلها كانت طوال هذه الفترة تعمل في أَنفُس الكُتاب والمُفكِّرِين، باحثةً عن شخصيةٍ عربيةٍ جديدة، تُحافظ على تراث الماضي، وتُضيف إليه عناصر الحاضر. وكان لهذا البحث عن ذاتٍ جديدةٍ تُولَد من رماد التخلُّف ومن أغلال المُستبدِّين والمُستعمرِين، كان لهذا البحث عن ذاتٍ جديدةٍ، لحظاتٌ مشهودة، حفَّزتها على سرعة الحركة وحيوية النشاط: الثورة السياسية سنة ١٩١٩م، وحرب فلسطين سنة ١٩٤٨م على أثر إعلان الأمم المتحدة لقيام إسرائيل اغتصابًا من الشعب العربي. ودع عنك قيام حربَين عالميتَين، شبَّت في ختام الأولى منهما ثورةٌ سياسيةٌ تُطالِب بالاستقلال عن إنجلترا، وتَخمَّرَت في ختام الثانية منهما خمائر ثورةٍ اجتماعيةٍ — تهمِس ألسنتها أول الأمر، ثم تجهر — مُطالِبةً للشعب كله — لا للفئة المحظوظة وحدها — بحق العيش وحق المشاركة الفعلية في الحياة على أرضه. ولم تكن حريق القاهرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢م إلا اندلاعًا لروح الغضب الكامن في الصدور، ثم جاءت ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م لتُحوِّل غضبة الغاضب إلى سلوكٍ يُغيِّر الحياة الفاسدة، ويستبدل بها أوضاعًا جديدة، تُحقِّق له الآمال التي ظلَّت تتراكم على أقلام الكُتاب وفي أذهان المُفكِّرِين.

•••

كان الهدف الواضح الظاهر لشتى مَظاهر الفكر المصري والأدب المصري هو خلقَ رُوحٍ مصريةٍ جديدة، تتسم بطابعٍ مُميِّز. فلما أن نَشِبَت الحرب العالمية الثانية، وبَلغَت ختامها سنة ١٩٤٥م، أخذ هذا الطابع المُميِّز المنشود يتطلع إلى أفقٍ أوسع، لا يقتصر أمره على أصحاب الحياة العلمية وحدهم — أعني عِلْية المُثقفِين — بل يتعداهم إلى شيءٍ يصلح أن يتسع ليشمل الشعب كله، ثم لمَّا قامت الحرب الفلسطينية بين البلاد العربية وإسرائيل سنة ١٩٤٨م، كان ذلك بمثابة أن تتحدد معالم الهدف الجديد للفكر، وللأدب، وللسياسة، ولكل وجهٍ من أَوجُه النشاط الذهني، وهو أن يعمل العاملون وأن يُفكِّر المُفكِّرون، وأن يَتغنَّى الشعراء بوحدةٍ عربيةٍ وقوميةٍ عربية، تكون مصر جزءًا منها.

أَخذَت خيوطٌ كثيرة تتجمع، بعد أن هَدأَت نيران الحرب العالمية الثانية، تُشير كلها إلى وجوب تَغيُّر الأوضاع من أساسها؛ طه حسين يكتب عن «المُعذَّبِين في الأرض» كما يكتب سواه في نفس الاتجاه، إرهاصًا لثورةٍ اجتماعيةٍ اقتصادية. وخالد محمد خالد يكتب «من هنا نبدأ» و«مُواطِنون لا رعايا» فتُحدِث كتاباته أثرًا في رقعةٍ واسعةٍ من القراء؛ لأنه يلجأ إلى طريقةٍ في الكتابة تجمع في يدٍ واحدةٍ ثنائية الثقافة الدينية التي كانت مُعتزِلةً وراء جدران الأزهر إلى حدٍّ كبير، والثقافة السياسية الاجتماعية الجديدة، هادفًا إلى خَلقِ العربي المسلم الحر المعاصر في آنٍ معًا. ويحيى حقي يكتب «قنديل أم هاشم» «ليُؤكِّد ضرورة العودة إلى تربة الثقافة العربية الإسلامية، حتى وإن أوغل المُغترِب في العلم الأوروبي. ومحمد فريد أبو حديد — منذ العشرينيات والثلاثينيات — يكتب بروحه السمحة وقلمه الهادئ ليُشيع فينا نفحة التجديد الذي يُقيم بنيانه على أُسس الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة. خيوطٌ أَخذَت كلها تتجمع لتلتقي في عزيمةٍ واحدة، تنتظر الجذوة التي تُشعلها فتُحرِّكها إلى عملٍ ثوريٍّ يقلب التربة قلبًا ليبذر بذورًا جديدة، لتُنبِت لنا نباتًا جديدًا. وكانت هذه الجذوة هي ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، التي سرعان ما أَصبَحَت هي الثورة الأم، التي تَلِد ثوراتٍ متتابعةً رأسيةً وأفقية؛ رأسيةً تتناول أوضاع الحياة في مصر، وأفقيةً تتسع لِتشُبَّ في سائر أجزاء الأمة العربية.

لقد مسَّت روح الثورة جوانب الحياة الفكرية والأدبية جميعًا، وعلى صورٍ إن تفاوَتَت قوتها في المجالات المختلفة، فهي روحٌ منبثقةٌ عن توكيدنا للذات العربية في مجتمعٍ اشتراكيٍّ يضمن للإنسان كرامته مهما كان العمل الذي يُؤدِّيه، ومهما كانت درجته من الفقر أو الغنى. نعم لقد كانت الخيوط الفكرية كلها — كما قلنا — تتجمع نحو هذا الهدف خلال أعوام القرن العشرين كلها، لكن ثورة ١٩٥٢م جاءت لتبدأ في حياتنا الفكرية طورًا ثوريًّا، يستخدم كل عوامل الماضي، لينهض بتغييرٍ شامل.

ونستعرض صنوف الفكر والأدب خلال هذه الأعوام الثائرة، فنرى إلى أي حدٍّ تغَلغَلَت الثورة في أعماق المُفكِّرِين والأدباء، استجابةً — ومشاركةً في الريادة — للحركة التي شمِلَت الشعب بأَسْره.

ففي الشعر، بَلغَت البدايات الجديدة التي كان أبو حديد قد بدأها حين حاول أن يُجرِّب الشعر المرسل، الذي يحتفظ بالوزن ويَتخفَّف من القافية. أقول إن هذه البدايات، قد بَلغَت الآن أَوْجَها، على أيدي نفرٍ من الشعراء الذين أرادوا أن يفاجئونا بالجديد، في الشكل وفي المضمون معًا. فأما الشكل، فقد نفضوا عن أنفسهم التقليد السائد، الذي يُحتِّم أن يجيء الوزن على صورةٍ بعينها، وأن تكون للقافية شروطٌ تجب مراعاتها، ثم لم يكفهم هذا، فثاروا على المضمونات التقليدية التي لَبِث الشعراء يدورون فيها مئات السنين، منذ العصر الجاهلي وإلى يومنا، حتى لقد اجترأ كاتبٌ مُفكِّر خلال الأربعينيات هو أحمد أمين، مُؤلِّف المجموعة المشهورة التي أَرَّخَت للفكر العربي، والتي صَدرَت بعض أجزائها في الثلاثينيات، وأعني بها «فجر الإسلام» و«ظهر الإسلام». أقول إن هذا الكاتب المُفكِّر كان قد اجترأ فأَعلَن في سلسلة مقالات — نشرها في مجلة الثقافة التي كان يُشرف على تحريرها، ثم جمعها مع غيرها في مجموعة مقالاته «فيض الخاطر» — أَعلَن أن الأدب الجاهلي قد جنى على الشعر العربي جنايةً كبرى، حين حَدَّد له مرة وإلى الأبد — أو ما ظنه أنه باقٍ إلى الأبد — شكلًا بعينه للشعر، بل ومعاني بعينها يدور حولها الشعراء، وأن الثورة قد أصبَحَت واجبةً على الشعراء المُحدَثِين. وها هم أولاء الشعراء المُحدَثون قد سَنحَت لهم الفرصة فثاروا على الشعر التقليدي شكلًا ومضمونًا وكان على رأس هؤلاء — في مصر — صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي. لكنه مما يلفت النظر أنه إلى جانب الصور الجديدة الثائرة في شكلها وفي مضمونها، بَقِيَت صورٌ أخرى من الشعر، تكتفي بالثورة في المضمون الشعري، لكنها تحافظ على الشكل القديم، وترى أن الوعاء القديم ما زال صالحًا ليُصَبَّ فيه الشراب الجديد.

وإن هذا التوازن ليظهر كذلك في التأليف المسرحي خلال أعوام الثورة. أعني أنك تجد من أدباء المسرح من حطَّم الصورة الشكلية التقليدية للبناء المسرحي، فجاء جديدًا في المضمون والشكل معًا، كما تجد إلى جانبهم فئةً أخرى، تثور في المضمون لكنها تحافظ على الشكل التقليدي القديم، بل وتجد إلى جانب هؤلاء وأولئك جماعة ما زالت تكتب كما كان يكتب أدباء العشرينات، أسلوبًا ومضمونًا؛ فالشاعر المسرحي عزيز أباظة يُتابِع إخراج مسرحياته الشعرية على نحو ما كان يؤلف أحمد شوقي مسرحياته: مضمون يغلب عليه أن يكون من التاريخ العربي، وشكل يحافظ على الوزن والقافية التقليديَّين. والكاتب المسرحي العظيم توفيق الحكيم — الذي امتد إنتاجه الأدبي منذ العشرينيات، ولم يفتُر — ما زال كأوَّل عهده، يختار البناء الكلاسيكي للمسرحية، وإن يكن قد مال بالمضمون نحو المعاني الاشتراكية الجديدة. هذا إذا استثنينا محاولاتٍ جزئيةً يحاولها آنًا بعد آن، ليُجرِّب قلمه وذهنه في الاتجاهات المسرحية الجديدة؛ فيكتب حينًا في الأدب اللامعقول مسرحيةً يجاري بها أهل هذا المجال، ويكتب حينًا آخرَ شيئًا يسميه جمعًا بين المسرحية والرواية، وهكذا. أمَّا عبد الرحمن الشرقاوي فيكتب مسرحياتٍ شعريةً في موضوعاتٍ تُسايِر الثورة السياسية في أهدافها لكنه يَتخفَّف في شعره من قيود القافية، وإن ظل محتفظًا بالوزن الشعري كما عرفه التقليد العربي.

لكن الأدب المسرحي لم يلبث أن تفجر عن فئةٍ ثائرةٍ ممعنةٍ في ثورتها، أرادت أن يكون مسرحنا مسرحًا عربيًّا أصيلًا، يستوحي طابعنا المحلي الخاص؛ فاللغة في الحوار هي العامية لا الفصحى، وتتابُع المناظر والفصول يجري على نسقٍ مُبتكَر، بل وخشبة المسرح نفسها تَعرَّضَت للتبديل والتغيير، نذكر من هؤلاء «رشاد رشدي» و«نعمان عاشور» و«يوسف إدريس» و«لطفي الخولي» و«ألفريد فرج» و«سعد الدين وهبة». ولنلاحظ عن معظم هؤلاء أنهم ممن أسهموا في أكثر من مجالٍ أدبي؛ فمنهم من كتب القصة إلى جانب المسرحية (مثل يوسف إدريس)، ومنهم من أسهم في حركة النقد الأدبي كذلك (مثل رشاد رشدي)، وهم فوق هذا وهذا ممن يشتركون بأقلامهم في الصحافة اليومية، بما يغلب عليها من طابعٍ سياسيٍّ يتابع الأحداث الجارية.

وأما القصة فقد كانت في أدبنا الحديث منذ أول القرن، وبَلغَت أشواطًا لا بأس بها على أيدي هيكل في «زينب» و«هكذا خلقت» و«المازني» في «إبراهيم الكاتب» والعقاد في «سارة» ومحمود تيمور في «سلوى في مهب الريح»، وكلهم ممن غَلبَت فيهم الثقافة الفكرية العقلية على أدبه، فجاءت قصصهم تحليلًا لأفكار — وخصوصًا فكرة الحب، وبعض العلاقات الاجتماعية الأخرى — ثم ظهرت بعدهم جماعةٌ أُخرى تكتب القصة كتابةً تسودها التلقائية وعدم إطالة التفكير العقلي؛ وذلك لأن الطبع القصصي عندهم أعمق وأصل، ولكنهم برواية الأحداث والتزامهم الواقع كما يقع، أكثر اهتمامًا منهم بتحليل الأفكار والأشخاص؛ ولهذا كانت قصصهم أقرب إلى نفوس القراء الذين يريدون المتعة الأدبية وحدها ولا يصبرون على جهدٍ يبذلونه في أدبٍ أنشأه صاحبه بعد إعمال الفكر وعناية اللغة، ومن هذه المجموعة الثانية «يوسف السباعي» و«إحسان عبد القدوس» و«محمد عبد الحليم عبد الله» و«يوسف غراب». فلما قامت ثورة يوليو ١٩٥٢، ولبِثَت ماضيةً في طريقها الثوري ظل هؤلاء الكتاب يكتبون، بعد أن مالوا بمضمونهم الأدبي نحو الفكر الاشتراكي الجديد، ونحو إبراز المُفارَقات التي كانت تفسد حياتنا قبل الثورة، لكنهم — مع تجديدهم في المضمون، ومسايرتهم للروح الثورية — ما زالوا يحافظون على الأسلوب الذي بَدءوا الكتابة به منذ بدءوا.

ويقف وحده في ميدان القصة «نجيب محفوظ» الذي بدأ إنتاجه القصصي منذ أواخر الثلاثينيات. وظل يُواصِل الكتابة، التي استهدف بها دائمًا تصوير الطبقة الوسطى الطامحة إلى التشبُّه بالطبقة الممتازة، حتى قامت ثورة ١٩٥٢م، وعندئذٍ طَفَر بفنه طفرةً عالية؛ إذ وسَّع من منظوره الفني توسعةً استطاع بها أن ينظر إلى تاريخنا القومي الحديث كله، وكأنه ينظر إلى مشهدٍ واحد، وطفِق يُصوِّره تصويرًا بارعًا فيه حيوية وبناءٌ أدبيٌّ محكم، ومن خير الأمثلة لفنه الجديد ثلاثيةٌ صوَّر بها ثلاثة أجيال تتابَعَت في أسرةٍ واحدةٍ منذ ثورة ١٩١٩م، ليبرز في تطوُّرها خلال الوالد والولد والحفيد، معالم تطوُّرنا جميعًا في عصرنا الثوري الحديث.

ونترك ميدان الأدب، لننظر فيما صاحبه من نقدٍ أدبي، فنجد هنا المدارس تتتابع منذ العشرينيات حتى يومنا هذا، تتابعًا يدُل بذاته على معالم التغيُّر في وجهات النظر فبعد أن تولى النقد أدباء ما قبل الثورة: طه حسين، والعقاد، والمازني وغيرهم، ينقدون وكأنما في خلفية رءوسهم عقيدة بأن الأدب إنما يُكتب على أُسسٍ أدبيةٍ فنيةٍ صِرف، نُحاسب الأديب عليها دون أن نطالبه بأن يكون على رأيٍ مُعيَّن في موضوعٍ بعينه، فليكن مذهبه السياسي ما يكون، ولتكن ميوله الاجتماعية ما شاء لها أن تكون، وليضع أية عقيدةٍ أراد في أدبه، لكنه مطالب بتجويد فنه الأدبي، ثم هم بعد ذلك يختلفون في الأساس الذي يحكمون به على جودة هذا الفن الأدبي: أيكون هو نجاح القطعة الأدبية في التغلغُل بنا إلى أعماق نفس كاتبها؟ أم يكون هو نجاحها في تصوير عصرها؟ أقول إنه بعد أن كان النقد عند أدباء ما قبل الثورة قائمًا على أُسسٍ كهذه، جاءت الثورة فتبِعها تبدُّلٌ في الموقف النقدي؛ إذ أَخذَت المذهبية الاجتماعية والسياسية (الأيديولوجية) شيئًا فشيئًا تحتل مكانتها كأساسٍ للنقد، ينظر إليها قبل أن ينظر إلى أي شيء سواها، فإذا وُجِدَت القطعة الأدبية هادفةً نحو تحقيق آمال المجتمع في طوره الاشتراكي الجديد، نظرنا بعد ذلك في شكلها وأسلوبها وغير ذلك. وأمَّا إذا وُجِدَت غير هادفة على هذا النحو، كان من العبث وضياع الوقت والجهد أن نناقشها من جوانبها الفنية الأخرى. وكان من أبرز من أقاموا هذا النقد الأيديولوجي في الأعوام الأخيرة «محمد مندور» وما يزال يجري عليه نقاد آخرون مثل «محمود أمين العالم». على أن المعارك النقدية ما زالت تظهر في محيطنا الأدبي حينًا بعد حين، بين نقاد يؤكدون أهمية «الشكل» في القطعة الأدبية، بِغض النظر عن موضوعها، وآخرين يؤكدون أولوية «الموضوع» وإلَّا فلو خلت الكتابة من موضوع يمس مشكلات الحياة الواقعة، كانت عبثًا ولهوًا. وهنالك نُقادٌ يقفون في نقدهم عند التقويم الفني المُشبَع بقراءاتٍ عريضةٍ وثقافاتٍ متنوعة، مثل لويس عوض.

وإن الحديث عن النقد الأدبي، لَيجُرنا إلى الحديث عن «الفكر» بصفةٍ عامَّة؛ فها هنا كذلك نجد الأمزجة كلها متجاورة — وإن لم تكن متآلفة — فثَمَّةَ من الدارسين — من أساتذة الجامعة بصفةٍ خاصةٍ — من يعكف على دراسة القديم أو الجديد، كلٌّ بحسَب ميدان تخصُّصه، ليُخرج للناس بحوثه في كتب أو في مقالاتٍ أكاديمية، أو على الأقل مطبوعة بطابع الجِد الرصين. ومن أمثلة هؤلاء في مجال الدراسة الأدبية «شوقي ضيف» الذي ينصرف بجهوده نحو التأريخ للأدب العربي من أقدم قديمه إلى أحدث حديثه، و«سهير القلماوي» التي استطاعت بسَعة أفقها وطلاوة حديثها أن توصل أعلى المستويات الثقافية إلى جمهور القُراء في أسلوبٍ رفيعٍ وبطريقةٍ جذابة. ومن هؤلاء أيضًا مدرسةٌ أدبيةٌ تجعل شعارها «الأدب للحياة» — سواءٌ جاءت ثمارهم مطابقةً تمام المطابقة لشعارهم هذا أو لم تجئ — وكان على رأس هذه المدرسة «أمين الخولي» و«عائشة عبد الرحمن» التي تُعرف عند القُراء باسم «بنت الشاطئ» وهي في مرحلتها الأخيرة أميَل إلى إحياء القيم العليا من جوف التراث، ابتغاءَ وَصلِها الجديد بالقديم.

وفي ميدان الفكر النظري، دراساتٌ مختلفة المَنزع تَصدُر تباعًا في شتى الفروع، لكن ما يلفت النظر منها هو الدراسات الخاصة بالمفهومات الاشتراكية، التي قد تضيق حتى تتناول مفهومًا واحدًا بالشرح والتحليل، وقد تتسع حتى تشمل النظرية الاشتراكية كلها في صورتها العربية. ولو أردنا أن نلتمس موضعًا واحدًا يُلخِّص لنا صفوة فكرنا الاشتراكي الجديد، لمَا وجدنا خيرًا من «الميثاق» الذي صدر سنة ١٩٦٢م عن مؤتمرٍ وطنيٍّ كبير، ليكون بمثابة خُطة للعمل القومي السياسي إلى حين.

•••

على أن صورة الحياة الثقافية في مصر المعاصرة لا تُكمل إلا بذكر جهودٍ متفرقةٍ كثيرة، تُكوِّن الروافد التي تمد التيار الرئيسي الكبير، كلٌّ بحسب منبعه ومورده؛ فهنالك من ينقل إلينا ثقافة الغرب — إمَّا بالترجمة وإمَّا بالأصالة الشخصية — نقلًا يتسم بالتأييد المُتحمِّس لها، وعلى رأس هؤلاء الدكتور حسين فوزي، وأشهر كتبه «سندباد عصري» الذي يجمع في دراسته بين العلم والأدب. وهنالك من يُفكِّر في مشكلاتٍ ثقافيةٍ يختارها لنفسه، تفكيرًا مستقلًّا أصيلًا، لا يُبالي أجاء مُصطبغًا بتأييد العربي القديم أو الغربي الجديد، مثل «الدكتور محمد كامل حسين»، ومن خير ما كتب قصة «قرية ظالمة» الذي يجمع هو الآخر بين الدراسة العلمية والأدبية. هنالك المؤرخ الذي أخذ نفسه بالتأريخ لبلادنا في عصورها الحديثة تاريخًا مفصلًا، تسري فيه الروح الوطنية التي تُبرز صورة قومه مبرأةً من الشوائب التي أدخلها عليها مُؤرِّخون آخرون لم يكتبوا بروح الإنصاف، مثل «عبد الرحمن الرافعي». وهنالك عشرات الباحثين توفَّروا على نشر النصوص القديمة وتحقيقها، ومئات المُترجِمِين الذين ينقلون عن أوروبا وأمريكا ما ينتجانه حتى ليتابعوا الحركة الفكرية هناك خطوة خطوة. وهنالك عددٌ ليس بقليل ممن جعلوا همهم جمع الأدب الشعبي والفن الشعبي في مختلف صوره، وصَبَّ هذه الصور في سياقٍ متسقٍ من شأنه أن يُوضِّح جانبًا هامًّا من الروح المصرية العربية الأصيلة التي لا غنًى عن توضيحها إذا أردنا — كما نحن مريدون منذ أول القرن — أن نبحث عن حقيقة أنفسنا، ويتزعم هذه الحركة «عبد الحميد يونس» الذي أنشئ له كرسيٌّ جامعيٌّ ليتولى تدعيم الدراسة الفولكلورية على أُسسٍ أكاديميةٍ قوية. ولقد أَخذَت هذه الآثار الشعبية في الأدب والفن، تسري في كثير من الخَلق الأدبي في القصة والمسرحية والشعر.

إنه لو جاز لنا أن نُلخِّص تيارات الفكر والأدب المعاصرة في مصر، في عبارةٍ واحدة، قلنا إنها جميعًا محاولاتٌ نحو خلق شخصيةٍ عربيةٍ جديدة، تحمل طابعًا مميزًا، تجتمع فيه قيم الماضي العريق، وقيم الحاضر المُتطوِّر، طابعًا يتسم بالإرادة الحرة، وبالنظرة العلمية، ينقل عن تراث الآباء قيمه العليا، وعن الحضارة القائمة علومها وصناعتها وتياراتها الفكرية والفنية، ثم يتمثل ذلك التراث وهذه الحضارة، تمثُّلًا ينتهي إلى أصالةٍ وابتكار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤