وقفة شاعر

أمَّا الشاعر فهو «أدونيس» (الأستاذ علي أحمد سعيد)، وأمَّا ديوانه فهو «أغاني مهيار الدمشقي» — وله قبل ذلك ديوان «قصائد أولى» وديوان «أوراق في الريح» — ولقد عِشتُ مع «أدونيس» في ديوانه ذاك، شهرًا كاملًا؛ لأنه من أصحاب الشعر الحديث في طليعة الطليعة، فإذا أراد دارسٌ لهذه الظاهرة الشعرية الحديثة أن يُنصِف نفسه ويُنصِف موضوع دراسته، فلا مندوحة له عن العيش مع أصحابها — في دواوينهم — مدةً تكفيه لإقناع نفسه بما ينتهي إليه من رأى، قبل أن يطمع في إقناع غيره. وليست الحداثة في هذا الديوان الذي أتناوله الآن بالتحليل والعرض، هي في خروجه على أوزان الخليل، كلا؛ لأن هذه الأوزان مرعيةٌ فيه، بل هي في توزيع تلك الأوزان، ثم في توزيع القافية، ثم فيما هو أهم من هذا وذاك، وأعني «مضمون» الشعر؛ فها هنا ستكون الوقفة طويلةً فاحصة.

في هذا الديوان سبعة أقسام، في الستة الأولى منها يبدأ كل قسم «بمزمورٍ» نَثريٍّ يقدم — في لغة شعرية — جوهر الروح السائد في قصائده. وأمَّا القسم السابع فكله «مَرثِيَّاتٌ» من طِرازٍ مُبتكَر. وأسماء الأقسام السبعة على تواليها في الديوان، هي:

فارس الكلمات الغريبة، ساحر الغبار، الإله الميت، إرم ذات العماد، الزمان الصغير، طرف العالم، الموت المعاد.

إننا في هذا الديوان بإزاء شاعر لا يستخدم اللفظ «ليعني» شيئًا آخر غير اللفظ نفسه، بل يستخدمه «ليُوحي»، فمن لم يقبل منذ البدء هذا الأساس الإيحائي في استخدام اللفظ، كان خيرًا له — وللشاعر — ألَّا يطالع هذا الديوان؛ لئلَّا يُوجِّه إليه نقدًا هو — في رأيي — نقدٌ غير مشروع؛ إذ القاعدة الأولى في النقد الفني المنصف، هي أن نُحاسِب الأثر الفني المنقود بالمعيار نفسه الذي خُلق ذلك الأثر على أساسه، وإلا فربما وجدنا أنفسنا ننقد القط لأنه ليس نمرًا، وإنه لمن المقطوع به أن للغة طرائقَ عدةً تُستخدم بها؛ منها أن تكون أداةَ إخبار، وعندئذ يكون مدار قبولها أو رفضها هو «المعنى» — على أن نفهم «المعنى» بأنه إشارة اللفظ إلى ما ليس بلفظ، كأن نشير بكلمة «قلم» إلى الشيء الذي هو قلم في عالم الأشياء — ولكن اللغة قد تُستخدم كذلك، لا لتشير ألفاظها إلى أشياء، بل لتكون أداة إيحاء واستثارة، وعندئذٍ يكون مدارها هو الحالة الشعورية الداخلية المستثارة، وفي هذه الحالة تكون اللغة كالطريق المسدود، نسير فيه لا لننفُذ منه إلى ما ينفتح عليه الطريق عند طرفه الآخر، بل نسير فيه لأننا نسكن هناك، بغير إضافة جانبٍ ثالثٍ ننتقيه من بين الأشياء المُسمَّيات.

والديوان الذي بين أيدينا، يستخدم اللغة على هذا الأساس الثاني؛ فهو يُشيع في نفسك حالةً من الثورة والتمرُّد والرفض، بالنسبة إلى هذه المرحلة الحضارية التي يجتازها العالم في عصرنا، الذي هو «عصر الخضوع والسراب، عصر الدمية والفزاعة، عصر اللحظة الشرهة، عصر انحدارٍ لا قرار له.» إنه «عصر يتفتت كالرمل، يتلاحم كالتوتياء، عصر السَّحاب المُسمَّى قطيعًا، والصفائح المسماة أدمغة» (من «مزمور» ساحر الغبار). إنه «عالَمٌ ضريرٌ» يخبِط خَبط الأمي، ولا بد له من شاعرٍ يثور على بلادته وبلاهته ليبدله عالمًا آخر. نعم إن السلطة الغبية ستقف له بالمرصاد، وسيجره الشرطي إلى المِقصلة، قائلًا له: «… إن حذاء الشرطي، هو من وجهك أجمل، آه يا عصر الحذاء الذهبي!» (قصيدة العصر الذهبي، ص١٤٧). لكن الشاعر — برغم هذا — ماضٍ في ثورته على قومه؛ لأنه لا يملك التخلي عنهم؛ فهم القطيع الضال، وهو المُرشِد الهادي، وهو من يُراعي في هدايته لطف المأخذ ونعومة الملمس، بل سينقض على تاريخ بلاده كما تنقض الصخرة والصاعقة، سيطفئ لها مصابيحها، ويشعل لها نوافذها، لتبدأ معه صفحة جديدة من تاريخها، ولكي يفعل ذلك فلا مندوحة له عن العيش وحده في «برعم» ارتقابًا لما يجيء في مقبل الأيام من تفتُّح وازدهار، «تريدونني أن أكون مثلكم، تطبخونني في قِدْر صلواتكم، تمزجونني بِحُساءِ العساكر وفلفلِ الطاغية، ثم تنصبونني خيمةً للوالي، وترفعون جمجمتي بيرقًا؟ آه يا موتى! تعيشون كالبلاط. يفصلكم عني بُعدٍ بحجم السراب. لا أستطيع أن أحيا معكم، لا أستطيع أن أحيا إلا معكم!» (من «مزمور» إرم ذات العماد).

هذا هو العصر الذي لا يرى الشاعر مندوحة عن رفضه والتمرد عليه، ليخلق عصرًا جديدًا؛ فما الشاعر إلا «آدم» يبدأ خلقًا جديدًا ويصوغ لفظًا جديدًا، ومن هنا كان شاعرنا «فارس الكلمات الغريبة»؛ فلقد علم الله آدم الأسماء كلها؛ لأن اللغة وكلماتها هي وحدها الحد الفاصل بين مرحلة الحيوان ومرحلة الإنسان، هي وحدها ختامٌ لعهد الغريزة العمياء وبدايةٌ لعهد البصيرة المضيئة. وإذن فلا بد «لفارس الكلمات الغريبة» أن تجيء كلماته — أي أن تجيء قصائد شعره — كأنها البيرق ملوحًا للناس بفجرٍ جديد، «… هو ذا يتقدم تحت الركام في مُناخ الحروف الجديدة، مانحًا شعره للرياح الكئيبة، خشنًا ساحرًا كالنحاس. إنه لغةٌ تتموج بين الصواري. إنه فارس الكلمات الغريبة» (قصيدة «العهد الجديد»، ص٢٧). إن الشاعر رجل كسائر الرجال في بادي مظهره، لكنه ليس كسائر الرجال في رسالته؛ فرسالته لها خصائص الإلهام والنبوة؛ لأنها آتيةٌ إليه من السماء، تتغير لها ظواهر الطبيعة وحياة الناس: «النخيلُ انحنَى، وَالنهارُ انحنَى وَالمساء، إنه مُقبِل، إنه مِثلُنا، غَيرَ أن السماء، رَفعَت بِاسمِه سَقْفها المُمطِرا، ودَنَت كي تُدلِّي وَجهَه، فَوقَنا، جَرْسًا أَخضَرا» (قصيدة «الجرس»، ص٢٩)؛ ذلك أن صوت الشاعر إنما يرن في الأسماع وفي الضمائر كأنه جرسٌ يُبدِّل بجلجلته يباب الحياة اليابسة خصوبةً جديدةً خضراء، أو كأنه — بدعوته — بمثابة من يُعلِّم الناس بالقلم، يُعلِّمهم قراءة الطبيعة الصامتة، ويُعلِّمهم كتابة أحرفٍ من نار، لعل النائم أن يستيقظ من سباته: «… مَرَّت على بحارِنا سَحابةٌ، مِن نَارِه، مِن عَطشِ الأَجيَال. أَعطَى لنا الخَيَال، أَحلامَه، أَعطَى لنا كِتابَه» (قصيدة «الحيرة»، ص٣٢). ولا يحسبنَّ حاسبٌ أن الشاعر في تبليغه للناس دعوته، يعيش في نعومة ونعيم، بل إنه ليعيش «بين النار والطاعون» فهو مع لغته الشاعرة يُحس كأنما هو بإزاء عالَمٍ أخرسَ. إنه لو أراد الراحة الناعمة لعاش كما عاش آدم في الجنة قبل السقوط، لكنه يعيش في قلق العارف بين قومٍ يجهلون؛ فهو يعيش «في كتاب» «بين الغيم والشرار» (قصيدة «السقوط» ص٥٤). يحب ويحيا ويُولد في كلماته (قصيدة «ملك الرياح»، ص٥٧). أغنياته هي خبزه، وكلماته هي مملكته (قصيدة «الصخرة»، ص٥٩). وإنه ليقول أغنياته تلك وكلماته، لا ليتسلى بها، بل إنه ليقولها لِتكون كالرياح تهز الحياة، وكالشرار يُشعل النيران في الهيكل البالي: «عاشقٌ أَتدحرجُ في عَتماتِ الجحيم، حَجرًا، غَيرَ أني أُضيء. إن لي مَوعدًا مع الكَاهناتِ فِي سَريرِ الإله القديم. كَلِماتي رياحٌ تَهزُّ الحياة، وغنائي شَرار. إنَّني لغةٌ لإلهٍ يجيء. إنني ساحرُ الغُبار» (قصيدة «أورفيوس»، ص٦٧).

الشاعر هو من جاء لِيُغيِّر وجه الأرض، يُقبِل أَعزَل كالغابة، وكالغَيم لا يُرَدُّ، وأَمسِ حَمَل قارَّةً، ونَقَل البحر من مكانه. إنه فيزياء الأشياء — يعرفها ويُسمِّيها بأسماءٍ لا يبوح بها، إنه الواقع ونقيضه، والحياة وغيرها (من «مزمور» فارس الكلمات الغريبة، ص١٣). وليس الشاعر كالخطيب تراه يعتلي المنابر لِيَعظ الناس في جهرٍ وعلانية، كلا، بل إنه ليعمل في خفاء كأنه سِحر الساحر، يستخرج من الخسيس معدنًا نفيسًا دون أن تلمحه العيون. ولقد كُتب عليه ألَّا ينعم بثمرة عمله؛ لأنه ما إن يخلق الجديد للآخرِين حتى يَفنى هو فيما قد خَلَق، كأنه فريسة خياله الضاري؛ يملأ الحياة ولا يراه أحد، يُصيِّر الحياة زبدًا ويغوص فيه، يُحوِّل الغُدد إلى طريدةٍ ويعدو يائسًا وراءها، محفورةً كلماته في اتجاه الضياع الضياع الضياع» (نفس «المزمور» السابق، ص١٤). إنه صِنو آدم، يجيء حلقةً أولى من سلسلة أخلافٍ تعقبه، دون أن يسبقه سلف: «إنه الريح لا ترجع القهقري، والماء لا يعود إلى منبعه، يخلق نوعه بدءًا من نفسه، لا أسلاف له، وفي خطواته جذوره» (نفس «المزمور» السابق، ص١٤). إن عليه أن يحتمل عناء الرسالة، فيشق طريقه في الوَعْر ويركب الصَّعْب، حتى إذا ما فرغ من معركة الجهاد، أصبح هو لا شيء: «ضيع خيط الأشياء وانطَفأَت، نَجمة إحساسه وما عَثَرا، حتى إذا صار خطوه حجرًا، وقورت وجنتاه من ملل، جمع أشلاءه على مهل، جمعها للحياة وانتثرا» (قصيدة «صوت آخر» ص١٨).

وكما يكون الشاعر شبيهًا بآدم في أصالته وبكارته وابتداعه، كذلك يكون شبيهًا بنوح، على أثر طوفان — لا بل إن الشاعر هو الطوفان نفسه — الذي يكسح أمامه الأوشاب لِيُمهِّد الأرض لزرعٍ جديد، ليهيئ الكتاب لتاريخٍ وليد. إنه يقبس من نور عينَيه نورًا، ومن حرارة أنفاسه شررًا. إنه هو الذي يخلُق الصباح بعد غَسَق الليل. أعرفه — يحمل في عينَيه، نبوة البحار، سماني التاريخ والقصيدة، الغاسلة المكان، أعرفه — سماني الطوفان (قصيدة «يحمل في عينَيه» ص٣٤).

في رسالة الشاعر نبوة، «إنني نبيٌّ وشكَّاك» «اكتشفتُ نبرةً لعصرنا وغنة» («مزمور» ساحر الغبار، ص٤١، ٤٢). «وَحَيرتي حَيرةُ مَن يُضيء، حَيرةُ مَن يعرف كل شيء» (قصيدة «حوار»، ص٥٥). نعم إن عبء الرسالة ثقيل، لكنها واجبٌ لا بد من أدائه، مهما أنقض الظهر: «فيا صَخرتي أثقلي خُطواتي، حَمَلتُكِ فجرًا على كتفيَّ، رسَمتُكِ رؤيا على قَسَماتي» (قصيدة «الصخرة» ص٥٩). ألَا إن الشاعر في مغامرته الخلَّاقة، لَيُقدم على هاويةٍ لا يعلم لها من قرار، لكنه يُطوِّح بنفسه فيها «بفرحة المنبئ والنذير، فرحة أن تصير، أغنيتي أغنية سواها، تقود هذا العالم الضرير» (قصيدة «هاوية»، ص٦٠). وإنه لمن معجزات الشاعر أنه وإن يكن يفنى في أداء رسالته، إلا أن نسله يُولد بعد أن يموت هو، فلا تضيع دعوته هباءً، وإن خُيل إليك أن أبيات الشعر واهيةٌ كبيوت العناكب، إلا أنه من عجب أن الشاعر يمشي على هذه الخيوط الواهية طريقه (راجع قصيدة «لي أسراري»، ص٦١).

ولما كانت سبيل الحياة الوليدة الجديدة هي فناء الحياة البالية العتيقة، لم يكن بُدٌّ من أن يقتل الشاعر ما هو كائنٌ ليخرج له من رماده ما ينبغي أن يكون. إنه مثل زرادشت يُولِّد من الظلام نورًا، ومن الشر خيرًا، ومن الإنسان العاجز الضعيف إنسانًا أقوى وأعلى، إنه «يقشر الإنسان كالبصلة» (ص١٤). «يَضرِبنا مِهيار، يحرِق فينا قشْرة الحياة، وَالصبرَ والمَلامحَ الوديعة، فاستسلمي للرعب والفجيعة، يا أرضنا يا زوجة الإلهِ والطغاة، واستسلمي للنار» (قصيدة «دعوة للموت» ص٢٢).

وليست تحد الشاعر حدود الأخلاق — من خير ومن شر — كما هي قائمة بين الناس في العرف الجاري؛ لأن له قِيَمه المستقلة الملائمة لعالمه الجديد، «من أنتَ؟ من تختار يا مِهيار؟ أنَّى اتَّجَهتَ: اللهَ أو هاويةَ الشيطان، هاويةً تَذهبُ أو هاويةً تجيء، والعالَم اختيار» — «لا اللهَ أختار ولا الشيطان، كلاهما جدار، كلاهما يُغلِق لي عينيَّ — هل أُبدِّل الجدارَ بِالجدار؟» (قصيدة «حوار»، ص٥٥).

•••

ومن أين يا تُرى يستمد الشاعر جديده المنشود؟ أمن السماء وأشباحها، أم من الأرض وواقعها؟ إنه يلوذ بهذه دون تلك، فالينبوع الدافق هنا لا هناك، تحت أقدامنا لا فوق رءوسنا: «مات إلهٌ كان من هناك، يهبط، من جُمجُمةِ السماء، لَربما في الذُّعرِ والهلاك، في اليأسِ فِي المَتَاه، يَصعدُ من أعماقي الإله، لَربما، فالأرضُ لِي سريرٌ وزَوجة، والعالَمُ انحِناء» (قصيدة «مات إله»، ص٥١). ولا بأس عند الشاعر في أن يمحو التاريخ كله وآثاره كلها، ليرتد راجعًا إلى البدء، لعله يرسم الطريق من جديد، «سأُسافر فِي مَوجةٍ فِي جَناح، سأزورُ العُصورَ التي هَجرَتنا، والسماءَ الهُلاميَّةَ السابعة» (قصيدة «سفر»، ص٧٠). لعله قد سئم المقام ها هنا، وود لو طار مع الهواء واحتضن الموج، ولتتحطم في أعقابه مرآة الحياة وقارورة السنين (راجع قصيدة «اترك لنا وراءك»، (ص٧١)). إنه يود أن يُزيح عن عاتقه كل قيدٍ موروث، ويُزيل عن عنقه كل خانقٍ للحياة الحرة الطليقة، ليبدأ حياته في أرضٍ بكرٍ لم يُلوثها التاريخ: «أحرق ميراثي، أقول أرضي بكر، ولا قبور في شبابي» (قصيدة «لغة الخطيئة»، ص٥٦). ولئن كان الشاعر يتمثل نفسه في موقف آدم عند البداية، فإنه لا يريد أن يُعرقل خطاه بفكرة الخطيئة. إنه يريد أن يمحو لغة الخطيئة (ص٥٦) وحتى وإن أخطأ، ففي سبيلٍ إنسانيةٍ جديدة، فكأنما هو — في هذه الحالة — خاطئٌ يحيا بلا خطيئة (ص٦٠).

•••

«الرفض» هو النغمة السائدة في هذا الديوان؛ فلو لخصت موقفه لقلت إنه موقفٌ يُعبِّر عنه قولنا: «أنا أرفض، إذن أنا موجود.» إنها ثورة فيها «لا» بغير «نعم». إنه يُبين لنا على أي شيء يثور، لكنه يكاد لا يفصح في سبيل أي شيء يثور؟ إنه ثائرٌ على «الخليفة»، هادم للديار، حارق للنجوم، رافع بيرق الأفول، يرفض الإمامة، فماذا يريد؟ (راجع قصيدة «وجه مهيار»، ص٣١). إنه ينظر حوله فلا يجد عند الناس إلا طريقَين؛ فإمَّا طريق الله (الفضيلة) وإما طريق الشيطان (الرذيلة) ويقال له: اختر أحد الطريقَين، فيقول: «لا اللهَ أختارُ ولا الشيطان» (ص٥٥). إنه يقلب عينَيه في الموروث كله، ليقول آخر الأمر: «احرق ميراثي» (ص٥٦). وإذا أحس بالهزيمة في هذا الصراع العنيد وجد العزاء في «كبرياء الرفض والهزيمة» (ص٨٩). وما يفتأ مُصِرًّا على أن أغنيته للموت، أغنيته للرفض (ص١٠٧). وكأنما هو يتيه سعادة وفخرًا، حين يقول إن «الرفض إنجيلي» (ص١١٢). «لَيسَ ليَ اختيار، غير جحيمِ الرفض» (ص١٣٢). وفيم هذا الرفض كله وهذا التمرُّد كله؟ إنه في سبيل سفر تكوينٍ جديدٍ يُبشِّر به مبهمًا بغير إفصاحٍ كافٍ عن مَعالمه: «أُفتِّتُ العالَمَ كي أَمنحَهُ الوجود، ضاربًا بِعصايَ الصخرَ حيث ينبجِسُ الرفض ويغسِلُ جسدَ البسيطة، مُعلِنًا طوفانَ الرفضِ، مُعلِنًا سِفرَ تكوينِه» (ص١٠٣).

يريد شاعرنا أن يكون مجرَّد وجوده حُجةً على عصره؛ فكل ما حوله وكل ما في جوفه وباءٌ في وباء، ودغلٌ في دغل، وإذن فلا مناصَ له من أن يمحو كل الأوشاب التي عَلِقَت بفطرته ليغسل داخله غسلًا (ص٤٣). وبعدئذٍ يترك نفسه للريح، للسحاب، للبروق والرعود، للصواعق، للمطر المبحر، والموج، «لدربي اللابسة الأمواج والجبال، بوجهي المليء بالأصداء أَطفأتُ آلاف الشموع البيض في السماء، قُلتُ لأسناني، للأظافر الزرقاء، لِينِي معي واستسلمي للموج والهدير، قُلتُ لها أن تقطع الحبال، بيني وبين الشاطئ الأخير» (قصيدة «لا حد لي»، ص٧٦).

إنه يتحرق اشتياقًا إلى عالمٍ جديد: «أشحذ الساعة البطيئة يا أبعاد الأرض، أهمز العقارب وأنخسها، أقتلع المدينة وأُعلِّقها، أُتيح للبحر أن يتنهد وأن يرقص، أُعلِّم السير أن يقهر المسافة يا أبعاد الأرض» (من «مزمور» الإله الميت، ص١٠٣). إن هذا الشاعر الذي امتلأ ضجرًا وقلقًا وضيقًا، لَيُخاطب الصاعقة أن تُغيِّر له خريطة الأشياء (قصيدة «الصاعقة»، ص١١٣). ولكنه يعلم أن الصاعقة وحدها لا تكفي؛ إذ لا بد لها من ريشة الشاعر، فراح يُقسم أن يكتب فوق الماء، وأن يحمل مع سيزيف صخرته الصماء، ويُقسم أن يخضع للحمى وللشرار، باحثًا في المحاجر الضريرة عن ريشةٍ أخيرة …» (قصيدة «إلى سيزيف»، ص١٢٧).

ويُبشِّرنا الشاعر المغامر بعالَمٍ جديدٍ وقع لنا على جذوره؛ فهو إذ يهبط بين المجاذيف وبين الصخور، يتلاقى مع التائهِين في جرار العرائس، وفي وَشْوشات المحار، هناك يجد لنا جذور الحياة الجديدة (ص٢٣). لكن هذه الجذور النابتة لم يتحقق وجودها إلا على حساب ما قد بذل الشاعر من جهد ومن عناء: «باسم تاريخه في بلاد الوحول، يأكل — حين يجوع — جبينه، ويموت وتجهل كيف يموت الفصول، خلف هذا القناع الطويل، من الأغنيات، وحده البذرة الأمينة، وحده ساكن في قرار الحياة» (قصيدة «قناع الأغنيات»، ص٢٤)؛ فالشاعر وحده — على طول العصور — هو الذي يُحقِّق للبشرية — بأغنياته — ولادة حياةٍ متجددةٍ كلما تقادَمَت حياةٌ وفَسدَت. إنه وحده هو الذي يُقبل على الناس كالجرس، يُوقظ النيام (قصيدة «العهد الجديد»، ص٢٧ وقصيدة «الجرس»، ص٢٩). والشاعر وحده هو الذي يُهيب بالناس — إذا ما خَمدَت فيهم جَذوة الحياة — أن «ارفعوا ارفعوا الشراع، اعبروا هذه البحار، أفلا تلمحون سواها؟ ما لكم؟ سبقتكم رياح النهار» (قصيدة «رياح النهار»، ص٣٦). وهو وحده الذي «يمحو صفحة السماء القريبة» ليجيء «حاملًا غُرَّة النهار» (قصيدة «الآخرون»، ص٣٧). وهو وحده الذي يُشعل النار فيما هو قائمٌ على عفَن وفساد، لعل الليالي الحُبالى أن تلد فوق الرماد جذور حياةٍ جديدة.

تلك هي رسالة الشاعر، فإن أدَّاها، فلا ضير عليه أن يموت ما دامت آثاره باقيةً من ورائه خالدة، وسواءٌ لديه ألاقاه الناس بالشوك أم لاقوه بالحجار؛ لأن حياته في ذاتها لا قيمة لها، وإنما القيمة في أدائها الرسالة أداءً أمينًا: «لاقيه يا مدينة الأنصار، بالشوك أو لاقيه بالحجار، وعلقي يدَيه، قوسًا يمر القبر، من تحتها، وتوجي صُدغَيه، بالوشم أو بالجمر — وليحترق مهيار» (قصيدة «مدينة الأنصار»، ص٢٥) — فإذا أنكره الناس في يومه، «فغدًا غدًا في النار والربيع، تعرف أني قاتل القطيع، تعرف أني حاضن البذور، غدًا غدًا توقن بي عيناك» (قصيدة «لم ترني عيناك»، ص٦٢). وحين يتم النصر للشاعر، يحق له أن يُغنِّي: «هَدَمتُ مملكتي، هَدَمتُ عرشي وساحاتي وأروقتي، ورُحتُ أبحث محمولًا على رئتي، أُعلم البحر أمطاري وأمنحه، ناري ومجمرتي، وأكتب الزمن الآتي على شفتي. واليوم لي لغتي، ولي تخومي ولي أرضي ولي سمتي، ولي شعوبي تُغذِّيني بحيرتها، وتستضيء بأنقاضي وأجنحتي» (قصيدة «اليوم لي لغتي»، ص٩١).

•••

لكن طريق الشاعر إلى النصر، إنما يمتلئ بعثرات اليأس والمرارة؛ فلطالما كانت أجراس لفظه بلا رنين (ص١٧). ولطالما مات صوته فراح يشكوه للكلمات لأنه خان رسالتها (ص١٦). ولطالما التمست أغانيه طريقها خِلسةً في مساربَ شاحبةٍ كأنها المنفى، أو جاءت لغته مخنوقة الأجراس (ص٤٥). فلا عجب أن شحن الديوان بعباراتٍ يائسةٍ سوداء؛ فالمكان جثة تنزف دمًا (ص١٩). والعالم يلبس وجه الموت (ص٢٠). والشاعر يحمل هاويته ويمشي. وسادته الهاوية والخرائب شفيعته (ص٤١). وإنه ليعجن خميرة السقوط، يُفلطح العالم ويصفحه ويناديه: أيها العملاق المسخ (ص٤٢). وينادي الموت بيا صديقي (ص٧٨). وهكذا وهكذا من أول الديوان إلى آخره.

ومن أول الديوان إلى آخره تُصادِفك الصور الشعرية المُبتكَرة الأصيلة؛ فالشاعر «يقبل أعزل كالغابة، وكالغيم لا يرد»، «يصنع من قدميه نهارًا ويستعير حذاء الليل» (ص١٣)، و«يصير الحياة زبدًا ويغوص فيه»، «يحول الغد إلى طريدة ويعدو يائسًا وراءها» (ص١٤)، «إنه الريح لا ترجع القهقري، والماء لا يعود إلى منبعه» (ص١٤)، والشاعر يمضي في قنوطه «تاركًا يأسه علامةً فوق وجه الفصول» (ص٣١)، «حينما يغلق الصباح على عينَيه أبوابه وينطفئ» (ص٢٨)، «وحينما يلتصق الموت بناظرَيه، يلبس جِلد الأرض والأشياء، ينام في يدَيه» (ص٣٣)، والشاعر بعد أن يُهلك الحضور بالصواعق، يستدير «حاملًا غُرَّة النهار» (ص٣٧)، إنه مهما لقي من عذاب في سبيل أداء الرسالة، فهو «عاشق أتدحرج في عتمات الجحيم حجرًا، غير أني أضيء» (ص٦٧)، إنه بهدايته بمثابة من «يغسل فروة الأرض» (ص١٠١)، لكنه في حالات يأسه «يخلق شهوةً كلُهاث التنين» (ص٤٢)، أو ينزوي حينًا «أخرس كالمسمار» (ص٨٤)، وإن حياته مهما ازدَهرَت فمن وراء غمراتها موتٌ مُحقَّق «إنني كالصدفة، تحت وجهي حَفرتُ مقبرتي» (ص١٢٣)؛ فهو مخلوق غريب، لا تدري أهو من الأحياء أم من الموتى، «بالنزيف تتغذى عروقي، ولا مكان لي بين الموتى» (ص٤٣).

وإن القارئ ليصادف في الديوان صورًا غريبة، لكنها مُوحية؛ فقد يصف الصوت باللون: «جرسٌ أخضر» (ص٢٩)، و«الصاعقة الخضراء» (ص١١٣)، وقد يضع النقائض جنبًا إلى جنب، لكنها مع ذلك توحي بالصور: «تحت أظفاره دم وإله» (ص٣٨)، أحتمي بطفولة الليل تاركًا رأسي فوق ركبة الصباح (ص٤٢)، أعرف أنني في شرخ الموت (ص٤٣)، عيناي من عشب ومن حريق، عيناي راياتٌ وراحلون (ص٥٢)، اجرح وجه الماء (ص٦٨)، أيها الآتي إلينا ضائعًا، يقطر نفيًا وحريقًا (ص١٠٥).

أرَأيتَ إذن — كيف يستخدم الشاعر اللغة، لا «لتعني» شيئًا غير اللفظ، بل «لتوحي»؟ إنه خير مثال يُساق لشاعر ينقلك من عالم الصحو إلى عالم الأحلام؛ إذ تراه يُشيع في قصائده جو الأحلام ورموزها؛ فلئن كانت اللغة ذات المعاني المُحدَّدة صالحة لمنافع الحياة اليومية، وللتقارير العلمية، فليست هي اللغة الصالحة للشعر، حين يجعل الشعر دنياه في عالم الأحلام والرؤى؛ فالشاعر «مَلِك والحُلم له قَصْر» (ص١٦)، «يحيا في ملكوت الريح، ويملك في أرض الأسرار» (ص١٦)؛ فلقد قسم الشاعر العالم بينه وبين حارس الأيام، فلكلٍّ منهما أرضه وأرض الشاعر هي أرض السحر (ص٦٨) كلٌّ رأى تخومه؛ فلِلعلم القوانين المطردة وللشعر أن يكسر تلك القوانين: «أغالط الهواء، وأجرح وجه الماء»، «أنا سيد الأشباح، أمنحها جنسي، وأَمسِ مَنحتُها لغتي. أنا سيد الأشباح أضربها، وأسرقها بدمي وحنجرتي» (ص٧٣)، وإن بين الشاعر وطبيعة الطفولة لآصرةً قويةً؛ فهو ما ينفك طفلًا في أحلامه وأوهامه: «في جلدي الخزَفي فارسٌ للطفولة، يربط أفراسه بظل الغصون بحبال الرياح» (ص٧٥)، «أضع وجهي على فُوَّهة البرق، وأقول للحُلم أن يكون خبزي» (ص١٠١)، «أنا الساكن في أصداف الحُلم» (ص١٠٢).

•••

أما بعد، فبأي معيار نقيس الشاعر؟ أنقيسه بمقدار ما يُوحي لنا بروحٍ يُريد لها أن تملأ النفوس؟ إذن فهذا شاعر. أم نقيسه بمدى توفيقه في نحت الصور الجديدة المبتكرة، ومدى قدرته في استخدام اللغة استخدامًا جديدًا؟ إذن فهذا شاعر. أم نقيسه بمقدار ما يرتبط بروح عصره، إما قبولًا أو رفضًا؟ إذن فهذا شاعر.

لكن الحَيرة تأخذني وتستبد بي، أخذًا واستبدادًا لا يدَعان أمامي سبيل الرأي مُيسَّرًا واضح المعالم، حين أنظر إلى هذا الشعر المُلغِز الرامز المُوحِي، بعد أن تكون قد مَرَّت عليه القرون تِلو القرون، فأسأل: أتظل عندئذٍ له قوته وعُمق أثره، حين لا يكون حول الناس ما يضيء لهم هذا الإلغاز وذلك الرمز؟

إننا نقرأ الشعر الجاهلي الذي مضت عليه ألف وخمسمائة عام فنتابع أصحابه بالفهم والتقدير؛ لأنه شعر يحتوي على أُسُس التواصُل بين الناس ما داموا يتكلمون لغةً واحدة، فهل يقف الناس موقف التعاطُف هذا من شعر «أدونيس» بعد ألف وخمسمائة عام؟ لست أدري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤