الناقد قارئ لقارئ

عناصر الموقف ها هنا ثلاثة؛ كاتب، وكتاب، وقارئ؛ فلولا الكاتب وكتابه (وفي هذا يدخل الشاعر وقصيدته) لما كان قارئ، وبالتالي لما كان ثَمَّةَ ناقد، وكذلك لو كتب كاتب كتابًا لغير قارئ — في حاضر الأيام أو في مستقبلها — كأن يستخدم رموزًا لا يفهمها سواه، لفقد الكتاب أخص خصائصه، وبطل بهذا أن يكون كتابًا بالفعل والأداء. وإذن فعملية «التوصيل» من الكاتب إلى القارئ — عن طريق الكتاب — شرطٌ ضروريٌّ لتكتمل للموقف عناصره.

لكن هذا القول لا يعني أن يتلقى الكتاب قُراءٌ كثيرون، فتصلهم رسالة الكاتب على درجةٍ سواء؛ إذ ما دام الناس يتفاوتون في خبراتهم وفي معارفهم فهم بالضرورة يتفاوتون فيما يستخرجونه من الكلمات المرقومة أمامهم، وبخاصةٍ إذا ارتبطت تلك الكلمات بالحياة الوجدانية بسبب، ودع عنك ما يتفاوت فيه القُراء — حتى خاصة الخاصة منهم — من إدراك المستويات المتعاقبة التي يمكن أن يتدرج فيها القارئ عندما يقرأ أثرًا أدبيًّا ممتازًا — قصيدة أو قصة أو مسرحية — فالكثرة الغالبة من هؤلاء القراء يقفون عند المستوى الأول، وهو مستوى الأحداث التي تجري كما ترويها الكلمات المقروءة. أما أن يصعد القارئ بعد هذه الأحداث السطحية إلى ما وراءها — إن كان لها ما وراء — من أبعادٍ نفسيةٍ ورمزية، فذلك ما يتعذَّر على تلك الكثرة، حتى يتصدَّى لها قارئٌ ممتاز، فيُدرك «الما وراء»، ثم يكتب لسائر القُراء ما قد أدركه، فعندئذ يكون هذا «القارئ الكاتب» ناقدًا، وتكون كتابته عما قرأه نقدًا، وبعدئذٍ يتغير المنظور كله أمام أعين القُراء الآخرِين بالنسبة إلى الأثر الأدبي المنقود، وكلما توالت الكتابات النقدية على الأثر الواحد، ازداد أبعادًا وأعماقًا وغزارةً وغنًى. خذ مثلًا لذلك «الأرض اليباب» لإليوت؛ فقد تعدَّدَت عليها النظرات النقدية، فتعددت لها المستويات والأبعاد، فازدادت خصوبةً وثراء، يَقرءُها ناقدٌ فرويديُّ النظرة فيُخرِج منها رمزًا للخِصاء والعِنَّة، ويَقرءُها ناقدٌ آخرُ ليعلو بها إلى مستوًى فوق المستوى الفرويدي، فيرى فيها رمزًا للخوف من العُقم الذي قد يصاب به الفن في هذا العصر، ويهبط بها ناقدٌ آخرُ إلى مستوى أدنى، لينظر فيها باحثًا عن شيءٍ في الحياة الخاصة لكاتبها، فيجد فيها رمزًا لإليوت نفسه حين جفَّت ينابيع نفسه قبل أن يتحول في عقيدته إلى المذهب الكاثوليكي، ثم يقرؤها ناقدٌ اشتراكيٌّ فيرى فيها صورةً من حَيرة الطبقة البرجوازية، ويُسأل كاتبها نفسه — بعد ذلك كله — هل أردت منها شيئًا بذاته؟ فيُجيب: نعم، أردت الرمز إلى الموجة الإلحادية الطاغية على عصرنا طغيانًا مخيفًا، فهل يكف الناقدون بعد هذا التفسير؟ كلَّا، بل يخرج لنا ناقدٌ جديدٌ ينظر إلى القصيدة نظرةً أشمل وأعمق، يستعين فيها بمذهب يونج في علم النفس، فيقول إن «الأرض اليباب» رمزٌ ﻟ «الولادة الجديدة» أو للبعث الشامل الكامل لحياة الإنسان وحضارته.

وقد تعجب، فتسأل: وهل يَدُسُّ الناقدون أُنوفهم في تأويل العمل الأدبي على أمزجتهم حتى بعد أن يُقرِّر صاحبه ما أراده به؟ ثم قد تزداد عجبًا حين تعلم أنهم في كثيرٍ من الأحوال يَعُدُّون أنفسهم أقدر على استشفاف المعاني الخبيثة وراء النص الأدبي من صاحب النص نفسه، ولو كان الإنسان قادرًا دائمًا على فهم سلوك نفسه من سطحه إلى أعماقه، لما احتاج الناس إلى أطباءَ مُتخصِّصِين، يُلقون للمرضى النفسانيِّين الأضواء على تلك الأعماق، فيفهم المرضى أنفسهم بعد أن كانت مُستغلقَة. ونعود بالحديث إلى الناقد الأدبي الذي يُجيز لنفسه أن يُؤَوِّل النص على نحوٍ قد لا يرضاه كاتبه؛ فمما حدث في هذا الصدد منذ أعوامٍ قلائل، أن كتب الناقد الألمعي القدير ستانلي إدجار هايمان تقريظًا لكتابٍ عنوانه «أقنعة الحب» لمؤلفه روبي ماكولي، فقدَّمه للقراء على أنه قصةٌ تُخفي شذوذًا جنسيًّا خلف ستارٍ من العلاقات الجنسية الطبيعية؛ فما على القارئ الحصيف إلا أن يُبدِّل بعض أسماء النساء في هذه القصة بأسماء رجال، لكي يستقيم له المعنى، وخصوصًا أن ثَمَّةَ أسماءً من الصنف الأول لا تحتاج إلا إلى تحويرٍ طفيفٍ لِتُصبح أسماءً من الصنف الثاني، كأنما أراد المؤلف بها أن يَلفِت نظر القارئ إلى ما ينبغي عليه عمله إذا أراد أن يفهم ما وراء السطح من هذه القصة، فما هو إلا أن سارع مُؤلِّف القصة إلى الرد العنيف، قائلًا إن الناقد قد أخطأ جادة الصواب في التأويل؛ إذ ليس في القصة ذرةٌ مقصودةٌ من الشذوذ الجنسي، وكل اسمٍ قُصِد به ما استُخدِم له؛ فاسم الأنثى مقصودٌ به امرأة واسم الرجل مقصودٌ به رجل. فهل سكت الناقد؟ كلا، بل رد على المُؤلِّف قائلًا: «إنه ليؤسفني أن السيد ماكولي (مُؤلِّف القصة) يُفضِّل — لأي سبب من الأسباب — أن يحرم نفسه من أن يكون كاتب القصة الشائقة المُتشعِّبة التي قرأتها له ثم وصفتها للقراء، ويختار لنفسه بديلًا عن ذلك أن يكون كاتب القصة الهزيلة الفقيرة التي يصفها هو للقراء، وليس السيد ماكولي أَوَّل قصَّاصٍ أنتج نتاجًا أدبيًّا خيرًا مما يريد أن يُسلِّم به، ولعله لن يكون آخر قصَّاص في ذلك، ولَستُ على استعدادٍ للفِرار من ميدان القراءة النقدية لقصةٍ من القصص، كلما هاج في وجهي مُؤلِّفها مُصرًّا على أن قراءتي لقصته لم تكن هي قراءته لها.» وإن هذه الحادثة الطريفة لتُذكِّرنا بما قيل شبيهًا بذلك في مناسباتٍ كثيرة، من أشهرها ما ذهب إليه النقاد في فهمهم لقصيدة ملتن «الفردوس المفقود» من أنها تمجيدٌ للشيطان، برغم ما ظنه صاحبها فيها؛ فليست شهادة الأديب بذات قيمة إلى جانب النص نفسه وما يمكن أن يُؤدِّي إليه.

هكذا يقرأ عامة القراء شيئًا فيتعذر على معظمهم مجاوزة المستوى الأول في فهمه، حتى يُطالِعهم قارئٌ منهم ممتازٌ بقدرته ونفاذ بصيرته وصبره على التحليل، بأبعادٍ أُخرى يكشفها لهم، فيزدادون علمًا بما قرءوا.

وإني لأسارع هنا إلى التفرقة بين ثلاثة رجالٍ قد يختلط الأمر في شأنهم عند كثيرِين، بل لعله قد اختلط بالفعل اختلاطًا شديدًا عند قُرائنا. أمَّا هؤلاء الرجال الثلاثة فهم: كاتب التعليق الأدبي على كتاب، كالتعليقات التي تُنشر في الصحف عادةً، والناقد، والفيلسوف الاستاطيقي. فأمَّا أولهم فمهمته أن يقدم كتابًا للقُراء، تقديمًا يظهر حسناته وسيئاته وشيئًا من محتواه، وهو غير ملزم في هذا التقديم أن يُبرز مبدأه النظري في النقد؛ لأن ميدانه جزئيةٌ واحدةٌ، هي الكتاب المُعيَّن الذي يعرضه. وأمَّا الناقد فصاحب وجهةٍ نظريةٍ ينظر منها، لا إلى كتابٍ واحدٍ بعينه، بل إلى كل كتابٍ آخرَ يَعرِض له؛ فبعد أن يتعدد النظر إلى «جزئياتٍ» كثيرةٍ، إلى عدد من قصائد الشعراء، أو قصص الأدباء ومسرحياتهم، تتكون لديه القاعدة النظرية العامة التي يختارها أساسًا للنظر، فإذا كانت الأولوية عند المُعلِّق الأدبي للجزئية المفردة، فالأولوية عند الناقد للنظرية العامة. ثم يأتي بعد ذلك مستوًى أعلى في درجات التعميم، هو المستوى الذي يصعد إليه صاحب الفلسفة الجمالية (الاستاطيقا)، يُقيمها على القواعد العامة نفسها، التي كان النقاد قد وصلوا إليها في مختلف الفنون. وهكذا يتجه السير خلال المراحل الثلاث من الجزئية إلى القاعدة إلى المبدأ الفلسفي العام، وصحيح أنها مراحلُ متداخلة الأطراف، لكن هذا التداخُل لا ينفي أن يكون لكل مرحلةٍ مميزها الخاص؛ في المرحلة الأولى ينحصر النظر أساسًا في عملٍ واحد، وفي المرحلة الثانية يتسع النظر ليضع النظرية العامة لفنٍّ بأَسْره من الفنون، وفي المرحلة الثالثة يُمعِن النظر في الاتساع ليضع المبدأ الشامل الذي يَصدُق على الفنون كلها دفعةً واحدة. وإذا كنا كثيرًا ما نسمع شكوى من «أزمة النقد» عندنا، فإن هذه الشكوى لها ما يُبرِّرها إذا أردنا «النقد» بمعناه الصحيح وهو المعنى النظري المتكامل، لكن ليس لها ما يُبرِّرها إذا أردنا التعليق الأدبي على ما يصدُر من آثارٍ أدبية؛ لأن صحفنا مليئة — والحمد لله — بالتعليقات التي تعلو بطائفةٍ وتهبِط بأُخرى، صدورًا عما ليس يعلمه إلا الله من النزوات والدوافع.

•••

لو كان الناقد الواحد ذا قدرةٍ خارقةٍ، لَتناوَلَ العمل الأدبي الواحد من كل وجهات النظر التي يفتح الله بها عليه، حتى يستوعب شتى الأبعاد التي يمكنه بلوغ آمادها بادئًا من النص الأدبي الذي بين يدَيه؛ فيبدأ — مثلًا — بتحليل بنائه اللغوي كلمةً كلمةً وعبارةً عبارةً، بل أخشى أن أقول حرفًا حرفًا فيظن القارئ أني مازح، غيرَ عالمٍ بأن مثل هذا التحليل هو ما يدعو إليه رجال من أعظم رجال النقد المعاصر، مثل كنيث بيرك، ويقوم بتطبيقه فعلًا على بعض الآثار الأدبية، فمن يدري؟ ألا يجوز أن يكون تَكرارُ حرفٍ بعينه عند شاعر أو كاتب، بنسبة ملحوظة، دالًّا على شيء؟ وسأعود إلى ذكر هذا الاتجاه النقدي مرةً أخرى في هذا المقال؛ لأنه الاتجاه الذي أُوثِره على سواه، ما دام الناقد ذا قدرةٍ محدودةٍ تضطره إلى الاكتفاء باتجاهٍ واحدٍ في حياته النقدية. لكننا بدأنا القول بافتراضٍ نظريٍّ، وهو أن يُوجَد الناقد الواحد ذو القدرة الخارقة؛ فعندئذٍ لا يمنعه مانع من أن يُطبِّق على العمل الأدبي الواحد كل اتجاهٍ ممكنٍ؛ إذ ماذا يمنع بعد أن يفرغ من تحليل العمل الأدبي من حيث البناء اللغوي، بل والمفردات اللغوية، ماذا يمنع بعد ذلك أن يعود إلى النظر، ليرى العلاقة بين هذا العمل الأدبي وحياة مُؤلِّفه؟ فتراه عندئذٍ يغوص في سيرة حياة ذلك المُؤلِّف بكل دقائقها وتفصيلاتها ليجد الروابط بينها وبين دقائق العمل الأدبي وتفصيلاته، وأقل ما يُقال في ذلك هو أن يحاول الناقد ربط العمل الأدبي المُعيَّن بغيره من الأعمال عند الأديب الواحد، ما سبقه منها وما لحقه؛ لأن الحياة الأدبية عند هذا الأديب سِيرةٌ واحدةٌ، وكُلٌّ واحدٌ، ولا يُفهَم الجزء منزوعًا من الكل إلا فهمًا ناقصًا، بل إن هذا الأديب في مجموعه جزء من حركةٍ أدبيةٍ شاملة، في بلده، وفي عصره كله، فلماذا لا نلتمس الروابط بين عمله من ناحيةٍ وعصره الأدبي من ناحيةٍ أخرى؟ وهل يستحيل على الأديب أن يجيء مُتأثرًا بموروثٍ أدبيٍّ قديم؟ إذن لا بد من ربط هذه الصلات كلها، لنفهم العمل الأدبي الذي نتصدَّى لفهمه، وهذا هو اتجاهٌ في النقد الأدبي يَتفرَّد به نُقَّادٌ مُعيَّنون.

فرغ ناقدنا ذو القوة الخارقة من نظرتَين؛ فرغ من التحليل اللغوي، ثم أعاد النظر حتى فرغ من ربط العمل بسيرة مؤلفه، واضعًا تلك السيرة في عصرها، وفي موضعها من التاريخ الأدبي، فهل ثَمَّةَ مانعٌ يمنعه — إذا بَقِيَت له بقيةٌ من طاقة وامتدادٌ من زمن — من إعادة النظر مرةً أخرى لينظر إلى العمل الأدبي ذاته من زاوية التحليلات النفسية بكافة صنوفها؛ فرويد، وآدلر، ويونج، ومن شِئتَ من هذه الزمرة كلها؟ إن ثَمَّةَ مدرسةً نقديةً تُخصِّص نفسها للنقد النفسي هذا، على اختلاف أعضائها فيمن يكون عالم النفس الذي يحتذونه في التحليل، لكن ناقدنا صاحب القدرة الخارقة، لا يجد مانعًا يمنعه أن يُطبِّق كل هؤلاء على العمل الأدبي الذي بين يدَيه ليزداد فهمًا له من زوايا جديدةٍ، ومن مستوياتٍ مختلفةٍ، ويفرغ من هذا، فلا يمنعه مانع من أن يعيد النظر مرةً رابعةً وخامسةً وسادسة وما أرادت له قدراته من مرات، فينظر مرةً في المضمون السياسي الكامن في العمل الأدبي، وكيف يكشف عن مَذهبِ كاتبه، وفي المضمون الاجتماعي الذي يُزيح الستر عن الطبقة التي نشأ فيها والطبقة التي يثور عليها وما إلى ذلك من حديث، وينظر مرةً في الناحية الخُلقية من العمل الأدبي ليرى أي المبادئ الخلقية يدعو إليها الكتاب، وهل من شأن تلك المبادئ أن تُشيع فضيلةً أو رذيلة؟ هل يسمو هذا الكتاب بقارئه إلى مَثلٍ أعلى أو هل يهبط به إلى دَرَكٍ خُلقيٍّ أسفل؟

لا، ليس عند العقل مانعٌ منطقيٌّ يأمر بألَّا يكون عند الناقد إلا نظرةٌ واحدةٌ للعمل الأدبي الذي يعالجه، لكنه الواقع التجريبي هو الذي يفرض علينا قصور الجهد وقصر العمر، فنُؤثِر أن يكون لكل ناقدٍ وجهةٌ ينحو إليها بحكم مَيله ومزاجه، على أن يكون مفهومًا وواضحًا أن هذه الوجهات كلها «تتكامل» وتتعاون على تفسير العمل الأدبي المراد تفسيره؛ فليس يُعقل أن القُراء — عامة القُراء الذين من أجل تنويرهم كُتب النقد — ليس يُعقل أن هؤلاء القُراء يخسرون بتعدُّد النظرات النقدية إلى الكتاب الواحد، بل الكسب مُحقَّق لهم بهذا التعدُّد.

أقول هذا عن عقيدة وإيمان؛ ولذلك فإني أَعجَب غاية العجب حين أرى النقاد يصطرعون — إيْ والله إنهم يُسمُّونه صراعًا — يصطرعون؛ فهذا يُقسِم للناس أغلظ الأيمان أن النقد إمَّا أن يكون موضوعيًّا — مثلًا — أو لا نقد، فيتصدى له الآخر بأيمانٍ أَغلظَ وأَضخمَ بأنه قد افترى على النقد كذبًا، وأن النقد إمَّا أن يكون أيديولوجيًّا أو لا يكون إطلاقًا، وهكذا وهكذا مما أراه وأسمعه فأَعجَب لما أرى وأسمع؛ لأنني — كما أَسلَفتُ — أجد المذاهب النقدية وِجهاتٍ للنظر تتكامل ولا تتصارع؛ فكلها سبيلٌ إلى أن يزداد عامَّة القراء فهمًا للكتاب المُعيَّن، من زوايا كثيرةٍ، بدل أن يفهموه من زاويةٍ واحدة.

•••

ولقد وقع «صراع» من هذه الصراعات ذات يومٍ بيني وبين المرحوم الدكتور مندور وكان ذلك سنة ١٩٤٨م، فكان موضوع السؤال بيننا هو: هل يكون النقد الأدبي قائمًا على «الذوق» أو قائمًا على «العلم»، وأَستَغفِرك اللهُمَّ رَبِّي إن أَفلَتَ من القلم ما يكذب به على التاريخ، ولكن لماذا يفلت من القلم مثل هذا الكذب، والأمر كله قد سجَّلَته لنا المطبعة في كتابٍ نَشرَته سنة ١٩٥٦م (قشور ولباب) وإنما أتحفَّظ بهذا القول؛ لأن ما كُنتُ رَدَدتُ به على المرحوم الدكتور مندور، وما كان قد أنكره عليَّ أشد إنكار، عاد الدكتور مندور بعد سنين ليأخذ به أخذًا حرفيًّا — كما يقولون — وهو الآن من الجوانب التي تُحسَب له في تاريخه النقدي دون أن يقع بصري مرةً واحدةً عند أولئك الحاسبِين، على ذكر الأصل الذي يرتد إليه ذلك الجانب من موقفه؛ فقد كان الدكتور مندور — في ذلك «الصراع» — ينادي بأن النقد قِوامه كلُّه ومرجعه كلُّه إلى التذوُّق، فقُلتُ له فيما قُلتُ إن في ذلك خلطًا بين «قراءتَين»؛ فالقارئ (الذي سيصبح ناقدًا) إنما يقرأ القراءة الأولى فلا يسعه بحكم الذوق الأدبي الخالص إلا أن يحب ما قرأه أو أن يكرهه، وقد يقف عند هذا الحد، وعندئذٍ لا يكون ثَمَّةَ نقدٌ قد وُلد بعدُ، لكنه قد لا يقف عند هذا الحد، ويهم ﺑ «الكتابة» ليُوضِّح وجهة نظره، أعني «ليُعلِّل» رأيه بالعلل التي تسنده وتُؤيِّده، و«التعليل» عمليةٌ عقليةٌ لأنه رد الظواهر إلى أسبابها، ومعنى ذلك أن الذوق خُطوةٌ أولى «تسبق» النقد، وليس هو النقد؛ إذ النقد يجيء تعليلًا له، والذوق يسبق النقد بمعنًى آخرَ أيضًا، وهو أن القارئ (الذي سيصبح ناقدًا بعد القراءة) يختار مادة قراءته بذوقه، فلماذا يقرأ هذه القصة دون تلك؟ الحكم هنا للميل الذوقي، لكنه إذا ما قرأ وتذوق بالحب أو بالكراهية، فربما عَنَّ له أن «يبدأ» بعد ذلك عمليةَ تحليلٍ وتعليل تكون هي النقد، وعندئذٍ يكون النقد عمليةً عقليةً؛ لأن كل تحليل وكل تعليل هو من العمليات العقلية الصِّرف.

وقد أخذ الدكتور مندور بعد ذلك بأعوامٍ بفكرة «القراءتَين» هذه، دون أن يَذكُر الذي أوحى إليه بها، ثم جاء الأنصار فحسبوها له، غفر الله لنا ولهم وشملنا جميعًا برحمته.

ولم أكن لِأذكُر شيئًا من هذا لولا أنني أَردتُ أن أعود إلى هذه المشكلة من جديد في هذا السياق: أيكون النقد للذوق أم للعقل (والعقل معناه المنهجية العلمية)؟ وجوابي مرةً أخرى هو أن الأمر ليس «إمَّا … أو …» بل هو إضافة بواو العطف؛ فذوقٌ يختار ما يَقرؤُه ويُحب ويكره، وعقلٌ يُعلِّل ويُحلِّل ليُفسِّر فقط دون تَدخُّلٍ لعنصر التقويم من كراهية وحب. بالذَّوق نُعِدُّ المادة الخامة التي نُقدِّمها للنقد، وبالعقل الذي يُحلِّل ويُعلِّل نقوم بعملية النقد نفسها.

وإن الناقد في تحليله ذاك أو تعليله، ليستخدم كل ما يستطيع استخدامه من علومٍ تتصل بعمله؛ فهو يستخدم علم النفس بكل ما قد وصل إليه من نتائج، وذلك حين يحاول النظر إلى العمل العلمي من هذه الوجهة التي تَتسلَّل من خلال النص إلى أعماق اللاشعور عند كاتبه. وهو يستخدم الأنثروبولوجيا بكل ما قد وَصلَت إليه في بحوثها الحديثة، لِتُعينه على استخراج العناصر الأسطورية المتصلة بحياة الإنسان في طفولتها وبكارتها. ولْنُلاحظ هنا أن الفولكلور يمكن أن يُعَد فرعًا من الدراسة الأنثروبولوجية، ولا شك أن الاهتمام الحديث بهذا الفرع قد يكشف للناقد عما ينطوي عليه العمل المنقود من جذورٍ ضاربةٍ في صميم النفس الإنسانية كما تتبدى في مأثوراتها الشعبية، إمَّا على نطاقٍ قوميٍّ ضيق، وإمَّا على نطاقٍ إنسانيٍّ واسع. وكذلك يستخدم الناقد الدراسات اللغوية الحديثة — وقد كثُرَت وتَشعَّبَت — لِيُفيد منها ما أسعَفَته ملكاتها النقدية، عندما ينظر إلى الأثر الأدبي نظرة التحليل اللغوي لكلماته وعباراته وما تدل عليه داخل النفس أو خارجها، بل إن الناقد ليستخدم العلوم الطبيعية الحديثة نفسها في عمله، وأَوَّل ما يُذكر في هذا الصدد استخدامه للمنهج التجريبي الذي نما ودق في مجال تلك العلوم، ثم نذكر بعد ذلك نظرياتٍ علميةً بعينها كانت بعيدة المدى في تأثيرها على الفكر المعاصر، الذي يتجسَّد في الأعمال الأدبية كما يتجسَّد في سواها، من ذلك — مثلًا — نظرية التطوُّر بكل فروعها — ونظرية النسبية، ونظرية المجال، ونظرية اللاتَعيُّن والاحتمال. وقل ما شِئتَ فيما يمكن أن يُفيده الناقد من الفلسفة حديثها وقديمها على السواء، من الوجودية والظاهراتية والمادية الجدلية والوضعية المنطقية فراجعًا إلى أرسطو وأفلاطون.

•••

وليس التداعي اللفظي وحده هو الذي ينقلني هنا إلى الحديث عن أرسطو وأفلاطون ونحن في مجال الحديث عن النقد الأدبي وطبيعته، بل إن مادة الحديث نفسها ومنطقها يُحتِّمان علينا أن نقف عند هذَين الفيلسوفَين اللذَين منهما يبدأ تياران في النقد الأدبي، قد يندمجان عند أصحاب النظر في تيارٍ نقديٍّ واحد؛ ففي ظاهر الأمر قد يبدو هذا الاختلاف بين الفيلسوفَين في النظر؛ أفلاطون يستخدم المنهج الديالكتيكي الذي مؤداه أن يبدأ من الأمور الواقعة فراجعًا بالتحليل إلى الكشف عن المبدأ أو عن الفكرة التي تكون دفينةً في أرض الواقع، لكنها تكون صافيةً خالصةً في سماء الفكر المُجرَّد، فإذا رأيتَ بالعِيان المُباشِر مثل هذه الفكرة كانت هي الحق الذي تُمسِكه وتَتمسَّك به لتفهم على ضوئه كل ما قد يعرض لك من وقائع العالم من حولك، وقد طَبَّق هذا المنهج الديالكتيكي على صورة الدولة كيف تكون في نقائها، فإذا هي دولةٌ تحتكم إلى العقل لا إلى العاطفة في كل شئونها، وإذن فهي دولةٌ لا تعرف الشعر ولا الأدب، ولا الفن؛ لأن هذه كلها أمورٌ تُحاكي الحق وليست هي الحق، فضلًا عن كونها تستثير العواطف، والعواطف غير مرغوب فيها في الدولة المثلى، وهذا قولٌ هو في حد ذاته ضربٌ من النقد الأدبي، استخدم فيه صاحبه كل ما حوله من علم ومعرفة. وأمَّا أرسطو فقد وضع أُسسًا نقديةً في كتابه «الشعر» ما يزال نقادٌ كثيرون إلى يومنا هذا يعُدُّونه المنبع الثَّرَّ الأصيل الذي تنبثق منه الدراسات النقدية على اختلاف ألوانها، حتى لَتُطلِق مدرسةٌ من أهم مدارس النقد الحديث على نفسها اسم «المدرسة الأرسطية الجديدة في النقد» ومَبدَؤها هو ألَّا يبدأ الناقد بمذهبٍ مُسبقٍ أو بفكرةٍ مُعيَّنة — كما قد يُؤدِّي إليه الموقف الأفلاطوني — بل يبدأ الناقد بدراسة الأعمال الأدبية الجزئية ذاتها، قصيدةً قصيدة، وقصةً قصة، ومسرحيةً مسرحية، قبل أن يُكوِّن لنفسه الرأي الذي يُكوِّنه.

والذي يعنينا في هذين الموقفَين، هو أن أحدهما استنباطيٌّ يبدأ بالمذهب ثم يهوي به على رءوس الأعمال، فإمَّا خضعت لمذهبه أو فليقذف بها إلى الجحيم. وأمَّا الآخر فهو استقرائيٌّ يبدأ بالأعمال الجزئية ذاتها ليُعالِجَها بما تقتضيه خصائصها الخاصة المتفرِّدةِ المتميزة، وله بعد ذلك أن يُكوِّن منها اتجاهًا عامًّا في النقد إذا سمح له الموقف بذلك. ولو كان لي أن أختار للنقاد أحد الموقفَين، فلَستُ أتردد في اختيار الموقف الأرسطي الذي يبدأ بدراسة الأعمال قبل أن يتمذهب بهذا الاتجاه أو ذاك. وأغلب الظن أن لو بدأ النقاد دائمًا بالأعمال — غيرَ مُقيَّدِين بمذهبٍ سابق — فلن يجدوا بينهم معتركًا يعتركون فيه؛ إذ العراك — كما هو مُشاهَد بين المُشتغلِين بالنقد عندنا — سِرُّه أن النقاد يختارون المذاهب قبل الأعمال. أقول إن أغلب الظن أنهم لو بدءوا بالأعمال دائمًا، لامتَنَع العِراك؛ لأن الأمر لا يعدو — عندئذٍ — كما بيَّنتُ أن يتناول كل منهم تلك الأعمال من زاوية، فتجيء الزوايا كلها — بالنسبة إلى عامَّة القراء — متكاملةً متعاونةً لا متضاربةً متصارعة.

•••

النقد كتابةٌ عن كتابة، ولكي تغوص الكتابة الناقدة في أحشاء الكتابة المنقودة، لا بد لصاحبها أن يتذرَّع بكل ذريعةٍ ممكنة، فلا يترك أداةً صالحةً إلا استخدمها، فإن كان العمل بجميع الأدوات دفعةً واحدةً أمرًا عسيرًا — وإنه لعسير — لم يكن بُدٌّ من أن تَتقسَّم العمل مجموعة النقاد، لينظر كلٌّ من زاوية، ولِيستخدم كل منهم أداةً، فتكون الحصيلة الحاصلة بأَسْرها هي النقد الذي يتطلبه مُؤلِّف الكتاب المنقود كما يتطلبه قارئ هذا الكتاب. وإن عُسْر العملية النقدية هذا لَيُذكِّرنا بما أجاب به أبو حيان التوحيدي وزيره عندما طلب منه الوزير أن يوازن له بين الشعر والنثر — وهي عمليةٌ نقديةٌ — فقال أبو حيان (راجع الليلة الخامسة والعشرين من الإمتاع والمؤانسة): «إن الكلام على الكلام صعب، قال: ولم؟ قُلتُ: لأن الكلام على الأمور، المُعتمَد فيها صور الأمور وشكولها، التي تنقسم بين المعقول وبين ما يكون بالحس، ممكن، فأمَّا الكلام على الكلام، فإنه يدور على نفسه، ويلتبس بعضه ببعضه.» ويريد أبو حيان بعبارته هذه أن يقول إن التحدث عن الأشياء المُحسَّة، أو عن الأفكار الواردة على الذهن، أمرٌ ممكنٌ ميسور؛ بعبارةٍ أخرى إن قول الأدب وصياغة العلم أمرٌ سهلٌ لأن له ما يرتكز عليه من محسوس أو من معقول. أمَّا التحدُّث عن هذَين، التحدُّث عن الأدب أو عن العلم فأكثر صعوبة. وإذا كان هذا هكذا، أفلا نُدهَش حين نرى نفرًا من كُتابنا الشبان يَستخفُّون الحمل الثقيل، ويضربون بأقلامهم على صفحات النقد من الصحف، غيرَ مُزوَّدِين إلا بأقل القليل من الأدوات التي تُعين الناقد على أداء مهمته؟

وكائنة ما كانت الزاوية التي ينظر منها الناقد إلى العمل المنقود، فلا يجوز أن يجيء كلامه خبطًا وخطفًا، كأنه المسافر العجلان يُسرع الخطى ليلحق بالقطار، والقطار هنا هو الصحيفة اليومية أو الدورية أو هو الراديو أو التليفزيون، يَتعجَّله أن يكتب شيئًا أيَّ شيءٍ عن كتابٍ أيِّ كتاب! بل لا بد للناقد من دراسةٍ متأنيةٍ جادة، مستندةٍ إلى علوم وإلى مُطالَعات في القديم وفي الحديث؛ لأن الناقد لا يكتب لتسلية قارئه، إنما يكتب ليساعد القارئ على فهم عملٍ فنيٍّ مُعينٍ فهمًا صحيحًا، وتذوُّقه تذوُّقًا بصيرًا، كما فعل الدكتور طه حسين في كتابه «مع المتنبي» وفي «حديث الأربعاء»، أو هو يكتب ليساعد الفنان نفسه على فهم فنه وحسن تقويمه ليعين ذلك على تقدُّم الفن وتطوره، كما فعل العقاد والمازني في «الديوان»، أو هو يكتب ليخلُق جيلًا جديدًا من الأدباء في فرع من فروع الأدب، كالقصة أو المسرحية، بعد أن لم يكن الانتباهُ مُوجَّهًا إلى ذلك الفرع، كما يفعل لويس عوض بالنسبة إلى الفن المسرحي، أو هو يكتب ليغير اتجاه الأدب من طريقٍ إلى طريق، كما يفعل نقاد الشعر العمودي أو نقاد الشعر الحر، كما فعلت نازك الملائكة في كتابها عن الشعر الحديث.

على أنني بعد أن أَقررتُ لشتى المذاهب النقدية بضرورة قيامها معًا، متعاونةً على الإحاطة بالعمل الأدبي من جميع نواحيه، ملتمسةً طريقها إلى صميم ذلك العمل في جوهره ولُبابه، واصلةً بينه وبين كل ما يتصل به خارج حدوده، من سيرة الكاتب، ومجرى شعوره ولا شعوره، ومن ظروفٍ اجتماعيةٍ أحاطت بالكاتب فأوحت له بما أوحت، ومن تاريخٍ سابقٍ أوصل إليه موروثًا طويلًا عريضًا. أقول إنني بعد أن أَقررتُ لشتى المذاهب النقدية بضرورة قيامها معًا لتبصير القارئ العادي بما ينبغي له أن يُلِمَّ به لكي يزداد علمًا وتذوُّقًا بالكتاب الذي يَقرءُه، فإنني أوَدُّ أن أُخصِّص القول في الزاوية التي أتمنى لنفسي النظر منها كلما أردتُ دراسةً نقديةً لكتابٍ أدبي، أو لقصيدةٍ من قصائد الشعر، ولن أَجبُن هنا عن الاعتراف بأنني حاوَلتُ هذه النظرة بالنسبة لطائفةٍ من الأعمال الأدبية، على سبيل التطبيق، ولكني لم أُوفَّق إلى شيءٍ يرضيني لأنشره في الناس.

وأمَّا هذه الزاوية التي أُوثِرها على سواها في العمل النقدي، فهي تلك التي تَعمِد إلى تحليل النص نفسه تحليلًا كاملًا شاملًا، لنعرف كل ما يتصل به، ثم يتهيأ لنا بعد هذه المعرفة أن نستدل ما نستطيع استدلاله. وليس مثل هذا النقد المعتمد على تحليل النص بالشيء الجديد في تاريخ النقد عامةً، والنقد العربي بصفةٍ خاصة؛ فذلك هو طريقُ الناقدِين القُدامى بغير استثناء، وهو طريق ربما شقَّه أمامهم عمل الفقهاء في تحليل النص القرآني تحليلًا يمكِّن صاحبه من استخراج الأحكام، إمَّا من ظاهر الآيات أو من تأويلها، فاصطنع النقاد شيئًا كهذا في تحليل الشعر بيتًا بيتًا، وكلمة كلمة إعرابًا، وتركيبًا، وبلاغة، وغير ذلك مما يتصل بالنص المنقود من نواحيه جميعًا، لولا أن نقادنا الأقدمِين كانوا يُعقِّبون على مثل هذا التحليل بتقويمٍ يُقوِّمون به المادة المنقودة، فيقولون إن هذا البيت «أفضل» من ذلك، وهذا الشاعر «أشعر» من أخيه. وأمَّا التحليل على أيدي النقاد المُحدَثِين — والعجب أنهم يُسمَّون في أوروبا وأمريكا بأصحاب المدرسة «الجديدة» في النقد — فلا ينتهي بتقويم؛ لأن التقويم لم يعُد من مهمة الناقد اليوم، باستثناء نفرٍ جِدِّ قليلٍ منهم إيفور ونترز.

فالنقد القائم على تحليل النص نفسه، هو الطريقة الوحيدة بين سائر الطرق النقدية، التي تُخلِص لعملها ولهدفها إخلاصًا يدعوها إلى البقاء على أرضها وفي ميدانها دون التطفُّل على ميادينَ أُخرى؛ ذلك أن الناقد الذي ينظر إلى الكتاب المنقود نظرة التحليل النفسي — مثلًا — يمكن اعتباره من علماء النفس بقَدْر ما يمكن اعتباره من نقاد الأدب. والناقد الذي ينظر إلى الكتاب المنقود نظرةً اجتماعيةً، يحاول أن يتخذ منه وثيقةً تدل على أوضاعٍ مُعينةٍ في حياة المجتمع، يمكن إدخاله في زمرة علماء الاجتماع بقَدْر ما يمكن إدخاله في زُمرة نقاد الأدب، وهكذا. وأمَّا الناقد الذي ينصرف بكل جهده نحو تحليل النص الأدبي نفسه، فهو لا شيء إلا ناقدًا أدبيًّا خالصًا.

ولو كان لي مثلٌ أعلى في النقاد المُحدَثيِن أود لو استَطعتُ احتذاءه بالنسبة لأعمالٍ أدبيةٍ عربية، كان ذلك المثل عندي هو كنيث بيرك. وليتني أستطيع أن أنقل إلى القُراء نموذجًا لصناعته، إذن لرَأَوا بأعينهم كيف يكون النقد عملًا جادًّا شاقًّا عسيرًا، يُحلِّل القطعة الأدبية وكأنه كيماوي يُحلِّل في مخابيره قطعةً من الخشب أو الحجر، إنه لا عاطفة هناك، ولا سخاء في المدح والقدح؛ لأنه لا مدح ولا قدح؛ فالأمر أمرُ تحليلٍ صِرفٍ يَنصَبُّ على عبارة العمل الأدبي من أول لفظةٍ تَرِد فيه إلى آخرِ لفظة، ليرى — مثلًا — كيف تَرِد لفظةٌ بعينها في سياقاتٍ مختلفةٍ من الكتاب؟ وهل بمقارنة هذه السياقات يمكن الوصول إلى استدلالٍ مُعيَّن بالنسبة إلى ما يرمز إليه بالعمل الأدبي — حتى وإن لم يكن المؤلف نفسه على وعي به؟ هل قُلتُ إنه تحليل يبدأ من أول لفظة ترد في الكتاب؟ إنني إذن قد أُنسِيتُ أنه يبدأ من العنوان وصياغته، فبعد أن يستوثق من أن هذه الصياغة لم تُراعِ الإعلان التجاري وجذب الأنظار والأسماع نحو الكتاب ليرُوج في السوق، ينظر ليرى إن كان في لفظ العنوان دلالةٌ أي دلالة. إن النظرة السطحية وحدها هي التي تأخذ لفظ العمل الأدبي بمعناه القاموسي، وكان الله يحب المُؤمنِين. أمَّا النظرة الفاحصة، فقد تجد لفظًا بعينه في عملٍ أدبيٍّ مُعيَّن، قد ورد ورودًا يربطه بمعانٍ أُخَر؛ فلفظ «المستقبل» تتقصَّاها عند شيكسبير فتحدها في سياقاتها مقرونةً بالشر والدمار، وتتقصاها عند براوننج فتجدها مُوحيةً بالثقة والتفاؤل. إن «قطع شجرةٍ سامقةٍ» قد يَرِد في كتابٍ أدبيٍّ عدة مرات في سياقاتٍ مختلفة، فيتقصَّاها صاحبنا الناقد، ويُقارن بين تلك السياقات، ليجد أن قطع الشجرة السامقة إنما جرى ذكره على قلم الأديب عن وعيٍ منه أو غير وعيٍ — ليرد عنده إلى قتل صاحب السلطان، أو قتل الأب كما يقول علماء النفس الفرويدي، وهكذا وهكذا.

لقد دَرَستُ لهذا الناقد كنيث بيرك، دراسته النقدية لكتاب جيمس جويس «صورة فنان في شبابه» — وهو سيرةٌ ذاتيةٌ لجويس — فوجَدتُه خلال تلك الدراسة العجيبة التي تتركك ذاهلًا دَهِشًا من العلمية الدقيقة الأمينة الصابرة، وجَدتُه في غضون الحديث يُلقي إلى دارس النقد بتعاليمَ ترسم له طريق النقد، فيوصيه بأن تكون الخطوة الأولى عمليةَ تصنيفٍ للألفاظ الدالة على «أفعال» «مواقف» و«أفكار» و«صور» و«علاقات» وبعد هذا التصنيف يستخرج أمثلة التضاد الواردة؛ فقد يجد الكاتب مثلًا — كما هي الحال في كتاب جويس — يُضادُّ بين الفن والدين، ثم يُوصيه أن يلحظ بصفةٍ خاصةٍ كيف يبدأ الكاتب فِقراته وكيف يختمها، ومتى يَرِد في كلامه وصلٌ ومتى يَعمِد إلى الفصل، ويوصيه أن يفتح عينَيه مُنتبِهًا إلى أسماء الأعلام، وهل تدل على معانٍ معينةٍ فوق كونها أسماء، وكذلك يوصيه أن يتتبع العلاقات الداخلية السارية بين أجزاء الكتاب، عن طريق العبارات المشتملة على كلماتٍ مشتركةٍ، وأن يحاول في هذا التتبُّع أن يبحث عن موضعٍ يراه نقطة تحول، أو يراه آخر ما يصل إليه الكاتب في شوطٍ متدرج المراحل، ويوصيه أن يتنبه كلما وقع في الكتاب على حافزٍ مُعيَّنٍ أو دافعٍ إلى سلوك، فيرى هل عمد الكاتب إلى وصف جزء من الطبيعة عندئذ، وإذا كان قد فعل، فهل هنالك علاقة شَبَه أو تضادٍّ بين سلوك الشخصية ودافعها من جهة، وعناصر المسرح الطبيعي حولها من جهةٍ أخرى؟ إلى آخر ما أوصى به.

لكنني في إيثاري لمثل هذا النقد التحليلي العلمي، لا أُغمِض عيني لحظةً واحدةً عن سائر مذاهب النقد وطرائقه؛ فكلها وسائلُ متعاونةٌ، يقرأ بها النقاد الأعمال الأدبية، نيابةً عن عامة القُراء، ليرى هؤلاء فيما يقرءونه آمادًا وأبعادًا ومستوياتٍ لم تكن لتخطر لهم على بال، لولا أولئك النقاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤