يمين الفكر ويساره: ما معناهما؟

إنني ها هنا لَكمَن يحمل في يده سراجًا، ليدخل به غرفةً مُظلِمة، تناثَرَت فيها الأشياء من كل صنف؛ أثاث وثياب، وكتب، وعدد وآلات، فيجعل همَّه — أَوَّل الأمر — أن يُصنِّف هذا المحتوى المختلط بعضه ببعض، والمتداخل بعضه في بعض، وذلك بأن يضع الأثاث في أماكنه، ثم يجمع الثياب وحدها، والكتب وحدها، وكذلك العدد والآلات، ليعود بعد ذلك، إلى الثياب فيُصنِّفها: القمصان هنا، والمناديل هنا؛ وإلى الكتب فيُرتِّبها: هنا الفلسفة، وهنا التاريخ، وهكذا، يفعل كل ذلك على ضوء السراج، ليعلم أولًا — ماذا تحتوي عليه الغرفة، قبل أن يُتاح له اختيار هذا دون ذاك، فحَسْبه الآن أن يعلم، ليجيء اختياره بعدئذٍ على بصيرةٍ وهدى.

والحق إنني لفي عجبٍ أشد العجب، ممن يجدون في أنفسهم الجُرأة على القذف بكلماتٍ يُحمِّلونها أضخم المعاني، بغير أن يكونوا على بينةٍ — ولو إلى حدٍّ محدود — مما يقولون ويكتبون. أَلَا أن الإيمان الذي لا ينبني على وضوح العقيدة التي نؤمن بها، لهو إيمانٌ — إن صلح على الإطلاق — فلطائفةٍ من الناس لا تُريد أن تشغل أنفسها بما قد يعوق سير الحياة العملية، لكن الحياة العملية ذاتها تقتضي — دائمًا — أن يتمهل نفرٌ إلى جانب الركب السائر، لِيُلقي الأضواء العقلية على الأفكار نفسها التي اتخذها الركب السائر محاور الدفاع والحركة. ولماذا؟ ليكون ذلك بمثابة النقد الذاتي، الذي يصحح التصورات العقلية على هُدًى من تفصيلات التنفيذ العملي. وهكذا يسير الفكر والعمل رأسًا إلى كتف.

و«اليمين» و«اليسار» كلمتان أراهما يُستعملان على نطاق واسع، للتفرقة بين الأفكار والمواقف والأشخاص؛ فهذه الفكرة من اليمين، وتلك من اليسار، وكذلك هذا الموقف وذلك، وهذا الرجل وذاك. ولقد تساءَلتُ — مخلصًا لنفسي السؤال والبحث عن الجواب — ماذا يا تُرى عساها أن تكون تلك الصفات التي — إذا ما توافَرَت في شخص — أَدخَلَته في زمرة اليمين أو في زمرة اليسار؟ ولما حاوَلتُ الإجابة، وَجَدتُ الأمر أعقد من أن تجيء إجابة سريعة أطمئن إلى صوابها؛ ذلك لأنه لو كانت التفرقة مقصورة على يمين في ناحية، ويسار في ناحية، لما كان للتقسيم مغزًى عند من تعنيه الآثار الفعلية للأفكار النظرية، لكنني أُلاحِظ أن ثَمَّةَ صفتَين أُخريَين — على الأقل — تلحقان باليمين على أقلام الكاتبِين، كما تلحق النتيجة بمقدمتها، وأن ضدَّيهما كذلك يلحقان باليسار. فإذا هم وضعوا رجلًا في زمرة اليمين، وصفوه في الوقت نفسه بالرجعية وباللاعلمية في وجهة النظر؛ لأن اليسار وحده — هكذا أُلاحِظ في الاستعمال الجاري — هو التقدمي وهو العلمي. وإذا كان هذا هكذا، فليس الأمر من قلة الشأن بحيث نتركه يمضي بغير تحديد.

وأول ما قد ورد على ذهني عند محاولة النظر إلى هذه التفرقة بين يمين الفكر ويساره، هو أن سألت نفسي: ترى هل يتخارج هذان القسمان تخارجًا تامًّا، كما يتخارج الذهب والنحاس، فلا يكون الذهب نحاسًا ولا النحاس ذهبًا، أو هما متداخلان، كما يتداخل الشعر والموسيقى في شيء واحد بعينه — هو الأغنية — تداخلًا يجيزُ لك أن تَعُد الأغنية شعرًا إذا شئت، وأن تعدها موسيقى إذا شئت لأنها شعر وموسيقى في آن واحد؟ ذلك أنه يُقال — فيما يُقال عن أوجه الاختلاف بين العلم والفلسفة، عند من يمايزون بينهما في الأسس — إن قسمة الأنواع في العلم متخارجة، على حين أن قسمتها في الفلسفة متداخلة؛ ففي العلم إذا قلت عن شيء إنه أوكسجين لم يعد يجوز لك أن تقول عنه في الوقت نفسه إنه هيدروجين، لاختلاف الخصائص المميزة بين هذا وذاك، اختلافًا يفصل أحدهما عن الآخر فصلًا تامًّا، وأما في الفلسفة، فإذا قلت عن شيء إنه موجود، فقد يجوز لك أن تقول عنه في الوقت نفسه إنه معدوم؛ لأن الوجود والعدم يتداخلان في حالات تجمع بينهما في آن واحد، هي حالات «الصيرورة» والتغير، بحيث يكون الكائن الواحد المتغير موجودًا ومعدومًا معًا. وأعود فأقول إن أول ما قد ورد على ذهني عند محاولة النظر في هذه التفرقة بين يمين الفكر ويساره، هو أن سَأَلتُ نفسي: تُرى هل يجعلون هذا التقسيم على أساسٍ «علميٍّ» يفصل اليمين عن اليسار في الفكر فصلًا كاملًا؛ بحيث يصبح مُحالًا على من اتصف بصفات الفكر اليميني أن يتصف كذلك ببعض صفات الفكر اليساري، أو هم يجعلونه تقسيمًا على أساسٍ «فلسفيٍّ» يُجيز أن يجتمع الضدَّان معًا في كائنٍ واحد؟

وإنما اهتَمَمتُ بهذا السؤال في بدء الحديث؛ لأن قسمة الفكر إلى يمين ويسار مرتبطة في الأذهان ارتباطًا وثيقًا بموقفَين متضادَّين في مجال الاقتصاد والاجتماع؛ فالاقتصاد الاشتراكي من جهة، والاقتصاد الرأسمالي من جهةٍ أخرى، بما يتبع هذا التقسيم من تصوُّرَين مُختلفَين للعلاقة بين الفرد والمجتمع، الأول يسار والثاني يمين على سبيل الاصطلاح المُتفَق عليه. وإلى هنا تكون القسمة مفهومةً في المجال الاقتصادي والاجتماعي، لكن سؤالنا هنا هو: هل تمتد هذه التفرقة عينها إلى سائر جوانب الحياة الفكرية؛ بحيث تشمل الفلسفة والعلم والأدب والفن؟ وهل تكون هذه التفرقة عندئذٍ واضحة المعالم وضوحها في مجال الفكر الاقتصادي والاجتماعي؟ ألدينا من معرفة الخصائص المميِّزة لليمين واليسار في نواحي الفكر، ما يجعلنا ننظر في فلسفة ابن رشد وفلسفة الغزالي — وهما كما نعلم متعارضان — فنقول أيهما في اليمين وأيهما في اليسار؟ وما يجعلنا ننظر في فن العمارة بمسجد ابن طولون، وفي هذا الفن في مسجد السلطان حسن — وهما متباينان — فنقول أي الفنَّين يمين وأيهما يسار؟ هل يُعد زهير شاعرًا تقدميًّا لأن شعره هادف، ويُعد ذو الرمة شاعرًا رجعيًّا لأنه مَعنِي بتصوير ما يشاهده تصويرًا لا يهدف من ورائه إلى شيء غير جمال الصورة. إنني لأعلم أيقن العلم بأن جماعة ستقرأ هذه التساؤلات ليأخذها الضحك الساخر من هذا الكاتب الجاهل، الذي لا يُحسن أن يُلقي الأسئلة في مواضعها، أو ليأخذها الضيق من هذا المُفكِّر «الشكلي» — فهنالك من النقاد من لا يفترون عن رميي بهذه الصفة على أنها أشنع ما يُعاب به مُفكِّر — الذي يهتم بالشكل الصوري للمسائل دون مضمونها الحي. وليغفر لي الله وليغفر لهم؛ فدأبي هو التماس الوضوح، والوضوح قد يقتضي تعرية الأشكال عما يُبهمها، ودأبهم هو أسلوب الخطابة المُؤثِّرة، حتى لو بُنِيَت هذه الخطابة على غير معنًى مفهوم، تتغير له حياة الناس من ملبس ومأكل. نعم قد تثير هذه التساؤلات ضحك مَن لا يُؤرِّقهم غموض المعاني، وقد يقولون: لقد ذكَرتَ لنا يا رجلُ أناسًا ممن لا يطوف ببالنا أن نُدخلهم في تقسيماتنا؛ لأننا نُوجِّه أنظارنا نَحو المُعاصرِين دون الغابرِين، بل لعل الالتفات إلى الغابرِين بكل ما قد تراكم عليهم من غبارٍ أصبحوا من أجله غابرِين، هو في حد ذاته «رجعية» لا نرضاها، لكنني أستطيع أن أُلقي الأسئلة نفسها بالنسبة إلى رجال الثقافة المُعاصِرِين، فأجدني في الحَيرة نفسها: هل كان محمد عبده في «رسالة التوحيد» ولطفي السيد في «المقالات»، وطه حسين في «الأيام»، والعقاد في «سارة»، وتوفيق الحكيم في «أهل الكهف»، من اليمين أو من اليسار؟ ماذا عن فن محمود سعيد في لوحاته، ومختار في تماثيله، هل كانا إلى يمين أو إلى يسار؟ أسئلة أطرحها — أمام نفسي وأمام القُراء — استثارةً في نفسي وفي أنفسهم للرغبة في تحديد هذين المفهومَين الخطيرَين، لأنتقل إلى شيءٍ من التفصيل.

•••

وأبدأ بالفلسفة فأقول إنها — كما هو معلوم عند دارسِيها — تتخذ إحدى وجهتَين رئيسيتَين (لكل منهما تقسيمات وفروع)؛ إحداهما «مثالية» والأخرى «تجريبية». وأساس القسمة هو تحديد العلاقة بين الإنسان العارف والشيء المعروف، فهل يعرف الإنسان حقيقة العالم بفكره المحض، أو أن الحواس من بصر وسمع وغيرهما ضرورية في توصيله إلى تلك المعرفة؟ أمَّا المثاليون فيقولون إن الفكر البحت وحده كافٍ لإدراك الحق. وأمَّا التجريبيون فلا يرون كيف يتم إدراكٌ بغير الحواس أولًا، إن لم يكن أولًا وأخيرًا معًا. وواضحٌ أنك إذا أخَذتَ بوجهة النظر الأولى، تحولت الحقائق كلها عندك إلى «أفكار»، وإذا أخذت بوجهة النظر الثانية، تحولت تلك الحقائق إلى «أجسام مادية» لأن هذه الأجسام وحدها هي التي يمكن أن تدرك بالحواس، لكنك لا تكاد تأخذ بإحدى وجهتي النظر هاتين، حتى تطبق عليك حلقاتها حلقة وراء حلقة، لأنها جميعًا نتائج يلزم بعضها عن بعض، فلو أخذت بوجهة النظر المثالية، كان حتمًا عليك أن تأخذ بواحدية الكون؛ لأنه إذا كانت الكائنات كلها هي «أفكار» في رأسك عنها، ثم إذا كانت هذه الأفكار، حين نضم بعضها إلى بعض، تُكوِّن فيما بينها بناءً متسقًا موصول الأجزاء (ولا بد أن يكون الأمر كذلك؛ لأنه لو رَفضَت فكرة من الأفكار أن تتسق مع سواها، كان معنى ذلك أن هنالك فكرتَين متناقضَتين عن شيءٍ واحد، كأن نقول عن شكلٍ هندسيٍ ما إنه مربع ومثلث معًا، وهو محال) إذن فالوجود «واحد» وإن تعددت أجزاؤه؛ لأن ذلك يكون كما تتعدد الأجزاء في الكيان العضوي الواحد. وأما لو أَخَذتَ بوجهة النظر التجريبية فإنه يجوز لك عندئذٍ أن ترى العالم كثرة، لا يتحتم أن يكون بينها رباطٌ يُوحِّدها؛ إذ من أين يأتي الرباط، وأنت لا تدري عن العالم إلا إدراكاتٍ حسيةً كثيرة تجيئك من حواسَّ مختلفة؛ فهذه رؤيةٌ بالعين لشكلٍ أو لون، وذلك سمعٌ بالأذن وهكذا.

فكونك مُوحِّدًا للعالم أو مُعدِّدًا، نتيجةٌ تلزم عن اختيارك الأول لطبيعة «المعرفة» أهي عمليةٌ عقليةٌ بحتة، أم هي عملية تبدأ بانفعال الحواس (والحواسُّ أجزاءٌ من مادة البدن)؟ لكن الأمر لا يقف بك عند هذا الحد، بل إنه سرعان ما ينقلك إلى وضع الفرد الإنساني بالنسبة إلى المجموع؛ فالتوحيد عند المثاليِّين يقتضيهم أن يجعلوا الفرد خاضعًا للمجموع خضوع العضو الواحد في جسم الإنسان للكيان العضوي في مجموعه، وعندئذٍ لا يكون الفرد حرًّا في اختيار موضعه من التخطيط الفكري العام، الذي يشمله ويشمل معه سواه — ولك أن تراجع مثلًا جمهورية أفلاطون، لترى كيف يخضع الأفراد لما يُخطِّطه العقل — وأمَّا التعدُّد عند التجريبيِّين فمن شأنه أن يُؤدِّي بأنصاره إلى القول بحرية الفرد الواحد مستقلًّا عن غيره؛ لأن المجتمع عندئذٍ لا يكون كائنًا عضويًّا واحدًا، بل يكون مجموعة من أفرادٍ تعاقدوا معًا على العيش في حياةٍ مشتركة.

هكذا تتسلسل النتائج عند هؤلاء وأولئك. ونحن نَسأَل — مُخلصِين — أيهما يمين وأيهما يسار؟ أنجعل الفلسفة المثالية — بكل تفريعاتها — يمينًا، والفلسفة التجريبية — بكل تفريعاتها كذلك — يسارًا؟ إننا إذا تحدثنا بلغة السياسة فنظرنا إلى غربي أوروبا وأمريكا على أنه هو اليمين، وإلى الروسيا والصين وما يتبعهما على أنه هو اليسار، أخذتنا الحيرة؛ لأن الفلسفة عند الفريق الأول ليست كلها مثاليةً مُوحِّدة (بكسر الحاء) ولأنها عند الفريق الثاني ليست كلها تجريبيةً مُعدِّدة (بكسر الدال الأولى)؛ فعند الأولين؛ براجماتية، وواقعية، وتجريبيةٌ علمية (الوضعية المنطقية)، ووجودية، وكانتيةٌ جديدة، وظاهراتية. وليست هذه كلها فلسفاتٍ مثالية، ولا هي كلها تُوحِّد الحقيقة الكونية في بناءٍ واحدٍ متسقٍ مُترابط الأجزاء. وعند الفريق الثاني ماديةٌ جدليةٌ؛ فهي مع التجريبيِّين من حيث هي فلسفةٌ «مادية»، وهي مع المثاليِّين في توحيدهم للحقيقة، من حيث هي فلسفةٌ «جدليةٌ» (لأن هذه الصفة فيها تربط المراحل بعضها ببعض ربطًا يجعل الحقيقة تيارًا واحدًا متصلًا آخره بأوله).

أم نعكس الموقف فنَعُد الفلسفة المثالية يسارًا، والتجريبية يمينًا؟ إننا لو فعلنا لما نجونا من الحيرة نفسها وهي أننا سنجد في اليمين السياسي بعض اليسار الفكري، وفي اليسار السياسي بعض اليمين.

وأخلص من هذا كله إلى نتيجة أراها محتومة حتمًا، وهي أن ليس هنالك فواصل فارقة — في ميدان الفلسفة — بين يمين ويسار.

•••

أما أن يكون في «العلم» يمين ويسار، فذلك ما لست أعتقد أنه يطوف لأحد ببال، وإلا لكانت لفظة «العلم» هذه لعبة يلعب بها اللاعبون كيفما أرادوا دون أن يكون لها شيء من التحديد الرادع، وهل يطوف ببالك — حين أتقدم إليك بقانون علمي يحدد مسار الضوء أو الصوت، أو يبين لك تركيب الماء أو الهواء — أن تسأل: ترى هل هو من قوانين اليمين أو من قوانين اليسار؟ لا إن ذلك ليمتنع على العقل أن يسأله، بل إنه ليمتنع على العقل كذلك أن يسأل سؤالًا كهذا، حتى لو كان القانون العلمي المعروض خاصًّا بالإنسان (كقوانين علم النفس مثلًا) لأنه إذا ثبت بالتجربة في أي جزء من أجزاء الأرض أن ذكاء الإنسان يمكن قياسه على النحو الفلاني، أو أن العادات السلوكية يمكن أن تتكون بالطريقة الفلانية، فذلك إنما يثبت على الإنسان في كل جزء آخر من أجزاء الأرض يسكنه إنسان.

أحسب ألا خلاف على ذلك، ولكن الخلاف قد يبدأ حين نترك «العلم» إلى «فلسفة العلم»، وهنا قد يسأل القارئ: وما العلم وما فلسفته؟ فأجيبه جوابًا شديد الاختصار، بقولي إن فلسفة العلم محاولةٌ «لتفسير» العلم — لا لتغييره ولا لإضافة شيء إليه أو حذف شيء منه — بل «لتفسيره» برد قوانينه إلى الأصول الجذرية التي عنها انبَثقَت؛ فقد يقول قائل — مثلًا — إن قوانين العلم تصف العالم كما هو واقع، وقد يرد عليه آخر بقوله: كلا؛ لأن ما هو واقع فيه خشونةٌ وتغيُّر، على حين أن القوانين العلمية مصقولة في صيغٍ رياضيةٍ ثابتة، وإذن فالقانون العلمي على هذا الاعتبار يكون بمثابة الصورة الذهنية الكاملة، التي تُصوِّر ما «يمكن» لحالات الواقع أن تصل إليه — افتراضًا لا حدوثًا فعليًّا. وقد يقول قائل وهو يفحص قوانين العلم وما تدل عليه: إنني أستنتج منها أن يكون العالم الطبيعي مُكوَّنًا من أجزاءٍ كثيرة، ويسير نحو غايةٍ مرسومةٍ مدبرة، وهكذا، وهكذا. كل ذلك دون أن يتأثر صَرحُ العلم نفسه بتغيرٍ أو بزيادةٍ ونقصان؟ إن العلماء في مَعاملهم لا ينتظرون حتى يَتقرَّر لهم إذا كانوا يصفون الواقع الفعلي كما يقع، أو يصوغون صياغاتٍ فيها اكتمالٌ يبلغ بالواقع الحادث حد الكمال الصوري، بل هم ماضون في علمهم على ما يقتضيه منهج البحث العلمي، بعض النظر عما يقوله عنهم «المتفرجون» من فلاسفة العلم.

هذه حقيقةٌ هامةٌ أُنبِّه إليها الأذهان، ليتضح للقُراء ما نحن بصدد توضحيه لهم، وهو أن العلم نفسه لا يتغير بتغير الآراء في فلسفته؛ ففلسفته — كما قلنا — «تفسير»، والتفسير لا يغير من «النص» شيئًا، إذا جاز هذا التشبيه؛ وعلى ذلك فافرض أن فيلسوفَين قد اختلفا في تفسير العلم، وافرض أيضًا أننا قلنا على أحد التفسيرين إنه تفسير «يميني» وعن الآخر أنه تفسير «يساري» فما جدوى ذلك، وماذا عسى أن يحدثه من أثر في خبز الجماهير؟ هل يزيد هذا الخبز رغيفًا أو ينقص رغيفًا إذا نحن فسَّرنا العلم بما يُفسِّره به المثاليون أو بما يُفسِّره به التجريبيون من الفلاسفة؟ كلا، وإنما الذي يزيد من أرغفة الخبز أو ينقص منها، هو «العلم» نفسه، لا الطريقة التي نُفسِّره بها. إن فلاسفة العلم الطبيعي في اليمين الأمريكي قد يُفسِّرونه على نحو، وفلاسفته في اليسار الروسي قد يُفسِّرونه على نحوٍ آخر، لكن لا أولئك ولا هؤلاء، يُقدِّمون شيئًا من صواريخ الفضاء في اليمين تارة وفي اليسار أخرى.

أتسألني: وماذا تكون الغاية من «فلسفة العلم» إذن؟ إنني أجيبك بأن الغاية هنا هي نفسها الغاية عند كل محاولة للفهم والتوضيح؛ فهي تزيد الإنسان تمكُّنًا مما يعرفه، وليس الفرق كبيرًا بين أن أختلف مع زميلي في «التفسير» الفلسفي لقوانين العلم، وأن يختلف ناقدٌ أدبيٌّ مع زميله في «تفسير» مسرحية للحكيم، أهي ترتكز على أزلية الزمن وأبديته أم لا ترتكز على شيء من ذلك؟ اختلافٌ يَنشَب بين النقاد في مستواهم الفكري، دون أن يزيد العمل الأدبي بذلك الاختلاف سطرًا أو ينقص سطرًا.

إن سؤالنا الأساسي المطروح للبحث هو: إذا كان التمايُز الاصطلاحي بين ما هو يمين وما هو يسار واضحًا في مجال الاقتصاد والاجتماع، فهل لهذا التمايُز نفسه امتدادٌ في الفلسفة والعلم والأدب والفن؟ ولقد بحثنا في مجال الفلسفة فلم نجد حدًّا فاصلًا، وبحثنا في مجال العلم، فقضينا بادئ ذي بَدء باستحالة أن يكون هنالك حدٌّ فاصلٌ بين علمٍ يمينيٍّ وعلمٍ يساري، ورجَّحنا أن تكون التفرقة في هذا المجال مُنصبَّة على ما يُسمُّونه بفلسفة العلم، لكننا رأينا أنه حتى على هذا الفرض، فليس هو بالاختلاف الذي يُقيم من الحياة العلمية نفسها شيئًا قاعدًا، أو يُقعِد منها شيئًا قائمًا.

•••

هنالك أساسٌ آخرُ يتخذه بعض الكاتبين للتفرقة بين يمين الفكر ويساره، لكنه في الحقيقة أوهى من أن نقف حياله موقفًا جادًّا، وذلك هو «علمية» التفكير، فلئن كان «العلم» نفسه مشتركًا بين اليمين واليسار، فإن استخدام «النظرة العلمية» عند التفكير في ميادين الإصلاح الاجتماعي وغيرها من جوانب الحياة العملية، أمر يختص به — عند هؤلاء الكاتبِين — أصحاب اليسار دون أصحاب اليمين، وهو قول — في رأينا — عجبٌ من العجب؛ فما هي أهم الصفات التي تجعل من نظرة الإنسان إلى شئون الحياة نظرةً علمية، لا نظرة تقوم على محض العاطفة والوجدان؟ في ظني أنها صفاتٌ كثيرةٌ ينبغي أن تتوافر في الفكرة لكي تكون «علمية» إلا أن أهمها — فيما له صلة بالحديث الراهن — هو «إمكان التطبيق»؛ فالفكرة علميةٌ إذا كانت تحمل في صلبها طريقة تطبيقها وتحقيقها على أرض الواقع، وهي حُلمٌ من الأحلام إذا لم يكن ذلك التطبيق والتحقيق ممكنًا؛ ولهذا كانت هذه «العلمية» هي محك التفرقة بين يسار ويسار، لا بين يسار ويمين؛ وذلك لأن الحُلم الاشتراكي طالما راود قادة الفكر الإنساني منذ أقدم القدم، لكنه كان طَوال القرون السالفة أقرب إلى «الحُلم» يحلم به صاحبه حين يتمنى لبني الإنسان حياةً عادلةً شريفة. وقد اصطُلِح على تسمية هذه الأحلام بالطوباويات (يوتوبيا) التي معناها الحرفي: «بلادٌ لا وجود لها على أرض الواقع.» فلما جاء اشتراكيو عصرنا الحاضر، نفضوا أيديهم من أمثال هذه الأحلام التي إن جاءت تسليةً لقارئها، فهي لا تنفع الضعفاء والمُعوِزِين كثيرًا ولا قليلًا. وراح هؤلاء الاشتراكيون يُفكِّرون على أساسٍ «علميٍّ» يجعل خُطتهم المرسومة للمجتمع خطةً قابلةً للتحقيق والتطبيق. وبهذه «العلمية» تَميَّز اشتراكيو اليوم عن اشتراكيِّي الأمس، لكنهم بهذه «العلمية» وحدها لم يتميزوا عن أعتى النظم الرأسمالية التي كانت قائمةً مُطبَّقة، ومعنى قيامها فعلًا وتطبيقها فعلًا هو أنها كانت مبنيةً على أُسسٍ قابلةٍ للتنفيذ؛ أي إنها أُسسٌ «علميةٌ» بهذا المعنى الذي نبسطه.

وأُلخِّص الفائت في جملةٍ واحدةٍ قبل أن أستأنف المَسير. إننا حين نُفرِّق بين يمين ويسار، فإننا قد نصطلح على أن تكون هذه التفرقة قائمةً على أساس الحياة الاقتصادية والاجتماعية من حيث مضمونها، ولكننا ما زلنا نطرح السؤال: هل لهذه التفرقة امتدادٌ في نواحي الفكر الأخرى من فلسفة وعلم وأدب وفن؟ وإذا كان ذلك كذلك فماذا يكون أساس التفرقة؟

•••

أمَّا الفن والأدب فلعلهما أن يكونا مجالًا خصبًا لاختلاف النظر بين يمين ويسار؛ وذلك لأنه إذا كان العلم هو العلم بغض النظر عن أشخاص مُنتجِيه، فالعلاقة وثيقةٌ في الفن والأدب بين الآثار ومنتجيها؛ فلم يُنتِج قصة «الأخوة كارامازوف» إلا دستويفسكي، وقصة «الحرب والسلام» إلا تولستوي، وقصيدة «الأرض اليباب» إلا إليوت، و«الأناشيد» إلا إزراباوند، وهكذا. إن أستاذ الكيمياء في جامعة القاهرة قد يصل إلى النتائج نفسها التي وصل إليها أستاذ الكيمياء في جامعة لندن أو هارفارد أو موسكو، لكن شخصًا واحدًا فقط هو الذي أنتج أو سوف يُنتِج مسرحية «يا طالع الشجرة» وذلك هو توفيق الحكيم. وإذا كانت الصلة وثيقة العرى إلى كل هذا الحد بين الفن والفنان، وبين الأدب والأديب، فإن سؤالنا عن العلاقة بين اليمين واليسار في الفن والأدب يزداد أهمية؛ لأنه يجوز أن يُصاغ على هذا النحو: إن الأديب أو الفنان ما دام شخصًا بعينه مُتفردًا مُتميزًا، ثم ما دام هذا الشخص المُعيَّن لا بد أن يكون ذا نظرةٍ معينةٍ في دنيا الاقتصاد والاجتماع، تجعله اشتراكيًّا أو غير اشتراكي؛ أي تجعله — بحسب الاصطلاح الجاري — من أهل اليسار أو من أهل اليمين، فهل يتحتم بِناءً على ذلك أن يجيء أدبه أو فنه مُصطبِغًا بما يدل على وجهة نظره الاقتصادية والاجتماعية؟ إن الأمر هنا مختلف عنه في حالة العلم والعالم؛ لأنك لا تستنتج شخصية العالم من علمه. وأمَّا في الفن والأدب، فالمفروض أن تكون ثَمَّةَ رابطةٌ بين صاحب الأثر وأثره بحيث نستطيع أن نستنتج شخصه من أثره.

أحسب أن الطريق تتضح أمامنا معالمه إذا نحن حلَّلنا الفن والأدب إلى شكل ومضمون — كما قد اعتاد رجال النقد أن يُحلِّلوهما — لأننا لا نكاد نفصل بين الشكل الفني أو الأدبي ومضمونه، حتى ندرك على الفور ألَّا علاقة بين الشكل من جهة وكون الفنان والأديب يساريًّا أو يمينيًّا في الاقتصاد والاجتماع من جهةٍ أخرى؛ فللشاعر أن يختار أي القوالب شاء، وللمسرحي أو القصاص أن يختار الطريقة التي يبني عليها مسرحيته أو قصته، دون أن يكون لذلك أدنى علاقةٍ بمذهبه في الاقتصاد والاجتماع. وإذن يكون الفرق كله كامنًا في المضمون الذي يسوقه الفنان أو الأديب في إنتاجه؛ فالشاعر العمودي — مثلًا — قد يكون اشتراكيًّا أو غير اشتراكي، وكذلك الشاعر غير العمودي قد يكون هذا أو ذاك، بحسب ما نستشفه من ميوله ونزعاته في مضمون القصيدة، وكذلك قل في القصة والمسرحية. غير أن الفن التشكيلي هو الذي يحتاج إلى شيءٍ من الرَّوِيَّة قبل الوصول إلى حكم صحيح؛ وذلك لأن المُصوِّر التجريدي أو التكعيبي أو ما يجري مجراه من المدارس الحديثة الكبيرة يحاول إسقاط «الموضوع» ليصب اهتمامه كله على اللون والخط والتكوين، كأنما قد أصبحت اللوحة على يدَيه محايدةً حيادًا تامًّا بالنسبة إلى المذاهب الفكرية من سياسة واقتصاد واجتماع؛ ومن ثَمَّ ينشأ السؤال: هل يجوز للفنان اليساري أن يُحايِد في لوحاته وتماثيله؟ إنه إذا كان الجواب بالنفي (وليس من الضروري أن يكون)، تَحتَّم إذن على الفنان التشكيلي ألَّا يتَّبِع هذه التيارات الفنية الكثيرة التي تلتقي كلها في تنحية «الموضوع» عن النشاط الفني. ولعل هذا هو ما يميل برجال الفن في البلاد الاشتراكية إلى النفور من الفن التجريدي بكل أنواعه، والتمسُّك بأن يكون التمثال أو اللوحة ذات «موضوع» يمكن تمييزُه وإدراكه.

فإذا صح هذا، انتهينا إلى ما يُحدِّد معنى اليمين ومعنى اليسار في الفكر، وفي الأدب والفن؛ إذ جعلنا التفرقة مُنصبَّةً على مذاهب الاقتصاد والاجتماع، ثم على مضمون الأدب دون الشكل، ثم على مضمون الفن التشكيلي وشكله معًا عند من يطالبون الفنان بأن يحمل فنه رسالة في الاقتصاد والاجتماع. وأمَّا عند غيرهم، فيجوز للفنان التشكيلي أن يكون يساريًّا في اقتصاده واجتماعه، دون أن يتأثَّر فنه بذلك لا شكلًا ولا مضمونًا. وأمَّا ما عدا ذلك من «علم» و«علمية»، و«فلسفة» تجعل النشاط التحليلي مَدارها، فلَستُ أراه مما يتغير بين يسار ويمين.

على أنني أتصور تشكيلاتٍ من الفكر كثيرة، كلها جائز الحدوث؛ فأتصور أن يكون الرجل اشتراكيًّا في نظرته الاقتصادية والاجتماعية، فردانيًّا في أدبه وفنه، مثاليًّا أو تجريبيًّا في فلسفته؛ إذ ماذا يمنع أن يكون المُواطِن الواحد اشتراكيًّا في نظرته الأولى، ثم يحدث أن يكون شاعرًا ينظم القصيد — أو لا ينظمه — في الحياة والموت، في الزوال والخلود، في حياة الملائكة أو حياة الشياطين؟ أو أن يكون المُواطِن اشتراكيًّا في نظرته الأولى، ثم يحدث أن يكون مصورًا تجريديًّا أو سرياليًّا أو تكعيبيًّا أو ما شِئتَ أن يكون؟ هل هناك من تناقضٍ في أن أَصحُو مع الناس مُشاركًا إياهم في زراعةٍ وصناعة، وفي إنتاجٍ وتوزيع، ثم أنفرد وحدي في حُلمٍ أشطح به مع خيالٍ مبدعٍ خَلَّاق؟ تشكيلاتٌ من الحياة الفكرية تجعلنا نَتردَّد مرتَين قبل أن نُطلِق الأحكام في الناس إطلاقًا لا حَيطة فيه ولا تحفُّظ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤