مقدمة

اللاهوت الوجودي

بقلم  أ.د. حسن حنفي

كان مصير اللاهوت دائمًا مُعلَّقًا بتاريخ المذاهب الفلسفية، يتغيَّر بتغيُّرها. فعندما نشأت الفلسفات الحسية والتجريبية والطبيعية نشأ اللاهوت الطبيعي عند بالي وهيوم، وبعد نشأة المذاهب العقلانية الكبرى نشأ اللاهوت العقلي عند فولف وليبنتز وكانط.

وعندما ظهر الطريق الثالث في الفلسفة بين هذين التيارين المتعارضين اللذين جعلا الوعي الأوروبي أشبه بالفم المفتوح؛ أي طريق فلسفات الحياة والظاهريات وفلسفة الوجود، ظهر اللاهوت الوجودي عند فروم وتيليش وبارت وبولتمان، يرتبط بالإنسان، وليس بالله، ويحلل الوجود الإنساني في أبعاده المختلفة مِن همٍّ وقلق وموت ويأس وأمل وزمان وجسم. ومنذ فيورباخ في «جوهر المسيحية» لم يَعُد اللاهوت «علم الله»، بل تحوَّل إلى «علم الإنسان»، وتحوَّل الموقف الزائف المغترب في الدين إلى موقف شرعي أصيل. فالله هو أعز ما لدى الإنسان، جوهره وماهيته، يقذفها الإنسان خارجًا بدلًا من أن يبقى فيه فينشأ اللاهوت المزيف المغترب القديم، أو يسترده الإنسان فينشأ اللاهوت الإنساني الوجودي الشرعي الأصيل.

وقد ساهم اللاهوت البروتستانتي في بلورة اللاهوت الوجودي أكثر من اللاهوت الكاثوليكي، وذلك منذ أن ربط لوثر بين الحقيقة الدينية والإيمان الشخصي في اللحظة وليس في التاريخ. فالإيمان علاقة رأسية بين الله والإنسان، وليس علاقة أفقية بين المسيح والكنيسة. فالإيمان شخصي وليس تاريخيًّا، والوحي في الكتاب وليس في التراث الكنسي. ويتم الخلاص بالإيمان وحده — التقوى الباطنية، وليس بالأعمال — أفعال الشريعة والمظاهر الخارجية.

وهنا تبدو الوجودية عند تيليش وبارت وبولتمان وجوجارتن وياسبرز ومارسيل وبيرديائيف وشستوف وروبنسون فلسفة إيمانية، بالرغم من أنَّها تركِّز على الوجود الإنساني، كما هو الحال في «لاهوت الأزمة» و«لاهوت الألم». وكما هو الحال في الوجودية، السؤال أهم من الجواب ووصف الأزمة أهم من حلها. ولا فرقَ بين وجودية مؤمنة من نوع وجودية تيليش، ووجودية أخرى عند نيتشه وهيدجر وسارتر لا تشير إلى البُعد الإيماني صراحةً، وإن كانت البدائل المطْلَقة موجودة، مثل: إرادة القوة والإنسان المتميز والحياة عند نيتشه، والوجود العام والزمان عند هيدجر، والحرية والعدم عند سارتر.

ولأول مرة في اللغة العربية تظهر هذه الدراسة، في فلسفة بول تيليش بعنوان: الوجودية الدينية عن اللاهوت الوجودي، في مجتمعٍ ما زال يعلن أنَّ اللاهوت عِلم مقدس ثابت لا يتغير، وأنَّ الوجودية كفر وإلحاد وإنكار الدين والإيمان، وما زال يظن أنَّ الحديث عن الوجود الإنساني دون ذكر الله صراحةً أو البداية به أقربُ إلى العلمانية الغربية منه إلى الإيمان الإسلامي، بالرغم مما قاله الصوفية من المقارنة بين الله والإنسان الكامل، وبالرغم مما ورد في الأثر الفلسفة الوجودية تطرد بصورةمن أنَّ الله خَلَق الإنسان على صورته ومثاله.

وهي دراسة عامة وشاملة، تبدأ بمدخل إلى عالم بول تيليش، وتُبيِّن الالتقاء بين الوجودية والدين، وأنَّ الوحي ليس فقط إجابة على أسئلة نظرية، بل يُقدِّم أيضًا حلولًا لمشاكل عملية متجاوزًا الوجودية الخالصة التي تقوم على التساؤل. ثم تعرض الدراسة لأهم ملامح الفلسفة الوجودية، مثل رفض الأنساق الفلسفية التي تقوم على الماهية، والتركيز على أبعاد الوجود الإنساني، مثل الفردية والذاتية والوجود الأصيل، والحرية الإنسانية، والموقف، والمسئولية والالتزام، مع بعض الاستطراد قبل الدخول في الوجودية الدينية عند تيليش.

كما تُؤصِّل الدراسة اللاهوت الوجودي عند أوغسطين، والمعلم إيكارت، ويعقوب بوهمه، دون ذكر كبار الصوفية في العصر الوسيط، مثل القديسة تيريز من أفيلا، والقديسة كاترين من جنوا، والقديسة كاترين من سين. كما تؤصله عند بعص الفلاسفة المحدثين مثل بسكال ومين دي بيران، أو الذين يعطون الأولوية للتجربة الحية السابقة على التفكير. وقد كان سقراط من قبلُ إمامًا للجميع.

وتعرض الدراسة لمصادر فكر تيليش، ابتداءً من عرض سيرة حياته وتطوره الفكري، وتأثره بشلنج الذي كانت فلسفته أيضًا تحويلًا للدين — في «مقدمة في علم الأساطير» — إلى تجارب إنسانية حيَّة تُعبِّر عن نفسها بالأسطورة، وكما فعل شتراوس ورينان في «حياة يسوع». فالأساطير الدينية في بدايتها تجارب حية فردية واجتماعية وتاريخية تتم صياغتُها بالخيال من خلال البُعد الفني، قبل أن تتحول إلى تصورات تقوم على التنزيه العقلي؛ لذلك ارتبط تيليش بكيركجارد، وشلنج ونيتشه، بفيلسوف الوجود، وفيلسوفَي الأسطورة.

ثم تعرض الدراسة لفلسفة تيليش واللاهوت الوجودي لديه، ومدى تعاون اللاهوت والفلسفة في صياغة الفكر. الفلسفة تعطي الفكر، واللاهوت يعطي الأنطولوجيا. الفلسفة تعطي المعرفة، واللاهوت يكشف الوجود؛ وبالتالي، أصبح تيليش فيلسوف وجود وأحد مؤسسي الأنطولوجيا المعاصرة. وكان من الطبيعي بعد حربين عالميتين طاحنتين، كانت ألمانيا فيهما هي الخاسرة، أن يحاول تيليش إعادة بناء الأمة والوطن، على أساس ديني، آخذًا في الاعتبار أزمة الواقع ومتطلبات العصر. فأسَّس «لاهوت الحضارة» كي يمكن إعادة بناء الحضارة الإنسانية على ماهيةٍ أو جوهرٍ مستمد من الدين باعتباره حاملًا للقيم الإنسانية الثابتة والمطلقة.

ويبدو أنَّ عصر النهضة بعدما تحوَّل من التصور المركزي حول الله THEOCENTRISM إلى التصور المركزي حول الإنسان ANTHOROPOCENTRISM انتهى إلى خسارة الاثنين معًا؛ فقد كان الله أولًا بلا إنسان، ثم أصبح الإنسان ثانيًا بلا إله. وفي كلتا الحالتين ضاع الإنسان لغيابه أولًا، ثم لحضوره وحيدًا ثانيًا. أعلن نيتشه «أنَّ الله قد مات» في أواخر القرن الماضي حتى يحيا الإنسان. ثم أعلن رولان بارت «أنَّ الإنسان قد مات». فمَن الذي يعيش الآن؟ ومِن ثَم ضاعت القيم، وانهارت الحضارة، وعمَّ العدم، وانتشر الموت في الروح، ما دام الإنسان هو النسبي، إنسان القوة والمصلحة، إنسان بروتاجوراس؛ لذلك حاول تيليش العودة إلى الأساس الإلهي لبناء الوجود الإنساني والحضارة الإنسانية على الشرعية الإلهية (الثيونومي).

ومن هنا أتت ضرورة إعادة بناء الفكر الديني طبقًا لكل عصر. فقد عكس كُتَّاب الأناجيل تصورَهم للعالم، وأحوال عصرهم. فالإيمان منذ البداية كان يُعبِّر عن حالة الجماعة المسيحية الأولى، تجربة مُعاشة، كما تشكلت العقائد في المجتمع وفي حياة الناس، وكما عرضت مدرسة «تاريخ الأشكال الأدبية» عند بولتمان وديبليوس. وهذا يستلزم تحديث اللاهوت حتى يعبِّر عن أوضاع كل عصر.

واللاهوت قادر على الاستجابة لمتطلبات كل عصر. فاللاهوت كالأيديولوجية السياسية وكالمذهب الفلسفي. وتستطيع الذاكرة أن تقوم بإعادة البناء هذه، بما لديها من رصيد تاريخي طويل. ولا فرق في ذلك بين المسيحية وسائر الأديان في ضرورة إعادة البناء طبقًا لحاجات العصر.

لقد انتهت العلمانية الغربية إلى إنسانٍ ومجتمعٍ بلا إله؛ لذلك يعيد تيليش بناءها حتى تقوم على أساسٍ من القيم الثابتة باسم الدين وليس ضده؛ لذلك يظهر الله باعتباره رمزًا دينيًّا ليس كما يتصوَّره اللاهوت، بل كما يتصوَّره فيلسوف التعالي والمفارقة، أو ما أسماه المسلمون «التنزيه»، حتى يتجاوز الوعي ذاته باستمرار إلى ما هو أعلى وأشمل وأعم. وعلى هذا النحو يمكن تجاوز الاشتراكية المادية كما تمثَّلت في الماركسية، أو الاشتراكية القومية كما تمثَّلت في النازية، إلى الاشتراكية الدينية التي تقوم على الإيمان بالله وعلى المساواة بين البشر.

وتمتاز هذه الدراسة بقدرة على الفهم والتعمُّق للموضوع ووضوح العرض، وبالثقافة الواسعة والاعتماد على الدراسات السابقة، والإحالة إلى المراجع. تجمع بين تحليل المصادر الأصلية والدراسة المباشرة للنصوص الأولى. لم تكتفِ بما قيل في الموضوع، ولم تقتصر على التحليل المباشر للمادة العلمية، بل جمعت بين الاثنين؛ بين اجتهادات السابقين واجتهاد المحدثين.

ومع ذلك يكتفي البحث بالعرض دون التطوير، وبالتعاطف دون النقد، وبالحماس للموضوع دون التباعد عنه، الضروري للحكم عليه. وربما غاب عنه التركيز على قضايا المجتمع والعدالة الاجتماعية والسياسية كما غاب وضعُ الآخر خارج الحضارة الأوروبية، وضع الإنسان الوجودي في العالم الثالث. كما غابت المقارنات مع حضاراتٍ أخرى قد تكون قد اجتهدت أيضًا في تأصيل اللاهوت الوجودي في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

والدكتورة يُمنى طريف الخولي صاحبة هذه الدراسة أستاذ بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، تلميذة لي، تشرَّفت بالتدريس لها على مدى أربع سنوات في السبعينيات، وهي صاحبة وجهة نظر شاملة للفلسفة، لا تقتصر فقط على فلسفة العلوم — وهو تخصُّصها الدقيق — بل تمتد اهتماماتها إلى الفلسفة الإنسانية والاجتماعية بوجهٍ عام، كما هو الحال عند فيلسوفها «كارل بوبر». تعيش فكرها وتخلص له، تؤمن بما تكتب، وتكتب ما تؤمن به. وعت الفكر منذ أن كانت طالبة، واجتهدت فيه في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، حتى ترقيتها. ما زالت تعطي، في فلسفة العلوم، وفي الفلسفة العامة. الفكر لديها حياة، والفلسفة لديها التزام، والبحث قضية، والعلم موقف. الفلسفة لديها رسالة وليست مهنة، دعوة وليست حرفة، نبوة وليست كهانة. وبهذه الدراسة تفتح الطريق لمزيد من الدراسات اللاهوتية المعاصرة، حتى نتجاوز مفهوم اللاهوت الثابت الأبدي: نظرية الذات والصفات والأفعال، لاهوت كل العصور. فاللاهوت متغير بتغيُّر العصر، يعبِّر عن روحه وثقافته واحتياجاته. اللاهوت عِلم إنساني، يكشف عن طبيعة الموقف الإنساني، وعن تغيُّره بتغيُّر المجتمعات ومراحل التاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤