الفصل الثاني

ما هي الفلسفة الوجودية؟

لعل أحد مصادر ذلك اللبس — الذي رأيناه — أن الوجودية ذاتها تتسم بقدْر من الهلامية؛ فهي ليست البتة مذهبًا فلسفيًّا دقيقًا، منهاجًا وتطبيقًا. كلا، ولا هي مدرسة يمكن صياغة تعاليمها في قضايا محددة.

بل وأن صميم فعل المخاض الذي أنجب الوجودية، والذي سيظل دامغًا إياها بمعالمه هو ذاته النفور من المذهب والمذهبية. وعلى وجه التحديد يمكن اعتبار الميلاد الرسمي للفلسفة الوجودية بمثابة رد فعل رافض لمذهب الماهية Essence، كما وصل إلى ذروته مع هيجل F. G. Hegel (١٧٧٠–١٨٣١م). قامت الفلسفة الوجودية لتناهضه وتقول إن تلك الماهية الثابتة موضوع الخبرة المعرفية العقلانية، ليست هي الحقيقة في تعينها واكتمالها. الحقيقة هي — بالأحرى — الوجود الذي نمر به في الخبرة الفورية الحية، وسوف نرى أن التمييز بين الوجود والماهية من الأسس الكائنة في صلب الفلسفة الوجودية.
وكدأب البحث الفلسفي، بُذلت محاولات عديدة لتعقُّب جذور الوجودية في أعماق التاريخ الفلسفي، وصلت حتى مين دي بيران Main de Biran (١٧٦٦–١٨٢٤م)١ وبليز بسكال B. Pescal (١٦٢٣–١٦٦٢م)، والقديس أوغسطين، بل وحتى سقراط العظيم،٢ ولكن المعتمد أكاديميًّا أن فلسفة كيركجور أول صورة ناضجة مكتملة لها، وصك شهادة ميلادها الرسمية التي لا بد أن يعترف بها الجميع. وفي عصر كيركجور، كان الافتتان بالعقل — الذي بدأه أبو الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت ووصل إلى ذروته مع هيجل — قد بلغ مداه؛ فنجيب العقل الأثير — أي العلم — قد أحرز الذروة الشاهقة بنظرية نيوتن، إنها نسق شامل للعلم بالطبيعة، تجاهد بقية أفرع العلوم البيولوجية والإنسانية للدخول في أعطافها. يوازي هذا نجاح الفلسفة العقلانية — خصوصًا الألمانية — في بناء أنساقٍ شامخة، تحاول استيعاب الوجود بأسره في قلب فئة من التصورات؛ فأشرق القرن التاسع عشر في أحضان ما يُعرف ﺑ «عصر التنوير» — عصر الإيمان بقدرة العقل على فض كل مغاليق هذا الوجود.

وكرد فعل متوقَّع، تمخَّض عصر التنوير عن الحركة الرومانتيكية، من حيث تمخَّض عن فلسفة كيركجور الوجودية، التي كانت نقطة بدايتها رفض العقلانية التنويرية حيث سيادة المذاهب النسقية، سواء العلمية أو الفلسفية؛ فهي في كلتا الحالتين باردة جافة مقطوعة الصلة بالتجربة الحية المعاشة، وتنظر إلى أية حقيقة واقعية — حتى الإنسان — كموضوع، كشيءٍ ما غريب عنه، وتسحق فردانيته بما فيها من موضوعية وعمومية وتجريد.

ولسوف يظل ديدن الفلسفة الوجودية منذ البداية وحتى النهاية رفض كل ما يمس فردانية الفرد؛ «فهم يجعلون محور النظر الفلسفي السؤال: ماذا أكون»٣ من أجل إبراز قيمة الفرد، و«تحليل الوجود البشري من حيث أخص ما فيه من فردية وعينية»،٤ ومن حيث هو جزئي عارض لا يندرج تحت أية بنية نسقية عقلية، ليصلوا إلى الوجود كما يتجلَّى في مواقف التفرُّد الإنساني — مواجهة الموت مثلًا وهو أقصاها. فبهذا يصبح العالم متأصلًا في صميم الفرد، لا مفارقًا عنه في مذهب عقلي مصمت، لا يعترف به ولا بفردانيته.
الوجودية إذن فلسفة للوضع الإنساني، على أن نميز بين اتجاهين لفلسفة الوضع الإنساني: الأول هو الماهوي الذي ينظر إلى الإنسان في حدود طبيعته الماهوية داخل الكون ككل؛ والاتجاه الآخر هو الوجودي الذي ينظر إلى الإنسان في معضلته في الزمان والمكان ويرى الصراع بين ما هو موجود فيهما، وما هو مُعطًى في الماهية،٥ كإمكانية تنتظر التحقق.
والفيلسوف الألماني المنتمي للكانتية الجديدة هاينيمان F. Heine mann هو الذي قدَّم مصطلح «الوجودية Existentialism» فقط عام ١٩٢٩م،٦ وكان مصطلحًا شديد الدلالة وصائبًا جدًّا؛ فهو مشتق من الجذر Ex-sistere الذي يعني في أصوله اللاتينية «الانبثاق To Emerge» والوجودية فعلًا فلسفة الانبثاقة في هذا العالم، وليست فلسفة الكينونة Being فيه. فمع الكينونة لا توجد إمكانية غير متحققة؛ الكينونة تحقُّق خالص. أما الوجود الذي هو مقابل للماهية، فدائمًا إمكانيات مفتوحة، تنتظر الاختيار والقرار لكي تتحقق. وهذه الإمكانيات هي ما تصوِّب عليه الفلسفة الوجودية أنظارَها، وليس اسمها (الوجودية) فقط، بل وكل مصطلحاتها نُحتت في اللغة الألمانية؛ فالوجودية نبتة ألمانية نشأت أصلًا من توتر موقف العقلية الألمانية في بدايات القرن التاسع عشر. وكما أوضحنا، كانت فلسفة كيركجور، وهو دنماركي، ردَّ فعلٍ لفلسفة الماهية مع هيجل الألماني.٧
الوجودية إذن مجرَّد اتجاه عام لتحليل الوضع الإنساني، بل واتجاه ظل مضمرًا، ولم يخرج من الصحائف ويتبدَّ إلا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، في ألمانيا ثم في فرنسا، ولم يكتسب حتى اسمًا إلا عام ١٩٢٩م. لا غرو إذن أن يضم الاتجاه الوجودي فلاسفةً شتَّى تختلف مشاربهم أيما اختلاف وقد تتناقض، ليس فقط في قضايا الفلسفة العامة، بل وفي صميم القضايا التي تشكِّل صلب الاتجاه الوجودي، ولن نجد مقولة واحدة اتفقوا عليها، أو يمكن أن تنطبق عليهم جميعًا بلا استثناء. فلا نتوقع مرسومًا بتعاليم الوجودية، ولا سبيل إلى وضع تعريف جامع مانع لها، وبدلًا من هذا، سنحاول تحديد الاتجاه الوجودي عن طريق نقطة البداية والمسار والهدف، وأبرز المعالم وأهم الخصائص.٨

•••

حينما نفكر في السؤال: ماذا أكون ومَن أكون؟ سنلقي أنفسنا في دوائر مغناطيسية من التساؤلات كيف ولماذا ومن أين جئنا؟ وإلى أين نمضي؟ … الواقعة الوحيدة الجلية هي «أننا موجودون» فبدأت منها الوجودية، وكان «ينبغي أن نبدأ من علاقتنا الأولية بما هو في ذاته: أي بوجودنا-في-العالم»٩ على أنَّ أميزَ ما يميِّز الوجودية هو أنها لا تبدأ من الوجود كمقولة عامة-كماهية، بل منه كواقعة عينية متشخصة في فرد محدد. فالموجود البشري يمتاز عن سائر الموجودات بأن كل فرد ملقًى في موقف وجودي معين خاص به، لا أحد يمكن أن يحل محله أو يشاركه فيه. إنه فرد فريد، لا يجوز اعتباره عينة في فئة. هكذا تبدأ الوجودية من الأنا … الأنت … الهو … من الذات. فيغدو الوجود ذاتيًّا، لا يمكن أن نجرِّده ونعرفه من الخارج كمعطًى موضوعي أو أن نردَّه إلى قوالب تصورية؛ فهو لا يُردُّ إلى سواه، إنه يتصف بالذاتية العميقة من حيث يتصف بالسر الذي يجعله يتأبَّى على كل محاولة لجعله موضوعًا.
وهذه الذاتية والفردانية لا تقلِّل من شأن العالم، ولا من شأن الآخرين، «فإذا كانت مشكلة وجود العالم قد أرَّقت فلاسفة الذات الذين وضعوها في جانب، والعالم في جانب آخر، ثم حاولوا الجمع بينهما، فإنها لا تشغل الوجودي البتة؛ لأن نظرته تقوم على وحدة الذات والموضوع.»١٠ امتلاك الإنسان لجسد، والجسد كأداة للإنسان، يجعله يشارك في العالم، كظاهرة طبيعية وهو في الآن نفسه فائق للطبيعة المادية؛ لذا يرى الوجودي الإنسان كوحدة بدنية نفسية، فلا يبدأ من الذات الميتافيزيقية، أو من الماهية، بل من «الوجود-العيني-في-العالم»؛ حيث الذات البشرية والعالم حقيقتان أصيلتان متساويتان. لا ذات بغير عالم، ولا عالم بغير ذات، وهذا يفضي إلى «الوجود-مع-الآخرين» الذي هو سمة أساسية من سمات الموجود البشري. «وجود الإنسان في جسد يتبعه فعل الشعور، وفعل الشعور لا يمكن تفسيره إلا من خلال المشاركة Participation مع-الآخرين.»١١ هكذا نخلص إلى أن الوجودية تبدأ من وحدة «الوجود-مع الآخرين-في-العالم» التي يجسدها الوجود اللاعقلاني المحسوس، التجربة الحية الخفاقة في الصدور، لا المتجردة في العقول. هذه هي نقطة البداية والتي يلخِّصها ببراعة مصطلح هيدجر Dasein «الموجود-هناك» الكائن الملقى به في العالم مع الآخرين.

أما نقطة النهاية، أو هدف الأهداف من الفلسفة الوجودية، فهو البحث المشبوب عن الوجود الأصيل (الشرعي) والحيلولة دون الوجود الزائف — الوجود أصيل بقدْر ما يشكل الفرد نفسه، وزائف بقدْر ما تشكله مؤثرات خارجية فيفقد ذاته. من هنا كان صون الوجوديين للحرية، ونقدهم للمجتمع وأعرافه، ودعوتهم الفرد للخروج على كتلة الجماهير، ورفض القيم الجاهزة وسائر العموميات … وذلك ليحمل وحده مسئولية ذاته، فيكوِّنها، ويحقِّق وجوده الأصيل. وهذا لن يتأتَّى إلا حين «الفعل المشتمل على الحرية والفكر والقرار».

ها هنا نضع الإصبع على العمود الفقري ودماء الحياة من الاتجاه الوجودي: حرية الإنسان «إنهم لا يحللون الوجود الإنساني إلا من حيث أنه أساسًا فعلُ حرية، تتكون بأن تؤكد نفسها، وليس لها منشأ أو أساس آخَر سوى هذا التوكيد للذات»؛١٢ فعلى خلاف نهج الفلاسفة في القول بحرية الإنسان، لا يحاول الوجوديون وضعَ أية براهين تثبتها أو دحض أدلة تنفيها؛ فهذا نقض للوجودية التي تعني المطابقة بين كون الإنسان موجودًا وكونه حرًّا. فكما يقول سارتر: «الحرية ليست وجودًا ما، إنها وجود الإنسان.» ويستأنف موضحًا: «إنني محكوم عليَّ أن أكون حرًّا. وهذا يعني أنه لا يمكن أن يوجد لحريتي حدود أخرى غير ذاتها، أو إذا شئنا فنحن لسنا أحرارًا في الكف عن أن نكون أحرارًا.»١٣ ولو كانت كل وقائع حياة إنسانٍ ما تشهد بأنه ليس حرًّا، كأن يخضع لمشيئة غير مشيئته، أو حتى للعقل الجمعي في قرارٍ ما، لقال الوجوديون إنه بفعل من أفعال الحرية اختار التنازل عن الحرية، وبالتالي عن الوجود الأصيل وقنع بالوجود الزائف؛ اختار أن يكون مشتَّتًا ممزقًا بلا إرادة — باصطلاح سارتر: سيئ النية، وسوء النية يعني أن الموجود الإنساني «يمكن أن يتخذ مواقف سلبية بإزاء نفسه»؛١٤ فتقول رفيقة عمره وفكره سيمون دي بوفوار: «إن الإنسان لا يستطيع أبدًا أن يتنازل عن حريته، وحين يزعم أنه يتخلَّى عنها، فإنه لا يفعل شيئًا إلا أن يحجبها عن نفسه، وهو يحجبها بحرِّية؛ إن العبد الذي يطيع يختار أن يطيع، واختياره لا بد أن يتجدد في كل لحظة. إن الإنسان يُخلِص لأنه يريد ذلك بكل إرادته، وهو يريد ذلك لأنه يأمل بهذه الطريقة أن يستعيد كينونته.»١٥

وبالطبع لا شيء مطلق؛ فثمة ما أسماه الوجوديون «بالمواقف الحدِّية» التي تمثِّل حدًّا لحرية الإنسان، فلا يستطيع أن يفلت منها، كالموت والقلق … وأيضًا الجنس واللون والطبقة … فضلًا عن قسوة المواقف الحدِّية الشاذة، كالعاهات وحالات المعوَّقين والأمراض المزمنة على أنها — جميعًا وغيرها — تمثِّل حدود الموقف الذي تُمارَس الحرية داخله، ولا تنفيها. حرية الفرد غير قابلة للنفي، طالما لا شيء ينفي كونه موجودًا.

إن الوجودية أصلًا وفروعًا فلسفة الموقف؛ لأن الموقف هو الحياة، والحياة هي الوجود في موقف، «والموقف هو ما يجعل الإنسان (الوجود-لذاته) لا يشابه بحالٍ الشيءَ (الوجود-في ذاته).»١٦ فكان المسرح الوجودي مثلًا مسرح موقف لا مسرح دراما وأحداث …
ونأتي للأخلاق الوجودية، فنجدها أخلاق موقف مشدود إلى المستقبل، لا قانون مستكن في الماضي؛ لذلك قيل إن «الاتجاه الأخلاقي للوجودية يحدِّد النظر إلى التاريخ على ضوء المستقبل.»١٧ وأشباه المتعلمين ذوو النظرة العجلى المبتسرة يتصورون أن الحرية الوجودية ستجعلها فلسفة انحلال وإباحية، في حين أنها تُحمِّل الإنسان أقسى مسئولية خلقية لا عن ذاته فحسب، بل عن الإنسانية جمعاء، على أساس أن اختيار قيمة معينة تأكيد لها، ودعوى للآخرين كي يختاروها، إنها اختيار للذات وللإنسانية جمعاء، التزام وإلزام.١٨ فتتلخَّص أخلاقيات الوجودية في: تصرَّف بحيث يصبح فعلك أنموذجًا للتصرُّف في كل موقف مماثل، في أي زمان ومكان، وكأننا وصلنا بالطريق المعكوس إلى أقصى صورة عرفتها الفلسفة للأخلاق الصارمة المتشددة؛ أي مبدأ الواجب المطلق عند إيمانويل كانط. ولئن كان الوجوديون، حتى بعض المؤمنين يحتقرون الأخلاق المتعارف عليها؛ لأن اتباعها الأعمى انقيادٌ للآخرين وطمس للفرد، فإنه ليس في مقدور الإنسان أن يقف عند حد رفض القيم الجاهزة، إنما هو مقضي عليه أن يؤسس قيمًا يلتزم بها ويُلزِم بها الآخرين، لتصبح كلية على الرغم من أنها في أصلها ذاتية، هكذا يصبح الإنسان الأخلاقي مُشرِّعًا ومنفِّذًا؛ فهو الخالق الوحيد لمعنى القيم في العالم. إنهم يبحثون عن مستوًى أعمق للضمير، فيسلِّمون بحُرِّية الإنسان ويرفعون من عليه كل وصاية أو إلزام مسبق؛ حتى لا يلتزم إلا بما يختار ويقرِّر هو الالتزام به، وبهذا تكون الأخلاق ذاتية نابعة من أعماق الفاعل متأصلة فيه، لا خارجية مفروضة عليه ربما بصورية فارغة، وتكون المسئولية عن الفعل من حيث كانت الحرية في الإقدام عليه. فالحرية والمسئولية وجهان لعملة واحدة كما تقضي مبدئيات التفكير، وكما يسلِّم كل دستور أو قانون؛ فلا يُعَد الفاعل مسئولًا عن أية جريمة — مهما كانت بشعة — أُرغم على ارتكابها بصورة أو بأخرى، وطبعًا لا يوجد فيلسوف وجودي أو غير وجودي، مؤمن أو ملحد، يقول إن كل شيء مباح، ولن يوجد. والمفروض أن المسئولية الملازمة للحرية تقوم بعملية الضبط الأخلاقي المنشودة دائمًا، في كل موقف، فردي أو جمعي.
وتلك المكانة الفائقة للحرية من ناحية، وللموقف من الناحية الأخرى، جعلت الوجوديين شديدي العناية — على وجه الخصوص — بالمواقف التي يتجلى فيها معالم الحرية، كالتصميم والتعهد والالتزام والولاء، وعلى رأسها موقف الاختيار واتخاذ القرار — الطريق إلى الوجود الأصيل. من هنا كان «القرار» أحد محاور الفلسفة الوجودية، وكلنا نعلم صعوبته، وقد نحاول إرجاءه أو تجنبه، خصوصًا حين القرارات الخطيرة التي يترتب عليها مواقف ذات دوام، كقرارات المهنة والزواج والصداقة. على أن القرار في كل حال يتضمن وثبة وتجاوزًا للموقف المباشر، بحيث نكون قد ألزمنا أنفسنا بظروف لم تتعين وتتحقق بعدُ؛ فمن طبيعة الإنسان أن يلتزم وأن يراهن على المستقبل؛ لذلك لا بد أن يتخذ قرارات، وعنها تنبثق الذات.١٩

الذات ليست معطاة جاهزة منذ البداية؛ المُعطى حقل من الإمكانيات غير المتعينة، وبالقرار يختار الإنسان بعضًا منها لتتعين وتُشكل الذات. وعلى الرغم من أن القرار شاق ومؤلم، فإن النزعة الوجودية — على وجه الدقة — هي رفض كل ما يحول دون اتخاذ القرار حول الوجود الخاص، كالعرف والتقاليد والروتين؛ إنهم يحاربون كل ما يعمل على تشكيل حياة الأفراد في قوالب نمطية، تجعلهم يسيرون كالدهماء وراء قرارات اتُّخذت بالفعل، فيفقد الإنسان ذاته، ويقع في براثن الوجود الزائف.

وآية كل هذا يبلوره التمييز بين الوجود والماهية. ورغم أن هيدجر قال إن ماهية الإنسان كامنة في وجوده، فإنه يمكن اعتبار القول بأسبقية الوجود على الماهية من المعالم البارزة للوجودية، ذلك أن أي جماد أو نبات أو حيوان، ماهيته سابقة أو متآنية مع وجوده؛ المنضدة مثلًا قبل وبعد أن تُصنع، وفي أية مرحلة من مراحل وجودها مجرد منضدة؛ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يسبق وجوده ماهيته، «إنه لا يأتي إلى الوجود كموضوع في مكان وزمان، بل كنشاط مستمر للحرية.»٢٠ فهو يوجد قبل أن نستطيع تعريفه بأية فكرة، «والمقصود بذلك أن الإنسان يوجد قبل كل شيء، وأنه يلقى ذاته، ويبرز إلى العالم، ثم يُعرف بعد ذلك.»٢١ فطبعًا لا يمكن تحديد ماهية الوليد وقيمه وأهدافه ومُثله والتزاماته … أو على الإجمال علاقته بالعالم: «علاقتنا بالعالم ليست مقررة من قبلُ، نحن الذين نقرِّر.»٢٢ ألم نتفق على أن الذات معطاة كحقل من الممكنات؛ الإنسان مشروع وجود، ثم يقرِّر بنفسه ما الذي سيكونه، وفي النهاية لا يكون إلا بحسب ما ينتوي ويختار؛ ذاته ليست إلا مجموع قراراته وأفعاله، هذه هي حياته نفسها؛ وبالتالي لا مجال لتعليق الفشل على ظروف خارجية عن إرادته. إذن فالإنسان — لا عوامل البيئة والوراثة — هو الذي يصنع ذاته، و«أن يوجد الإنسان هو أن يختار بنفسه.»٢٣ في عملية مستمرة لا تنتهي أبدًا، اللهم إلا بالموت. الإنسان وجود في الحاضر، فضلًا عن مسئولية في مواجهة مستقبل مفتوح مليء بالممكنات، لتظل الأنا-الماهية هي مقبل أفعالها؛ إنها اختيار يجب ابتكاره مجددًا ودائمًا.

لهذا كان الإنسان مسئولًا عن ماهيته. إنها المسئولية التي سوف تتعدى ذاتيته إلى الإنسانية جمعاء، والتي لا يمكن الفرار منها لأن الإنسان حرٌّ. ولما كانت المسئولية الوجودية رهيبة إلى هذا الحد، حتى إنها تجعل فعل الاختيار والقرار مؤلمًا، فلا بد أن يلازمها قلق؛ من هنا كان الشعور بالقلق أساسيًّا في الوجودية.

ولكي يتحمل الإنسان هذه المسئولية تمامًا، تضعه الوجودية أمام كينونته؛ أي أمام كونه موجودًا، وفي هذا استفادت كثيرًا من الفينومينولوجيا (مذهب الظاهريات)، مذهب إدموند هوسرل E. Hussrel (١٨٩١–١٩٣٨م) الذي رام أن تصبح الفلسفة علمًا دقيقًا، فدعاها لأن تقتصر على الوصف التفصيلي للظاهرة كما تُعطى للوعي، شريطة أن يتخلص الذهن من الافتراضات والانحيازات المسبقة. ووضع هوسرل منهاجًا دقيقًا ومعقدًا لهذا، يتلخَّص في ثلاث خطوات: تقويس الظاهرة؛ أي وضعها بين قوسين ليكون أمامنا كل الظاهرة ولا شيء سواها (التجريد-التطبيق) وقد أقام هوسرل بناءه على فكرة مجدية حقًّا للوجودية ألا وهي «القصدية» «البنية الجوهرية لكل وعي»٢٤ والتي تعني أن الوعي وعيٌّ بشيءٍ ما يقصده؛ فهي فكرة ترتبط ربطًا وثيقًا بين الذات والموضوع، لما بينهما من «إحالة» متبادلة. هكذا نجد القصدية والإحالة يحققان وحدة الذات والموضوع التي حرصت الوجودية على البدء منها. بيد أن الفينومينولوجيا إحدى ذرى العقلانية؛ والوجوديون الذين أخذوا بها أو منها — وأهمهم هيدجر وسارتر وميرلوبونتي — قد أوَّلوها تأويلًا شديدًا لتلائم أغراضهم، حتى إن هوسرل قد انتقد استخدام تلميذه هيدجر لأفكاره.
تقول سيمون دي بوفوار: «من المغالطة اعتبار الوجودية مذهبًا يائسًا؛ فهي أبعد ما تكون عن ذلك، إنها لا تحكم على الإنسان ببؤس لا علاج له»، «إن الإنسان لهو سيد مصيره الوحيد المستقل، إذا شاء فقط أن يكون كذلك، هذا ما تؤكده الوجودية، وإن هذا لتفاؤل»، «وإذا كانت الوجودية تُقلِق، فليس ذلك لأنها توئس الإنسان، بل لأنها تتطلب توترًا مستمرًّا.»٢٥ والوجودية فعلًا، حتى وإن كانت إلحادية تشاؤمية، فإنها ليست البتة موئسة، وهي أيضًا ليست بالضرورة تشاؤمية، والأمل ظهر كثيرًا في الوجودية الدينية المؤمنة، وخصوصًا مع جبرييل مارسيل الذي وضع كتابه «الإنسان الجوال» وجعل له — كعادته — عنوانًا فرعيًّا، هو «ميتافيزيقا الأمل»، وكأنه بهذا يواصل مسار إرنست بلوخ E. Bloch (١٨٨٥–١٩٧٧م) الذي جعل «مبدأ الأمل» عنوان أهم أعماله، محورًا لفلسفته اليوتوبية التي تجمع عناصر وجودية وماركسية وصوفية وعلمية وأنثربولوجية … وهذا لا يمنع أن الروح العامة للوجودية هي بلا شك، رؤية سوداوية للحياة، وإحساس بمأساويتها وكآبتها وثقلها، وبالمعاناة الأليمة؛ فالوجودية في حد ذاتها، وفي أية صورة من صورها، فلسفةُ أزمة، فلسفة الموقف المتأزم للإنسان دونًا عن سائر الموجودات؛ ليس هذا من صعوبة القرار ومسئولية الحرية والقلق فحسب، بل ومن مفاهيمَ أخرى كثيرة دارت حولها، مثل التناهي والموت والاغتراب والهم والإثم والخطيئة الأولى في المسيحية … وغيرها؛ كلها مواقف حدية رهيبة، وأقساها التناهي، وهو خاصة أساسية للموجود البشري؛ فهو محدود من ناحية بلحظة الميلاد، والأفظع من الناحية الأخرى بلحظة الموت، حتى عرَّف هيدجر الإنسان (أو الآنية Dasein) بأنه «وجود-للموت»، من حيث أن الموت هو نهاية الحياة وقانونها المحتوم؛ الكائنات الحية الأخرى تنتهي، أما الإنسان فهو وحده الذي يموت؛ لأنه هو وحده الذي يهتم بأعلى إمكانيات وجوده وأخصبها، وهي إمكانية استحالته وانتهائه وموته.٢٦ فإذا كانت الذات حقلًا من الممكنات، فإن الموت هو أصلب هذه الممكنات؛ لأنه الممكن الوحيد اليقيني، وهو في الوقت نفسه نهاية كل الممكنات التي تجعلها جميعًا غير ممكنة؛ لذلك كان الموت عند الوجوديين الملاحدة — خصوصًا ألبير كامي — برهانًا نهائيًّا على عبثية الكون والناس، وهذه العبثية لا تنفي، بل لعلها تؤكد إعزاز الوجوديين الحميم لتجربة الحياة، وكامي نفسه يقول: «إن جزعي من الموت ينال من غيرتي الشديدة على الحياة.» و«إذا كنتُ أرفض رفضًا باتًّا وعود العالم الآخر، فالسبب في ذلك أنني لا أرغب في التخلي عن خصوبة اللحظة الماثلة وما فيها من ثراء، كما أنني لا أوثر الاعتقاد بأن الموت يؤدي إلى حياة أخرى؛ فالموت بالنسبة لي باب موصد.»٢٧ إن الموت هنا يُعبِّر عن اليقين الحسي والشك الروحي.

أما مع الوجوديين اللاهوتيين والمؤمنين، فقد اكتسب الموت دورًا ودلالة مختلفة، ولكنه في كل حال يزيد من حدة الهم، الذي يأتي من التناقض بين كون الإنسان محدودًا كواقعه، وكونه مشدودًا للمستقبل؛ فهو مهموم بتحقيق إمكانياته، في بحثه الدائم عن الوجود الأصيل، المحفوف بالموت.

•••

ولا مندوحة عن الاعتراف بأن الوجودية في منطلقاتها الفلسفية نزعة أرستقراطية، تبغي الرقي بالإنسان؛ فهي دائمًا الترفُّع والتميُّز عن الحشد وكتلة الجماهير؛ ولا شك أنها أتتنا باستبصارات عميقة ونافذة عن الموجود البشري، كانت صائبة إلى حد أنه قد نما مؤخرًا علم النفس الوجودي والعلاج النفسي الوجودي، كمقابل للاتجاهات السيكولوجية التعميمية — خصوصًا السلوكية الآلية — بصورة تجافي الواقع؛ «وأحرز العلاج النفسي الوجودي نجاحًا ملحوظًا في علاج الأمراض اللفظية وأمراض التخاطب، خصوصًا التي لا تعود إلى أسباب عضوية.»٢٨ وقد بدأ هذا الاتجاه السيكولوجي بما يُسمى بالتحليل النفسي الوجودي. ويُعدُّ لودفيج بنسفانجر L. Binswanger رائده، وكان يصف عوالم مرضاه بالاعتماد على تصورات أنطولوجيا هيدجر للوجود الإنساني.

وستظل الوجودية دائمًا حائزة لنوط شرف في صونها لفردانية الإنسان وحريته ضد أخطار قد تحيله إلى مجرد رأس في القطيع — بتعبير نيتشه — أبرزها الآن نظام الدولة الشمولية ذات السلطة الجامعة، ووسائل الإعلام الذائعة، والضغوط التي يمارسها مجتمع الجماهير، أو العقل الجمعي.

لكنَّ لكل شيء حدودًا؛ فأي خطر يتهدَّد المجتمع لو أن الوجودية أُخذت مأخذًا حقيقيًّا، وأصبح كل فرد يتصرَّف كما لو كان عالمًا مستقلًّا؟! ببساطة لن يظل مجتمعًا، بل زحامًا متنافرًا. سيرُدُّ الوجوديون بأن كل وجود بشري محفوف بالمخاطر، وكما أن هناك إمكانية خطر الفوضى، بل وانعدام الأخلاق، فثمة أيضًا إمكانية التقدُّم الأخلاقي الجذري؛ ربما. لكن حتى لو افترضنا مستوى الوعي اللائق وإخلاص النية وإصابة جادة الصواب من كل فرد وهو يبدع قيمه، فلا مندوحة عن عموميات يلتزم بها الجميع لكي تستقيم حياتهم معًا؛ ثم لماذا يتصورون أن كل التجاء لعموميات وتجريدات جاهزة فيه مساس بالفرد؟! والواقع أنه — من وجوه كثيرة — فيه إذكاء، وسبيل إلى تجربة وجودية أفضل؛ أليس الوجوديون أشدَّ مِن سواهم إدراكًا لتناهي الموجود البشري ومحدوديته؟ حياته إذن قصيرة وإمكانياته قاصرة، لا تستوعب تقصي كل الأبعاد في كل موقف وصولًا إلى القرار السليم، فلماذا لا يستفيد من المبادئ العمومية التي أسفرت عنها تجاربُ أخرى طويلة عريضة؟ على الفور سيرُدُّ الوجوديون بأن حرية القرار أهم من سلامته؛ لذا يُؤخذ عليهم إعلاء التحمُّس للاختيار المتفرِّد فوق الإنصات لصوت الحكمة الرصين؛ إنهم ينشدون تحقيق ما أسموه بالوجود الأصيل، بأي شكل كان وبأي ثمن كان، في مغامرة أو مقامرة ليس من الصواب دائمًا الإقدام عليها بسهولة.

وبصرف النظر عن نقطة انطلاقهم — أي محاربة العقل وهو أداة إضفاء الرونق على الواقع — والسبيل الأمثل لحل كل المشاكل وتجاوز الكوارث … كان تكثيفهم المأساوي للحياة بدلًا من توسيع نطاقها، وصمهم الآذان عن جمالاتها الكثيرة، ثم دورانهم حول مقولات الموت والقلق والإثم والهم والاغتراب … إلخ. أفلا نتوقع إذن من الوجوديين — لاهوتيين ومؤمنين وملاحدة — الطابع المأساوي الكئيب، والهم والغم والنحيب … كان الله في عونهم!

كل هذا يبرِّر الحكم بأن الوجودية نزعة جانحة، خصوصًا وأنها لا تزدهر إلا حين الاضطراب والانهيار وانعدام الشعور بالأمن؛ والمجتمعات المستقرة نسبيًّا — كما هو معروف، وكما يؤكد تيليش نفسه — لا تصغي للوجودية.

•••

وبنظرة عميقة، نلاحظ أن هذه المآخذ الشهيرة على الوجودية تنداح كما تنداح دوائر بلُجَّة ماء أُلقي فيه بالحجر، فقط لو كانت لاهوتية أو حتى مؤمنة؛ أي حين يختار القرار الإيمان بالدين والألوهية لقهر العدم والتناهي والإثم والاغتراب … ولتحقيق الوجود الأصيل، بكل ما يتضمنه هذا القرار من التزام وتعهد وولاء، وبهذا نعود إلى حيث بدأنا إلى الوجودية الدينية كمدخل لعالم باول تيليش.

وقبل الدخول إلى هذا العالم — وأي عالم — ينبغي أن نكون على حذر من أكذوبة تصنيفية تجعلنا ننظم الفلاسفة في صفوف أشبه بالجُزَر المنعزلة، ولعلها أشبه بطوابير الألعاب الرياضية، كل صف أو طابور يحمل بطاقة معينة، هذا مثالي … وذاك تجريبي … والآخر وجودي … إلخ.

هذا الأسلوب الإجرائي التبسيطي لو أخذناه كقاعدة جامعة مانعة، كان ضلالة ضالة ومضللة، وأبعد ما تكون عن زخم الواقع الفلسفي الحي المتدفق المتلاحق بفعالية، وأحيانًا بعنف، يرفض ويقبل ويطور ويصوب وينقد ويتراجع ويتقدَّم … ولا يوجد فيلسوف ذو اعتبار؛ مصطلح فلسفي واحد كفيل بتحديد فلسفته من رأسها حتى أخمص قدميها. وانتماء الفيلسوف لاتجاه معين أو حتى لمدرسة معينة لا يعني أن كل ما سواها حرام عليه، ولا يعني أنه لزامًا عليه أن يطبِّق تعاليمها حرفيًّا، فلا تفوته منها صغيرة ولا كبيرة، إن هذا ينطبق على المنتمين لأشد الاتجاهات الفلسفية إحكامًا ورصانة منطقية ودقة في الأسس المنهجية، فما بالنا بالاتجاه الذي هو على النقيض من الإحكام والرصانة المنطقية — أي بالفلسفة الوجودية.

لقد حددنا بدقة — قصارى ما استطعنا — ماهية الاتجاه الوجودي بكل أبعاده وآفاقه؛ كي نكون على بينة من الحدود، ولكن ليس يعني هذا أن فلسفة الفيلسوف لا بد أن تكون، أو حتى يمكن أن تكون صورةً طِبق الأصل من هذا لكي يكون وجوديًّا؛ كلا بالطبع، يكفي الاشتراك في المنطلقات المبدئية، أو الدوران حول المحاور الأساسية؛ يكفي أيضًا اقتفاء خطى أعظم الرواد كيركجور أو هيدجر أو سارتر. إن الوجودية ككل تيار فلسفي رئيسي، تضوي تحت لوائها وتسم بميسمها مدارس فلسفية كثيرة — وبعضها قامت لتستقل عنها فكانت بصورة معدلة أو مصغرة لها — كالشخصانية (ماريتان، بيرديائيف)، فلسفة الحياة (أونامونو)، فلسفة القوة والحياة أيضًا (نيتشه)، فلسفة الوجود الشخصي (جاسيت وبولجاكوف) … والملامح الوجودية الواضحة تجعلهم وجوديين شاءوا أم أبوا؛ وكل الفلاسفة الوجوديين — مَن ذكرناهم ومَن لم نذكرهم — هم وجوديون فقط، بدرجات متفاوتة طبعًا؛ أي لن يتحقق المفهوم الكامل الذي رأيناه مع أي منهم، وإن كانت أعلى درجة تسجل لكيركجور وهيدجر وسارتر؛ وهيدجر هو أقدر مَن استطاع أن يفلسف الوجودية، وأعمق روادها فكرًا وأبعدهم تأثيرًا، ومع هذا يرفض أن يسمي نفسه فيلسوفًا وجوديًّا، ويفضِّل لقب فيلسوف وجود!

الخلاصة أن الوجودية كأي اتجاه فلسفي خصيب وثري، لا هي كفيلة بتحديد فلسفة الفيلسوف، ولا يوجد فيلسوف فلسفته بمفردها كفيلة بتحديدها.

إذن ليست الوجودية مصطلحًا مرادفةً لفلسفة باول تيليش المتعددة الأبعاد والمترامية الحدود؛ يقول تيليش موضِّحًا موقفه — وهو قول يصلح قاعدة عامة مجدية جدًّا لمناهج البحث الفلسفي: «كثيرًا ما يوجَّه إليَّ السؤال هل أنا لاهوتي وجودي؟ وإجابتي دائمًا مقتضبة، فأقول: إنني النصف والنصف fifty-fifty، وهذا يعني أن الوجودية والماهوية  Essentialism بالنسبة لي ينتميان لبعضهما، ومن المستحيل أن يكون المرء ماهويًّا خالصًا إذا كان في الموقف الإنساني بصفته الشخصية، وليس يجلس على عرش الله، كما نفهم ضمنًا من هيجل وهو ينشئ تاريخ العالم الآتي لنهايته تبعًا لمبدأ في فلسفته. تلك هي الغطرسة الميتافيزيقية للماهوية الخالصة؛ ومن الناحية الأخرى الوجودية الخالصة مستحيلة، فكي يصف الإنسان الوجود لا بد أن يستخدم اللغة؛ واللغة تتعامل مع الكليات، وباستعمال الكليات تكون اللغة بصميم طبيعتها ماهوية، ولا يمكنها التملُّص من هذا.»٢٩

ليست الماهوية فحسب، إنه على الحدود بين الوجودية وسائر المقاطعات المحيطة بها، وهو دائمًا وأبدًا على الحدود، ولا يتقوقع في قلب المقاطعة فتستغرقه ويستغرقها، لا المقاطعة الوجودية ولا سواها، ولا حتى المقاطعة اللاهوتية بجلال قدْرها.

لكننا وجدنا الوجودية اللاهوتية والدينية المنظور الأشمل والمدخل المثالي لعالمه، والذي يمكِّننا من الإحاطة به والتجول في سائر أرجائه، ولئن كانت موضوعًا نناقش به ومن أجله فلسفة تيليش، فإنه نظرًا لعمق وجوديته وأصالتها من ناحية، واتساق تفكيره وتشابك أطرافه وتلاقي عناصره من الناحية الأخرى، فلن يجدينا كثيرًا وضع الإصبع على دعاويه الوجودية فحسب، وبدلًا من هذا الأسلوب القاصر المبتسر، سنعرض لشخصية الفيلسوف ككل، ومقومات فلسفته بعامة، وسيكون هذا العرض المتكامل بدوره أكمل أسلوب لاستشراف نزعته الوجودية.

١  انظر في فلسفة مين دي بيران، وآثارها التي امتدت حتى شكَّلت حركة سادت في الفلسفة الفرنسية إبان القرن التاسع عشر، تُعرف باسم «فلسفة الحرية» التي أقرَّت تمامًا بقيمة العلم الإيستمولوجية، ولكن تحاول تقليم أظافره الأنطولوجية التي تلغي حرية الإنسان. انظر في هذا كتابنا المذكور: الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، ١٩٩٠م، الفصل الرابع: خطوة فرنسية على الطريق، ص ١٣٥–١٥٠. وهذا الكتاب يمثل نقطة الافتراق الحادة بيننا وبين الوجودية؛ إذ يحاول الوصول إلى نفس مقولاتها، ولكن على أساس العقلانية، بل وبالنظر إلى العالم بعيون العلم، وهو آية العقلانية التي قامت الوجودية لكي تنشق عنها وعن نظرتها للعالم.
٢  J. Macqurrie, An Existentialist Theology, Op Cit, p. 15-16.
٣  Gabriel Marcel, Mystery of Being, trans by G. S Fraser, Vol. I, Indiana, 1950, p. 84.
٤  ريجيس جوليفيه، المذاهب الوجودية، ترجمة فؤاد كامل، ص٥.
٥  P. Tillich, History of Christian thought: from its Origions to existentialism, op cit, p. 539-40.
٦  M. Rosenthal & P. Yudin (ed.), A Dictionary of Philosophy Progress, Moscow, 1967 p. 153.
٧  P. Tillich, Theology of culture, pp. 76–81.
٨  انظر في هذا بصورة موجزة ومبسطة، مقالنا: الوجودية، مجلة القاهرة، العدد ١٥، ١٤مايو ١٩٨٥م.
٩  جان بول سارتر، الوجود والعدم: بحث في الأنطولوجيا الظاهراتية، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي، دار الآداب، بيروت، سنة ١٩٦٦م، ص٥٠٤.
١٠  جون ماكوري، الوجودي، ترجمة د. إمام عبد الفتاح إمام، مراجعة د. فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ١٩٨٢م، ص١١٦ وما بعدها، ص٢٧١، ومواضع أخرى.
١١  G. Marcel, Mystery of Bing, Vol. I, Op Cit, p. 104.
١٢  ريجيس جوليفيه، المذاهب الوجودية، ترجمة فؤاد كامل، ص٢٠.
١٣  جان بول سارتر، الوجود والعدم، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي، ص٧٠٣.
١٤  المرجع نفسه، ص١١١.
١٥  سيمون دي بوفوار، مغامرة الإنسان، ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، سنة ١٩٦٣م، ص٧٢.
١٦  Gabriel Marcel, Mystery of Being, p. 125ff.
١٧  Paul Tillich, Theology of Culture, p. 101.
١٨  جان بول سارتر، الوجودية فلسفة إنسانية، ترجمة حنا دميان، دار بيروت، سنة ١٩٥٩م، ص١٨ وما بعدها.
١٩  جون ماكوري: الوجودية، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، ص٢٦٣ وما بعدها.
٢٠  د. حبيب الشاروني: فلسفة جان بول سارتر، مجلة عالم الفكر، المجلد الثاني عشر، الجزء الثاني، سبتمبر ٨١، ص٤٠٣.
٢١  جان بول سارتر: الوجودية فلسفة إنسانية، ترجمة حنا دميان، ص١٦.
٢٢  سيمون دي بوفوار: مغامرة الإنسان، ترجمة جورج طرابيشي، ص١٧.
٢٣  جان بول سارتر: الوجود والعدم، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي، ص٧٠٤.
٢٤  جان بول سارتر: التخيُّل، ترجمة د. نظمي لوقا، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، سنة ١٩٨٢م، ص١٠٦.
٢٥  سيمون دي بوفوار: الوجودية وحكمة الشعوب، ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب بيروت، سنة ١٩٦٢م، ص٣٠، ٣١، ٣٣.
٢٦  مارتن هيدجر: نداء الحقيقة، ترجمة ودراسة عبد الغفار مكاوي، دار الثقافة، القاهرة ١٩٧٧م، ص٣٢-٣٣، ٨٤.
٢٧  جون كوكشانك: ألبير كامي وأدب التمرُّد، ترجمة جلال العشري، دار الوطن العربي، بيروت، د. ت، ص٥٠-٥١.
٢٨  Victor E. Frank, Psychotheraphy and Existenttialism, Penguin, London, 1970.
٢٩  P. Tillich, A History of Christian Thought: From its Judiac and Hellenistic Origins to Existentialism, p. 541.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤