الفصل السابع

الوجودية الدينية

يقول تيليش: «حين قدمت الفلسفة الوجودية إلى ألمانيا، توصلتُ أنا إلى فهْم جديد للعلاقة بين اللاهوت والفلسفة.»١ هذه العبارة توضِّح بجلاء كيف أصبحت الوجودية بمثابة حجر الزاوية والعمود الفقري لفكر تيليش الذي رآها تطرح تساؤلات جذرية عميقة، لا توجد إجاباتها إلا في الإيمان باللاهوت، وأصبح تيليش من أقدر المعبرين عن الوجودية المؤمنة والدينية، كأنه يواصل مسارها الشرعي، كما بدأت مع سرن كيركجور — أقوى المؤثرين عليه، والذي يشترك معه في العناية بالمغزى الديني للموقف الإنساني، وفي تأكيد أن التساؤلات الدينية لا يمكن إثارتها بصورة ملائمة إلا من حيث هي متأصلة بالموقف الإنساني — أي أن كيركجور وتيليش يشتركان معًا في العناية بدينية الوجودية، وكرَّس تيليش لهذا كتابه «شجاعة الكينونة»؛ وأيضًا يشتركان في تأكيد وجودية الدين، وكرَّس تيليش لهذا الجزء الثاني من كتابه «اللاهوت النسقي». على أن تيليش أكثر من رائده كيركجور ارتباطًا بتاريخ ونصوص ومؤسسات الديانة المسيحية؛ فهو دونًا عنه لاهوتي محترف رسميًّا، وهو بلا شك أكثر الوجوديين طرًّا تأثيرًا وانتشارًا في العالم المتحدث بالإنجليزية، والذي لم يكن مرعًى خصيبًا من مراعي الوجودية التي تفجَّرت فقط في قلب القارة الأوروبية، خصوصًا في غربها.
ويحدِّد لنا تيليش ثلاثة فلاسفة، أحبهم وعايش فكرهم بعمق، فمثَّلوا أساسًا انطلق منه تحمُّسه الشديد للفلسفة الوجودية، وهم شلنج وكيركجور ونيتشه. وهو لم يقرأ نيتشه إلا بعد أن بلغ سن الثلاثين، ومع هذا كان ذا تأثير ضخم عليه، وكثيرًا ما يستشهد بأقواله ويجعلها محورًا للنقاش؛ وجدَ تيليش في نيتشه وجوديًّا عظيمًا، ومن أهم الوجوديين «إذ يكشف عن شجاعة أن ينعم النظر لهاوية العدم، في تفرُّده الكامل الذي تقبَّل رسالة موت الله.»٢ وتحمَّس بشدة ﻟ «فلسفة الحياة» معه؛ حيث الحياة في هذا المصطلح هي العملية التي تحقق بها قوة الوجود ذاتها، ورآها ضرورية لمرحلة ما بعد الحرب، وكرد فعل للموت والجوع في سنواتها ساد بعدها التفكير التوَّاق لتأكيد الوجود، والذي جعل تأكيد نيتشه للحياة شديد الجاذبية؛ ثم يقول تيليش: «لما كان هذا التأكيد النيتشوي للحياة يعود من ناحيةٍ ما إلى جذور في فلسفة شلنج، فقد كنت على استعداد لتقبُّله.»٣
وشلنج كما ذكرنا هو الوثن الفلسفي لتيليش، وإذا كان المعتمد أنه رائد المثالية الذاتية، فإن تيليش يصر على أن شلنج بهذا الرائدُ الحقيقيُّ للوجودية، والذي سار في ركابه كيركجور؛ وذلك لأنه أول مَن قاد الهجوم الوجودي على «فلسفة الماهية» لصديقه هيجل، والتي هي قمة الفلسفة التي تلغي الاتجاه الوجودي، وسمَّاها «فلسفة سلبية»؛ لأنها تتجرَّد من الوجود الحقيقي، وجعل «الفلسفة الإيجابية» هي فلسفة الفرد الذي يمر بالخبرة ويفكِّر ويقرِّر من داخل موقفه التاريخي، ليس فحسب بل أيضًا كان شلنج هو أول مَن أهاب بمصطلح الوجود Existenz ليناقض فلسفة الماهية، وكان هذا في سلسلة محاضرات عن فلسفة الأسطورة، ألقاها شلنج خلال شتاء ١٨٤١-١٨٤٢م في جامعة برلين، وأمام مستمعين مميزين: كيركجور وإنجلز وباكونين؛ فانفجر المصطلح في الأجواء الألمانية خلال العَقد الخامس من القرن الماضي حتى احتوته الكانتية،٤ وصاغت منه عام ١٩٢٩م المصطلح الدال على هذا الاتجاه الفلسفي، كما ذكرنا. والحق أن تيليش لا يغالي كثيرًا في تقدير قيمة شلنج؛ فقد كتب كيركجور في يومياته بتاريخ ٢٢ فبراير سنة ١٨٤٢م يقول: «أنا سعيد سعادة لا تُوصف لسماعي محاضرة شلنج الثانية حتى إنني تنهدتُ طويلًا بما فيه الكفاية، وتنهدت الأفكار بداخلي.»٥ ولا يغيب عن بال تيليش الفوارق بين الأصول والإرهاصات التاريخية الواسعة النطاق، وبين الريادة الموحية وبين النشأة وبين النضج؛ فقد قام في كتابه «شجاعة الكينونة» بمسحٍ تاريخيٍّ سريع — كعادته كرَّره في كتبٍ أخرى — استخرج فيه عناصر وجودية من فلسفة كل فيلسوف تقريبًا من الفلاسفة العظام، حتى أبعدهم عن الوجودية، بدءًا من أفلاطون وأفلوطين، وطبعًا أوغسطين، ومن معظم الاتجاهات الكبرى في الفلسفة الوسيطة حتى الاتجاهين الواقعي والاسمي، ثم كوميديا دانتي ومدرسة فلورنسا حتى كانط نفسه بل وهيجل!

وصولًا إلى شلنج وشوبنها ووماكس شتيرنر وكارل ماركس وطبعًا نيتشه؛ وانتهاءً بالبرجماتية وجيمس، ودلتاي وبيرجسون، وصمويل ألكسندر، وماكس فيبر وغيرهم، وطبعًا الأدباء العظام أمثال بودلير ورامبو في الشعر؛ وفلوبير ودستويفسكي في الرواية؛ وإبسن وشتريندبيرج في المسرح. وهو في هذا يسلِّم قطعًا بأنهم ليسوا وجوديين بالمعنى الدقيق للمصطلح، فقط حملوا اعتراضًا ضد تشيؤ الإنسان وتموضعه. وفي النهاية يؤكد أن الفلسفة التي ظهرت في القرن العشرين شيء آخر، إنها أسطع وأقوى وأخطر معنًى للوجودية، وهي فقط التي تنشغل بمشكلة المعنى حين تتحدث عن التناهي والذنب، وهي التي حين قدِمَت إلى ألمانيا — المنبت والموطن للوجودية — مثَّلت له فهْمًا جديدًا للعلاقة بين اللاهوت والفلسفة.

ومن ثَمَّ أحس تيليش بروح تلك الفلسفات الثلاث: شلنج – كيركجور – نيتشه، وقد انصهرت واندمجت معًا في فلسفة هيدجر. وإذا كان تيليش يجاهر بولائه لشلنج، فإن أسلوب ومضمون فلسفته، بل وطبيعة مصطلحاته تؤكد أن هيدجر هو في الواقع أعظم المؤثرين عليه، ونحسب أن هيدجر هكذا بالنسبة لكل وجودي ذي اعتبار، خصوصًا إذا كان لاهوتيًّا؛ وتيليش على أية حال يرى أن كتاب هيدجر (الوجود والزمان Sein und Zeit) أهم ما أخرجه الفكر الألماني في القرن العشرين، بعد كتاب إدموند هوسرل (دراسات منطقية logische Untersuchungen) الذي أسَّس به الاتجاه الفينومينولوجي، وقد استفاد تيليش كثيرًا من الفينومينولوجيا، وكما سبق أن رأينا العلاقة التي توثَّقت بينها وبين الوجودية، يؤكد تيليش على العلاقة الوثيقة بينها وبين اللاهوت، فيقول: «لا بد أن يطبِّق اللاهوت التناول الفينومينولوجي على كل مفاهيمه الأساسية»؛٦ لأنه مقدِّمة تمهيدية ضرورية لمناقشة صحتها وفعاليتها.

•••

وتيليش كأي فيلسوف وجودي، ينطلق من واقعة أن الإنسان وحيدٌ في الكون، فَردٌ فَرِيدٌ لا يمكن أن يشاركه في موقفه الوجودي أو يحل محله آخرُ؛ فيستهل كتابه «الآن الأبدي» بالفقرة التالية:
لقد كان هناك بمفرده، وكذلك نحن. إن الإنسان بمفرده لأنه إنسان أو بمعنًى ما نلقى كل مخلوق بمفرده. وبانفراد مهيب يرحل كل نجم عبْر ظلام الفضاء اللامتناهي، وتنمو كل شجيرة وفقًا لقانونها هي الخاص محقِّقةً إمكانياتها الفريدة. وتحيا الحيوانات، تقاتل، تموت من أجل ذاتها، وهي بمفردها؛ بعضها جماعيًّا، بيد أنها جميعًا بمفردها! وأن تحيا يعني أن توجد في جسد؛ جسد منفصل عن كل الأجساد الأخرى، وأن تكون منفصلة يعني أن تكون بمفردها. يصدق هذا على كل مخلوق، ويصدق على الإنسان أكثر مما يصدق على أي مخلوق آخَر. إنه ليس فقط بمفرده، لكن يعلم أيضًا أنه بمفرده ولكونه على وعي بما هو عليه، فإنه يثير التساؤل عن وحدته. يسأل لماذا هو بمفرده، وكيف يستطيع الانتصار على كونه بمفرده؛ فهو لا يستطيع تحمُّل هذه الوحدة aloneness، ولا هو يستطيع الفرار منها. إن قدَرَه أن يكون بمفرده، وأن يكون على وعي بهذا، ولا حتى الرب يستطيع أن يرفع عنه هذا القَدَر.٧
يقول تيليش هذا وهو يناقش مأزق الإنسان، في فصلٍ بعنوان «الانفراد والتفرُّد»، فيوضح براعة اللغة؛ حيث إن المصطلح الأول (الانفراد Loneliness) يشير إلى الجانب المأساوي من الوحدة والذي يبلغ ذروته في موقفَي الذنب والموت؛ فلا أحد يشارك في رفع وزرهما؛ أما المصطلح الآخر (التفرُّد Solitude) فيشير إلى الجانب النبيل الجليل الجميل للوحدة المحتومة على الإنسان، ويوضِّح لماذا لا يستطيع الله بجلالته أن يخلِّصه منها، ذلك أن عظمة الإنسان في أنه يتفرَّد: يتمركز داخل ذاته وينفصل عن عالمه، فيكون قادرًا على أن يعلو عليه وينظر إليه ويعرفه ويحبه؛ وفي التفرُّد يتحقق أسمى أشكال وتعيينات الوجود الإنساني؛ أي الإبداع؛ وأيضًا تنمو وتترعرع أعظم قوة قادرة على مقاومة الوحدة والانفراد؛ أي الحب وأيضًا التواصل الجنسي، وإن كانت قوة محدودة بإمكانيات رفض الحب أو موت وفقدان المحبوب. «الإنسان وحيد» إذن سلاح ذو حدين، وهو أولًا وأخيرًا قدَرُ الإنسان المحتوم — فقط الإنسان. ويؤكد تيليش أن الذي يستطيع أن يكون وحيدًا بمفرده، هو فقط الذي يمكنه الزعم بأنه إنسان؛ ذلك هو مجد الإنسان، والحمل الذي ينوء بكلكله.

والآن، لقد رأينا في المقدمة أو المدخل أن ويلات الحرب جعلت الأجواء مهيأة للوجودية كي تستأنف طريق نيتشه، وتسير في مقولة الفردانية إلى منتهاها، إلى الهجر، الإلحاد، الإنسان وحيد تمامًا مهجور في هذا الكون، لا إله يقيم معه شيئًا من التواصل. تلك هي الوجودية الملحدة التي شاعت وذاعت، والجرح الذي قامت لتداويه جعلته يفغر فاهه بشراسة أكثر. ولكن حين التعرُّف على سيرة تيليش وجدنا أن ويلات الحرب هي نفسها التي جعلته يؤكد الاحتياج لحضارة ثيونومية، للألوهية، ولوجودية دينية كي يلتئم الجرح. ونحن نتساءل: أي الطريقين الوجوديين — طريق الإلحاد وطريق الإيمان — أكثر تحقيقًا لحيثيات التجربة الوجودية؟ أكثر وجودية؟ نحسب أنه الطريق الثاني.

بدايةً، يوضِّح تيليش أن الوجودية التي قويت وتألَّقت في القرن العشرين هي: تعبيرٌ عن قلق الخواء واللامعنى ومحاولة قهره بشجاعة تحتويه داخلها. وبهذه الشجاعة حدث الانفصال في مفترق الطرق بين الوجودية الدينية والملحدة. ولا شك أن قلق اللامعنى ليس فقط معلولًا مباشرًا للحرب العالمية، بل يعود أيضًا إلى رفض الألوهية في القرن التاسع عشر، والذي بلوره نيتشه بقوله «الله مات.» فمات معه نسق القيم والمعاني التي يحيا عليها الإنسان. هذا أمرٌ محسوس بوصفه خسارة وفقدانًا، وبوصفه تحررًا وانطلاقًا، فإما أن يؤدي إلى شجاعة العدمية، وإما إلى شجاعة تحتوي العدم داخلها. ويحمل نيتشه قمة التعبير عن الشجاعة العدمية الموئسة المحطِّمة للذات، إنها شجاعة اليأس Courage of Despair، وأعمق تعبير فلسفي عنها في كتاب هيدجر (الوجود والزمان)، هي بلا شك شجاعة جسورة، تُفصِح عن قدْرةٍ على مواجهة العالم كما هو، ولكنها تدفع ثمنًا باهظًا هو فقدان المعنى والخواء — فقدان كل شيء؛ فاليأس هو الموقف الحدِّي القصي والذي لا يمكن أن يتجاوزه المرء. صميم معنى كلمة اليأس: لا أمل، لا طريق يبدو إلى المستقبل.٨ هكذا أفضت الوجودية الملحدة إلى شجاعة اليأس؛ أما الوجودية الدينية فقد أفضت مع تيليش إلى شجاعة الكينونة وتأكيد الذات Self-Affirmation، فكيف ذلك؟
ذلك في كتاب تيليش الذي يحمل هذا الاسم: «شجاعة الكينونة The Courage to Be»، وهو مكرَّس لتحليل جدلي وتوصيف فينومينولوجي للشجاعة كمقولة بنائية للظرف الإنساني. وتبعًا لما رأيناه في فلسفته الأنطولوجية، ستكون الشجاعة واقعًا أخلاقيًّا، وتضرب بجذورٍ قصية في بنية الوجود ذاته؛ أي أنها أيضًا مفهوم أنطولوجي. والشجاعة كواقع أخلاقي تشير إلى فعل عيني وإلى قرار يعبِّر عن مضمون قيمي. أما بوصفها مفهومًا أنطولوجيًّا فإنها تشير إلى تأكيد-الذات للفرد تأكيدًا جوهريًّا، وكليًّا في حضور التهديد بالعدم. ويذهب تيليش إلى أن هذين المفهومين للشجاعة يجب أن يتحدا إذا أردنا تفسيرًا ملائمًا للظاهرة.٩ ثم أعطى تيليش تخطيطًا يتتبع مفهوم الشجاعة طوال تاريخ الفكر الغربي منذ أفلاطون حتى الوجودية في القرن العشرين، معتبرًا مبدأ المسيحية في الغفران من أمجد صور شجاعة الكينونة. ومفهوم الشجاعة لا يمكن فهمه وإدراك قيمته إلا في علاقته بالقلق؛ وما هو القلق Anxiety؟ إنه ذلك المفهوم الشهير في الفلسفة الوجودية والمقترن بها، يعرِّفه تيليش بأن الخوف له موضوع محدد كالفشل أو الموت أو رفض الحب؛ أما القلق فهو خوف من مجهول؛ وثمة مجهولات كثيرة، لكن لا نواجهها بقلق. إن مجهولًا من نوع معين هو الذي نقابله بقلق، مجهولًا بصميم طبيعته لا يمكن أن يُعرف؛ لأنه عدم Nonbeing.١٠ القلق خوف غير محدد الموضوع، خوف من مجهول هو العدم الذي ينفي كل موضوع، هو الوعي الوجودي بتهديد العدم، بالتناهي المتأصل في الإنسان. والشجاعة هي التصميم على مواجهة هذا القلق بطريقة تحتوي العدم تمامًا وتتضمنه داخل الوجود، وهي بهذا تمثِّل الفارق بين القلق الوجودي والقلق العصابي الذي يتفادى العدم بواسطة تفادي الوجود أو تقليل نطاقه؛ فالشخصية العصابية تبحث عن تأكيدٍ لما تبقَّى من ذاتها المنقوصة، فتؤكد شيئًا ما أقل جوهرية، تأكيدًا سلبيًّا موهومًا.

ويميِّز تيليش بين ثلاثة أنماط للقلق:

  • (١)
    القلق الأونطيقي Ontic،١١ قلق المصير والموت.
  • (٢)

    القلق الأخلاقي، قلق الذَّنْب والإدانة.

  • (٣)

    القلق الروحي، قلق الخواء واللامعنى.

في القلق الأونطيقي: نجد المصير يهدد التأكيد-الذاتي لوجود الفرد تهديدًا نسبيًّا، أما الموت فيهدده تهديدًا مطلقًا؛ ينشأ قلق المصير من الوعي بالعرضية التي لا يمكن استئصال شأفتها، والتي تتخلَّل أعمق أعماق وجود المرء، ويقف الموت من وراء المصير بوصفه التهديد المطلق لتأكيد-الذات الأونطيقي. يفضح الموت العدمية الكلية للوجود، وغالبًا يحاول الإنسان تحويل هذا القلق إلى خوف، قد ينجح إلى حدٍّ ما، لكن يدرك أن التهديد لا يمكن أبدًا تجسيده في موضوع معين، إنه ينشأ عن الموقف الإنساني بما هو كذلك، فيحيرنا السؤال: هل ثمة شجاعة كينونة، شجاعة تأكيد-الذات، على الرغم من التهديد الأونطيقي لتأكيد الذات، المُحاق بالإنسان؟

ويهددنا العدم على مستوًى آخَر، حين ينشأ عنه قلق أخلاقي، يحمل قلق الذنب تهديدًا نسبيًّا، وقلق الإدانة تهديدًا مطلقًا، تبحث النفس عن تأكيد ذاتها أخلاقيًّا، عن طريق تحقيق إمكانياتها، لكن العدم يعبِّر عن نفسه في كل فعل أخلاقي، بأن يعجز الإنسان عن التحقيق الكامل لكل ممكناته، فيظل مغتربًا عن ذاته الجوهرية. ويتخلل الالتباس الأخلاقي كل أفعاله؛ والوعي بهذا الالتباس ذنب؛ والذنب قد يؤدي بالذات إلى الرفض الكامل لذاتها، إلى التهديد المطلق الذي تحمله الإدانة. ويُثار السؤال: هل ثمة شجاعة كينونة، على الرغم من التهديد الأخلاقي لتأكيد الذات؟

وأخيرًا، قلق الخواء واللامعنى، التهديد الروحي لتأكيد الذات. الخواء تهديد نسبي؛ واللامعنى تهديد مطلق. ينشأ الخواء عن موقفٍ تفشل فيه الذات في أن تجد إشباعًا من خلال المشاركة في مضمونات حياته الحضارية والثقافية، فتفقد معتقدات الإنسان واتجاهاته وأنشطته معناها، وتتحوَّل إلى موضوعات للامبالاة. نحاول في كل شيء، ولا نجد إشباعًا من أي شيء، فتضمحل القوة الخلاقة المبدعة، تُهدِّد الذات بالملالة والسأم. ويصل الخواء إلى ذروته في قلق اللامعنى، يشعر الإنسان أنه لم يَعُد يستطيع أن يمضي قدمًا، لا في تأكيد مضمونات حضارته ولا في تأكيد قناعاته الشخصية. هكذا تصبح الحقيقة ذاتها موضوعًا للتساؤل، ويهدد الحياة الروحية شكٌّ كلي، ويُثار التساؤل: هل ثمة شجاعة كينونة تؤكد-ذاتها على الرغم من تهديد العدم؟ والعدم هنا هو الشك الذي يهدِّد تأكيد الذات الروحي.١٢

«الأنماط الثلاثة للقلق» من أخصب وأمتع أفكار تيليش، وتوضِّح مدى اتساق وتشابك أطر فلسفته المترامية الحدود؛ فتوضِّح مدى عمق وتغلغل وجوديته، إنها أساس فلسفته للوجود الإنساني الفردي، وأيضًا أساس فلسفته الحضارية؛ فهذه الأنماط الثلاثة حاضرة في كل شخص وفي كل الأزمنة الحضارية، بيد أن واحدًا منها هو الذي يسود ويصبغ العصر والشخص بصبغته، ويضوي النمطين الآخرين تحت لوائه، وكما أشرنا، في هذا العصر يسود القلق الروحي، قلق الخواء واللامعنى.

ولا سبيلَ البتة إلى محو القلق الوجودي، بأشكاله الثلاثة؛ فهو متأصل في صميم الموقف الإنساني بتناهيه؛ وليس يستطيع مواجهته واحتواءه إلا هؤلاء الذين يملكون شجاعة الكينونة، شجاعة تأكيد الذات على الرغم من تهديد القلق بوصفه وعيًا وجوديًّا بالعدم ذي الأشكال الثلاثة.

وطالما أن النفس والعالم هما القطبان المشكِّلان لبنية الموقف الوجودي الفردي وأيضًا لبنية الأنطولوجيا — كما أوضحنا — فإن شجاعة الكينونة لا بد أن تتضمن كليهما؛ فتتضمن شجاعة أن يكون المرء ذاته ويحقق وجوده الأصيل (النفس)، وتتضمن شجاعة المشاركة والتواجد بمعية الآخرين (العالم)؛ وباستفاضة يناقش تيليش محاولات الحضارة المعاصرة، التي هي علمانية أوتونومية، لمواجهة قلق الخواء واللامعنى الذي يهددها، وينتهي إلى أنها جميعها فاشلة، تعجز عن تحقيق شجاعة تتضمن الفردانية والمشاركة معًا؛ الرأسمالية تنجح تمامًا في تحقيق شجاعة أن يكون المرء ذاته ولكنه يفقد شجاعة المشاركة؛ والاشتراكية تحقِّق شجاعة المشاركة، وتعجز عن تحقيق شجاعة أن يكون المرء ذاته، وبالمثل كل الاتجاهات الأخرى كالرومانتيكية والفاشية والنازية … إلخ، لا سبيل إلى شجاعة الكينونة الحقيقية التي تتضمن الذاتية والمشاركة — النفس والعالم، إلا بشجاعة تضرب بجذورها في الألوهية، الوجود-ذاته، الذي يعلو على تضايف النفس/العالم فيحتويهما ويتجاوزهما. باختصار شجاعة الكينونة شجاعة دينية. والإيمان بالعناية الإلهية يقهر القلق الأونطيقي، والإيمان بالغفران يقهر القلق الأخلاقي، والإيمان بالرب ذاته — بالوجود ذاته — يقهر القلق الروحي.

هكذا نجد حيثيات الفلسفة الوجودية تصب توًّا في سويداء قلب الإيمان الديني، فيعطينا تيليش أقوى تفسير ديني للوجودية.

•••

وإذا انتقلنا إلى الوجه الآخر للعملة، التفسير الوجودي للدين، سنجد أن تيليش يكرِّس الجزء الثاني من «اللاهوت النسقي» وعنوانه الفرعي «الوجود والمسيح» لكي يعطي كل العقائد المسيحية الأساسية دلالة وجودية، بحيث نجده يصب الديانة المسيحية بأسرها في قلب الفلسفة الوجودية؛ فالسقوط Fall، سقوط آدم من الجنة إلى الأرض، يعني الانتقال من الماهية إلى الوجود.١٣ تحطيم الذات الوجودي هو مبدأ الشر في العالم، والاغتراب الذي هو مسألة دنيوية بحتة حتى ولو ارتبط بالذنب، يعمل تيليش على إبراز التماثل والتشابه بينهما وبين فكرة الخطيئة في اللاهوت المسيحي. باختصارٍ الحقيقةُ الدينية بأسرها حقيقةٌ وجودية، لا تنفصل عن الممارسة — أو الفعل كما يقول إنجيل يوحنا — فهي رهانٌ بصميم وجود المرء. وهذا التفسير الوجودي للدين يتبعه أن تغدو وظيفة الدين وجودية، هي قهر القلق والخوف اللذين هما ميراث البشر أجمعين، كما اكتشف كيركجور.
وبهذا التفسير الوجودي للدين ينقذ تيليش العقائد المسيحية التي مسَّتها التغيرات الحديثة، وأهمها الإيمان بعناية إلهية تحرِّك التاريخ نحو الأفضل، ليحقق في النهاية مدينة الله على الأرض؛ وهي عقيدة ميَّزت المسيحية منذ أوغسطين، لكنها تحطَّمت تدريجيًّا مع الحرب العالمية الأولى، ومع العام الخامس منها كان الإيمان بها قد تلاشى تمامًا، وشبيه بهذا ما حدث خلال وبعد الحرب العالمية الثانية. ويأتي التفسير الوجودي للدين ليعيد إليها الحياة؛ يوضِّح تيليش أولًا أن الصورة القديمة للعناية الإلهية ليست نتيجة للعقيدة المسيحية، بل للتفكير التواق المتفائل؛١٤ فهي لا تعني أن الله يُسيِّر العالم بلا مآسٍ أو مشاكل وكأنه آلة بالغة الكمال، بل تعني فقط قدرة على التحقيق قائمة دومًا ويستحيل نفيها، فيكون الإيمان الحقيقي بالعناية الإلهية هو شجاعة تقبُّل الحياة بصدر مفتوح ونفس مطمئنة على الرغم من كل شيء.١٥ إن الشك في المعتقدات الدينية قائم دائمًا؛ والإيمان هو الشجاعة التي تقهره، ليس بأن تزيحه، بل بأن تحتويه داخلها.
والمسيحية حين تدعو إلى الوجود الجديد والدهر الجديد تكون هي الطريق لتحقيق الوجود الأصيل والحيلولة دون الوجود الزائف. ضغوط العقل الجمعي المؤدية للوجود الزائف لا ينفذ منها الثوريون التقدميون أكثر من الرجعيين المحافظين، فإن اختلفت الجماعتان، فإن العضو في أي منهما مقولب بقوالب جماعته، ولا ينفذ منها المثقفون أكثر من البسطاء؛ فالمثقفون خاضعون للقيم والمعايير الثقافية السائدة … إلخ، ولا الكنيسة نفسها تنفذ منها. لكن أصول العقيدة المسيحية تنفذ منها وترسم الطريق إلى الوجود الأصيل؛ فالمسيح نفسه وقف في وجه أسرته وروابطه العائلية وأعلن أن مَن يعجز عن هذا لا يصلح مسيحيًّا حقيقيًّا؛ ويخرج تيليش من هذا إلى أن ما فعلته الكنيسة طوال التاريخ من تكريس للنُّظم والروابط يناقض الوجودية، هو «فهْم خاطئ بل مضاد للرسالة المسيحية الحقيقية.»١٦
أما عن صلب الوجودية المتمثِّل في حرية الاختيار والقرار، والذي تعارضه المؤسسات الدينية فإن تيليش يقول: «منذ زمن بعيد نسيت الكنيسة كلمة الإنجيل بأن المسيح هو الحق، وادعت أن تعاليمها عنه هي الحق، هذه التعاليم مهما كانت ضرورية وخيِّرة، فقد ثبت أنها ليست ذات الحق الذي يحررنا وسرعان ما أصبحت أدوات القهر والإخضاع للسلطات؛ لقد أصبحت وسائل لمنع البحث المخلص عن الحق، ونَصلًا لشطر أرواح البشر بين الولاء للكنيسة وبين الإخلاص للحق، وبهذا قدَّموا أسلحةً فتاكة للهجوم على الكنيسة وتعاليمها باسم الحق؛ وليس كل شخص يشعر بهذا الصراع؛ فثمة كتل من الجماهير تشعر بالسكينة في كنف التعاليم والقوانين؛ إنهم آمنون، لكنه أمان الذي لم يجد تحرُّره الروحي ولم يجد نفسه الحقة. ذلك هو مجد البروتستانتيين وأيضًا خطورتهم؛ إنهم يتحمَّلون مغبة السؤال عن الحق بأنفسهم، وهم بهذا يتلقون حرية ومسئولية القرارات الشخصية، والحق في الاختيار بين الوسائل المؤدية للرب الذي هو الحق المجرَّد.»١٧

ويا للأسف! بعد نجاح تيليش الشديد في التفسير الوجودي للدين، والذي مكَّننا من أن نعزُف عن العقائد الخاصة بالمسيحية كالتثليث وصلب المسيح … إلخ، ويقع في المطب المتربص باللاهوتيين وهو التعصب، وتيليش حريص دائمًا وناجح على تفاديه، لكنه بعد كل هذا يأتي ليؤكد أن التفسير الوجودي للدين «مجد البروتستانتية فقط»! لا شك أنها في مناهضتها للكاثوليكية كانت أكثر وجودية، ولكننا كنا ننتظر من لاهوتي تنساب في دمائه رحيق الفلسفة ذات الشمولية والعمومية، وحريص على الحوار والتلاقي بين الديانات كما سنرى؛ كنا ننتظر منه أن يحرز خطوة أبعد ويرى التفسير الوجودي للدين من حيث هو دين.

•••

إن هذا المثلب لا ينفي أن تيليش — كما رأينا — أقدر وأبرع من عبَّر عن التجادل والتواؤم والتلاحم العميق بين النزعة الدينية والنزعة الوجودية؛ وهذا يتبلور فيما أسماه بالاهتمام القصي الذي لا بد أن يطالعنا في كل أعمال تيليش تقريبًا؛ إنه محور من محاور فلسفته الدينية، وأساس تعريف كل مفاهيمها، ويمكن تناولها بأسرها من خلاله. والاهتمام القصي Ultimate Concern — كما فهمناه — هو ببساطة التفسير الوجودي للإيمان. ولعل الإيمان هو الذي دفع تيليش أصلًا لمغامرة تحديث اللاهوت؛ فقد لاحظ أن الإيمان «فقد معناه الحقيقي واتسع حتى أصبح يدل على الاعتقاد في أشياءَ لا يمكن الاعتقاد بها»، و«أنه في حاجة إلى إعادة التأويل أكثر من أي مصطلح ديني آخر.»١٨
ومثلما قال القديس أوغسطين إن الإنسان خُلق بحيث يوجهه حب فائق، يقول تيليش إن الإنسان خُلق بحيث يوجهه اهتمام قصي،١٩ ما معنى الاهتمام بشيء؟ معناه أننا منشغلون به، ونشارك فيه بمجامع النفس، بل وأكثر من هذا، يعني الطريقة التي نشارك بها؛ أي بقلق Anzious. وبراعة اللغة تطابق بين الاهتمام والقلق في هذا اللفظ (وأيضًا في العربية: الشخص المهموم، المشتقة من نفس مصدر الاهتمام، تعني الشخص القلق). هذا الاهتمام القلق قد يكون بالعمل وأدائه والنجاح أو الفشل فيه، أو بالآخرين … بالأصدقاء وحبهم وتشاركهم الروحي معنا والخوف من أن نفقدهم أو نضرهم، والخوف مما قد يكون مخبوءًا في نفوسهم من غيرة وحسد أو حتى كراهية … الاهتمام القلق قد يكون بأنفسنا بمسئولية التطور تجاه القوة والنضح والحكمة، ثمة أيضًا التوق للسعادة واتخاذ القرارات السديدة، وثمة طبعًا الاهتمام القلق بالحياة اليومية والخبز والكساء والمسكن … مثل هذه الاهتمامات ليست حقيرة أو تافهة، بل ضرورية لكي تستمر الحياة والحضارة؛ لكن … ألا يوجد فوقها اهتمام أعلى منها جميعًا؟

بالتأكيد يوجد فوقها الاهتمام القصي، الذي يمثل هدفًا أخيرًا لا هدف بعده للحياة … للتجربة الوجودية، ولا بد لها من مثل هذا الهدف، لكي يكون لها معنًى. ولنلاحظ أن ما أسماه تيليش بالقلق الروحي، قلق الخواء واللامعنى، ينجم عن فقدان اهتمام قصي، فقدان معنى يمنح المعنى لكل المعاني، فقدان إجابة — مهما كانت رمزية وغير مباشرة — للسؤال عن معنى الوجود، وتيليش يؤكد أن كل شخص لا يسأل عن معنى وجوده هو شخص غير ناضج حتى ولو كان عالمًا مبدعًا أو سياسيًّا عظيمًا.

الاهتمام القصي إما أن يكون دينيًّا، أو دنيويًّا بواحدٍ من أو حتى بكل شواغل الدنيا السامية: الأشياء المادية والأموال، أو المركز الاجتماعي، أو مصالح الطبقة أو الأمة، أو الحركة السياسية، أو المُثل العليا من الأشخاص العظام سواء دينيين أو علمانيين، والأشكال الحضارية والثقافية كالفن والفكر والعلم … إلخ،٢٠ كلها مواضيع تستحق الاهتمام القلق، بل وإن بعضها — خصوصًا العلم والمال والطبقة — كانت في مراحل تاريخية متفاوتة بمثابة آلهة، إنها أشياء هامة، لكن لا تكفي، لا تصلح لأن تكون الاهتمام القصي الحقيقي؛ لأنها متناهية وقتية متغيرة زائلة، وتُشكِّل عبئًا ينوء بثقله وَعْيُنا لأنه يعجز عن أن يعدل بينها.٢١ لا بد من البحث عن اهتمام أعمق منها جميعًا، أبعد وأبقى وأقدر على إشباع كل الاحتياجات الروحية، اهتمام قصي حقيقة، بمطلق لا متناهٍ غير مشروط؛ واهتمام من هذا النمط لا بد أن يقود إلى المستوى الفائق للوجود، إلى الوجود ذاته — أي إلى الألوهية. معنى هذا أن الإيمان الديني هو فقط الاهتمام القصي الأمثل لكل إنسان، وكل اهتمام قصي عدا الإيمان زيف ووهم؛ إذ يقود إلى موضوعات دنيوية؛ أي زائلة، فكيف تكون قصية؟!
إن ديناميات الإيمان الديني هي عينها ديناميات الاهتمام القصي، والإيمان بوصفه اهتمامًا قصيًّا هو فعلٌ للشخصية ككل total personality، يحدث في مركز حياة الشخص، ويتضمن كل عناصرها، فيشارك في ديناميات الحياة الشخصية،٢٢ محققًا شجاعة الكينونة بقطبيها: الفردانية والمشاركة؛ لأن مصطلح «الاهتمام القصي» يوجد بين الجانبين الذاتي والموضوعي لفعل الإيمان، ذاتي من حيث هو مركزي للشخصية، وموضوعي من حيث إن فعل الإيمان يتجه إلى القصي ذاته.٢٣ هكذا يُحدَّد الموقف الوجودي للفرد، فما هو الإيمان بالدين؟ هو اكتشاف أن كل شيء في حياة الفرد له مغزاه وقيمته، على قدْر ما يتصل بالوجود الفائق المتعالي — بالرب.
وحين يُعرف الإيمان بأنه الاهتمام القصي، سوف يكتسب ديناميكية تجعله أبعد ما يكون عن الثبوتية المقترنة بالدين التقليدي، «وقد يبدو أن المفهوم الديناميكي للإيمان لا يتيح مجالًا للثقة التوكيدية المريحة التي نجدها في مواثيق الأديان الكبرى، بما فيها المسيحية؛ لكن ليس هذا هو الحال، المفهوم الديناميكي للإيمان نتيجة لتحليل المفاهيم لكلا الجانبين الذاتي والموضوعي للإيمان؛ إنه بالتأكيد وصفٌ لحالة متحققة دائمًا للعقل، وتحليل للبنية، وهذا ليس وصفًا لحالة الأشياء»٢٤ الراكدة المستسلمة. والذي يدخل منطقة الإيمان يدخل الحرم المقدَّس Sanctuary للحياة، فحيثما يكون ثمة إيمان، ثمة وعي بالمقدَّس، يهب شجاعة الكينونة وتأكيد-الذات، على الرغم من العدم بأشكاله الثلاثة.
لهذا يتمسك تيليش بالاهتمام القصي كتعريف للإيمان، وأيضًا رفضًا للتشويهات التي تلحق الإيمان من جراء التفسيرات العقلانية أو العاطفية أو تفسيرات أصحاب مذهب الإرادة الحرة Voluntarism ليس الإيمان فحسب؛ فالدين نفسه هو أيضًا — وفقط — الاهتمام القصي، وأي اعتبار آخَر تشيؤ للدين بل هراء، ولعلة تجديف. الرب أيضًا هو الاهتمام القصي! وإلا فسوف ننظر إليه على أنه موضوع سامٍ، طرف آخَر من المفيد الدخول في علاقة معه، شأن أطراف أخرى عديدة … المقصود من العقيدة الدينية أن نكون معنيين ومنشغلين بها، مهتمين ومهمومين بها، بصورة قصوى غير مشروطة، إنها تحتوينا داخلها، ونحن نحتويها داخلنا، حسنا أي تيليش! لكنك تحدِّد الاهتمام القصي بأنه الإيمان، وتعرِّف الإيمان بأنه الاهتمام القصي، في دوران منطقي واضح! والدوران مغالطه يندر بل يستحيل أن ينفذ منها اللاهوتي. ثم ترامى شأن الاهتمام القصي وانفلت من بين يدي تيليش، بحيث لا نجد حدودًا نقف عليها أو حتى نتخطاها، فعل الإيمان هو الاهتمام القصي … والدين هو الاهتمام القصي، والرب هو الاهتمام القصي، أي أصبح مفهوم الاهتمام القصي يعني كل شيء في التجربة الدينية، وبالتالي لا يعني أي شيء.
ولا يكتفي تيليش بهذا، بل يمضي قدمًا في تعريفاته حتى يعرف المؤمن، وأيضًا الملحد على أساس الاهتمام القصي؛ فالملحد «مَن ليس له اهتمام قصي، وبالتالي ليس لحياته عمق، إنها ضحلة.»٢٥

وهو غير ناضج لأنه لا يسأل عن معنى الوجود — الذي هو الإيمان بالألوهية. أما الشخص الديني المؤمن فهو مَن له اهتمام قصي، ولكن هذا التعريف الأخير ينطبق على المؤمن، وأيضًا على الملحد ذي الاهتمام القصي غير الألوهية، وإذا كان ساميًا بدرجة كافية، كالإبداع العلمي أو الفني أو الإنجاز السياسي؛ فليس من الضروري أن يعاني قلق الخواء واللامعنى. إذن فتعريفات تيليش ليس لها معنًى، ما لم نصادر معه على المطلوب؛ أي على أن الاهتمام القصي السديد هو فقط الإيمان الديني، وهي مصادرة لا تلزم إلا مَن اختار منذ البداية أن يكون دينيًّا!

تيليش إذن وقع في مغالطتي الدوران المنطقي والمصادرة على المطلوب، ولن يستطيع الإنكار، ومع هذا نحسبه لن يعدم ردًّا؛ فقد دافع عن هذا التفسير الوجودي للدين بأن المقابلة التقليدية بين الدين والإلحاد خاسرة؛ فهي كالآتي: هل الدين وحي منزل للإنسان؟ أم من خلق الإنسان؟ اللاهوتيون أصحاب البديل الأول حينما يحاولون البرهنة عليه، إنما يتخذون الخطوة الأولى للإلحاد، وهي إنكار أو تفنيد تلك البراهين، والمخرج من هذه الإشكالية هو أن الدين أولًا وقبل كل شيء شعور، وبهذا ينأى عن كل اعتراضات عقلانية أو عملية أو تاريخية … لكن شعور لا تكفي، فلنتقدم خطوة تتفادى سلبية الشعور، لنجد الدين هو في النهاية، «اهتمام قصي»، يفصح عن نفسه في كل الوظائف الخلاقة للروح الإنسانية،٢٦ وهو يعترف بأن الأطر التقليدية للدين، سوف تتأثر كثيرًا، لكنه يتساءل: هل مواجهتنا للمطلق المقدَّس خبرة محدودة فيما نسميه عادة بالدين؟ ويقول: إجابتي هي بالقطع لا؛ فثمة شيءٌ ما مقدَّس في كل شخص حتى في الملحدين، ذلك أن ثمة طريقتين للمرور بالخبرة بالمقدس؛ وهذا يؤدي إلى التمييز بين معنيين للدين؛ فثمة معنًى واسع حيث يظهر المقدَّس Holy ونَخبُره كبُعد للعمق ذاته، بُعْد للحقيقة القصية في المجالات المختلفة لمواجهة الإنسان مع الحقيقة، في الإلزام الأخلاقي … العدالة الاجتماعية … التعبير الجمالي … الإبداع الفكري أو العلمي، المقدَّس حاضر وكموضوع للاهتمام القصي في كل هذه البنيات العلمانية، لكنه خفي خافت باهت؛ أما في المعنى الضيق للدين — المعنى الحرفي — فإن الخبرة بالمقدَّس مباشرة وصريحة وجلية، وذلك هو الاختلاف الوحيد٢٧ بين معنيَي الدين.
هكذا نلاحظ أن «الاهتمام القصي» أو التفسير الوجودي للدين قد أدَّى بتيليش إلى تحديث راديكالي جذري ربما كان خطيرًا واتُّهم بأنه يوهن العقيدة الدينية، ولكنه يجعل الدين متوشجًا في صميم بنية هذا العصر، ويخبرنا تيليش بأنه استوحى الأصول الأولى لهذه الفكرة في ماربورج بألمانيا، حين كان يتمشَّى مع زميله ورفيقه اللاهوتي رودلف أوتو R. Otto (١٨٦٩–١٩٣٧م) الضليع بالأديان الآسيوية وصاحب التعبير أو الكتاب الشهير «فكرة المقدَّس» The Idea of Holy وسأله تيليش: ما معنى المقدَّس؟ فأجاب: هو الغامض، هو المطلق ذاته، أساس كل المُطْلَقيات،٢٨ فكانت الألوهية Deity، قمة المقولات اللاهوتية — أو قمة المقولات على إطلاقها — هي منطلق هذا التحديث، وهي في الواقع مناط تحديث تيليش الثوري الجريء، خصوصًا في ارتباطها بالرمزية الدينية؛ لذا لا بد أن نفرد لهما حديثًا.
١  P. Tillich, on the Boundary, p. 56.
٢  P. Tillich, The courage To Be, p. 30.
٣  P. Tillich, On The Boundary, p. 53.
٤  P. Tillich, Theology of Culture, p. 77-78.
٥  نقلًا عن: د. إمام عبد الفتاح، سرن كيركجور، مرجع مذكور، ص٢٧.
٦  P. Tillich, Systematic Theology, Vol. I, p. 118.
٧  P. Tillich, The Eternal Now, p. 15-16.
٨  P. Tillich, the courage to be, Op Cit, p. 136ff.
٩  F. N. Macgill & I. P. McGrean (eds.), Masterpieces of world-philosophy, Harper & Row, New York, 1961. p. 1146.
١٠  P. Tillich, Op Cit, p. 37.
١١  أونطيقي Ontic: تعني التواجد الحقيقي الفعلي، وهي مشتقة من اللفظ الإغريقي On أي الوجود ككل أو الوجود بما هو موجود والمأخوذ منها الأنطولوجيا (فلسفة الوجود)، لكن أونطيقي أكثر تعينًا من On وأيضًا من الكينونة Being أو To Be، وأقل تعينًا من انبثاقة الوجود Existence، إنها مشكلة تواجه كلَّ مَن يتعرَّض لفلسفة أونطولوجية كفلسفة تيليش؛ فأكثر من مصطلح لا يقابله في العربية إلا أصل لغوي واحد هو الوجود، وحتى الكينونة التي تقابل Being لا تغني كثيرًا؛ فحين نتحدَّث عن الألوهية عند تيليش Being-itself نجد أن «الوجود-ذاته» أكثر دلالةً وتعبيرًا؛ لأنها أكثر فعالية وحيوية من «الكينونة-ذاتها» والواقع أننا لم نضع الكينونة مترجمة لمصطلحات الألوهية التي يَرِد فيها Being إلا حين كنا نخشى اختلاطها بانبثاقة الوجود الإنساني في الفلسفة الوجودية.
١٢  Macgill & McGreen (ed.), Op Cit, p. 1148-1149.
١٣  P. Tillich, Systematic Theology, Vol. 2, Existence and Christ, the University of Chicago press, 1957. p. 29–39.
١٤  P. Tillich, The New Being, p. 52-53.
١٥  P. Tillich, Shaking of the Foundations, p. 100.
١٦  P. Tillich, Op Cit, 105–109.
١٧  Ibid, p. 70-71.
١٨  P. Tillich, The Courage To Be, p. 172–9.
١٩  W. P. Alston, Paul Tillich, Art in: Encyclopedia for Philosophy, Vol. 8, p. 125.
٢٠  P. Tillich, Dynamics of Faith, Harper & Row, New York, 1957. p. 1–3.
٢١  P. Tillich, the New Being, p. 157.
٢٢  P. Tillich, Dynamics of Faith, p. 4.
٢٣  Ibid, p. 10.
٢٤  Ibid, p. 21.
٢٥  P. Tillich, Shaking of The Foundations, p. 63.
٢٦  P. Tillich, Theology of Culture, p. 5ff.
٢٧  P. Tillich, My Search for Absobtes, p. 130.
٢٨  Ibid, p. 130.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤