شاهد الملك

كانت المحكمة العسكرية البريطانية تعقد جلساتها لمحاكمة الذين اعتدوا على القوات البريطانية المسلحة في أثناء الثورة المصرية في سنة ١٩١٩. وكانت بعض الاعتداءات شديدة إلى حد أثار نفوس البريطانيين، وجعلهم يرون قمعها بغاية الشدة. فقد قتل من الضباط والجنود البريطانيين عدة أفراد، ومُثِّل ببعضهم. وقد بلغ في بعض الأحايين حدًّا لم تحتمله دولتهم، ولم يحتمله زملاؤهم من رجال الجيش، ولهذا اتجه التفكير إلى توقيع عقوبات صارمة، لا تحقيقًا للعدالة وكفى، بل ردعًا كذلك لكل من تُحَدِّثه نفسه بارتكاب مثل هذه الحوادث.

وكان نظامُ «شاهد الملك» مُتَّبَعًا أمام المحاكم العسكرية البريطانية. وشاهد الملك هو الشريك في الحوادث، الذي يتبرع بالشهادة على كل من اشتركوا معه فيها، أو يسهل للقضاء العسكري الوقوف على الحقيقة كاملة في أمرها.

وكان شاهد الملك يعفى من كل عقاب، بل كان لا يُقَدَّم للمحاكمة. وذلك خلافًا للمبادئ المقررة أمام القضاء المصري، والقضاء الفرنسي، من أن اعتراف متهم على متهم لا يُؤخَذ به إلا إذا أيَّدَتْه أدلة وقرائن أخرى تُقنع القاضي بصحة هذا الاعتراف.

وكان الناس يتطلعون مشفقين إلى القضية التي يجري تحقيقها، والتي قُبض فيها على أكثر من ثلاثين بتهمة الاعتداء على القوات البريطانية، اعتداء أدى إلى قتل بعض أفرادها، والتمثيل ببعض من قُتلوا. وكان بين المقبوض عليهم جماعة من الأعيان، وآخرون من المثقفين الحاصلين على شهادات عليَا، من مصر ومن أوروبا، ومن إنجلترا نفسها. وكان أكبر ما يرجوه المشفقون ألَّا يكون في هذه القضية شاهد ملك، وألَّا يعترف أحد من المقبوض عليهم فيها، فلم يكن متوقعًا أن يتبرع أحد غير المقبوض عليهم بالشهادة؛ لأن الناس كانوا إذ ذاك يؤمنون بأن هذه الحوادث لم يدفع إليها دافع إجرامي، وأنها نوع من الحرب بين دولتين، تريد إحداهما تحقيق استقلالها وقد اعتدت عليه الأخرى. ولا عقاب على ما يقع في الحرب من مثل هذه الحوادث.

وكان بين المقبوض عليهم في القضية، رجل من الأثرياء ذوي الوجاهة، اتُّهم بالتحريض على قَتْل من قُتلوا. فلما دخل السجن مع رفاقه، دخله رافعًا رأسه، فخورًا بأنه اشترك في عمل مجيد، لحرية وطنه واستقلاله. ولم يَدُرْ بخاطر أحد من الذين اعتُقِلوا معه، ولا من غيرهم، أنه عرضة للضعف أو التخاذل؛ فثروته الطائلة تسمح له بأن يُوَكِّل عنه أقدر المحامين، وأن يوكل محاميًا إنجليزيًّا كبيرًا، يحضر من لندن خِصِّيصًا للدفاع عنه. فلما وُضِعَ بالسجن الانفرادي، في إحدى الزنازين، وقضى به أيامًا، لا يسأله أحد عن التهمة الموجَّهة إليه، بدأتِ الحيرة تدبُّ إلى نفسه، وبخاصة لأنه كان يرى في بعض الأحايين جماعة من المفتشين الإنجليز — مفتشي الداخلية، ومفتشي النيابات — يمرون بالسجن، وينظرون إليه وإلى زملائه نظرة حقد وكراهية!

وكان يخشى في كل ساعة أن يدخل عليه في زنزانته من يسأله ويحرجه، ولم يخطئ حدسه؛ فقد دخل عليه يومًا مفتش إنجليزي يعرفه، ويتكلم العربية، وخاطبه باسمه، وقال له: أتعلم أن بعض الشهود قرروا أنك حَرَّضْتَ على قتل الجنود البريطانيين؟

وجمع الرجل كل شجاعته حين سمع هذا الكلام، وقال: ما أظن أن أحدًا يوجه إليَّ مثل هذه التهمة الكاذبة، فأنا لا أعلم عن هذه القضية شيئًا قطُّ، وليس لي أعداء يريدون لي السوء فيُلَفِّقون ضدي وقائع لا أصل لها، بعد أن أقسموا اليمين على أن يقولوا الحق.

وتركه المفتش الإنجليزي، وانصرف ولم يناقشه في شيء. فلما انفرد الرجل بعد ذلك في زنزانته وأقفل عليه بابها، بدأ يضطرب، وأخذ يسأل نفسه: من هم أولئك الشهود الذين أَدْلَوْا بشهادتهم ضدي؟! ثم خشي أن يكون المفتش قد أراد استدراجه لعله يعترف بشيء، وظل في هذا الاضطراب طول ليله، يذكر أحيانًا ما أصدرته المحاكم العسكرية البريطانية من أحكام بالإعدام، أو بالأشغال الشاقة المؤبدة، وكيف نفذت هذه الأحكام لفورها؟!

ترى لو صح ما يقوله المفتش الإنجليزي، وكان بعضهم قد شهد ضده، فأي عقوبة توقع عليه: الإعدام، أم الأشغال الشاقة؟

واقشعر جسمه، وجعل يتصور نفسه معلقًا في حبل المشنقة، أو راسفًا في الأغلال، يجره قيد الحديد في رجليه، والسَّجَّان من ورائه يدفعه ليقطع الحجر. واستعاد أمام ذاكرته ما حدث منه، فتصور أن حماسته لحرية وطنه قد كانت حماسة حمقاء، وأن ما كان يدبره مع بعضهم لارتكاب هذه الجرائم، التي ذهب بعض الضباط الإنجليز ضحيتها، ليس من شأنه أن يؤدي إلى استقلال كما كانوا يظنون، وأنهم إنما ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة جريًا وراء خيالات لا تتحقق … ترى: أيستطيع المحامون ببلاغتهم إنقاذه؟ لو أن ذلك كان في الإمكان، لأنفق فيه كل ماله. فهو الذي كسب بجده معظم هذا المال، وهو قدير على أن يكسب مثله إذا كفلت له الحياة من جديد … وهل تراه إذا دافع عنه أكبر محام إنجليزي في العاصمة البريطانية، أكفل ببراءته، أو بحكم مخفف ينجيه من الموت، ومن عذاب الأشغال الشاقة؟

لكن هذه أمانٍ قلَّ أن تصدق، فقد ترافع محام إنجليزي كبير، جاء خصيصًا من لندن، فلم يُنْجِ ذلك موكله من الحكم عليه بأشد العقوبة … أوَلَيس الأفضل أن يعترف بإجرامه، وأن يطلب من المحكمة الرأفة؟ فهؤلاء الضباط الإنجليز، الذين تتألف منهم المحكمة، يُقدِّرون ذلك، ويُدْخِلونه في حسابهم حين يحكمون … وهَبْ المحكمة سألته عن شركائه، فماذا يقول؟ أيعترف عليهم فيعتبره الناس نذلًا خائنًا حقيرًا فاقد المروءة، فيحتقرونه ولا يضع أحد منهم يده في يده ما عاش؟!

لكن المروءة والكرامة والشهامة، واحترام الناس … لها قيمتها عند الأحياء فيما بينهم، فأما المُعَرَّض للشنق أو الأشغال الشاقة فلا ينبغي أن يكون لهذه الاعتبارات قيمة عنده. فأين مروءته، وأين احترام الناس إياه يوم يُشنق؟! وأين شهامته، وأين كرامته، حين يضربه السجان الغليظ القاسي ليقطع الحجر، فلا يستطيع أن ينظر إليه معاتِبًا، أو لائِمًا، مخافة ما هو شرٌّ من الضرب … مخافة الإذلال والازدراء؟!

وجعلت هذه التصورات المتناقضة تعبث بالثَّريِّ الوجيه أيامًا وليالي، وهو منفرد في زنزانته، لا يستطيع أن يقضي بشيء منها لأحد. وبعد أسبوع أو نحوه من عبثها به، مرَّ به المفتش الإنجليزي الذي يعرفه، فلما رآه الرجل خُيِّل إليه أنه مَلاكٌ بعثته السماء لإنقاذه. ولم يطل بين الرجلين الحديث؛ إذ قال الثري الوجيه لزائره: وماذا فعل شاهد الملك في القضية المنظورة الآن بالقاهرة؟

وأجابه المفتش الإنجليزي، وعلى شفتيه ابتسامة صفراء: «إنه يتمتع بحريته كاملة، فقد نُقِلَ أول أمره من السجن إلى المستشفى، ثم لم يُقَدَّم للمحاكمة، وعُيِّنَ له بعد انتهاء القضية حارسان يتبعانه كأنهما ظله، احتياطًا له من أن يعتدي عليه أحد.»

وسكت الثري الوجيه طويلًا ثم قال: «هل أستطيع أنا كذلك أن أكون شاهد ملك؟»

وأجابه المفتش الإنجليزي: «ذلك يتعلق بقيمة المعلومات التي تُدلي بها، فإن كشفت للمحققين عن الحقيقة الكاملة، ودَلَّتْهم على الذين ارتكبوا هذه الجرائم، كنت شاهد ملك. أما إن لم تكشف شهادتُك عن الحقيقة كاملة، فقد تؤدي إلى تشديد العقوبة عليك!»

وانصرف المفتش الإنجليزي، مطمئنًّا إلى أن صاحبه هذا يوشك أن تنهار أعصابُه، فلا يخفي على المحققين ولا على المحكمة شيئًا.

وصدق ظنه، فقد انهارت أعصاب هذا الثَّرِي الوجيه، ولم يبق أمامه شيء يُفكر فيه إلا أن ينجو برقبته من حبل المشنقة، أو ينجو من عذاب الأشغال الشاقة. فلما كان الغد، توسل إلى سجانه، ودفع إليه ورقة، طلب إليه أن يوصلها إلى المفتش الإنجليزي الذي زاره أمس.

ولم يكن في الورقة أكثر من أنه يريد هذا المفتش، فلما جاء إليه قال له: أريد أن أكون شاهد ملك، وأن أعترف بكل شيء!

وسرعان ما صدر الأمر بنقله من زنزانته إلى مستشفى السجن. وفي اليوم نفسه، بدأ المحققون يسألونه، فاعترف بكل شيء على نفسه، وعلى زملائه، وأفضى بالتفاصيل كلها. وكان المفتش الإنجليزي حاضرًا هذا التحقيق، وكان ثغره يَفْتَرُّ عن ابتسامة الرضا كلما رأى الرجل يُمعن في اعترافاته، ويُدلي من التفاصيل بما لم يَذكره أحدٌ غيره من قبلُ!

ولما أتم المحقق استجواب الرجل، وآن له أن يغادر غرفة التحقيق، هز المفتش يده وقال: أُهَنِّئك، فستكون بهذه الاعترافات «شاهد ملك».

وصدق المفتش، فبعد أن قُدمت القضية للمحكمة، وأُعلن المتهمون فيها، لم يكن بينهم الثري الوجيه، بل أُعلن «شاهد ملك» ثم بقي في مستشفى السجن حتى لا يتصل به أحد!

ونُظِرَتِ القضية، وكان الثري الوجيه «شاهد ملك» شاهدها الأول، وشاهدها الرئيسي. أما المتهمون جميعًا فقد أنكروا ما نُسِبَ إليهم، وذَكَرَ غير واحد أن بينه وبين شاهد الملك ضغائن قديمة، استشهد عليها بمن أيدوها. وترافع المحامون بعد أن ناقشوا الشهود مناقشة دقيقة، ثم حكمت المحكمة على بعض المتهمين بالإعدام، وعلى بعضهم بالأشغال الشاقة.

وأُخْلِيَ سبيلُ مَنْ بَرَّأَتْهُما المحكمة، كما أخلي سبيل شاهد الملك، وعُين له حارسان يَتْبعانِه كظله حتى لا يعتدي عليه أحد!

وسأل بعضهم شاهد الملك يومًا عما دفعه إلى ما صنع، فكان جوابه: لأتخلص من الذين ينافسونني في الوجاهة.

احتفل الناس بمَنْ بَرَّأَتْهُما المحكمة، احتفالهم بأبطال مُنتصِرين عائدين من ميدان الشرف، دعاهما أهلهما وأصدقاؤهما إلى ولائم أقيمت في قريتهما، وفي القرى المجاورة لها، واشترك فيها من المحتفلين عددٌ عظيم. لقد كانا قاب قوسين أو أدنى من الموت فأنجاهما الله، وكان كثيرون يؤمنون بأن لهما في الحوادث التي وقعت ضلعًا، وأنهما أقدمَا على ما أقدمَا عليه، من أجل وطنهما وحريته، لا يبغيان جزاءً ولا شكورًا، ولا يطمعان في ثروة، ولا في جاه أو مَنصِب، فهما من الفلاحين أصحاب الجلابيب الزرقاء، وهما من الفقراء الذين يعيشون من كدحهم وعرق جبينهم!

أما الثَّرِي الوجيه شاهد الملك، فذهب إلى بلدته يتبعه حارساه. ذهب إليها بليل، في موعد لم يعرفه أحد، فلما دخل على أهله، تلقوه في صمت، وفَهِمَ منهم أن أكبر رجائهم أن يَسدل النسيانُ ستارًا كثيفًا على ما فَعل، فالناس كلهم له مُنكرون، وكلهم يعتبرونه القاتل لمن حُكِم عليهم بالإعدام، والآثم في حق من حُكم عليهم بأحكام أخرى!

وعرف الناس بعد ثلاثة أيام من صدور الأحكام، أن المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة رحلوا إلى الليمان، وأن المحكوم عليهم بالإعدام شُنقوا. ولم يرتفع في القرى ولا في المدن التي منها هؤلاء المحكوم عليهم، صوتُ بالبكاء على من شُنق، أو بالحسرة على من أُرسل إلى الليمان. بل خَيَّمت على البلاد كلها سحابة داكنة من الكآبة، ثم أمسك الناسُ عن الكلام في هذه القضية وما صَدَرَ من الأحكام فيها.

وأيقن الثري الوجيه أن أرواح المشنوقين لم تذهب هدرًا، وأن حارسيه لن يغنيا عنه شيئًا، إذا لم يتخذ لنفسه من الحيطة ما يحفظ حياته، فقد رأى الناس ألا يمد إليه أحد منهم يده، ولا يحييه أحد منهم بأحسن من تحيته، ولا بمثلها. ورأى كثيرين من العمال الذين كانوا يعملون في مزارعه قد انتقلوا إلى مزارع غيره، ورأى في عيون الناس إذ ينظرون إليه حقدًا وبغضاء، إن يكونا صامتين، فهما لذلك أشد تفكيرًا في الثأر والانتقام. والثأر في هذه البلاد التي يعيش الرجل فيها عقيدة مقدسة، لا يفهم أهلها عدالة القضاء، ولا تطمئن نفوسهم إلا إذا أخذوا بثأرهم، ممن اعتدى عليهم!

والثري الوجيه أحد هؤلاء الناس، ومن أعرفهم بدخيلة نفوسهم، فلا بد أن يكون منهم على حذر، ولا بد أن يحتاط لنفسه أشد الاحتياط، فلن يكون عجبًا أن يكون في غرفة نومه فيترصده من بعيد من يطلق عليه الأعيرة النارية فيُرْدِيه قتيلًا، ويومئذ لا ينفعه المال الذي كَنَزَهُ من الربا وغير الربا، ولو أن ذلك حدث لكان شرًّا من حكم المحكمة العسكرية عليه بالإعدام؛ لأنه يكون ثأرًا لما اعتبره الناس خيانة منه ونذالة!

لهذا، أقام حول بيته، من جهاته الأربع، سورًا رفيعًا منيعًا، ليس فيه نافذة واحدة … وبذلك اطمأن إلى حياته ليله، واطمأن بحارسيه إلى حياته نهاره، فهما مُسَلَّحان، والناس يعرفون ذلك عنهما، فلن يجرؤ أحد على الاعتداء وهما من حوله. ومن يوم طمأنينته إلى سور داره، جعل يدخل بيته قبل مغيب الشمس من كل يوم، ولا يبرحه إلا بعد مطلعها، مقتنعًا بأن الزمن سينسي الكثيرين ما فعل، وأن الذين هجروا مزارعه من العمال والمستأجرين سيعودون إليها، فلا يبقى له خصم إلا أهل مَن حكمت المحكمة العسكرية البريطانية عليهم بالعقوبة!

وكان الحارسان يبيتان في البيت معه، فقد أعد لهما حجرة بالطابق الأول، وإلى جوار مدخل البيت، مطمئنًّا إلى أن باب السور المنيع حصين لا يستطيع أحد فَتْحَه إذا أُقفل، وإلى أن وجود الحارسينِ داخل البيت أدعى إلى طمأنينة أهله جميعًا. وقد أثَّث حجرة الحارسين أثاثًا حسنًا، وعني بهما أكبر العناية، أوصى خادمه الخاص بهما خيرًا، يريد بذلك كله أن يحتاط حتى لا يصرفهما أهل القرية عن شدة العناية بحراسته!

وتعاقبت الشهور ثم أقبل شهر رمضان، ومن عادة الناس في هذه القرى أن يمدوا أمام دورهم موائد، كلٌّ على حسب قدرته، حتى إذا مرَّ بهم صائم ساعة المغيب، مال إليهم وتناول إفطاره معهم، سواء أكانوا يعرفونه أم لا يعرفونه!

ورأى الرجل بعد أن أقام السور حول بيته أن تكون مائدته داخل السور، وإن أيقن أن أحدًا من الناس لن يجلس إلى مائدته أو يتناول طعامه، سواء في ذلك أبناء قريته وأبناء غيرها من القرى المجاورة. وقد كان يجلس بعد العصر خارج السور على «مصطبة» بناها لهذا الغرض، فإذا جاءه موعد الإفطار، دخل داره ليتناول الطعام مع حارسيه المسلَّحين.

وإنه لجالس يومًا قبيل الغروب على «مصطبته» إذ مرَّ به رجل من معارفه، وجلس إلى جانبه يحدثه، فلما دنت ساعة الغروب، دخل الحارسان إلى الدار، يَستعدَّانِ لتناول طعامهما، وينتظران الثريَّ الوجيه ليتناول الطعام معهما. ودعا الثري «شاهد الملك» محدثه ليتناول معه، فاعتذر بأن قومًا ينتظرونه في بيته، وأنه حريص مع ذلك على أن يتم الحديث الذي بدأه، وكل الذي يطلبه أن يأمر الثَّرِيُّ خادمه ليجيء بالماء وببعض بَلَحات «يفك بها صيامه».

ولم يجد الثري بدًّا من أن يفعل، فدعا خادمه فجاء بالماء والبلح، ودخل ينتظر أذان المغرب ليفطر هو الآخر. وفي هذه الساعة التي تسبق المغيب من رمضان، كان فلاحو القرية يعودون زرافاتٍ من الحقول ومعهم ماشيتهم، وهم في هرج ومرج، وكلٌّ يريد أن يبلغ داره قبل الأذان. وإنهم لكذلك إذ اندفع من بينهم أربعة مُلَثَّمون إلى ناحية الثري الوجيه شاهد الملك، وهو جالس إلى جانب صاحبه يحدثه: فأفرغوا فيه أعيرتهم النارية، فأَرْدَوْهُ قتيلًا!

وخشي حارساه إن هما خرجَا أن يصيبهما ما أصابه على غير جدوى، فبقيَا حول المائدة، وكأنهما لم يسمعا شيئًا، ولم يريَا أحدًا!

وفي ساعة الأذان، انتشر النبأ في القرية، فإذا الزغاريد تنطلق من كل جوانبها، ثم إذا بامرأة تهجم على جثة القتيل تعضُّها بأسنانها ولا يمنعها أحد. تلك زوج أحد الذين حُكم عليهم بالإعدام وشُنقوا. وشفت المرأة غليلها، ورجعت إلى دارها، وكأن لم يرها أحد، وكأنما احتفظت بتقاليد أسرتها وتقاليد القرية، فلم تخرج من دارها وكأن حادثًا لم يقع، وكأن قتيلًا لم تَرْوِ دماؤه الأرض!

وفي منتصف، الليل، وبعد الحادث بساعات معدودة، تولَّتِ النيابة تحقيقه.

وفي البكرة من صبح الغد، جاء المفتش الإنجليزي، الذي زار الثري الوجيه في السجن، فأدتْ زيارته بالرجل إلى أن يكون شاهد ملك، جاء يحضر التحقيق، ويُبدي من العناية بوصوله إلى نتيجة ما يدل على أن البريطانيين لا ينسون مَن يخدمونهم. لكن أهل القرية كلهم، كانوا — على لسان رجل واحد — يُقررون أنهم لا يعرفون عن هذا الحادث شيئًا، ولا يعرفون كيف وقع!

وسُئل الحارسان، فقررَا أنهما كانا في حجرتهما داخل الدار، اقتناعًا منهما بأن الثري الوجيه لا يبقى خارجها في مثل هذه الساعة، وأنهما خرجا حين سمعا إطلاق الأعيرة النارية، فلم يريا غير الماشية، ومن ورائها أصحابها في عودتهم إلى مساكنهم، وأنهما سألَا الفلاحين العائدين من عملهم، فذكروا أنهم لا يعرفون الفاعلين، لأنهم كانوا مُلَثَّمين، ولأنهم فَرُّوا وأسلحتُهم في أيديهم، فلم يكن في مقدور أحدٍ أن يتعقبهم فيفقد حياته!

واستمر التحقيق أسابيع، وأُوقف عمدةُ البلدة، لاقتناع المحقق بأنه يعرف الفاعلين، لكن المحقق كان يعلم كذلك أن هذا الإيقاف لن يؤدي إلى نتيجة. فلو أن العمدة أرشد إلى أحدٍ، لَتَعَرَّض لِمَا تعرض له الثريُّ الوجيه شاهدُ الملك، ولكان مَصيرُه المحتوم أن يلحق به، وكذلك انتهى التحقيق إلى غير نتيجة!

وشعر أبناءُ شاهد الملك وأهله بأن الناس ينظرون إليهم شذرًا، ويصمونهم بما كانوا يصمون به أباهم … بأنهم خانوا وطنهم، وخانوا أبناء بلدتهم، ومديريتهم، وشعروا لذلك بأنهم سيجدون غاية المشقة في أن يتعاملوا مع هؤلاء الناس، فرأوا الانتقال من المديرية كلها إلى مديرية غيرها، مطمئنين إلى أن ما ورثوه يكفل لهم العيش الحر، في بيئة لا تنظر إليهم بعين العداوة التي ينظر بها إليهم أهل القرية التي وُلِدُوا ووُلِدَ آباؤهم بها، وعاشوا وعاش آباؤهم فيها!

وأشار عليهم أحد معارفهم بأن الخير في أن يتركوا المديريات كلها إلى العاصمة، فالمدن الكبيرة كالبحر الزاخر لا يعرف بعضُ أهلها بعضًا، إلا أن تكون بينهم معاملة، ولا يعرف بعضهم بعضًا إلا في حدود هذه المعاملة!

واطمأن أهل شاهد الملك إلى هذه المشورة، وانتقلوا إلى العاصمة، فلما استقر مقامهم، فكَّروا في أن يبيعوا أملاكهم بالقرية التي نزحوا منها، وأن يقطعوا كل صِلَتهم بها. ولم يكن بيع هذه الأملاك يسيرًا، فقد تظاهر أهل القرية بمقاطعة هؤلاء الذين ورثوا شاهد الملك، حتى اضطروهم إلى التسامح في البيع، والنزول عما يكاد يعدل ربع الثمن. هنالك ابتاعوا الأرض وما عليها، واتجه المهاجرون من أصحابها، بعد أن قَبضوا ثمنها، إلى ناحية أخرى من نواحي الكسب في العاصمة!

والآن وقد انقضى على هذه القضية ما يزيد على خمسٍ وثلاثين سنة، فقد تناسى أهل القرية حديث شاهد الملك؛ لأنهم اعتبروا هذا الحديث وَصْمةَ عارٍ لقريتهم، فلم يعد أحد يَذْكُره!

وابتلعت العاصمة العظيمة هذه الأسرة في لُجتها، وأبدل أفرادها أسماءهم حتى لا يُعَيِّرهم أحد بأن أباهم كان شاهد ملك أمام محكمة أجنبية، وفي قضية كان الجناة مدفوعين فيها بعاطفة سامية وطنية!

قصَّ عليَّ هذا القصص صديق كريم، كان حاضرًا لتلك المحاكمة، وهو لا يزال يذكرها، وفي نبرات صوته أسًى على الذين أُعدموا بشهادة الثَّرِيِّ الوجيه شاهد الملك، وإن كان يرى أن ما أصابه وأصاب أبناءه، كان من عدل الله!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤