لله في خلقه شئون

كان الدكتور مروزق جَرَّاحًا ماهرًا، ولم يكن ذلك عجبًا. وقد كان واسع الاطلاع على كل ما يظهر في فنه، حريصًا حين اصطيافه في أوروبا على أن يحضر «عمليات» كبار الجراحين فيها، برغم أنه قضى في مهنته أكثر من عشر سنوات، بعد أن حصل على درجة الزمالة من كلية الجراحين الملكية بإنجلترا.

وبلغ من نجاحه أن استأجر مستشفى خاصًّا، جَهَّزه بأحدث المعدات، وهيأ فيه لمرضاه أدق العناية، وجعل منه مستشفى نموذجيًّا، وإن لم يكن مستشفى كبيرًا.

وكان ارتياد الحفلات الخيرية بعض هوايته في أوقات فراغه، فإذا ذهب إلى حفلة منها أنفق في ابتياع الأزهار التي تُقدمها بعض الفتيات، والمعروضات التي تقف عندها بعض الشابات، قدرًا غير قليل من ماله. واستبدتْ به هذه الهواية حين بدأ يفكر في الزواج، فهو يعلم أن كثيرًا من بنات البيوتات الكريمة، يتبرعن ببيع الأزهار أو المعروضات، وأن اختيار إحداهن يجعل الزواج منها عن بينة؛ إذ يتيح له فرصة محادثتها، والتعرف إليها، ومعرفة ذوقها ومزاجها. وهو مع ذلك لم يكن متعجلًا، لأنه كان حريصًا على أن تطمئن له الفتاة التي يختارها، حرصه على اطمئنانه إليها.

وفي حفلة من هذه الحفلات، وقف عند شابة تعرض أعمال الجمعية التي أقامت الحفل، وأخذ يُقلِّب ما تعرض، ويتحدث إليها.

وقد علم أنها ابنة طبيب للأمراض الباطنية، توفي منذ سنين، وأنها تعيش مع أمها وأخيها الذي يكبرها سنوات قليلة.

وقد أعجبه حديثها، وأعجبته رزانتها، وثقافتها، وإتقانها اللغتين الفرنسية والإنجليزية. كما أعجبه منها أنها فارعة القوام، يبدو في نظراتها الحزم، وصلابة الرأي، مع حلاوة في الابتسام، تخفف من شدة هذه الصلابة وهذا الحزم.

وعاد الدكتور مرزوق في الغداة إلى هذه الحفلة، ووقف يحادث الشابة يريد أن يقف على اتجاه تفكيرها وميولها، حتى يحكم فيما بينه وبين نفسه: أتصلح له ويصلح هو زوجًا لها؟ ولم تفطن الفتاة بطبيعة الحال إلى شيء من هذا، ولذلك كانت تحدثه على سجيتها في غير احتياط ولا حذر. وكان هو يسترسل في الحديث معها، ثم يقلب بين حين وحين ما تعرضه، حتى لا يلحظ أحد طول حديثه معها.

وكانت «سوسن» في الثامنة عشرة من سنها، وإن بدا عليها — لوفاء جسمها — أنها تخطت العشرين. وكانت لذلك تخاطب الدكتور مرزوق وكأنها تخاطب أباها، فلا يدور قط بخاطرها أنه يفكر في خطبتها أو التزوج منها. أليس يذكر أن أباها كان صديقه، ويبدو على ملامحه أنه في سن كسن أبيها يوم توفي من سنين وهو في عنفوان فتوته؟ لذلك كانت تطيل الحديث، وتبتسم في براءة كأنها براءة الطفولة. وكانت تغتبط حين يبتاع محدثها شيئًا من المعروضات التي عهد إليها في تصريفها، اقتناعًا منها بأن ذلك يزيدها قدرًا في نظر رئيسة الجمعية، صاحبة الحفلة.

واغتبط الدكتور مرزوق بما بدا من عدم تحفظ محدثته، كما اغتبط بتربيتها وثقافتها، وخيل إليه أنها توافق مطلبه، وتكون خير زوج له. وكذلك فَكَّر في خطبتها إلى أهلها، مؤمنًا بأنهم لن يترددوا في قبوله. وهل يتردد أحد في قبول جراح ناجح خطيبًا لابنته؟

وخاطب الدكتور مرزوق أخَا الفتاة بالتليفون، ثم التقى به وحدثه في خطبة أخته لنفسه، فأجابه الفتى بأن الأمر في ذلك لأمه، وأنه سيفضي إليها بما ذكره الدكتور له.

وكانت «جنان» — أم سوسن — سيدة حصيفة عاقلة، لا تزيد سنها على الأربعين إلا قليلًا. وكانت تفوق ابنتها جمالًا ورقة، وإن لم تُخْفِ ملامحها سنها، رغم رشاقة جسمها، واعتدال قوامها.

فلما سمعت حديث ابنها عن خطبة أخته، افْتَرَّ ثغرُها عن ابتسامة الرضا. وقد كان زواج سوسن أهم ما يشغلها، وكانت تدعو لها دائمًا بالخير والتوفيق، ثم كانت تعلم أن الدكتور مرزوق من الأطباء اللامعين في مصر، وأن الله أراد بخطبته ابنتها لنفسه أن يعوض الأسرة كلها خير عوضٍ عن فَقْدِ زوجها في عز فتوته.

وتحدثت «جنان» إلى ابنتها في هذا الأمر فيما بينهما، وتذكرت سوسن هذا الطبيب الذي كان يقف عندها، ويتحدث إليها، ويبتاع معروضاتها. فقالت لأمها: لكنه يا أماه من زملاء أبي، ومن أصدقائه. وأنا أريد إذا غادرتك وتركت هذا البيت أن أتركه إلى بيت زوجي، لا إلى بيت عمي!

وقالت أمها: لقد كان زميلًا لأبيك حقًّا، لأنهما من مهنة الطب معًا، لكنه يصغر أباك في سنه. وفارِقُ السن يا ابنتي تعوضه أمور كثيرة: يعوضه المركز الاجتماعي، والمكانة في المهنة، وتعوضه الثروة. وأنا لا أعرف الدكتور مرزوق شخصيًّا، ولكني أسمع عنه كل ثناء. ولا أحسبك ترفضين خطيبًا كهذا، لأنك رأيتِه في حفلة خيرية، فلم يترك في نفسك من الأثر ما يحببه إليك. فكثيرون نراهم فلا يعجبوننا لأول نظرة، فإذا عرفناهم على حقيقتهم، تغير رأينا فيهم. وأنا سأطلب إلى أخيك أن يدعو الدكتور ليحضر إلينا، فإذا لقيتِه وتحدثت معه على أنه خاطبك، نظرت إليه بعين غير العين التي نظرت بها إليه حين كنت تريدين أن تبيعيه معروضات الجمعية. ولا بأس بعد ذلك بأن يكون لك رأي، فأنا لا أُكرهك، ولن أكرهك على غير ما تحبين.

وجاء الدكتور مرزوق للموعد الذي ضربته «جنان»، فألفاها وابنها في انتظاره. فلما تناول القهوة، قال إنه جاء خاطبًا. وكانت جنان منذ حضر تنظر إليه من رأسه إلى قدمه بعين فاحصة مدققة، وتستمع إلى كلماته، وتزنها كلمة كلمة، والحق أنه أعجبها قوامًا وهندامًا وكلامًا. فلما خطب إليها ابنتها، قالت له: مرحبًا بك يا دكتور، أنا أعلم أنك كنت من أصفياء المرحوم زوجي، ولن أعز عليك ابنته، على أنك تعلم أن للفيتات اليوم رأيهن، وستحضر سوسن عما قليل وتتحدثان. وقد ذكرتْ لي أنك رأيتها في حفلة خيرية، وأنكما تحدثتما، لكنها قالت إنك لست الوحيد الذي حدثها، وإنها لم تفطن قط إلى أن حديثك يمكن أن ينتهي بخطبتها. فإذا جاءت أتَحْتُ لكما فرصة الحديث فيما بينكما. والله يهديكما ويوفقكما. فكل ما أرجوه لك ولها الخير والسعادة.

•••

لم يكن مرزوق يحسب «جنانًا» لها من الثقافة مثل حظ ابنتها، فلما تحدثت إليه، وأخذت وأعطت معه، شعر بأن البنت سرُّ أمها، وأن ما أعجبه من سوسن إنما ورثته من هذه الأم، التي لا تزال تتمتع بحظ من الشباب غير قليل.

وجاءت سوسن بعد برهة، فانسحب أخوها من المجلس، ثم انسحبت أمها، بعد أن تبادلت وإياها بعض الحديث، على أن تعود إليهما بعد قليل. فلما عادت، استأذن مرزرق وانصرف. وسألت الأم ابنتها رأيها فيه، فقالت: لا أستطيع أن أبدي رأيًّا بعد، فلقد كنت أشعر طول الوقت بأني أحدث رجلًا في مقام أبي. هو ولا ريب عاقل رزين، لكن فارق السن بيني وبينه يجعلني أتردد أشد التردد. فإذا لم يكن بد من أن أبدي رأيًّا الآن، فالرأي أن تعتذري إليه بأن فارق السن يحول دون امتزاجنا، وأن تقفلي هذا الباب.

قالت أمها: «أتحسبين يا صغيرتي أن أمرًا خطيرًا كالزواج يَبتُّ فيه الإنسان بمثل هذه الخفة؟! إن هذا الدكتور هو أول بختك، ومن رفضتْ أول بختها فقلما يكون من بعده خيرًا منه. فأنصح لك يا حبيبتي ألا تقضي في الأمر بهذه السرعة، وسأدعو الدكتور لزيارتنا مرة أخرى. فهو في نظري خاطب لا يُرفض، والخاطبون من طرازه قليل.»

والحق أن جنان أُعجبت بالدكتور مرزوق غاية الإعجاب، وكانت تتمنى أن تقبله سوسن زوجًا لها. ولهذا كانت تنتهز كل فرصة لتقنع ابنتها بقبوله، وكانت تلتمس كل وسيلة لهذا الإقناع. فسيارته «البويك» البديعة، ومستشفاه الذي يتحدث الجميع عنه، وسفره كل صيف إلى أوروبا، وسيجاره الضخم الفخم الذي لا يكاد يفارق يده، وسُمعته الطنانة الرنانة، وثروته التي يتحدث الناس عنها، حتى لَيقولون إنه يريد أن يبني لنفسه مستشفى خاصًّا، ورزانته ورقته وظرفه … ألا يعدل ذلك كله فارق السن الذي تتحدث عنه سوسن؟ وهل الأعمال بالسنين؟ ألَا يموت الشبان ويبقى غيرهم أطول العمر؟ ألم يمت أبوها وهو في عز فتوته، وفي قمة مجده؟!

ذلك كله كانت جنان تكرره لابنتها، تحاول أن تحملها على تغيير رأيها. كما كانت تنصح لها أن تكون الظرف والرقة في حديثها مع مرزوق، أيًّا كانت النتيجة التي ينتهيان إليها.

وجاء الدكتور مرزوق لموعد آخر ضربته جنان، فألفاها وحدها، وسأل عن سوسن فقالت أمها إنها ستكون معها عما قليل. وأخذ الخاطب والأم يتحدثان في أمور شتى، أشار الدكتور في أثنائها إلى عمله ونجاحه فيه. وذكرت جنان إعجابها بمقدرته، وعظيم أملها في أن يوفق الله ابنتها إلى الرأي الذي تريده، حتى تفرح بهما عروسين يشرحان قلبها.

وطالت غيبة سوسن، فبعثت أمها في طلبها. وجاءت الخادم تذكر أن سيدتها الصغيرة شعرت في اللحظة الأخيرة بمغص، فهي تعتذر من عدم النزول!

قالت جنان: «اسمح لي يا دكتور أن أراها هنيهة ثم أعود إليك.»

وصعدت تسأل ابنتها ما لها. قالت سوسن: لا طاقة لي بالنزول، فتصرفي بما تشائين.

وعادت جنان، فاعتذرت إلى مرزوق، وقالت: لعلك تستطيع أن تراها من بعد، وسأدعوك إلى الموعد الذي تلقاها فيه عما قريب!

وانصرف مرزوق وهو يسائل نفسه: ما هذا المغص المفاجئ الذي ألمَّ بالفتاة؟

ويذكر أن ما جرى بينه وبينها من حديث، حين تركتْهما أمها المرة الأولى، لم يكن يدل على اغتباطها بخطبته إياها. ثم يذكر ما في نظراتها من دلالة على الحزم وصلابة الرأي. وقال فيما بينه وبين نفسه: «لو أن هذه الفتاة ورثت من أمها ظرفها ورقتها، كما ورثت منها ذكاءها وثقافتها، لكمُل لها كل ما أطمعُ أن يكون في الزوجة التي أبحث عنها. ولما أبدت هذا الجفاء من جانبها نحوي، على أية حال يجب أن أحسم الأمر، إذا دعتني أمها إلى مقابلة أخرى، فلستُ أريد أن يطول أكثر مما طال!»

وتحدثت جنان إلى ابنتها بعد انصراف الدكتور، تعاتبها على عدم النزول إليهما. قالت الفتاة: لقد انتهى رأيي أن لا أقبل الزواج منه، فما فائدة مقابلتي إياه؟! لقد قلت لك منذ حدثتِني في الموضوع لأول مرة إنني أشعر حين يخاطبني بأنه أبي أو عمي، فلا بأس عليك أن تذكري له أن فارق السن بيننا لا يسمح بزواجنا!

وتولت الأم الحيرة كيف تتصرف؟ لقد كان جل مناها أن تقبل ابنتها هذا الخاطب لتطمئن على مستقبل حياتها. ولأنه رجل اجتمعت فيه كل معاني الرجولة، وكل صفاتها، فرفضُه يمكن أن يساء بين الناس تأويله. لكنها لا تملك إكراه ابنتها على أمر لا تريده، مخافة أن يؤنبها ضميرها بقية حياتها، إذا لم تكن هذه الزوجية موفقة!

•••

انتهى التفكير بجنان إلى أن ضربت للدكتور مرزوق موعدًا، لقيته فيه وحدها، وقالت له: أنت يا دكتور رجل كامل الصفات، ولولا ما بينك وبين سوسن من فارق السن، لما ترددت في قبول خطبتك. لكنها تشعر وأنت تحادثها بأنك أبوها، فلا يشجعها ذلك على أن تكون زوجًا لك. وقد حاولت أن أقنعها بأن هذا الشعور طارئ يزول بالعشرة، فأصرتْ على رأيها … وإنني لآسفة أشد الأسف أن أبلغك ذلك، فقد كنت شديدة الرغبة في مصاهرتك، لنسعد بأن تكون من أسرتنا.

أطرق الدكتور مرزوق طويلًا حين سمع هذا الكلام، ثم رفع رأسه وحدق بجنان، وفي عينيه بريق، لم تلحظه من قبل. وقال: وأنا حريص على أن أكون من أسرتكم، وأن أكون من سوسن مكان أبيها. فهل تقبلين أنت أن تكوني زوجتي؟ هذه يدي أمدها إليك؟ فهل تَقبلينها؟

لم تكن جنان تتوقع هذه المفاجأة، ولكنها سُرت بها، وألقت ببصرها إلى الأرض طويلًا، ثم قالت: وماذا يقول الناس عند ذلك عني؟ إنني غصبت خطيب ابنتي، لأنه أعجبني، أو لأنني أعجبته؟ لا أستطيع أن أجيبك الآن، فاترك لي على الأقل فرصة تفكير.

قال مرزوق: «أنت وما تشائين. فَكِّري في الأمر، وأنا في انتظار كلمة منك أُلبيها لساعتي.»

والواقع أن جنانًا كانت تتمنى أن يخطبها الدكتور مرزوق، منذ رفضته ابنتها، هذا الرفض الأحمق. أفكان ذلك لأنها أحبته، أم كان رد فعلٍ من جانبها لتصرف ابنتها تصرفًا لم يعجبها؟

وهل خطبها مرزوق إلى نفسه، لأنه أحبها بعد الأحاديث التي دارت بينهما، أم لأنه رأى في الزواج منها ردًّا لاعتباره إزاء رفض سوسن خطبته؟

أيًّا كان الأمر، لقد عرضت جنان خطبة الدكتور إياها على ابنها، بمحضر من ابنتها، وقالت: لا يزال في الوقت متسع، فإن أصرت أختك على رفض هذا الخاطب الذي لا يرفض، فسأقبل أنا خطبته.

وأصرت الفتاة في عنادها على موقفها، وانتفضت منصرفة من مجلس أمها، كاسفة تبكي.

ودعت جنان مرزوقًا، وأعلنت إليه أنها سعيدة بخطبته. وفي الغد من ذلك اليوم عُقد قرانهما، وانتقلت جنان إلى منزله، تاركة ولديها مع حاشية من الخدم، ومع المربية التي كفلتهما منذ مولدهما، فكانت منهما بمثابة والدتهما.

•••

كان أكبر هَمِّ «جنان» بعد أن انتقلت إلى بيت زوجها، أن تنجب طفلًا، يكون آية شبابها وحيويتها، ومحبتها زوجها، ومحبته إياها. ولكن أشهرًا انقضت ولم تحمل، ورأت أن تستشير الأطباء في الأمر، وشجعها زوجها على ذلك، لكن أشهرًا أخرى انقضت ولم تحمل. وبدأت تساورها المخاوف، وخيل إليها أن قوة خارقة، قوة فوق الطب والأطباء، يجب أن تتدخل لتحقيق بغيتها. وتذكرت صديقاتٍ لها، تعوقنَ عن الحمل في شبابهن، ولم ينجح الطب في إرضاء أمومتهن، فذهبن إلى مراغة سيدي المغاوري في المقطم، وإلى كنيسة ماري جرجس وبه دير البنات بمصر القديمة. وتمرغن بالمراغة أمام الشيخ المسلم، وتمسحن بأعتاب القديسة المسيحية، فأنعم الله عليهن بالحمل … فما ضرها لو صنعت صنيعهن، لعل الله يرزقها هذا الطفل، الذي تصبو إليه من كل قلبها، لتزداد قدرًا عند زوجها، فيزداد حبًّا لها وإعزازًا؟

ولكن … أتراها تستطيع أن تفعل ذلك ولا تذكره لمرزوق؟!

وهَبْها ذكرته له، فأبى عليه إيمانه بالطب أن يُقرها على رأيها … ولكن … هل يغلب هذا الإيمان بالطب رغبته الملحة في أن يكون أبًا لطفل منها؟ وماذا عليها إذا صنعت ما تريد من تلقاء نفسها واستمرت في العلاج الطبي، فإذا حملت أظهرت زوجها على كل ما صنعت!

واستقر عزمها عند هذا الرأي، واختارت الأوقات التي يشغل العمل فيها زوجها عن منزله، وذهبت إلى المغاوري في مراغته. وذهبت إلى ماري جرجس فأتمت عندها مراسم الحمل. ومن عجب أنها حملت بعد ذلك بشهرين اثنين. فأفضت إلى زوجها بكل ما صنعت، فعاتبها عليه زوجها عتابًا لا يبلغ اللوم؛ لأن غبطته بحملها لم تسمح بلومها أو بالتثريب عليها.

وفي أثناء حملها، تقدم يخطب ابنتها شاب كريم المحتِد، من أسرة عريقة، ويشغل وظيفة في الدولة لا بأس بها. ولكنه ضيق الثراء، لا يحتمل مرتبه وإيراده مجتمعينِ ما تعودت سوسن من عيش السعة … وقابلته سوسن مرة واحدة بحضرة أمها، ثم قالت إنها تقبله زوجًا لها. واحتجت لقبوله بشبابه وبأسرته، وبمؤهلاته، وبأنها تستطيع أن تتعاون معه على الحياة، فإن ضاق بهما الرزق في أول الأمر، فسيكون لهما فيه سعة من بعد.

وابتسمت أمها لقولها، إذ أيقنت أن ما أغراها بقبوله وسامته، وحلو حديثه، ورقة نظراته، أكثر مما أغرتها أسرته العريقة، وحسبه الكريم!

لكن ابتسام جنان لم يمنعها من الترحيب بالشاب، وعقد خطبة ابنتها عليه، وانتظار الجهاز والزفاف.

ثم أنجبت جنان غلامًا طار أبوه بمولده فرحًا، وأقام له حفل سُبوع عَوَّضه عن حفل الزفاف، الذي كان يزمع أن يقيمه لنفسه لو أنه تزوج عذراء، وزاده مولد الطفل غرامًا بجنان، فجعل كلما دخل عليها، يُقبلها ويُقبل الطفل معها، ويشعر بأن هذا الطفل هو امتداد حياته بالفعل، وأنه سيكون جراحًا مثله. ألم يكن المصريون القدماء يحرصون على أن يحترف الولد حرفة أبيه، لتبقى الحرفة متوارَثة في الأسرة، وليكون الأبناء ورثة الآباء في عملهم، كما أنهم ورثتهم في مالهم، وليبقى اسم الأسرة عنوان سعيها وجهدها! فليكن هذا المرزوق الطفل جراحًا، وليكن أبناؤه وحفدته جميعًا جراحين، ليظل اسم الدكتور مرزوق باقيًا على مر الزمان.

ووقف مرزوق في حفلة السبوع يحدث سوسن، ويذكر لها أن مولد أخيها الطفل يذكره بقولها القديم إنها تشعر حين تحدثه أنها تحدث أباها. ويذكر أنه سعيد بذلك، لأنه اليوم رب لأسرة لا تقف عند الطفل الوليد وأمه، بل تتناول سوسن وأخاها كذلك، وأنه ينتظر بفارغ الصبر أن يصبح جدًّا يوم ترزق سوسن طفلًا عما قريب إن شاء الله.

وبعد أسابيع، زُفت سوسن إلى خطيبها، وانتقلت إلى الطابق الظريف الذي فرش فيه جهازها. وحملت عبء بيتها وتولت إدارته. وأقيمت لها في هذه المناسبة حفلة دعا الدكتور مرزوق إليها كل أصدقائه مع من دعوا من قبل العروسين وأهلهما!

واستدار العام، منذ وُلد ابن مرزوق، فإذا حفلة أخرى تقام لابن سوسن، وإذا جنان تصبح جدة بالفعل، ومرزوق يصبح جدًّا بالتبعية. ثم لا يمنع ذلك جنانًا من أن تشعر وهي ترضع ابنها، بأنها لا تزال في حيوية الشباب ونضارته.

وفي السنوات الخمس التالية، رزقت سوسن بنتًا وابنًا، وأصبحت بذلك أمًّا لثلاثة أولاد، ولم ترزق جنان غير ذلك الغلام الذي استعانت على حمله وولادته بسيدي المغاوري وبالقديسة ماري جرجس!

وفتح الله باب الرزق لسوسن وزوجها، وابتسم لها الدهر، فنثر الورد والرياحين في طريق حياتهما. وبدأ أطفالهما يملئون البيت عليهما غبطة ومرحًا ويُشعرونهما بسعادة لا تعدلها سعادة. وأخذت سوسن تظهر مع زوجها في المجتمعات الأنيقة، وتقص على أمها الحين بعد الحين ما ترى فيها …

ومالت أمها إلى مثل هذا اللون من الحياة، فأفضت إلى مرزوق برغبتها، فأقاما في دارهما حفلة جمعا فيها نخبة من أهل العاصمة، مصريين وأجانب. وأتاح ذلك لهما أن توجه إليهما الدعوة لكل حفلة يقيمها المصريون أو يقيمها الأجانب بالقاهرة.

وكانت سوسن تبتسم أحيانًا، حين ترى أمها في هذه الحفلات معتمدة على ذراع الدكتور مرزوق، والبشر والسعادة يفيضان من ملامحها، وتزداد سوسن ابتسامًا يوم ترى أمها في هذه الحفلات وقد أتقنت صبغة شعرها، وبدت وكأنها لا تزال في الثلاثين من سنها، رغم خطوط مست بها الكهولة جبينها، وكادت تتخطاه إلى وجناتها!

وكلما رأت سوسن أمها بالغت في العناية بزينتها، حرصت على أن تجعل من شبابها تاج كل زينة، وأن تبدو في بساطة، تتألق بحكم سنها بهجة ونورًا …

وكثيرًا ما تَنَدَّر بعضهم بهذه المنافسة بين الأم وابنتها، وقد ذكروا في أثناء تندرهم كيف أخذت الأم خطيب ابنتها، وأولعت به غرامًا! وكان بعض هذا التندر يبلغ سوسن فلا تعبأ به. لقد بسم الزمان لها ولزوجها وبنيها، فليقل من شاء ما شاء، فلن يجني قولٌ على سعادتهما ولن ينقص ما أسبغه الله عليها، وعلى زوجها وبنيها، من نعمة وعافية!

•••

وإن سوسن لفي متاعها بهذه النعمة السابغة، وفي سعادتها بمحبة زوجها إياها، محبةً كَلُّها الشعر بأعذب ألحانه وأنغامه، وفي طمأنينتها إلى هؤلاء البنين، يتخطون متن الحياة على هون، ناجحين في دراستهم، فخورين بأبويهم؛ إذ مرض هذا الأب العزيز والزوج الوفي، مرضًا حار الأطباء في تشخيصه، وانقطعت سوسن لتمريضه، فلم يعد أحدٌ يراها في المجتمعات والحفلات، ولم تعد دارها مضيئة كعهد الناس بها، منذ أفاء الله على أصحابها الثراء والنعيم. بل خيمت عليها سحابة من كآبة كانت ترتسم على وجوه الأطفال أبنائها، وتحول بينهم وبين ما ألفوه من مرح ومسرة!

وطال بالرجل الشاب المرض، فنُقل إلى المستشفى، وأقامت سوسن إلى جواره، وكانت أمها تزورها الحين بعد الحين، تسأل عن صحته، وترجو له الشفاء والعافية.

وكان الدكتور مرزوق يزور المستشفى كل يوم لهذا الغرض.

وجلس يومًا بجوار المريض على سريره يطمئنه، فنظرت إليه سوسن نظرة، فيها الأسى والألم، وكأنما تقول في نفسها: أيكون هذا الرجل الذي يكبر زوجي ويكاد يكون في سن والدي ممتلئًا صحة ونشاطًا، وتذبل نضارة هذا الزوج الشاب العزيز، فما يدري أحد ما مصيره؟! لَشَدَّ ما يخفى الغيب علينا، فلم يَدُرْ قط بخلدي يوم خطبني مرزوق فرفضتُ خطبته لِفارق السن بيني وبينه، أنْ أرى المنظر الذي أراه الساعة، والذي يُفتت قلبي لوعة وهمًّا.

وبعد أشهر قضاها المريض بالمستشفى، أدركت سوسن من نظرات الأطباء الذين كانوا يعودونه، أنه مُوفٍ على أجله. وفي منتصف الليل من ذلك اليوم، اختاره الله إلى جواره.

وحزنت سوسن عليه أشد الحزن، وانقطعت من يومئذ عن كل مجتمع وكل حفلة، وهي لا تزال تلبس السواد عليه إلى اليوم. أما الدكتور مرزوق، فلا يزال متمتعًا بصحته ونشاطه، ولا تزال جنان حريصة على أن تصبغ شعرها، وتستعين بكل وسائل الطب والتجميل لتحتفظ ببقية من جمال يوشك أن يولي، ولتحتفظ بالدكتور مرزوق، وبحيويته ونشاطه.

ولله في خلقه شئون!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤