الأسرة الثانية

توفي في الخمسين من سنه، وهو في ذروة مجده، فقد كان عالمًا فاضلًا وكاتبًا بارعًا، وأستاذًا يحيطه تلاميذه ومريدوه وزملاؤه بكل تجلةٍ واحترام، ويعجب به قراؤه غاية الإعجاب. وقد انتخب عميدًا لكلية الآداب غير مرة. لذلك كان الذين شيعوا جثمانه لا يُحصون عددًا، وكان ما كتبته الصحف في رثائه فخرًا باقيًا لذرية أنجبها.

مع هذا كله، لم يخلف تركة تُذكر!

وقد توفي عن زوجة وثلاثة بنين. أما زوجته «رجاء»، فكانت سنها تدور حول الأربعين، ولكنها كانت تبدو وكأنها لم تجاوز الثلاثين إلا قليلًا. وكانت على حظ عظيم من الجاذبية، كان في عينها بريق يَمسُّك إذا نظرت إليها، فلا تزال محدقًا بها، مأخوذًا بما ترى من حلو ملامحها، وما تسمع من سحر حديثها. وكانت لنبرة صوتها موسيقى، قَلَّ أن وهبت واحدة من بنات حواء مثلها، طلاوة واستهواء لسامعها. وكانت معتدلة القوام، ممتلئة في غير سمنة. وكانت تحب زوجها كل حياته أعمق الحب، وترى مجده تاجًا لها، تزدان به، وإن لم تتزين بحلية ثمينة تباهي بها غيرها من النساء المتزينات.

وكان أكبر ولدها، شاب في الثانية والعشرين من سنه، وقد أتم دراسته الجامعية، وحصل على إجازة الآداب بتفوق. على أنه كان أشد اعتزازًا بمجد أبيه، منه بتفوقه. وكان يرجو أن يسير على نهج هذا الوالد الكريم، فيبدأ معيدًا بكلية الآداب لينتهي عميدًا لها، كما كان أبوه عميدًا.

وكان لعزيز أختٌ تصغره خمس سنوات، وأخ يصغر هذه الأخت خمس سنوات كذلك.

وقد لبست الأسرة كلها الحداد على ربها، وتولاها حزن عميق على هذا المصاب الفادح. وكانت رجاء أشد من أبنائها شعورًا بالكارثة؛ فتركة أبيهم ومعاشه لا يكادان يكفيانهم العيش الكريم الذي تَعَوَّدوه طول حياته. صحيح أن عزيزًا يوشك أن يُعيَّن معيدًا بالكلية، فيُعِينهم مرتبه بعض الشيء، لكن هذا العون لم يكن شيئًا مذكورًا إلى جانب ما كان الأب يكسبه من قلمه، ومن كتبه، ومن المرتب الذي كان يزيد على ضعف معاشه.

•••

وبعد زمن، انقضت في أثنائه المواسم المألوفة للحزن على الذين يتوفاهم ربهم، تقدم لخطبة رجاء تاجرٌ واسع الثراء، تُوفيت زوجته منذ أشهر، تاركة له ولدًا وحيدًا. ونمى إلى عزيز نبأ هذه الخطبة فذهب إلى أمه يسألها: أحقٌّ ما سمع؟ وأجابته رجاء: هو حق يا بني، وأنت شاب عاقل، تُقدِّر الأمور حق قدرها. أنت تعلم كم كنت أحب أباك، وكم كنت فخورة به، وكم كنت أتمنى — لو استطعت — أن أظل على الوفاء لذكراه بعد موته، كما وفيت له في حياته. لكنك تعلم كذلك أنه تركنا، ولا تكاد تكون له تركة تقيم الأولاد. ولا أريد أن تعيش أختك، ويعيش أخوك، في ضيق بعد أن تعوَّدوا رَفَهَ الحياة وسعتها. هذا إلى أنني امرأة لم تتخط الشباب، ولا أريد أن يتحدث الناس عني بكلمة تؤذيك، أو تؤذي أختك وأخاك.

كان عزيز يسمع هذا الكلام من أمه، ولا يكاد يصدق أنها هي التي تتكلم. فمعنى ما تقول أنها قبلت خطبة هذا التاجر لثروته، وأنها تريد أن تعيش أخته، وأن يعيش أخوه، من هذه الثروة التي لم يكسبها أبوهم. فكأنما تريد أن تبيع نفسها من أجل ولديها!

وصمت الشاب طويلًا، بعد أن أتمت أمه حديثها، ثم قال: أتعرفين سمعة هذا التاجر، الذي تريدين أن يحل منك مكان أبي؟! أوَلَم تسمعي ما يقوله الناس عن «شحاتة» هذا، وكيف كنز ماله وجمع ثروته؟ أما سُمْعَتُك فأمرها بيدك لا بيد الناس، وما كنت أحسبك تتزوجين بعد أبي، لأي سبب أو لأي اعتبار. وأنا لم أحضر اليوم لأناقشك، بل لأنهي إليك أنه إذا تم هذا الزواج فلن تري لي وجهًا ما حييت!

قال عبارته هذه في غضب، وانتفض واقفًا وانصرف.

لكن السيف كان قد سبق العذل، فقد كان بعد الظهر من ذلك اليوم مُحَدَّدًا لعقد الزواج، ولم يكن في مقدور رجاء أن تتراجع ومكان العقد بيتها، والسيد «شحاتة» سيحضر للموعد لا محالة. ثم إنها لم تجد لثورة عزيز عذرًا يسوغها: إنها تريد الخير لنفسها ولأبنائها، وتريده حلالًا طيبًا، فإذا صح أن يغضب ولدها لذكرى أبيه، فمن الواجب عليه أن يقدر ظروفها وظروف إخوته، وأن يقدر ظروفه هو كذلك. فهو لم يتول بعدُ عملًا يرزقه. وهَبْهُ تولى هذا العمل غدًا، واستطاع أن يعيش منه عيشًا متواضعًا، فليس من حقه أن يفرض على أمه وعلى أخويه حرمانًا لم يألفوه في حياة أبيه، أو أن يتهم أمه بعدم الوفاء لأبيه، لأنها أرادت أن تكفل لأبنائه العيش الكريم!

•••

تم العقد في الموعد المضروب، وانتقلت رجاء وولداها في مساء اليوم نفسه إلى منزل السيد شحاتة بالزمالك. أما عزيز، فقضى ليله في بيت قريب لأبيه، ومن حسن حظه أن قرار تعيينه معيدًا في كلية الآداب أُبلغ إليه بعد أيام قلائل. وزاده الحظ مواتاة، أن بعثت حكومة العراق تطلب إلى مصر أساتذة ومدرسين، فسعى عزيز سعيه، فانتُدب بإحدى هذه الوظائف. وبعد أسابيع، سافر إلى بغداد، من غير أن يرى أمه، ليتولى عمله في عاصمة الرشيد. وبذلك بَرَّ بإنذار أمه أنه لن يراها إذا تزوجت بعد أبيه!

انتقلت رجاء إلى منزلها الجديد، وكان هذا المنزل أشبه بالقصر في بنائه، وإن لم يكن شبيهًا بالقصر في فسحة أرجائه. وقد شاده شحاتة من سنين قليلة، بعد أن قضى عمره في الكفاح والحرمان، يسكن بيتًا قديمًا بحي السكاكيني، ويخرج منه كل صباح مبكرًا إلى محل تجارته، يقضي فيه النهار بطوله، فإذا أمسى عاد إلى بيته، وقلما يخرج منه إلا لعمله. فلما قارب الستين، وكان الله قد وَسَّع بفضل الحظ في رزقه، رأى من حق نفسه وزوجه وولده، أن يعيش ما بقي من سني حياته، في سعة تتفق مع ثرائه، وتعوض عليه كفاحه وحرمانه، وتسمو به فوق ما كان الناس يلصقونه به من شح وتلاعب.

وقد أثار موقف عزيز من أمه في ذلك اليوم غضبها منه، وإن لم يغير قلبها عليه. وأدى ذلك، منذ انتقلت إلى بيتها الجديد، إلى أن تهب زوجها كل نفسها، وأن تطمع في أن يكون له منها بعد تسعة أشهرٍ ولد، فقد مست كلمات عزيز صميم كرامتها، فأثارتها بكبرياء هذا الشاب الذي ظن نفسه رجلًا، ونسي أنها أمه، وأنها أكثر منه تجربة وحكمة، وأبعد منه نظرًا، وأدق منه للأمور تقديرًا. لذلك لم تحجب عن شحاتة شيئًا عن نفسها، غضبًا من هذا الشاب، الذي لم يَرْعَ حق أمومتها، وما أوصى الله به الأبناء إحسانًا بالوالدين!

وانقضت أيام وأسابيع، وبدأت رجاء تُحس الفرق الشاسع بين زوجها الأول وزوجها الثاني. ما أجمل المنزل الذي تعيش اليوم فيه بالقياس إلى الطابق الذي كان سكنها مع زوجها الأول! وهذه السيارة الفخمة، التي تنتظرها كل صباح، لتخرج بها إلى حيث شاءت، لم يكن لها سيارة من طرازها في تلك الأيام، وحساباتها المفتوحة في المتاجر تسمح لها بما تشاء من بذخ وترف. لكنها لا تشعر مع ذلك بالسعادة النفسية التي كانت تشعر بها من قبل، لقد كان غذاؤها المادي يومذاك أقل دسامة من الغذاء المطروح اليوم أمامها وتحت قدميها … لكنه كان غذاء كافيًا، يجعلها تقف مع ذوات البذخ والترف على مستوى واحد. ثم كان لها غذاء آخر، وليس لذوات البذخ والترف حظ منه: كان لها زوجها الذي يفيض عليها من عقله وقلبه نورًا ومحبة يرتفعان بها إلى سماء العاطفة، وكان لها من مجد هذا الزوج ما يحيطها بجلال، ينطفئ دون لألائه بريق الماس وتألُّق الجواهر؛ لأنها كانت ترى في أعين الذين ينظرون إليها، أنها شريكة في هذا المجد، وصاحبة فضل فيه!

أما زوجها الثاني، فكانت تشعر إلى جواره، بأنه تاجر في عواطفه، كما أنه تاجر في مهنته. كان يريدها دائمًا أن تشعر بأنه يبيعها شيئًا مقابل شيء … يبيعها رخاءها ورخاء ولديها، لتبيعه حبها ووجودها. كانت الحياة في نظره أخذًا وعطاء، لا يهب فيها أحد لأحد شيئًا من نفسه ولا من قلبه دون مقابل!

لكن الأيام أقنعتها بعد قليل أنها يجب أن تذعن لحظها، فهي حامل، وبعد أشهر ستكون شريكة شحاتة في الطفل الذي يُرزقانه.

والطفل قيد، إن يكن من ذهب، فهو على كل حال، قيد يربط أبويه يدًا إلى يد، وقلبًا إلى قلب، لِتَنْصَبَّ كل عواطفهما على هذا الصغير البريء. والأم أحرص على هذا القيد الذهبي، تسخِّر به الأب لولدها. والجنين الذي تحمله رجاء في أحشائها يناديها من كِنه، لتسكت كل حفيظة على زوجها، من أجل هذه العلقة التي تتكون إنسانًا.

لذلك كانت تبدي لزوجها التاجر ما لم تكن تبطن، في انتظار اليوم الذي يصبح فيه هذا الرجل المعتز بماله خادمًا لطفلها، يوم تعتز هي بمولده.

وكانت رجاء من زوجها في موقف أشد حرجًا من موقف أي حامل غيرها. فمنذ عرفت أن عزيزًا سافر إلى العراق، بدأت الهواجس تساورها بشأنه. إنه هجر وطنه غضبًا منها، لأنها تزوجت بعد أبيه. تُرى ما عسى تكون حاله هناك في هذه الغربة التي فرضها على نفسه بسببها؟ أهو مطمئن لأنه يتناول ببغداد مرتبًا مضاعفًا؟ أم يعذبه الحنين إلى وطنه والشوق لإخوته؟ أم أنه نسي الوطن والإخوة والأم، وأغرق همه في بحر من اللهو والشراب، أو في أحضان فاجرة تعبث به، ولا ترعى في شبابه إلًّا ولا ذمة؟ وهل تراه يجيبها إذا كَتبتْ له حتى تطمئن على أحواله؟ ألَا فلْيَلْهُ ما شاء، ولْيَعْبَثْ ما طاب له العبث، على أن يكون في صحة وطمأنينة!

وتعاقبت الأشهر، وأنجبت رجاء بنتًا، ظريفة ظُرْفها، رقيقة رِقَّتها. فملكت بها قلب شحاتة، أكثر مما ملكته بنفسها وحواسها. فقد كان الرجل مشوقًا إلى بنت تكون أختًا لابنه من زوجه الأولى، تؤنس رقتها ويؤنس شبابها شيخوخته وكهولة أمها!

واغتبطت رجاء بهذه البنت، وإن لم يعزها مولدها عن إصرار عزيز على ألا يبعث إليها بكلمة، ردًّا على الخطابات التي بعثت بها إليه. وقد ظل عزيز على إصراره، حتى يئست رجاء منه، فأمسكت عن الكتابة إليه، مكتفية بأن تسأل مَن يقدم من بغداد عن أخباره وأحواله!

وتعاقبت السنون، وأتم أخو عزيز الأصغر دراسته الثانوية، وآن له أن يلتحق بالجامعة، وكان يود أن يسلك طريق أبيه وأخيه، وأن يدرس الآداب، حتى لا تنسى الكلية ذلك الأب الذي افتخر بها وافتخرت به.

لكن شحاتة كان له رأي آخر، كان يرى أن يقف الفتى عند المرحلة التي بلغها، وأن يعمل معه في التجارة. وكانت حجته أن الحياة العملية أقوى أثرًا في تكوين الشخصية من الدراسة النظرية.

لكن رجاء أبت رأي زوجها كل الإباء، فألح شحاتة في أن يلتحق الفتى بكلية التجارة؛ لأن التجارة تنبت الذهب من الحجارة، كسبها وفير، ورزقها حلال. وما قيمة المجد وقد فارق الدنيا والد الفتى وليست له تركة تُذكر؟ لقد كانت مأساة وشحاتة حريص على ألا تكرر هذه المأساة!

ولم تستطع رجاء معارضة زوجها في هذا الرأي، وهي تعيش مع ولديها في كنفه. لهذا التحق الفتى بكلية التجارة. ومَكَّنَهُ ذكاؤه من التفوق فيها.

وكما فكر شحاتة في أن يتجه أخو عزيز الأصغر إلى التجارة، احتياطًا للمستقبل، كذلك فكر في تزوج ابنه من زوجته الأولى، ابنة رجاء، ليكفل للأسرة كلها مستقبل رفاهية ورخاء.

وبعد سنوات انتهت مدة الانتداب التي سمح بها لعزيز في العراق، فدعته جامعة القاهرة ليعود إلى منصبه فيها. وكان عزيز مشوقًا للعودة إلى مصر، مصرًّا مع ذلك على ألَّا يرى أمه ما عاش. لقد رُقي في وظيفته، واقتصد من مرتبه المضاعف في العراق ما يسمح له بالعيش الكريم في القاهرة. ثم إنه كان مصرًّا على أن يحصل على الدرجات العلمية التي حصل عليها أبوه من قبل، والتي تؤهل صاحبها إلى منصب الأستاذية والعمادة. ولا يتأتى له ذلك مع بقائه في العراق.

عاد إلى القاهرة، ونزل بها فندقًا، لا يكلفه نفقة طائلة، وبدأ يضطلع بعمله في كلية الآداب. وعرفت أمه عودته، فبعثت إليه أخاه يدعوه لمقابلتها. وتلطف أخوه في الحديث معه، وذكر له تقدمه في كلية التجارة، وأفضى إليه برسالة أمه، وبشدة شوقها لِلُقْياهُ.

قال عزيز متهكمًا: «أتراها تريدني أن أذهب إليها في بيت السيد شحاتة؟! كلا يا أخي! عد إليها فأبلغها أنني ما أزال عند رأيي الذي أنهيته إليها يوم رأتني لآخر مرة.»

قال أخوه: «لقد قَدَّرتْ والدتي أنك لا ترضى أن تجيء إلى بيتنا، وهي لذلك حريصة على أن تلقاك حيث شئتَ. ولا بأس بأن تجيء إليك في هذا الفندق.»

قال عزيز: «أبلغها يا أخي، أن هذا المكان لا يليق باستقبالها واستقبال سيارتها الفخمة، وأنا — على أية حال — على العهد الذي قطعته لها ألَّا أراها وقد تزوجتْ بعد أبي!»

وعبثًا حاول الفتى أن يحمل أخاه على العدول عن رأيه، فهو مُصِرٌّ عليه كل الإصرار، ولا سبيل إلى تحويله عنه. فلما يئس منه أخوه، وهَمَّ بالانصراف، أمسكه عزيز من ذراعه وسأله: كيف حال أختك؟ ألم يتقدم لها خاطب ليتزوجها؟

وتلعثم الفتى حين سمع هذا السؤال، وبدا عليه الاضطراب، ثم لم يجد بُدًّا من أن يفضي لعزيز بأنهم يتكلمون في زواج أخته من ابن السيد شحاتة. عند ذلك ثار ثائر عزيز، وصاح بأخيه: تتزوج من ابن السيد شحاتة، ولا تبدي أنت اعتراضًا؟!

أكذلك أصبحتَ أنت كما أصبحتْ أمك منهم، ولم تبق ابن أبيك؟ ألَا أَبْلِغْ أمك أن هذا الزواج لن يكون، فأنا وليُّ أختي شرعًا، ولن تتزوج بغير موافقتي!

وعاد الفتى إلى أمه وقصَّ عليها ما دار بينه وبين أخيه، فاضطربت، بل كادت تُصعق. إنها كانت ترجو أن تضم الأسرتين وتجعل منهما أسرة واحدة. فإذا اختاره الله إليه كانت أمًّا لهذه الأسرة كلها، وعاشت ما بقي من حياتها في طمأنينة ونعمة. وهذا عزيز يريد أن يفسد عليها كل تدبيرها، وكانت تحسبه بالغًا غاية الإحكام. فما عساها أن تفعل؟ وأي موقف تقفه من ابنها الأكبر، وقد وضعها بينه وبين زوجها وضعًا لا تحسد عليه؟

وقضت الليل بطوله تقلب الأمر على وجوهه، فلما أصبحت ذكرت لشحاتة أن قلبها لا يطاوعها على ألا ترى عزيزًا.

قال زوجها: «ذلك شأنك فاصنعي ما تشائين، ولا اعتراض لي على أن تلاقيه حيث شئت أو حيث شاء، إذا هو سمح بلقائك. أما أنا فلا سلطان لي عليه.»

هنالك انفجرت رجاء باكية وقالت: «ولكنه بعث يهدد بالوقوف في سبيل تزويج ابنتي من ابنك، بحجة أنه وَلِيُّها الشرعي، ولا بد من موافقته على هذا الزواج.»

وصَدمت هذه العبارة شحاتة فقال: «هذا كلام أطفال، ويجب أن نُتم عقد القران بأسرع ما نستطيع.»

وازدادت رجاء اضطرابًا لما سمعت، وانصرف شحاتة إلى عمله. وإنهم لفي صبح الغد من ذلك اليوم؛ إذ حمل المُحْضِر إليها إنذارًا من عزيز، بأنه يعارض تزويج أخته من ابن شحاتة بوصفه وليها الشرعي، ويبني اعتراضه على عدم الكفاءة بين الفتاة وخطيبها. فالجاهل ابن الجاهل لا يكون كفؤًا لابنة عالم عظيم!

•••

لم يكن ذلك الإنذار ورقة تُهمل، بل كان إيذانًا بحرب شعواء، بين عزيز وأمه وزوجها. وعرف شحاتة هذا الإنذار، حين رجع لموعد الغداء، فاستشاط غضبًا وقال: لا بد أن يتم عقد القران هذا الأسبوع.

فلما رجع إلى عمله، بعد أن استراح من غذائه، لم تطق رجاء صبرًا، فأخذت سيارة أجرة، وذهبت إلى مسكن ولدها، ودخلت عليه غرفته، فلما رآها تراجع مأخوذًا بلقاء لم يكن يتوقعه. وأسرعت إليه أمه، فألقت بنفسها عليه، وأخذت تُقبله، وقد كست دموعها وجهها، وهي تقول: وترفض أن تراني أنا ياعزيز؟! ترفض أن ترى أمك؟! إنْ أَكُن قد أخطأت فإني أَسْتَمِيحك العفو والمغفرة. نعم يا ولدي، هَبْنِي عَفْوَك ومغفرتك. إنك لا تعلم كم تألمتُ لسكوتك عن الرد على خطاباتي إليك بالعراق، وكنت أرجو يوم تعود أن ألقاك، وأن نتفاهم. أما وأنت مُصِرٌّ على موقفك مني، فأنا عند ما تريد. ألقيت إليك مقاليد أمري، ووضعت بين يديك مصيرنا جميعًا. فاحكم فينا، فأنت منا مكان أبيك!

سمع عزيز هذا الكلام، فبلغ منه التأثر غاية مداه، فأقبل على أمه يقبل يديها، ويقول لها: بل أنا الذي أستغفرك يا أماه! ولكني لن أرضى أن تتزوج شقيقتي من هذا الشاب طمعًا في ثروة أبيه، فاسم أبينا أكرم من كل ثروة، وأنا لا أطيق أن أسمع اسم السيد شحاتة، وهو الذي غصبك مني، فأدى ذلك بي إلى أن نفيت نفسي من وطني كل هذه السنين!

وألقت رجاء ببصرها إلى الأرض حين سمعت هذا الكلام، ثم قالت: «ولكن لي منه بنتًا هي أختك!»

قال عزيز: «ذلك ما يزيدني ضغنًا عليه، وكراهية له!»

لم ترد رجاء أن تتابع هذا الحديث، بعد أن شعرت بأن عزيزًا أخذ يعود إليها، ويُصغي قلبه إلى أمومتها. فجعلت تسأله عن العراق، وعن حياته فيه. وطال حديثهما، وسرقهما الوقت، فإذا المساء يُقبل، وإذا رجاء لا تستطيع مع ذلك أن تغادر مجلسها بجانب ولدها. وإنهما لكذلك، إذ فُتح الباب ودخل شحاتة، وعيناه تقدحان الشرر.

لقد أذن لزوجته أن ترى ابنها قبل أن يوجه إليهم هذا الإنذار المهين له. أما وقد وَجَّهَه، فزيارتها إياه اشتراك منها مع ابنها في إهانته. فإن رأت أن ترجع إلى بيته، فلْتَقُم معه لفورها، على ألَّا ترى عزيزًا من بعد أبدًا!

وقع هذا الكلام على الأم وَقْعَ الصاعقة، فاضطربت نظراتها بين زوجها وابنها، ثم ارتمت بينهما وهي تقول: رحمة بي أنا الأم البائسة المسكينة! عزيز ابني، وابنتك الطفلة البريئة الصغيرة ابنتي … أنا أمهما جميعًا. رفقًا بي! حرام عليكما تعذيبي!

لكن غضب شحاتة لم يكن يعرف حدًّا. لقد بدأ هذا الغضب في نفسه منذ عاد إلى بيته فلم يجد به زوجته، وأيقن أنها ذهبت إلى ابنها في مسكنه. ثم استمر هذا الغضب ينمو ويزداد ويتفاقم حتى ملك عليه كل صوابه. لذلك صاح برجاء: اختاري بيني وبين ابنك هذا؟!

قالت رجاء بصوت خنقه البكاء: لا خيار لي! والموت أحب إليَّ من هذا الخيار!

ازداد بشحاتة الغضب حين سمع منها هذا القول، فتقدم نحوها يصيح: انهضي أيتها الحمقاء! أتعقدين بيني وبين هذا الشاب أية مقارنة؟!

أتحسبينه قديرًا على أن يطعمك ويكسوك، إذا لم تكوني في كنفي؟! قومي. اختاري: أنا؟ أم هو؟

ونظر عزيز إليه محنقًا وقد صعد الدم إلى رأسه، ثم اندفع نحوه مُلَوِّحًا بقبضة يده، وكأنما يريد أن يضربه وهو يقول: «أتحسب أنك اشتريتها بمالك الدنس؟!»

وامتقع لون شحاتة لصنيع عزيز، وبلغ منه الانفعال غايته، فوقف هنيهة، ثم ارتد على عقبيه، وهو يُهَمْهِمُ بين أسنانه: اللهم اخْزِ الشيطان!

فلما بلغ الباب، ارتد ببصره إلى زوجته وقال: قومي الآن إلى بيتك، وإلا فهو عليك حرام!

ونظرت رجاء إلى عزيز مُتخاذِلة، وقامت تتبع زوجها وهى تقول: «إلى اللقاء يا بني!»

وأجابها عزيز: «وداعًا يا أماه!»

وأردفت هي تقول: «بل إلى اللقاء!»

وقضى شحاتة ليلة نابغية، هدَّه التفكير أثناءها، ولم يَهْدِه إلى شيء يواجه به ما حدث. وأصبح مُتْعَبًا غير قادر على الذهاب إلى متجره. فلما أمسى كانت الحُمى قد ركبته، ثم شَعر بألم جاء في الناحية اليسرى من صدره ومن كتفه، واستدعى طبيبهم الخاص، ففحص هذا الشيخ الهَرِم، وأدى به الفحص إلى تشخيص نوبة قلبية مفاجئة، قد لا تبلغ حد الخطر على حياة المريض إذا لزم الراحة التامة المطلقة، وإذا لم يتأثر المخ بالانفعالات العنيفة التي مر الرجل بها.

واستدعت رجاء أطباء القلب لمعاونة طبيبهم الخاص، فأبدوا من العناية بالمريض ما لا مزيد عليه، وكانوا يترددون عليه كل يوم غير مرة لعيادته.

لكن لكل أَجَلٍ كتابًا، فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون. وبعد أربعة أيام من الحديث العنيف، الذي جرى بين عزيز وأمه وزوجها، أسلم شحاتة روحه، برغم عناية الطب، وعناية زوجه وابنه. وشُيِّعَتْ جنازته، وأُقيم مأتمُه بما يتفق مع واسع ثروته.

وحَسم موته ما فرضه على رجاء من الاختيار بينه وبين ابنها، فالتقيا على قبره وكفل نصيبها ونصيب ابنتها الصغرى في الميراث، للأسرة كلها، عيشًا كريمًا.

وتولى ابن شحاتة إدارة التجارة لحسابهم جميعًا، وإن أصر عزيز على ألا يزوجه شقيقته!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤