مُقدِّمة

لعل أشهى ما تتوق إليه نفسي، وأمتَعُ ما يَطمئِنُّ له جناني جولاتٌ أقوم بها في مختلف البلاد، لا فرق عندي بين سهل وحَزْن، وبَدْو وحضرٍ، أجوس خلالها مُنَقِّبًا في غير ملل، رغم أني أركب في سبيل ذلك الصعب وأحتمل الألم، وكأني أستشعر بهذا اللذة الكاملة التي لا أبتغي عنها عوضًا، والحق أن في الرحلات — التي أُغرمت بها منذ الصبا — لَخير مجدِّد لنشاط الجسم، ومضاء العزم، إلى حفزٍ في الهمم، وتقويم في الخلق، واعتماد على النفس.

وها أنا أقص فيما يلي نبأ رحلتين جُبت فيهما كثيرًا من أرجاء أوروبا، قمت بأولاهما في صيف سنة ١٩٢٦ برفقة زميلين فاضلين؛ هما: الأستاذ علي الأهواني، والأستاذ عبد الرحمن السيد، وقد حللنا بلادًا عدة من إيطاليا وفرنسا وسويسرا وإنجلترا؛ وفي رحلتي الثانية في صيف سنة ١٩٣٠ لم أوفَّق إلى زميل؛ فاعتزمت القيام بها وحيدًا، وكنت فيها أمضى عزمًا مُذْ قطعتُ ما يناهز سبعة عشر ألف كيلومتر بين بر وبحر، وحللت أربع عشرة دولة، وكأني رأيت في عزلتي مشجعًا لي على توخي الاقتصاد والجرأة.

كنت إذا حللت بلدًا أودعت حقائبي مكتب الأمانات وخرجت أختلف إلى الفنادق حتى أهتدي إلى ما يروقني في غير توريط ولا إعنات، ثم ألجأ إلى دار كتب أتصفح ما بها من مصورات «كرتات» عن المدينة، وأناقش صاحب المكتبة فيها جميعًا كي أتفهمها، ثم أبتاع منها ما أستملحه، وأستزيد بخريطة يدوية للمدينة أتصفحها بإمعان بعد أن أُعيِّن موضع المكتبة والنزل منها. وكنت على خططها أسير دون أن ألجأ إلى بوليس أو دليل. ولقد كان في ذلك عون لي على تفقد أحياء المدينة في أيام قليلة.

وقد كنت طوال جولاتي أحاول درس البلاد التي حللتها من الوجهة الجغرافية والاجتماعية ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، وكانت مصر العزيزة ماثلة أمامي دائمًا أحدِّث القوم عنها، وأشيد بذكرها في جميع البلدان، وما كان أشد ألمي عندما كان القوم يذكرون عن مصر في سياق حديثهم معي معلومات مشوهة نحن براء منها؛ ذلك لأن الدعاية لمصر في تلك الأنحاء مهملة، اللهم إلا فيما يذيعه ذوو الأغراض السيئة مما يحط من قدرنا، ويصورنا في صورة الهمج الرعاع، بينا تجدهم يذيعون في دعايتهم لبلادهم من المحسنات ما هو مبالغ فيه إلى حد لا يطابق الواقع مطلقًا، وما كنت أفتر لحظة عن دفع تلك المفتريات عنا، وإقناعهم بأن مصر تفوق كثيرًا من بلدان أوروبا حضارة ونظامًا، وإن فاتني أن أُزوِّد نفسي بمجموعة من الصور المصرية المشرفة أمثال تلك التي تراها تُعرض في جميع مكتباتهم، وبها أفخر مبانيهم، وأجمل أحيائهم وحدائقهم، وأجلُّ آثارهم ومشاهدهم.

حقًّا ليس فيما تعرضه المكتبات المصرية عنا ما يشرف؛ إذ لا تجد صورة لمنظر طبيعي أو أثر تالد، أو مكان طريف إلا ويُشوِّه جماله أحد الباعة المتجولين، أو الشحاذين، أو أبناء السبيل، أو المشعوذين في ثياب بالية وشكل مُزرٍ. وفي استطاعة هواة التصوير الشمسي ورجال الفن في مصر — ولا أعفيهم من اللوم — أن يقصدوا إلى إعفاء صورهم مما يحط من قدر مصر كما يفعل زملاؤهم في البلاد الأوروبية.

وكم كنت أحاول أن أعثر على صور بعض الأحياء القذرة والبيئات الفقيرة — وهي كثيرة حتى في أكبر عواصمهم، وبخاصة في دول شرق أوروبا — لكن بغير طائل! وقد حاولت مرارًا أن أُصوِّر بنفسي بعض أحيائهم القذرة، فكان يمنعني المارة من ذلك، ويُظهرون لي استياءهم الشديد. أذكر من ذلك حادثتين كدت أفقد فيهما آلة التصوير وأُساق إلى البوليس؛ إحداهما: في سوق السمك في برجن، من أعمال النرويج، وهو من أقذر أحياء المدينة، والأخرى: في أحد الأزقة المختنقة التي يقطنها فقراء ستكهلم.

وكم كان إعجابي شديدًا بسيدة أيسلندية جمعني وإياها مجلس، فكانت تحاول تصوير أيسلنده وكأنها جنة الخلد! ولم تقنع بالقول، بل كانت تتطوع بمالها ووقتها، وترافقني إلى الأماكن القاصية مخافة أن آخذ عن بلادها الفقيرة فكرة سيئة. وكنت ألاحظ أنها تحاول إبعادي عن الأماكن القذرة، وكانت ترجوني أن أكتب عن بلادها ما راقني عند عودتي لمصر جزاء ما أسْدتْ إليَّ من خدمات. وقد وصلني منها خطاب تنتظر أن أوافيها بما نشرته عن أيسلنده في مجلاتنا ومصوراتنا.

وعجيب جدًّا أن ينكر إخواني المصريون هناك شخصياتهم، ويخفوا جنسيتهم، فهم يشتركون في الحديث وكأنهم من بلد غير مصر! وقد ضمتني مجالس كثيرة ببعضهم، فكانوا يرجونني ألا أعلن أننا مصريون كأن في ذلك وصمة ومعرة، مع أني أعدها خير دعاية لمصر. ومَن أجدر بالدعاية الحسنة من طبقة المتعلمين!

أذكر حديثًا جرى بيني وبين بعض النرويجيين المثقفين في أزلو، أبدى الرجل في نهايته شدة دهشته من أن في مصر متعلمين أمثالي، وصارحني بأنه ما كان يعرف إلا أن مصر بلد همجي. وآخر في جوتبرج، من أعمال السويد، بعد أن حدثته طويلًا عن مصر ومفاخرها، سألني قائلًا: «أحقًّا أن في مصر كثيرًا من التماسيح، وأنكم تأكلون لحمها وبيضها؟»

وثمَّ حادثة ثالثة في ستكهلم جرت لي مع ربة النزل الذي حللته؛ إذ فاجأتني يومًا وهي باسمة أن ها هو شيء عن مصر يروقك بالطبع، ويؤنس من وحشتك هنا، وما كان أشد اندهاشي عندما رأيتها تقدم لي جريدة مصورة سويدية تنشر صورة لمنظر صحراوي به بعض الإبل وحُداتها القذرون، وإلى جانبه منظر لامرأتين في أردية الغجر الرثة، إحداهما تضرب على الدف، والأخرى ترقص، ومنظر ثالث لمُصلَّى ريفية بجانب بعض العشش القذرة، ومن حولها صبية عراة، وبها بائس ومشعوذ في أسمال مهلهلة؛ أحدهما: واقف، والآخر ساجد، وقد كُتب تحت الجميع «شيء من مصر»، وثم حادثة رابعة في أيسلنده، عندما كنت أحدث بعض رفاقي الأيسلنديين في رحلتي إلى «جلفس وبركان هكلا». وأذكر شيئًا عن مصر أنه فاجأني أحدهم بقوله: أنا لا أزال أحفظ كلمة مصرية، قلت له: وما هي؟ فقال بعد تلعثم: «بقشيش.»

وفي الحق أن للقوم العذر أن جهلوا كل شيء عن مصر وتطورها؛ لأننا أهملنا الدعاية من جميع نواحيها من ناحية التصوير، وناحية الكتابة، وناحية الكلام، وجانب كبير لا شك واقع على سفاراتنا في الخارج؛ فأنت كلما دخلت سفارة أجنبية زوَّدوك بالمطبوعات المصورة عن بلادهم في ورق صقيل، ولغات متعددة، يقدم كل ذلك بسخاء وبدون مقابل. أما في سفاراتنا فلا تجد شيئًا من ذلك رغم أننا نفاخر بالكرم المصري.

وفي اعتقادي، أن كثيرًا من أمهات المدن في مصر، وبخاصة القاهرة والإسكندرية، لا يعوزها إلا القليل كي تشابه أكبر العواصم الأوروبية، ولعل أكبر نقص عندنا يعزى إلى أجناد البوليس وتهاونهم؛ فأنت ترى رجال البوليس في العواصم الأوروبية الكبرى يُنتقون من بين الضباط المثقفين، ويؤجرون مرتبات تسمو بنفوسهم، وتجعلهم مثال الاحترام، ويغلب أن يتكلم الواحد منهم لغة أجنبية أو لغتين، وهو في موقفه على رءوس الطرق يمثل عظمة بلاده، ويسير حركة المرور، ويهدي كل من لجأ إليه في غير امتعاض أو ملل، وقد يعاونه في مهمته بوليس آخر يتجول على مقربة منه، ويصلح ما قد يقع فيه المارة من أخطاء.

حدث مرة أني لم أهتد إلى مكان بعض الأندية الرياضية في استكهلم، فلجأت إلى البوليس، ولما لم يعرف العنوان الذي أردته أخرج من جيبه دليلًا، وصادف أن لم يكن هذا النادي قد أدرج به، فلم يتركني، بل تنحَّى عن موقفه لزميله وقادني إلى حانوت به «تليفون»، وبحث لي عن رقم «تليفون» النادي وخاطبه وأصلح منه العنوان، ثم أرشدني إليه وعاد مكانه، وهو طوال تلك المدة باشُّ الوجه، باسم الثغر.

وحدث مرة أخرى أنني سألت البوليس في لندن عن مكان، فوصفه لي، لكني أخطأت السير وانحدرت جهة اليسار بدل اليمين، فلم أشعر إلا ورجل البوليس من ورائي يناديني — أن قد أخطأت السير يا سيدي فخذ طريقك من هنا — بعد أن أوقف حركة المرور، وانطلق يعدو ورائي، فأين هذا من بوليسنا وقد سألته مرة عن شارع في حي الحلمية هو واقف أمامه، فأضلني بإرشاده الخاطئ، ولما هداني بعض المارة رجعت أعاتبه فقال: «هعملك إيه؟» بعد أن عبس في وجهي، ولم يقبل على قولي؟!

فماذا علينا لو وسَّعنا نطاق مدرسة «الكنستبلات» وخرَّجنا فيها الكثير من أبنائنا المهذبين الذين بدأت طلائعهم تبشر بالنجاح، وإن أنس لا أنس تهاون بوليسنا في معاقبة من يلقي بالقمامات وفضلات البيوت إلى جوانب الطرق، حتى في بعض الأحياء الكبيرة في كومات منفرة، فأين هذا من بلاد ألمانيا، وفيها إذا نزع الرجل غلاف قطعة حلوى ليأكلها طواه في جيبه حتى يمر على سلة المهملات؟ أليس في فرض غرامة بسيطة خير مانع لهذا العبث؟

حدث أن دخلت في مناقشة عن مصر مع سيدة مجريَّة تقطن القاهرة قابلتها على الباخرة في عودتنا، وكنت أدفع مفترياتها، وألزمها الحجة في كثير من الأمور، غير أني شعرت بضعف حجتي لما أن تعرضت لموضوع قذارة الطرق وإلقاء القمامات بها، وانتشار أبناء السبيل في شكل تعافه الأعين، ولا أدري هل النقص في هذا راجع إلى نقص في القانون، أو تهاون من البوليس؟ فما أحوجنا إلى تعيين بوليس لمراقبة الآداب والنظافة العامة.

ذلك بعض ما عنَّ لي أصدر به كلمتي علِّي أصيب به نفعًا لمصر التي أرجو لها من الصميم نهوضًا، ولأبنائها العاملين البررة هناءة وخيرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤