الرحلة الأولى يونيه ١٩٢٦

إيطاليا – فرنسا – سويسرا – إنجلترا

ما وافت الساعة الثالثة من مساء الجمعة حتى نفخت الباخرة «إيطاليا» في الصور إيذانًا بالسفر، وسرعان ما رأيناها تنحى عن الشاطئ في هدوء، وتشق ماء الثغر في خيلاء، حتى إذا ما برحت حواجز الأمواج جدت في المسير وهي تمخر في عباب اليم، وقد خلفت في مؤخرها ذيلًا من الماء الأبيض يمتد إلى أفق السماء تخاله نهرًا من اللبن يعلوه الزبد وسط زرقة البحر الصافية، وكأنه نهر المجرة قد اختط له طريقًا في كبد السماء. وما لبثت الإسكندرية على عظمتها تنضمر أمامنا وتتضاءل حتى إذا ما كانت الرابعة مساء تلاشت عن الأنظار واختبأت تحت الأفق.

figure
عبر البحر الأبيض في طريقنا إلى إيطاليا.

عند ذلك تجلت أمامنا عظمة الرحمن — عز وجل — خالق هذا البحر اللانهائي؛ إذ كنا ننظر ذات اليمين وذات الشمال فيرتد البصر خاسئًا لا يرى سوى مسطح من الماء الأزرق قد جعدت أديمه الموجات، وأطبقت عليه قبة السماء في زرقة شاحبة.

وفي ظهر اليوم التالي، بدت كنديا «كريت» في سلسلة من الجبال الشاحبة وكأنها قد أوفدت إلينا سربًا من الطير الأبيض يحمل إلينا تحياتها، وظلت ترفرف من خلفنا مودعة زهاء ثلاث ساعات، حتى إذا ما أعياها الجهد آبت إلى وطنها ونحن نرمقها بنظرات ملؤها الرحمة على ما احتملت في سبيلنا من عناء.

وفي أصيل اليوم التالي، تجلت على بُعد أرض كلابريا — أقصى ولايات إيطاليا في الجنوب الغربي — بدت حائطًا صخريًّا شاهقًا يمتد إلى أفق السماء، وكان كلما قاربناه يسفر عن رُبًى وتلال في سلاسل ومدرجات إلى الجنوب تشق جوانبها وديانٌ غِيض ماؤها، وتحضن في حجورها قرى تطل على البحر في انحدار، وتحف بها الخضرة النضرة، وأشجار الزيتون، وظهر مخروط بركان «أتنا» إلى يسارنا يقذف من جوفه بدخان كالسحاب.

وقد رست الباخرة على كاتانيا — وأنا عائد لمصر — ست ساعات كاملات، استطعت خلالها أن أجوب المدينة في عربة، فبدت قذرة متربة بها كثير من مصانع الكبريت الذي يستمد من أتنا، ولقد اعتليناه فبدَا منفرًا رهيبًا يظل المدينة بأبخرته المصعدة أبدًا. وقد ظلت الباخرة طوال تلك المدة تحمل وسقها من الفاكهة، خصوصًا الكمثرى، كما فعلت ذلك من قبل في نابلي.

وما كاد الليل يرخي سدوله حتى اجتذبت أنظارنا كثرة الثريات والأنوار ذات اليمين وذات الشمال، فكانت تتلألأ وهي متناثرة في مدرجات تفصلها نجاد مظلمة وكأنها البلور قد نثر متقطعًا، وأبدع ما تجلى ذلك عندما ضمنا بوغاز مسينا بين جنبيه، فكانت مدينة ريجيو وقرية سان جوفني تتألق سنى إلى اليمين، ومدينة مسينا إلى اليسار.

ومن أعجب ما استرعى أنظارنا سمك الدلفين الذي أخذ يعترض السفينة في مقدمها، ويسابقها نحو نصف ساعة وهو ينفر في الماء غاضبًا، ويثب بعنف نحو الباخرة كأنه يريد الوقوف في سبيلها حتى لا تزعجه في موطنه، وهو لم يجاوز بعدُ المترين والنصف طولًا، وكان كل طريقنا في البوغاز وما يتبعه شمالًا في جو غائم ما عهدناه من قبل، وقد أمطرتنا السماء رذاذًا، وأنذرت بالوابل، وحجبت عنا ضوء القمر، وبصيص النجوم حتى أمسينا بعد مغادرة البوغاز ونحن في ظلام دامس وليل بهيم.

عصفت الريح الشمالية بشيء من العنف، وزاد بردها، فأخذ الركبان ينسلون فرادى إلى مخادعهم حتى أقفر ظهر الباخرة من الناس، عدا نفر قليل كنا من بينهم، وآلينا على نفوسنا ألا نأوي إلى مضاجعنا حتى نمتع النظر بجمال بركان سترمبلي — زينة البحر التيراني. مكثنا نرقبه على مضض حتى انتصف الليل حين استبان على بُعد، وفي غير وضوح، على عكس ما عهد القوم من قبل.

ولبثنا نتطلع إليه دون أن نظفر من توهجه بطائل حتى خلناه خامد الأنفاس، وما كاد اليأس يتسرب إلى نفوسنا حتى لفظ على غرة حممًا متأججة كأنها أوار الجحيم علت فوق كأسه، ثم تدفقت وهي تموج في هدوء إلى جانب المخروط الأيمن، وكانت كلما هوت أضحت حمراء قاتمة اللون، ثم انتهى أمرها إلى الظلمة والخمود.

قمنا في الغد مبكرين، وكان الجو هادئًا، ونسيم الصباح عليلًا، ومنظر جبال إيطاليا عن يميننا، وصخرة كابري الشاهقة عن يسارنا، وأطل علينا فيزوف من الشمال في عدة مخاريط متجانبة غير متميزة أظهرها اثنان، تعلو أكبرهما كومات من بخار أبيض يتصاعد الهوينا من قمته، وتدفع به الريح إلى سحب السماء، فيمتزج بها ويبلغ عنان الجو. وقد انتثر المخروط من أسفله بالقرى ذات الأبنية الحجرية البيضاء تتخللها منابت الأشجار.

ولما أن وضح جانبه الشمالي تجلى خليج نابلي في قوس تزينه ميناؤه ذات الأرصفة المنسقة، والأبنية الفخمة التي تبدو في مدرجات يعلو بعضها بعضًا، وقد أشرف فيزوف عليها من الجنوب كالحارس الأمين، وأظلها بدخانه، فكان هذا المنظر ساحرًا فذًّا حقق في نظرنا المثل الإنجليزي See Naples and die.

(١) نابلي

figure
بعض المتسولين القذرين في أحياء نابُلي القديمة.

هبطنا المدينة فاسترعى أنظارنا بها علو مبانيها وتشابهها، فهي تكاد تتألف في مجموعها من ستة طوابق، غير أنك قلما تجدها في علو واحد لاختلاف ارتفاع أراضيها الصخرية؛ لذلك كان غالب الطرقات عظيمة المنحدر، كثيرة الليات، وقد رصفت بمربعات من حجر البازلت الأسود قدَّ من صخور فيزوف، وكثيرًا ما يصل الأزقة بعضها ببعض درجات من الصخر بين العشر والخمسين عدًّا.

ومما أدهشنا سير الترام فوق تلك المنحدرات بمهارة عجيبة، وقد زود بفرامل تستوقفه على الفور. أما أهل المدينة فلا يكاد يفرق المرء بينهم وبين المصريين والشرقيين في السحن والعادات، ولولا أزياؤهم ولهجتهم الغربية ما شعرنا بأننا غرباء بينهم، ينادي باعتهم في الطرقات، ويحاولون تحسين سلعهم على الطريقة المألوفة في مصر، ومن بينهم بائعو الكوارع يحملونها على لوحات خشبية لا فرق بينهم وبين بائعي «لحم الرأس» عندنا، وعلى رءوس الطرقات ترى محال شراب الليمون والبرتقال يعصرونه لك على الفور.

ويظهر أن السكر عزيز لديهم؛ لأنك لا تكاد تحس وجوده في شرابهم. وبالمدينة عدد كبير من المقاهي، وغالب ما يقدم بها الخمور، وبخاصة النبيذ والجعة، على أن بها قهوة منفرة المذاق، وشايًا ليس فيه من طعم الشاي ولا رائحته شيء. والقوم مدمنون على تناول النبيذ بكثرة عجيبة. أدهشني مرة أن رأيت أحد فقراء نابلي يفترش الأرض أمام بابه في بعض الأزقة القذرة، وقد أمسك في يده بإناء به سائل أحمر أخذ يبلل منه قطع الخبز ويلتهمها بشهية، وكنت أخاله عسلًا، ولشدَّ ما كانت دهشتي لما علمت أنه نبيذ، والنبيذ يصنع في كل مكان، وغالب الأهلين يعصرونه في منازلهم لكثرة زراعة الكروم والفاكهة عندهم.

ويضايق السائح هناك تراب فيزوف تثيره الرياح في كل مكان، فتجعل الطرق قذرة منفرة، وبخاصة في الأحياء الفقيرة التي تحكي أزقة بولاق والحسينية عندنا إن لم تفقهما في كثرة أوضارها. وترى في غالب أركان الأزقة تماثيل للمسيح أو العذراء تعلق عليها المشاعل، وتقدم لها القرابين تبرُّكًا، ويركع أمامها المارة على نحو ما يفعل عامة المصريين أمام بعض الأضرحة، وينغص على السائح كثرة الباعة المتجولين وجماهير المتسولين والكناسين الذين يجمعون أعقاب السجاير ويعرضونها للبيع.

figure
بعض فقراء إيطاليا في أسمالهم البالية يروجون لغذائهم القومي المكرونة على قارعة الطريق.

والإيطالي نشيط، مجد، رقيق الحاشية، كريم، فلا تكاد ترى مشروعًا يتطلب الجهد الكبير إلا ويكون له يد فيه، والبلاد اليوم ناشطة في إقامة المنشآت الإصلاحية، وإن أعوزها المال على أثر تدهور سعر الليرة الإيطالية بعد الحرب، وأخَّرها كثيرًا انتشار الأمية بنسبة كبيرة؛ فغالب المزارعين — وهم نصف السكان — أُمِّيون، ويغلب أن يشترك المُلَّاك مع المستأجرين مناصفة في الإنتاج، وتلك الطريقة تُحسِّن إنتاجهم كثيرًا مع عدم إجهاد الأراضي.

وقد ألجأهم العوز المالي إلى فرض ضرائب متعددة على الأهلين والزائرين. هذا ومن أعجبها ضريبة dazio على كل ما يدخل القرى والمدن أو يخرج منها، فهي تشبه «الدخولية» التي كانت تجبي في مصر قديمًا، إلى ذلك ضريبة «البولو» التي كنا ندفعها في الأنزال والملاعب والمقاهي وما إليها.

والقوم مغالون في وطنيتهم يشيدون بذكر إيطاليا في كل أحاديثهم، ويترنمون بعظمتها القديمة، وكنا أينما انتقلنا في الريف حيَّانا الجمع، حتى الأطفال، التحية الفاشيستية بمد الذراع مع المناداة بحياة إيطاليا وموسوليني، وهم شجعان، ولا يزال كثير منهم ميالين إلى المبارزة والضرب بالخناجر. أما نساؤهم فنصف متحجبات، خصوصًا في الريف، ولا يكثرن من الخروج بعيدًا عن دورهن؛ فهن أشبه بالشرقيات، وسلطة الأزواج عليهن ملموسة. ويشتغلن مع الرجال في الحقول، ويحملن على رءوسهن أثقالًا مرهقة ويَسِرن بها بعيدًا، ويزيد ذلك وضوحًا في جنوب إيطاليا.

والطعام القومي المحبوب «المكرونة»؛ تلك التي يجيدونها صنعًا وطهيًا، وفي البلاد كثير من مصانعها، ويكاد يعيش الفقراء هناك عليها هي وقليل من الطماطم «الصلصة»؛ لذلك فإنك ترى بائعيها في الطرق يطبخونها في أوانٍ كبيرة، ويمسكون بلفائفها البالغة في الطول وهم يصيحون لاجتذاب المارة، الذين يقبلون على التهامها كاملة في غير تقطيع وهم يلعقون في الإناء بشكل مُنفّر. وكنا نلاحظ أن هذه طريقتهم في أكلها حتى في المطاعم الكبرى.

حدث مرة أن كنت أقطع لفائف المكرونة بسكين في أحد المطاعم، وكان من حولي كثير من الإيطاليين يلعقونها كاملة بشكل استرعى نظري وأثار سخريتي منهم، لكني عجبت مذ رأيتهم يتهامسون وهم يسخرون مني في الوقت نفسه؛ لأني لا أعرف كيف ألتهم المكرونة لعقًا!

والقوم يستخدمون شحم الخنزير في الطبخ عوضًا عن المسلى، ولقد جزعت نفسي لما علمت ذلك جزعًا شديدًا، وطلبت أن يشوى اللحم لي خصيصًا أو يُحمَّر في الزبد، على أني كشفت بعدُ أن اللحم والدجاج كليهما مما تعافه النفس؛ لأن الحيوان لا يذبح، بل يخنق ويبقى الدم جامدًا فيه. ويا ليته ابن يومه! فلقد يمضي على موته أيام. كل ذلك كان من أكبر المنغصات، على أني كنت أجد في المكرونة الشهية والفاكهة الحلوة والجبن المنوع خير عوض.

(١-١) سان مرتينو

ضاحية من نابُلي شاهقة العلو يقطنها طبقة الأرستقراط، بيوتها فخمة تحف بها الحدائق الغناء، ولكي نصل إليها أخذنا ترامًا معلقًا. وهو يسير على ثلاثة قضبان، الأوسط منها مُسنن. وفي أعلى قطعة من تلك القرية الجميلة جلسنا في نزل يشرف على خليج نابلي، ويواجهه فيزوف. وتكسو الخضرة السفوح إلى البحر، تتوسطها الأبنية المتناثرة، تزينها الأشجار ذات قطوف الفاكهة الدانية، حتى قيل: إن المنظر من هناك أبدع ما تتجلى فيه نابُلي على الإطلاق.

(١-٢) بمبياي

figure
وسط أطلال بمبياي ومن خلفنا فيزوف الذي غدر بالمدينة قديمًا فطمرها.
figure
بعض من اختنقوا في بمبياي وقد فاجأهم فيزوف بثورانه.

ولعلها أجدر الأماكن الأثرية هناك. أعادت إلى مخيلتنا شيئًا من العظمة الرومانية القديمة؛ لأننا رأيناها عظيمة في امتدادها ومبانيها وطرقاتها، واسترعى نظرنا ضيق الطرق وعمقها عن الإطارين الجانبيين، وعند رءوس الطرق ترى معبرًا من صخور كبيرة يتخطاها من أراد عبور الطريق، وكلها مرصوفة بحجر البازلت. وهذا يشعر بأن المطر كان أكثر يومئذ منه الآن.

أما المباني، فبعضها بالبازلت والبعض بالآجر الأحمر، وعلى ناصية الطرق ترى حوض الماء من الصخر تعلوه عين مائية تخرج من فم سبع، وفي كل بيت بهو فسيح تحوطه الأعمدة، ويتوسطه حوض الماء، وتقام الحجرات على الجوانب، وقد ترصف الأرض بالفسيفساء، وتنقش الجدران بالرسوم الخرافية، وفي كل بيت مقصورة للصلاة يرسم بها أحد الآلهة، وأجمل الأبنية جميعًا «الفورم» أو المجمع العام، وعنده دار القضاء، ثم الإنفتياتر.

كل ذلك يشعر بأن المدينة كانت مسكنًا لقوم مترفين ثار من شمالها الشرقي فيزوف سنة ٧٩ ميلادية، فأصلاها — على غرة منها — نارًا بترابه الساخن، أحرق البلدة بمن فيها حرقًا غير كامل؛ لذلك ظلت البيوت حافظة لجدرانها، وبعض نقوشها وأثاثها بتشويه بسيط. وفي المتحف الذي أعد في مدخلها جثث بعض من دهمهم الرماد تبدو مجبسة، ويكاد يرتسم عليها ما لاقوه ساعة الاختناق من آلام، كذلك تعرض بعض الأقمشة والغلال والخبز وما إليها من مخلفاتهم.

(١-٣) سرنتو

غادرنا بمبياي سائرين في طريق زراعي به بيوت قروية متناثرة وسط المزارع لمسافة مترامية، وقلما كنا نعثر على مجموعة من بيوت في مكان واحد، ويظهر أن نظام القرى المصرية متقاربة المنازل غير متوافر هناك؛ لأن كل فلاح إيطالي يمتلك قطعة أرض يخدمها هو وزوجه وأولاده، ويقيمون مسكنهم وسطها، وهناك تشابه كبير بين فلاحهم وفلاحنا في بعض أدوات الري، وفي السير حفاة الأقدام، وفي أكل خبز القفار، وغالبهم مثلنا كرام الطباع يسرون بالغريب.

أخيرًا وصلنا سرنتو ذات المزارع الجبلية الخلابة، فأينما وليت ببصرك رأيت الأشجار والأعشاب تكاد تغطي كل مكان حتى أفاريز البيوت نفسها؛ ذلك لشدة خصب التربة التي تنقلها الرياح من أتربة فيزوف، وهناك أكلنا المكرونة الشهية بعد أن شاهدنا مصانعها، ورأيناها تنشر في الشمس على عصي طويلة، ثم شبعنا من فاكهتها اللذيذة، والضاحية ممتازة بنبيذها الأحمر المشهور باسمها. وكان فيزوف في كل هذه المدة على مقربة منا بدخانه الأبيض، ومخروطه الشاهق يُكسى بالخضرة إلى ثلثي ارتفاعه. ويمكن الصعود إليه في ترام إلى ما قبيل القمة بقليل، وهناك نرتدي أحذية خشبية ونسير فوق أرض مرتجفة إلى فوهته، ويقودنا دليل إلى أسفلها وسط الغازات والأبخرة المصعدة التي تجعل المرء يتصبب عرقًا. وفي بعض الأيام لا يسمح بنزولها، وذلك إذا كان البركان غاضبًا وأبخرته كثيفة؛ مخافة الاختناق.

(١-٤) سلفاتارا

قصدنا الجانب الشمالي من نابُلي في طريق صخري كثير الليات الثعبانية، مناظره جبلية ذات أشجار باسقة، وزهور عبقة تبهر بألوانها الأنظار، حتى وصلنا إلى بركان سلفاتارا، وهو فوهة هابطة لبركان سعتها نحو كيلو مترين ونصف. ثار سنة ١١٩٨ وطمر بعض القرى المجاورة، ثم خمد وظل كذلك حتى بدأت تتجدد حركته منذ سنين. به عدة فتحات تتصل بجوف الأرض، بعضها يقذف ببخار أبيض، والبعض بأوحال حارة، والبعض برمل أبيض تحركه الأبخرة من تحته، فيبدو كالمنصهرات المضطربة.

ويقال: إن له صلة بفيزوف؛ لأنه يهدأ كلما نشط فيزوف، والعكس بالعكس، وتُكسى أرضه بالفوسفور والزرنيخ والنشادر وقليل من البازلت، وإذا ضربت الأرض بحجر سمعت رنينًا يشعر بأن باطنه خاوٍ. ومن غريب أمره أنك إذا أشعلت نارًا زاد تصاعد البخار من كل مكان حولك بكثرة عجيبة تكاد تخفي عنك من تراه من حولك، ولا يُعلَم سر ذلك إلى الآن، ويأخذ القوم منه مسحوقًا كالجص لصنع التماثيل، ويطلق على البركان اسم فيزوف الصغير.

قصدنا إلى حمام نيرون في شمال سلفتارا، وهو نفق في الجبل طوله زهاء نصف كيلومتر كثير التعرج، دخلناه من فتحة فكنا نشعر بزيادة الحرارة والأبخرة، تعبقه رائحة الكبريت، حتى إذا ما قاربنا نهايته كنا نتصبب عرقًا. قيل: إن نيرون كان يزور الجهة ويستشفي بمائها، وله سرير من الصخر كالمسطبة، وصخرة يقال: إنه سجن فيها أمه حتى ماتت، وله هناك برج من الآجر الأحمر، وقلعة من الصخر تشرف على البحر.

(١-٥) كابري

عبرنا خليج نابلي في باخرة من الشمال إلى أقصى الجنوب في ساعتين ونصف، وهناك وصلنا صخرة كابري، وارتفاعها ٥٦٥ مترًا، وهي مقعرة الوسط يبدو صخرها مشرفًا على الماء في استقامة مخيفة، تكسوها الخضرة، وتتوسطها الفلات، يؤمها المرضى للاستشفاء. والضاحية كثيرة المقاهي والأنزال، ذات طرقات جبلية متلوية، وغالب صخرها جيري تتخللها كتل بركانية كثيرة، وتسقى بماء المطر الذي يدخره القوم في صهاريج، وإذا نفد الماء من صهريج سار السكان بعيدًا ليقترضوه من جيرانهم.

figure
داخل كهف جرتاتزورا بنابلي.

وفي أقصى الغرب مغارة يسمونها جرتاتزورا؛ أي الكهف الأزرق، دخلناها من فتحة ضيقة لا تكاد تسمح لأكثر من زورق نحيل أن يخترقها؛ لذلك استلقينا في الزوارق على ظهورنا، وما كدنا نجتاز المدخل حتى بدت من الداخل فسيحة شاهقة. ولما كان غالب صخرها مشرفًا على البحر في قبو تسرب الضوء إليها من تحت الماء أسفل حافتها الصخرية، فأكسب الماء لونًا أزرق صافيًا، وضوء من أسفله، بحيث إذا غمست يدك في الماء بدت بيضاء منيرة كأنها شعلة من كهرباء، وكانت تبدو حافة الزورق الملامسة لسطح الماء وكأنها إطار من لجين.

(٢) روما

برحنا نابلي الساعة التاسعة صباحًا صوب روما التي وصلناها في منتصف الساعة الثانية بعد الظهر، وكانت المناظر كلها جبلية بديعة إلا قليلًا من الوهاد تُكسى بالمزارع كالكتان والذرة والسمسم، وكانت المدرجات تُكسى بالكروم، والجبال بالأعشاب، والطريق كثير الليات والأنفاق، ولم يسترع نظرنا بادئ الأمر شيء غريب في روما سوى أبنيتها الضخمة، وتماثيلها العديدة التي تتوسط كل الميادين في إسراف كبير، والفوارات التي يردها الماء من الينابيع الطبيعية كأنه مثلج كامل العذوبة، وقد تفنن القوم في تصميمها، وتنسيق عيونها، وتدفق مائها بما يثير الدهشة والإعجاب.

(٢-١) كنيسة سان بيترو

زرنا كنيسة سان بيترو أكبر كنائس الدنيا، فكانت — والحق يقال — آية في الفن، ومثلًا للعظمة، أمامها ميدان رحب تتوسطه مسلة مصرية قديمة علوها ٢٥ مترًا، وضع في قمتها صليب — وفي روما عدد كبير من مسلاتنا — وعلى جانبيها فوارتان، ويحيط بالميدان من جانبيه بهوان من الأعمدة في أربعة صفوف متوازية، كل صف يُكوِّن قوسًا تؤدي خطوط النظر بين عمدها إلى بؤرة واحدة، إذا وقفت فيها بدت صفوف الأعمدة وكأنها صف واحد، ويعلو كل تلك الأعمدة تماثيل للقديسين.

figure
سان بيترو أكبر كنائس الدنيا وتزين ميدانها مسلة مصرية.

أما داخل الكنيسة، فليس في مقدورنا أن نصف ما حوى من معجزات الفن، فمن تماثيل ينقصها النطق والحركة إلى صور زيتية وفسيفسائية تبهر العين، إلى مظاهر دينية رهيبة. وأعجب ما هنالك القبة ذات العلو الشاهق صعدنا في قبوها الأسفل ٤١٦ سلمًا، ومع ذلك لم نأتِ على آخرها، وفي قمتها كرة مفرغة تسع نحو العشرين نفسًا، مع أنها تبدو من الميدان وكأنها كرة القدم.

figure
مدخل مكتبة الفاتكان ونقوشها الساحرة.

كل ذلك من هندسة ميخائيل أنجلو، وتبطنها من الداخل نقوش من الذهب والمزيكو يقف المرء أمامها في ذهول. أمر بإقامة الكنيسة قسطنطين على المكان الذي كان يسمى ملهى نيرون، والذي قيل: إن القديس بطرس قتل فيه. وفي عيد الميلاد من سنة ٨٠٠، توج البابا ليو الثالث الإمبراطور شارلمان هناك. وزاد القوم فيها كثيرًا، وآخر جزء زيد بها قبة ميخائيل أنجلو، ويقال: إن الكنيسة تكلفت عشرة ملايين من الجنيهات، وينفق على إصلاحها سنويًّا ٧٥٠٠ جنيه، وإلى يمين المدخل تمثال لقسطنطين، وإلى اليسار آخر لشارلمان، وهناك تمثال نحاسي للقديس بطرس اعتاد الزوار تقبيل أقدامه أو لمسها، حتى كادت تنمحي تجاعيد الأقدام من كثرة اللمس. وفي الحفلات الكبرى تضم الكنيسة من حجاج الكاثوليك ثمانين ألفًا يباركهم البابا برفع يده.

قصدنا إلى زيارة كنيسة سان بيترو الصغير لنرى تمثال موسى ذائع الصيت، وهو من نفائس الحفر لميخائيل أنجلو، ذاك العبقري الذي كانت له طريقته الخاصة في الحفر مذ كان يتصور أن الشخص الذي يريد تمثيله موجود داخل الصخر، وكأنه يريد أن يزيل ما يعلوه كي يظهر مجسمًا. ولقد أعجب هو نفسه بتمثال موسى حتى إنه لما أتمه خاطبه في نغمة الغاضب قائلًا: «لم لا تنطق.» كانت بينه وبين رفايلو منافسة حادة، فحدث أن أحد البابوات أراد نقش قبة «كابلا سيستيني» في الفاتكان، فسأل الخبراء فيمن أقدر على إنجازها، فخبَّروه عن ميخائيل أنجلو. وكانوا بذلك يرومون توريطه فيها، حتى إذا ما بدا عجزه الفني سقط في نظر العالم.

ولما كلف بها استحضر كبار الرسامين الأجانب فلم يعجبه رسمهم فأغفلهم، وأغلق على نفسه القبة زهاء أربع سنوات متواليات أنجزها في خلالها، وكان يعمل صباح مساء حتى إن عضلات رقبته تصلَّبت، وأصبح غير قادر على النظر إلى الأرض، فبُكت منافسوه لما رأوا إبداع آياته، من بينهم رفايلو الذي سعى عبثًا أن يقوم بنصيب في رسم تلك القبة كي يستعيد مكانته بين رجال الفن. وكان ميخائيل أنجلو مبدعًا في الحفر والتصوير والهندسة كما شهد بذلك تمثال موسى، وتصوير كابلا سيستيني، وقبة سان بيترو، ومات مسنًّا. أما رفايلو فمات شابًّا، وكان أرستقراطيًّا في معيشته وفنه على عكس ميخائيل الذي كان عنيدًا حديدي الإرادة.

(٢-٢) قصر الفاتكان

مملكة البابا المستقلة عن حكومة الدولة، فله حرسه في أردية حمراء رهيبة، وقد انتخبهم من جنود سويسرا الأمناء — وكانوا قبل الحرب من النمسا — وهو الحاكم بأمره داخل قصره كثير الرحبات والحدائق، فخم البناء، فهو أكبر قصور الدنيا. به عشرون ردهة، وأحد عشر ألف حجرة، بدئ صغيرًا وزاده البابوات تدريجًا. وقيل: إن شارلمان سكنه مرة ولم يصبح مسكن البابوات إلا بعد عودتهم من إفنيون، وقد رأينا معارض القصر، وفيها الهدايا النفيسة التي قُدِّمت للبابوات في العصور المختلفة من ملوك العالم قاطبة، ومن بينها جرة «فاز» من الرخام الأحمر المُجزَّع عظيمة الحجم قدَّمها محمد علي باشا الكبير.

أما النقوش والزخارف التي بالجدران، فمن بدائع الفن لكبار المصورين، نخص منهم رفايلو وميخائيل أنجلو، ذاك الذي صور «كابلا سيستيني»، والصور التي إلى يمينها تمثل حياة المسيح، والتي إلى يسارها تمثل حياة موسى عليهما السلام، وأعجبها سقف القبة التي يدهش المرء من مقدرة المصور ودقته في مراعاة قواعد المنظور في ثنايا البناء، وكذلك من خياله الرائع الساحر. ولعل أجمل أبهائها المكتبة الفاخرة. وتحتوي فوق نقوشها القيمة مجموعة نفيسة من المطبوعات التي تزيد على ربع المليون، ونحو ٣٤ ألفًا من المخطوطات.

ويتصل بالقصر طريق سري طويل إلى قلعة قديمة اسمها «كاستيل سانت أنجلو»، تشرف على نهر التيبر، وكان يحتمي فيها البابا إذا ما تعرَّض لخطر. وتلك القلعة بها مسكن للبابا، وغرف للجند، وسجون غائرة في الصخر، ومخازن للزيت كان يُغلى بها ليُصبَّ على الأعداء. ولقد بناها الإمبراطور هادريان الروماني لتكون قبرًا له، لكنها حُوِّلت فيما بعدُ إلى حصن منيع.

(٢-٣) الكلوسيو

وهو أكبر ملهى في العالم «تياترو مدرج» يسع ٨٦ ألفًا، ولعله أعظم الآثار الرومانية الباقية. أقيم على شكل أهليلجي داخله مدرج في أربعة طوابق: الأول للقياصرة، والثاني للأشراف، وفي وسطه رحبة فسيحة كانت تقام فيها الألعاب، ومن بينها محاربة الضواري التي كان يقتل منها أربعة آلاف كل عام، وكانت تقام الملاهي فيه لمدة مائة يوم، والصراع بها على أنواع: فتارة كانت تطلق الوحوش يفترس بعضها البعض، وطورًا كانت تطلق السباع على فئة من المجرمين المعاقبين لتفتك بهم، وتارة يصارع الأبطال بعض الوحوش، أو بعض إخوانهم من بني الإنسان ويرديه قتيلًا. كل ذلك وسط تهليل القوم وابتهاجهم. هذا ضرب من ملاهي الرومان التي تدل على مبلغ وحشيتهم وقسوة قلوبهم، وطالما سفكت السباع من دماء شهداء المسيحية في تلك الدار.

figure
ملهى «الكلوسيو» بروما، وقد أطلق السباع ليفتكوا بالمجرمين من بني الإنسان.

ولعل أجل الآثار الحديثة أثر فكتور عمانويل، ولا يزال العمل سائرًا فيه على ساق وقدم، وهو حقًّا مثل للعظمة والدقة في هندسة البناء بمدرجاته وعمده ونافوراته، يتوسطه تمثال نحاسي مطلي بالذهب لفكتور عمانويل وهو يعتلي جوادًا. وقد أقيمت في بطن الحصان حفلة جلس فيها ثمانية وعشرون شخصًا، فكأن الإيطاليين يريدون أن يثبتوا للعالم أن عظمة فن العمارة ونحت التماثيل لا تزال — ولن تزال — تكسبهم قصب السبق كما كان قديمًا، وإن كان الكثير يعدون ذلك نوعًا من النعرة الجوفاء يقصد بها مجرد الدعاية الكاذبة؛ لكثرة ما تكلفه من نفقات، خصوصًا في هذا العصر الذي تظهر فيه إيطاليا بعجزها المالي.

(٢-٤) ضواحي روما

أوستيا

وهي مصيف على البحر يبعد عنها بنصف ساعة، أسسه موسوليني حديثًا، فأضحى متنزهًا جميلًا، ومستحمًّا عامًّا، وهو إلى جانب مدينة أوستيا الثغر الروماني القديم. ولقد أمضينا بها سحابة يوم ممتع، وبينا كنا نمرح على شاطئ البحر إذ سقطت حقيبة النقود من جيب أحد أصدقائنا المصريين، وكان بها نحو «١٢٠٠ ليرة»، وبعد أن كدنا نيأس من وجودها خطر لنا أن نسأل بعض الحراس عند مدخل الحمام. وما كان أشد إعجابنا بأمانة هؤلاء الناس حين وجدناها عنده! وقد عثر عليها حوذي فقير فلم تُسوِّل له نفسه أن يأخذها، ودفعته أمانته إلى تسليمها. فضيلة جميلة هي أجدر بنا معشر المصريين.

فرسكاتي

وهي ضاحية إلى جنوب روما طريقها جبلي، تُكسى جوانبها بالكروم في أغصان صغيرة تقام على أحطاب مثلثة، وثمرها وافر للغاية؛ ولذلك شهرت الجهة بالنبيذ المسمى باسمها، وبالمدينة عدة «فلات» فخمة وسط حدائق غناء تثبت أنها كانت مسكن الطبقات الراقية قديمًا، وأجمل الفلات ألنديني، وبها نافورة في خمسة مدرجات علو الواحد خمسة عشر مترًا، والرابع منها يعلوه عمودان تدور المياه حولها في شكل حلزوني إلى أسفلها، ثم تهوي في مجموعة من الشلالات، وكانت مساكن لبعض البابوات قديمًا.

تفولي

وتبعد عن روما بساعة ونصف بطريق متعرج يخترق أنفاقًا عدة، وتكسو رباها الخضرة والكروم، وبها مجموعة من «فلات» ذات تنسيق غريب، أشهرها «فلادست» على اسم أحد الكاردنالات، عاش منذ أربعمائة سنة، وفيها من النافورات ما فاق كل شيء جمالًا وفنًّا، ومنها ينبوع في ثلاثة صفوف بكل صف مائة نافورة.

وفي تفولي مجموعة من الشلالات الطبيعية الشاهقة ينزل منها ماء نهر «أينو» فرع التيبر في شعاب عدة، وقد يبلغ علو أكبرها مائة وعشرين مترًا، نزلنا إلى أسفلها من طرق مختنقة كثرت لياتها، وللماء فيها دوي مخيف، وهو يخرج من بين الصخر مختنقًا، وفي سرعة مدهشة، ويستخدم غالبها في إدارة الأرحاء لتوليد الكهرباء، ومنها تنار مدينة روما كلها.

ولعل تفولي أجمل ضواحي روما التي تتجلى فيها الطبيعة برونقها الجذاب، وروعتها الساحرة، وقد كانت فيما مضى مصيفًا للقياصرة ولطبقة الأرستقراطيين.

figure
ضاحية تفولي بروما بشلالاتها العديدة.

(٣) بيزا

غادرنا روما في ١٢ يوليه إلى بيزا، فوصلناها في ست ساعات، وهي بلدة صغيرة لا بأس بنظافتها. وأجمل ما يُزار بها كنيسة الدوومو، وهندستها قوطية بديعة النقش من داخلها، وبجانبها قبة التعميد، وأقيمت منعزلة عنها، وفي هندسة غريبة من شأنها أن تكبر موجات الصوت فيرن صداه بشكل مزعج، حتى إنك لو غنيت بصوت خافت دوى واستمر رنينه في كل مكان نحو ست عشرة ثانية، وتسمع تصفيق اليد وكأنه الرعد يقصف بهزيم مخيف.

figure
أمام برج «بيزا» المائل أحد عجائب الدنيا.

وقد بنيت من داخلها في شكل الناقوس، وكان كاروزو الملحن الإيطالي المشهور يصور أنغامه فيها، ذاك العبقري الذي خلف لبنيه ثروة تقدر بثلاثة ملايين من الجنيهات، وقد زار مصر سنة ١٩٠٦ ورغب في سماع أجمل المغنين عندنا، فغناه المرحوم الشيخ سلامة حجازي، فطرب له كاروزو ودهش لما علم أنه لا يربح أكثر من خمسين جنيهًا في الشهر، وقال له: «تعال معي أعلمك الأنغام الإفرنجية وأنا كفيل لصوتك الرخيم بمائة جنيه في اليوم.» أما هو فكان يربح في يومه ثلاثمائة جنيه في أيامه الأخيرة.

وأعجب ما في الكنيسة برجها المائل الذي يعد من الأعاجيب؛ لأنه يعلو في الجو زهاء ٥٥ مترًا، وهو مائل بنحو أربعة أمتار وثلث عن المسقط الرأسي، وبه سبعة طوابق شاهقة من رخام أبيض، مجموع درجاتها ٢٦٥، ارتقيناها فرأينا في أعلاه سبعة أجراس مدرجة الكبر، وزن أكبرها ٣٧ قنطارًا، وهي في مجموعها تمثل الأنغام الموسيقية السبع. بُني البرج سنة ١١٧٥، وإنك لتحسُّ بشيء من الخوف وأنت تراه يميل رغم ضخامته، ويخيل إليك أنه لن يستقر مكانه، ولا تكاد تسيغ لك نفسك أن تعتليه خوفًا وحذرًا.

قيل: إن تصميمه وضع مائلًا هكذا منذ البداءة، على أن الراجح أن ميله نتيجة لهبوط في الأرض الضعيفة كثيرة الزلازل هناك، وكان «جالليو» الفلكي يحاول إثبات قوانين الجاذبية بإلقاء الأثقال من ذروته.

(٤) جنوا

قمنا إلى جنوا وكان الطريق جبليًّا، وأخذت تزداد طيات القشرة الأرضية وتتعقد شيئًا فشيئًا حتى كان القطار يسير على حافة البحر والجبل يقاربه من الشرق، وجل الجبال تُكسى بالخضرة وشجر الزيتون والكروم؛ ولذلك لا تعجب إذا كان أجود زيوت العالم يعصر هنا، خصوصًا في مدينة لوكا، ثم بدأ لون الجبل يتغير على بُعد، فخلناه مغطًّى بالجليد، ولكنه اتضح أنها منطقة غنية بالرخام الناصع، فكنا نرى كتل الرخام الملون تغطي أرصفة المحطات إلى مسافات بعيدة، وبخاصة في بلدة كرارا، التي أصبحت شهرتها في الرخام والمرمر عالمية؛ بها وحدها نحو سبعمائة محجر، ويبلغ ما تصدره من الرخام سنويًّا مليونًا من الأطنان، وكفاها فخرًا أن رخام كنائس الدنيا الكبيرة مستمد من محاجرها.

وبعدها كان طريقنا مجموعة أنفاق تزيد على الثلاثين عدًّا، وقد استخدمت هنا القاطرات الكهربائية التي كانت تسير بسرعة البرق «نحو ١٥٠ كيلو مترًا» حتى كانت تبدو فتحات بعض الأنفاق المطلة على البحر كوميض برق يكاد يخطف البصر. وغالب القاطرات في شمال إيطاليا تسير بالكهرباء بفضل كثرة القوى المائية؛ ولذلك تركزت غالب الصناعات في الشمال، نذكر من بينها مصانع الأصواف والسيارات «فيات» في تورين، ومصانع الحرير في ميلان.

وقد زرت تورين في عودتي من الرحلة بعد أن اجتزنا الحدود الفرنسية في مودان، ثم جزنا مجموعة أنفاق «مونت سني» التي لبث القطار يسير في أطولها فوق عشرين دقيقة بسرعة الكهرباء، ثم دخلنا تورين التي بدت صناعية قديمة تعوزها النظافة في المباني والطرق، وبعدها وصلنا جنوا، وهي أكبر مواني إيطاليا التجارية، عظيمة الاتساع، شاهقة الأبنية، صخرية السواحل، قريبة الشبه بنابلي في أنها تقام على رُبًى عالية؛ لذلك كانت طرقها منحدرات وعرة.

وأعجب ما فيها مبانيها، فهي تتألف في الغالب من سبعة أدوار، ولكثرة المرتفعات يغلب أن يكون لكل دور باب على طريق عامة، ولكل دور حديقة معلقة. والمدينة أنظف من نابلي كثيرًا، وتشتهر بمقابرها التي يقال إنها أجمل مقابر الدنيا، فهي في غاية التنسيق تقام كلها من الرخام الأبيض تزينها التماثيل في ردهات بديعة. وفي العراء وسط المزارع تجد مقابر الفقراء، وعليها شواهدها تصطف في نظام دقيق. وفي حي قديم قذر من المدينة بيت صغير لخرستوف كولمب — كاشف أمريكا — نقش عليه اسمه، وحفظ تذكارًا له، وأمامه نُزل كولمب الذي تناولنا فيه طعام الغداء. والمدينة تفاخر بأنها أنجبت ذاك المستكشف العظيم، وتقيم له تمثالًا في أكبر ميادينها.

figure
كازينو مونت كارلو عاصمة الميسر.

(٥) الرفييرا

غادرنا جنوا الساعة السابعة صباحًا قاصدين فرنسا عن طريق الرفييرا، وهو ساحل جبلي جميل بجانب القطار، هناك البحر ومن ورائه الرُّبى تكسوها الخضرة النضرة، وتتناثر على جوانبها المباني، وأكبر المدن الإيطالية عليه سان ريمو. وهي مزار صحي منسق يغص بالحدائق، وتزينه بساتين النخيل الباسقة في كل مكان.

وعند مدينة الحدود «فنت ميليا» انتقلنا إلى القطار الفرنسي الذي أقلنا إلى مونت كارلو، فوصلناها الثامنة مساء، وإذا بها بدت جنة حقة يضمها خليج صغير غَصَّتْ منحدراته بالأبنية الفخمة، من خلفها جبل شاهق، تلفت النظر بها نظافتها التامة، وسكونها الجميل، فهي مدينة يبدو عليها علائم الأرستقراطية في مبانيها وشعبها ونزلائها، ويحق لها أن تسمى عروس المتنزهات، وهي ضاحية لمناكو، تلك الإمارة المستقلة عن فرنسا، ولها حدودها وأنظمتها الخاصة.

وبالمدينة عدد لا يحصى من الأنزال الكبيرة يَؤُمُّهَا سراة العالم طلبًا للنزهة الهادئة، ويغلب أن يصحب ذلك لعب الميسر، فهي عاصمة الدنيا في هذا المضمار. وقد زرنا كازينو مونت كارلو ذائع الصيت الذي لا يؤمه إلا غني مفرط، وذو جاه كبير، يجلس على مناضد الميسر ويقامر بآلاف الجنيهات. وتلك المناضد عظيمة الامتداد، ترى القوم منكبين عليها تعلو وجوههم علامات القلق في شبه ذهول، ومن ورائهم خزائن الصيارفة على أهبة تقديم النقود للمقامرين تسهيلًا لهم وإغراء.

figure
الحلاق المتجول يقوم بعمله على قارعة الطريق في الأحياء الفقيرة من فرنسا.

ولمديري الملعب نسبة كبيرة من المال المتداول، وتتقاضى الحكومة من هذهِ إتاوةً تعد أكبر مواردها، وعجيب ألا يسمح لأبناء البلاد باللعب؛ لذلك لم يسمح لنا بالدخول إلا بعد الاطلاع على جوازات السفر ليتأكدوا أننا من الأجانب، والمكان من الفخامة بحيث يعجز القلم عن وصفه، فمن ردهات وأبهاء زينت بالثريات والنقوش والفرش إلى مدرجات وحدائق تتدلى إلى البحر، وتتوسطها جواسق الموسيقى، ويجوب ما بين أطرافها الحسان الغيد والولدان المتأنِّقون، يتهادى كلٌّ في مشيته في تكلف شديد، ويرفل في مترف ملابسه، وقد أشجت نفوسهم أنغام الموسيقى وهم منصتون لها وكأنما على رءوسهم الطير.

figure
على الحدود بين إيطاليا وفرنسا، ويرى الفقراء يغسلون ثيابهم في مياه الغدران القذرة، والمنظر شبيه بريف مصر.

فالحالة الاجتماعية في مونت كارلو تثير الدهشة من عدة وجوه، فالنساء قد أخذن من الحرية بنصيب كبير ربما كان خارجًا عن حد اللياقة، ولطول سهر القوم لا يبدأ العمل في الصباح إلا بين الساعة التاسعة والعاشرة، فلا تفتح المتاجر ولا يسير الترام، ولا تكاد ترى مارة قط قبل هذه الساعة. قصدنا من ضواحيها مانتون، فلم نر فيها من أبهة مونت كارلو شيئًا، وكان يبدو على فلاحيها الضعف الصحي، والضنك في المعاش، تعوزهم النظافة. ويظهر أن الطبقات الدنيا في ريف فرنسا فقراء معوزون، وربما يعزى ذلك إلي الارتباك المالي وعدم استقرار حال الفرنك.

ويجيد غالب السكان الإيطالية، خصوصًا في الضواحي المجاورة لإيطاليا، وقد ظهر من محادثة رجل شيخ في مانتون أنهم يمتون بسبب إلى الطليان، ويودون الانضمام إليهم، ومن هنا فهمنا مرمى التهديد الذي لوح به موسوليني مرارًا لفرنسا بضم الرفييرا إلى بلاده.

أما الجو فحار يكاد يشبه صيف مصر، فالدرجة تزيد على٣٠°م، وسماء البلاد صافية كسمائنا، والهواء راكد تحجب أنسمته الجبال من خلفه، حتى إن جو بعض الليالي لا يطاق؛ ولذلك لم تصلح البلاد أن تكون مصيفًا، فهي مشتى جميل. غادرنا مونت كارلو قاصدين مرسيليا، وكان الجو شديد الحر بحيث كان العرق يتصبب من جباهنا بغزارة، وقد لازمنا ساحل البحر، وأخذت الجبال تجانبنا حتى كنا بين البحر والجبل الشاهق، واخترقنا عدة أنفاق، وأجدر البلاد بالذكر «نيس»، وهي مشتى مشهور بدا بقصوره الفاخرة وحدائقه الجذابة.

ومن ورائها «جراس» مركز تجارة الأعطار؛ إذ ترى الحقول قد فرشت بمختلف الزهور التي يعبق عبيرها الأجواء إلى مسافات بعيدة، وترى الفتيات تحت قبعاتهن التي جدلت من سعف النخل دائبات على قطفه لاستخراج زيته بعد غمره في الكحول مباشرة. أما رواسبه فتعمل منها المربى، وتكفي جولة في أحد شوارع المدينة لتعطير ثيابنا أسابيع طويلة.

وكأن جميع القرى التي كنا نمر بها مبعثرة على سفوح الجبال جعلت مأوى لوفود السائحين، خصوصًا في الشتاء؛ لذلك ترى جمهور المتطفلين الذين يؤمون الرفييرا للاستفادة من موسم السائحين بدءوا ينزحزون أفواجًا في الربيع إلى المصايف، أمثال إكس لبان وشامونيكس وماشا كلها.

وصلنا مرسيليا أكبر ثغور البحر الأبيض وليس به ما يجتذب الأنظار سوى أنه عظيم الامتداد يشبه الإسكندرية القديمة، ويفوقها في ضوضائه لكثرة الحركة التجارية في الطرق وفي الميناء.

(٦) ليون

قمنا من مرسيليا السادسة صباحًا صوب ليون، وكنا نحاذي نهر الرون سريع التيار، وفير الماء، طفلي اللون، تحفُّ به سهول فيضية أفسح ما تكون في شرقه، وتحده الجبال القليلة العلو على جانبيه. وكانت السهول تكسى بالنبت، وتشقها القنوات، مما أذكرني ببلادنا المحبوبة، إلا أن الشجر هناك كثير، والربى تُكسى بالخضرة. وقد جزنا عدة مدن من بينها أفنيون — وكانت يومًا ما مقرًّا للبابا — وفالانس، ولما قاربنا ليون أخذ الوادي يختنق، وبدت مداخن المصانع على بُعد، ثم عبر القطار الرون ودخل المحطة ظهرًا.

جُبنا أطراف ليون بسيارة، فألفيناها تنقسم إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول شرق الرون، وغالبه منتزهات وأندية للألعاب. وهنا شارع ممتد أقيمت به الأبنية على جانبيه لتكون معرضًا صناعيًّا عامًّا يقام في مارس من كل عام، والجزء الثاني غرب الساءون رافد الرون، وغالبه مرتفعات اعتلينا أحدها، وزرنا في قمته كنيسة «الباسليك» من الطراز القوطي الفاخر، وبجانبها برج من الحديد شاهق العلو تضاء في ذروته أنوار الكشف بعض الليالي.

ومن هذا المكان تتجلى ليون بنهريها في مرأى جذاب، والقسم الثالث يقع بين النهرين، وبه غالب الأبنية الفخمة، ودور الحكومة، والغرف التجارية من بينها «جالاري لافايت»، وقد زرنا معرض الفن الجميل، وبه مجموعة قيمة من الصور الزيتية القديمة والحديثة، وبعض التماثيل ومخلفات الملوك الأقدمين، والنهران يسيران متوازيين، وفي حجم متساوٍ، غير أن تيار الرون نهاية في السرعة، وماؤه عكر تشوبه مادة طفلية على عكس الساءون قليل الماء، هادئ التيار، مخضر اللون.

وقد زرت معرض الحرائر، وفيه مجموعة من الأنوال القديمة، وكيف تطورت إلى شكلها الحديث، وتعرِض بعض الأنسجة القديمة، وقد وُشيت بالذهب، وزُينت بالزخارف والصور الفنية التي تشهد بما نالته ليون من التفوق على جميع مدن الدنيا في نسج الحرير. وقد زرت أحد المصانع تدار أنواله بالكهرباء، وينسج به الحرير المهفهف في ألوانه البديعة، وغالب عماله من الفتيات، ويكاد يباع الحرير بأنواعه في جميع الحوانيت.

(٧) إكس لبان

في خمس ساعات وصلنا إكس لبان، وكنا طوال الطريق نسير وسط المزارع والربى البديعة، وهبطنا نزلًا فاخرًا، وقمنا بجولة في القرية فإذا بها بالغة التنسيق وسط الربى المكسوة بالخضرة، تحوطها المسايل المائية السريعة، وقد شهرت بمياهها المعدنية والكبريتية؛ ولذلك كانت مستشفى يؤمه أمم مختلفة لعلاج الأمراض الجلدية والكبدية. وقد رأينا في جانب من المدينة نبع عين كبريتية داخل مغارة في الصخر عميقة متلوية حفرها الماء طوال السنين، وجعل في جدرانها وأسقفها تجاعيد وفجوات عجيبة سرنا داخلها طويلًا في ظلام حالِكٍ، وحرارة شديدة، على أن القوم حصروا الماء في أنابيب تؤدي إلى الحمام الكبير، وغور العين ثمانون مترًا، وحرارتها ٤٨°م.

ومن الجهات الجديرة بالزيارة هناك خانق سيروز Sierroz وبه مجموعة من جنادل تطل عليها الأشجار، ويُسخَّر ماؤه السريع في توليد الكهرباء، وبالمدينة كازينو هام للعب الميسر شبيه بكازينو مونت كارلو.

(٨) شامونيكس

قمنا صوب الشرق، وبعد اجتياز بلدة «أنسى» التي تقوم على بحيرة هادئة جميلة أخذنا نعلو تدريجًا، وسارت القاطرة بالكهرباء، وكنا نرى على الجانبين شاهق الجبال تكسوه الأشجار، وتجري من بينها المياه البيضاء في شلالات وغدران لا حصر لها. وكانت طبقات الصخر كالأردواز، وفي رقائق شستية ومائلة ميلًا مخيفًا، والشجر ينبثق من بين الصخر في استقامة عجيبة. وصلنا شامونيكس على علو ١٢٣٠ مترًا. تقوم من حولها الجبال الشاهقة، وقد بتنا ليلتنا في برد قارس زمهرير مذ كانت درجة النهار أقل من سبع، والليل أشبه بليالي ديسمبر ويناير في مصر، لا بل أقسى منها بردًا، وكان السحاب يغطي قطعًا من الجبال كأنه الدخان، ويسقط مطرًا وابلًا استمر إلى الصباح حين قصدنا ثلاجة.

(٨-١) ميردي جلاس

فسرنا في الجبل صعدًا في ليات عجيبة وسط الأعشاب الجبلية وأشجار الصنوبر الشاهقة القاتمة، وكلما زاد صعودنا انكشفت لنا قمم أخرى لا نهائية، ودقت قطرات المطر، فكانت رذاذًا، وكانت تبدو الشمس مشرقة علينا في أعلى الجبل، بينما كانت السحب كثيفة تخفي الشمس عن المدينة من تحتنا، وكانت تنقش الربى النائية عنا بقع بيضاء وضاءة من الثلج، تنزل منها سيول الماء كقنوات اللبن الخالص، وبعد أربع ساعات في هذا الصعود، وصلنا نزلًا على الميردي جلاس تناولنا الغداء فيه.

figure
نستريح قليلًا من وعثاء الصعود إلي ثلاجة «ميري جلادس» التي تبدو خلفنا.

وكانت الحرارة هناك أربع درجات، والريح متوسط السرعة يذرو في وجوهنا هباء كالقطن من الربى المجاورة، وهو الثلج المتساقط من السماء، ثم اقتادنا دليل عبر الثلاجة وهي متدلية في وادٍ فسيح ثلجه مصمت كثير التغضنات والشقوق، وكان الماء يجري وسطها بخرير يسترعي الأسماع، وكان لون الثلاجة ضاربًا إلى الزرقة تعلو جانبيها ركام الصخور التي كانت تغطي الثلج وتبدو كالتلال.

figure
في ذرى جبال الألب وقد انضمر شجر الصنوبر من أثر البرودة.

وعندما عبرنا الثلاجة إلى الجانب الآخر أخذنا نسير في طرق وعرة، ومسالك خطيرة، ولشدة انزلاقها أقيم على بعضها سور من حديد كنا نتوكأ عليه، ولا تكاد الأرض تستقر تحت أقدامنا لانزلاقها، وبعد الهوة تحتنا بنحو المائتي متر، وكدنا نفقد طريقنا في هذا الجبل المسمى «شابو»، وأخيرًا قاربنا مصب الثلاجة، وعنده يتضاءل الجليد في السمك حتى يصبح لسانًا ضيقًا في آخره شبكة من النهيرات دافقة الماء، وكان ارتفاع الثلاجة ١٩٠٩ مترًا في المكان الذي جزناه، ويزيد علوًّا كلما أوغلنا فيها حتى نصل القمة البيضاء «مون بلان»، التي بدت وضاءة على مقربة منا، وقد أقاموا مرصدًا ونزلًا صغيرًا في أعلاها. وعلى الجبل أنواع من الزهور الجميلة، وكان الشجر يتضاءل كلما علونا، ويمد جذوره في صدوع الصخر بثبات عجيب ينمو أفقيًّا، ثم ينثني رأسيًّا ويستقيم إلى السماء.

figure
بعض زهور جبال الألب التي تنمو على جوانب الثلاجات.

قمنا مبكرين في اليوم التالي نعتلي ثلاجة «بوسون»، وتعلو سطح البحر بنحو ٢٩٥٥ مترًا، أخذنا نصعد في طرق متلوية كالأفعى في انحدار وعر؛ لذلك كنا نحس بتعب شديد، وبعد ساعتين استرحنا في نزل للشاي بجانبه مغارة بديعة وسط جليد الثلاجة. دخلناها فإذا بها زرقاء اللون صافية بلورية، كثيرة السراديب، وقد أشعل في وسطها مصباحان، والماء يتقاطر من جميع نواحيها، ويسيل في مجارٍ ضيقة أسفل جدرانها.

استأنفنا الصعود مرة ثانية زهاء ساعتين، وحللنا نزلًا تناولنا فيه الغداء، وكنا نرى الثلاجة إلى يسارنا تنحدر إلى أعماق سحيقة، وكلما طوحنا بنظرنا جهة المنبع تضخمت حتى امتزجت ببسيط الثلج الموصل لمون بلان في مشهد رهيب، ويحيط بها من الجانبين الشجر والزهر والنبت الوفير، ولا يفصل بين الثلج والأرض إلا كتل الركام وحطام الصخر الذي فتته جلمود الجليد، وسطح الجليد مجعد مخيف، والماء يسيل من بين الشقوق في خرير رهيب، لونه أبيض تشوبه زرقة مستملحة تقر لها العين إلا قرب الجوانب وعند نهاية الثلاجة حيث يكسوها هشيم الصخر.

figure
نخرج من مغارة في قلب ثلاجة «بوسون» بشامونيكس.

وفي الحق كان المنظر رهيبًا يملأ القلب روعة وجلالًا، ويذكره بقدرة الخلاق العظيم فيخرُّ خاشعًا يستزيد رسوخًا في الإيمان، وثقة في الله جل وعز.

أخذنا دليلًا عبر الثلاجة، ويا لهول ما لاقينا! بدأنا نخطو على الثلج في تثاقل بين شقوق تفغر أفواهها إلى مد البصر، ونواتئ كأنها التلال، وبرك ونقائع راكدة، وقنوات ومساقط لمياه جارية في دوي مخيف، ولم نأت على كتلتها إلا بعد ساعة، وعندها انطلقت ألسنتنا شكرًا لله الذي أنجانا من خطر كبير. أما جليد الثلاجة فناصع البياض في ظاهره تغطيه طبقة رقيقة من الثلج الهش، الذي إذا ما انصهر بالحرارة ثم عاد فتصلب تجمد في بلورات كالزجاج لا تلبث أن تتحد فتصير مصمتة.

وهي تسير في مهل بحيث لا يمكن رؤيتها متحركة، فالمغارة السالفة مثلًا قد انتقلت مائة وخمسين مترًا فقط في سنة كاملة، وكنا نرى القوم يكسرون كتلًا من الجليد ثم يضعونها في مجرى ضيق أعدوه من الخشب، فتنزلق هاوية إلى أسفل الجبل، وهناك تستخدم في تبريد اللحوم والمرطبات، وكنا نلاقي صِبية الرعاة يسوقون أبقارهم السمان وقد علقت في رقابها الأجراس الكبيرة لتدل عليها إن هي ضلت سواء السبيل.

figure
شارع «مون بلان» في جنيف وترى ثلوج «مون بلان» بيضاء في الصدر.

ويمكن الوصول إلى الثلاجة بوساطة ترام هوائي معلق في أسلاك يسير كأنه الطيارة، غير أنَّا ألفيناه في حالة عطب أصابه من انهيار ثلجي اكتسح بعض قوائمه.

وبالمدينة خانق «ديوزاس» الجدير بالزيارة يجري به الماء في مساقط رائعة، والجبال من حولها في علوٍّ شاهق يزيد على المائة متر في استقامة رأسية، وقد أعد القوم أفاريز خشبية تسير صعدًا في جوانبه، وتعبره القناطر في غير موضع واحد، وكانت صخور الجوانب تبدو هشة منحلة، وجلها من رقائق الإردواز، وقد انهارت كتل عظيمة منها إلى أغوار اليم، وبالإيجاز فشامونيكس مزار صحي يتمنى طلاب الهدوء ورواد الطبيعة الساحرة أن يتخذوه لهم مقامًا هانئًا.

(٩) سويسرا

قمنا إلى جنيف تلك التي تهول الزائر نظافتها في طرقها وأبنيتها وساكنيها إلى الإفراط في تنميقها، حتى في أعمدة المصابيح التي زينت بالورد والثريات الناصعة البياض، ويفوق ذلك جمالًا البحيرة التي نُسِّقت أرصفتها على أنماط مختلفة، وقد ركبنا متنها في باخرة، وجُبنا أطرافها، وكنا نستبين شواطئها على بُعد كالسحاب، ورَسَوْنا على مدن عدة من بينها لوزان التي تحاكي جنيف في نظافتها وهدوئها، وإن كانت دونها جاذبية، وخير ما زُرنا بها قصر عصبة الأمم يطل على البحيرة في جلال أقيم عقب معاهدة فرساي.

ولقد ارتضى غالب الدول بإنشائه هناك اعترافًا منهم بما لجنيف من فضل السبق في ابتكار كثير من المنشآت الخيرية، ومناصرة الإنسانية عملًا وقولًا. ومن أجمل المدن التي رسونا بها «أفيان»، وبها كازينو شبيه أخيه في مونت كارلو، ويطل على البحيرة، وتكثر بها الينابيع التي يؤمها المرضى للاستشفاء، وهي داخلة في الحدود الفرنسية؛ إذ إن جزءًا كبيرًا من الساحل الجنوبي لبحيرة جنيف داخل في حدود فرنسا.

figure
قصر عصبة الأمم في لوزان.

وإلى الجنوب الشرقي من جنيف تبدو قمة المون بلان ضئيلة بين الجبال الأخرى لبعدها، ويكسوها الثلج الأبيض الوضاء، وأينما طوحت ببصرك بدت المنحدرات تكسوها الخضرة، وتسيل على جوانبها الغدران، وتتوج ذراها عمائم الثلج في جمال رائع، ويخرج نهر الرون من البحيرة في اتساع كبير، وماء أزرق صافٍ، وتيار سريع تعبره القناطر المنسقة. ولقد أحاط القوم مياه النهر بسدود توقف تياره، وتحوله إلى أنابيب ضخمة تؤدي به إلى محركات وآلات لتوليد الكهرباء.

figure
قنطرة «مون بلان» عند منفذ الرون من بحيرة جنيف.

ويبالغ القوم في العناية بنظافة الطرق حتى إن البوليس لا يسمح لأحد بإلقاء شيء قط في الطريق، حدث مرة أن ألقى أحد المارة بقشر كمثرى كان يأكلها، فأدركه الشرطي وأخرج من جيبه كراسة المخالفات، وألزمه بدفع الغرامة، ثم سلمه الإيصال، فتناوله الرجل غاضبًا ثم مزقه ورمى به إلى الأرض، فاستوقفه ثانية ليدفع الغرامة للمرة الثانية، ثم ألزمه أن يجمع ما ألقاه في الطريق كله، واقتاده إلى سلة المهملات. وتلك السلال تعلق بكثرة في أعمدة المصابيح.

أما أهل سويسرا فخليط مشعِّب من الأجناس والعادات والأخلاق واللغات، فهم يتكلمون أربع لغات أو خمسًا أظهرها الألمانية في الشمال، والفرنسية في الغرب، والطليانية في الجنوب، وهم متناقضون في خلالهم قد جمعوا بين الكرم والبخل، ومظهر الرخاء والبؤس، وهم معروفون بالطمع الشديد الذي أضحى مضرب الأمثال؛ لذلك فهم نزاعون إلى استغلال أضيافهم ما استطاعوا، كما حدث لنا مع بعض الحمَّالين بالمحطة الذين أصروا أن يُؤْجروا فرنكين على كل حقيبة حملوها إلى اللوكاندة المواجهة للمحطة.

figure
إحدى ولايات سويسرا حيث ترى القوم في اجتماع برلماني في العراء.

وأهل الريف يشتغلون بجدٍّ إبان الصيف ليدخروا للشتاء، ويقيمون مساكنهم الخشبية بأنفسهم، وينسجون أرديتهم الصوفية بأيديهم، وجل غذائهم بسيط، ومن الألبان، بفضل كثرة المراعي التي تملأ المنحدرات؛ ولذلك ليس بعجيب أن تكثر صنوف الجبن الممتاز، مثال ذلك جبن «جرويير»، وهي قرية من قرى سويسرا، وبقدر ما ترى الناس في الريف على سذاجة في العيش إذا بهم في المدن قد بلغوا شأوًا في التأنق والتكلف، وأتقنوا إدارة الأنزال، وتلك مهنة لا يباريهم فيها غيرهم من سائر الشعوب. ولعل في جمال مناظر بلادهم خير مُغرٍ للسائحين، ومن هؤلاء يستمدون شطرًا كبيرًا من أرزاقهم.

وأهل سويسرا ديمقراطيون إلى حد كبير، فالبلاد جمهورية مؤلفة من عدة ولايات متحدة، وكل ولاية تضم عددًا من الجماعات Communes، والجماعة نفر قليل من الناس أشبه بشركة مساهمة لها رأس مالها وامتيازاتها، وكل فرد منها مساهم في الغابات والأراضي المجاورة، وله قسطه في الإيراد يتقاضاه لا نقدًا، بل نوعًا، ويؤخذ رأيه في إدارتها، ولكل ولاية قوانينها الخاصة التي تسنُّ بالتصويت العام في مجتمعاتهم النيابية التي يعقدونها في الهواء الطلق مرة كل سنة، والتي تعد أعجب النظم الديمقراطية؛ إذ يُدعى الشعب في العراء، ويخاطبهم الرئيس قائلًا: «أيها الإخوان ذوو السيادة.» فيقدم كلٌّ مقترحه ليناقشوه فيما لا يزيد على نصف ساعة، ثم يمر الجمع في صفوف زوجية، ويعطي كلٌّ صوته ثم ينصرف إلى عمله.
figure
كلاب سان برنارد تقوم بعمل البوليس في الضبط والإسعاف.

وليس لطبقة الأشراف أثر مطلقًا، فهي غير موجودة، ورئيس الجمهورية لا يزيد راتبه على أربعمائة جنيه سنويًّا، وليس للبلاد جيش، وإن كان الدستور ينص على أن كل فرد من الأمة عضو في الجيش. والحرس السويسري معروف بالأمانة والإخلاص، يؤيد ذلك أنهم فَنَوْا عن آخرهم دفاعًا عن لويس السادس عشر، وأن حراس البابا لا يزالون من بينهم.

ويسترعي النظر البوليس الذي يتخذ من كلاب سان برنارد، تلك التي يمرنها رهبان أديرة تلك الجبال على اقتفاء الأثر، وعمل الإسعاف لمن أصابه زمهرير الجليد، وتراها تحمل على ظهورها أو في رقابها بعض العقاقير للإسعاف، ويهديها شمها الحاد إلى المكان الذي أغارت الثلوج فيه على عابري السبيل، أو إلى حيث يضل هؤلاء، فإن أمكنها الإسعاف قامت به وإلا عادت سراعًا لتستنجد ببعض الرهبان.

(١٠) باريس

عدنا من سويسرا إلى ليون ثانية، ثم قمنا في قطار الرابيد ظهرًا صوب باريس، وسرنا في مروج منبسطة تُكسى بالمزارع المنمقة تزينها الأشجار إلى أن دخلنا باريس الثامنة مساء، ومن العجيب أن المدينة لم تَسترعِ من أنظارنا شيئًا لأول وهلة، وكدنا نؤكد أن عظمة باريس التي طالما سمعنا عنها لم تكن إلا خيالًا بعيدًا عن الحقيقة، فلم نر إلا كثيف المباني ذات اللون الأسمر الكدر الذي لا يسرُّ العين في شيء، ولقد تعبنا طويلًا حتى حصلنا على نُزل نأوي فيه ليلتنا.

وفي الصباح قصدنا متحف لكسمبرج، وبه مجموعة قيمة من صور زيتية وتماثيل يتقدمه متنزه فسيح به نافورة رائعة، وبعده ولينا شطر.

figure
قصر اللوفر وأمامه الكنكوردو ميدان الثورة الفرنسية.

(١٠-١) ميدان الكنكوردو

فبانت عظمة باريس الحقة، ففي أحد طرفيه قصر اللوفر الذي ينفسح أمامه متنزه أبدع تنسيقه بالزهور والتماثيل والنافورات، ينتهي بميدان عظيم الاتساع تقوم به مسلة مصرية شاهقة قد نقلت من عين شمس. وفي هذا الميدان كان يجتمع رجال الثورة الفرنسية، وهنا سفكوا دماء الأشراف بآلة المقصلة، ثم يمتد منه طريق الشنزلزيه، الذي يبهر النظر بنظافته وحسن تنسيقه، وقد أحيط بالشجر المزدوج من الجانبين، يؤدي بنا إلى قوس نصر فاخر أقيم لتخليد انتصارات نابليون، وعليه تنقش بعض وقائعه الحربية، وتحته اليوم قبر الجندي المجهول، وعنده تشعَّب رئيسي لاثني عشر طريقًا كبيرًا سميت بأسماء كبار القواد والوقائع التي انتصروا فيها.

ولقد عبره الألمان منتصرين في حرب السبعين، وأمامه طريق غابة بولونيا الذي يؤدي بعد طول السير إلى الغابة نفسها، وهي متسع من الأرض تكسوه أشجار البلوط والصنوبر، ويبدو كأنه غابة كثيفة تتوسطها بحيرات عديدة تحصر بينها جزائر عدة، وتجوب خلالها زوارق الرياضة، وعليها تقام المقاهي الفاخرة. وهي من أجمل متنزهات باريس.

(١٠-٢) اللوفر

كان من قصور الملوك الأقدمين، ومن بين من سكنه شارل التاسع الذي كان يتصيد أفراد الهيجونوت الهاربين بالنار من إحدى نوافذه، وبه اليوم متحف عظيم من أكبر متاحف الدنيا جمع فأوعى، به مجموعة من الصور الزيتية لكبار مصوري العالم، ومن بين معروضاته صورة الجيوكوندا من عمل لوناردو دافنشي. وهي صغيرة لا تزيد على نصف متر في ثلاثة أرباع المتر، وتمثل سيدة تعلوها ابتسامة يحار اللب في تفسير مغزاها، سلبها نابليون من إيطاليا.

وحدث أخيرًا أن نَقَّاشًا إيطاليًّا كان يعمل داخل المتحف سرقها، فعينت الحكومة الفرنسية مليونًا من الفرنكات لمن يدل عليها، ولما انكشف سر الرجل في إيطاليا أُودع السجن، ورُدَّت الصورة لفرنسا، وترى آثار القطع واضحة في جوانبها. وهناك صورة لنابليون يلبس التاج لجوزفين، ويباركه البابا، وهي تملأ الحائط بأكمله في روعة وإتقان، وبالمتحف جانب للسفن البحرية منذ نشأتها إلى اليوم، وبها نماذج لجميع السفن شراعية وبخارية.

وعجيب أن كانت سفن القرن السادس عشر الشراعية في هذا الحجم المروع، وتعلو في ستة طوابق، وهي مزودة بالمدافع الكبيرة، وبالمتحف قسم مصري قديم، وآخر لمخلفات آشور ذوات العمد تعلوها رءوس الثيران، وتقيمها السباع البارزة، وتزينها الكتابة المسمارية، إلى ذلك بعض آثار كريت وقبرص والإغريق.

وأعجبتني هناك خريطة لفرنسا أنهارها من فضة، وأسماء مدنها كتبت من ذهب، ومواضعها صيغت من جواهر ثمينة. أما القصر نفسه فمن معجزات فن العمارة والنقش، وبه حجرة من حجرات نابليون وكثير من أثاث لويس الرابع عشر وغيره.

وزرنا ميدان الباستيل وليس به من أنقاض تدل على ذاك الرمز العاتي رمز الاستعباد الذي دكه الثوار سنة ١٧٨٩، اللهم إلا عامود فخم من البرونز يتوجه تمثال الحرية وقد أمسك بشعلة النجاح في إحدى يديه، وبسلاسل الاستعباد المهشمة في اليد الأخرى، وعليه خطت بحروف من ذهب أسماء ٦١٥ من الأبناء البررة الذين ساعدوا على هدمه.

(١٠-٣) فرساي

figure
بهو المرايا الذي أمضيت به معاهدة فرساي.

ضاحية من باريس تبعد عنها بنصف ساعة في «المترو»، بها قصر فرساي ذائع الصيت، أقبلنا عليه في بهو طويل تحفه الأشجار المزدوجة، فبدا آية في فن العمارة والزخرف الذي كاد يفوق قصر الفاتكان، وقد عرضت بحوائطه صور زيتية لجميع الوقائع الهامة في تاريخ فرنسا نخص منها: معاهدة باريس، تَقهقُر نابليون من روسيا، فَتْحُ أنفرس، هَزيمةُ الأمير عبد القادر، كلها في لوحات ذَرْع الواحدة عشرون مترًا.

وهناك بهو كامل لنابليون ووقائعه في نقش بديع، وفي مختلف الحجرات يعرض الأثاث القديم؛ كسرير لويس الرابع عشر بفراشه ومكتبه، وبعض العدد التي كان يتسلى بها لويس الخامس عشر، وكان كلفًا بأشغال النجارة، والمنضدة التي أمضيت عليها معاهدة الصلح سنة ١٩١٩، في صالة المرايا التي عقد بها مؤتمر فرساي.

figure
النافورة الفاخرة في حديقة قصر فرساي «باريس».

وفي الطابق الأسفل أقيمت غالب التماثيل تذكارًا لغالب الملوك ومشاهير السياسيين، والقصر يطل على منتزه يعد أجمل حدائق الدنيا نسقت فيه أحواض الزهور على أنماط جذابة، ويواجه القصر طريق فسيح يؤدي إلى سلم فخم تنزل منه إلى نافورة شاسعة زينت بالسلاحف والأفاعي يتفجر من أفواهها الماء في تقوسات بديعة، ومن دونها سلم آخر يؤدي إلى طريق ممتد إلى نافورة من الخيول أمامها نهر من الماء الساكن، وغابات الشجر تمتد إلى أفق السماء، وتتخللها بين آونة وأخرى النافورات والمقاصير. كل ذلك يذكر المرء بعظمة لويس الرابع عشر منشئ هذا القصر؛ فلقد كان حقًّا خليقًا بتلك الأبهة وذاك المجد والفخار الذي كان يزهو به.

وفي هذا القصر تُوج الإمبراطور غليوم الأول الألماني سنة ١٨٧١ منتصرًا على فرنسا. ومن عجائب الأقدار أن فرنسا ثأرت لنفسها بعد خمسين سنة، فأملت شروط الصلح في نفس المكان، وداخل ردهة المرايا، وعلى نفس المنضدة سنة ١٩١٩.

(١٠-٤) قصر فنتانبلو

figure
غرفة العرش لنابليون، قصر فنتانبلو.
figure
غرفة النوم لماري أنتوان زوج لويس السادس عشر، قصر فنتانبلو.
ومعناه نبع الماء الجميل Fontaine de belle ean في ضاحية تبعد عن باريس بساعة وربع في القطار، بناه مهندسون إيطاليون عهد فرنسوا الأول، واتخذه نابليون مسكنًا، وفيه حجز البابا بيوس السابع سجينًا، وأرغم أن يمضي عقد الاعتراف بإغلاقه المواني في وجه إنجلترا بعد أن رفض البابا ذلك. وهو فخم قد يفوق فرساي في أبهة النقش والزخرف من داخله، فيه من الأثاث الفاخر شيء كثير؛ كحجرة النوم لنابليون ومكتبته، وصالة المشورة، وبهو العرش، وحجرة ماري أنتوانيت وسريرها، وروضة هنري الثاني، أفخر الحجرات في العالم أجمع.

ومن المعروضات القيمة: المنضدة التي كتب عليها نابليون صك اعتزاله للملك. وفي هذا القصر ودَّع حاشيته وحراسه وهو خارج إلى منفاه في جزيرة ألبا، وكفى القصر فخرًا أن قال عنه بونابارت في مذكرات منفاه: «إنه لقصر خليق بسكنى الملوك، قصر لا تُبلي جدَّته السنون.»

(١٠-٥) متحف جريفان

أقيمت به مجموعة من التماثيل شكلت من الشمع الأبيض، يمثل كثيرًا من مشاهير الرجال، مثل: كلمنصو، مصطفى كمال، نابليون، بعض الوقائع كهجوم الثوار على لويس السادس عشر، القبض على الملك والملكة، صلب المسيح، وبه حُجر تسمى «كاتا كومبو» بها تماثيل لمساجين هزال الأجسام ذوي وجوه شاحبة ناحلة مخيفة، وكذلك بعض الموتى وما إلى ذلك من المشاهد المرعبة.

(١٠-٦) برج إيفل

وأقيم من الحديد الخالص في شباك متقاطعة تدق وتتقارب كلما صعدنا، ولقد اعتليناه بمصعد كهربائي إلى الطابق الثالث، وكان علوه ثلاثمائة متر، وكانت باريس على عظمتها تبدو ضئيلة كأنها خريطة يد صغيرة يتبين المرء عليها جميع مواقعها، وفي أعلاه ردهة فسيحة بها نُزل للطعام، ويعلوها طابق رابع أعد للإشارات اللاسلكية، وعلى اتصال بوزارة الخارجية. والبُرج مِلك لشركة فرنسية تتعاطى جُعلًا قدره ستة فرنكات على كل زائر، والزحام هناك بالغ نهايته، وقد استغرقت الزيارة ساعة ونصفًا.

(١٠-٧) البانثيون

كنيسة تتقدمها الأعمدة على النظام الإغريقي، وتعلوها قبة فخمة تظل مدافن العظماء اعترافًا بفضلهم. ومن بين من دفنوا هناك ثم انتزعت جثثهم ثانية ميرابو، وألقيت جثته للرعاع الثائرين، ومارات وألقيت جثته للكلاب، وكلاهما من رجال الثورة الفرنسية، كذلك جثة فكتور هوجو التي اختفت معالمها بعد دفنها، ولا يُعلم اليوم مستقرها.

(١٠-٨) نوتردام دي باري

أكبر كنائس باريس على النظام القوطي، يتقدمها برجان بولغ في حفرهما وزخرفتهما، وفي داخلها قبة مزركشة، أبدع ما يسترعي النظر نوافذها التي يكسوها الزجاج الملون تنعكس منه الأضواء القاتمة فتكسب المكان رهبة. أما باقي الكنيسة فعاديٌّ في نظرنا خصوصًا إذا قورن بكنائس روما.

(١٠-٩) قصر الأنفاليد

بناء لويس الرابع عشر، وهو الآن معسكر دفنت فيه رفات نابليون تحت قبة فخمة، وذلك بناء على وصيته التي قال فيها: إني أحب أن تدفن رفاتي على ضفاف السين بين أبناء شعبي الذين أتفانى في حبهم. وإن المرء لمجرد وقوع نظره على القبر لتعروه دهشة في ذهول وروعة في جلال حين يذكر أعمال ذاك البطل وأطماعه تلك التي يضمها ذاك الحيز الضيق. فسبحان مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، وهو على كل شيء قدير.

figure
مدفن نابليون تحوطه أعلام النصر.

والقبر من الجرانيت الصقيل المُجزَّع يطل عليه الزوار من سياج عالٍ كي يطأطئ أعظم الزائرين رأسه إجلالًا للإمبراطور، وإكبارًا لشأنه، ولو كره ذلك. وترى أفواج الناس وكأنما على رءوسهم الطير من روعة الموقف. أذكر أن الأخ عبد الرحمن نسي ولبس قبعته، وما كاد يضعها فوق رأسه حتى دوى صوت الحارس على شيخوخته وكأنه الرعد من أقصى المكان قائلًا: اخلع قبعتك إجلالًا يا سيدي.

وتُواجه الضريح مقصورة فاخرة النقش يتوسطها المسيح وهو مصلوب، وقد حليت الجدران بالصور التي تمثل وقائعه الحربية، وأحيط به أخواه وعظماء قواده في نواويس من الرخام والجرانيت، وترفرف على الجميع الأعلام التي انتزعوها في الحروب التي انتصروا فيها، ومن بينها أربعة وخمسون غنموها في واقعة أوسترلتز. ولقبر نابليون باب بمصراعين من الحديد نحتت عليه الزخارف وبعض الوقائع، بعضها بارز والبعض غائر، صيغ كله من حديد المدافع التي غنمها نابليون في واقعة أوسترلتز. وقد عُني المهندسون الذين أقاموا الضريح بتصميمه بحيث تُلقي شمس الأصيل بأشعتها الذهبية على رأسه مباشرة.

وفي القصر متحف صغير للعُدد الحربية القديمة، وللجنود يلبسون الدروع ويمتطون جيادهم يتقدمهم ضابطهم، بحيث يخيل للمرء أنه وسط جيش من القرون الوسطى. وقد أحيط فناء القصر بالمدافع الضخمة منذ عهد نابليون، وكذلك عربة السكة الحديدية التي أمضى فيها الجنرال فوش الصلح عقب الحرب الكبرى سنة ١٩١٨، وتتقدم القصر من جانبيه حدائق منسقة على أكمل مثال.

ذاك مثل مما يشاهده السائح في باريس، سيدة العالم في التأنق والتبرج والزينة، ترى النساء وقد خلعن العذار وأسرفن في المجون، وتغالين في طلاء الوجوه بشكل مبتذل، والفتيان ولا عمل لهم سوى تعهدهم هندامهم بالمحسنات، ووجوههم وشعورهم وأظافرهم بمختلف وسائل التجميل، وكأنما خلقوا للمغازلة. والحق أن نظام الحياة في باريس أبعد ما يدل على الفرنسي الصميم؛ لأنها مزيج من مترفي العالم أجمع، حتى قيل: إن الأجانب هناك باريسيون أكثر من الفرنسيين أنفسهم؛ ذاك لأن ثلاثة أرباع الشعب الفرنسي من طبقة المزارعين الذين لا يؤمون المدن بكثرة.

ولقد كان لامتلاكهم للأراضي وتوريثهم إياها لبنيهم واعتمادهم عليها أثر في توثيق عرى الروابط العائلية واستقرارها في القرى، وقلل من الفوارق الكبيرة في الثروة؛ لذلك يقل الفقراء المعوزون كما يندر الممولون المفرطون في الغنى. ولقد أثرت تلك الروابط العائلية في مشاعرهم، فكان الفرنسي معروفًا بشدة حنوه وعطفه ودقيق إحساسه، على أنه حط من قيمة المرأة قليلًا حتى إن الزواج في الريف كثيرًا ما يتم باتفاق الآباء أنفسهم دون أخذ رأي الزوجين.

والفرنسي سريع الغضب، حساس لكرامته إلى حد المغالاة: حدث مرة أننا أردنا النزهة في سيارة، فأقبل رفيق لنا مصري على السائق يناديه بنغمة الآمر، وكان السائق متكئًا على سيارته يقرأ جريدة الصباح، فنظر إليه السائق شذرًا وأهمله، وما كدنا نصله ونفتح باب السيارة حتى انفجر الرجل غاضبًا ورفض طلبنا في إباء.

(١١) لندن

غادرنا باريس قاصدين لندن عاصمة بلاد الإنجليز، وهي مشتقة من كلمة كلتية معناها كثيب المناقع lake dune أو lyn din، وعندما وصلنا ثغر دييب ركبنا باخرة كبيرة عبر المانش — وهو بحر عظيم الاتساع سواحله صخرية مشرفة في بياض تشوبه سمرة وتعلوه الخضرة — وبعد ثلاث ساعات رسونا على نيوهيفن، من ثغور إنجلترا، ومنها أخذنا القطار إلى لندن في ساعتين.
figure
السيدة جين غراي والجلاد قد أمسك بالمقصلة لفصل رأسها.

أما المناظر فعادية: مروج فسيحة مغضنة السطح تكسوها الخضرة، وتتخللها الأشجار. ولندن بدت في نظرنا أقل شأنًا مما سمعناه عنها في حركتها ومبانيها وتنسيقها ونظافتها. خرجنا إلى: هيد بارك وطفنا به، فإذا به متنزه عادي ليس فيه من الجمال شيء، غير أنه فسيح جدًّا، ثم قصدنا شارع «بكاديلي» قلب المدينة النابض، وهو أيضًا بدا عاديًّا.

وفي جولاتنا بالمدينة مررنا بشارع «فليت» مقر الجرائد الكبرى، ثم شارع «دننج»، وبه دار الحكومة، ولا بأس بفخامتها، ثم اخترقنا شارع الدار البيضاء وميدانها وميدان البرلمان، وبه دار النيابة ببرجيها الشاهقين تشرف على التاميز في عظمة وجلال، بجانبها كنيسة وستمنستر يواجهها تمثال كرمول، وإلى الجانب الآخر الشارع الملكي يؤدي إلى قصر بكنجهام، وهو صغير أمامه تمثال لذكرى فكتوريا، وعلى الجانبين متنزه سانت جيمز الجميل. ومن ميادين المدينة الممتازة «ترافالجار» يتوسطه تمثال نلسون الذي أقيم تذكارًا لانتصاره وموته سنة ١٨٠٥.

(١١-١) برج لندن

يرجع عهده إلى يوليوس قيصر، والراجح أنه من عهد وليم الفاتح ١٠٧٨، وقد أضيفت إليه أجزاء فيما بعد، وهو مقام على التاميز، ومن حوله خندق متسع كأنه نهر صغير كان يملأ ماء من فتحة تتصل بالنهر عليها باب حديدي وسلم، وكان المسجونون والمحكوم عليهم بالإعدام يدخلون منه، وهم الخونة إذ ذاك؛ ولذلك كتب عليه «باب الخونة»، ومن بين من ماتوا فيه هنري السادس، وإدوارد الخامس، والسيدة جين غراي التي تولت العرش ثلاثة أيام فقط، ثم استعادته مارية تيودور الوارثة الشرعية، وقضت بإعدامها.

figure
التيجان والجواهر الإنجليزية التي تلبس في الحفلات «في أعلاها تاج فكتوريا، وبه أفخر ياقوتة في العالم، وفي الصولجان الأوسط أكبر ماسة في الدنيا ٥١٦٫٥ قيراطًا».

وتعرض هناك بعض أدوات التعذيب والقتل التي تدل على مبلغ استبداد ملوك إنجلترا في ذاك العصر، وأفخر ما بها حجرة عرضت بها التيجان والصولجانات الملكية، وهي مجموعة قيمة من الذهب المحلى بالجواهر الكبيرة، مثل: اليواقيت، وقطع الماس في أحجام تبهر النظر، وهناك تعرض أكبر قطعة للماس في الدنيا، وهي في شكلها الغفل ولم تقد بعد. وترى في مواجهة النهر مجموعة من المدافع القديمة التي غنمها الإنجليز من الهند والروس وسلطان عدن، وعلى بعضها كتابة عربية في خط جميل.

وبجانب البرج القنطرة المعلقة، أقدم قناطر لندن من الحديد الضخم، وفي وسطها برجان شاهقان بينهما قنطرة سماوية، وسكان هذا الحي على جفاء في الطباع، وخشونة في المعاملة، وهم كثيرو الجلبة قذرون، ولا يتورع الواحد منهم أن يتهكم على المارة، وبخاصة الأجانب منهم، بألفاظ وقحة، وهم يشيرون إليه في غير حياء كما حدث لنا.

(١١-٢) كنيسة سنت بول

أكبر كنائس لندن، وأعلاها ذروة، فهي تعد رابعة كنائس الدنيا، وهي مقامة في شكل صليب تتوسطه القبة الشاهقة العلو التي يراها البعض من أفخر قباب الدنيا، وهي في هندسة قوطية، لكنها — في نظري — بسيطة ليس بها من الزخارف القيمة إلا القليل، وبالمقارنة بكنائس روما لا تعد شيئًا مذكورًا.

(١١-٣) دير وستمنستر

figure
البرلمان يشرف على التاميز في لندن.

كنيسة فسيحة الأرجاء عالية الأبراج في هندسة قوطية كثيرة الفتحات المدببة والنوافذ، يكسوها الزجاج الملون في قطع صغيرة تبعث بظلامها الداخلي شيئًا من الرهبة خصوصًا، وتقوم في أركانها مدافن العظماء؛ ففي مقصورة ترى مشاهير الكُتاب والشعراء أمثال: شكسبير، سكوت، تنيسون، ودكنز، وفي جانب آخر رجال الدين والسياسة نخص منهم بلمرستون، ومن الملوك إدوارد وإليصابات وآن وكرمول، ذاك الذي دفنت جثته هناك سنة ١٦٥٨، لكن في سنة ١٨٦١ انتزعت جثته وألقي بها في حفرة في «تيبرن»، وهو المكان الذي ظل إلى القرن الثامن عشر معدًّا لتنفيذ حكم الإعدام، وقد علقت رأسه فوق ذروة في وستمنستر، وظلت هكذا ثلاثة وثلاثين عامًا حتى هشمتها عاصفة عاتية هبت هناك.

وفي مقدمة الكنيسة قبر الجندي المجهول، وهناك حجرة صغيرة يخالها الناس من الكنيسة، وهي في الحقيقة دار البرلمان، الذي كان ينعقد في عهد كرمول، وأغرب ما فيها صغرها الذي لا يتسع إلا لنفر قليل. وهي منقوشة نقشًا فنيًّا بديعًا وبجانبها:

(١١-٤) دار البرلمان

الفاخرة؛ ويشمل غرفة مجلس الأعيان «اللوردات» يؤدي إليها بهو وردهة، أقيمت على جوانبها تماثيل الملوك والملكات، وصورت على جدرانها أعظم الحوادث التاريخية من بينها موت نلسون وواقعة ووترلو، وكذلك بعض حوادث البرلمان سالفًا، وفي سقفها من الزخارف بالذهب والفضة ما يحار فيه اللب، وإذا ما جزته دخلت الدار؛ فإذا هي آية في الإبداع من نقوش جذابة إلى زخارف ثمينة إلى مقاعد وثيرة تكسوها الجلود الحمراء البراقة.

وفي زواياه تماثيل لمن أرغموا الملك جون على إمضاء العهد الأعظم «ماجنا كارتا» دعامة الدستور الإنجليزي، وهم ثمانية وعشرون بارونًا، والمكان حقًّا يمثل عظمة الدولة البريطانية، ولعله أفخر ما يراه الإنسان في لندن كلها. أما مجلس النواب فجميل في بساطة، لم يُبالغ في نقشه، ولم يُسرف القوم في تنسيقه، تُغطَّى مقاعده بالجلود الخضراء، وعددها ٤٧٦ مع أن مجموع الأعضاء ٦١٥، ولا يسمح لأحد بزيارته وقت انعقاده إلا بتذاكر خاصة، عدا يوم السبت، وهو يوم عطلة للبرلمان حين يسمح للجميع أن يدخلوه.

(١١-٥) حي لفربول

وهو الحي الوطني الذي تقطنه الطبقات الفقيرة، ضيق الطرقات قذرها بحيث يُحاكي أزقة الحسينية عندنا، وترى الباعة قد نشروا سلعهم على مناضد خشبية وهم ينادون عليها في غير نظام؛ إذ ترى بائع السمك القذر إلى جانب بائع الحلوى والفاكهة والخيار «المخلل» يعف عليها الذباب في شكل تعافه الأعين، والطرق قد لوثت بما ألقي فيها من أوضار، وبما يسيل فيها من مياه كدرة ودماء اللحوم القذرة.

figure
بعض فقراء الإنجليز في أسمالهم الرثة بقرى الشواطئ.

والعامة هناك كثيرو الجلبة رثُّو الهيئة، والصبية الهمل كأبناء الشحاذين عندنا، وكم كنت أود أن آخذ بعض الصور الفوتوغرافية، لكني دهشت لما خبرني بعض الأصدقاء أن القوم لا يسمحون بذلك مطلقًا، وقد حاولها هو مرة فلم يستطع، وانتهى الأمر إلى تحطيم آلة التصوير، وكان شجار ثم ملاكمة نجا منها بعد لَأْيٍ. هذا مثل من احترامهم لقوميتهم جدير بكل إكبار، وخليق أن نحتذيه نحن في بلادنا.

figure
لندن: أحد الحمالين في حي كفنت جاردن القذر.

ثم مررنا بحي «كفنت جاردن»، وهي السوق العامة للفاكهة والخضر، عظيمة الحركة والضوضاء، غاصة بالحوذية والحمالين الذين يسوقون عربات الحمل بسلال الفاكهة في تزاحم شديد، والمكان تعوزه النظافة، وسكانه قذرون للغاية.

(١١-٦) المتحف البريطاني

لعله أكبر متاحف الدنيا، به من الآثار مجاميع قيمة لا تحصى جيء بها من جميع الدول حتى أمريكا وجزائر المحيط الهادي والهندي والمستعمرات كلها، وفي قسم الآثار القديمة جانب مصري في ست حجرات كبيرة أقيمت في هندسة مصرية قديمة، وبعض أعمدتها وجدرانها من الصخور المصرية القديمة. يلفت النظر من المعروضات المعدومة النظير في مصر: حجر رشيد. وهو أسود كالإردواز سُمكه نصف متر. وهو الذي هدانا إلى فك الطلاسم المصرية لأنه منقوش بثلاث لغات: الإغريقية والديموطيقية والهرغليفية. عثر عليه أحد ضباط الحملة الفرنسية، ثم تملكه الإنجليز عقب انتصارهم عل،ى الفرنسيين وحملوه إلى لندن، وقد توصلوا إلى فك رموز اليونانية أولًا، فإذا بها شكر كتبه الكهنة إلى بطليموس سنة ١٩٤ق.م، واستعانوا بذلك على تفهم الديموطيقي ثم الهروغليفي الذي كان من المعميات من قبلُ.

كذلك جعل «جعران» كبير يبلغ المتر طولًا، وهو أسود براق، ومن الأجسام المحنطة نحو الخمسين حفظت حفظًا تامًّا في لفائفها من الكتان، ربطت بالجلد ونقش على القماش بعض صور الموتى، وأهمها جثة مدفونة في قبر صخري ضخم، وقد أطبقت الرجلان إلى البطن، واليدان إلى الوجه، وقلبت على وجهها، كذلك شعر سيدة مستعار يلبس في الرأس في تجاعيد ذهبية تتدلى منها الخصل الدقيقة في شكل يحكي ما يعمله بعض الطبقات الراقية من نسائنا اليوم.

وفي الأقسام غير المصرية معروضات هندية وبرازيلية، وكذلك مخلفات من العصر الحديدي والبرونزي والحجري، وحجرة للجواهر، وأثمن ما بها جرة بورتلند Portland Vase من زجاج أسمر حفرت عليها التماثيل بحجر الماس بدقة فنية مدهشة، وهي الوحيدة من نوعها في العالم، عُرض على صاحبها مليون من الجنيهات ثمنًا فرفض بيعها وأهداها للمتحف. وبالإيجاز فالمتحف عالمي في معروضاته يتطلب في تفقده شهورًا، ويتساءل المرء: كيف أمكن لهؤلاء الجبابرة الحصول على تلك المجاميع القيمة الوفيرة؟!

(١١-٧) معرض الفن الأهلي

وبه صور زيتية قديمة من مختلف مصوري العالم، من بينهم رفائيل وميخائيل أنجلو ورامبرانت وفان ديك. والقوم قد عنوا بترتيبه حسب العصور والمدارس الفنية المختلفة، ويدهش المرء لكثرة الزحام، خصوصًا من السيدات اللاتي ينظرن إلى الصور نظرات عميقة تُشعر بحسن ذوقهن وتقديرهن للفنون، وهن يصحبن أولادهن الصغار، ويشركنهم في تفقد الصور؛ لكي تتربى الملكة الفنية، وتساعد الحكومة على ذلك بإباحة الدخول مجانًا للجميع، وفي كل المعارض والمتاحف.

ومن معارض الفن الحديث Tate — باسم مؤسسه — يحوي مجموعة قيمة، لكنها دون ما رأيناه في روما بكثير؛ إذ القدرة الفنية في التصوير تكاد تقرؤها في كل صورة تراها من صنع يد الإيطاليين. أما بين الإنجليز فهذا نادر؛ لأن صورهم يسودها شيء من الجمود، وافتقارها للحياة، فكأن البرود الإنجليزي قد خلف أثره حتى في تصويرهم.

(١١-٨) أدجوير

ضاحية من لندن تعد موطن الطبقات الوسطى، بيوتها صغيرة متواضعة ليست متلاصقة ولا مرتفعة، يحيط بكلٍّ حديقتان صغيرتان، ويفصل بين كل مجموعة من المساكن مرج فسيح أخضر، ويسترعي النظر فيها نظافتها وبساطة بنائها؛ فهي تقام بالآجر الأحمر، وتُكسى واجهاتها بالزجاج الذي يبالغ القوم في مسحه، تغطيه الستائر من داخله، وترى في مدخل كلٍّ صالونَ الاستقبال وقد نُسِّق في بساطة، وعلقت على جدرانه الصور الزيتية وباقات الزهور فوق المناضد.

وقد زرنا إحدى العائلات هناك في رفقة زميل لنا كريم، وتصادف أن كان في وقت الغداء وقد مد القوم السماط، وعجيب أنهم جميعًا قابلونا بترحاب، وأجلسونا حولهم وهم يأكلون، ولم يتعرض واحد منهم لدعوتنا ولو «عزومة مراكبية»، فكنا ونحن جلوس نحس بشيء من الخجل، وظننا أنهم سيُقَدِّمُون لنا تحية من القهوة أو ما شاكلها كما نفعل نحن، لكن شيئًا من ذلك لم يحصل مطلقًا، فودعناهم ونحن ذاهلون من ذاك الجمود الذي نعده عندنا ضربًا من التنطع الذي لا يغتفر.

(١١-٩) سكان لندن

قوم صحيحو الجسوم بفضل ميلهم للرياضة، نظيفو الهندام، يسيرون في نشاط الشباب حتى الشيوخ منهم، لا يضيعون وقتهم الثمين في التلكُّؤ في الطرقات أو التسكع على المقاهي، وعجيب ألا توجد المقاهي هناك قط، اللهم إلا أماكن تفتح ساعة أو ساعتين في اليوم، ويؤمها العمال لتناول الشاي أو القهوة.

أذكر أننا كنا نَحِنُّ كثيرًا إلى مكان نجلس فيه لتناول بعض المرطبات فلا نجد إليه سبيلًا في جميع الأرجاء، وقد أعيانا التعب ونال منا، فهم قد استعاضوا عنها بالأندية التي لا تكاد تجد فردًا إلا وهو مساهم في واحد منها. والنساء هناك رشيقات يمشين في وقار، ولا يتكلَّفن في أرديتهن، ولا يطلين وجوههن بشيء إلا نادرًا، على عكس ما تفعل الباريسيات، على أن اختلاطهن بالشبان كثير جدًّا في المتنزهات، وبشكل فاضح.

ولعل أجلى صفات الإنجليز رزانتهم، وقلة الجلبة بينهم، على نقيض الفرنسي: حدث مرة أن إنجليزيًّا كان راكبًا في قطار فرنسي إلى باريس في المقعد الذي يواجهنا، فأقبل فرنسي ولم يجد له مكانًا، وكان في المقعد المجانب للإنجليزي حقيبة، فأشار عليه أن يرفعها ليجلس، فلم يُعْنَ الإنجليزي بأمره واستمر يقرأ كتابه، فما كان من الفرنسي إلا أن هدده بإلقائها من النافذة، فتمادى الإنجليزي في جموده، فحملها الرجل وألقى بها من النافذة والقطار يسير كالبرق، ثم جلس مكانها فلم يحرك الإنجليزي ساكنًا.

وبعد قليل ونحن نتهامس عجبًا، جاء صاحب الحقيبة وبحث عنها، فارتبك الفرنسي وأقبل على الإنجليزي يلومه، وأخذ يعتذر لصاحبه ويتكفل له بالعمل على إحضارها له. فانظر مبلغ تسرع الفرنسي وطيشه، وجمود الإنجليزي ورزانته. وهم يراعون النظام في كل شيء، ولا يتعدون حقهم أبدًا، وكذلك لا يسمحون لغيرهم أن يسبقهم إلى حقهم: حدث مرة أن رجلًا أخطأ وتعجل دوره في طريق مزدحم، وكان يحمل ابنته الصغيرة على ذراعه، فلكمه الثاني بيده غاضبًا وهو يقول: الزم مكانك خلفي. فتقبلها الرجل في برود وخاطب طفلته متهكمًا وهو يقول: يظهر أن صاحبنا هذا رجل مفتول العضلات!

(١١-١٠) متحف التاريخ الطبيعي

مجموعة لا تبارى نباتية وحيوانية وجيولوجية، ولا يستطيع المرء تفقدها في أيام، بل في شهور، فمن الحيوان ترى جميع هياكلها العظمية محنطة بأحجامها المختلفة، وفصائلها المتعددة، وقسم الحفريات رائع؛ إذ ترى من بقايا الحيوان البائد ما يهولك؛ كهياكل الماموث والماستودون، وغزال أرلندا الكبير ذي القرون المفرطحة في طول مترين، وبقر البحر الذي يبلغ ثمانية أمتار في الطول، والكسول Giant Sloth وطوله تسعة أمتار، ثم نقلته إلى مكانه الحالي في الضواحي.

ورغم غرابة بنائه وعظمته فقد زاد القوم منفعته، فأقاموا به معارض علمية للحيوان المحنط للمخلفات الجيولوجية. ولعل أجمل ما به قسم الهندسة المعمارية، وبه أقيمت مقاصير كبيرة في هندسة العصور المختلفة، فترى بهوًا مصريًّا قديمًا بعمده وتماثيله ونقوشه الهرغليفية، وإلى جانبه آخر إغريقي صميم، وثالث روماني، ورابع عربي ترى به ردهة السباع من قصر الحمراء، وخامس قوطي، وسادس لهندسة عصر النهضة الإيطالية، بحيث يكفي الطالب الصغير أن يقوم بجولة حولها فيتفهم الفوارق الرئيسية في فن العمارة والنقش. وفي داخل كلٍّ تماثيل لأعاظم رجال العصر. هذا إلى النافورات البلورية وأنواع الألعاب التهذيبية. وأمام القصر حديقة نسقت أيما تنسيق.

هذا شيء عن لندن ذات المباني المتراصة غير الجذابة التي يقام غالبها بالآجر الأحمر؛ لأن التربة من الطَّفل، ويندر وجود الحجر، وهي ذات جو عكر من كثرة الدخان الذي تصعده المصانع والمدافئ؛ لذلك ترى الهواء كدرًا حتى إنك إذا مسحت أنفك بمنديلك ألفيته أسود فاحمًا. وقد كسيت الجدران بطبقة من الفحم سميكة أكسبتها لونًا قاتمًا؛ لذلك يغسل الأغنياء واجهة بيوتهم كل حين، وتقوم بذلك شركات خاصة.

هذا إلى الجو الغائم كثير السحب، فهو غير مأمون يباغتك من غير إنذار بالعواصف يتلو بعضها البعض، وقلما يمضي يوم تصفو قبة السماء، وينقطع المطر، على أن هذا لا يعيق الانتقال قط؛ لسهولة سبل الاتصال وتعددها؛ حيث تشق الطرق الحديدية الأرض تحت قدميك في ثلاثة طوابق، وفوق السطح ترى السيارات والأوتوبيس الأحمر ذا الطابقين الذي قد تقرأ في أرقامه المسلسلة عدد خمسمائة.

أما الترام فقد قصر على الضواحي فقط، وتغص الطرق بالمارة خصوصًا بين السابعة والتاسعة صباحًا، والرابعة والسابعة مساء حين لا يكاد يشق المرء طريقه وسط الجماهير. ولا عجب فسكان المدينة يقربون من نصف سكان القطر المصري، وأنت ترى البوليس المهيب يُسيِّر الحركة بيديه، ويشرف على كل شيء في لباقة وأهبة للإرشاد لا نراها في بوليسنا. ويرى البعض أن بوليس لندن هو المثل الأعلى، وإن كنت أرى أن بوليس ألمانيا لا يقل عنه، إن لم يَفُقْهُ يقظة ودقة. والإنجليز يرتادون المدن بكثرة «عكس الفرنسيين»؛ لأن جل اشتغالهم في المناجم والمصانع. ولقد أثبت الإحصاء الأخير أن ثلاثة أرباعهم من المشتغلين بالصناعة والتعدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤