التاريخ الزمني للعلم اليوناني
لما كان هذا البحث خاصًّا بدراسة العلم اليوناني
— وهو ليس بحثًا سياسيًّا أو اقتصاديًّا بأي حال
الأحوال — تعمدنا إهمال الحديث عن المراحل السياسية
التي لم تحدث فيها إنجازات علمية ذات دلالة. ولهذا
السبب بالذات لم نستعرض المرحلة اليونانية
الرومانية من الحضارة هنا؛ إذ إن المنجزات العلمية
لهذه المرحلة تافهة بشكل عام. وهي على وجه الخصوص
في مجال الرياضيات لم تتعدَّ أعمال الرياضي المعروف
بابوس Pappus التي
سنتعرض لها في آخر البحث. ولعل هذه الأعمال هي
الشيء الوحيد ذو القيمة في المرحلة الرومانية. أما
في الفيزياء وغيرها من العلوم الطبيعية فلم يتم
تقدُّم يُذكر ولا يبقى بعد ذلك إلا ما قدمه جالينوس
في الطب. والحقيقة أن طب جالينوس الذي أصبح فيما
بعد ينبوع الطب العربي والطب الوسيط، لم يكن سوى
تطعيم ماهر لأفكار فلسفية قديمة (كمذهب الأرواح
الثلاثة) بملاحظات تشريحية جادة وإن كانت مقتصرة
غالبًا على تشريح الحيوانات.
إن الرومانيين في الحقيقة — على وفرة ما قدموه
للبشرية في القانون والسياسة والمعمار — لم يقدموا
من الإنجازات العلمية، والتحولات الفكرية الثورية
في مجال العلم ما يستدعي تخصيص مرحلة خاصة
بهم.
ويمكننا القول: إن كل المؤرخين يجمعون اليوم على
أن تاريخ العلم اليوناني يشغل في الحقيقة حوالي
تسعمائة عام، وهو ينقسم بشكل عام إلى ثلاث مراحل
كلٌّ منها حوالي ثلاثمائة عام.
والمرحلة الأولى هي أشد خصوبة وأصالة من زاوية
ظهور كل الأفكار الثورية الجديدة في عالم العلم،
وتأكيد أهمية رسالته وصِلته بعمل الإنسان؛ ولذا
تُعرف هذه المرحلة أحيانًا بالمرحلة البطولية. ومع
هذا فالحقيقة أن هذه المرحلة لم تستطع أن تقدِّم —
رغم أفكارها النظرية الغنية — النتائج العلمية
المفصلة التي عُرفت بها المرحلة الثانية. وتبدأ
المرحلة الأولى من حوالي ٦٠٠ق.م. إلى موت أرسطو في
٣٢٢ق.م.
والحقيقة أن هذا الحكم العام لا ينطبق على كل هذه
المرحلة بشكل دقيق. ولعل الأقرب للحقيقة أن نقول:
إن هذا الحكم ينطبق على الفترة من ٦٠٠ إلى ٤٠٠ق.م.،
وهي تلك الفترة العظيمة التي شهدت نشأة وتطوُّر
المدرسة الأيونية. أما الفترة من ٤٠٠ق.م. إلى
۳۲۰ق.م. في داخل المرحلة الأولى فيسميها فارنجتون
١ بأنها فترة تطوُّر الفلسفة التي خلقت
لغة المنطق على وجه الخصوص، وهو الذي كان بدونه
يستحيل تأليف كتب الإسكندرية. وتشمل هذه الفترة
حياة وعمل أشهر الفلاسفة اليونانيين سقراط وأفلاطون
وأرسطو.
أما المرحلة الثانية (وهي المرحلة الهيلِّينية)
فيميل كثير من المؤرخين إلى اعتبار تأسيس مدينة
الإسكندرية بدءًا لها، وهي تنتهي عندهم أيضًا
باكتمال الغزو الروماني للشرق حوالي بدء المسيحية.
وفي هذه المرحلة تُعتبر الفترة من ٣٢٠ق.م. إلى
١٢٠ق.م. أشدها أهمية؛ فهي التي تكونت فيها تحت
رعاية البطالسة بالإسكندرية فروع كاملة من العلم
على أسُسها الحالية تقريبًا. إنها الفترة التي قدمت
للبشرية الرياضيين الثلاثة العظام: إقليدس وأرشميدس
وأبولونيس.
ولقد قنَّن إقليدس الرياضيات ونظمها وقدمها على
هذا النظام الدقيق في كتابه «الأصول»؛ هذا الكتاب
الذي ما يزال حتى اليوم يُدرس كما هو تقريبًا
لتلاميذ المدارس. وساهم أرشميدس مساهمات عبقرية
ضخمة في الهندسة والرياضيات عمومًا كما قدم للبشرية
كتابه الهام «بحث في التوازن المستوي» الذي كان وما
زال نقطة البدء في دراسة علم الميكانيكا. كما قدم
أبولونيوس أبحاثه في القطاعات المخروطية التي
استفاد منها جاليليو وكبلر ونيوتن في القرن السابع
عشر فائدة جليلة في علمَي الفلك والقذائف.
ولهذا تُعرف هذه الفترة بفترة الكتاب المدرسي
Text issk
لكثرة ما تم من تأليف فيها ومن تدوين وترتيب وتنظيم
وتبويب. وحتى خلال هذه الفترة يمكننا أن نميز بين
قرنين: القرن الأول (من ٣٢٠ق.م. إلى ۲۲۰ق.م.) الذي
انتهى بوفاة أرشميدس في مدينة سيراكوس بصقلية،
والذي كان في الحقيقة خاتمة العمل العلمي الخلاق
العظيم؛ والقرن الذي تلاه (۲۲۰ق.م–١۲۰ق.م.) والذي
انصرفت فيه الجهود إلى دراسة وتدوين ما سلف أكثر
مما انصرفت إلى الخلق العلمي. فعلى الرغم من العمل
العلمي الطيب الذي استمر في الإسكندرية فإن موت
أرشميدس وأبولونيوس قد أنهى تمامًا مرحلة التجديد
الفكري في مجال العلم. لقد كان احتلال الرومانيين
لسيراكوس هو في نفس الوقت علامة فقدان اليونانيين
الثقة الذاتية في أنفسهم، وبفقدها استولى عليهم شلل
الاحترام الجامد لأسلافهم ولما أنتجوه. وهكذا كان
الجندي الروماني الذي قتل أرشميدس وهو يحل بعض
المشاكل الرياضية على الرمال هو رمز موت الفكر
الخلاق في اليونان؛ هذا الموت الذي سببته روما في
كل العالم الهيلِّيني.
أما المرحلة الثالثة فهي تغطي القرون الثلاثة
الأولى للإمبراطورية الرومانية؛ أي منذ مولد
المسيحية إلى حوالي ٣٠٠ بعد الميلاد، وهذه المرحلة
هي أقلها أهمية من الناحية العلمية كما أسلفنا
القول.