إيمبدوقليس وأنكساجورس
لقد وجَّهت المدرسة الإيطالية بزعامة بارمنيدس ضربات عنيفة إلى المنهج العلمي، بمثاليتها المغرقة وإنكارها الكامل لعالم الحواس. ولقد اعتمدت — بين ما اعتمدت — على حقيقة أن الحواس تكون أحيانًا مخطئة ومضللة؛ غير أن المدرسة الإيطالية لم يكن من الممكن أن تعيش بدون تحدٍّ من جانب مفكرين آخرين. وأحد هؤلاء هو إيمبدوقليس (من صقلية) الذي لم تُثر فلسفة بارمنيدس إعجابه.
وهو يعترف بأن الحواس قد تخطئ حقًّا، ولكنه يدافع عن الاستخدام الحذر لأدلة الحواس. ولقد استقى إيمبدوقليس منابع تفكيره من شواهد عملية عديدة؛ كصناعة الخبز وخلط الألوان في الرسم … إلخ وكان إيمبدوقليس مغرمًا بالتجريب كبعض الفيثاغوريين الأوائل. ولا شك أن مساهمته الكبرى المعروفة لنا تاريخيًّا هي تجربته الشهيرة في إثبات وجود الهواء الذي لا تراه العين. وقبل إيمبدوقليس لم يميز الفلاسفة بين الهواء وبين الفضاء الفارغ، فجاءت تجربة إيمبدوقليس حاسمة في هذا المجال. كان اليونانيون يعرفون الوقت باستخدام ساعة مائية تسمى «كليبسدرا»، وهي تتكون أساسًا من أسطوانة جوفاء مفتوحة عند أحد طرفيها، وتنتهي عند الطرف الآخر بمخروط له فتحة صغيرة عند الفوهة، وكانت الساعة تملأ بالماء، ومن تساقط المياه عند فوهة المخروط يُعرف الزمن. ولقد أوضح إيمبدوقليس أنه إذا دفع الطرف المفتوح من الساعة تحت الماء، بينما وضع إنسان إصبعه على فتحة المخروط فإن الهواء المحتوى يمنع الماء من دخول الساعة. والعكس؛ فإذا قلبت الساعة ووضع الإصبع على فوهة المخروط فإنها لا تستطيع أن تفرغ نفسها ما دام الإصبع على الثقب؛ إذ إن ضغط الهواء يحفظ الماء من الداخل.
وبهذا أثبت إيمبدوقليس أن الهواء غير المنظور هو شيء يشغل مكانًا ويمارس قوة. والأمر يزداد طرافة إذا عرفنا أن هذه التجربة كانت جزءًا من جهد أوسع لإثبات أن ثمة علاقة بين الجو الخارجي وحركة الدم في جسم الإنسان. فلقد اعتقد إيمبدوقليس الدم يتحرك إلى أعلى وأسفل في الجسم، فإذا تحرك إلى أعلى طرد الهواء من الجسم، وإذا هبط إلى أسفل سمح للهواء بالدخول.
لقد كان لتجربة إيمبدوقليس ميزة كبرى؛ إذ أوضحت أنه في مقدور الإنسان أن يتغلب على قصور الإدراك الحسي، وأن يكتشف عن طريق عملية الاستنباط والاستدلال المبني على المشاهدة حقائق لا نتصورها مباشرة. وبهذا غزا بالتجريب الدقيق عالمًا يقع خارج حدود مدركات الإنسان المباشرة، وكشف عن وجود كون طبيعي غير مدرَك مباشرة، باختبار تأثيره على عالم المدركات المباشرة.
ولقد كانت أهمية هذه التجربة حاسمة كخطوة تمهِّد لظهور النظرية الذَّرِّية على يد الفيلسوف العظيم ديموقريطس. لقد كانت المدرسة الذَّرِّية في أشد الحاجة إلى الانتفاع مما اكتشفه إيمبدوقليس من أن «الطبيعة تعمل عن طريق أجسام غير منظورة».
ولقد كان إيمبدوقليس — في موقفه من نظرية المدرسة الأيونية عن العناصر الأولى — تلفيقيًّا؛ إذ أزال عنصر الضباب ووضع محله الهواء؛ وبذلك كان التراب والهواء والنار والماء عنده هي أصل كل الأشياء. واستعاض إيمبدوقليس عن فكرة «التوتر المضاد» عند هيراقليطس بفكرة القوتين (الحب والكراهية) اللتين تسببان حركة العناصر. فالحب يدفع العناصر الأربعة للامتزاج، والكراهية تفصل بينها مرة أخرى. وعلى الرغم من أن إيمبدوقليس لم يرد أبدًا على حجة بارمنيدس التي تُثبت منطقيًّا استحالة الحركة، فإنه حاول بنظريته هذه أن يفسر التغير.
ولقد قدم إيمبدوقليس نظرية في قضية الإدراك الحسي تبيِّن أنه لم يدرك في حقيقة الأمر الأبعاد الحقيقية لهذه المشكلة؛ إذ ظن أنه ما دام الإنسان يتكون من نفس العناصر كبقية الطبيعة، فمن الممكن تفسير الإدراك الحسي على أساس الامتزاج الطبيعي لهذه العناصر؛ غير أن الإدراك الحسي شيء والامتزاج الطبيعي للأشياء المادية شيء آخر. وفي حدود ما نعلم لا يصحب ذوبان الماء في الملح مثلًا أي وعي، والذي نحن في حاجة إلى تفسيره هو الوعي نفسه.
أنكساجورس
فيلسوف من المدرسة الأيونية، أقام في أثينا من ٤٨٠ق.م. حتى طُرد منها في ٤٥٠ق.م.؛ لأن أصحاب الوجاهة والرأي في بلاط بريكليس ضاقوا بآرائه الجريئة في الدين، ولأنه كان مصرًّا على أن يظل الفلك علمًا ولا يتحول إلى تنجيم أو لاهوت في يد رجال الدين. ولقد تبع أنكساجورس المدرسة الأيونية في الفلك وأدى عناده وإصراره على هذا الموقف إلى طرده من أثينا.
ولقد تقدَّم أنكساجورس خطوة أخرى في اتجاه تعدد العناصر الأولى، عندما قال بأنها لانهائية في العدد والتنوع، وأن كل واحد منها يحتوي على جزء صغير من كل الصفات التي تعطينا الحواس، عن طريقها، معرفتنا. وهذه النظرة هي خطوة أخرى تضاف إلى خطوة إيمبدوقليس في التمهيد للنظرية الذَّرِّية.
ومن حقنا أن نتساءل: ما الذي حمل أنكساجورس على القول بهذه النظرية؟ لقد دفعه إلى هذا في حقيقة الأمر تفكيره الدائم في علم وظائف الأعضاء. كيف يمكن مثلًا أن نفسر تحول الخبز، عندما نأكله، إلى عظم ولحم وعضلات وجلد وشعر … إلخ. لا سبيل إلى هذا التفسير إلا إذا كانت جسيمات القمح تحتوي بشكل غير منظور على كل أنواع الصفات التي تظهر بعد ذلك في كل مركبات الجسم المتعددة. وبهذا دفع أنكساجورس الفكر العلمي خطوة إلى الأمام في اتجاه النظرية الذَّرِّية.
ولقد حاول أنكساجورس بالتجربة تأكيد ما قال به إيمبدوقليس من أن كثيرًا من العمليات الطبيعية هي من الدقة بحيث لا تدركها حواسنا مباشرة. ومن تجاربه المشهورة في هذا المجال خلط سائل أبيض بسائل أسود قطرة قطرة. وقال أنكساجورس إنه لا بد بالطبع من وجود تغيُّر في اللون مع كل قطرة تضاف من السائل الأول إلى السائل الثاني. أما من الناحية الفعلية فالعين غير قادرة على تمييز ذلك إلا بعد عدة قطرات.