نهاية الأسطورة!

تحرك الشياطين باتجاه المقبرة، فريق من الشمال، وفريق من الجنوب، مرت نصف ساعة تقريبًا، رغم أن المسافة لا تستغرق ذلك الوقت، وإنما الحرص والحذر والسير بهدوء، هو الذي استغرق هذا الوقت.

نظر «أحمد» إلى رفيقيه، ثم بدءوا يستعدون … إنهم يقتربون من الجدار المنهار، اللحظات الفاصلة تقترب، والظلام لا يسمح بحرية الحركة، إن احتمالات المعركة يمكن أن تكون أكبر مما يتوقعون، لكن لا بد من الفصل فيها قبل أن يطلع النهار … لقد انكشفت أوراقٌ كثيرة؛ فالعصابة قد عرفت مكانهم، وهم قد اصطحبوا أحد أفراد العصابة في منزل صديقهم «أحمد نعمان»، وأصبح لزامًا أن تنكشف الأمور وتتضح أكثر، قبل شروق شمس اليوم التالي.

في نفس اللحظة، كان الرجل الذي اصطاده «أحمد» في الظلام يجلس ساكنًا، يتأمَّل في «إلهام»، وينظر إلى وثاقه … وكأنه يطمع في رقة قلبها أن تفكه وتتركه … لكن علم أن ذلك مُحال حين رآها تقترب منه، وتقول له: إننا نستطيع أن ننزع منك كل شيء بالقوة، لكننا لا نؤذي أحدًا.

لم يردَّ الرجل … لأن كلام «إلهام» صدمه في مشاعره الطامعة … ثم قال بعد لحظة: لا بأس. وبعد دقائق قليلة سمعت «إلهام» شخصًا ما يعبث بالباب الحديدي الخارجي للمنزل … فأحست بالخطر القادم، فصعدت إلى الطابق الثاني، ثم اتجهت إلى الشرفة التي تعلو الباب الخارجي، وأمالت رأسها ونظرت إلى أسفل البيت، فوجدت شبحًا كقطعة الظلام الكثيفة، يحاول فتح الباب … فحملت مقعدًا، وخرجت به إلى الشرفة … ثم همست للرجل بصوت خافت، فرفع رأسه لينظر، فتركت المقعد يهوي من يدها، فسقط المقعد فوق الرجل، وهبط به إلى الأرض مكتومًا لا يبدي حراكًا.

وفي لمح البصر كانت «إلهام» قد هبطت وفتحت الباب الخارجي، لتمسك بالرجل قبل أن يقوم من مكانه، وما إن فتحت الباب، حتى وجدت يدًا تجذبها إلى الخارج وتدفعها بعيدًا، لكنها تماسكت وتعلقت بأحد قضبان الباب … كان الرجل قد دفع بنفسه داخل المنزل ليخلص زميله … لكن «إلهام» جذبت الباب جذبةً قوية، فعصرت الرجل بين الباب والحائط، فهوى إلى الأرض كالفأر، ثم أمسكت بثيابه من رقبته، ودفعت به بعيدًا، فتدحرج على الأرض حتى استقر بجوار الحائط لا يتحرك.

ثم خرجت مسرعةً إلى الرجل الملقى على الأرض قبل أن يفيق، وسحبته على الأرض إلى الداخل، ثم أغلقت الباب، وجذبت الستارة المعلَّقة على جانب الباب، وأوثقت بها يد الرجل، ثم أوقفته على الباب الحديدي، وأوثقته بالقضبان الحديدية كالمصلوب تمامًا.

ثم أسرعت إلى الرجل الآخر، فجذبته من ساقه إلى الداخل، وأجلسته فوق أحد المقاعد، وأوثقت يديه ورجليه بأسلاك الكهرباء.

فنظر الرجل إليها نظرة مفزعة، وقال لها: امرأة أنت، أم رجل، أم شيطان؟

قالت له: أنا شيطانة … من الشياطين الذين سيقهرون جِنَّكم المزيف.

فقال في صوت قبيح: لن تدركوا ذلك، ولن تصلوا إلى شيء.

فقالت «إلهام» في ثقة: الصباح قادم … وسيراكم الناس في وضح النهار … حتى يتأكدوا من حقيقة الجن الذي سرق أموالهم، وأدخل الرعب في قلوبهم.

كان الرجل الآخر قد بدأ يسترد وعيه ويتأوه، ثم نظر وقال: أين أنا؟ آه! رأسي … فقال له صاحبه: رأسك … قل خيبتك … ألا تستحي؟ ألا تخجل من نفسك؟ امرأة تهينك كل هذه الإهانة؟

نظر الرجل إليه وقال له: قل لنفسك … ولماذا أنت هنا؟ ومن فعل بك هذا؟ أليست هذه المرأة؟

فصاحت «إلهام»: اسكتا … ألا زالت عندكما القابلية للكلام، أو للحياة؟ إن الشر يجري في عروقكم جميعًا كالدم تمامًا … لقد آن الأوان لأن يستريح الناس في هذه القرية.

نظر الشياطين إلى بعضهم عند المدخل الشمالي للمقبرة، ثم بدءوا ينقلون خطواتهم إلى داخل المقبرة، كان الصمت يطبق على المكان والرهبة تحيط به.

ضغط «فهد» على زر جهاز اللاسلكي ليتصل ﺑ «أحمد»: «من «ش. ك. س» إلى «ش. ك. س» لقد دخلنا الميدان … هل هناك تعليمات؟»

رد «أحمد»: من «ش. ك. س» إلى «ش. ك. س» اتجه إلى مصدر الضوء بحذر.

كان «أحمد» يقصد الضوء الذي كان ينبعث من المقبرة أول الليل، قبل هجوم العصابة الشرس عليهم.

اندفع «أحمد» ومَن معه يتنقلون بين المقابر العالية في حذر … إنها تشبه البيوت تمامًا … بأبوابها الحديدية وأسوارها العالية …

تقدم «أحمد» ومَن معه داخل المقابر ما يقرب من عشرين مترًا … ثم همس لمن معه: فلنتحرك الآن … ولم يتقدم خطوة حتى سمع صوتًا خشنًا من الخلف يأمره بالتوقف: مكانكم … إياكم أن تتحركوا، ألقوا ما في أيديكم.

استدار «أحمد» فرأى شبحين يقفان خلفهم، وبأيديهما بنادق موجهة إلى رءوس «أحمد» وزميليه، أضاء أحدهما بطارية في وجه «أحمد» ومَن معه … ثم قال: هنا ستكون أحسن نهاية … ولن نخسر شيئًا … فالمقابر جاهزة … ثم قال لزميله: أوثقهم في هذا الحبل.

لم يكد الرجل يتقدم خطوة واحدة، حتى وجد ماسورة بندقية في رأسه، وصوتًا يأمرهما بإلقاء السلاح: إياكما أن تتحركا … اتركا السلاح على الأرض.

تقدَّم «أحمد» وأخذ البطارية من الرجل، ثم وجه الضوء إلى حامل البندقية الذي حضر في الوقت المناسب، فوجده عم «سيد» الفوال، فدُهش من المفاجأة وقال عم «سيد» الفوال: نعم … إنني لم أنم … هيا تحركوا …

أمسك «أحمد نعمان» بالحبل، وأوثق الرجلين جيدًا، ثم كمَّم أفواههما بالمناديل … وقال عم «سيد» الفوال: اتركوهما لي … نريدهما أحياء … حتى يراهما أهل القرية كلها.

واصل الشياطين تحركهم، وعم «سيد» يتتبعهم ببصره حتى اختفوا.

اقترب الشياطين من نقطة الصفر، وفتح «أحمد» الجهاز ليتأكد من وجود زملائه قريبين، «من «ش. ك. س» إلى «ش. ك. س» حدِّد لي مكانك من نقطة الصفر.» وفتح الجهاز ليستقبل الرد لكنه سمع أصواتًا غريبة تصل إلى سمعه … يبدو أن «فهد» ومَن معه وقعوا في المصيدة.

قال «أحمد»: تحركوا بسرعة … لا بد أن ندركهم قبل حدوث شيء. «بو عمير» خُذ طريق الغرب، ثم اتَّجِه شمالًا من خلف هذه المقابر الثلاث، وأنا سأدور من هنا، وسنتقابل في الطريق المقابل … والصديق «أحمد» يتسلل من الوسط.

تحرك «أحمد» ومَن معه في شكل نصف دائرة، حتى اقتربوا من مصدر الأصوات … وما إن رأى رجال العصابة «أحمد» يقترب حتى صاح أحدهم: مكانك … ألقِ سلاحك وإلَّا فسأمزقك. كان «بو عمير» قد وصل إليهم ووقف خلفهم على بُعد خطوات، وقال لهم بصوت قوي: إياكم أن يتحرك واحد منكم، سأضرب في الحال.

كان الصديق «أحمد نعمان» قد ظهر من بين المقابر، وماسورة البندقية موجهة إلى أفراد العصابة الثلاثة الذين وقفوا في حيرةٍ ودهشة.

انحنى «مصباح» ليتناول مسدسه من على الأرض، وأثناء اعتداله ضرب أحد أفراد العصابة بقبضته، فتأوَّه بصوتٍ مرتفع.

فضربه مرة أخرى، وقال له: اخفض صوتك حتى لا تزعج الأموات.

ثم دفعه مع زميله إلى جوار حائط إحدى المقابر … وفي سرعة البرق، كانت طلقة تشق ظلام الليل وسكونه تحدث ضجيجًا في أعلى المقبرة … فخفض الشياطين رءوسهم، ثم اندفع الرجال الثلاثة محاولين الهرب، فوضع «أحمد» قدمه أمام أحدهم فانكفأ على وجهه فسقط، وسقط الآخران فوقه، فهجم عليهم الشياطين وضربوهم … ثم تحولت المقبرة فجأةً إلى ساحةٍ حربية، الرصاص يطيش فيها، والشرر يتطاير فوق المقابر … أسرع الشياطين بشد وثاق الرجال الثلاثة بأكمام الجلاليب، ثم دفعوهم إلى إحدى المقابر، ودفعوا الباب الحديدي بقوة، وأدخلوهم موثقين، ورموهم على الأرض، ثم أغلقوا الباب عليهم.

ثم قال «أحمد» لبقية الشياطين: لقد أوشكنا على الوصول إلى نقطة الصفر … لقد اقتربنا من مقرهم … يجب أن ننتشر كما كنا … ثم نُطبِق عليهم.

كانت طلقات الرصاص لا زالت تدوي هنا وهناك … وافترق الشياطين إلى مجموعتَين، كما عبر «أحمد» ورفاقه طريقًا ضيقًا بين المقابر، ثم التصق بجدار مقبرة وهو يخطو بحذر، لم يكد يمشي عِدَّة خطوات، حتى سمع صوت فرقعة هزَّت سكون المقبرة، والتفت في اتجاه الصوت، فوجد كُرةً نارية مقبلة تجاههم في سرعة البرق، فصاح «أحمد»: احترس يا «أحمد».

لكن الكُرة النارية كانت قد اصطدمت بكعبه، فصرخ «أحمد نعمان» من الألم، وارتمى على الأرض … وكانت أضواء الكرة النارية قد كشفت أماكنهم، فتوالت عليهم طلقات الرصاص.

قال «بو عمير»: لقد حدَّدوا أماكننا بأسرع مما توقعنا … وما العمل الآن؟

قال «أحمد»: سنترك الصديق «أحمد» بجوار هذا الحائط … وسنتجه إليهم الآن حتى لا تفشل الخطة … ويضيع كل شيء.

زحف «أحمد» و«بو عمير» حتى وصلا إلى سور منخفض، وقاما ليتسلقا السور … لكنهما وجدا أنفسهما أمام رجل ضخم، فرفع «أحمد» يده وصوَّب له ضربةً سريعةً تدحرج على أثرها، ثم قفز «أحمد» و«بو عمير» فوق ظهره … حينئذٍ رأى أحمد إضاءةً تنبعث من مكانٍ قريب، فأومأ له «بو عمير» الذي فهم الإشارة، وظل رابضًا فوق ظهر الرجل، بينما سار «أحمد» على أطراف أصابع قدميه، حتى وصل قريبًا من مصدر الضوء … فوجد مقبرةً كبيرةً لها دهليز واسع، وسمع غمغمة أحاديث … انحرف «أحمد» جانبًا واسترق النظر، فوجد شيئًا كبيرًا أسود اللون يتوسط الدهليز … وأشباح أشخاص تروح وتجيء في داخل المقبرة.

تأكد «أحمد» أن هذا هو المقر الرئيسي للعصابة … لكنه لم يلاحظ وجود حراسة بالقرب من المقر، فتأكد أنهم ينتشرون في المقبرة … وخشي أن يكون «مصباح» ومَن معه قد حدث لهم مكروه … لكنه أحس بحركة خفية قريبة منه … وأصابته الدهشة حين رأى الشياطين الثلاثة في الممر المقابل له.

رفع «أحمد» صوته لكي يسمع «مصباح» صوت البومة … فيطمئن لوجوده … ووصلت الإشارة … فأسرع «فهد» إلى مصدر الصوت، فوجد «أحمد» ملتصقًا بأحد الجدران يراقب الممر.

قال له «أحمد»: استمر دون توقف … أريدكم أن تصلوا إلى المقر من الخلف … وقل ﻟ «مصباح» يصعد أعلى المقر … سنحتاج إليه في الهجوم.

استمر الشياطين الثلاثة في التقدم، وصعد «مصباح» بهدوء وخفة على ظهر «فهد»، وصعد على ظهر المقبرة، وظل رابضًا … وأقبل «فهد» مِن جهة، و«قيس» مِن الجهة الأخرى.

وجرى «أحمد» إلى «بو عمير»، وأمسك بيده متجهًا إلى المقر … بعدما ترك الرجل فاقدَ الوعي، إذِ اصطدمت رأسه بقطعة حجر وهو يهوي على الأرض.

كان ضوء الفجر قد بدأ يغزو الأفق … وأصبح الشياطين أخيرًا حول مقر العصابة … لكنه لا يزال مجهولًا، فلا أحد يدري مَن بداخله؟ وكم عددهم؟ ولا مَن الذي يقذف هذه الكرات النارية؟ وهذه الأشعة الجهنمية، من أين تنطلق؟ وهل لا زالت هناك أماكن أخرى للعصابة؟ أم أن هذا هو المقر الوحيد؟

كل هذه الخواطر دارت بفكر «أحمد» وهو يتجه مع «بو عمير» إلى المقر، وحين أصبح على بُعد عدة أمتار قليلة من المقبرة الجهنمية، أطلق رصاصة في الهواء، وصرخ بقوة: اخرجوا فورًا وسلموا أنفسكم قبل أن نفجِّر المكان.

مرت لحظات … ثم سمع الشياطين صوتًا مرعبًا يقهقه، ثم قال: أأنتم جادُّون يا بني أم أنكم تلعبون؟

قال «أحمد» في ثقة: أمامكم ثلاث دقائق لكي تخرجوا، وإلَّا فسيتحول المكان إلى جحيم.

قال الرجل في سخرية: أمامكم يا بُني خمس دقائق، لكي تخرجوا من هنا فورًا … وإلَّا فلن تخرجوا بعدها أبدًا.

فسدد «أحمد» مسدسه إلى الباب الحديدي، وأطلق رصاصة اصطدمت بأحد القضبان وأحدثت صوتًا مدويًا، وقال في قوة: نحن لا نلعب أيها اللص الغبي … لقد مرَّت دقيقة.

قال الرجل وهو يستدير للخلف: وهو كذلك.

ثم فجأة، انطلقت أحزمة من الأشعة الجهنمية من الداخل، واصطدمت بالباب الحديدي، فتحول إلى لون أحمر مشع مخيف.

تراجع «أحمد» و«بو عمير» واحتميا بالحائط … ثم قال «أحمد»: أعتقد أن خروجهم من هذا المكان ليس بهذه السهولة … لا بد من مغامرة … قبل أن نُصبِح الضحيَّة.

أخرج «أحمد» جهاز اللاسلكي، وفتح موجة الاتصال مع «فهد»: من «ش. ك. س» إلى «ش. ك. س» ابدأ الهجوم من أعلى … ليُلقِ «مصباح» قنبلةَ دُخان … ابدأ التنفيذ فورًا.

لحظات، وكان الانفجار قد دوى في دهليز المقر، وامتلأ المكان بدُخان كثيف … لكن أحدًا لم يخرج، ولم يحدث تغيير في الموقف.

قال «أحمد»: يبدو أن لديهم استعدادات ضخمة لمواجهة أي هجوم … وإن لم نسارع بعمل شيء، فسنقع في مصيدة لا مثيل لها.

حاول «أحمد» جاهدًا رؤية المكان من خلال الدخان، وأخذ يحدد مكانًا يقفز إليه من خلف البوابة الحديدية، لكنه لم يتبين شيئًا … بل رأى الظلام يتحول فجأة إلى نهار ساطع، حين رأى الكُرات النارية تتجه في كل ناحية … إلى الباب، ثم أعلى الدهليز … وأصبحت إصابة الشياطين وشيكة الوقوع … حينئذٍ قال «بو عمير»: لا بد من تغيير الخطة فورًا … أخرج الجهاز، وكلم «فهد» أن ينسحب فورًا … وأمره أن يبتعد عن المقر، ويختبئ خلف إحدى المقابر هو ومن معه … لا بد من تفجير مقر العصابة. جاءت الإشارة إلى «أحمد» أن الشياطين ابتعدوا عن المقر … أمر «أحمد» «بو عمير» أن يتأخر عند السور المنخفض، وسيلحق به بعد إلقاء القنبلة داخل دهليز المقر.

كان الجو ساكنًا للحظات، ثم تحول السكون إلى فزع، واهتزت المقبرة من جراء الانفجار، وأشرقت الشمس من مقر العصابة … حيث انهار السور، وسقطت البوابة الحديدية، وتناثرت في الجو أشياء مشتعلة حولت الظلام إلى نهار ساطع.

ثم بدأت الأشباح تخرج من بين الأشعة وتجري، والشياطين يتلقفونهم واحدًا بعد الآخر، ثم رأى الشياطين بعض الأهالي قد حضروا يشاهدون هذه المعركة الرهيبة … فهذه أول ليلة ينام فيها الناس دون حرائق … أو إرهاب لأحدٍ من أهل القرية … وكلما جرى رجلٌ من أفراد العصابة، قال بعض الأهالي للشياطين: اتركوه لنا … نحن أحق به …

ووقف الشياطين الخمسة حول المقر، وهم مصوِّبون المسدسات تجاه ما تبقى من هيكل مقر العصابة … حتى انتشر ضياء الصبح في الأفق … وانكشف الظلام عن المقبرة … رغم ألْسِنَة الدخان التي تنبعث من مقر العصابة.

وكان بعض الأهالي قد حمل «أحمد نعمان» وذهبوا به إلى منزله … فوجدوا ثلاثة رجال من أهل القرية موثقين في منزله … فأحضروهم معهم في وثاقهم إلى حيث يتجمع الأهالي خارج المقبرة، وتدافع الناس إلى المقبرة، وانهالوا على مقر العصابة هدمًا وتحطيمًا، وأخرجوا منه الأشياء التي كانوا يستخدمونها في إرهاب الناس وتعذيبهم وسرقتهم … وقد أخرجوا من تحت الأنقاض قاذف كرات اللهب … أما جهاز الأشعة الجهنمية فقد تحوَّل إلى قطعة فحم كبيرة … وجاء رجالٌ يجرُّون قاذفَ كرات اللهب التي كثيرًا ما أحرقت بيوتًا، وحطمت محلات، وشرَّدت كثيرًا من الناس، وخربت منافع.

كان الشياطين الخمسة غير مقتنعين أن هذا كل ما في الموضوع، بل هناك أشياء لم تظهر بعد … اقترب الشياطين أكثر، وساروا فوق ما تبقَّى من مقر العصابة، فلاحظ «قيس» شيئًا غريبًا، أن كتلةً من الجدران المتهدمة، تسد سردابًا مؤديًا لأسفل المقر تحت الأرض … أشار «قيس» ﻟ «أحمد» فجأة، وجلس على ركبتيه … ثم نظر … وقال: يجب أن نرفعها بحذر … واحترسوا من داخل السرداب.

أشار «أحمد» إلى بعض الرجال الواقفين طلبًا للمساعدة في رفع الكتلة … فجاءوا بحبل، وألقوه حولها، ثم جذبوها بقوة، وطرحوها بعيدًا عن السرداب.

كان الشياطين الخمسة يُحيطون بفتحة السرداب، ومسدساتهم مصوَّبة ناحيتها … لقد كان يتصاعد منها بقايا دخانٍ خفيف وغبار … ثم كانت دهشة الحاضرين حين رأوا أربعة أشخاصٍ يخرجون من تحت الأرض رافعين أيديهم مستسلمين … ووجوههم كالحة وملابسهم رثَّة، وملامحهم توحي بالشر والقسوة. اندفع رجال القرية نحوهم، وأوثقوهم بالحبال، وانهالوا عليهم ضربًا، وساقوهم أمامهم خارج المقبرة، حيث استيقظ بقية أهل القرية.

هبط «أحمد» السرداب بالبطارية، وغاب دقائق ثم صعد، ونظر إلى الشياطين وغمز بعينيه، ثم قال: هنا بنكٌ تموِّله دولة … ماذا سنصنع الآن؟

نظر الشياطين بعضهم إلى بعض … ثم قال «بو عمير»: لو تركنا لهم الأموال فلن يُحسنوا التصرف فيها … لا بد من استدعاء الشرطة.

قال «أحمد»: القرية ليس فيها جنديٌّ واحد … لذا عربد فيها الأشرار … إلَّا إذا كنت تقصد شرطة المركز.

هزَّ الشياطين رءوسهم بالموافقة … وقبل أن يتحركوا دفعوا بالكتلة مرةً أخرى فوق السرداب، حتى يبقى كما هو لحين وصول الشرطة.

أشار «أحمد» من بعيدٍ لعم «سيد» الفوال، الذي كان لا يزال يحمل البندقية، وطلب منه استدعاء شرطة المركز لاستلام المجرمين ومعاينة المكان.

رفض عم «سيد» أول الأمر؛ لأنه يرى أن يكون هؤلاء عبرة لأهل القرية، يطوفون بهم في الشوارع، حتى يتبين للناس حقيقة الجن والسحرة المزيفين. وأمام إصرار «أحمد»، وافق على طلب الشرطة … مع تنفيذ رغبة رجال القرية، فأوثقوهم في قاذف كرات اللهب من الناحيتين، وتركوا أربعةً منهم يسيرون على الأرض موثوقي الأيدي، وربطوا حبلًا في قاذف كرات اللهب.

كان معظم أهل القرية في حالة دهشة بالغة، لم يصدقوا ما تراه أعينهم، كأنه حلم، أربعة عشر رجلًا يثيرون فيهم كل هذا الفزع والرعب، كل هذا النهب والسرقة يصنعه هؤلاء القلَّة … لقد أحسَّ كثيرٌ منهم بالخجل؛ لأنهم صدَّقوا أسطورة الجن الذي يسكن القرية، وصدقوا أكاذيب انتشرت بينهم عن غضب الجن … لكن من الذي نشر هذا وأذاعه؟

ساق الرجال قاذف اللهب وعليه الأشرار، والأطفال يقذفونهم بالحجارة، ويزفونهم بألفاظ نابية، تحمل معنى الغيظ والنقمة عليهم … وارتفعت أصواتٌ من بين الجموع، تنادي بالبحث عن «المنجودي» و«زكي» عامل المقهى … فهما من أعوان العصابة … وكانا ينشران الأكاذيب بين الناس، وانطلق الموكب إلى مقهى الشعب، وبيت «المنجودي»، وكلما مروا في شارع ازدادت كثافة الناس، حتى وصلوا إلى سيارة «المنجودي»، فحطموا زجاجها وقلبوها على قارعة الطريق … فقد هرب «المنجودي» و«زكي» في الليل.

كانت المقبرة قد خلت تمامًا من أهل القرية، ولم يبقَ إلَّا الشياطين الخمسة، وعم «سيد» الفوال ومعه رجلان … سار «أحمد» إلى عم «سيد» الفوال، وقال له: يجب أن يبقى أحد هنا، حتى تأتي الشرطة لعمل المعاينة.

فقال عم «سيد» الفوال: أنا سأبقى هنا.

رد «أحمد»: لا يجب أن تبقى وحدك … لا بد أن يكون معك أحد.

قال الرجلان: لن نفارق المكان حتى تأتي الشرطة.

نظر «أحمد» إلى الرجال الثلاثة وقال: إنَّ وجودكم مهمٌّ جدًّا؛ فنحن سننطلق الآن إلى منزل «أحمد نعمان»، لكي نطمئن عليه، ونهيئ حاجياتنا. لقد فعلنا ما يجب علينا … وانتهت أسطورة الجن من قريتكم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤