الفصل الحادي عشر

قطوف من كتاب «الفن» لكلايف بِل

إن نقطة البدء في كل نسقٍ إستطيقي ينبغي أن تكون هي الخبرة الشخصية بانفعالٍ خاص، ونحن نُطلِق على الأشياء التي تُثير هذا الانفعال اسم «الأعمال الفنية» works of art، ويتَّفق كل ذي حس مُرهَف من الناس على أنَّ هناك انفعالًا خاصًّا تُثيره الأعمال الفنية، ولستُ أَعني بطبيعة الحال أن كل الأعمال الفنية تثير نفس الانفعال؛ إذ، على العكس، يولِّد كل عملٍ من أعمال الفن انفعالًا مختلفًا، غير أنه من الممكن إدراك أن هذه الانفعالات جميعًا هي من نفس الصنف، وعلى أيَّة حال فالرأي الأرجح حتى هذا الحد هو في صفِّي. إن هناك صنفًا معينًا من الانفعال تُثيره الأعمال الفنية البصرية، وهو انفعال يُثيره كل نوع من الفن البصري: الصور وأعمال النحت والمباني والجرار وأعمال الحفر والنسيج، وأعتقد أن هذا شيء لا يُماري فيه أي شخص لديه القدرة على أن يحسَّ هذا الانفعال، ويطلق على هذا الانفعال «الانفعال الإستطيقي» aesthetic emotion، ولو أمكنَنا أن نكتشف صفةً ما مشتركة ومميزة لجميع الأشياء التي تُثير هذا الانفعال نكون قد ظفرنا بحل لما أعتبره المُشكلة المركزية في الإستطيقا، أي نكون قد وقَفنا على الصفة الجوهرية في العمل الفني، تلك الصفة التي تُميِّز الأعمال الفنية عن جميع الفئات الأخرى من الموضوعات.
ذلك أنه لو لم تكن للأعمال الفنية صفة مشتركة تشملها جميعًا، لكان حديثنا عن «الأعمال الفنية» لغوًا وثرثرة، كلنا يتحدَّث عن «الفن» واضعًا بذلك تصنيفًا ذهنيًّا يفرق به بين فئة «الأعمال الفنية» وجميع الفئات الأخرى، فما هو المُبرِّر العقلي لهذا التصنيف؟ وأيًّا ما كانت هذه الصفة فممَّا لا شك فيه أنها كثيرًا ما توجد مصاحبةً لصفاتٍ أخرى، غير أن هذه الصفات عرضية بينما الصِّفة التي نلتمسها جوهرية، لا بد أن هناك صفة مفرَدة محدَّدة لا يُمكن أن يوجد بدونها عمل فني، وإذا حاز عليها أي عمل فستكون له بعض القيمة على أقل تقدير، فما هي هذه الصفة؟ ما الصفة التي تَشترك فيها جميع الأشياء التي تثير انفعالاتنا الإستطيقية؟ ما الصفة التي تجمع بين كنيسة القديسة صوفيا، والنوافذ في كاتدرائية شارتر، والنحت المكسيكي، والآنية الفارسية، والسجاد الصيني، وجداريات جوتو الجصِّية في بادوا، وروائع بوسان وبييرو دلا فرانشسيكا وسيزان؟ يبدو أن ليس هناك سوى جواب واحد مُمكن، هو «الشكل ذو الدلالة» (الشكل الدال) Significant Form، ففي كلٍّ منها فإن الخطوط والألوان إذ تتضامُّ بطريقة معينة، وإن أشكالًا معينة وعلاقات الأشكال، تُثير انفعالاتنا الإستطيقية، هذه العلاقات والحبكات من الخطوط والألوان، هذه الأشكال المحرَّكة إستطيقيًّا، أُطلق عليها «الشكل الدال»، و«الشكل الدال» هو الصفة الفريدة التي تشمل كل أعمال الفن البصري.

•••

تتمتَّع فرضية «الشكل الدال بوصفه الخاصية الجوهرية للعمل الفني» بمزيةٍ تفتقر إليها كثيرٌ من الفرضيات الأكثر شهرةً وإثارة؛ وهي أنها تُسعفنا بالفعل في تفسير أمورٍ كثيرة، كلنا مثلًا نألف لوحاتٍ تُثير اهتمامنا وإعجابنا دون أن تهزَّنا كأعمالٍ فينة، تحت هذه الفئة من اللوحات يندرج ما أسميه «التصوير الوصفي» Descriptive Painting؛ أي ذلك الصنف من التصوير الذي يُستخدم فيه الشكل لا كموضوعٍ للانفعال بل كوسيلةٍ لنقل معلوماتٍ واقتراح عواطف، في هذا التصنيف تدخل البورتريهات١ ذات القيمة السيكولوجية والتاريخية، وتدخل الأعمال الطوبوغرافية واللوحات التي تروي حكايات وتوحي بمواقف، وتدخل وسائل الإيضاح بجميع أنواعها. إن الفرق واضح لنا جميعًا؛ فمَن منا لم يتَّفق له يومًا أن يقول إن هذه أو تلك من اللوحات هي رسمٌ ممتازٌ كوسيلة إيضاح ولكنه لا قيمة له كعملٍ فني؟ هناك بالطبع كثيرٌ من اللوحات الوصفية التي تتحلَّى، فيما تتحلى به، بالشكل الدال، غير أن هناك عددًا أكبر لا يتحلى بذلك. إنها تروقنا وتُطرفنا وقد تُحرِّكنا بمائة طريقة متنوِّعة، عدا أن تحركنا إستطيقيًّا. إنها وفقًا لفرضيتي ليست أعمالًا فنية، فهي لا تمسُّ انفعالاتنا الإستطيقية؛ ذلك لأن ما ينالنا منها ليس الشكل بل الأفكار التي يقترحها الشكل أو المعلومات التي ينقلها.
قلَّما حظيت لوحةٌ بالشهرة أو النجاح الذي حظيَت به لوحة فريث Frith  «محطة بدنجتون» Paddington Station،٢ ومن المؤكد أنني آخر من يَنفس عليها شهرتها ورواجها، ولكَم تريَّثتُ إزاءها وأطلتُ تأملها لأُحلِّل تفصيلاتها الفاتنة وأصوغ لكل منها ماضيًا مُتوهَّمًا ومستقبلًا مستحيلًا، ولكن رغم أنه من المؤكد أن رائعة فريث أو طبعات منها قد غمَرت الآلاف بآمادٍ من المتعة المدهشة والعجيبة، فليس أقل توكيدًا أنها لم تَبثَّ في خبرة أي مُشاهد آنةً واحدةً من النشوة الإستطيقية؛ ذلك وإن اللوحة لتتضمن العديد من الانتقالات اللونية البارعة، وأنها أبعد ما تكون عن أخطاء الرسم. إنَّ لوحة «محطة بدنجتون» ليست عملًا فنيًّا بل وثيقة طريفة ومُسلية؛ فالخطوط والألوان فيها تُستخدم لكي تُردِّد حكايات وتوعز بأفكار وتشير إلى طرائق وعادات عصرٍ من العصور، إنها لا تُستخدم لتبثَّ انفعالًا إستطيقيًّا؛ فالأشكال وعلاقات الأشكال لم تكن بالنسبة لفريث موضوعات انفعال، بل وسائل لاقتراح انفعالات وتوصيل أفكار.

•••

أود ألا يتصور أحدٌ أن التمثيل شيءٌ سيِّئ في ذاته؛ فليس هناك ما يحول دون أن يكون شكلٌ واقعيٌّ ما، وهو مُنتظِم في مكانه كجزء من التَّصميم، مضاهيًا في الدلالة لآخر تجريدي، ولكن إذا كان لشكلٍ تَمثيلي قيمةٌ فبوصفه شكلًا لا بوصفه تمثيلًا، فالعنصر التمثيلي في العمل الفني قد يضرُّ وقد لا يضر، ولكنه دائمًا خارجٌ عن الموضوع؛ ذلك أننا لكي ندرك عملًا من أعمال الفن لا نحتاج إلى أن نأتيَ معنا بشيءٍ من الحياة، أو بمعرفةٍ بأفكارها وشئونها أو بإلفٍ بانفعالاتها؛ فالفنُّ يَنتشلنا من عالم الدأب البشري إلى عالم الوجد الإستطيقي، ونحن في اللحظة الإستطيقية تنقطع أسبابنا بالاهتمامات البشرية، وتتوقَّف تطلعاتنا وذكرياتنا؛ إذ يَشيل بنا الفن فوق تيار الحياة.

إنَّ عالم الرياضيات البحتة المستغرِق في دراساته يعرف حالةً ذهنيةً أعتبرها شبيهةً بذلك إن لم تكن مُطابقة، فهو يشعر إزاء تأملاته بانفعالٍ لا يَنجم عن أي علاقةٍ مدركةٍ بينها وبين حياة البشر، بل ينبع — غير بشريٍّ أو فوق بشري — من قلب علمٍ مجرَّد، وربما يذهب بي الظن أحيانًا إلى أن مُدركي الفن ومدركي الحلول الرياضية قد يكونون أكثرَ قربًا وأوثقَ صلةً حتى من ذلك، فأتساءل: قبل أن يأخذنا انفعالٌ إستطيقي تجاه تجمعٍ من الأشكال، تُرانا ندرك بالفكر صواب هذا التجمُّع وضرورته؟ فإن صح ذلك فهو حريٌّ أن يُفسر واقعة أننا إذ نمر سراعًا خلال غرفةٍ فنحن نميِّز جودةَ إحدى اللوحات، رغم أننا لا نستطيع أن نقول إنَّها أثارت فينا انفعالًا كبيرًا، فيبدو أننا نكون قد تبيَّنا بالفكر صواب الأشكال باللوحة دون أن نتريَّث لنركز انتباهنا ونقبض على دلالتها الانفعالية كيفما كانت، فإذا كان الأمر كذلك فإن لنا أن نتساءل ما إذا كانت الأشكال ذاتها هي ما أدَّى إلى الانفعال الإستطيقي أم إدراكنا لصواب الأشكال وضرورتها؟ ولكن لا أظن أني بحاجة إلى أن أطيل الوقوف هنا لاستقصاء هذه المسألة، لقد كنت بصدد البحث عن سبب انفعالنا بتجمُّعات معينة من الأشكال، وما كنت لأُستدرج إلى مسالك أخرى لو أنني تساءلت بدلًا من ذلك: لماذا تُدرك تجمعاتٌ معينة كصوابٍ وضرورة، ولماذا يُطربنا إدراكنا لصوابها وضرورتها؟ والجواب عندي هو هذا: إن الفيلسوف المُستغرِق، وذلك الذي يتأمل عملًا من أعمال الفن، كلاهما يستوطن عالَمًا ذا دلالة كثيفة وخاصةً، دلالة لا شأن لها بدلالة الحياة. في هذا العالم لا محلَّ لانفعالات الحياة؛ إنه عالم له انفعالاته الخاصة به وحده.

•••

ليس من المُستغرَب على الإطلاق أن هناك عنصرًا تمثيليًّا أو وصفيًّا خارجًا عن الموضوع في الكثير من الأعمال الفنية العظيمة، وسوف أحاول في موضع آخر أن أبين لماذا هو غير مستغرب. إنَّ التمثيل ليس مُوبقًا بالضرورة، وليس هناك ما يمنع أن تكون بعض الأشكال البالغة الواقعية هي أشكالٌ بالغة الدلالة، إلا أنه في أغلب الأحوال يكون التمثيل علامة ضعفٍ في الفنان، فمن دأب الفنان الذي لا يَقوى على خلق أشكالٍ قادرة على إثارة انفعالٍ إستطيقي كبير أن يتحايل على ضآلة ما يُثيره باللجوء إلى انفعالات الحياة، وهو لكي يُثير انفعالات الحياة فلا بد له أن يستخدم التمثيل؛ مثال ذلك أن يشرع رسامٌ في تنفيذ مخططه، ولأنه يخشى أن تَحيد رميته الأولى عن إصابة شكلٍ جمالي فسوف يُحاول الإصابة بالثانية بأن يوقظ انفعالًا بالخوف أو الشفقة، ولكن إذا كان الميل إلى العزف على عواطف الحياة لدى الفنان هو علامة على خَبو الإلهام في كثير من الأحوال، فإن ميل المُشاهد إلى التماس عواطف الحياة وراء الشكل هو علامة على قصور الحساسية في جميع الأحوال؛ فهو يعني أن انفعالاته الإستطيقية ضعيفة أو غير تامة على كل حال، فإزاء العمل الفني يشعر الأشخاص الذين لا يَنفعلون بالشكل الخالص إلا قليلًا، أو لا ينفعلون على الإطلاق، بالحيرة الشديدة؛ فهم أشبه بالصم في حفل موسيقي. إنهم يعرفون أنهم ينبغي أن يشعروا إزاء هذا الشيء بانفعالٍ هائل، غير أن الصنف الخاص من الانفعال الذي يُمكن أن يثيره فيهم هو شيء يُحسُّونه بالكاد أو لا يحسونه على الإطلاق، وهكذا يقرءون في أشكال العمل تلك الوقائع والأفكار التي يَملكون القدرة على أن يشعروا بها؛ وهي الانفعالات المألوفة في الحياة، وعندما يُواجَهون بإحدى اللوحات فهم يردُّون أشكالها تلقائيًّا إلى العالم الذي أتوا منه، فهم يُعامِلون الشكل المبتكَر كما لو كان شكلًا مقلدًا، ويعاملون اللوحة كما لو كانت صورة فوتوغرافية، وبدلًا من أن يترحَّلوا على تيار الفن إلى عالمٍ جديد من الخبرة الإستطيقية، فهم يُولُّونه أظهرهم ويعودون أدراجهم إلى عالم الاهتمامات البشرية. إنَّ دلالة العمل الفني بالنسبة لهم تتوقَّف على ما يجلبونه له؛ ولذلك لا يُضيف الفن شيئًا جديدًا إلى حياتهم، إنْ هي إلا المادة القديمة قد أثيرت. إنَّ العمل الفني الجيد ليَحمل الشخص القادر على تذوُّقه ويَخرج به من الحياة إلى الوجد، واستخدام الفن كوسيلةٍ إلى انفعالات الحياة هو مثل استخدام تلسكوب لقراءة جريدة، وسوف تُلاحظون أن الأشخاص الذين لا يقدرون على الشعور بانفعالات إستطيقية خالصة يتذكَّرون اللوحات بموضوعاتها، أما القادرون فكثيرًا ما لا تكون لهم أي فكرة عما يكونه موضوع لوحةٍ ما؛ ذلك أنهم لم يُعيروا العنصر التمثيلي انتباهًا قط؛ ومن ثم فحين يُناقشون اللوحات الفنية فهم يتحدَّثون عن الهيئة التي تتَّخذها الأشكال، وعن علاقات الألوان وكمياتها، وكثيرًا ما يكون بإمكانهم أن يَحكُموا من خلال خطٍّ واحد ما إذا كان الفنان قديرًا أو غير قدير. إنَّ اهتمامهم بكامله مُنصبٌّ على الخطوط والألوان وعلاقاتها وكمياتها وكيفياتها، غير أنهم من خلال هذه الأشياء يظفرون بانفعالٍ أكثر عمقًا وأكثر جلالًا بكثير من أي شيء يمكن أن يمنحه وصف الوقائع والأفكار.

•••

يا لِرَداءة حالتي الذهنية المعتادة حين أكون في حقل موسيقي، ضَجِرًا كنتُ أو محيَّرًا فإنني أدع إحساسي بالشكل يُفلِت مني، وأفشل في فهم التآلفات الهارمونية فأظل أنسج بها أفكار الحياة، وأعجز عن الشعور بالانفعالات الصارمة للفن فأظل أقرأ في الأشكال الموسيقية عواطفَ بشرية من رعبٍ وغموض وحب وكراهية، وأُنفق اللحظات — مستمتعًا إلى حدٍّ مُرضٍ — في عالمٍ من المشاعر الآسنة المُتدنية، فلو أن نُتَفًا من أبشع ضروب التمثيل الأونوماتوبي٣ قد أُقحمت داخل السيمفونية في هذه اللحظات، لما تأذَّيت، بل الأرجح جدًّا أنني سأبتهج لها وأُسر، فهي حرية أن تقدم لي منطلقاتٍ جديدةً لتيارات المشاعر الرومانسية والتفكير البطولي. إنَّني أدري تمامًا ما الذي حدث؛ لقد كنتُ أتخذ الفن سبيلًا إلى انفعالات الحياة وأقرأ فيه أفكار الحياة. لقد كنت أقطع جلاميد صخرٍ بموسى حلاقة، لقد تردَّيتُ من الذُّرى العالية للنشوة الإستطيقية إلى السفوح الحميمية للحياة البشرية الدافئة. إنها وطنٌ بهيج، ولا يَخجلن أحدٌ من إمتاع نفسه هناك، كل ما في الأمر أنَّ من عرف يومًا عز الأعالي فعسيرٌ عليه ألا يَستشعر في الأودية الدافئة شيئًا من الهوان، ولا يتصورنَّ أحدٌ، لمجرَّد أنه قد جعل يمرح حينًا في أرض الرومانسية الذلول الدافئة وأركانها الطريفة، أنَّ بإمكانه حتى أن يحرز بما تكونه المواجيد الصارمة والمثيرة لأولئك الذين ارتقوا القمم البيضاء الباردة للفن.

•••

ولكن رغم أن أصداء الفن وظلاله تُثري حياة السهول فإن روحه تسكن أعالي الجبال. إن من يتودَّد إلى الفن ودًّا مشوبًا فحسب، فإنَّ الفن يرد له صنيعه مضاعفًا؛ فالفن كالشمس تُدفئ البذرة الصالحة في تربة صالحة وتُتيح لها أن تؤتي ثمارًا صالحًا، ولكن وحدَه العاشق الكامل من يَذخر له الفن هديةً عجيبةً جديدة — هدية فوق كل ثمن. إنَّ أصحاب الود المَمذوق يَجلبون إلى الفن ويغنمون منه أفكار عصرهم الخاص وعواطف حَضارتهم، فلعلَّ امرءًا في أوروبا القرن الثاني عشر قد تأثَّر غاية التأثُّر بكنيسة رومانسكية بَينا لم يجد شيئًا في إحدى لوحات أسرة تانج، ولعلَّ النحت الإغريقي كان يَعني الكثير لامرئ من عصرٍ لاحق في حين لا يُحرِّك النحت المكسيكي فيه ساكنًا؛ إذ كان بمقدوره أن يَجلب للأول حشدًا من الأفكار المتداعية لتكون موضوعات لانفعالات مألوفة، أما العاشق الكامل، ذلك الذي يَملك الشعور بالدلالة العميقة للشكل، فإنه يَربأ فوق عوارض الزمان والمكان. إن مشكلات الأركيولوجيا والتاريخ وسير القدِّيسين هي بالنسبة إليه أمرٌ خارج عن الموضوع، فمتى كان شكل العمل دالًّا أصبح مصدره غير ذي صلة، إنه محمولٌ أمام جلال تلك الصور السومرية في اللوفر على نفس التيار الانفعالي وإلى نفس النشوة الإستطيقية التي كانت تحمل العاشق الكلداني منذ أربعة آلاف عامٍ خلَت. إنَّ آية الفن العظيم أن جاذبيَّته عالميةٌ خالدة، فالشكل الدالُّ يبقى مشحونًا بالقدرة على إثارة انفعال إستطيقي في أيما شخص قادر على الشعور به. إنَّ أفكار البشر لتموت عاجلًا كالجراجس٤ وتذهب أدراج الرياح، وإن البشر ليُبدلون مؤسساتهم ويُغيرون عاداتهم مثلما يغيرون سُتراتهم، فما كان يُعد نصرًا فكريًّا في عصرٍ يُعد حماقةً في عصرٍ آخر، وحده الفن العظيم يبقى ثابتًا لا يذهب بهاؤه؛ لأن المشاعر التي يوقظها مستقلةٌ عن الزمان والمكان؛ ذلك أن مملكة الفن ليست من هذا العالم، فماذا يهمُّ بالنسبة لأولئك الذين يملكون حسًّا بدلالة الشكل إن كانت الأشكال التي تحركهم قد أُبدعَت في باريس أمس الأول أم في بابل منذ خمسين قرنًا؟ إن أشكال الفن لا تَنضب ولا تُستنفَد، بل تؤدِّي جميعًا عن الطريق نفسه؛ طريق الانفعال الإستطيقي، إلى العالم نفسه؛ عالم الوجد الإستطيقي.

•••

إن «ما بعد الانطباعية» شأنها شأن جميع الثورات الصحيحة، ليست أكثر من عودةٍ وإنابةٍ إلى المبادئ الأولى؛ ففي عالم يتوسم في الرسام أن يكون إما مصورًا فوتوغرافيًّا وإما بهلوانًا، ينبري الفنان «بعد الانطباعي» قائلًا بأنه فوق كل شيء يجب أن يكون فنانًا، «لا يكن همك التمثيل أو التتميم، النقل أو الصقل، فكِّر في خلق الشكل الدال، فكر في الفن.» هكذا يقول. إن خلق عملٍ فني هو مهمةٌ جسيمةٌ بحيث لا تترك منصرفًا لتصيُّد شبهٍ أو عرض براعة، وكل تقدمةٍ على مذبح التمثيل هي شيءٌ مسلوبٌ من الفن. إن «ما بعد الانطباعية» ليست بحالٍ ذلك الصنف المتعجرف من الثورة كما يَفترض السوقة، بل هي في حقيقة الأمر عودةٌ ومتاب، عودةٌ لا إلى أي تقليد معين في الرسم بل إلى التقليد العظيم للفن البصري. إنها تضع نصب عين كل فنان ذلك المثل الأعلى الذي كان يضعه البدائيون نصب أعينهم، وهو مثلٌ لم يَعُد يتعلَّق به منذ القرن الثاني عشر سوى عدد استثنائي من أهل العبقرية، ليست «ما بعد الانطباعية» سوى إعادة توكيد للوصية الأولى من وصايا الفن: «اخلق الشكل» Thou shalt create form، وهي بهذا التوكيد إنما تُصافح — عبر العصور — البدائيين البيزنطيين وكل حركةٍ حية جاهدَت للبقاء منذ بداية الفن.

•••

إذن، أن نرى الأشياء كأشكالٍ خالصة هو أن نراها كغاياتٍ في ذاتها؛ فرغم أن الأشكال بالطبع مُرتبطة بعضها ببعض كأجزاءٍ في كل، فهي مُرتبطو على قدم المساواة، إنها ليست وسيلة لأي شيء عدا الانفعال، ولكن ألا نَشعُر نحو الأشياء التي نراها كغايات في ذاتها بانفعالٍ أعمق وأكثر إثارةً من أي انفعال سبَق لنا نحوها كوسائل؟ في تصوُّري أننا جميعًا نحظى فعلًا من وقتٍ لآخر برؤيةٍ للأشياء كأشكالٍ خالصة، إننا نرى الأشياء كغاياتٍ في ذاتها؛ أي إننا ننظر إليها — وهو ما يبدو في تلك اللحظات مُمكنًا بل مرجحًا — بعين فنان، من منا لم يَظفر، مرةً في حياته على أقل تقدير، برؤيةٍ مفاجئة لمنظرٍ طبيعي كشكلٍ خالص؟ إنه لم يَنظره في هذه المرة الفريدة كحقولٍ وأكواخٍ، بل أحس به بالأحرى كخطوطٍ وألوان، ألم يظفر من الجمال المادي في تلك اللحظة بهزةٍ لا تُفرق عن تلك التي يَمنحها الفن؟ وإذا كان الأمر كذلك، ألا يتَّضح أنه قد ظفر من الجمال المادي بهزة لا يَقدِر على منحها بصفة عامة سوى الفن، لأنه قد اتَّخذ سبيلًا إلى رؤيتها كتضامٍّ شكلي خالص للخطوط والألوان؟ ألا نمضي قدمًا ونقول إنه إذ رآها كشكلٍ خالص، وبَّرأها من كل ضروب الاهتمام السببي والعارض ومن كل ما يُمكن أن تكون قد اكتسبته من صلاتها ببني البشر، ومن كل دلالة لها كوسيلة، فقد أحسَّ دلالتها كغايةٍ في ذاتها؟

ما هي دلالة أي شيء بوصفه غايةً في ذاته؟ ما الذي يتبقى عندما نجرد شيئًا ما من جميع ارتباطاته؟ ماذا عساه أن يتبقى لكي يُثير انفعالنا؟ ماذا غير ذلك الذي درج الفلاسفة على تسميتِه «الشيء في ذاته» the thing in itself ويسمونه الآن «الواقع النهائي» ultimate reality؟ هل أكون خياليًّا تمامًا إذا اقترحت ما اعتقده نفرٌ من أعمق المفكرين من أن دلالة الشيء في ذاته هي دلالة «الواقع» Reality؟ هل من المحتمل ان يكون جواب سؤالي «لماذا نَطرب كل هذا الطرب لتجمُّعات معينة من الخطوط والألوان؟» هو «لأن بقدرة الفنانين أن يعبروا بتجمعات الخطوط والألوان عن انفعالٍ نحو الواقع يكشف عن نفسه من خلال الخط واللون»؟

•••

يتخيَّل السوقة أن ليس هناك سوى بؤرة واحدة؛ وهي أن «صواب» تعني دائمًا تحقيق تصورٍ دقيق للحياة، وليس بإمكانهم أن يفهموا أنه قد تكون المشكلة المباشرة للفنان هي أن يُعبِّر عن نفسه داخل مربع أو دائرة أو مكعَّب، أو أن يُساوِق توافُقاتٍ هارمونية معينة، أو أن يُوفَّق بين تنافُرات معينة، أو أن يُحقق إيقاعاتٍ معينة، أو أن يقهر صعوباتٍ معينة خاصة بالوسيط medium، وهي مشكلات تقف على قدم المساواة مع مشكلة اقتناص مشابهة، هذا الخطأ يقع في الصلب من النَّقد السخيف الذي جعله الأستاذ شو موضة الكتابة. إن في مسرحيات شكسبير تفاصيل من السيكولوجيا ورسم الشخصيات شديدة الواقعية بحيث تُذهِل الجموع وتسحرهم، ولكن التصور conception، ذلك الشيء الذي نذر شكسبير نفسه لتحقيقه، لم يكن تمثيلًا طبق الأصل للحياة، لا لم يكن خلق الإيهام illusion هو المشكلة التي اتخذها شكسبير قناةً لانفعاله وبؤرةً لطاقاته، لم يكن عالم مسرحيات شكسبير بأي حال من الأحوال شبيهًا بالحياة قدر عالم السيد جولزورثي Galsworthy؛ ومن ثم يحق لأولئك الذين تخيلوا أن مشكلة الفنان يجب أن تكون دائمًا هي تحقيق تطابق بين الكلمات المطبوعة أو الأشكال المرسومة وبين العالم كما يعرفونه؛ يحقُّ لهم أن يَحكموا بأن مسرحيات شكسبير أدنى مستوى من مسرحيات السيد جولزورثي، حقيقة الأمر أن تَحقيق الصدق الواقعي، وهو ليس المشكلة الوحيدة المُمكنة بأيَّة حال، يتنازع هو وتحقيق الجمال (الملاحة) على نيل لقب أسوأ المشكلات المُمكنة. إن التشبُّه بالحياة أمرٌ سهلٌ بحيث إنَّ الاكتفاء به يترك أعلى قوى الفنان الانفعالية والفكرية عاطلة ولا يَستنفِرها أبدًا أو يهيب بها، وبالضبط كما أن المشكلة الإستطيقية شديدة الغموض فإن المشكلة التمثيلية شديدة البساطة.

•••

ما هي إذن زبدة القول في هذا الأمر كله؟ إنها في اعتقادي لا تزيد على هذا، يؤدِّي تأمل الشكل الخالص إلى حالةٍ من النشوة العالية غير العادية وإلى انسلاخٍ تام عن هموم الحياة، عن هموم أثق أنها (وإنني لأتحدث عن نفسي) كثيرةٌ جدًّا. إنَّ من المغري أن نفترض أن الانفعال الذي يُطرَب هو شيءٌ يوصله إلينا من خلال الأشكال التي نتأمَّلها ذلك الفنان الذي أبدع الأشكال، فإذا صح هذا فإن الانفعال الموصل، أيًّا ما كان هذا الانفعال، لا بدَّ أن يكون من ذلك الصنف الذي يُمكن أن يُعبر عنه في أي ضربٍ من ضروب الشكل؛ في لوحات، منحوتات، مبانٍ، آنية، نسيج … إلخ، الانفعال الذي يعبر عنه الفنان إذن يحلُّ في بعض هذه الأشكال؛ ومن ثم فهي تُؤثِّر فينا من خلال فهم الدلالة الشكلية للأشياء المادية، وما الدلالة الشكلية لأي شيء مادي سوى دلالة ذلك الشيء معتبرًا كغايةٍ في ذاته، ولكن إذا كان من شأن موضوعٍ ما إذ يُنظر إليه كغايةٍ في ذاته أن يهزَّنا بعمقٍ أكبر (أي تكون له دلالة أكبر) مما لو نظرنا إليه هو نفسه بوصفِه وسيلةً إلى غايات عملية أو كشيء متَّصل بالاهتمامات البشرية — وهو وجه الأمر بلا شك — فلا يسعنا إلا أن نَفترض أننا متى نتأمَّل أي شيء كغاية في ذاته نُصبح على وعي بتلك الخاصة الأبقى في ذلك الشيء من أي خاصة يمكن قد اكتسبها من دوام صحبتِه ببني الإنسان، وبدلًا من أن نميِّز أهميته العرضية والمشروطة، فنحن نغدو على وعي بواقعه الجوهري، على وعيٍ بالإله في كل شيء، بالكلي في الجزئي، بالإيقاع الذي يغمر الكل، فلتُطلِق عليه ما شئت من أسماء، فالشيء الذي أتحدث عنه هو ذلك الذي يقبع وراء المظهر من جميع الأشياء، ذلك الذي يضفي على جميع الأشياء دلالتها الفردية، الشيء في ذاته، الواقع النهائي، وإذا كان إدراكٌ معينٌ (لاشعوريٌّ تقريبًا) لهذا الواقع الكامن للأشياء المادية هو حقًّا سبب ذلك الانفعال الغريب، ذلك الولوع بالتعبير الذي هو إلهام كثيرٍ من الفنانين، فمن المعقول أن نفترض أن أولئك الذين يُخبرون نفس الانفعال دون عون من الأشياء المادية، قد وصَلوا من طريقٍ آخر إلى البلد نفسه.

تلك هي الفرضية الميتافيزيقية، هل علينا أن نبتلعها كاملة، أو نقبل بعضها، أو نرفضها كليًّا؟ على كل شخص أن يُقرر ذلك بنفسه، فأنا لستُ مصرًّا إلا على صحة فرضيتي الإستطيقية، كما أنني مُتيقِّن من شيء واحد آخر. إنَّ أولئك الذين يبلغون النشوة (الوجد)، وليكونوا فنانين أو عاشقين أو متصوِّفة أو رياضيين، هم أولئك الذين حرروا أنفسهم من الكِبر والغطرسة البشريَّين، فمن شاء أن يُحسَّ دلالة الفن فعليه أن يتَّضع أمامه، أما أولئك الذين يرون الأهمية الأولى للفن أو الفلسفة هي في علاقتهما بالسلوك أو بالنفع العملي، أولئك الذين لا يستطيعون أن يقدروا الأشياء كغاياتٍ في ذاتها، أو كسبيلٍ مباشرٍ إلى الانفعال على أية حال، فما يكون لهم أن يظفروا من أي شيء بخير ما يمكن أن يمنحه، وأيًّا ما كان عالم التأمل الإستطيقي فما هو بعالم المشاغل والأهواء البشرية، إنه عالمٌ لا تسمع فيه لغو الوجود المادي وصخبه، أو تسمعه كمجرد صدى لتوافقٍ آخر أكثر جوهرية.

•••

«ما هكذا الأمر»، كذلك يرد القديسون والفنانون وعقليُّو كمبردج وكل ذي معدنٍ طيب؛ لأنهم يشعرون بأن عواطفهم الدينية والجمالية والأخلاقية ليست مشروطة بشكل مباشر أو غير مباشر بحاجاتٍ جسمية، ولا هي في الحقيقة مشروطة بأي شيء في العالم الفيزيائي. إنهم يحسون أن بعض الأشياء خيرٌ لا لأنها وسائل إلى الهناءة الجسمية، بل لأنها خيرٌ في ذاتها، فليست قيمة النشوة الإستطيقية أو الدينية متوقفةً بأي حال على ما تقدمه من إشباعٍ جسمي، ثمة أشياء في الحياة لا يُمكن لقيمتها أن تتعلق بالعالم الفيزيائي، أشياء قيمتها ليست نسبيةً بل مطلقة، عن هذه الأمور أتحدث بحذرٍ ودون سلطة: ولا يُعوزني في غرضي المباشر — وهو أن أعرض تصوري للشخصية الدينية — سوى أن أقول إنَّ من الناس من يبدو لهم التصور المادي للعالم مفسِّرًا لتلك العواطف التي يُحسونها بيقينٍ أعلى ونزاهةٍ مطلقة، حقيقة الأمر هي أن رجال العلم بعد أن دفعوا بنا إلى عادة محاولة تبرير مشاعرنا وحالاتنا الذهنية بردِّها إلى العالَم الفيزيائي، قد حملوا بعضنا بالترهيب على أن يعتقدوا بأن ما لا يُمكن تبريره بهذه الطريقة فهو غير موجود.

إنني أدعوه دينيًّا ذلك الإنسان الذي يُوقن أن هناك أشياء هي خيرٌ في ذاتها وأن الوجود الفيزيائي ليس من بينها، فيسعى على حساب الوجود الفيزيائي إلى ما يبدو له خيرًا؛ ومن ثم فإن كل أولئك الذين يعتقدون بإخلاص عنيد أن الحياة الروحية أهم من الحياة المادية، هم في فهمي دينيُّون. لقد رأيت في باريس على سبيل المثال رسَّامين صغارًا، مفلسين ضامرين مقرورين مُهلهَلي الثياب، وليست زوجاتهم ولا أولادهم بأفضل منهم حالًا؛ رأيتُهم طيلة يومهم في نشوةٍ محمومةٍ مُنغمِسين في رسم لوحاتٍ لا يؤمَّل لها رواج، ومن الجائز تمامًا أنهم كانوا حريِّين بأن يَقتلوا أو يُصيبوا أي شخص يقترح عليهم التوفيق بين فنهم ومتطلبات السوق، وحين كانت أدواتهم تنفد ورصيدهم ينقطع بالكامل كانوا يبيعون الجرائد خفيةً ويَمسحون الأحذية حتى يُمكنهم أن يواصلوا خدمة ولوعهم المُسيطر. لقد كانوا دينيِّين بامتياز، فجميع الفنانين دينيون، وكل اعتقادٍ عنيدٍ هو اعتقادٌ ديني. إن إنسانًا تملَّكه حب الحقيقة بحيث آثر السجن أو الموت على الاعتراف بإلهٍ لا يؤمن بوجوده، هو إنسانٌ ديني وشهيد في سبيل الدين، شأنه شأن سقراط ويسوع؛ ذلك أنه جعل لقيَمِه معيارًا خارج العالم الفيزيائي.

يقال في مجال الأشياء المادية إنَّ نصف رغيف خيرٌ من انعدام الخبز، لكن الأمر في مجال الأشياء الروحية غير ذلك، إنَّ رجل السياسة سوف يُؤيد مشروع قانونٍ يعرف قصوره إذا ما رأى أن هذا القانون قد يعود بفائدةٍ ما، إنه يُدلي باعتراضاته ثم يُصوِّت مع الأغلبية، وربما يكون تصرُّفه سليمًا، أما في المسائل الروحية فمثل هذه التسويات غير ممكنة. إنَّ الفنان لا يسعه أن يقدم تنازلًا لكي يُرضي الجمهور؛ لأنه إذا فعل ذلك يكون قد ضحَّى بالشيء الذي يجعل للحياة قيمة، فإذا كان عليه أن يكذب ويعبر عن شيء غير ما يشعر به فلن يعود مسكونًا بالحقيقة، وماذا يُجديه أن يربح العالم كله ويخسر روحه الخاص؟ إنه يَعرف أن في دخيلته شيئًا أهم من الوجود الفيزيائي، شيئًا ليس الوجود الفيزيائي إلا وسيلة إليه؛ فوجود احتمالٍ بأن يُحسَّ هذا الشيء ويُعبر عنه يجعل من الخير له أن يتشبَّث بالحياة، ولكنه ما لم يَشعُر بهذا الشيء ويعبر عنه على خير وجه فمِن الأفضل له أن يَموت.

•••

أن نَنقد عملًا من أعمال الفن نقدًا تاريخيًّا هو أن نتصرف بسخفِ مَن أسكره العلم، فلم يحدث قطُّ أن صدر عن دماغ مشعوذٍ نظريةٌ أكثر شؤمًا من نظرية التطور في الفن. إنَّ جوتو لم يزحف، يرقةً، حتى يُرفرف تيتيان فراشة. إن من إساءة الفهم لفن شخصٍ ما أن نَعتبره مؤديًا إلى فن شخص آخر، فإطراء عملٍ فني أو تسفيهه أو الاهتمام به لأنه يؤدي أو لا يؤدي إلى عملٍ فني ثان، هو بمثابة اعتباره شيئًا آخر غير عمل فني؛ فقد تكون للصلة بين عمل فني وآخر شأنٌ كبير بالتاريخ، ولكن هيهات أن يكون لها شأن بالتذوق الفني، فما إن نَشرع في النظر إلى عمل ما دون اعتباره غايةً في ذاته حتى نكون قد غادرنا عالم الفن، فرغم أن التطور في فن التصوير من جوتو إلى تيتيان قد يكون ذا أهمية من الوجهة التاريخية، فما كان له أن يؤثر على القيمة الفنية لأيَّة لوحة معيَّنة، فذاك أمرٌ غير ذي بالٍ على الإطلاق من الوجهة الإستطيقية. إن كل عمل من أعمال الفن ينبغي أن يُقيَّم وفق حالته الموضوعية ودون تأثُّر بأي اعتبارات أخرى.

•••

اعمر الكوكب الموحش بعقلٍ إنساني واحد، يُصبح كل جزء من هذا الكوكب ذا قيمة كامنة كوسيلة؛ لأنه قد يكون وسيلة إلى ذلك الشيء الذي هو خير كغاية؛ أعني حالة ذهنية خيرة. إن الحالة الذهنية لشخص في حالة حبٍّ أو مُستغرِق في التأمُّل تَكفي في ذاتها، فنحن لا نعود نتساءل «أي غرض نافع تُقدمه هذه الحالة، أي شخص تُفيده، وكيف؟» بل نقول بمباشرة واقتناع: «هذا خير.»

•••

حين تَعدُّ أي شيء عملًا فنيًّا، فإنك إذن تقيم حكمًا أخلاقيًّا خطيرًا؛ لأنك بذلك تعدُّه وسيلةً مباشرةً وفعالةً إلى الخير بحيث لا نحتاج إلى أن نُكرث أنفسنا بأي شيء من نتائجه المحتملة، وحتى لو لم يكن الأمر كذلك، فإن عادة إقحام اعتباراتٍ أخلاقيةٍ في عملية الحكم بين أعمالٍ فنية معينة لن يكون لها ما يُبررها، فليُقمِ الداعية الأخلاقي حكمًا على الفن ككل، وليُقيض له ما يرى أنه مكانه الصحيح بين وسائل الخير، ولكن إذا كان المقام مقام أحكامٍ إستطيقية؛ أي أحكام مقارنة بين أعضاء فئة واحدة، أي بين الأعمال الفنية بوصفها أعمالًا فنية، فليُمسِك هذا الداعية لسانه. إنَّ الفن مساوٍ لأعظم الوسائل إلى الخير، ولو ظنَّ الداعية الأخلاقي أن الفن أقل من ذلك بأي شيء فقد أخطأ، ولو سلَّمنا على سبيل الموادعة أن الفن أدنى من بعض هذه الوسائل فسوف أُذكِّره رغم ذلك أن أحكامه الأخلاقية حول قيمة أعمالٍ فنيةٍ معينة لا شأن لها بقيمتِها الفنية، ليس من حق الحكم في إبسوم أن يغمط الفائز في الدربي حقه لمصلحة الحصان الذي جاء قبل الأخير، لا لشيءٍ إلا لأن هذا الحصان هو لأسقف بروجهام كنتربري.

عرِّف الفن كما تهوى، مُؤثِرًا أن يكون ذلك وفقًا لما طرحته من أفكار، وأنزله المنزلة التي تشاء في النسق الأخلاقي، ثم فاضل بين الأعمال الفنية حسب امتيازها بتلك الخاصية أو تلك الخصائص التي وضعتَها في تعريفك باعتبارها الخصائص الجوهرية والمميزة للأعمال الفنية. قد تقيم بالطبع أحكامًا أخلاقية حول أعمالٍ معينة، ليس بوصفها أعمالًا فنية بل بوصفها أعضاءً في فئة أخرى، أو بوصفها أجزاءً مستقلَّة وغير مصنَّفة من العالم، وقد ترى أن لوحة معينة لرئيس الأكاديمية الملَكية هي وسيلة أعظم إلى الخير من إحدى لوحات نادي الفن الإنجليزي الجديد بكل مجده، وأن كعكةً بقرش هي أفضل من الاثنتين، فأنت في مثل هذه الحالة إنما تُقيم حكمًا أخلاقيًّا لا حكمًا إستطيقيًّا؛ ومن ثم سيكون من الصواب أن تأخذ بالاعتبار مساحة القماشة، وسُمك الإطار والقيمة الممكنة لكل منها كوقود أو وقاء من تقلبات مناخنا القاسية، وعليك في عملية جمع الحسابات ألا تغفل آثارهما الممكنة على الكهول الذين يزورون برلنجتون هاوس وصالة عرش سافوك ستريت، وألا تغفل أيضًا ضمائر أولئك الذين يمسون موارد الأوقاف أو أولئك الذين تدفعهم الرغبة في الربح إلى المحاكاة والتقليد؛ إنك عندئذ تقيم حكمًا أخلاقيًّا لا حكمًا إستطيقيًّا، وإذا كنت قد خلصت إلى أن كلتا اللوحتين ليست عملًا فنيًّا، فأنت رغم مظنة تضييع وقتك ستكون بمنأى من السخرية، ولكن حين تتعامل مع لوحة بوصفها عملًا فنيًّا تكون قد أقمت — ربما على نحوٍ لاشعوري — حكمًا أخلاقيًّا أهم بكثير، لقد أدرجتها في فئة من الأشياء تُعد وسائل قوية ومباشرة إلى النشوة الروحية بدرجة تمَّحي إلى جانبها جميع المزايا الصغرى، ورغم المفارقة الظاهرة، فإن الخصائص الوحيدة ذات الصلة بالعمل الفني بوصفه عملًا فنيًّا هي الخصائص الفنية، فنحن إذا خصلنا إلى أن الخصائص الفنية هي وسيلة إلى الخير، فإن أي خصائص أخرى تغدو غير ذات بال، فليس ثمَّة خصائص تفوق الخصائص الفنية من حيث القيمة الأخلاقية، ذلك أن ليس هناك وسيلة إلى الخير أعظم من الفن.

•••

سر الفن البدائي هو سر كل فن، في كل زمان، وفي كل مكان؛ الحساسية للدلالة العميقة للشكل قوة الخلق، لكليهما تَفتقر عصبة الإخوة السعداء؛ ولذا فلا عجب أنهم تعيَّن أن يجدوا المادة في أفعال التقوى وفي الأساطير والرموز، ويَجدوا في الكهنوت الصحيح الجوهر نفسه للفن القروسطي، ومن أجل إلهامهم نظروا إلى الماضي بدلًا من أن ينظروا حولهم، وبدلًا من أن يَغوصوا التماسًا للحقيقة فقد التمسوها على السطح. الحق أن «قبل الرفائيليين» لم يكونوا فنانين بل أركيولوجيين يُحاولون أن يجعلوا الفضول الذكي يقوم بعمل التأمل المشبوب العاطفة، وهم كفنانين لا يختلفون اختلافًا جوهريًّا عن حشد المصوِّرين الفيكتوريِّين، ولسوف يعيدون إنتاج الزخرف البراق للفن القوطي المتأخِّر بالتزامٍ عبودي مثلما يُعيد الأكاديمي الصارم إنتاج نفطات برتقالة، وإذا حاولوا فعلًا أن يبسطوا — إذ إن بعضهم لاحظ تبسيط البدائيين — فقد فعلوا ذلك لا بروح فنانٍ بل بروح قردٍ مجتهد.

التبسيط هو تحويل التفصيل غير ذي الصلة إلى شكلٍ دال، كان بوسع واحدٍ من «قبل الرفائيليين» شديد الجرأة أن يُمثل قوس قزح بواسطة ورقتَي نجيلٍ دقيقتين دقةً بالغة، غير أن ورقتي نجيل بالغتي الدقة هما خارجتان عن الموضوع خروج مليونَي ورقة، إنما الدلالة الشكلية لورقة النجيل أو قوس قزح هي ما يَعني الفنان، إنَّ منهج قبل الرفائيليين هو في أفضل الأحوال رمزية وفي أسوئها سخفٌ محض، ولو كان «قبل الرفائيليين» يَنعمون بعقول عميقة التخيُّل لكانوا استردُّوا روح العصور الوسطى بدلًا من تقليد مظاهرها الأقل دلالة، ولكنهم لو كانوا فنانين عظامًا لما رغبوا في استرداد أي شيء، بل ابتكروا أشكالًا لأنفسهم أو استقَوها من محيطهم، تمامًا كما فعل فنانُو القرون الوسطى، الفنانون العِظام لا ينظرون وراءهم البتة.

•••

عندما يُشرِف الفن على الموت كما كان في منتصف القرن التاسع عشر، يُنظَر للدقة العلمية على أنها الغاية الصحيحة للتصوير، يقول «الانطباعيون الأكاديميون»: حسنٌ جدًّا، كن دقيقًا، كن عِلميًّا. في أفضل الأحوال يُسجِّل المصور الأكاديمي تصوُّراته، ولكن تصوُّره ليس واقعًا علميًّا، ينبئنا أهل العلم أن الواقع المرئي للعالم هو اهتزازات ضوء، فلنتمثَّل الأشياء كما هي — علميًّا، لنُمثِّل الضوء، لنرسم ما نراه، لا البناء الفوقي الذي نُشيِّده فوق إحساساتنا، كانت تلك هي النظرية، ولو كانت غاية الفن هي التمثيل لكانت صحيحة بدرجة كافية، غير أن غاية الفن ليست التمثيل، كما عرَف الانطباعيُّون العظام رنوار Renoir وديجا Degas ومانيه Manet (اثنان منهما لا يزالان يُعرَفان لحسن الحظ) في اللحظة التي أقلعوا فيها عن الجدل وأرتجوا باب الاستديو على ذلك المُنظِّر النابغ كلود مونيه Claude Monet، واعلم أن بعضهم (مونيه قرب النهاية مثلًا) صنع مخططاتٍ متعدِّدة الألوان فاجعة البلادة، ولم ينتج «الانطباعيون الجُدد» Neo-Impressionists  سورا Seurat وسينياك Signac وكروس Cross شيئًا آخر، كان بمكنة أي «انطباعي»، تحت تأثير مونيه و«وتو» Watteaw، أن يصنع شيئًا هزيلًا رخوًا لا شكل له، غير أن الأغلَب حدوثًا هو أن الأساتذة الانطباعيِّين، في سعيهم الخيالي والفاشل تمامًا إلى الصدق العِلمي، خلقوا أعمالًا فنيةً مقبولة من حيث التصميم ومجيدة من حيث اللون، هذه الواحة في صحراء أواسط القرن أبهجَت، بطبيعة الحال، الأشخاص الغريبي الأطوار الذين يهتمون بالفن، ولقد تظاهروا في البداية بأنهم مُستغرِقون في الدقة العلمية للشيء، ولكن لم يمضِ وقتٌ طويل حتى أدركوا أنهم يخدعون أنفسهم وكفوا عن الادعاء؛ ذلك أنهم رأوا بوضوحٍ شديد أن هذه اللوحات تَختلف اختلافًا عميقًا جدًّا عن النجاحات النادرة لوِرَش العمل الفيكتورية، لا في احترامها المقدَّر للنظرية العلمية، بل في حقيقة أنها، رغم انصرافها الكبير أو التام عن اهتمامات الحياة العادية، تُثير انفعالًا أقوى وأعمق بكثير، وبرغم النظريات العملية، أثار الانطباعيون انفعالًا يُثيره كل فن عظيم، انفعالًا لم يكن معظم الفنانين والنقاد الفيكتوريين، لأسبابٍ واضحة، قادِرين على الاعتقاد في وجوده، لم تَعتمِد ميزة هذه الصور الانطباعية، أيًّا ما كانت، على العالم الخارجي، ماذا عساها أن تكون؟ قال المشاهدون المسحورون: «الجمال المحض»، ولم يكونوا بعيدين كثيرًا عن الصواب.

•••

وكما حاولت أن أُبيِّن في موضعٍ آخر فليس من الصعب أن نجد خطأً في النظرية القائلة بأن الجمال هو الصفة الجوهرية في العمل الفني، أي إذا كانت كلمة «جمال» تُستعمل، كما يبدو أن ويسلر وتابعيه قد استعملوها، لتعني الجمال غير الدال؛ إذ يبدو أن الجمال الذي كانوا يتحدثون عنه هو جمال زهرة أو جمال فراشة، أما إنني قلما قابلت شخصًا حساسًا للفن لم يوافق في النهاية على أن العمل الفني يُحركه بطريقة مختلفة تمامًا، وأعمق بكثير، من الطريقة التي تحركه بها زهرةٌ أو فراشة؛ ولذا فإذا شئت أن تسمي الصفة الجوهرية في العمل الفني «جمالًا» فإن عليك أن تميِّز بعناية بين جمال عملٍ من أعمال الفن وجمال زهرة، أو، على أيَّة حال، بين الجمال الذي يُدركه أولئك الذين ليسوا فنانين عظامًا من بيننا في عملٍ فني وبين ما يُدركه نفس الأشخاص في زهرة، ألا يكون من الأبسط أن نستخدم كلماتٍ مختلفة؟ التمييز على أية حال هو تمييزٌ حقيقي؛ قارن بين بهجتك بزهرةٍ أو جوهرة، وبين ما تشعر به إزاء عملٍ فني عظيم، ولن تجد صعوبةً، فيما أرى، في الاختلاف عن ويسلر.

ولأي شخص تهمُّه النظرية أكثر مما تهمه الحقيقة مطلق الحرية في أن يقول إن فن «الانطباعيِّين»، بأفكاره الباطلة عن التمثيل العلمي، هو فطرٌ جميلٌ ينمو بطريقةٍ طبيعيةٍ تمامًا على خرائب المنحدر المسيحي، ولا يصح أن يُقال الشيء نفسه عن ويسلر، الذي كان بالتأكيد في ثورةٍ ضد نظرية عصرِه، إذ يَنبغي ألا ننسى أبدًا أن التمثيل الدقيق لما يحسب البقال أن يراه كان هو الدوجما المركزية للفن الفيكتوري. إنَّ القبول العام لهذا الرأي — أن المحاكاة الدقيقة للأشياء صفة جوهرية للعمل الفني — والعجز العام عن خلق، أو حتى عن تمييز، كيفياتٍ إستطيقية، هو ما يَسِم القرن التاسع عشر بوصفه نهاية مُنحدَر، وإذا استثنيت فنانين متفرِّقين وهواةً منعزلين فقد يَسعُك أن تقول إنه في منتصف القرن التاسع عشر لم يعد للفن وجود، وها هنا أهمية الفن الرسمي والأكاديمي لذلك العصر. إنه يُثبت لنا أننا قد لمَسنا القعر وبلغنا الحضيض. إن له أهمية الوثيقة التاريخية، في القرن الثامن عشر كان لا يزال هناك موروثٌ فني، ما مِن مُصورٍ رسمي وأكاديمي، حتى في نهاية القرن الثامن عشر، معروف الاسم لدى عامة المثقفين ومرعيةٍ أعماله من قِبَل الجامعيِّين، إلا ويعلم جيدًا جدًّا أن غاية الفن ليست المحاكاة، وأن الأشكال يجب أن تحوز بعض الدلالة الإستطيقية، أما أخلاقهم في القرن التاسع عشر فلم يعلموا، حتى الموروث مات، يعني ذلك أنه بصفة عامة وبصفة رسمية كان الفن ميتًا، ولقد رأيناه يموت، وقد أُخذت «الأكاديمية الملَكية» و«الصالون» على تأدية غرضهما التاريخي المُفيد، ولسنا بحاجة إلى أن نقول المزيد عنهما، وماذا عن تلك الزمرة الفنية بالتأكيد للقرن التاسع عشر، أولئك الذين جعلوا الشكل وسيلةً إلى الانفعال الإستطيقي وليس وسيلةً لذِكر الحقائق ونقل الأفكار؛ أعني «الانطباعيِّين» و«الجماليين» (المتطرِّفين) Aesthetes مانيه ورينوار وويسلر وكوندر Conder و… و…؟ أنعتبرهم زهورًا عرضية تتفتَّح على قبرٍ أم بشاراتٍ بعصرٍ جديد؟ ذاك شيءٌ يتوقَّف على مزاج من يَعتبرهم.
ولكن مخططًا للمُنحدر المسيحي قد يَحسن أن ينتهي ﺑ «الانطباعيين»؛ فالنظرية الانطباعية طريقٌ مسدود، ومآلها المنطقي الوحيد هو «آلة فن» art-machine، آلةٌ لتأسيس القيم على نحوٍ صحيح، وتحديد ما تراه العين على نحوٍ علمي، جاعلةً إنتاج الفن بذلك يقينًا ميكانيكيًّا، وقد أنبئت أن مثل هذه الآلة قد اخترَعها رجلٌ إنجليزي، أما لو أنَّ آلة الصلاة هي حقًّا النقلة الأخيرة لديانةٍ شائخة، فإن آلة جلب القيمة هي حقًّا بمثابة حادي روح الفن إلى عالم الموتى، لقد مرَّ الفن من الخلق البدائي للشكل الدال إلى التقرير الشديد التحضُّر للحقيقة العلمية، وأعتقد أن هذه الآلة، التي هي النهاية الذكية والمحترَمة، ينبغي الاحتفاظ بها، إذا كانت لا تزال موجودة، في سوث كنسينجتون، أو في اللوفر، إلى جانب الآثار الأقدم للمُنحدَر المسيحي، أما عن تلك النهاية غير الشائقة وغير المحترمة — أي الفن الرسمي للقرن التاسع عشر — فيُمكن أن تُدرس في مائة جاليري عام وفي معارض سنوية عبر العالم، إنها النهاية المتعفِّنة، والواضحة بالتالي. إنَّ الروح التي وُلدت مع انتصار الفن على الواقعية الإغريقية-الرومانية تموت مع إزاحة الفن وحلول الصورة التجارية محله.
ولكن إذا كان «الانطباعيون»، بعدتهم العلمية، وتكنيكهم المدهش، ونزعتهم الذهنية، يُسمون نهاية حقبة، أليسوا مرهصين بمجيء حقبةٍ أخرى؟ ثمة اليوم قلقٌ بالتأكيد في مختبر الزمن السري، ثمة شيءٌ مات، ولكن كما لاحَظَ ذلك الروماني الحكيم:٥

لا شيء يَفنى حقًّا من الأشياء المنظورة، إنما يُجبَل الشيء من الشيء، والطبيعة لا تَسمح بخلقٍ جديدٍ إلا بثمنٍ من الموت.

ألا يحمل «الانطباعيون»، بقدرتهم على خلق أعمالٍ فنية تقف على أقدامها الخاصة، ألا يحملون على أذرعهم عصرًا جديدًا؟ فإذا كان الذنب المُغتفَر للانطباعية هو نظرية شائهة، وشفيعها هو ممارسة مجيدة، فإن أهميتها التاريخية تتمثل في أنها قد علمت الناس أن تلتمس دلالة الفن في العمل ذاته، بدلًا من التفتيش عنها في انفعالات العالم الخارجي واهتماماته.

•••

إن سيزان نمطٌ من الفنان الكامل، وهو النقيض التام لمحترفي صناعة اللوحات، ومحترفي صناعة القصائد، ومحترفي صناعة الموسيقى. لقد كان يخلق الأشكال لا لشيءٍ إلا لأنه بهذا الفعل وحده يُمكنه أن يحقق غاية وجوده؛ وهي التعبير عن إحساسه بدلالة الشكل، وعندما نكون بصدد الحديث عن الإستطيقا، فإن خير ما نفعله هو ألا نُبالي بكل هذا، وأن ننصرف فحسب إلى الموضوع وتأثيره الانفعالي علينا، ولكننا حين نحاول أن نفسر التأثير الانفعالي للوحات، فإننا نلتفت تلقائيًّا إلى أذهان الأشخاص الذين صنعوها، ونجد في قصة سيزان معينًا لا ينضب من الإلهام؛ فقد كانت حياته جهدًا متصلًا لخلق الأشكال التي يسعها أن تعبر عما أحس به في لحظة الإلهام. إن فكرة فنٍّ بلا إلهام، فكرة وصفةٍ لصنع اللوحات، كان لا بد أن تبدو له ممتنعة، فلم يكن هم سيزان الحقيقي في حياته هو أن يصنع لوحاتٍ بل أن يصنع خلاصه، ومن حسن حظنا أنه لم يمكنه ذلك إلا بواسطة الرسم. إن أي لوحتين لسيزان من المتعيَّن أن تختلفا فيما بينهما اختلافًا بعيدًا، فلم يحلم سيزان قط بأن يُكرِّر نفسه، ولم يكن بإمكانه أن يتجمَّد في مكانه، وهذا هو السر في أنه استطاع بأعماله أن يُلهِم جيلًا بكامله من الفنانين المتباينين الذين لم يتَّفقوا في شيء عدا استلهام سيزان؛ ولذا فلستُ أغضُّ من شأن أيٍّ من الفنانين الأحياء حين أقول إنَّ السمة الرئيسية للحركة الفنية الجديدة هي أنها مستمَدة من سيزان.

•••

لقد أمعَنَت الحركة المعاصرة في التبسيط وبلَغت به شأوًا أبعد بكثير مما بلغه مانيه Manet ورفاقه، وبذلك ميَّزت نفسها وافترقَت عن أي شيء شهدناه منذ القرن الثاني عشر، فمنذ القرن الثاني عشر في فنون النحت والزجاج، ومنذ القرن الثالث عشر في فنون التصوير والرسم، أخذ التحوُّل يَنحو إلى الواقعية وينأى عن الفن، وإن جوهر الواقعية هو التفصيل، فمنذ زولا Zola أدرك كل روائي أن لا شيء يُضفي على العمل صبغةً واقعيةً جليلة مثل أن تدفع فيه بحشدٍ من الوقائع الطفيلية (الخارجة عن الموضوع)، وقلَّما نجد من الروائيين من حاد عن هذه الطريقة وحاول أن يَحذو حذوًا آخر؛ فالتفصيل هو في الصميم من الواقعية، وهو الانحلال الدهني fatty degeneration للفن، أما الحركة المعاصرة فقد اتجهت إلى التبسيط وإلى التخلُّص من كل هذه الفوضى من التفاصيل التي أقحمها الرسامون في لوحاتهم من أجل إثبات الوقائع وتقريرها، غير أن المهمة كانت أكبر من ذلك؛ فقد كانت هناك عناصر خارجة عن الموضوع يقحمها الرسامون في لوحاتهم لأغراضٍ أخرى غير تقرير الوقائع، من هذه الأغراض الاستعراض التكنيكي؛ فمنذ القرن الثاني عشر أخذت التعقيدات التكنيكية في التوسع المُطرد، وأخذ الكُتاب الذين ليس لديهم ما يقولونه يَعتبرون التلاعب بالألفاظ كغايةٍ في ذاته؛ فهم أشبه بطهاةٍ ليس لديهم بيضٌ فجعلوا يعتبرون وتيرة صنع العجة كفنٍّ جميل؛ خلط التوابل وفرم الأعشاب وإحماء النار وتهيئة الطواقي البيضاء، أما البيض فما لنا وماله، هذا أمر الله، ومن ذا يريد العجة حين يكون بوسعه أن يمارس الطهي؟ لقد بسطت الحركة الجديدة هذه الأمور واختزلت عدة الطهي، وعمدت إلى أن تطهر العمل الفني من أي عنصر لا يَعدو أن يكون عَرضًا لحرفية الصانع.

•••

من وجهة نظر المشاهِد كان فنانو «ما بعد الانطباعية» موفَّقين بشكلٍ خاص في تبسيطهم؛ فمن الممكن، كما نعلم، أن يتكون التصميم من أشكالٍ واقعية كما أنه من الممكن أن يتكون من أشكالٍ مخترَعة، غير أن التصميم الجميل المكوَّن من أشكال واقعية معرضٌ بدرجة كبيرة لخطر التدني الإستطيقي؛ إذ يستلفت العنصر التمثيلي فيه نظرنا على الفور فتفوتنا دلالته الشكلية. إنَّ من العسير جدًّا أن ندرك بالنظرة الأولى تصميم لوحةٍ لفنانٍ شديد الواقعية، أنجر Ingres على سبيل المثال، ذلك أن فضولنا البشري يغشي انفعالاتنا الإستطيقية، ولا نعود نرى الصور بوصفها أشكالًا؛ لأننا سرعان ما نتأملها بوصفها أشخاصًا، وفي المقابل فإن التصميم المكوَّن من أشكال تخيُّلية خالصة خلو من أي مفتاح معرفي (سجادة فارسية مثلًا) حري إذا كان شديد التركب والتعقيد أن يربك المشاهدين ذوي الحساسية المحدودة. أما الفنانون بعد الانطباعيين فإنهم باستخدامهم أشكالًا محرَّفة بحيث تُحبط وتحير الاهتمام والفضول البشريَّين، وتمثيلية رغم ذلك بحيث تسترعي الانتباه المباشر إلى طبيعة التصميم؛ قد وجدوا طريقًا مختصرة إلى انفعالاتنا الإستطيقية. إنَّ هذا لا يجعل اللوحات بعد الانطباعية أفضل من غيرها ولا أسوأ، بل يَجعلها أيسر في إدراكها كأعمالٍ فنية، ربما سيظل صعبًا دائمًا على أغلب الناس أن يتأملوا الصور كأعمالٍ فنية، غير أن اللوحات بعد الانطباعية ستكون في ذلك أقل عسرًا من اللوحات الواقعية، بينما هم إذا كفوا عن تأمل الأشياء غير المزوَّدة بمفاتيح تمثيلية (مثل بعض أعمال النسيج الشرقي) بوصفها آثارًا تاريخية، فقد يجدون من العسير عليهم أن يتأملوها على الإطلاق.
لكي يُبرز الفنان تصميمه فإنه يجعل همه الأول أن يُبسِّط، غير أن مجرد التبسيط، أي التخلص من التفاصيل، لا يكفي؛ إذ لا بد للأشكال الإخبارية المُتبقية أن تكون دالة، ولا بد للعنصر التمثيلي لكي لا يُفسد التصميم أن يصبح جزءًا منه، ويتعين عليه إلى جانب تقديم المعلومات أن يثير انفعالًا إستطيقيًّا، وها هنا الموطن الذي تفشل فيه الرمزية. إن الرمزي يتخلَّص ولكنه لا يهضم ويتمثَّل، ورموزه، في عامة الأحوال، ليست أشكالًا دالة بل ناقلات خبرٍ شكلية؛ فالرموز ليست أجزاءً مدمجة لتصورٍ تشكيلي، وإنما هي اختصارات فكرية، والرموز لا يبثها انفعال الفنان بل يخترعها فكره، إنها مادةٌ ميتة في كائنٍ عضوي حي، وهي جاسئة٦ مغلقة؛ لأنَّها غير مغمورة في إيقاع التصميم. وليست الأساطير الشارحة التي اعتاد رسامو الصور التوضيحية أن يضعوها على أفواه شخصياتهم بأدخل على الفن البصري من الأشكال الرمزية التي أفسد بها كثيرٌ من الرسامين القديرين تصاميمهم. لقد تمكن دورر Durer في لوحته الشهيرة «ميلانكوليا»، وتمكَّن إلى حد ما في نقوش أخرى قليلة مثل «القديس يوستيس» و«العذراء والطفل» (المتحف البريطاني B. 34.) من أن يحول كتلة من التفاصيل إلى شكل مقبول الدلالة، غير أننا في الشطر الأكبر من أعماله (مثل «الفارس» و«القديس جيروم») نجد أن التصور الجميل قد أفسدته كتلةٌ من الرموز غير المهضومة وأتت عليه.

•••

إن التصميم هو تنظيم الأشكال، والرسم هو صوغ الأشكال ذاتها، ومن الواضح أن هناك نقطة يَمتزج عندها الاثنان، ولكن هذا أمر لا يُهمنا الآن، عندما أقول إن الرسم رديء فإنني أعني أنني لم أهتزَّ لحدود الأشكال التي تكوِّن العمل الفني، وباعتقادي أن أسباب رداءة الرسم مماثلة لأسباب رداءة التصميم، تأتي رداءة الرسم عندما لا يتطابَق الشكل المرسوم مع جزء من تصورٍ انفعالي؛ فالهيئة التي يتخذها كل شكل في العمل الفني يجب أن يُمليَها الإلهام ويفرضها، وأرى أن يد الرسام يجب أن تقودَها ضرورة التعبير عن شيء ما قد أحسَّه لا إحساسًا شديدًا فقط بل إحساسًا محدَّدًا أيضًا، إن على الرسام أن يعرف مهمَّته، ومهمته إن كنت صائبًا هي أن يترجم إلى شكلٍ مادي شيئًا ما قد أحس به في نوبةٍ من النشوة؛ ولذا فإن الأشكال التي لا تُرسم إلا لملء فجواتٍ هي أشكالٌ رديئة الرسم، وإن الأشكال التي لا تُمليها أي ضرورة انفعالية، والأشكال التي تثبت وقائع، والأشكال التي تنتج عن نظرية في فن الرسم أو عن تقليد الأشياء الطبيعية أو تقليد أشكال الأعمال الفنية الأخرى؛ كل هذه أشكالٌ لا قيمة لها، إنما يجب أن يكون الرسم ملهمًا، وأن يكون تجليًا طبيعيًّا لتلك الهزة التي تصاحب الفهم الانفعالي للشكل.

•••

يَنصرف النساء والرجال الذين اهتزُّوا من فورهم للدلالة الإستطيقية الخالصة لأحد الأعمال الفنية، ويَمضون إلى الحياة الخارجية وهم في حالة من الإثارة والطرب تجعلهم أكثر حساسيةً لكل ما يَجري حولهم، وهكذا يُدركون بحدةٍ زائدة معنى الحياة وإمكانها، وليس من المستغرب أنهم لا بد أن يتأوَّلوا هذا الحس الجديد بالحياة ويقرءوه في ذلك الشيء الذي أنتجه، لا بأس بذلك الفعل على الإطلاق، ولن أُنازعهم في شأنه، فأن تتحرَّك مشاعرك للفن أهم بكثيرٍ من أن تعرف على وجه التحديد ما الذي يُحرِّكها، فقد أريد أن أذكرهم رغم ذلك بأنه إذا كان الفن لا يعدو ما يتخيَّلون أحيانًا أنه الفن، لما كان له أن يحرك مشاعرهم بهذه الطريقة، إذا كان الفن مجرَّد إيعاز بمشاعر الحياة فلن يَمنح العمل الفني لكل شخص أكثر مما جلبه كل شخص معه، إنما يُحركنا الفن بهذا العمق وهذه السرية لأنه يضيف إلى خبرتنا الانفعالية شيئًا ما جديدًا، شيئًا يأتي لا من الحياة البشرية بل من الشكل الخالص، أما أن الفن بالنسبة للكثيرين لا يَكتفي بإضافة شيء جديد بل يبدو أنه يُغيِّر القديم ويُثريه، فهو أمرٌ مؤكد ولا يدعو إلى أدنى ابتئاس.

•••

أطلقوا يد الفنان.

ها هو شيء يمكن أن يفعله للفن أولئك النفر ذوو النفوذ والشأن الذين يؤكدون دائمًا أنهم يودون أن يقدموا للفن أي شيء.

•••

إذا كان المجتمع الشيوعي العظيم عاقدًا العزم على إنتاج الفن — والمجتمع الذي لا ينتج الفن الحي مُجتمعٌ ملعون — فهُناك شيء واحد، وواحد فقط، يستطيع أن يفعله، اضمن لكل مواطن، سواء أكان يعمل أم كان متبطِّلًا، مجرد حد أدنى من العيش، ولنقل ستة بنسات في اليوم وفراشًا في منيمٍ عام، اجعل الفنان شحاذًا يعيش على الإحسان العام، وامنح العاملين العمليِّين المجتهدين تلك الأشياء التي يُحبونها؛ الرواتب الكبيرة، ساعات عمل قصيرة، المكانة الاجتماعية، المباهج المكلِّفة، واعط الفنان كفافه وأدوات عمله، لا تُطالبه بشيء، واجعل حياته من الناحية المادية بائسةً بحيث لا تَجذب أحدًا، بذلك لن يلجأ أحدٌ إلى الفن عدا أولئك الذين يَسكُنهم الروح الحارس المقدَّس حقًّا لا ريب فيه، واجعل للجميع خيارًا بين حياة الوظيفة المرموقة السلسلة العالية الأجر وحياة المتشرِّد المزرية، ليس لدينا شك يُذكر حول اختيار الأغلبية، وليس لدينا شك على الإطلاق حول اختيار الفنان الحقيقي. إنَّ الشبه كبير جدًّا بين الفن والدين، وفي الشرق، حيث يفهمون هذه الأشياء، كان هناك دائمًا انطباعٌ بأن الدين يجب أن يكون شأن هواية. إنَّ دعاة الهند شحاذون، فليكن فنانو العالم جميعًا شحاذين أيضًا. الفن والدين ليسا حرفتين، ليسا مهنتَين يُمكن أن يؤجر عليهما الناس. إن الفنان والقديس يفعلان ما يجب عليهما أن يفعلا، لا كسبًا للعيش، بل امتثالًا لضرورةٍ سرية، إنهما لا ينتجان ليعيشا، بل يعيشان ليُنتِجا، ولا مكان لهما في نظام اجتماعي يقوم على نظرية أن ما يَصبو إليه الإنسان هو حياةٌ ممتدةٌ ممتعة، ليس بإمكانك أن تسلكهما في الآلة، بل يجب عليك أن تَجعلهما غريبين عنها، يجب أن تجعلهما منبوذَين، ذلك أنهما ليس جزءًا من المجتمع، بل ما ملح الأرض.

•••

يقال أحيانًا، بحججٍ معقولة: إنَّ الشعب المرهف الحس لن تكون به حاجة إلى المتاحف، ويُقال إن من الخطأ أن تذهب في طلب الانفعال الإستطيقي، وأن الفن يجب أن يكون جزءًا من الحياة، شيئًا شبيهًا بجرائد المساء أو فاترينات المحال التجارية التي يَستمتع بها الناس وهم ماضون في شئونهم، ولكن إذا كانت الحالة الذهنية لشخصٍ يدلف إلى صالة عرض طلبًا للانفعال الإستطيقي هي حالة غير مُرضية بالضرورة، فبالمثل تكون حالة الشخص الذي يَجلس ليقرأ شعرًا، يُغلق عاشق الشعر باب غرفته ويَلتقط مجلدًا لملتون وقد عقد النية على أن يُخرج نفسه من عالمٍ ويُدخلها في عالمٍ آخر. إنَّ شعر ملتون ليس جزءًا من الحياة اليومية، وإن يكن عند البعض مما يجعل الحياة اليومية محتملة. إن قيمة الصنف الرفيع من الفن لا تتمثل في قدرته على أن يصبح جزءًا من الحياة العادية بل في قدرته على أن يخرج بنا منها. أعتقد أن وليم موريس هو الذي قال إن الشعر يجب أن يكون شيئًا يستطيع إنسانٌ أن يَخترعه ويُغنيه لرفاقه بينما هو يعمل على النول، لعل كثيرًا جدًّا مما كتبه موريس قد اختُرع أيضًا بهذه الطريقة، ولكن لكي تخلق الفن الأعظم وتُدركه فإن أقصى درجات الانفصال عن شئون الحياة تغدو أمرًا ضروريًّا، ومثلما أن الرجال والنساء عبر العصور كانوا يذهبون إلى المعابد والكنائس بحثًا عن نشوةٍ لا صلة لها بمشاغل الحياة والكدح البشري، كذلك قد يذهبون إلى معابد الفن لكي يَخبروا، خارج هذا العالم بعض الشيء، انفعالات تنتمي إلى عالمٍ آخر. إن المتاحف والصالات تغدو مؤذية لا عندما تكون حرمًا نلوذ إليه من الحياة، حرمًا مكرَّسًا لعبادة الانفعال الإستطيقي، بل عندما تكون فصولًا ومعاهد بحث ومستودَعات للتراث المنقول.

•••

إذا شئتم أن يكون لديكم فنٌّ جميل وتذوق جميل للفن، يَنبغي أن يكون لديكم حياة حرة جميلة لفنانيكم ولأنفسكم، ذلك شيء آخر يُمكن للمجتمع أن يُسديه إلى الفن، يُمكن أن يقتل المثل الأعلى للطبقة الوسطى، وهل وُجد قط مثلٌ أعلى بهذه الهشاشة؟ ذلك المُمهن الدءوب الذي يشق طريقه إلى النجاح المادي بالكدح والمثابرة على الاشتغال بالتوافه، ديك ويتنجتون Dick Whittington، أي مثلٍ بطولي لأمةٍ شجاعة! أي أحلام يَحلمها عجائزنا، وأي رُؤًى تطوف برءوس عرَّافينا! ثماني ساعات من الإنتاج الذكي، وثماني ساعات من الاستجمام اليَقِظ، وثماني ساعات من النوم المنعش للجميع! يا لها من رؤية تتخايَل أمام أعيُن شعب جائع، إذا كان ما تُريدونه هو الفن العظيم والحياة الجميلة، فلا بد أن تتخلَّوا عن هذه الوسطية (النصفية) mediocrity الآمنة:

الراحة هي العدو، وما الإسراف إلا بُعبع البورجوازية، الإسراف لم يُحطِّم نفسًا قط، ولا حتى الانغماس، إنما التآكل الدقيق المطرد الذي تُحدثه الدعة هو ما يُدمِّر، ذلك هو انتصار المادة على العقل، ذلك هو الطغيان الأخير، أتراهم أفضل حالًا من العبيد أولئك الذين يتوجَّب عليهم أن يتوقفوا عن عملهم لأنَّ حصة الغداء قد حانت، وأن يقطعوا حوارهم لكي يَلبسوا للعشاء، وأن يغادروا على عتبتهم الصديق الذي لم يَروه لسنواتٍ من أجل ألا يفوتهم الترام المعتاد؟

بوسع المجتمع أن يفعل شيئًا للفن؛ لأن بوسعه أن يزيد مساحة الحرية، وحتى السياسيون يمكنهم أن يقدموا إلى الفن خدمة؛ يمكنهم إلغاء قوانين الرقابة ورفع القيود عن حرية الفكر والقول والسلوك، ويُمكنهم حماية الأقليات، ويُمكنهم حماية الأصالة من سخط الدهماء الأنصاف، ويمكنهم أن يضعوا نهاية للمذهب القائل بأن من حق الدولة أن تقمع الآراء غير الشائعة لمصلحة النظام الشائع، كم من حرية عارمة تُمنح لن يتحدَّث إلى الغوغاء بمسلماتها المقبولة! فأقل ما يُمكن للدولة أن تفعله هو أن تَحمي من لديهم قولٌ يُحتمل أن يسبب شغبًا. إن ما لا يؤدي إلى الشغب ربما لا يستحق أن يقال، وفي الوقت الراهن، لعل أفضل شيء يمكن أن يفعله أي شخص عادي من أجل تقدم الفن هو أن يَثور من أجل مزيدٍ من الحرية.

•••

والفن ماذا عساه أن يُسدي إلى المجتمع؟

يُضيف إليه روحًا، بل ربما يطلق سراحه؛ فالمجتمع يلزمه خلاص.

مع نهايات القرن التاسع عشر بدت الحياة كأنها تَفقد نكهتها، وبدا العالَم رماديًّا مفتقِرَ الدم، يُعوِزه الوهج، الرصانةُ أصبحت زيًّا سائدًا، ليس غير الأغبياء مَن يهمهم أن يَبدوا روحيِّين. إن أواخر القرن التاسع عشر في أفضل جوانبها تُذكِّر المرءَ بهزليةٍ (فارْس) مُسِفَّة عاطفيًّا، وفي أسوأ جوانبها تُذكِّر بنكتةٍ متحجِّرة القلب. ولكن، كما رأينا، فقبل منعطف القرن بدأت حركة انفعالية جديدة تُعبِّر عن نفسها، في فرنسا أولًا ثم في أوروبا، تطلبت هذه الحركة، كي لا تذهب سُدًى، قناةً أو مجرًى عساها تتدفَّق فيه إلى غايةٍ ما، كانت مثل هذه القناة في العصر الوسيط دانيةً قريبةَ المأخذ؛ إذ اعتادت الخميرة الروحية أن تُعبر عن نفسها من خلال الكنيسة المسيحية، رغم أنف المعارضة الرسمية في عامة الأحوال، أما في العصر الراهن فمن غير الممكن لأي حركة حديثة على أي قدر من العمق أن تُعبِّر عن نفسها بهذه الطريقة، وأيًّا ما كانت الأسباب فتلك حقيقةٌ مؤكَّدة، وفي اعتقادي أن السبب الرئيسي هو أن عقول أهل العصر الحديث لا يُمكن أن تجد غَناءً في الدين الدوجماوي، ومن المؤسف أن المسيحية لم تشأ أن تُقلع عن ألوان من الدوجما بعيدة عن جوهرها كل البُعد. إن تورُّطَ الدين في الدوجما هو الذي أبقى العالَمَ لا دينيًّا في ظاهره، ولكن، رغم أن مآل كل دين أن تعترشه الدوجما، فهناك واحد يمكنه أكثر من غيره أن يَنفضها عنه دون عناء أو اكتراث، ذلك الدين هو الفن؛ فالفن دين، إنه تعبير عن، ووسيلة إلى، حالات ذهنية لا تقلُّ قداسةً عن أية حالةٍ ذهنية يُمكِن للبشر أن يُخبروها، وإنما إلى الفن يتجه الذهن الحديث، لا من أجل التعبير الكامل عن انفعالٍ متعالٍ فحسب، بل أيضًا من أجل إلهامٍ يعيش به.

وُجد الفن منذ البدء بوصفه دينًا متزامنًا مع كل الأديان الأخرى، ومن البيِّن أنه لا يمكن أن يكون هناك تضادٌّ جوهري بينه وبينها، فالفن الأصيل والدين الأصيل مظهران لروحٍ واحدة، كذلك شأن الفن الزائف والدين الزائف، ومنذ آلاف السنين والبشر يُعبِّرون بالفن عن انفعالاتهم الفائقة الإنسانية، ويجدون فيه الغذاء الذي تعيش عليه الروح. الفن هو أعم وأبقى صور التعبير الديني جميعًا؛ لأن دلالة التضافرات الشكلية يُمكن أن يدركها أحد الأجناس وأحد العصور بنفس الكفاءة التي يدركها به جنسٌ آخر وعصرٌ آخر؛ ولأن تلك الدلالة هي شيء مُستقل عن التقلبات البشرية، شأنها في ذلك شأن الحقيقة الرياضية. وعلى الإجمال، ليست هناك أداة أخرى لنقل الانفعالات، ولا وسيلة أخرى إلى النشوة قد أسعَفت الإنسانَ مثلما أسعفه الفن، وما من فيضٍ من طرب الروح إلا هو واجدٌ في الفن قناةً تتولاه وتَحْدُوه، وحين يفشل الفن فإنما يفشل لافتقاد الانفعال وليس لافتقاد التكيُّف الشكلي. واليومَ إذ تَشرع الحركة الناشئة في البحث عن موئل تلجأ إليه وتعيش، فمن الطبيعي أن تتَّجه إلى الديانة الوحيدة ذات الأشكال اللانهائية والثورات الدائمة.

ذلك أن الفن هو الديانة الوحيدة التي تُشكِّل نفسها بما يوافق الروح، والديانة الوحيدة التي لن يطول تقيُّدها بالدوجما على الإطلاق؛ إنه ديانةٌ بلا كهنوت، ومن الخير ألَّا تُودَع الروحُ الجديدة في أيدي الكهنة، فالروح الجديدة في أيدي الفنانين، ذلك خير؛ فالفنانون، كقاعدةٍ عامة، هم آخِر مَن يَنظِمون أنفسهم في طوائف رسمية، وإذا نُظِمت هذه الطوائف فهي قلَّمَا تنطلي على أرواح الصفوة؛ فالمتمرِّدون من الرسامين أكثر شيوعًا بكثير من المتمرِّدين من رجال الدين، وفي حالة «التوفيق» (الذي هو تَلَفُ كلِّ ديانة؛ لأن الإنسان لا يُمكنه أن يَخدِم سيِّدَيْن) تُصاب كل طوائف أوروبا تقريبًا بالبَدانة. عن طريق التوفيق نجح الكهنة بأعجوبةٍ في الاحتفاظ بوعائهم سليمًا، أما الفنَّانون الأُصلاء في كل حركة جديدة فإنهم يَزدرون الوعاء ويقدسون الروح، وإن ازدراءهم الرقيق للوعاء لا يقل فائدةً عن اعتقادهم الجليل في الروح. ونحن حين ننظر إلى تاريخ الفن فقد تبدو لنا فترات القنوط والتوفيق طويلة، إلا أنها بالمقارنة بالأديان الأخرى تُدهشنا بقصرها؛ إذ لا يلبث فنانٌ حقيقي أن يظهر عاجلًا أو آجلًا، وكثيرًا ما ينجح بمقدرته وحدها في أن يُعِيد تشكيلَ الوعاء بحيث يحتوي الروحَ احتواءً كاملًا.

•••

تَعلَّمْ المشيَ أولًا قبل أن تُحاول العَدْو، فإذا كان بوسع صانعٍ ذي حساسيةٍ فائقة أن يفيد فائدةً ما من روائع الجاليري القومي (شريطةَ ألَّا يقترب منه مثقفٌ يريد أن يخبره بما يجب أن يحسه، أو يَمنعه أن يحس على الإطلاق بأن يدعوه إلى التفكير)، فإن من الأفضل كثيرًا للصانع ذي الحساسية العادية ألَّا يرتاد المعرض حتى يكتسب، بمحاولة التعبير عن نفسه في الشكل، بصيصًا من الرأي الصائب عما يَصبو إليه الفنانون، ومن المؤكد أن بمقدور كل إنسان تقريبًا، رجلًا كان أو امرأة، أن يكون فنانًا صغيرًا ما دام كل طفل تقريبًا هو فنان. ثَمةَ حِسٌّ بالشكل يمكن أن نلمسه في معظم الأطفال، فماذا يحل به؟ إنها الحكاية القديمة: الطفل أبو الرجل، وإذا شئتَ أن تحتفظ للرجل بالهبة التي وُلِد بها، فلا بد أن تتعهَّده صغيرًا، أو بالأحرى تحميه أن يُتعهَّد! فهل نستطيع أن نرفع عنه أيدي الآباء والمعلمين وأنظمة التعليم التي تحوِّل الأطفالَ إلى رجال ونساء عصريين؟ هل نستطيع أن نُنقذ الفنانَ الكامن في كل طفل تقريبًا؟ إننا نستطيع على الأقل أن نقدِّم بعض النصائح العملية: لا تَعبثوا برد الفعل الانفعالي المباشِر تجاه الأشياء الذي هو عبقرية الأطفال، لا تتصوَّروا أن البالغين هم بالضرورة أفضلُ مَن يقضي بما هو خير وما هو هام، لا تبلغ بكم الغفلة أن تفترضوا أن ما يثير انفعالَ العم هو أطرفُ ممَّا يُثير تومي، لا تظنوا أن طِنًّا من الخبرة تَعدِل وَمْضةً من البصيرة، ولا تنسَوْا أن معرفة الحياة لا تُسعِف أحدًا في فهم الفن؛ ولذا لا تُعلِّموا الأطفالَ أن يكونوا أيَّ شيء أو يحسوا أيَّ شيء، فقط ضعوهم على الطريق؛ طريق اكتشافِ ماذا يريدون وماذا يكونون.

١  الصور الشخصية.
٢  محطة سكة حديد بوسط لندن، وهي لوحة شهيرة للمصور الإنجليزي وليم فريث (١٨١٩–١٩٠٩)، وجدير بالذكر أن البعض يرى في نقد كلايف بِل للوحة حيفًا وتعنتًا. (المترجم)
٣  الأونوماتوبيا onomatopoeia هي المحاكاة الصوتية، محاكاة الأصوات كما تَرِد في الحياة. (المترجم)
٤  بعوض صغير. (المترجم)
٥  لوكريتيوس Lucretius في كتابه «في طبيعة الأشياء» De Rerum Natura.
٦  صلبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤