الفصل الثاني

الموقف الإستطيقي

Aesthetic Attitude
علَّمه أن يُسدِّد حبه إلى قلب الأشياء، ويسرح أشواقه في طوايا الحق.
في هذا «العالم الثالث» بتعبير بوبر، العالَم الذي برَّأه الإنسان وخلقه، ألتقي بنفسي الحقيقية، وأعيش عمري الحقيقي، وأعثر على دهشتي المسروقة، ويُسمَح لي، لدقائق محسوبة، أن ألتقي بدموعي السجينة.
وَارِنِي عَن اسمي، وإلا رأيتَه ولم تَرَني.
النِّفَّري

(١) الموقف … وإدراك العالم

إن ما نُدركه ونَخبُره ونُحسه لا يتوقف فحسب على ما هو موجود في بيئتها، بل يتوقف أيضًا على اهتمامنا وانتباهنا الانتقائيَّين (بالإضافة إلى قدراتنا الذهنية الخاصة في التأويل والتصنيف)، وقد كانت الفكرة السائدة قديمًا هي أن الكائنات الإنسانية كائنات تستقبل كل المنبِّهات البيئية الخارجية بطريقة سلبية آلية ولا تُفلت منها أيَّ منبه. ومن الثابت الآن أن هذه الفكرة قاصرةٌ بل مغلوطةُ ومضلِّلة، فالحق أن «الموقف» الذي نتخذه في حياتنا بصفة عامة وفي كل لحظة آنية بصفة خاصة يتحكَّم في طريقة إدراكنا للعالم وللأشياء من حولنا. و«الموقف»  attitude (الاتجاه) هو طريقة في توجيه إدراكنا وضبطه، فنحن لا نَلتقِط كل شيء في بيئتِنا دون تمييز، وإنما نحن «ننتبه» attend إلى بعض الأشياء ونُركز على بعض السِّمات بينما نتجاهل غيرها ولا نُدركها إلا بطريقة غائمة باهتة أو لا ندركها على الإطلاق. من خصائص الانتباه إذن أنه انتقائي يَجتبي ما يَعنيه من المنبهات الخارجية ويضرب صفحًا عن غيرها، بل ينفي هذا الغير عن ساحة الوعي بطريقة قاطعة وآلياتٍ نَشِطة.

إنَّ الأغراض التي نُضمرها لحظة الإدراك هي التي تتحكم في تحديد ما نختاره لكي نَنتبه إليه، فأفعالنا هي دائمًا غرضية تتَّجه نحو هدفٍ ما؛ ولذا فإنه عندما تكون للأفراد أغراضٌ مختلفة فإنهم يُدركون العالم على أنحاء مختلفة، بحيث يُقرُّ أحدهم أمورًا معينة يتجاهلها غيره أو يُنكرها، ذلك أن الاهتمام أو الموقف هو الذي يُرشِد الانتباه في اتجاهات ذات صلة، ويهيئ الكائن إلى أن يسلك بطريقة فعالة، ويحجب في الوقت نفسه تلك المنبهات التي لا تتَّصل بغرضه وربما تُشتِّت جهوده وتبددها، فالطالب الذي يستغرق في حل مسألة رياضية، على سبيل المثال، يولي كل اهتمامه إلى العناصر المتصلة بهذه المسألة، ويصرف انتباهه بشكل حاسم عن كل منبِّهات البيئة ولا يكاد يُدرك منها شيئًا، بل إن الموقف الفكري والأيديولوجي لَيتحكَّم في طريقة الإصغاء إلى الأشياء وهيئتها المُدرَكة، ويَشحن الانتباهَ في اتجاهات معيَّنة ويَصرِفه عن المُضيِّ في اتجاهات أخرى.

(٢) الموقف العملي والاقتصاد الإدراكي

نَخلُص من ذلك إلى أننا في حياتنا اليومية المعتادة نتخذ دائمًا موقف «الإدراك العملي»، فلا نُدرك الأشياء إلا بوصفها وسيلةً إلى غاية أو غرض يتجاوز تجربة الإدراك ذاتها؛ ومِن ثم فنحن نَجتزئ بإدراكِ ما يَكفي لإنجاز الغرض العملي؛ فقد علَّمَتْنا الحياة العملية أن «نقتصد» في الإدراك، وننظر إلى الأشياء والأشخاص بالقدر الذي يكفي لتمييزهم، وكأننا في الحقيقة لا نرى الأشياء ذاتها بل نقرأ بطاقات الأشياء لنَعرف على الفور كيف نسلك إزاءها، أو ننظر إلى الشيء لنرى فيه «النمط» type لا «النسخة» token (بتعبير اللسانيات الحديثة). يقول كلايف بِل: «لقد اخترع هذه البطاقات المفيدة أناسٌ عمليون من أجل أغراض عملية، والبَلِيَّة هي أن العمليين من الناس بعد أن يكتسبوا عادةَ تمييز البطاقات يميلون إلى أن يفقدوا القدرة على الانفعال، وبما أن الطريقة الوحيدة لبلوغ الشيء في ذاته هي الشعور بدلالته الانفعالية، فإنهم سرعان ما يبدءون في فقد حسِّهم بالواقع.»١
هذا «الاقتصاد الإدراكي»، أو عادة قراءة بطاقات الأشياء، هو أمرٌ مفيدٌ ولا بد منه لادِّخار الطاقة وحفظ الحياة، وقد قيل يومًا: إنَّ الذئب الفنان يموت جوعًا! وتأويل ذلك أنه سيظلُّ يتأمَّل الشاة (ويتغذى بانفعاله الإستطيقي) ولن ينقضَّ عليها أبدًا، إنه «جمالي متطرف» aesthete يُسرف في إدراكه ويخلط المقولات٢ ويفشل في «عزل»٣ الفن، ويُريد أن يُسيِّر الحياةَ بمُقتضيات الفن. «وقد بيَّن روجر فراي أنه من المحال على أغلب البشر أن ينظروا إلى ثورٍ مُغِير (هاجم) كغايةٍ في ذاته، ويُسلموا أنفسهم للدلالة الانفعالية لأشكال الثور، فنحن ما نكاد نُميِّز بطاقة «ثور مُغير» حتى نُهيئ أنفسنا للفرار لا للتأمل، ها هنا تكون عادةُ تمييز البطاقات مفيدةً لنا، إلا أنها تضرنا عندما تَحُول بين الأشياء وبين استجابتنا الانفعالية لها رغم غياب أي داعٍ للفعل أو العجلة … إن عادة تمييز البطاقة وإغفال الشيء، والرُّؤية الفكرية بدلًا من الرؤية الانفعالية؛ هي علة ذلك العمى المذهل، أو بالأحرى تلك الضَّحالة البصرية، لمعظم الراشدين المتحضِّرين، فنحن لا ننسى ما حرَّكَ شعورنا، ولكن ما اجتزأنا بتمييزه ولم نَزِد فهو لا يُخلِّف في ذهننا أثرًا عميقًا.»٤

مساوئ الموقف العملي

ذلك هو الموقف العملي، أما «الموقف الإستطيقي» فهو الموقف الذي نتَّخذه من شيءٍ ما عندما نهتم به دون باعث من المنافع العملية، فنُوليه اهتمامًا «منزَّهًا عن الغرض» disinterested ونتأمله من أجل ذاته فحسب، فإذا كانت العادة تغطِّي عالَمنا بقشرةٍ من الرتابة وتذهب بماوَّيته وبهائه وتُغشِّي على موضع الدهش منه، فإن الفن اختراقٌ إلى باطن الحياة وقراءةٌ في قلب الواقع وامتدادٌ بملَكات الإدراك، وإذا كانت الحياة العملية «تُقلص رؤيتنا وتضع على أعينِنا غمائم كي لا نتلفَّت ولا ننظر إلا في الاتجاه الذي تفرضه ضرورات العمل.»٥ فإن الفنَّ سراحٌ للعين والخاطر، وهجرةٌ إلى الواقع النهائي.

يرى السوقة أن الفنان رجلٌ ذاهلٌ جدًّا، لأنه مُتيقِّظٌ جدًّا لما نحن ذاهلون عنه، إننا نَبتذل الوجود ونُسطِّحه، ونُشيح عنه كأننا سنزوره ألف مرة، فلا نَنظر الأشياء ذاتها بل نقرأ بطاقاتها، ونرى إليها بعين الغرض فلا نرى غير تصنيفاتها التي أعدَّتها لنا سلفًا ثقافتنا المحلية، إننا نَنظرها باللغة، واللغة تطمس الفروق وتَسرق «فردية» الأشياء وتُحيلها إلى فئاتٍ عامَّة وأنماطٍ كلية، يَنصِب «اللفظُ» وجهه بيننا وبين «الشيء» فيَحجُبه عنا، فلا نرى منه غير الاسم والغرض (وإلا لكنا جميعًا رسامين ومثَّالين).

ولا تكتفي الألفاظ بأن تقف حائلًا بيننا وبين الأشياء، بل تقف أيضًا حائلًا بيننا وبين أنفسنا! إن مشاعرنا وانفعالاتنا الذاتية لتُفلت هي أيضًا من قبضتنا، فنحن لا نعرفها على وجه التحديد — لا نلمس تعاريجها الدقيقة ولا نسبر أعماقها الغائرة ولا نتبيَّن قسماتها الفردية وملامحها الشخصية، ولا نُدرك منها إلا جانبها التقريبي غير الشخصي ووجهَها العام الشائع الذي تسنَّى للغة أن تَلتقِطه وتُسجله (وإلا لكنا جميعًا شعراء وروائيِّين وموسيقيين).

إنَّ الحياة العملية، كما يقول برجسون، تُلقي بنا في عالمٍ نفعي يقوم على بعض الرموز والدلالات العامة، من شأنها أن تسلب منا فردية الأشياء وفرديتَنا، وينقضي وجودنا في منطقةٍ محصورةٍ ضيقةٍ لا هي بالذات ولا هي بالعالم الخارجي، بل هي — على وجه التحديد — منطقة متوسِّطة بيننا وبين الأشياء، هي منطقة التعامل مع الواقع، يقول برجسون: «لقد عملَتِ المصادفات السعيدة على ظهور أناسٍ تبدو حواسُّهم وشعورهم أقلَّ التحامًا بالحياة، وكأن الطبيعة قد نسيَت أن تربط ملَكة الإدراك الحسي عندهم بملكة الفعل والتصرف، وهؤلاء حينما ينظرون إلى شيء فإنهم لا يرونه لأنفسهم، بل لنفسه هو! وهم لا يُدركون لمجرد العمل والتصرف، بل يدركون للإدراك ذاته، أعني لغير ما غايةٍ، اللهمَّ إلا المتعة وحدها، وهم يولدون منفصلين — في جانب من جوانبهم، سواء أكان هذا الجانب هو إحدى الحواس أم هو الشعور نفسه — عن الواقع أو الحقيقة الخارجية، وبالتالي فإنهم يُولَدون مصوِّرين أو مثَّالين أو موسيقيين أو شعراء.»٦
١  كلايف بِل: الفن، ص٩١.
٢  المقولة category تعني: فئة، جنس، عائلة، نمط، نوع … إلخ، وهو مصطلح يُستخدم ليدلَّ على شريحة أساسية في تصنيف الواقع، و«الخطأ المقولي» category mistake هو أن تضع الشيء في الفئة الخطأ، أو أن تعرض أشياء ووقائع من نوعٍ ما كما لو كانت تَنتمي إلى نوعٍ آخر، أو أن تَنسِب لشيءٍ ما خاصيةً لا يُمكن أن تخص هذا الشيء. أن ترتكب خطأ مقوليًّا هو أن تقرن أشياء من تصنيفات مُختلفة لا يجوز عقلًا أن تَجتمع، كأن تقول: أعداد حمراء، فضائل بدينة، قضايا غير قابلة للأكل، أو أن ترى الاعتقادات على أنها أشياء تَشغل حيِّزًا مكانيًّا في الرأس، أو ترى الأعداد كأشياء مكانية كبيرة، أو الزمن كشيء يتدفَّق … إلخ.
٣  أي عزل الموضوع الإستطيقي عن ضوضاء الحياة الخارجية والخِبرة العادية والإدراكات المحيطة.
٤  الفن: ص٩١-٩٢.
٥  د. زكريا إبراهيم: فلسفة الفن في الفكر المعاصر، مكتبة مصر، القاهرة، ١٩٦٦، ص١٧.
٦  فلسفة الفن في الفكر المعاصر، ص٢١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤