الفصل الخامس

المحاكاة والتمثيل

ما كان الفن فنًّا إلا لأنه ليس بالطبيعة.

جوته

إنَّ قيمة الصنف الرفيع من الفن لا تتمثل في قدرته على أن يُصبح جزءًا من الحياة العادية، بل في قدرته على أن يَخرج بنا منها.

كلايف بِل
ما سرَّني أنني حكَيتُ إنسانًا.١
حديث شريف
في كتابه البعيد الأثر «الشعر» Poetica، عرَّف أرسطو التراجيديا بأنها «محاكاة» mimesis لشخصياتٍ معيَّنة أو أفعال بشرية معينة، فقد لاحظ أرسطو أن الناس يُمتِّعها أن تُقلد وأن تشاهد تقليداتٍ ناجحة، ومنذ ذلك الحين أصبح عامة الجمهور يَعتقدون أن الوظيفة الرئيسية للفن هي محاكاة الواقع، وأصبح تصور الفنان في ذهن الناس هو ذلك الشخص الذي لديه القدرة على محاكاة الواقع؛ أي صنع نسخ طبق الأصل لما يَجري بالحياة، ويبلغ الفن ذروته في نظرهم إذا استطاع أن يوهمنا أنه واقع، وهو ما لاحظه الكاتب الروماني بليني عن الرسام زيوكسيس الذي «رسم صورة لعناقيد عنب بلَغت من الحذق في التمثيل مبلغًا جعل العصافير تسفُّ لكي تأكل من كروم اللوحة.»٢ وهو أيضًا ما أفضى به ليوناردو دافنشي بصريح العبارة حين قال «إنَّ أعظم تصوير هو الأقرب إلى الشيء المصور.»
وما يزال العامة في كل مكان يُثنون على الأعمال الفنية لأنها شبيهةٌ بالحياة أو «واقعية»، وما يزالون يَعتبِرون الفن مرآةً للطبيعة، ويرون اللوحات الفنية وسيلة «إيهام» illusion يَصطنُعها المصورون حتى يجعلوا الناظر يتوهم أنه يرى الطبيعة نفسها حين لا يكون أمامه سوى مسطَّحٍ من الألوان والخطوط والأشكال، وخلال تاريخ الفن بُذلت جهودٌ كبيرة لاستحداث أساليب تزيد من قوة التشابه مع الواقع؛ ففي عصر النهضة المتقدم، على سبيل المثال، كُرس قدرٌ كبيرٌ من التصوير للتغلب على مشكلات المنظور، بحيث يمكن تحقيق الشكل ذي الأبعاد الثلاثة على قماش ذي بُعدين، وفي القرن التاسع عشر، عندما كانت هذه المشكلات قد حُلَّت إلى حدٍّ بعيد، بُذلت جهودٌ كبيرة في حركة الانطباعية من أجل التعبير بدقة عن تألق الضوء على السطوح الملونة.٣

(١) محاكاة الكلي

من الجدير بالذكر أن المحاكاة التي نادى بها أرسطو تختلف اختلافًا بعيدًا عن «المحاكاة البسيطة» التي تُنسب (خطأ) إلى أفلاطون،٤ إن المحاكاة عند أرسطو هي محاكاة انتقائية خلاقة، تعبر عن «الكلي» بحق في التجربة البشرية ولا تَكتفي بالترديد الحرفي للمجرى المألوف للتجربة، فليس من مهمَّة الشاعر، في رأي أرسطو، أن يَروي ما حدث، فالشِّعر أقرب إلى الروح الفلسفية من التاريخ وأرفع منه؛ إذ إن الشعر يتجه إلى التعبير عن الكلي، بينما التاريخ يعبر عن الجزئي؛ فالتراجيديا مثلًا لا تكتفي بأن تكشف لنا عما يحدث لأوديب، ذلك الإنسان الجزئي أو الخاص، وإنما تبيَّن ما يُمكن أن يحدث لأي فرد له نفس الشخصية ويوجد في نفس الظروف أيًّا ما كان زمانه ومكانه؛ إذ إن علاقة العلة والمعلول التي تَكمن من وراء حياة الإنسان هي في أساسها واحدة، ومن هنا فإن الدراما تَكشف عن حقيقةٍ من حقائق الحياة تتَّسم بأنها أعم وأعمق من السيرة التي تسرد حياة يومٍ بيوم.
وقد توسَّع مُفكِّرون لاحقون في فكرة المحاكاة الأرسطية، وطوَّروها إلى ما يُمكن أن يُسمى «محاكاة الماهيات» imitation of essences، ومن أبرزهم الدكتور صموئيل جونسون الذي رأى أنَّ أهمَّ ما يُميز شكسبير هو أنه يصور الكلي أو العام في التجربة الإنسانية، وأنَّ أشخاصه يسلكون ويتكلَّمون بتأثير تلك الانفعالات والمبادئ العامة التي تُحرِّك الأذهان جميعًا، ومن أبرزهم في مجال الفنون البصرية السير جوشوا رينولدز J. Reynolds الذي يقول إنَّ جَمال الفن وعظمته يَنحصِران في قدرته على تجاوز جميع الصور الفردية والعادات المحلية وشتى أنواع التفاصيل والجزئيات؛ فالفنان الذي يعرف الطابع العام للأشجار على سبيل المثال يستطيع بخطوط قليلة مُقتصِدة بارعة أن يقدم صورةً تخطيطية نشعر أمامها أنه قد توصَّل إلى «ماهية» الشجر ذاته أو نفَذ إلى كيانه الباطن.

(٢) التَّصوير الوصفي Descriptive Painting

إذا كان الفن، وفقًا لنظرية «المحاكاة البسيطة»، نَسخًا للواقع، فأي جدوى تعود علينا من الحصول على نُسخٍ ولدينا الأصل طوع يدنا؟!

«التَّطابق أو التَّشابه ليس شأنًا إبداعيًّا، فما الفائدة من رسم المظهر الخارجي لتفاحةٍ مثلًا حتى بأقصى دقة ممكنة — كما تساءل ماتيس مرة؟ ما الفائدة من نسخ شيءٍ تُقدمه الطبيعة بكميات غير محدودة؟»٥ يقول أرسطو: إن الناس تجد متعة في رؤية الشبيه لأن في الاستدلال والتعرف على الأنموذج متعة، غير أن بِل والشكليين يرون أن متعة التعرف ليست متعةً إستطيقية.
يقول بِل: «كلنا نألف لوحاتٍ تثير اهتمامنا وإعجابنا دون أن تهزَّنا كأعمالٍ فنية، تحت هذه الفئة يَندرج ما أسميه «التصوير الوصفي»، أي ذلك الصنف من التَّصوير الذي يُستخدم فيه الشَّكل لا كموضوع للانفعال بل كوسيلة لنقل معلومات واقتراح عواطف، في هذا التَّصنيف تدخل البورتريهات ذات القيمة السيكولوجية والتَّاريخيَّة، وتدخل الأعمال الطوبوغرافية واللوحات التي تروي حكايات وتُوحي بمواقف، وتدخل وسائل الإيضاح بجميع أنواعه. إنَّ الفرق واضح لنا جميعًا، فمن منا لم يتفق له يومًا أن يقول إن هذه أو تلك من اللوحات هي رسم ممتاز كوسيلة إيضاح ولكنه لا قيمة له كعملٍ فني؟ هناك بالطبع كثير من اللوحات الوصفية التي تتحلَّى بذلك، إنها تروقنا وتُطرفنا وقد تحركنا بمائة طريقة متنوِّعة عدا أن تُحركنا إستطيقيًّا، إنها وفقًا لفرضيتي ليسَت أعمالًا فنية، فهي لا تمسُّ انفعالاتنا الإستطيقية؛ ذلك لأن ما ينالنا منها ليس الشكل، بل الأفكار التي يقترحها الشكل أو المعلومات التي ينقلها.»٦
حين يكون اهتمام المتلقي منصرفًا إلى التعلم أو الاستدلال أو التعرف فإنَّ إدراكه لا يقع على العمل الفني ككل، وإنَّما يقع على «موضوعه» فقط، أي على الشيء الذي يمثله العمل، حينئذ تكون أي صورة فوتوغرافية تافهة أوفى بالغرض من أي لوحة عظيمة، وبنفس القياس تكون الأعمال الوصفية التي لا همَّ لها إلا التمثيل الدقيق عبثًا لا طائل منه، و«إهدارًا لساعات رجالٍ ذوي براعة من الأجدى أن يُستخدموا في أعمالٍ أوسع نفعًا.» إن الطبيعة والفن، كما يقول بيكاسو، هما ظاهرتان مختلفتان تمام الاختلاف، ولو كان الفن مجرد تمثيل أمين للطبيعة لكان، على حدِّ تعبير شارل لالو، بطانةً تافهةً لا طائل تحتها، فالطبيعة في حقيقة الأمر لا تُبالي بالجميل ولا تكترث بالجمال، لأنها عديمة الصبغة الجمالية anaesthetic، مثلما هي عديمة الصبغة المنطقية alogical وعديمة الصبغة الأخلاقية amoral، إنما الفن عالمٌ آخر مُستقل نوعيًّا عن العالم الخارجي، ولا سبيل إلى ردِّه إلى عالم الواقع، إنه عالم إنسانيٌّ منبثقٌ عن ذهن الإنسان ونشاطه الخالق، إنه إبداعٌ بشريٌّ خالص غير ملزم بترديد الحقيقة الموضوعية أو نسخ الوجود الخارجي، وقد نبَّهنا أندريه مالرو إلى أن «الغرب وحده هو الذي ظن أن التشابُه resemblance عامل جوهري في الفن، وأما في إفريقيا وجزر المحيط الهادي فقد بقيَ «التقليد» مجهولًا، فضلًا عن أننا نلاحظ أن المحاكاة لم تتَّخذ صورتها المعروفة عندنا في كل من مصر وبلاد ما بين النهرين وبيزنطة وبلدان الشرق الأقصى.»٧
«ليست الطبيعة وفقًا لهذا المنظور الفني موضوع محاكاةٍ ونقلٍ وتقليد، وإنما هي على العكس موضوع تأملٍ واستبصارٍ وكشف، وقد أُعطيَت اللغة الفنية للمبدعين لا لكي يكرروا العالم ويَسجنوه في صوره الظاهرة المعروفة، وإنما لكي يحرروه ولكي يُبقوه في حركيته الداخلية — في ما لا ينتهي، ولكي يُظهروه باستمرارٍ في صورٍ جديدة.»٨
يقول ألكسندر إليوت في كتابه «البصر والبصيرة» sight and insight: «قال الملاك لمحمَّد إذا أراد الفنانون أن ينعموا ببركة الله فليُمسكوا عن النقل عن كل شيء؛ ولذا فإن قصر الحمراء تجريديٌّ بحت، باستِثناء الأسود الشرقية السحنة في الفناء الأوسط.»٩
«الإنسان، بوصفه ناطقًا، هو بطبيعته منشئ، لا يُقلد (لا يحاكي): لا الإنسان ولا الطبيعة (الأشياء)، وإنما يرى إلى كل شيء، بوصفِه ناطقًا منشئًا — أي بوصفه بادئًا، مبدعًا، أن نُفصح عن شيء ما، تشكيليًّا — أن نُصوِّره، هو أن نقدم صورةً تغاير صورته العينية الظاهرة؛ هو أن «نقلب» صورته، فالحس فنيًّا بالأشياء لا يبدأ إلا بنشوء مسافة بينه وبين واقعها الظاهر المباشر، بهذا المعنى، حصرًا، لا يُمكن الفن أن يكون «واقعيًّا»، بل تبدو كلمة «واقعي» تناقُضية وعبثية — ذلك أن الفن هو حيث لا دليل على الشبه، إنه «نارٌ بلا دخان»، صحيحٌ من المُمكن أن ننقل الظاهر بنوعٍ من الصناعة والعلم، لكن هذا النقل لن يكون فنًّا، وإنما سيكون «صناعةً» و«علمًا».»١٠
يُؤكِّد بل دائمًا على أن التذوق الفني الصحيح ينبغي أن يقع على الشَّكل، وها هنا يكون العنصر «التمثيلي» representational سلاحًا ذا حدَّين: فقد يكون — خاصة في التصميمات المعقَّدة — بمثابة مفتاح يرشدنا إلى طبيعة التصميم ويمهد السبيل لانفعالاتنا الإستطيقية، ولكنه من الجهة الأخرى يجب أن يكون مدمجًا في التصميم كي لا يفسد اللوحة بوصفها عملًا فنيًّا؛ فالحق أن التصميم الجميل المكوَّن من أشكال واقعية معرَّض بدرجة كبيرة لخطر التدني الإستطيقي؛ إذ يستلفت عنصره التمثيلي نظرنا على الفور فتفوتنا دلالته الشكلية. إن علينا حيال اللوحات التي تُمثِّل أناسًا أو أشياء من الواقع «أن نعاملهم كأنهم لا يمثلون أي شيء» وأن نَنظر إليهم على أنهم أنموذج من الخطوط والكتل والألوان.
يقول كلايف بِل «أود ألا يتصور أحدٌ أن «التمثيل» شيءٌ سيِّئ في ذاته؛ فليس هناك ما يمنع أن يكون شكلٌ واقعي ما، وهو منتظم في مكانه كجزء من التصميم، مُضاهيًا في الدلالة لشكلٍ آخر تجريدي، ولكن إذا كان لشكلٍ تمثيلي قيمةٌ فبوصفه شكلًا لا بوصفه تمثيلًا، فالعنصر التمثيلي في العمل الفني قد يضرُّ وقد لا يضر، ولكنه دائمًا خارج عن الموضوع؛ ذلك أننا لكي نُدرك عملًا من أعمال الفن لا نحتاج إلى أن نأتي معنا بشيء من الحياة، أو بمعرفة بأفكارها وشئونها أو بألفٍ لانفعالاتها، فالفن ينتشلنا من عالم الدأب البشري إلى عالم الوجد الإستطيقي، ونحن في اللحظة الإستطيقية تَنقطِع أسبابنا بالاهتمامات البشرية، وتتوقف تطلعاتنا وذكرياتنا؛ إذ يعلو بنا الفن فوق تيار الحياة»١١ … إن تمييز التطابُق بين أشكال العمل الفني والأشكال المألوفة في الحياة لا يمكن أن يثير انفعالًا إستطيقيًّا البتَّة، فليس غير «الشكل الدال» ما يقوى على ذلك، وليس ما يمنع بطبيعة الحال أن تكون الأشكال الواقعية دالةً إستطيقيًّا وأن يخلق منها الفنان عملًا رائعًا. غير أنَّ ما يعنينا منها عندئذٍ هو قيمتها الإستطيقية لا قيمتها المعرفية، فبإمكان العنصر المَعرفي أو التمثيلي في العمل الفني أن يكون مفيدًا كوسيلة إلى إدراك العلاقات الشكلية وليس بأي طريقةٍ أخرى.

هكذا نرى أنَّ التمثيل ليس خارجًا عن الموضوع فحسب، بل هو عبءٌ على الموضوع وخطرٌ متربِّص بالشكل، وهو ضار في أغلب الأحوال، ولا يُصبح مفيدًا إلا إذا اقتصر دوره على أن يكون مفتاحًا متروكًا في العمل نفتح به — حين تُعوزنا الخبرة الذوقية الكاملة — بابًا خلفيًّا إلى عالم الشكل الدال، ولا يكون مفيدًا ما لم يكن مدمجًا ومستوعبًا في الشكل، أما أن تستلفتنا «المشابهة» وتصرف انتباهنا عن العلاقات الشكلية فنحن بنفس الدرجة نكون قد أدَرنا ظهورنا لعالم الفن وطَفقنا راجعين إلى عالم الحياة.

(٣) الموسيقى فن الشكل الخالص

من العسير على المرء إذن أن يدخل محراب الفن الحديث دون أن يَخلع عاداته الإدراكية القديمة وتوقُّعاته المعهودة من الفن، فتذوق الفن الحديث يستلزم تربية عادات إدراكية جديدة، وربما تكون حالة تذوق الموسيقى — فن الصورة الخالصة — مثالًا واضحًا لما نريد تبيانه، إنَّ الموسيقى لا تمثل شيئًا من عالم الطبيعة؛ وذلك لأن وسيطها الحسي، وهو الأنغام والإيقاعات والتوافُقات، لا يتيح لها أن تحاكي شيئًا من عالم الحياة، إنها عالمٌ قائمٌ بذاته مكتفٍ بها، وجمال القطعة الموسيقية، كما يقول إدوارد هانسليك E. Hanslick، هو «جمال موسيقي» على التخصيص، أي أنه يَكمن في توليفات الأصوات الموسيقية، ويستقلُّ تمامًا عن جميع الأفكار الدخيلة الخارجة عن نطاق الموسيقى؛ ومن ثم يتعيَّن أن يقع التذوق الموسيقي على الشكل وحده.
إلا أنَّ المستمع غير المدرَّب يلجأ في عامة الأحوال إلى تصور قصة معينة في القطعة الموسيقية، أو تلمُّس انفعالات بشرية معتادة، وفي هذا يقول كلايف بِل واصفًا حالته الذهنية الشخصية إزاء الموسيقى: «ضجرًا كنت أو محيرًا فإنني أدَعُ إحساسي بالشكل يُفلت منِّي، وأفشل في فهم التآلفات الهارمونية فأظلُّ أنسج بها أفكار الحياة، وأعجز عن الشعور بالانفعالات الصارمة للفن، فأظل أقرأ في الأشكال الموسيقية عواطف بشرية من رعب وغموض وحب وكراهية، وأُنفق اللحظات — مستمتعًا إلى حدٍّ مُرضٍ — في عالم من المشاعر الآسنة المُتدنية … إنني أدري تمامًا ما الذي حدث: لقد كنتُ أتخذ الفن سبيلًا إلى انفعالات الحياة أقرأ فيه أفكار الحياة. لقد كنت أقطع جلاميد صخر بموسى حلاقة، لقد تردَّيت من الذُّرى العالية للوجد الإستطيقي إلى السفوح الحميمة للحياة البشرية الدافئة.»١٢

(٤) الحياة حياة والفن فن

مهما تكن علاقته بالحياة فالفنُّ غير الحياة، صحيح أنه ينبثق عن الإنسان ويشطأ من تربة الحياة، إلا أنه — شأن كل كيان «انبثاقي» emergent — مُستقلٌّ عن منشئه مغاير لأصله ولا يُمكن «ردُّه» إلى عناصره الأولى، فلو كان الفن مجرد رهافة حسية إنسانية وتوقُّد وجداني حياتي لكانت أي فتاة مُراهِقة نزقة هي أشعر الناس، ولو كان الفن مجرد تأثُّر بالطبيعة أو بأحداث الحياة لانتفَت الحياة التي نراها جميعًا من أن المدرسة الأولى للفنانين هي مدرسة الفن لا مدرسة الحياة، وأن نقطة البداية في حياتهم هي التأثُّر بأعمال غيرهم من الفنانين العظام لا التأثُّر بمناظر العالم الخارجي، وهي المشاركة في عالم الفن لا المشاركة في عالم الطبيعة.
الفن فن والحياة حياة، ومن يتعامل مع الفن بمنطق الحياة أو يقيسُه بمعايير الحياة يقع في مغالطة «خلط المقولات» أو ما صار يسمى «الخطأ المقولي» category mistake، شأنه شأن من يقول «الأعداد الحمراء» أو «الفضائل البدينة» أو «القضايا غير القابلة للأكل»! إن فعله عبثٌ لا جدوى منه، وقوله خطلٌ لا تجدر مناقشته، إنه، على حدِّ تعبير بل: «يقطع جلاميد صخر بموسى حلاقة» أو «يستخدم تلسكوبًا لقراءة جريدة.»
الفن عالمٌ قائمٌ بنفسه شأن عالم الرياضيات أو عالم الوجد الصوفي، «إن عالِم الرياضيات المُستغرِق في دراساته يعرف حالةً شبيهةً إن لم تكن مطابقة، فهو يشعر إزاء تأملاته بانفعال لا ينجم عن أي علاقة مدركة بينها وبين حياة البشر، بل ينبع، غير بشري أو فوق بشري — من قلب عالم مجرد.» والإدراك الفني الصحيح يتجه إلى الأثر الفني باعتباره «ذاتًا» أخرى ينعتها ﺑ «أنت» لا ﺑ «هو»! إن العمل الفني كيانٌ فردي وذاتٌ فاعلة مسيطرة، فهو أشبه بما يُسميه سارتر «موجودًا لذاته» pour soi وليس مجرد «موجود في ذاته» en soi شأن غيره من الجمادات والعجماوات؛ ومن ثم فمن الخطأ الفادح أن نُحاول فهم الموضوع الإستطيقي بإدخاله في إطاراتنا الذهنية المعتادة؛ فالعمل الفني هو من نفسه بمثابة عالَمه الخاص، ولا سبيل إلى فهمه إلا على أرضه، وبلوائحه وشروطه، «ومن شاء أن يُحسَّ دلالة الفن فعليه أن يتضع أمامه، أما الذين يرون أن الأهمية الرئيسية للفن والفلسفة هي في علاقتهما بالسلوك أو النفع العملي، أولئك الذين لا يَستطيعون أن يُقدِّروا الأشياء كغايات في ذاتها، أو كسبيلٍ مباشرٍ إلى الانفعال على أيَّة حال، فما يكون لهم أن يَظفروا من أي شيء بخير ما يمكن أن يمنحه، وأيًّا ما كان عالم التأمل الإستطيقي فهو ليس عالم المشاغل والأهواء البشرية، إنه عالمٌ لا تَسمع فيه لغو الوجود المادي وصخبه، أو تسمعه كمجرد صدق لتوافُقٍ آخر أكثر جوهرية.»١٣
١  أي قلدته.
٢  Earle, William (1992) Introduction to Philosophy, Mc GrowHill, Inc., pp. 250-251.
٣  النقد الفني، ص١٥٨.
٤  يُميِّز أفلاطون بين صنفين من المحاكاة: صنفٍ يَمقته وهو المحاكاة السطحية الشائعة، وهي تقليد التقليد أو صور الصور، وصنفٍ يُجلُّه وهو محاكاة المُثل، الحق والخير والجمال، وهي المحاكاة الصحيحة المتعلِّقة بحقيقة مالية لا بصورة حتى تأتي بتصوير معبِّر عن الأصل قدر الإمكان، انظر في ذلك فصل «الفلسفة والفن عند أفلاطون»، في كتاب د. أميرة حلمي مطر «فلسفة الجمال، أعلامها ومذاهبها»، مكتبة الأسرة، القاهرة، ٢٠٠٢، ص٣٩–٧٦.
٥  أدونيس: الصوفية والسوريالية، دار الساقي، بيروت، ط٢، ١٩٩٥، ص٢٠٠.
٦  الفن، ص٤٥-٤٦.
٧  زكريا إبراهيم: مشكلة الفن، مكتبة مصر، القاهرة، ط١، ١٩٥٩، ص٦٨.
٨  أدونيس: الصُّوفية والسوريالية، ص٢٠٣.
٩  ألكسندر إليوت: البصر والبصيرة (ترجمة جبرا إبراهيم جبرا بعنوان «آفاق الفن»)، دار الكاتب العربي، بيروت، ١٩٦٤، ص٢٣٧.
١٠  أدونيس: الصوفية والسوريالية، ص٢٠١.
١١  الفن، ص٥١.
١٢  الفن، ص٥٦.
١٣  الفن، ص٥٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤