تقديم

ليس هناك فلسفة بغير تفلسف، أعني بغير مشاركة في مسائلها، وتجربةٍ حية لمشكلاتها، صحيح أن هناك عددًا لا حصر له من الحقائق التي يستطيع الإنسان أن يتعلَّمها من تاريخ الفلسفة، وصحيح أيضًا أن تاريخ الفلسفة لا غِنى عنه لكل من يريد أن يتفلسف، غير أن الاقتصار على ترديد آراء الفلاسفة — كما يقول «كانط» في عبارته الجميلة في نهاية «نقد العقل الخالص» — يُحيل الإنسان إلى «نسخة من الجبس» تكتفي بالترديد وتعجز عن الإضافة والإبداع. فتاريخ الفلسفة هو تاريخ البحث في المشكلات الفلسفية قبل أن يكون مجموعة من المذاهب والنظم والنظريات، والفلاسفة أُناس مثلنا من لحم ودم، لا آلات مفزعة تصنع أفكارًا مجرَّدة وكلمات جافة مخيفة، لقد واجهوا مشكلاتٍ عذَّبتهم، ووقفوا أمام ألغاز في الكون أو في أنفسهم حاولوا أن يجدوا لها حلًّا. ولا جدوى على الإطلاق من أن «نعرف» أن «أفلاطون» كان ينادي بنظرية المُثُل، أو أن «أرسطو» كان يقول بتركيب الأشياء من مادة وصورة، أو أن «كانط» قد وصف المكان والزمان بأنهما صورتان أوَّليتان للعيان أو المشاهدة، لا يتم للإنسان فهم أو إدراك إلا في إطارهما؛ لا جدوى من معرفة هذا كله إذا لم نعرف قبل هذا شيئًا عن «الإشكال» الذي جعل أفلاطون وأرسطو و«كانط» ينظرون هذه النظرة إلى الواقع أو إلى المكان والزمان، وإذا لم نشعر باللغز الذي أرَّقهم ودفعهم إلى البحث عن الحل الذي ذهبوا إليه. وإذن ففهم المشكلات الفلسفية لا يكون بحفظ مذاهب الفلاسفة وآرائهم، بل بتجربتها ومكابدتها على أنها مشكلاتنا نحن، وطبيعي أننا لن نستطيع أن نفهمها الفهم الصحيح حتى نضعها في داخل تطورها التاريخي، ولكننا لن نستطيع كذلك أن ننظر إليها على أنها «مشكلاتنا نحن»؛ حتى نعود فنضعها في تاريخنا ونسأل أنفسنا: ماذا يمكن أن تقوله اليوم لنا؟ فالفلسفة مجموعة من المشكلات والأسئلة التي لا تكاد تختلف من عصر إلى عصر إلا في أسلوبها وطريقة صياغتها والإجابات التي يحاول أبناء كل جيل أن يقدموها لها، ويعكسوا على مرآتها أفكارهم وهمومهم وضعفهم وقوتهم وأحلامهم وأشواقهم وتخريفهم وسخفهم أيضًا؛ ولذلك كان من أصعب الأمور على دارس الفلسفة أن يجد المرجع الذي يعطيه كل شيء عنها؛ لأنه سيكتشف بعد قراءة مئات الصفحات — بل آلافها — أنه لم يعرف بعدُ ما هي الفلسفة! وليس الأمر كذلك في سائر العلوم التي نصِفها بالعلوم الوضعية، فيكفي أن نمدَّ أيدينا إلى كتاب في تاريخ الفلك أو الطبيعة أو النبات أو الاجتماع؛ لنعرف موضوع هذا العلم وحدوده وغايته. ذلك هو سر الخطر والإغراء الذي تَنْصِب الفلسفة شباكه لكل من يُغامِر بالسير على دربها الممتع الخطر، إنه لا يلبث أن يجد أن كل المصابيح التي أخذها من أيدي الفلاسفة لا تكفي لإنارة طريقه، وأن عليه أن يكتشف هذا الطريق بنفسه، ويُفكِّر فيه بالاعتماد أوَّلًا وأخيرًا على نفسه. صحيح أنه لن يستغني عن هذه المصابيح التي زوَّده بها تاريخ الفلسفة، ولكنها كذلك لن تُعفيه من البحث عن مصباحه ووضع الزيت فيه وتنظيف زجاجه من حين إلى حين!

في هذا البحث الدائب المستمر تكمن حقيقة ما يُسَمَّى عادةً بالفلسفة الخالدة Philosophia perennis، فليست هذه الفلسفة الخالدة هي التي تبحث في علاقتنا بالوجود الكلي وفي علاقته بنا فحسب، وليست هي التي تكتفي بالإجابة على الأسئلة التقليدية، بل هي التي تحيي مشكلاتها الباقية وتخلق مشكلات جديدة كلما استطاعت، وتجعلنا نفكر فيها ونحياها اليوم، لا بل نفكر فيها ونحياها الآن، بذلك تصبح الفلسفة هي التفلسف، كما يصبح التفلسف ضرورةً باطنة، ورسالةً دائمة لا يستطيع الإنسان أن يتخلَّى عن حمل أمانتها ومسئوليتها إلا إذا أراد التخلي عن حقيقته كإنسان.
إن الفلسفة هي التي تفتح عيوننا على معنى وجود العالم ووجودنا، وتضع أيدينا على ما فيهما من إشكال في ذاته، إلى الحد الذي نكفُّ معه إلى الأبد عن الْتماس الحلول «النهائية» أو وضعها في صيغةٍ مريحة أو قالبٍ ثابت من تلك الصيغ والقوالب التي يزخر بها تاريخ الفلسفة. إنها تريد أن تُفْهَم، ولكي تُفْهَم لا بد أن تُبْحَث، ولكي تُبْحَث لا بد أن تكون حرَّة، فليست الفلسفة ولن تكون في الكتب أو الحروف المكتوبة التي فَقَدَت مع الزمن سحرها القديم، وجدير بنا أن نذكر أن سقراط إمام الفلاسفة ونموذج الفلسفة لم يكتب — لحسن الحظ — حرفًا واحدًا، وأن حياته وموته ما زالا يُخْجِلان الجميع، سواء أكانوا من المثقفين العاديين أم من موظفي الفلسفة الأكاديميين. فلقد تفلسف سقراط بحق، والفلسفة عنده كان معناها البحث؛ معناها أن هناك أشياء يمكن أن تُرى وأن تُقال، وإلا كانت مجرَّد ثرثرة وهراء وسُحُب نعيش فيها، كما كان أرسطوفان يزعم عنه ظلمًا، ولا شك أنه لم يكن من قبيل الصدفة أن يحيا هذا الفيلسوف الحق إلى جانب البسطاء من الناس يناقشهم ويناقشونه في الشوارع والطرقات، فلعله قد وجد لديهم فهمًا للتهكُّم الفلسفي واستعدادًا للدهشة لم يستطع أن يعثر عليه عند أدعياء المعرفة وكهنتها الرسميين، ولعله قد أحس بفطرته أن مكان الفيلسوف مع الناس، وأن جذوره ممتدَّة في نفس العالم الذي يضمُّهم وإياه. وهل يفعل شيئًا آخر غير التعبير بالكلمات عما يحسُّونه جميعًا من أسرار الروح والجسد والموت والحياة؟ ألا يعبِّر عن اللحظات التي تتجدَّد فيها حياته ويتَّسع أفقه محاولًا أن يجعل تجربته الذاتية تجربةً مشتركة، وأن يوقظ معاصريه ويفتح أعينهم على مفارقات الوجود التي يطوونها بين جوانحهم في صمت؟ ألا يقول لهم: إن الموت كامن في الحياة، وإن الفلاحين — بل شعوبًا بأكملها كما يقول مونتني — تموت باستمرار كما يموت الفيلسوف؟ ألا يعلمهم أن الإنسان، لكي يكون إنسانًا بحق؛ ينبغي عليه أن يكون شيئًا أكبر قليلًا من الإنسان وأقل قليلًا منه؟١
كل هذا يؤكد أنه إذا كان التفلسف هو محاولة الكشف عن معنى العالم أو الوجود الشامل، فإن الإنسان لا يمكنه أبدًا أن يتفلسف بالخروج عن الموقف الإنساني أو من خارجه، فهو لا يستطيع أن يفكِّر في الحقائق الأبدية حتى يبدأ من حقيقته الفانية، ولا يمكنه أن يعلو فوق العالم حتى يهبط إلى أعماقه، ولا يسعه التفكير في الأسئلة الخالدة: من أين؟ وإلى أين؟ حتى يعيش لحظته الحاضرة ويبدأ من يومه الراهن؛ فالفيلسوف ملتزم بالتاريخ الذي يعيش فيه، والناس الذين يحيا معهم، ولكنه كذلك غير ملتزم، بمعنى أنه لا بد له من الاحتفاظ لنفسه بحق التحرُّر من كل قيدٍ ممكن، سواء جاء من الدين أو التقاليد أو أفكار العصر؛ ولذلك فهو مضطر أن يحيا في هذه الازدواجية، أعني أن يعيش على الدوام في حالة من الارتباك، والارتباك هو نقطة ضعف الفيلسوف، وهو كذلك فضيلته، إنه يعلم أن بحثه الدائم عن الوجود الشامل أو المعنى والحقيقة … إلخ؛ لا يُجيز له أن يُبعده عن تيار التاريخ ولا عن عالم الظواهر من حوله، كما يعلم أن انشغاله الضروري بعالم الطبيعة والبشر لا يصح أن يشغله عن الكل والمطلق والمعنى، إنه لا يتعالى فوق تناقضات العالم والعصر، ولكن كذلك لا يريد أن يُغرِق نفسه فيها، ولعل هذا هو معنى العبارة التي ذكرها أفلاطون في محاورة ثيايتيتوس Theaitetos عن تلك الفتاة الثراقية التي أَغْرَقَت في الضحك عندما رأت الفيلسوف طاليس يسقط في نبع الماء؛ لفرط استغراقه في تأمل النجوم.٢

بهذا يضمن الفيلسوف — إن كان في مغامرة التفلسف ضمان لشيء! — ألَّا يتلاشى فكره في التجريد أو يتحجر في الجمود، وأن يظل فعله الفلسفي حيًّا وخالدًا، إنسانيًّا ومتعاليًا فوق الإنسان، واضحًا ومحاولًا الكشف عن الغموض، وبهذا أيضًا تكون «الفلسفة الخالدة» هي في نفس الوقت «الفلسفة الحية»، ولا تكون الفلسفة إلا هذه الحركة المعذَّبة المتصلة بين السؤال والجواب والغموض والوضوح والمطلق والنسبي والإنساني وما يتجاوز حدود الإنسان، ويصبح من واجب هذا «الكائن الوسط» — الذي نسميه الإنسان — أن يقبل هذا القدر القاسي النبيل في شجاعة وثقة، ويحمل مسئوليته في أمانة وكبرياء، حتى يمكنه أن يحيا مشكلات الفلسفة ويحييها، ولا يكتفي فحسب بتأمِّلها والتفكير فيها، وبهذا يُصبح أول حرف في الفلسفة هو الإنسان نفسه، الذي يحاول ويعاني ويصارع ويتقدم على الدوام ويحقِّق نفسه في كل فعل يقوم به كجهدٍ خلاق، وثورة حية متجددة. وتسكن الفلسفة في قلب الحياة والتاريخ، في المكان الذي تولد فيه الأحداث، باحثة عن المعنى والغاية، مبتعدة بنفسها عن طموح العمليين وتجريد المذهبيين.

في هذا البحث الدائم تكمن حقيقة «الفلسفة الخالدة» التي أشرتُ إليها من قبل؛ فهي أشبه ما تكون بنظامٍ شامل يتسع للفلاسفة في كل العصور، وتتنفس فيه آراؤهم، وتنبض أفكارهم وهمومهم. ولكنه كذلك نظامٌ معاصر نستطيع نحن أيضًا أن نجد مكاننا فيه، ونحسُّ بالمشكلات التي عذَّبت مَنْ قبلنا، ونجيب عليها كذلك إجاباتٍ مختلفة عن إجاباتهم. «فالشك» مثلًا ليس مسألة أثارت بعض الفلاسفة ومرَّت من زينون الإيلي إلى السفسطائيين إلى ديكارت، بل هو مسألة تطرح نفسها علينا في زمننا الحاضر وفي موقفنا الراهن. وليس معنى هذا أننا لا ندخل «مدرسة الحكمة» أو «معبد الفلاسفة» إلا لنلتقي بأفكارهم الخالدة فحسب، بل لا بد لنا كذلك أن نعرف حكمتهم وحماقاتهم وهزائمهم وانتصاراتهم وحقائقهم وسخافاتهم. وليس ما يمنع أيضًا من الاهتمام بالأمراض التي كانوا يَشكون منها في المعدة أو الصدر؛ اهتمامُنا بتفاصيل مذهبهم أو ظروف مجتمعهم وحياتهم؛ ذلك لأن الفلسفة — هذا الجنون المعقول! — حاضرة دائمًا في كل فيلسوف، وليست حقائق الفلاسفة أو خرافاتهم سوى ذكريات على طريق واحد، مهما تعرَّج أو امتلأ بالسدود والمطبات، فهو يتحرك على الدوام حركة تبدأ في كل لحظة ولا تنتهي؛ فليست الفلسفة في نهاية الأمر مجموعة من المذاهب والآراء التي تعبِّر عن نفسها بالأفكار المجردة، بل هي قبل ذلك ملحمة من تجارب الحكمة، تمتلئ فصولها بالسلب والإيجاب والنجاح والفشل والتقدم والتأخر، ويتصل فيها الماضي بالحاضر، ويلتقي المفكرون من حيث لا يعلمون؛ ليضعونا أمام المسئولية التي تحتِّم علينا في كل لحظة حاسمة من لحظات حياتنا أن نجرِّب تلك الحكمة، ونسير على هذا الطريق؛ لنُثري حياتنا ونوسِّع آفاق شعورنا، ونكوِّن نظرتنا الشاملة في العالم والإنسان، ونتمسك بالقيم التي نادى بها الفلاسفة ودفع بعضهم حياته من أجلها.

لذلك كانت الخطوة الأولى على هذا الطريق هي إيقاظ السؤال الفلسفي في نفس القارئ من جديد، والرجوع به إلى الحالة الأولى للتفلسف، أي إلى الدهشة الأصيلة التي جعلت أقدم الفلاسفة يسأل هذا السؤال السهل العسير: ما هو الوجود؟ وكانت لحظات الاندهاش أو العلو أو الشجاعة والتواضع أو الاحتجاج … إلخ، التي تتحدث عنها الصفحات القادمة لحظات من فعل التفلسف نفسه، ومحطات على هذا الطريق الطويل الشاقِّ، وألوان من المواقف الحاسمة التي وقفها المفكرون، واستطاعت فيها الفلسفة أن تكون عونًا لهم على مواجهة قدرهم أو أدَّت بهم على العكس من ذلك إلى مأساة هذا القدر؛ ولهذا كله فإن هذا الكتاب لا يهدف إلى التعرُّض لتاريخ الفلسفة أو مذاهبها، بقدر ما يهدف إلى تمهيد الأرض الصالحة لفعل التفلسف نفسه، وتطهيرها من كل ما يعوقه من عقبات تنجم عن التزمُّت أو الكسل أو الإغراق في التفاصيل والجزئيات. إنه يريد أن يشرك القارئ في ذلك البحث الخالد عن المعرفة ويأخذ بيده إلى «مدرسة الحكمة» التي لا يحدُّها مكان ولا زمان، لعله أن يدخل في حوار مع أصحابها، ويذوق طعم المشكلات التي تعذب عقولهم أو تملأ عليهم وجدانهم، حتى يفوز من ذلك بزادٍ يعينه على طريق الحياة، ويحيي فيه جذوة السؤال عن حقيقته وغايته ومعنى وجوده وحريته.

وإذا كان الكتاب لا يهدف — كما قلت — إلى عرض مذاهب فلسفية ولا الوقوف منها موقف المؤيد أو المعارض، فليس معنى هذا بالطبع أنه يسوِّي بين الفلسفات جميعًا كما لو كانت — على حد تعبير هيجل — قططًا سوداء في حجرة مظلمة، بل معناه أنه يعرض جوانب من فعل التفلسف الخالص نفسه؛ فهو الخيط الذي يمكنه أن يهدينا في متاهات الآراء المختلفة، ولا بد من البدء بتفهم حروفه لنفهم بعد ذلك لغات الفلاسفة المركَّبة الغامضة، ولا بد أيضًا من تجربته والتمرس عليه قبل الخوض في الكلام عن المذاهب أو التصدي لها بالمعارضة أو التأييد، فإذا أفلح هذا الكتاب في أن يوقظ في القارئ محبة الحكمة أو يغريه بممارستها، وإذا استطاع — على الأقل — أن يقدِّم له بعض اللحظات الأولية التي تعبر عن الجهد الفلسفي وتضع قدم المتفلسف على الطريق، فقد حقَّق أقصى ما يطمح إليه كاتبه.

عبد الغفار مكاوي
القاهرة في يناير ١٩٦٧
١  ميرلو بونتي، ثناء على الفلسفة، باريس، جاليمار، ١٩٦٠، ص٧٣.
٢  راجع: مقال «الدهشة أصل الفلسفة» في هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤