العود الأبدي

أنتم تنظرون إلى أعلى حين تطلبون الارتفاع، أمَّا أنا فأنظر إلى أسفل؛ لأنني مرتفع.

نيتشه، هكذا تكلم زرادشت
القسم الأول: عن الكتابة والقراءة

«ماذا جرى لي يا أصدقائي؟»

أمس عندما اقترب المساء تكلَّمت إلى أشد ساعاتي سكونًا: هذا هو اسم سيدتي المخيفة.

وهكذا حدث الأمر؛ لأنني لا بد أن أقول لكم كل شيء، حتى لا يقسو فؤادكم على الراحل المفاجئ!

أتعرفون فزع النائم؟ الفزع يستولي عليه حتى أطراف أصابع قدميه، من أن الأرض تلين تحته والحلم يبدأ.

أقول لكم هذا على سبيل الرمز — بالأمس — في الساعة الساكنة، لانت الأرض تحت قدمي: الحلم بدأ.

عقرب الساعة اقترب، ساعة حياتي التقطت أنفاسها.

أبدًا لم أسمع مثل هذا السكون من حولي، حتى أن قلبي تملَّكه الفزع، عندئذٍ تكلمت إليَّ بلا صوت قائلةً: «أتعرفه يا زرادشت؟»

وصرختُ رعبًا من هذا الهمس، والدم غاب عن وجهي، ولكنني سكتُّ.

عندها تكلمت مرة ثانية إليَّ: «أنت تعرفه يا زرادشت، ولكنك لا تنطق به!»

وأخيرًا أجبت كما يجيب العنيد: «أجل، إنني أعرفه، ولكني لا أريد أن أنطق به.» عندها عادت تتكلم بغير صوت وتقول لي: «ألا تريد يا زرادشت؟ أهذا أيضًا حق؟ لا تتخفَّ وراء عنادك!»

وبكيت وارتعشت مثل طفل وقلت: «آه! أنا أريد حقًّا، ولكن كيف أستطيع؟! تجاوزي عن هذا فحسب، إنه يفوق طاقتي.»

عندها تكلمتْ إليَّ مرةً أخرى بغير صوت: «ماذا جرى لك يا زرادشت؟! قُل كلمتك وتحطم!»

وأجبت: «آه، هل هي كلمتي؟ من أكون أنا؟ إنني أنتظر من هو أعظم شأنًا، أنا لا أستحق حتى أن أتحطم عليه.»

زرادشت يودِّع أصدقاءه، ليعود إلى وحدته من جديد، إن أشد ساعاته سكونًا قد تحدثت إليه، صوت سيدته المخيفة قد همس في أذنه، وملأ قلبه بالرعب، حقيقته الخفية الباطنة تريد أن تكشف عن وجهها، فكرته المختبئة في أعماق نفسه تريد الآن أن تعبر عن نفسها، ففي أشد ساعاته سكونًا يتجلَّى له أشد الأشياء حُبًّا في السكون، وسر الزمن الذي طالما عذَّبه وطارده على وشك أن يعلن الآن عن نفسه، أن يكشف الغطاء عن جوهره وماهيته، اللحظات تمر والعجلات تدور والأنهار تجري، وحبات الرمال تتساقط في الساعة الزجاجية، والزمن نفسه يعبر في سكون؛ لأنه أشد الأشياء سكونًا. إن السيدة المخيفة تقول لزرادشت: أنت تعرفه! لكن ذلك الشيء الذي لا يقوى على أن يبوح به لنفسه، ذلك الذي يفوق طاقته، والذي سيعود من أجله إلى وحدته ويفترق عن أصدقائه، هو إلهامه المفاجئ عن معنى الزمن، هو معرفته الجديدة بسرِّه الذي يتعدى حدود الحاضر والماضي والمستقبل. إن زرادشت في طريقه إلى القمة، في طريقه إلى فكرته المحيرة عن عودة الشبيه الأبدية.

عجيب أمر زرادشت! فبعد أن أعلن على المجتمعين في السوق حول الراقص على الحبل عن مذهبه في الإنسان الأعلى، وعلى رفاقه وتلاميذه عن فكرته المخيفة عن موت الله وعن إرادة القوة، شَمَلَه الصمت والارتعاش فلم يجد مذهبًا يعلنه، وعذبه إلهامه الجديد فلم يجد الكلمات التي تعبر عنه. زرادشت الآن يعود إلى جولاته، ويسير إلى كهفه الراقد في أحضان الجبل؛ ليواجه هناك وحدته الأخيرة الفظيعة، وينفرد مع فكرته التي تشبه الهاوية التي لا قرار لها، وينتظر التحول الجديد في كيانه، إنه في القسم الثالث «عن الوجه واللغز» من كتابه «هكذا تكلم زرادشت» يتحدث إلى الملَّاحين الذين يعبرون به البحر، وحديثه مملوء بالألغاز والرموز، ويتحدث إلى «العبيط» في «المدينة العظيمة»، ولكنه لا يتحدث إلى الآخرين بقدر ما يتحدث إلى نفسه. لقد تحدث عن الإنسان الأعلى إلى الجميع، وتحدث عن موت الإله وعن إرادة القوة إلى القليلين، ولكنه الآن يتحدث عن عودة الشبيه الأبدية إلى نفسه وحدها. إن فكرته الجديدة ترتفع فوق كل الأفكار، كما ترتفع به إلى القمة المخيفة التي تنتظره بالسعادة أو بالجنون.

يقول نيتشه في كتابه «هذا هو الإنسان Ecce Homo» عن زرادشت: «سأروي الآن حكاية زرادشت، إن الفكرة الأساسية في الكتاب، فكرة عودة الشبيه الأبدية، هذه الصياغة السامية للإيجاب — التي لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى صياغة أسمى منها — ترجع إلى شهر أغسطس من عام ١٨٨١.»١

عودة الشبيه الأبدية إذن هي قلب الكتاب النابض، وهي الوسط والمركز الذي تدور حوله أفكاره، إنها تأتي بعد فكرتَيه الأخريين عن الإنسان الأعلى وعن إرادة القوة، ولم يكن من الممكن أن تأتي بغير هذا الترتيب، لقد بدأ زرادشت بالتبشير بالإنسان الأعلى: أنا أعلمكم الإنسان الأعلى، الإنسان الأعلى هو معنى الأرض هو الصاعقة، والإنسان شيء ينبغي التفوق عليه، هو حبل مربوط بين الحيوان وبين الإنسان الأعلى، حبل ممدود فوق الهاوية. والإنسان جسر لا هدف له، معبر إلى هذا الإنسان الأعلى الذي يريد أن تمتلئ به الأرض ذات يوم. ولكن هذا الإنسان الأعلى الذي يطالب به زرادشت لا يمكن أن يتحقق حتى «يموت الله»، أي حتى يتحطم التراث الغربي كله، وينهار صرح المثالية الأفلاطونية المسيحية بأسرها. فإذا عرف الإنسان أن كل ما يعلو عليه من آلهة وأخلاق وعالم آخر هو سبب شقائه وغربته عن نفسه وعن الأرض؛ أمكن للمثالية أن تنقلب رأسًا على عقب. واستطاع زرادشت أن يقول كلمته الرهيبة: «ماتت الآلهة جميعًا، الآن نريد أن يحيا الإنسان الأعلى.» و«موت الله» أو سقوط المثالية والإيمان بعدميتها (إذ ينبغي أن نفهم هذه الكلمة المخيفة من هذه الناحية وحدها، بعيدًا عن كل صلة بالإيمان أو الإلحاد) لا سبيل إليه إلا إذا سأل زرادشت كل موجود، وتسلل إلى قلب كل حي، ليكتشف هناك إرادة القوة. سوف يعرف أن إرادة القوة هي حقيقة الموجود، وهي سر حياته وحركته وصعوده وهبوطه وازدهاره وموته. إرادة القوة هي كل ما هو موجود، من حيث إنه موجود في الزمان. والوجود في الزمان هو طريقها ومجالها، من حيث هو صراع في سبيل القوة، وكفاح من أجل العلو والتفوق. ولكن إرادة القوة التي تتحرك في الزمان وتصارع في الزمان هي نفسها تحت رحمة الزمان، وأسيرة سلطانه وقوته. والزمان هنا هو المستقبل الذي تتحرك فيه وتسعى إلى تحقيق ممكناتها، وهو كذلك الماضي الذي يثبتها ويحدُّ من قوتها. الإرادة مقيدة إذن بمجرى الزمان، مجبورة على السير معه إلى الأمام، لا تستطيع أبدًا أن تريد العودة إلى الوراء. أفكار نيتشه الأربعة الأساسية إذن مرتبطة ببعضها ارتباطًا وثيقًا؛ فوجود الإنسان الأعلى مرتبط بموت الله، وموت الله مرتبط بإرادة القوة، وهذه بمجرى الزمان، والفكر كله يسير من الوجود القائم في هذا العالم إلى وجود العالم ككل، هذا العالم ككل هو موضوع فكرته عن العود الأبدي.

ولكن فكرته سر يتهيَّب من الكلمة، ولغز يخاف من التعبير. إن نيتشه يتردَّد في الإفصاح عنه، ويحيطه بجدار من الكتمان بعد جدار؛ ذلك أنه وليد الرؤية والإلهام، بعيدًا عن المنطق والعقل. إنه يتخفى في ظل الرهبة والسكون، ويرتعش بحمى الكشف والجنون، ربما لأن صاحبه قد ترك الآن طريق التراث الميتافيزيقي كله، ووجد نفسه لأول مرة حائرًا بغير طريق.

لقد رأينا كيف خاطبته ساعته الساكنة، كيف نادته فكرته الوحيدة المدهشة نداءها الهامس المخيف، وكيف لمحت إليه بسر الزمان، كان جسده أضعف من أن يحتمل رعشتها؛ فهو الآن يعود إلى التجول الوحيد، ويصعد جبلًا بعد جبل، ويرتفع من قمة إلى قمة. إن عليه أن يصل إلى قمته الأخيرة، أن يدخل دائرته المقدسة، أن يترك كل القمم وراءه ولكي يرى قلب العالم، وينظر إلى هاويته السحيقة: «أما أنت يا زرادشت، فقد أردت أن ترى حقيقة الأشياء جميعًا وسببها الخفي، إن عليك أن ترتفع فوق ذاتك نفسها إلى أعلى، إلى أعلى؛ حتى تجد نجومك أيضًا قد أصبحت تحتك.»٢
إن القمة العالية التي يصل إليها الآن تفكير زرادشت هي القمة التي يرتفع فيها حتى فوق ارتفاعه فوق نفسه، أي التي يرتفع فيها فوق إرادة القوة، ويتفكر في حقيقتها وسبب وجودها. ولكن ارتفاعه إلى قمته الأخيرة هو في نفس الوقت — وهذه هي المفارقة التي لا يمكن بغيرها أن نفهم تفكير نيتشه — هبوطه إلى أعمق الأعماق.٣ إنه يصل إلى القمة حين يغوص إلى الهاوية، أو هو يرتفع إلى أقصى حدود الارتفاع حتى يصل إلى الموضع الذي تتَّحد فيه القمة والهاوية: «من أين تأتي أعلى الجبال؟ هكذا سألت ذات يوم، عندما تعلمت أنها تأتي من البحر، هذه الشهادة مكتوبة في حجارتها وعلى جدران قممها، من أعمق الأعماق يجب أن يصل أشد الأشياء ارتفاعًا إلى ارتفاعه.» إن زرادشت لن يصل إلى أعلى قمم الإنسان الأعلى حتى يهبط إلى أبعد أعماق بحر الزمن، التحول الأخير الذي ينتظره مرهون بالتفكير في حقيقة العالم ككل، في علته وسببه الأخير، إن أشدَّ الناس وحدة يفكر الآن في أشد الأشياء شمولًا، إنه وحده يستطيع الآن أن يخرج إلى العالم الرحب، والذي تجرَّد من كل شيء يستطيع الآن أن يرى سر كل شيء، وها هو يروي رؤياه إلى الملاحين، رؤيا الوحيد، إنه يختار هؤلاء المغامرين الباحثين الفرحين بالألغاز، والجسورين الذين يقطعون الأسفار البعيدة ولا يحبون أن يعيشوا بغير خطر؛ لكي يبوح لهم بفكرته عن عودة الشبيه الأبدية. إنه يحكي لهم تجربته الحافلة بالأحاجي والرموز: «عطشان مضيت منذ عهدٍ قريب خلال غبش الضباب الملون بلون الجثث؛ عطشان صلب العود، بشفتين مضمومتين، لم تكن شمس واحدة قد أفلت في عيني.» لقد صعد ذات مرة على الجبل، وعلى كتفيه جلس «روح الثقل» نصف قزم ونصف حيوان يدبُّ في الطين، وظل يصعد متحديًا هذا الروح الذي يشده إلى أسفل، ويصب في أذنيه الرصاص، ويقطر في ذهنه أفكارًا من رصاص. إن طريقه هو الطريق الصاعد إلى أعلى درجات الإنسانية، المرتفع إلى الإنسان الأعلى، على الرغم من روح الثقل، عدوه اللدود، وهو طريق المبدع الذي يعلو فوق نفسه، طريق الإرادة الخلاقة التي ترتفع فوق ذاتها على الدوام. ولكن هل كان في وسعه أن يستمر في الصعود؟ هل يستطيع الإنسان الخلَّاق أن يتجاوز ذاته إلى غير حد؟ أم لا بد له أن يصل إلى نهاية يقف عندها؟ إن روح الثقل الذي يرزح فوق كتفيه يهمس في أذنيه بفكرته الثقيلة الخانقة، ويحاول أن يغلَّ إرادته المنطلقة إلى المستقبل: «زرادشت، يا حجر الحكمة، أنت أيها الحجر المندفع، يا محطِّم النجوم! قذفت بنفسك إلى أعلى ارتفاع، ولكن كل حجر يُقْذَف به لا بد أن يسقط!»

طموح الإنسان لا بد أن يهبط في نهاية المطاف، والصعود اللامتناهي مستحيل؛ لأن الزمن المتناهي يضع له حَدًّا، إنه يستنفد كل طاقة، ويقوى على كل إرادة قوية، ويقوِّض كل أمل شامخ، روح الثقل تجذب كل كرة يقذفها الطموح إلى الأرض، والنظر إلى هاوية الزمان أو إلى عبث كل مشروع يقدم عليه الإنسان تشل الجسد وتُصيب الفكر بالدمار، كل معنًى يصبح الآن بالقياس إلى الزمن اللامحدود عديم المعنى، وكل مغامرة عبثًا، وكل عظمة حصاد ريح. إن روح الثقل أو المعرفة بلاتناهي الزمن، يمنع انطلاق «الإنسان» إلى «الإنسان الأعلى»، ويحول بينه وبين التفوق على ذاته، ويسحق طموحه تحت عجلات الزمن، الزمن اللامحدود يبتلع كل قوة محدودة، ويجذب إلى قاعه السحيق كل سفينة تحاول أن تكتشف سره، وكيف يستطيع أن يعرف الزمن من هو نفسه زمني؟ ألا تفترض المعرفة نوعًا من «الخروج» عن الموضوع الذي نريد أن نعرفه، أو نوعًا من الاستقلال عنه؟ ولكن كيف نستطيع أن نخرج من الزمن ونحن سائرون في تياره؟

ولكن زرادشت لا يَيْئس، إنه يستنجد بشجاعته لكي يتغلب على هذا الروح الثقيل، هذا القزم، هذه المعرفة القاتلة بجبروت الزمن ولا نهائيته، إنه يستنجد بالشجاعة التي تُعِينه على احتمال فكرته العميقة عمق الهاوية، فكرته عن العود الأبدي. ولا بد أن تكون هذه الشجاعة شيئًا لم يسمع به أحد، شجاعة «تميت الموت»، تهاجم لأن في كل هجوم «لعبًا رنانًا»، ولأن الإنسان هو أشجع الحيوانات، وبهذه الشجاعة تفوق على كل حيوان، كما تفوق على كل ألم؛ لأن ألمه هو أعمق الآلام، إنه يواجه القزم بأشجع أفكار الإنسان، بفكرته التي تجعله يقول للحياة: «هل كانت هذه هي الحياة؟ حسنًا، فلتكن مرة ثانية، أيها القزم! أنا أو أنت! إنك لا تعرف فكرتي العميقة عمق الهاوية، إنك لن تستطيع احتمالها.» ويقفز القزم من فوق كتفيه، ويتحرر زرادشت من روح الثقل التي كانت تقيَّده، ويبدأ الحديث بينهما عن الزمان.

كان زرادشت والقزم يقفان تحت بوابة على طريق، انظر إلى هذه البوابة، أيها القزم! إنها ذات وجهين، هناك طريقان يجتمعان هنا، لم يحدث لمخلوق أن وصل إلى نهايتهما، هذه الحارة الطويلة إلى الوراء، تمتد امتداد الأبدية، وتلك الحارة الطويلة إلى الأمام، إنها أبدية أخرى. الطريقان يتقاطعان ويصطدمان تحت هذه البوابة يتلاقيان، واسم البوابة مكتوب عليها: إنها «اللحظة».

لنتذكَّر الآن ما قلناه من أن إرادة القوة وصلت إلى حدِّها النهائي حين عرفت أن الزمان هو طريقها ومصيرها، ففي استطاعة الإنسان أن يريد المستقبل، أمَّا الماضي الثابت الذي لا سبيل إلى تغييره فينفلت من قبضة إرادته. إن أقصى ما يستطيعه هو أن «يعترف» به ويسلم بحتميته، وربما استطاع أيضًا أن يعقد الصلح بين الحرية والضرورة عن طريق الخضوع بحريته لهذه الضرورة، (وقد عبر شيللر عن هذه الفكرة فسمَّاها الصلح بين القدر والحرية) وانتزاع شوكة الجبر من مخلب القدر.

ولكن زرادشت يفهم الزمن فهمًا آخر؛ إنه يوجِّه حديثه ضد القزم، ويهاجم هذه الحتمية الزمنية بالذات، فاللحظة هي النقطة التي يتلاقى فيها دربان طويلان، يسير أحدهما إلى الأمام ويسير الآخر إلى الوراء. إن رأسيهما يصطدمان عند هذه اللحظة، فيتقاطعان ويتناقضان، ومع أن الماضي هو ما كان وانتهى أمره، والمستقبل هو ما لم يكن بعدُ وما زال مفتوح النوافذ على شتى الممكنات، فإنهما مع ذلك يصطدمان ببعضهما في اللحظة أو «الآن»، ومن هذه اللحظة العابرة الفانية يمتد الدربان كل إلى غايته، فأمَّا أحدهما فيعود إلى الماضي الأزلي، وأمَّا الآخر فيمضي إلى المستقبل الأبدي.

زرادشت إذن يبدأ من الزمن كما يدور في داخل العالم، إنه عنده سلسلة من اللحظات أو «الآنات»، وهو يقف عند إحدى هذه الآنات ليرى سلسلة لا متناهية من الآنات الماضية تمتد وراءه، وسلسلة أخرى من الآنات المستقبلة تمتد أمامه. ولكن السؤال الآن إن كانت هذه الآنات تمتد حقًّا إلى غير نهاية، وان كان دربا الزمن يفترقان إلى غير التقاء، والماضي البعيد يترك وراءه ماضيًا آخر أبعد منه، وكذلك المستقبل إلى أبد الآبدين. هل يستطيع الإنسان حقًّا أن يتصور هذه اللانهائية الزمنية؟ ألا يتوه الفكر الإنساني وهو يحاول أن يتخيَّل الماضي السحيق ويلاحق المستقبل البعيد؟ ألا يقف الموت لمغامرته البائسة بالمرصاد؟

ويسأل زرادشت القزم: «ولكن من يمضي على أحد هذين الدربين، ويظل يمضي ويمضي على الدوام؟ ألا تعتقد أيها القزم أن هذين الدربين يفترقان إلى الأبد؟» إنه يريد أن يعرف منه إن كان التفكير في الزمان كما نألفه في داخل العالم، وكما نفرق فيه بين الدربَين اللذَين يسير كل منهما في اتجاهٍ معارض للآخر، هو الحقيقة الأخيرة عن الزمن، وهو يريد أن يفهم منه معنى «الأبد» حين نقول: إن الدربين يسيران في طريقَي المستقبل والماضي الأبديَّين، هل هو الأبد حَقًّا؟ أم هو اللاتناهي «السيئ» الذي نسميه عادةً بالتكرار؟

ويردُّ عليه القزم قائلًا: كل ما هو مستقيم فهو كاذب، هكذا تمتم القزم في احتقار، الحقيقة كلها ملتوية، والزمن نفسه دائرة. «إن القزم قد وفر على نفسه عناء الإجابة، حقًّا، إن إجابته صحيحة من وجهة نظر نيتشه، ولكنها سهلةٌ يسيرة. فالزمن عنده دائرة؛ الماضي والمستقبل يتعانقان هناك واللانهاية غير المنظورة، كما تفعل الحية التي تعض ذيلها. والزمن إذن حلقة من اللحظات، أو دورة من الآنات؛ فهل هذا هو معنى العود الأبدي؟ أم أن القزم قد أفسد الفكرة التي تُحيِّر زرادشت دون أن تستطيع التعبير عن نفسها؟ «يا روح الثقل! هكذا قلت له في غضب، لا تأخذ الأمر بهذه السهولة!» وهل كان في مقدور القزم أن يجد تصوُّرًا آخر يعبِّر به عن دورة الزمن داخل العالم الذي نعيش فيه غير التصورات المألوفة كالدائرة أو الحلقة؟ أليس له عذره في ذلك طالما أنه لم يفكر في الزمن الكلي، بل اقتصر على ما سميناه بالزمن داخل العالم؟»

ما معنى أبدية الزمان، أزلية الزمن الماضي وأبدية الزمن المستقبل؟

إن زرادشت يستخلص النتيجة التي تترتب على هذه الأبدية المزدوجة في الزمان، إنه يقول للقزم: «انظر إلى هذه اللحظة، من بوابة هذه اللحظة يسير دربٌ أبدي طويل إلى الوراء، خلفنا تمتد أبدية. أليس حتمًا أن تكون هذه البوابة قد وُجِدَت من قبلُ؟ وأليست الأشياء جميعًا مرتبطة ببعضها على هذا النحو ارتباطًا وثيقًا، بحيث إن هذه اللحظة تجرُّ وراءها كل الأشياء المقبلة كما تجرُّ نفسها بالتالي؟»

وبعبارةٍ أخرى: فإن الماضي اللامتناهي لا يمكن تصوُّره كما لو كان سلسلة لا متناهية من الأحداث المتجددة على الدوام، وإذا كان هناك ماضٍ غير متناهٍ، فلا بد أن كل ما يمكن أن يحدث قد حدث بالفعل من قبلُ. الماضي أبدي لا يمكن أن ينقص منه شيء أو يخرج عنه شيء، بل كل ما يحدث لا بد أن يكون قد حدث فيه من قبلُ؛ فأبدية الماضي تتطلب أن يكون كل ما يحدث قد حدث بالفعل، وأن يكون الزمن كله قد مرَّ من قبلُ، كما تتطلب أبدية المستقبل أن يحدث في المستقبل كل ما يمكن أن يتم في داخل العالم من أحداثٍ زمنية. ونحن حين نتصور الماضي والمستقبل كأبديتَين لا متناهيتَين لا بد أن نتصور أنهما هما الزمان كله بكل ما يشتمل عليه من مضمونات زمنية، ولكن هل نتصور الزمن الكلي مرتَين؟ أليس في هذا تناقض؟ ولكن هذا التصوُّر هو الذي سيؤدِّي بزرادشت إلى فكرته عن عودة الشبيه الأبدية، فكل الأشياء وكل ما يدخل في الزمن أو يسير فيه لا بد أن يكون قد سار فيه من قبلُ ولا بد أن يسير فيه من المستقبل، فعودة الشبيه تقوم على أبدية دورة الزمان، لا بد أن يكون كل شيء قد وُجِدَ من قبلُ، ولا بد لكل شيء أن يعود في المستقبل من جديد: «وهذا العنكبوت البسيط الذي يزحف في ضوء القمر، وضوء القمر نفسه، وأنا وأنت ونحن نتهامس تحت هذه البوابة عن الأشياء الأبدية، أليس حتمًا أن نكون قد وُجِدْنَا من قبلُ؟ أليس حتمًا أن نعود مرة أخرى ونسير على ذلك الدرب الآخر، بعيدًا، منطلقين إلى الأمام على هذا الدرب الطويل المفزع؟ أليس حتمًا أن نعود عودًا أبديًّا من جديد؟»

ولا يكاد زرادشت ينتهي من تساؤله حتى يسمع نباح كلبٍ هائج مجنون، يرتعش وينتفض ويتحدَّى ويستغيث، ويسحقه رعبٌ وحشيٌّ مميت، وكأنه يحاول أن يعضَّ يد الموت التي تريد أن تقبض على رقبته: «حقًّا، إن ما رأيته لم تبصر عيناي مثله من قبلُ، رأيت راعيًا شابًّا يتلوَّى ويختنق وينتفض مقشعرَّ الوجه، وقد برزت من فمه حيةٌ سوداء ثقيلة. هل حدث لي أن رأيت كل هذا القرف والفزع الشاحب على وجه الإنسان؟ أتراه قد استسلم للنوم فتسلَّلت الحية إلى فمه، وراحت تَعضُّه وتَعضُّه؟ راحت يدي تشد الحياة وتشدها بلا جدوى! فلم تستطع أن تنتزع الحية من فم الراعي، فانطلقت مني صيحة: عض! عض! افصل الرأس! عض! كل فزعي، حقدي، قرفي، إشفاقي، كل ما فيَّ من خير وشر صاح معي صيحة واحدة.»

فكرة العود الأبدي زحفت كما تزحف الحية إلى جوف الإنسان، إنها فكرة خانقة تلك التي تهمس له بأن كل شيء سيعود، وإذا كان كل شيء سيعود، فكل طموح الإنسان عقيم، والطريق الوعر الذي يؤدي إلى الإنسان الأعلى حمق وغباء، إذ لا بد أن يعود الإنسان التافه الصغير من جديد. وإذا كان الزمن سيعيد كل شيء كما كان فكل مغامرة الإنسان عبث، وكل أتعابه هباء. إن فكرة العود الأبدي تبدو الآن وكأنها تناقض إرادة القوة وتفوق الحياة على نفسها أكثر مما فعلت مع روح الثقل التي تمثلت في القزم. ولكن هذا هو ما يبدو في الظاهر فحسب؛ فزرادشت يصيح بالراعي أن يعض الحية ويفصل رأسها عن الجسد، ويفعل الراعي كما أمره النبي المعذب الوحيد، وإذا بالراعي يتحول شيئًا آخر: «لم يعد راعيًا، لم يعد بشرًا، بل متحوِّلًا متجليًا يضحك، أبدًا لم يضحك من قبلُ إنسان على هذه الأرض كما ضحك!»

إن احتمال فكرة العود الأبدي قد أتى معه بالتحول العام في وجود الإنسان، لقد أحال الجد مرحًا، والثقل خفة، والعبوس البشري رقصًا إليها.

غير أن فكرة العود الأبدي ذات وجهين، إنَّا نستطيع أن ننظر إليها من ناحية الماضي كما ننظر إليها من ناحية المستقبل، فإذا كان كل ما يحدث مجرد تكرار لما حدث من قبلُ، فلا بد أن يكون المستقبل بدوره ثابتًا، وأن يكون عودًا لما حدث في الماضي، ولا بد أن تصدق العبارة التي تقول: إنه لا جديد تحت الشمس، ولا بد أن يكون كل فعل يقوم به الإنسان وكل مغامرة يخاطر بها عبثًا وباطلًا، طالما أن كل شيء قد حُدِّدَ وحُسِمَ أمره من قبل، ولكننا نستطيع أيضًا أن ننظر إلى المسألة من ناحية أخرى، فنقول على العكس مما قلناه: إن فرصة الفعل ما زالت باقية أمامنا، وإن في وسعنا أن نحسم أمرنا دائمًا من جديد مثلما نحسمه في هذه اللحظة؛ فكل لحظة نعيشها لها دلالة تتجاوز حياتنا الفردية، وكل لحظة لا تحدد المستقبل المعروف فحسب، بل تحدد كذلك كل مستقبل يتكرر فيما بعد، فاللحظة هي مركز الثقل الذي يقع على كاهله عبء الأبدية، والقرار اللحظي الذي نتخذه على هذه الأرض هو الذي يفصل في أمر جميع الأحداث المتكررة للوجود الأرضي، مثلما تفصل حياتنا الدنيوية في رأي الأديان السماوية في مصير النفس في الآخرة. إن نيتشه يتشبث بهذا الإلهام المفاجئ وكأنه هديته الأخيرة إلى الفانين، فاللحظة هي التي تحسم أمر الأبد، أو قل: هي الأبد نفسه، وفكرة العود الأبدي تصبح هي الدعامة الأساسية للوجود الإنساني، كما هي حقيقته وعمقه ومركز الثقل فيه.

غير أننا لو نظرنا إلى الناحيتين اللتين تحدثنا عنهما نظرةً مدققة؛ لوجدنا أنهما معًا موضع سؤال؛ ففكرة العود الأبدي ترفع التضاد الموجود بين الماضي والمستقبل، أو بالأحرى تُضفي على الماضي طابع الثبات الذي يتميز به الماضي، إنهما يتداخلان في بعضهما على نحوٍ نادرٍ عجيب، فالزمن يصبح شيئًا ثابتًا ومتحركًا في وقت واحد، شيئًا يتقرر بالفعل ويقبل اتخاذ قرار في شأنه. والإرادة لا تستطيع أن تتجه إلى المستقبل فحسب، بل هي في نفس الوقت تعود بإرادتها إلى الماضي، والزمن يفقد اتجاهه المستقيم المألوف، ويصبح ما للمستقبل للماضي، وما للماضي للمستقبل. كل هذا لا بد أن يحيِّرنا ويدهشنا ويخيفنا؛ فنحن لا ندري إن كان نيتشه يعبر عن فكرة خيالية مجنونة تبدِّد كل أفكارنا التي تعودنا أن نفهم بها الزمن، أو إن كان يكشف لنا عن معرفةٍ أعمق بالزمن، تحيط به في أُفُقه الكوني الشامل، لا ندري إن كان يلاحظ الزمن كما يراه في حركة الموجودات «داخل» العالم، أو إن كان يتجاوز مجال العالم كله حيث لا يستطيع أن يلحق به فكر ولا منطق؛ فالقسم الثالث من كتاب نيتشه «هكذا تكلم زرادشت» مضطرب البناء، يشبه جزيرة العجائب التي تزدحم أدغالها بالألغاز والأحاجي والرموز، إنه لا يكاد يبشر بفكرة العود الأبدي في الفصل الذي أشرنا إليه «عن الوجه واللغز» حتى يقطع بشارته، ولكنه يعود في الفصول التالية فيؤكد البشارة من جديد، ويعلن مقدم «الظهر العظيم»، الذي يتم فيه العود الأبدي، وينتصف الزمن ويكشف القناع عن سرِّه الشامل الرهيب: «انظر، إنه يتقدم، إنه يقترب، الظهر العظيم.» ثم يأتي فصل بعنوان «قبل طلوع الشمس» قد نخطئ فنرى فيه إلهامات نفس شاعرية تسحرها روعة الفجر ويذهلها سر النور؛ ذلك أن الصور الشاعرية عن نيتشه هي دائمًا رموز تدل على فكره، وما يراه زرادشت وهو ينتظر مطلع الشمس هو «هاوية النور»، هو الأفق الكوني الواسع المتوهج، هو السماء التي تظل الأشياء كلها من تحته، وتضيئها، وتجمع وحدتها: «أن أُلقيَ بنفسي في عليائك، هذا هو عمقي: أن أُخفي نفسي في نقائك، هذه هي براءتي!»

فالمفكر هو الذي يواجه السماء ويفتح عينيه وصدره لنورها الساطع الشامل، ومدى العمق في تفكيره يتوقف على قدرته على أن يفتح كيانه للنور الذي يسطع فوق الأشياء جميعًا، وبراءة الوجود هي نور العالم الذي يغمر كل الموجودات، والتفكير في العالم بكليته يبدد «الخطيئة» و«الذنب» كما يمحو «الخير» و«الشر» وغيرها من كلمات البشر التي تغطي كالسحب وجه السماء، وبالتفكير في العالم بكليته — العالم الذي سيَّر الزمان وأوجد المكان — ينقشع غضب الآلهة، وتتبخر سطوة القدر، وينهار بناء العالم الآخر، وينهدم كل تفسير ميتافيزيقي أو أخلاقي للوجود، الإنسان يتحرر ويصفو ويستعيد براءة الأطفال: «فوق كل الأشياء تقف السماء المصادفة، السماء البراءة، السماء الاحتمال، السماء الكبرياء»؛ ذلك أن جميع الأشياء «قد عُمِّدَت في نبع الأبدية ووراء الخير والشر، والخير والشر أنفسهما ليسا إلا ظلالًا وأحزانًا رطبة وغيومًا.» لكن الأشياء لم تُعَمَّد في نبع الأبدية؛ لأن لها وجودًا آخر غير وجودها الأرضي، أو لأن لها حقيقة في ذاتها تتجاوز عمرها الفاني، بل لأن الأبدية والزمانية ليسا شيئَين مختلفَين، بل هما في الحقيقة شيءٌ واحد، فالزمن باعتباره العود الأبدي، هو في الحقيقة الأبد نفسه، ورؤية الموجود في نور العالم رؤية زرادشت البريئة النقية معناها أن نخلص هذا الموجود من كل ما ألقته الأجيال الطويلة على صدره من قدر وأخلاق وعالمٍ آخر، ونريحه من كل التفسيرات الغيبية والعقلية ونتركه يسير في الزمن وكأنه طفل خفيف يرقص ويلعب: «أيتها السماء من فوقي، أيتها السماء النقية العالية! هذا هو نقاؤك الآن عندي، أن ليس هناك عنكبوت أبدي للعقل ولا هناك شباك عنكبوت: إنك عندي أرض ترقص عليها المصادفات الإلهية، وإنك عندي مائدة آلهة لزهر إلهي وللاعبي الزهر!» فلعب الوجود قد أصبح الآن لعبًا إلهيًّا، والمفكر الذي يفتح صدره وبصره لنور السماء ويعانق العالم يقف وراء الخير والشر، ويقترب من حقيقة العالم كله، إنه يستطيع الآن أن يسأل السماء قائلًا: «ألست أنت نورًا لناري؟ أليست عندك النفس الشقيقة لرؤيتي وإلهامي؟» إن زرادشت قد تفتَّح كيانه كله للعالم، وهذا التفتح الشامل هو الذي يتوقَّف عليه فهمه الأصيل للعود الأبدي، لقد رُفِعَت الغشاوة عن بصيرته، وتحرَّر من قيود الموجودات، واستحم بالنور الذي يغمر جميع الأشياء، وتخلَّص من روح الثقل التي ترهقها معاني الأخلاق والدين وما وراء الطبيعة والمحسوس، وتوصَّل إلى سر الزمن حين وقف تحت بوابة اللحظات الأبدية الفانية، بعيدًا عن دربَي الماضي الثابت المستقر والمستقبل الغامض الذي لم يولد بعد.

•••

عودة الشبيه الأبدية هي مدار فلسفة نيتشه وأعمق أفكاره جميعًا، إنها تفتقر إلى البناء التصوري المحكم والمعالجة المنطقية المحددة، وتوشك أن تكون نبوءة معتمة أو سرًّا مُطلسَمًا يحاول الشاعر الفيلسوف أن يكشف عنه. إنه يتكلم على لسان زرادشت، وزرادشت هو معلم العود الأبدي، كما هو معلم الإنسان الأعلى وإرادة القوة، ولكنه الآن لا يعلم بقدر ما يشير ويلمح، فرؤياه عن هاوية الزمان تعبر عن نفسها بالرمز واللغز، لكنه لا يلجأ إلى ذلك حُبًّا في التعمية، ولا ولعًا بالأقنعة، بل لأن فكرته عن العود الأبدي ترتفع به إلى القمة الوحيدة التي لا يصل إليها سلم اللغة، وتبتعد به وراء حدود الكلمة والعقل والمنهج، وعجزه عن التعبير عن هذه الفكرة تعبيرًا تصوريًّا ليس مجرد عجزٍ فردي كامن فيه، بل هو دليل على عجز التراث الفلسفي الذي يجف على أرضه، إنه يحارب الميتافيزيقا التقليدية ويريد أن يقلبها رأسًا على عقب، ولكنه يظل مع ذلك مقيَّدًا بها، مرتبطًا بوسائلها وأدواتها، وإذا كان يصارع الأفلاطونية والمسيحية وأخلاق العبيد كما يصارع التفسير التقليدي للوجود، فهو لا يزال يتحرك في أفق هذه الميتافيزيقا التقليدية، ويستخدم مقولاتها وتصوراتها، ويحاربها بنفس أسلحتها، وهو حين يفكر في العود الأبدي يصبح العالم ككل هو مشكلته الرئيسية، إنه ينظر إليه الآن نظرة زمنية؛ فكلية العالم تصبح هي كلية الزمان أو أبديته. بهذا يدخل نيتشه أرضًا لم يطرقها أحد قبله، ويحاول التعبير عن شيء لا اسم له، إنه يتلفَّت حوله فلا يجد التصور الذي يسعفه، ويقف على حافة الهاوية التي لا ينجيه منها تراث أو تقليد، ويحسُّ برعشة الرائد حين تطرق قدماه أرضًا مجهولة: «آه يا إخوتي، إن من يكون رائدًا، يكون هو الضحية دائمًا.» هو رائد الفكر الذي يتجاوز الأشياء كلها ويحاول أن يدرك العالم بكليته، ولكن الصعود فوق جميع الأشياء التي تدخل في العالم لفهم العالم نفسه، والعلو على الموجودات كلها لإدراك الوجود بذاته؛ يوقعه مع ذلك في شباك هذا العالم الذي أراد أن يطير فوقه؛ ذلك أننا في كل مرة نحاول فيها أن نتصور العالم على أنه ذلك الذي يحيط بالأشياء جميعًا ويتجاوزها لا بد أن يظل تصورنا له محددًا بالأشياء؛ فنحن لا نستطيع أن نخرج من العالم إلا إلى العالم، ولا أن نعلو فوقه إلا لنعود فنغوص في أعماقه، فتفكيرنا في العالم ككل لا بد أن يبدأ مما في داخل هذا العالم، كما أن تصورنا للزمان مقيد بما يجري في داخل الزمان.

عودة الشبيه الأبدية هي إذن مذهب نيتشه في العالم ككل، أو رأيه في كلية الوجود، وحديثه عن الأبدية التي تتجاوز كل ما يجري في الزمان من أحداث وكل ما يشتمل عليه من معطيات تجاوزًا لا نهاية له، هو في حقيقته حديث عن العالم، تردد كلماته معاني الاتساع والرحابة والشمول، والحديث يصل إلى ذروته في فصل بعنوان: «عن الشوق العظيم»، فماذا يقصده نيتشه بهذا الشوق؟

الشوق لا يعرفه إلا من يكابده كما يقول الشاعر القديم، إنه حنين القلب إلى ما لا تراه العين ولا تلمسه اليد، فنحن لا نشتاق إلى ما تستطيع أعيننا أن تراه، أو أيدينا أن تلمسه، ربما استطعنا أن نشتهيه ونميل إليه، ولكن الشهوة والميل شيء. والشوق شيءٌ آخر، الشوق يتعلق بما هو بعيد، فنحن نشتاق إلى الحبيب الغائب، أو إلى أيام الطفولة وملاعبها، أو إلى الحياة الهادئة المطمئنة، وقد نشتاق أيضًا إلى الموت المريح. والشوق يخرج بنا عن حدود الموقف الراهن ومطالبه وأهدافه، فنحن نبتعد به عن كل ما هو قريب، ونحن بالعين والقلب إلى شيءٍ ناءٍ في الزمان والمكان، وحالنا أشبه «بأفيجينيا» على جزيرة تاوريس وهي تفتش بعينها ووجدانها وراء البحر عن بلاد الإغريق. كلنا يعرف هذا الشوق، وكلنا يعرف أيضًا ذلك الشوق إلى المجهول، الذي يزيد عن أن يكون رغبة في الوصول إلى ما نشتاق إليه، بل ربما كان ينطوي على ميلٍ غامض لأن يظل بعيدًا عَنَّا، وهذا البعد الذي يشتاق إليه نيتشه هو الذي يضع الإنسان في الزمان والمكان غير المحدودَين، ويفتح نافذة كيانه للعالم، هذا التفتح للعالم الشامل البعيد ابتغاء التقرب من الموجود القريب، هو الذي يتخذ صورة العود الأبدي، إن زرادشت يتحدث إلى نفسه فيقول: آه يا نفسي، لقد علمتك أن تقولي «اليوم» كما علمتك أن تقولي «قديمًا»، و«في عهد مضى»، وأن ترقص فوق كل ما هو «هنا» و«هناك». لقد علَّم نفسه العود الأبدي، أعني علَّمها ألَّا تأخذ الفروق الثابتة في الزمان والمكان مأخذ الجد، وألا تستسلم لروح الثقل الذي أوجد كل هذه الفروق، وأن تنظر إلى «اليوم» و«الغد» و«الأمس»، وإلى «الهنا» و«الهناك» بالنظرة التي تساوي بينها وتتجاوزها جميعًا، ولكن كيف يتأتى لليوم أن يكون كالغد وكالأمس، و«للهنا» أن يكون كالهناك؟ إنها جميعًا تتساوى في فكرة العود الأبدي، فإذا كان جوهر الزمان هو التكرار الأبدي، انهارت الفروق القائمة بين الماضي والمستقبل، عندئذٍ يكون المستقبل هو ما كان دائمًا والعكس صحيح، وتكون النفس حاضرة في الزمن كله، حين لا تكترث بالفروق الموضوعية بين الأحداث، إنها عندئذٍ تكون حاضرة في «الكل» حيث تتلاشى الفروق الموجودة بين الأبعاد الزمنية والمكانية: «آه يا نفسي، لقد خلَّصتك من كل الأوكار الضيقة، نفضت عنك التراب والعنكبوت والظلال.» والنفس المشتاقة هذا الشوق العظيم تعانق العالم بكليته، وتغمر ذاتها في النور الشامل، وتقف تحت سماء «البراءة والاحتمال».

الإنسان يعلو الآن العلو الحق الذي يربطه «بالعالم»، ويقف مثل زرادشت عاريًا أمام الشمس، وقد ترك وراءه كل الظلال القديمة التي فسرت الحياة بالخطيئة والذنب، وصورت له عالمًا آخر وراء هذا العالم، وأخلاقًا أخرى غير أخلاق القوة والشجاعة والخطر، إن روحه الحقة تطارد السحب جميعًا في سمائها، وتتحرر من ظلال التراث المسيحي-الأفلاطوني، وتخرج إلى آفاق العالم الرحب، بعد أن وضعت يدها على العود الأبدي، واكتشفت سر الزمان والمكان، «آه يا نفسي، لقد أعطيتك الحق في أن تقولي لا، كما تقول العاصفة لا، وأن تقولي نعم، كما تقول السماء الرحبة نعم، وها أنتِ ذي تقفين ساكنة كالنور وتخوضين الآن العواصف النافية.»

ويمضي زرادشت في حديثه إلى نفسه، فيبين لها أن فكرة العود الأبدي لا تلغي الحرية، بل تحررها من القيد الذي رسفت فيه حتى الآن، ألا وهو الاعتقاد بثبات الماضي وحتميته، ولكن عندما يكون الماضي كله هو في نفس الوقت المستقبل كله، فإن النفس تكون لها الحرية التي تسود بها على «ما خُلِقَ وما لم يُخْلَق»، ويتفتح الطريق أمام اسم الإنسان الخالق المبدع كما لم يتفتح أمامه من قبل، وتتوثق الصلة بينه وبين العالم الخالق المبدع، الذي يوجد كل ما هو موجود، في عودٍ أبدي لا ينتهي. ثم يحدِّثها عن الاحتقار، الذي لا يفترس النفس افتراس الدود؛ لأنه احتقار محبٍّ عظيم «يحب إلى أقصى حدود الحب، عندما يحتقر إلى أقصى حدود الاحتقار.»

كل من يعرف حقيقة العود الأبدي، يعرف أيضًا كيف يتخلص من الأغلال التي تقيده بالموجودات وتجعله عبدًا لها، وكيف يرتفع بنفسه فوق كل ما يدخل في نطاق العالم من أشياء وموجودات، غير أنه لا يرتفع فوقها إلا ليعود إليها عودةً أصيلة، ولا يتجاوزها إلى العالم الرحب الشامل إلا لكي يجدها من جديد، إن زرادشت يحتقر الإنسان الحالي ويعده شيئًا وسطًا بين العدم واللامتناهي، أو حبلًا مشدودًا بين الحيوان والإنسان الأعلى، هذا الإنسان الأعلى هو الذي يصل إلى أقصى إمكانات الإنسانية، فقد عرف سر العود الأبدي الذي لم يعرفه أحد قبله، واستطاع أن ينطلق إلى اللامتناهي، ويخرج بنفسه إلى آفاق العالم الواسع. إنه يقف الآن عاريًا أمام وجه الشمس، لا تتبعه ظلال «أخلاق العبيد» الموروثة، ولا يوقر ظهره عبء عالمٍ آخر، وإذا كان زرادشت يشتاق إلى شيء فشوقه العظيم كله يتجه إلى هذا الإنسان الأعلى: آه يا نفسي، لقد خلصتك من كل خضوع وركوع، وقول «يا سيدي»، لقد سميتك، تحول «الضرورة» و«القدر». الإنسان الأعلى قد جعل العالم كله مسكنه، وحرر نفسه من العبودية على اختلاف أشكالها، واختفى بالنسبة إليه الفرق بين الإرادة والضرورة؛ ذلك لأن ما تريده الإرادة عن حرية لا بد أن يأتي في دورة العود الأبدي، وإذا كان زرادشت يُسَمِّي النفس قدرًا فما ذلك إلا لأن الإرادة العظيمة الأخيرة هي التي تريد الضرورة، لا التي تنحني لها أو تركع أمام صنمها الجامد القاسي. لقد عرفت العود الأبدي فراحت تشارك في اللعبة الكبرى، وتقوم بدورها على مسرح العالم، هكذا تغلَّبت على التفرقة التقليدية بين الحرية والضرورة، ومثلما اكتسب الماضي ملامح المستقبل، واكتسى المستقبل بملامح الماضي، كذلك تكمن الضرورة الآن في الحرية كما تكمن الحرية في الضرورة: آه يا نفسي، لقد أعطيتك أسماء جديدة وألعابًا بهيجة الألوان، سميتك «القدر» و«الوعاء الشامل لكل ما هو شامل» و«حبل سُرَّة الزمان» و«الجرس السماوي»، لقد تحول فهم الإنسان للوجود بفضل فكرة العود الأبدي، إنه يفهم الآن كل شيء في ضوء العالم الشامل المحيط، بل لقد علا وارتفع حتى أصبحت نفسه هي الوعاء الذي يشمل كل ما هو شامل ومحيط، وارتبطت بالوجود والزمان كما يرتبط الطفل بأمه، وصارت كالسماء التي تسدل قبتها الزرقاء على جميع الأشياء: «آه يا نفسي، كل شمس صببتها فوقك وكل ليل وكل صمت وكل شوق، هنالك نَمَوتِ أمامي كما تنمو عناقيد الكروم.» إن نفس الإنسان تقف الآن بين الأرض والسماء، بين القريب منها والبعيد، وكأنها كرمة شبَّت في جوف الأرض لتعانق النور، إنها مثقلة بشوقها إلى لقاء العالم وجهًا لوجه، «آه يا نفسي، لا توجد الآن نفس أكثر منك حبًّا ولا أوسع شمولًا! وأين يمكن للمستقبل والماضي أن يلتقيا إن لم يلتقيا عندك؟» لقد ارتفعت فوق العالم، فازدادت محبتها لكل ما في داخل هذا العالم. نودي الإنسان أن يخرج إلى الكل، ولكنه بقي وسط الأشياء، عرف اللامتناهي، فتضاعفت صلته بالمتناهي، وأحسَّ الفرحة باللامحدود ففاض عذابه بمحدوديته، وحزنه على فناء العالم وفنائه، الارتفاع إلى القمة قذف به إلى القاع، والعلو فوق المصير زاده شعورًا بتعاسة المصير. إن نفس زرادشت لا بد أن ترقص وتغني؛ حتى لا تهوي في عذاب شوقها العظيم: «أن تغني غناءً مشبوبًا حتى تسكن جميع البحار، وتصغي إلى شوقك حتى يسبح القارب فوق البحار الساكنة المشتاقة حتى تسبح المعجزة الذهبية، التي تخطر حول ذهبها كل الأشياء الطيبة الشريرة العجيبة، وكذلك الكثير من الحيوانات الكبيرة والصغيرة، وكل ذي أقدام عجيبة، حتى يستطيع السير على دروب البنفسج؛ إلى المعجزة الذهبية إلى القارب الحر، وإلى سيده زارع الكروم الذي ينتظر وسكينه في يده …» هذا الشوق الإنساني العظيم — الذي يعرف أن جوهر العالم هو العود الأبدي — لا بد أن يتحقق، والباحث عن نفسه لا بد في النهاية أن يجد نفسه.

فكرة العود الأبدي تفهم الزمن على أنه تكرار أبدي، أمَّا ما هو هذا التكرار الأبدي؟ فإن زرادشت لا يريد أن يقوله، بل يريد أن يتغنَّى به، فالنفس التي انطلقت تسبح فوق البحار الساكنة المشتاقة تقابل القارب الذهبي الذي يسبح فوق مياه الصيرورة، هذا القارب هو آخر ما يمكن أن تصل إليه النفس، هو قلب الوجود ومركزه. الأشياء كلها تسبح حوله كما تسبح الحيتان حول السفين، «إن قلب الأرض من ذهب.» كما قال زرادشت في موضعٍ آخر، وقلب الوجود هو المعجزة الذهبية أو القارب الذهبي الذي يتحدث عنه زرادشت، وملاح هذا القارب هو ديونيزيوس، إله النشوة والحب والموت واللعب، وهو كذلك إله المأساة والملهاة، وإله اللعب الجاد واللعب المرح الذي يقوم به العالم، ولكنه ليس إلهًا يظهر في داخل العالم، بل هو الإله الذي يشكِّل كل شيء دون أن يكون له شكل، هو لعب الوجود نفسه، وهو كذلك سيد الكرم وزارعه. هو ديونيزيوس وباخوس في آنٍ واحد، هو الذي يشبع شوق الكرم إلى السكين التي تخلصه من عناقيده، وهو خطوة الزمن الذي يستردُّ كل ما أعطاه، الزمن الذي يُهدي ويسلب ويبني ويخرب، ديونيزيوس هو المانح العظيم والسالب العظيم على مدى العود الأبدي. «آه يا نفسي! مخلصك العظيم الذي لا اسم له الذي ستبحث له الأغنيات المقبلة عن اسم يليق به! ها أنتِ ذي تتوهجين وتحلمين، وها أنتِ ذي تعبين في عطش من كل ينابيع العزاء ذات الأصداء العميقة، وها هي كآبتك تستريح على نغمة الأغنيات المقبلة!»

ديونيزيوس هو الجواب على الشوق العظيم الذي يعذب صدر الإنسان، هو الذي يوجِد الموجودات وهو الذي يسلبها الوجود، هو الحاكم الذي يسيطر على كل تحول، ويدبر مجرى الأشياء في الزمان، وحيثما تجلَّى ديونيزيوس تجلَّى معه سر العالم، ووجدت نفس زرادشت وطنها الذي تبحث عنه، ديونيزيوس هو المخلص الأخير الذي يبشِّر به زرادشت، وهو الكلمة الأخيرة التي يعلنها نيتشه: إن الإنسان المتفتح «للعالم» يقابله بهذه الكلمات: «آه يا نفسي، الآن أعطيتك كل شيء ومنحتك آخر ما أستطيع، وها هما كفاي قد فرغتا من الإغداق عليك: انظري، إن دعوتي لك بأن تغني كانت هي آخر دعواتي إليك!»

ويُغنِّي زرادشت أغنية ديونيزيوس الأخيرة، أغنية الرقص الأخرى، فيُسبِّح بمجد الحياة، ويُهلِّل لروعتها وغموضها، إنها تظهر له في صورة الأنثى الفاتنة الإغراء، وتتحوَّل أمام عينيه فتارة تكون ساحرة وتارة تكون حية، أو إعصارًا أو ليلًا معتمًا كالهاوية، «في عينك نظرت منذ عهدٍ قريب يا أيتها الحياة، رأيت ذهبًا يلمع في عينكِ الليلية، وتوقَّف قلبي حيال هذه اللذة العارمة.» ولكن الحياة تقول لزرادشت: «ولكنك لستَ وفيًّا لي كما ينبغي … أعرف أنك تفكر في أن تهجرني وشيكًا»، ويهمس زرادشت بشيء في أذن الحياة «بين خصلات شعرها الأصفر المضطرب المجنون» وتجيبه الحياة قائلةً: «أنت تعرف هذا يا زرادشت، ما من أحد قد عرفه قبلك.»

زرادشت يفكر في أن يهجر الحياة، ولكنه لن يستطيع أن يهجرها إلى الأبد، سوف يموت ذات يوم، ولكن لا بد له أن يعود مرة ومرة إلى غير نهاية، لا بد أن يدور في حلقة العود الأبدي التي لا تكفُّ عن الدوران، وأن يجرب يأسه وأمله، وعذابه وفرحته، ويولد ويموت مرات لا حصرَ لها ولا عدد.

وتنظر إليه الحياة نظرتها إلى طفلٍ ماكر عبقري، انتزع منها السر الذي ضنت به على أبناء الأرض الفانين، ثم تقول بين الفرحة به والغيرة منه: «أنت تعرف هذا، يا زرادشت؟ ما من أحد قد عرفه قبلك!» …

١  أعمال نيتشه الكاملة، المجلد الخامس عشر، ص٦٨، دار النشر كرونر.
٢  أعمال نيتشه، طبعة كرونر، المجلد العاشر، ص٥.
٣  أعمال نيتشه، المجلد العاشر، ص١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤