مدرسة الحكمة

حول لوحة لرافائيل

رسمها رافائيل في عام ١٥٠٩-١٥١٠، وعُرِفَت في تاريخ الفن باسم «مدرسة أثينا»، وجنت عليها هذه التسمية المشهورة زمنًا طويلًا؛ فقد حاول المفسرون على مر القرون أن يروا فيها صورة تعكس تاريخ الفلسفة، وترسم للعين كيف وُلِدَت على أرض اليونان، وانتقلت من مدرسة إلى مدرسة، ومن معلم إلى معلم، ثُمَّ جاء العصر الحديث فرأى فيها لوحةً نفسية تحررت من قيود المكان والزمان، عبَّر فيها الفنان عن مغامرة الفكر المجرد، وصوَّر بها كفاح أبطاله المساكين، حين يتردَّدون بين النجاح والفشل، ويجرِّبون السعادة واليأس، ويشقون بالوحدة أو يبتهجون بالحقيقة. استطاع رافائيل أن يبدع هذه الملحمة الهائلة التي تزدحم بالحكماء على اختلاف نماذجهم وأشكالهم، وتسجل الصراع بين الفكر والفكر، وتجسد المعاني في شخصيات تملك إعجابنا وإجلالنا، أو تستثير ضحكنا وسخريتنا، نحن هنا شهود في مسرحية لن يُسْدَلَ عليها الستار أبدًا. نُعايِن النور الذي انبثق في قلب الإنسان وعقله لأول مرة، ونستمع إلى السؤال الخالد الذي انطلق من فم اليوناني القديم: «ما هو الوجود؟» فردَّده الناس من شرق وغرب، وراحوا على اختلاف أجناسهم وأديانهم وتعدُّد ملامحهم ولون بشرتهم يحاولون الإجابة عليه. على هذه الأرض الجديدة التي أقام عليها الفلاسفة جنتهم الفانية، لا يوجد فقراء أو أغنياء، ولا سادة أو عبيد، ولا مؤمنون أو كافرون، ولا يسأل أحد ما هو وطنك أو صناعتك؛ لأن الجميع مشغولون بالسؤال عن المعنى والمصير، عاكفون على التأمل والتفكير.

لكن التفكير لا ينفصل عن المفكر، إنه مرتبط بتكوينه وطبيعته ارتباطه بجسده ودقات قلبه (فالأفكار العظيمة تأتي جميعًا من القلب)، واللوحة التي بين أيدينا تصوِّر نماذج ثلاثة من الفكر حين تصور ثلاثة نماذج رئيسية من المفكرين، فهناك القلقون دائمًا، الذين لا يفهمون حين يعتقد الناس أنهم فهموا، والذين يندهشون على الدوام، حين يؤكد الجميع أنْ ليس هناك ما يدعو إلى الدهشة. إنهم يحملون بذور التمرد معهم إلى حيث يذهبون، ويسخطون حيث يرضى الكل ويوافقون، حياتهم مقاومة مستمرة، فهم يقاومون العادة والتقاليد، كما يقاومون الشك والتسليم، إنهم لا يرضون باتخاذ «موقف»، حتى ولو كان هذا الموقف هو الشك، ويظل الواحد منهم ينسج كالعنكبوت عالمه الوحيد، ويغوص مثل هاملت من فكرة إلى فكرة، وينحدر من هاوية إلى هاوية، وكأنه يغزل خيوط الحبل الذي سيلتف في النهاية حول رقبته.

وهناك الذين لا يستطيعون أن يستقلُّوا برأي، أو ينفردوا على طريق، إنهم يتلقَّون ويُنصِتون، ويلتفُّون حول المعلم فيتحمَّسون له أو يعارضونه، ويُطرِقون برءوسهم موافقين أو يهزُّونها مخالفين، ويتفانَون في الوفاء له أو في الحرب عليه، ويسيرون صفوفًا وراء غيرهم فيُعيدون كلامهم أو يعيشون عالة على تجربتهم، ولكنهم في كل الأحوال لا يستقلُّون برأي، ولا يكشفون عن ذات تختلف عن بقية الذوات.

وهناك الباحثون والعلماء، الناقدون منهم والمتشككون، كل شيء بالنسبة إليهم يمكن أن يُبرهَن على صحته أو خطئه، ويُقام الدليل على وجوده أو عدمه، قد يكونون مفكرين مناضلين، وقد يكتفون بالتملِّي والمشاهدة، قد يقضون حياتهم في التأمل والتجريد، وقد يقضونها في انتظار الإلهام السعيد، أو الحنين إلى الأصل الذي خرجوا عنه والأمل في الرجوع إليه من جديد.

ثم ننحدر درجة أخيرة في سلم التفكير، فنجد هذه النماذج قد تحولت إلى أضدادها، فالناقد الأصيل يصبح شتَّامًا هجَّاءً، ينتقد كل شيء، ويلتمس العيب في كل إنسان، ويحقر من شأن كل عمل، والشارح المدقق والمفسر المتعمق يصبح فأر مكتبة أو خرطوم خنزير، والمفكر القدير ينقلب إلى مجادل لكل رأي، معارض لكل دليل، مؤيد للقول وضده، إنه يسمح بتجاوز الصواب والخطأ، واجتماع الإله والشيطان، يدَّعي أنه يفهم كل شيء، ويحاول أن يرفع صوته في كل سوق، المثل الأعلى للحقيقة غاب عنه، والموضوعية الأمينة لم تعد قضيته، ويصبح العالم متعالمًا والأديب أُدباتيًّا، والفيلسوف فيلسوفًا (على نحو ما يقول التعبير العامي اللطيف!) يلوك الأسماء الغريبة في فمه ويتحذلق بالنوادر العجيبة في كل «صالون»، ويلبس كالمهرج في كل اجتماع رداء، ويستخدم كالبهلوان منطقًا في كل سيرك. الشاك الأمين أصبح لا يدري أين يغرز سهمه، والمتشائم الجاد لا يعرف أين يضرب معوله، ويصبح أحدهما عدوًّا للفكر والآخر عدوًّا للإنسان، حاقدًا على العالم محتقرًا للثقافة، إنهما يفقدان كل مقياس، وينكران كل قيمة، وينتهيان إلى النزعة العدمية، أو إلى عدمية النزعة والاتجاه، أي إلى الفوضى بعينها، إن كل صورة نبيلة تُمْسَخ وتشوَه، وجلال الفكر الصامت الجاد يصبح ضجيجًا في يد أناس غايتهم لفت الأنظار.

•••

المتأمل في هذه اللوحة يشارك في مؤتمر فلسفي، يختلف عن كل المؤتمرات التي نعرفها في القرن العشرين، فالفلاسفة هنا مجتمعون، لا يتعصبون لمدرسة، ولا يتقيدون ببرنامج، ولم تبعث بهم دولة على حسابها. الواحد منهم لا يُلقي محاضرة، بل يشارك في حديث، والحديث حر منطلق سخي وكريم، يسمح بالمناقشة والاعتراض، ولا يعرف الخطبة المفزعة التي يتكلم فيها واحد ويصمت الجميع؛ ذلك أنه هو الحديث الذي عبر عن الفكر في نشأته الأولى، قبل أن تُدَوَّن الكلمة في كتاب، أو تُسْجَنَ الحروف في مخطوطة. هو مؤتمر دائم أو أكاديمية مفتوحة لا تعرف المواعيد والجلسات ولا اللجان والندوات، ومع ذلك فقد اجتمعت هنا اتجاهات ونزعات عديدة، تستطيع النظرة الأولى أن تميز منها مشاهد خمسة:

أول ما يلفت انتباهنا رجلٌ نصف عارٍ، يجلس في استرخاء وعدم اكتراث على درجات السلم (شخص ٤٠)، إنه هو الفيلسوف الشحاذ ديوجينيس، الذي عُرِفَ في تاريخ الفلسفة باسم «الكلبي»، لعله كان أول من دخل إلى معبد الحكمة، فلم يستند إلى عمود أو جدار، ولم ينتظر أن يتحلق حوله المريدون والأتباع، بل تمدد في جلسته كما يتمدد الكلب في دفء الشمس! إنه في الصورة يدير ظهره للجميع، ويكاد يذكرنا بالحكاية التي تُروى عنه، حين اقترب الإسكندر الأكبر منه وأراد أن يتحدث إليه، فما كان منه إلا أن طلب منه أن يبتعد حتى لا يحجب عنه نور الشمس! لقد استغنى عن كل شيء، ولم تعُدْ به حاجة إلى إنسان، حتى الملعقة التي كان يأكل بها قذف بها بعيدًا عنه، حين رأى صبيًّا يشرب الماء من راحة كفه. وأمَّا الوعاء الذي يأكل منه فالبعض يؤكد أنه يراه في الصورة، والبعض الآخر لا يرى ضرورة إليه. وأيًّا ما كان الأمر، فقد فرغ من أكله قبل أن يتوافد الحاضرون إلى «المدرسة»، ومضى يقلب البصر — من بعيد — في المخطوطة التي يحملها في يده اليسرى، وكأنما يُلقي عليها نظرة ازدراء قبل أن يُلقي بها بعيدًا عنه، على نحو ما ألقى بكل شيء وتخفف من كل شيء!

ولكنه — شاء ذلك أو لم يشأ — مشترك في الصراع الدائر حوله، ومهما حاول إيهامنا بأنه قد استغنى عن كل شيء، فهو لم يستغنِ بعدُ عن هذه الرغبة في الإيهام! وإلا فلماذا أتعب نفسه بالحضور؟ ألم يكن يستطيع أن يبقى في برميله المشهور؟ لعله يشك في قدرة مظهره على بيان مخبره، ولعله يندم على أنه لم يحضر برميله معه! هذا الفيلسوف الذي ظن أن التفلسف شكل ورداء، قد أحضر كل ما يثبت «كلبيته»: اللحية الكثة المشعثة، والرداء الذي يكشف من الجسد أكثر مما يخفي، والجسد الممدد على السلم كأنه ثوب قديم متسخ لا يدري صاحبه كيف يتخلص منه، كل هذا يصرخ باحتقار مَنْ سَمَّته العصور القديمة «بسقراط المجنون» للتمدن والتهذيب، وينطق بأن الفيلسوف هو الشحاذ الأبدي الذي يسأل عمَّا لا يدريه أحد، ويتصدق بما لا يملك أحد أن يعطي. إنه فيلسوف المراعي والغابات، يهيم على الأرض كالوحش التعيس، عاريًا إلا من خرقة تستر عورته، جائعًا إلا من كسرة تخطفه من الجوع، وما أكثر أتباعه من العراة ودعاة الطبيعة والفطرة! سوف يحاول على الدوام أن يمدَّ يده إلى الكتب التي لا يفهمها، ويجادل في المسائل التي لم يتهيَّأ لها، وسوف يرتد دائمًا إلى طبيعته الحيوانية، ويعرف أن الفلسفة عند أمثاله ليست سعيًا إلى المعرفة، بقدر ما هي فنٌّ عملي من فنون الحياة، ومع ذلك فلا يجوز أن نظلمه ونجرده من كل «عاطفة» فلسفية؛ فوحدته الفاسدة في جوف برميله دليل على أنه يتصل بالفلسفة بسبب، وكلمته الأبية المتهورة للإسكندر الأكبر — إن صحَّت الرواية — برهان على شجاعته النادرة المضحكة.

إن المفسِّرين جميعًا يتفقون على أنه هو «ديوجينيس» بن «سينوب»، الشحاذ الذي زهد في كل شيء، فلم يبقَ له من ترف إلا الفلسفة، والكلب الآدمي الذي أراد أن يُثبت أن التفلسف هو الشيء الوحيد الذي ليس كلبيًّا فيه، وأن الفكر هو الذي يعصم الإنسان من أن يعيش ويموت كالكلاب …

أمَّا المشهد الثاني فهو — في أغلب الظن — يُرينا أول القادمين بعد الفيلسوف الشحاذ، إنه الساخر الأزلي، الذي لا تفارق الابتسامة شفتيه، سقراط الساذج المكار في آنٍ واحد، التفَّت حوله جماعة من كل شكل وصنعة وطبقة، وليس من المصادفة أن يكون سقراط هو أول الحاضرين بعد ديوجنيس؛ ذلك أنه مثله يملك الوقت للجدل الذي يبدو كأنه لا ينتهي، ويملك الوقت ليمضي من بيت إلى بيت، ويحمل فلسفته إلى الحواري والأسواق (وأين منها فلسفة اليوم التي لا تستطيع أن تغادر تابوتها الحديث الذي نسميه الكتاب أو قاعة المحاضرات؟) هنا نجد سقراط (شخص ٢١ وجماعته) وكأنهم يتهيئون للانصراف بعد أن طال بهم الحوار والنقاش، والفيلسوف يفرد ذراعه اليسرى ويعد على أصابعه كأنه يريد أن يؤكد شيئًا انتهى إليه لمن لا يزالون يصغون إليه، والشك يطلُّ من أعينهم يريدون أن يقولوا: «فلننصرف على كل حال، وهل يمكن لسقراط اللبق أن ينتهي إلى شيء؟!»

يبدو من سقراط الجانب الأيسر من وجهه فحسب، تُجلِّله لحيةٌ كثة، وتشعُّ منه وداعةٌ أليفة، رداؤه بسيطٌ فضفاض، في لون الزيتون الأخضر، يلتفُّ حوله حزامٌ يشد بطنه المنتفخة، وحركة يديه معبرةٌ بسيطة، يكاد يفرد أصابعه ليعدَّ عليها حججه النافذة المقنعة، وقبحه المشهور عنه قد عوَّضه النبل المعبر في حركاته وإيماءاته، ولعله الآن يختم الحديث الذي طال بينه وبين الجماعة الملتفَّة حوله، ويحاول — بعدما اعترف لمحدِّثيه بأنهم يعرفون ما لا يعرف — أن يتدخل بتواضعه الساخر المعروف، فيستخلص النتائج ويحدد المفاهيم، ولعله لم يصل كالعهد به إلى نتيجةٍ محددة، بل ترك الحديث مفتوحًا ليستأنفه في اليوم التالي على مأدبة صديق أو في زحام سوق، ومع ذلك فحركة يديه، والإشارة القاطعة بسبابة يده اليسرى ترجِّح أنه قد توصَّل إلى نتيجة لا سبيل إلى الشك فيها، يُنصِت إليها محدِّثوه في رضًا واقتناع.

إن جماعة سقراط تتألف من ستة أشخاص، ترتبط بهم ارتباطًا وثيقًا جماعة أخرى (على الجانب الأعلى من الصورة إلى اليسار) من ثلاثة أشخاص (١٣–١٥)، لقد حضروا مسرعين، ورئيسهم الذي مدَّ ذراعه اليسرى في هدوء وكأنه يعتذر أو يبرر موقفهم لواحد من جماعة سقراط (يتميز بشعر رأسه وذقنه الكث المهمل الطويل): «ها نحن قد أتينا، إن رفيقي قد أتى معه بالكتب التي كلفتمونا بإحضارها، لقد قطع الطريق جريًا، يكاد الرداء أن يسقط عنه لفرط تعجُّله ولهفته على إحضار مخطوطته، لا شك أنها ستعاون على حسم النزاع وإيضاح البرهان، ولكن ماذا تريد أن تقول؟ هل كان تعبنا عبثًا؟! ألم نتفق على الرجوع إلى الدليل المكتوب؟ وا أسفًا للجهد الضائع؟ لقد تحقق ما توقعته، سقراط الذكي قد كسب المعركة، استطاع بسحر كلامه وخبث منطقه أن يجعلكم تتخلَّون واحدًا بعد الآخر عن وجهة نظركم، ألم أقل لك ذلك من قبلُ؟! ألم يكن في استطاعتنا أن ندخر تعبنا؟ تقول: إننا تأخرنا؟ ولكن ما قيمة ذلك إذا كنتم أنتم قد تسرعتم بالاقتناع؟ هل جاءكم الآن كلامي؟!»

إن المتحدث بلسان الجماعة الثانية يبدو على وجهه ما يشبه الندم أو خيبة الأمل، والرجل الأشعث الشعر الذي يبدو أنه يؤنِّبه أو ينهره أو يستفزه يلتفت إليه، ولكن أذنه ما زالت معلقة بكلام سقراط. إن كل شيء يظهر له الآن سخيفًا بعدما قال الفيلسوف كلمته، ربما كان أحد معارضيه قبل لحظات مضت، وربما كان واحدًا من أولئك السفسطائيين الذين يهمهم أن يعلنوا هزيمة سقراط على الملأ، ولكن الأسانيد والحجج التي بعث في إحضارها لتأييد رأيه قد تأخرت، والحكيم الساخر قد أوقعه في شبكته، وهو إن كان يلوم هؤلاء الشبان على تكاسلهم؛ فلأنه لا يجد الشجاعة لكي يلوم نفسه. ألم يقف مع سقراط وينصت إليه؟ وكيف كان له أن يُفلت من سحره أو ينجو من خطره؟ ها هو كل شيء قد ضاع، والمجتمعون حول سقراط قد اقتنعوا بما قال وأعطوه قلوبهم قبل أسماعهم، ولن تستطيع قيثارة هوميروس نفسه أن تصرف انتباههم عن حديثه الخطر الجميل!

سقراط يختم حديثه، لعله لا يقيم الدليل على صدق رأيه بقدر ما يثبت خطأ معارضيه، إن أهم شيء لديه الآن أن يجردهم من وَهمٍ قديم قبل أن يقنعهم بحقيقةٍ جديدة، الشاب الأشقر الذي يقف إلى جانبه ويضع يده اليمنى على أذنه يتطلع إلى المعلم في حب من يصدق الآن كل كلمة يقولها دون حاجة إلى انتظار بقية الحجج والبراهين: «لا بد أن أنصرف الآن يا سقراط، اعذرني إن كنتُ لا أستطيع أن أنتظر حتى تتم كلامك، لقد خلصتني من أخطائي المتزمتة الموروثة، وإن كنت لا أتصور الآن كيف نجحت في ذلك. ها أنا أنصرف كما قلت لك، ولكن إيماني بك لا يخلو من الدهشة منك!» وأمَّا الشاب البديع — لعله فارس أو محارب — الذي يضع على رأسه خوذة ويقف أمام الساحر الأصلع الفقير، وقد وضع ذراعه اليمنى في خصره، ووقف في استرخاء وقفة المستسلم المذهول، فهو لا يملك إلا أن يعطي نفسه كلها في نظرته المحبة الوفية لسقراط، إنه — كما يبدو — لم يشترك في الحديث اشتراكًا فعليًّا، ولعله كان يعبر الطريق مصادفة مزدهيًا بردائه الجميل وقامته الفارعة وجسده الممتلئ بالحياة، ولعله كان قد سمع بسقراط وشيطانه فيما يسمع بقية الأثينيين، فلما رآه يتحدث معهم وقف يستمع فيمن يستمع إليه، ويشاهد بعينيه فن «القابلة» الذي أتقنه سقراط كما أتقنت أمه توليد النساء. إن الشاب الجميل المسحور ببراعة سقراط في توليد الأفكار لا يملك الآن إلا الإعجاب المطلق به، وإن كان لا يفهم كثيرًا مما يقول، أو لا يهمه أن يفهم منه القليل ولا الكثير، وكأنه يقول الآن لنفسه: ومع ذلك فهو يؤكد لكل من يصادفه أنه لا يعرف سوى أنه لا يعرف! حقًّا ما أمتع الاستماع إلى سقراط هذا، وما أشد ما يختلف عن غيره من أدعياء المعرفة!

جماعة سقراط من مختلف طبقات الشعب البسيط، ربما التقوا به بمحض الصدفة، فلم يشاءوا أن يتركوا الفرصة تفلت من أيديهم، ليسوا علماء ولا متعالمين — فكم كان سقراط يكره هؤلاء! — بل أناس استهوتهم طريقته في الحوار وتحديد المعاني والأفكار، إنه لا يتحدث عما وراء الطبيعة، ولا يغوص في أسرار الكون، ولا يتعرض لمشاكل الفلسفة الكبرى، بل يتحدث عن أبسط الأشياء التي تصادفهم في حياتهم العملية، جاعلًا شعاره الذي يهتدي به قوله المأثور: المعرفة فضيلة، إنهم يثقون بما يقول، ويتحققون الآن من أنه لا يهتم بأن يعجب ويدهش بقدر اهتمامه بأن يعلِّم ويربِّي، لن يجدوا عنده شيئًا من ألاعيب الجدليين التي يعرفها تاريخ الفكر من عهد زينون الإيلي إلى مهرجي الفكر في القرن العشرين، إن موقفه موقفٌ صادقٌ أمين، واضحٌ محدد المنطق، وقد طالما جرَّ عليه العداوة الظاهرة أو الخفية من جانب كثير من الفلاسفة، ابتداءً من هيجل إلى نيتشه. إن المحارب الجميل يتطلع إليه في ثقة واطمئنان، ويضع يده على خده الأيسر وكأنه يصدق كل ما قال وما سيقول، والشاب الأشقر الواقف إلى جانبه قد أمَّن على كل كلمة قالها، وإذا كان الآن يسرح بعينيه بعيدًا عنه، فهو يستأذنه في الانضمام إلى الجماعة الجديدة القادمة من الوسط، وكأنه يقول له: إنني لا أنصرف عنك إلا لأعود إليك، لقد ازددت اقتناعًا بأنه ما من تيارٍ آخر إلا وهو منبثق من منبعك. والعجوز الماثل في الوسط (لعله تاجر أو عامل يدوي) يميل برأسه نحوه، وترتسم على عينيه الضيقتين ووجهه المتعب الهضيم آثار الإجهاد من تتبع كلامه.

إن سقراط يعلمهم جميعًا ويتعلم منهم، العلاقة بينه وبينهم تظل علاقة الحر بالحر، إنه ينمو معهم كما ينمون معه، وكل خطوة يخطوها تقربه منهم كما تقربهم منه، إنه لا يهدف إلى إقناعهم تمهيدًا للتحكم فيهم والسيطرة عليهم (كما كان الحال لدى السفسطائيين وكما هو الحال اليوم لدى أصحاب الجدل والدعاية)، بل يعترف بجهله أمامهم ويحاول أن يتعلم منهم، ولا يصل إلى معرفة إلا بالاشتراك معهم، هو لا يوجِّه تلاميذه إلا ليزيدهم معرفة بأنفسهم، أعني ليزيدهم حرية؛ فهو لا يفكر لهم، ولا يخطب فيهم، ولا يحاول أن يخلقهم على مثاله، بل يأخذ بأيديهم حتى يستخرجوا المعرفة من أنفسهم، ويدرب أقدامهم على السير على طريقهم، ويفتح أعينهم على النور الكامن في باطنهم. هذه المعرفة التي يستخلصونها بأنفسهم من أنفسهم هي التي وُلِدَت معهم، وهي وحدها التي ستبقى معهم إلى يوم مماتهم، تلك هي المعرفة «الأخلاقية» الحق، التي يحصلها الإنسان بالتأمل في نفسه، وهي المعرفة التي تبقى بعد أن ينسى كل ما تعلَّم أو «عرف»!

ويأتي المشهد الثالث، فها هما مفكران جليلان رائعان قد دخلا إلى معبد الحكمة (٢٩، ٣٠) الأنظار كلها تعلقت بهما، الواقفون على الجانبين أفسحوا لهما مكانًا، والذين لم يلتفتوا حتى الآن إليهما لا شك أنهم يحسون بهما، لقد جاءا في خطوات جادة ثقيلة حازمة، كأنها إيقاع اللحن الثقيل الجاد الذي يصاحب أفكارهما، الجميع يصغون إلى حديثهما، يتابعون الذراعين الممدودتين، تشير إحداهما إلى السماء في إصرار وعزم، وتشير الأخرى إلى الأرض في قوة وخشونة. اثنا عشر رجلًا التفوا حولهما، استغرقوا في حديثهما الذي لن يصل إلى حد النزاع أبدًا، ثم تركوا كل شيء وراحوا ينصتون إليهما، ويتدبرون بينهم وبين أنفسهم إن كانوا سينضمُّون في النهاية إلى صف الحكيم الإلهي، أو سيقفون إلى جانب العالم الواقعي، إن كانوا سيُحلِّقون في السماء أو سيتشبثون بالأرض، حتى الشيخ العجوز الأصلع الملتف في ردائه الأصفر الفضفاض ترك جماعته وهم ما بين شاكٍّ ومتردِّد ومصرٍّ على موقفه وانضم إلى هذا الموكب الجديد الرائع ليتعلم ويستفيد.

إن أميرَي الفكر العظيمين يتصدران اللوحة، ويضفيان عليها جوًّا من السمو والعظمة والجلال، إنهما لا يقفان في مكانهما بل يتابعان سيرهما على طريقَين متوازيين ولكنهما لا يلتقيان، وكل شيء يدل على أنهما هما أفلاطون١ وأرسطو، الأول يرفع يده إلى السماء، وكأنما يشير بها إلى عالم المُثل، والثاني يؤكد إشارته إلى الأرض، وكأنه يقول: «بل المُثل هنا في عالم الأرض والواقع»! ها هما يصلان الحوار الذي لن ينقطع بعدهما، إنهما مستغرقان فيه منذ حين، لا يشعران بمن حولهما، وكل مَنْ حولهما يشعر بهما: شيوخ وشباب، أمراء وصعاليك، حكماء ومبتدئون من الألف باء، كلهم التف حولهما، وألقى بنفسه مختارًا في أشرهما، وهم لفرط الإعجاب الصامت — العيون الصافية المستسلمة تشي به! — لا يدرون لمن يلقون الزمام: للشيخ العنيد الهادر، أم للرجل الصلب المتزن؟ وإذا كان الشاب الأشقر السمح الوجه، المتشح في سترةٍ بيضاء على اليمين هو الإسكندر الأكبر كما يقول بعض المفسرين، فكم يصعب علينا أن نحدد ميله إلى المشائين أو إلى الأفلاطونيين! لقد اندمج الجميع بكليتهم في الحديث، فلم نتبين حتى وجوههم، إذا استثنينا الأول من كلا الصفين على اليمين واليسار، فالحكيمان يملآن المكان، لا يقل أحدهما عن الآخر في عظمته وجلاله، ولا يتميز واحد عن الآخر في قوته وإقناعه.

يبدو أفلاطون في روعة الشيخوخة، وأرسطو في قمة الرجولة، كلاهما يمسك بيده اليسرى كتابًا. أمَّا أفلاطون فكتابه هو «تيماوس»، وأمَّا أرسطو فكتابه هو «الأخلاق». حركة الأول ونظرته المتحمسة تدلُّ على أنه هو العجوز الناري الذي يذكر أبناء الأرض بالسماء، وبنية الثاني ونظرته الواقعية الهادئة تدلُّ على أنه هو المعلم الرزين الذي يعيدهم إلى الأرض. الأول يشير متحمِّسًا إلى عالمٍ آخر، لعله هو عالم المثل أو التجريد أو الحب الإلهي، ويدافع بالعاطفة الملتهبة عن المطلق والمثال. والآخر يردُّ عليه في قوة وعزم، ولكن في حب وتعاطف، ويكاد يقول له في كلمات عاقلة مرتبة: يا أيها المعلم والصديق، إن حبي لك لا يمنعني من مصارحتك بالحقيقة، حاول أن تنظر معي إلى الأرض، أن تعود إلى التجربة، ألا ترى معي أن المثل لا تأتي معها بغير المشقة والتناقض؟ ألا ترى أن قسمة العالم إلى عالمين أحدهما للمثل الخالدة الثابتة، والآخر للأشياء المحسوسة المشاركة فيها؛ شيءٌ يصعب على العقل تصديقه؟ أعرف أنك تقف بالقلب والشعر وراء هذا العالم البعيد المضيء، ولكن عالم التجربة والواقع عالمٌ قريب وعسير، آه فلتعد إليه! فلتعد معي إليه، ما زلت تقول: إن المثل نماذج خالدة، وتصر على أن الأشياء تشارك فيها، ولكن لا هذا ولا ذاك يثبت وجودها، لا يصح أن نبحث عن جوهر الأشياء خارجًا عنها، المثال والظاهرة يا معلمي، الصورة والمادة، العام والفرد، كلاهما مرتبط بالآخر. حقًّا إن المبدأ العام هو أساس المعرفة بالجزئيات، والصورة هي التي تحدد المادة وتشكلها، والمثال هو الذي يعطي الظاهرة «مظهرها»، ولكنهما متلازمان في الشيء الواحد، لا يتخلى أحدهما عن الآخر ولا يحلق بعيدًا عنه، لا لن أستطيع أن أوافقك على رأيك في المثل، وإن كنت أخاطر بأن يتهمني الناس بمعارضتك حُبًّا في المعارضة، نحن يا معلمي لا نختلف في معنى الكلمة، بل نختلف حول الطريق، وإذا كانت غايتنا هي المعرفة التي تحرر الإنسان، فإن طريقَينا مع ذلك يختلفان. ستظل عينك تتأمل وترى، وستظل عيني تفحص وتدقق، ستظل قريبًا من الله، وسأظل قريبًا من العالم، كل ما على الأرض بالنسبة لك ظلال وأشباح، والناس عندك مساجين كهف لا يرون غير هذه الظلال والأشباح، فإذا خرجوا منه — ولكن كيف ومتى يخرجون؟! — أعشى أبصارهم نور الشمس، وبهرهم سَنَى المثال، أمَّا أنا فلن ألجأ إلى الرمز، لن أحلق على جناح الشعر، لن أرتفع فوق الواقع، بل سأعيدهم إلى الأرض، سأنبههم إلى قيمة التجربة، سأغوص معهم في زحام الحياة.

•••

بعد المأساة الجادة بأن المرح الرقيق، فعلى اليمين (٣٨-٣٩ ومن ٤٢ إلى ٤٤) انفضَّت جماعة منذ قليل في هدوء وبغير ضجيج. إن الشاب الذكي الذي يعرف هدفه (٤٤) ويلبس رداءً أزرق ويتلفح بعباءة بنفسجية — لعله كان لسان هذه الجماعة أو رائدها — يهبط درجات السلم، ولم تزل أصداء الحديث الذي شارك فيه تتردد في سمعه، وهناك يقابله زميلٌ آخر، لا نرى منه إلا ظهره، نحس من إشارته أنه أقبل مسرعًا، كأنما يخشى أن ينفضَّ مؤتمر الحكماء قبل أن يدرك نصيبه منه، إن ذراعَيه الممدودتَين ناحية الفيلسوف الكلبي المسترخي على درجات السلم في غير اكتراث توحي بأنه يسأل صاحبه وهو يحاول أن يكتم الضحك: وماذا يصنع هذا أيضًا؟ أتسمي هذا الشيء الممدد فيلسوفًا؟ أهكذا تفعل الفلسفة بأصحابها؟ إن كان ديوجينيس كما تقول: فلماذا ترك برميله؟! لو أنه أحضره معه لما كنت على الأقل تعثرت فيه! ها أنا قد جئت أبحث عن معلم يهديني في متاهات الحكمة، أليس هذا الذي تجنب الجميع وزهد في الترف وصدَّ عن مباهج الحياة هو أحكم الحكماء؟ ولكن صاحبه لا يكلف نفسه عناء الرد عليه، ولا يحمل كلماته محمل الجد، بل يشير بذراعه إشارة مختصرة حاسمة ناحية الفيلسوفين العظيمين اللذين أقبلا منذ لحظات، يشع منهما نور قاسٍ يحيل كل ما عداهما إلى ظلال فقيرة باهتة: «هنا تستطيع أن تتلقى الحكمة، هنا لا في أي مكان آخر أيها الصديق!» والكلبي يسمع الحديث المهين الذي يدور عنه، لكنه لا يغادر هدوءه، ولا يخرج عن فلكه؛ لقد أدار ظهره للعالم وللناس ولم يعد ثمة شيء يستطيع أن يُثير اهتمامه، وبعد أن ينتهي من قراءة مخطوطته — التي أقبل عليها في غير اكتراث، وكأنه يعرف سلفًا أنها لن تأتيه بجديد — سيغمض عينيه ويستسلم لحظات لنومٍ هادئ يساعده على هضم طعامه المتواضع الذي ازدرده منذ قليل (وبعض الشارحين يؤكد أنه يرى وعاء طعامه على يمينه)، لا لن يهزه شيء أو يُفْقِدَه هدوءه. وهؤلاء المترفون المتخمون هم أبعد الناس عن ذلك؛ إذ ما شأن أصحاب الثياب الفخمة والبطون الممتلئة بالفلسفة؟! الفيلسوف شحاذ من نوعٍ غريب، لا يقف بباب ولا يمد يده بسؤال، وهل يستطيع أن يصل إلى الحقيقة العارية إلا مَنْ تعرى مثلي عن كل شيء؟! لا لن يكون لي شأن بهم حتى يتقنوا الشحاذة الفلسفية! فليتحدثوا أو ليسكتوا ما شاء لهم الحديث أو السكوت، أمَّا أنا فلن أغادر برميلي ولو لم أحضره معي!

كانت هناك جماعة ملتئمة كما قلنا، ثم انفضَّت منذ قليل، العجوز الأصلع ذو الذقن الكثة البيضاء والرداء الأصفر القاتم قد شارك فيها من غير شك (شخص ٤٧)، إنه يقف الآن وحده وكأنه يتحدث مع نفسه، لعله قد اكتشف — بعد الجدال الصاخب اليائس مع الشاب القوي الذي يهبط درجات السلم — أنه قد شاخ وأصبح من جيلٍ قديم نسيه الموت ولم يعد يؤمن به الشباب، حتى هذا الشاب الذي جاء يبحث لنفسه عن معلم لم يكد يلتفت إليه، بل أسرع متجهًا إلى أميرَي الفكر الجديدَين، هل كان عبثًا كل ما أضعته من أيام عمرك في تلقي الحكمة وتلقينها؟ وهل تعرف الحكمة آلام الشيخوخة التي يعاني منها أبناء الإنسان؟! ما أقسى وحدة الحكيم حين يهرم فلا يستطيع أن يقنع أحدًا ولا يستطيع أحد أن يصبر على الاستماع إليه! ها هو قد أنفق الساعات يشرح ويؤيد ويثبت بالحجج والبراهين، فماذا كانت النتيجة؟ شابٌّ قوي كان يؤمل فيه الخير وينتظر منه العزاء لشيخوخته والاستمرار لتعاليمه ينصرف عنه غاضبًا إلى غير عودة، وصبيٌّ ساذج صغير لا يزال يتهجَّى أحرف «الفلسفة» أسند أوراقه على ركبته، وراح يحاول أن يكتب ما فهمه مني إن كان قد فهم شيئًا على الإطلاق، ويائس شاكٌّ وضع رأسه الضخم المهمل الشعر على ساعده وبقي وحده يتأمل فيما قلت، أو بالأحرى يتشكك فيه ويفكر في هدم البقية الباقية من أطلاله. إنه يتطلع في استخفاف ورثاء إلى كراسة الصبي المخلص إخلاص الأبرياء، وينتظر حتى يفرغ من تدوين ما علق في ذاكرته ليقول له: «ألم تكتشف بعدُ أن البرهان مشلول الساقين، وأن الحجج التي قدَّمها هذا العجوز المسكين لا تحتمل هبوب نسمة واحدة فما بالك بأعاصير الفكر الجديدة؟!» أنا لا أجرده من كل فضيلة؛ فأفكار الفلسفة تظل هي هي، ومشكلاتها لا تفنى ولا تُسْتَحْدَث، ولا تشيب ولا تتجمد، ولكن طريقة تناولها هي التي تختلف، وطريقة هذا العجوز قد أفناها الدهر الذي أوشك أن يفنيه معها. لعل الشاك المعذب لم يفصح عن شيء من هذا كله؛ لكيلا يعدي الصبي المتحمس، ولكن ظهره الذي انحنى، ووجهه الناحل المستطيل الحادَّ التقاطيع ينبئان باليأس الذي يمزقه ولا يستطيع أن يخفيه، إنه اليأس الذي أغرقه في الشك العقيم، ومنعه من أن يحاول مرةً أخرى، أو أن ينضم إلى تيار جديد يجد فيه الجواب على الأسئلة التي تحير قلبه، وإذا كان يشك في مقدرة الإنسان على الوصول إلى الحقيقة، فربما يعزيه أن العجوز الأصلع ذا الرداء الأحمر القاتم لم يخلُ كذلك من الشك والتردد، ها هو يقف حائرًا لا يدري إلى أين يذهب … رأسه وعيناه تتجهان ناحية اليمين، بينما يحاول جسده أن يتجه به إلى اليسار، ويداه المعقودتان على صدره تشيان بتردده، فإحداهما تميل يمينًا بينما تشير الأخرى إلى اليسار، لعله مع ذلك قد استراح من العذاب الذي وقع فيه، وتخلَّى في يأسه عن كل سؤال، ولعله يؤمن الآن بأن لكل شيء وجهين، وأن كل شيء في نهاية الأمر حق وباطل وخير وشر وممكن ومستحيل. هذا هو عذاب الفلسفة، وهذا هو صراع الفكر مع نفسه، سيصل مع هيجل في العصر الحديث إلى قمته، فيُقدِّس الديالكتيك ويمجد التغيير، ويضع يد الإنسان في الماء والأخرى في النار، ويؤرجح الكرة الكونية على قرنَي الثور فلا تهدأ ولا تستريح! إن وجه العجوز مكفهرٌّ، وجبهته مقطَّبة، وعيناه تكاد تطفر منهما الدموع؛ لقد خاب أمله في نفسه وفي العالم، ونفض يديه من السيطرة على تناقضات الواقع، ووقف مترددًا عاجزًا عن الاختيار. انفضَّت الجماعة كلها من حوله (لعله أيضًا لم يكن رائدها أو مركز الوسط منها، بل مجرد شيخٍ محبٍّ للحكمة وقف يستمع إلى الجدل الدائر بين أفرادها) حتى إذا اتجه كبيرهم — العجوز الأصلع العملاق ذو الرداء الأصفر الفضفاض الذي يقف في أول الصف الأيمن يشاهد أفلاطون وأرسطو مكتفيًا بالاستماع إليهما والتعلم منهما — إلى أميرَي الفكر العظيمين، وأسرع الشباب منهم بالانصراف — كما ترى الشاب العاري الذراع والكتف على أقصى اليمين في الجانب الأعلى من الصورة (شخص ٤٨) — وجد نفسه وحيدًا لا يدري ماذا يفعل ولا يعرف ماذا يريد.

•••

في الواجهة الأمامية للوحة، يطالعنا مفكِّرٌ وحيد متجهِّم (شخص ١)، إنه يجلس أمام الدرجات الأربع، مستندًا برأسه إلى ذراعه اليسرى، على وجهه المتعب النحيل أمارات كآبة لا تخطئها العين، إن يده اليمنى تمسك بالقلم، ولكن العينين لا تتابعان ما تريد النفس المهمومة أن تمليه عليها، ولا تريان شيئًا مما أمامهما أو حولهما، بل تتجهان إلى الداخل، وتتوهان في دروب الذات التعيسة المعتمة. إنه مثال المفكر الوحيد الذي يواجه زمنه بالتحدي والعناد، ويغوص في أعماق نفسه ليبحث فيها عن أعماق الوجود، إن يده لا تستطيع أن تلاحق أفكاره أو تعبِّر عن رؤاه، ولا تستطيع أن ترتبها في نسق أو نظام، ربما كان من أسباب حزنه الجارف غير المحدود أنه قد أدرك الآن أن الكلمة المكتوبة لا تملك أن تعطي للفكرة الشكل الذي يناسبها. إن الحزن المرتسم على وجهه أكبر وأعمق من أن يكون ذلك الانطواء الذي يتحدث عنه علم النفس، ولكن حزنه لا يتناسب مع قوَّته البدنية، وتأمله لا يتفق مع منظره الشاب، لعله يسأل نفسه — كما يسأل الشيخ الواقف على عتبة الموت: «ماذا بقي بعد الآن؟ وما جدوى هذا كله؟» أو لعله يكرِّر بنفسه حكمة سليمان: «الكل باطل.» إنه لا يفكر في العالم فحسب، بل يتعذب به، هو الوحيد حقًّا بين كل من نراهم في اللوحة من نماذج وشخصيات، وما أشد شبهه بتمثال رودان المشهور «المفكر» الذي يبدو وكأنه يطلُّ في هاوية أعماقه الباطنة التي تجذبه إليها، ترى ماذا يقول لنفسه؟ هل يدرك الآن أن الحياة لم تكن سوى خداعٍ مستمر للنفس؟ هل يحن إلى العودة إلى أحشاء أمه؟ أم يتمنى لو لم يولد على الإطلاق ولم تر عينه نور الشمس؟

اختلف المفسرون في شخصية هذا المفكر الحزين، فالبعض يذهب إلى أنه هو «الفيلسوف الباكي» — هيراقليطس من أفيسوس — الذي يُقال: إن الدرس المُضني أكسبه نظرةً حزينة، وأن الفنان قد رسمه كنموذجٍ مضادٍّ للفيلسوف الضاحك ديموقريطس الذي يظن أنه هو الشاب الوسيم الطلعة الذي يستند بكتابه على قاعدة العامود (شخص ١، في أقصى اليسار من الصورة) وقد التفَّ حوله الأطفال والشيخ العجوز، والبعض يرى أنه هو النموذج المضاد للفيلسوف الواقف إلى جانبه (شخص ٢، ولعله هو بارميندز الإيلي) الذي ينتمي إلى مجموعة فيثاغورس الجالس على اليسار، والبعض يقول: إن الفنان قصد به تصوير أحد الشُّكَّاك ولعله أركيز يلاوس أو الرمز إلى الخطابة في شخصية ديموستينيس، أو إلى الفيلسوف الرواقي أبكتيت في ملبسه الخشن وحذائه الروماني، الذي كان يوصي بأن يغلق الإنسان باطنه عن كل شيء خارجي، وألا يفتح نفسه للعالم بل يجعل منها قلعةً محصنة منيعة. مهما يكن الرأي في شخصية هذا المفكر الحزين من الناحية التاريخية، فالمهم أنه يملأ فراغًا في اللوحة كان سيظل شاغرًا بدونه، والمعروف أنه هو آخر من أضافهم رافائيل إلى لوحته، ولا شك أن العين كانت ستفتقد المفكر الوحيد بحق وسط هذه الجماعات المختلفة من الحكماء والمعلمين والمتفرجين والمنصتين؛ ذلك أن الفيلسوف الشحاذ «ديوجينيس» الممدد على سلم مدرسة الحكمة ليس وحيدًا بحق، مهما حاول أن يقنعنا أو يقنع نفسه بذلك! «فكلبيته» تلفت الأنظار إليه، ومظهره الشائن يضطر الجميع إلى الاهتمام به والامتعاض منه، كما يجرِّده بالضرورة من طابع الوحدة الحقيقية التي تكتفي بنفسها، وتبتعد عن كل ما يجذب العالم إليها أو يجذبها إلى العالم.

•••

اللوحة كلها يسودها هدوءٌ نبيل يُضفي عليها طابع السمو والجلال. الجميع من متحدثين وصامتين مشتركون في حوارٍ حقيقي قائم على التفاهم والمحبة، ليس هناك نزاع أو جدل أو ادِّعاء أو اتهام أو طموح كاذب مما يعكر اليوم حياتنا الفكرية ويخجل معظم المثقفين — لو كانوا أمناء مع أنفسهم — أن يطلقوا على أنفسهم اسم المثقفين، فليس هناك أكثر من المدارس والاتجاهات على هذه اللوحة، وليس أشد من الصراع بين المثالي والواقعي والضاحك والباكي والاجتماعي والمنعزل، والمتحمس المدافع عن رأيه والمتردد المرتاب في كل رأي، ومع ذلك فنحن لا نحسُّ بغير الانسجام الكلي ولا نلمس غير الجد العميق، إن فيثاغورس (شخص ٧ على اليسار، جالسًا القرفصاء واضعًا الكتاب على ركبته اليسرى) ومجموعته (من شخص ٤ إلى شخص ٩) يمثلون أسرةً فلسفية يربط بين أفرادها المختلفين حب المعرفة؛ فالفيلسوف الرياضي الذي كان أول مَنْ سمعت أذناه موسيقى النجوم والأفلاك يشرح لأفراد عائلته ما غمض عليهم من رسوم، واللوح الأسود يمسك به الصبي الجميل الذي يتطلع إلى وجه الفيلسوف وصلعته أكثر مما يتابع شرحه! إن وجهه الرائع يفيض طيبةً ووداعةً لا تلبث أن تشع من وجوه حوارييه الملتفين حوله وتنعكس عليه من جديد، والعجوز الأصلع ذو اللحية البيضاء الكثة انكمش وراء المعلم — وكأنه يعتذر عن كل ما فاته بعد أن أدرك هذه السن! — لا يخجل من أن ينقل عنه، والمعلم لا يضنُّ عليه بنعمة المعرفة التي لا يصح أن يُحْرَم منها أحد، ولو كان هو هذا الشيخ الملتحي العجوز الذي يبدو أنه يتابعه في صعوبة، ويوسع عينيه لينقل رسومه، ويحرك شفتيه ليجتر ما يقوله، إنه يقف عند الكلمة المكتوبة، ويحصر همَّه في النقل والتجميع، وقد يفلح في أن يكون شارحًا ومعلقًا، ولكنه لن يكون فيلسوفًا أبدًا، فما أبعد الفلسفة والحكمة عن فيران الكتب وحفظة العناوين والطبعات! أفكار الحكيم تنهمر كالمطر وتتدفق كالنور، وهل تخشى الشمس على نفسها أن يسرقها مَنْ يتدفأ بنورها؟ وهل ينقص من البحر أن يعطي للشاطئ موجة بعد موجة؟! في المعرفة كما في الحب لا يمكن التفرقة بين الأخذ والعطاء، إن اليد تأخذ باليد، ولا يدري أحد مَن الذي يأخذ ولا مَن الذي يعطي. إن الشرقي الذي يقف خلفه، ولا تخطئ العين ملامحه الأسيوية، وغطاء رأسه وشاربه المغولي، يميل برأسه وصدره إلى الأمام، ويتطلع في ذهول المحب وخشوع التلميذ إلى الرسوم والأشكال، وتسعفه يده التي تستقر على صدره كأنما يقول: ما أسعد قدري الذي جاء بي إلى هنا! ما أعجب الأسرار التي تحملها الأعداد! وما أبدع الانسجام الموسيقي الذي يعكس الانسجام الكوني الأكبر! هذا الشرقي يحاول أن يفهم، والحب هو طريقه إلى الفهم؛ فالمعرفة الحقة لا تصل إلى العقل إلا إذا مرَّت بالقلب، وما أقرب هذا الحكيم من حكماء الشرق الملهمين! أمَّا الوجه السماوي النبيل والملامح الصافية الشفافة التي يحملها الشاب الوسيم الذي يتلفَّع في رداءٍ أبيض فخم (شخص ٣) فلعله أحد رعاة الفنون، أو أحد الأثرياء النادرين الذين اهتدوا إلى أن الحكمة هي أجمل رداء يمكن أن يزينهم، وأن الجمال الذي يشع من النفس يخسف البريق الذي يشع من الذهب. لماذا يشق على نفسه بتفاصيل الفلسفة أو مشكلات العلم والفن؟ ألا يكفيه أن يتذوق الثمار بعد أن تجتاز مراحل النمو والازدهار، وأن يجعل من نفسه الخيمة التي تُظِلُّ المفكرين، والبيت الذي يستضيفهم ويكرمهم ويشجعهم؟

فإذا ألقينا نظرة إلى اليسار لفت انتباهنا معلمٌ شابٌّ وسيمٌ ممتلئ الوجه بسَّام التقاطيع، إن ذراعه اليسرى المفتولة تمسك بكتاب كبير وتسنده على قاعدة العامود، لقد أحضر إليه المربي العجوز على أقسى اليسار تلميذين صغيرين، حمل أصغرهما على صدره فأجهد الحمل الجميل شيخوخته. إن المعلم الشاب يجد متعة في التعليم، ويكاد يكون تمثالًا ناطقًا لما يسمِّيه نيتشه «بالعلم المرح»، وها هو صديقه أو زميله يشاركه في تهجية الكلمات للصغار، ويضع ذراعه اليسرى على كتفه ليتمكن من تبين الحروف (لعلهما يقرآن نشيدًا من إلياذة هوميروس)، لقد انتهى الطفل الأول لتوِّه من تلقِّي درسه، إنه يقف الآن وراء الأسيوي وعيناه الجميلتان المتسائلتان تقولان: ماذا لو استمعت قليلًا إلى ما يقوله هؤلاء، حبًّا مني لن أفهم شيئًا؛ فالأشكال التي يرسمها الشيخ الجالس القرفصاء غاية في الصعوبة، ويظهر أن هذا هو السبب الذي جعل هؤلاء الكبار يلتفُّون حوله ويتابعون كلامه في صمت وخشوع! أستطيع أن أحشر نفسي وسطهم وأنقش الرسوم في رأسي لكي أدهش بعد ذلك زملائي في اللعب. إن عليَّ — على كل حال — أن أنتظر حتى يفرغ شقيقي الصغير من درس الهجاء، وهؤلاء الفلاسفة الشيوخ لن يضايقهم أن ينضم إليهم فيلسوف صغير!

أمَّا على اليمين فهناك مدرسة الهندسة (من شخص ٥٣ إلى شخص ٥٧)، إن المعلم يضع برِجْلِه على شكل سداسي مكوَّن من ستة نجوم يتألف من مثلثين متساويي الأضلاع. كانت الهندسة ما تزال «ميتافيزيقية»، والمثلث ما يزال يحتفظ بطابعه الإلهي (المعروف من أفلاطون كان يستبعد بصراحة كل مَنْ ليس لهم إلمام بالهندسة من أكاديميته). لقد قاس الله العالم بمثلثات الهندسة ودوائرها، وكان هو نفسه مهندسه الأعظم، هذه الصفة الإلهية للهندسة هي التي تستطيع أن تفسر الانبهار السماوي الذي يتجلى على وجوه الشبان الأربعة، إن أحدهم يحاول أن يفهم، والثاني يستفسر، والثالث يوضح لزميله السر العجيب الذي أدركه، ليشاركه النعمة التي حظي بها، والرابع يكاد يرقص من نشوة الفرح بما تراه عيناه ويحاول عقله البريء أن يدركه.

وإلى جانب هذه الجماعة تقف حلقة الفلكيين على أقصى اليمين، إن الشيخ الملتحي يوازن كرة الفلك الخفيفة على يده اليمنى، والشاب الذي يعطينا ظهره يمسك الكرة الأرضية بكلتا يديه، كلاهما ملتفت إلى الشابَّين المشتركين في الحديث، ويبدو أن أحدهما — وهو الأصغر سنًّا — هو رافائيل نفسه، والآخر معلمه بيرو جنيو. وكيف لا يضع الفنان نفسه في هذه الجماعة، وهي لا تناقش درسًا في الفلك بالمعنى الذي نفهمه اليوم من التفسير العلمي لطبيعة الأجرام السماوية وحركتها، بل ترفع مفهومات الفلك إلى مستوى القداسة، وتتحدث عن المثلث والهرم والدائرة والمكان والزمان كما تتحدث عن الخلود واللانهاية والنظام والحكمة الإلهية؟! إن الهدوء يسود هذه الجماعة، والرهبة والخشوع أمام «القبة المزدانة بالنجوم» تملك قلوبهم كما ملكت قلب كانط في العصر الحديث حين لم يجد شيئًا يمكن أن يملأ قلبه بالجلال والإعجاب غير القانون الأخلاقي المطلق في صدره والسماء ذات النجوم من فوق رأسه، لقد شاهدوا ورأوا — بالمعنى الأصلي الذي تحمله كلمة تيوريا Theoria اليونانية (رؤية – مشاهدة) كما كانت عند أفلاطون، لا بمعناها الشاحب الحديث (نظرية) — وملأوا القلب حين امتلأت العين … كانت دورة الفلك عندهم حقيقةً رائعة أو ظاهرة أولى كما سيقول «جوته»، وكذلك بقيت من عهدهم إلى عهد كوبرنيكوس (آخر الفلكيين القدامى) تغمرهم بنور الانسجام الأزلي، وتُشْعِرهم بالجمال والنظام والحكمة الخالدة.

•••

كانت هذه هي لوحة رافائيل أو ملحمته الملوَّنة، حشدها بألوان من صراع النفس والفكر، وعبَّر فيها عن نماذج إنسانية تكافح من أجل المعرفة. إنه لم يستبعد طبقة من طبقات الشعب، ولا استثنى مرحلة من مراحل العمر؛ فأغنى الأغنياء يقف في معبد الحكمة مع أفقر الفقراء، والزي الفخم مع الخرقة التي لا تكاد تستر الجسد، الأمير والحاكم والفارس يستمعون إلى سقراط إلى جانب التاجر والعامل ورجل الشارع. فالفلسفة لا تعرف الغني ولا الفقير، ولا تميز بين السلطان والشحاذ؛ إن عينها النافذة لا ترى الرداء الخارجي، بل تتجه إلى الإنسان أينما كان. كذلك لا تفرق الفلسفة بين الشعوب والأجناس؛ في اللوحة نرى اليوناني والمصري والمغولي والعبري، حتى الأطفال والنساء وجدوا مكانهم بين الحكماء: فهناك ما يشبه أن يكون «روضة أطفال فلسفية» يتلقنون فيها مبادئ الكتابة والهجاء، ويطالعون أسرار الرموز والأعداد، وهناك المرأة التي تُضفي على جفاف الفلسفة جوًّا من التجانس والانسجام، والكل تنتظمهم وحدةٌ فلسفية توثق رباط الحكمة بين الإنسان والإنسان.

من الخطأ أن نفسر شخصيات هذه اللوحة تفسيرًا تاريخيًّا أو حرفيًّا (وإن كان هذا لا يمنع أن معظمها ينطبق على شخصيات حقيقية وُجِدَت بالفعل، واستطاع نقاد ومؤرخو الفن أن يتعرفوا فيها على فيثاغورس وديوجينيس وسقراط وأفلاطون وأرسطو من شخصيات الفلسفة القديمة، كما تعرَّفوا على شخصية رافائيل نفسه ومعلمه بيروجنيو والكاردينال بمبو)؛ فالفلسفة القديمة ليست هي وحدها التي تواجهنا بتياراتها المختلفة على هذه اللوحة؛ ذلك أنها أغنى من أن تقتصر على مدرسة بعينها وأشمل من أن تُحَدَّ ببلد أو عصر بذاته، إنها أقرب إلى أن تكون سمفونية للنفس البشرية التي لا تكف عن السعي إلى المعرفة، فالحكمة هي قلب اللوحة النابض، والفكر العظيم هو الشخصية الرئيسية فيها، والعشق الفلسفي (أو الإيروس) هو الرباط الذي يوحد الإنسانية في أشخاص مفكريها، ويحقق الجمهورية العقلية التي طالما تمنُّوا تحقيقها على هذه الأرض «وها هي تقنع بالتحقق في لوحة، على جدار، في متحف» وسواء بعد ذلك أن نضع «هيجل» أو «شيلنج» مكان أفلاطون، أو نتصور ابن رشد أو هيوم مكان أرسطو، فسمو الفكر وشرف الغاية في الحالين واحد.

حقًّا إن فارق الكرامة بين الفكر الحديث والفكر القديم شاسع ومخيف، فأين نجد اليوم الحاكم الذي يقف من المفكر أو العالم وقفة الإسكندر الأكبر من أرسطو؟ وأين نجد المؤتمر الذي يتناقش أعضاؤه في مسائل الفكر والمصير بمثل هذا الحماس والتفاني والاستقلال؟ ومع ذلك فإن المقارنة بين العصرين مستحيلة بقدر ما هي ظالمة، فمن المستحيل أن نبحث اليوم عن أستاذ «بكرسي» يضع نفسه في «برميل» أو يتمدد في الشمس كما كان يفعل الفيلسوف الشحاذ، أو يطوف بالأسواق ليعرِّف الناس بأنفسهم كما كان يفعل سقراط. وإذا كُنَّا لا نستطيع أن نطلب هذا من مفكري اليوم وعلمائه، فإن من حقنا مع ذلك أن نطلب منهم أن يبحثوا عن المعرفة بحثهم عن أنفسهم، ويدافعوا عن الحرية دفاعهم عن الحياة. وما بقي صوت يرتفع في سبيل شرف الفكر وكرامته وحريته من كل ما يقيد استقلاله، ففي استطاعتنا أن نطمئن إلى أن مدرسة الحكمة يمكن أن توجد في القرن العشرين كما وُجِدَت في القرون السابقة على الميلاد، وأن نطمع في أن يكون لها ممثلوها الذين يعيشون بيننا، كما كان لها أربابها في بلاد اليونان.

١  يحتمل أن يكون رافائيل قد أخذ الصورة التي رسمها لأفلاطون عن الصورة التي رسمها ليوناردو دافنشي لنفسه، ولقد أقام الفنانان في وقتٍ واحد في فلورنسا، وذلك عامي ١٥٠٤، ١٥٠٨ وكان دافنشي يبلغ في عام ١٥٠٩ من العمر سبعة وخمسين عامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤