حذاء فان جوخ

رأيان في الفن
نحن نسأل هنا عن الفن، والسؤال الجاد عن شيء هو سؤال عن حقيقته، ماذا نريد بالحقيقة؟ نريد بحقيقة الشيء ما يجعله «ما هو» و«كيف هو»، أي ما يكون الأصل في ماهيته وجوهره. وبالسؤال عن حقيقة الفن نسأل في نفس الوقت عن العمل الفني والفنان. وإذا قلنا: ما الذي يجعل العمل الفني عملًا فنيًّا، كان الجواب: الفنان. وإذا قلنا: ما الذي يجعل الفنان فنَّانًا؟ كان الجواب هو العمل الفني. ولن نستطيع أن نفكِّر في أحدهما دون الآخر. غير أن العمل الفني والفنان — على توثق العلاقة بينهما — لا يكفيان وحدهما، ولا بد من شيءٍ ثالث يجمع بينهما ويكون حقيقتهما ويعطي اسمهما، هذا الشيء الثالث هو الفن.١

بقدر ما يكون الفنان هو أصل العمل الفني وحقيقته، وبقدر ما يكون العمل الفني — على نحوٍ آخر — هو أصل الفنان وحقيقته، فإن الفن سيكون بالضرورة هو أصل كليهما وحقيقته. ولكن ماذا نقصد بالفن؟ هل يمكن أن يكون أصلًا وحقيقة؟ كيف نجده وفي أي مكان؟ هل هناك شيء في العالم الخارجي يمكن أن نشير إليه بقولنا: هذا هو الفن، أم أن الفن فكرةٌ عامة ندرج تحتها جزئيات كثيرة من فنانين وأعمالٍ فنية؟ نحن بهذه الأسئلة كلها نصطدم بلغزٍ قديم، بدأ منذ أن بدأ الإنسان يسأل عن طبيعة الفن ويحاول تذوَّقه والتعرف على سره، أعني منذ أن بدأ هو نفسه يبحث عن سر نفسه، ولا ندَّعي أننا سنحل هذا اللغز؛ فلم نصل بعدُ إلى مهارة الحاوي الذي يخرج الكتكوت من جيبه، وكل ما نريده هو أن نحاول رؤية هذا اللغز، أن نسلط الضوء عليه، أن نضعه في المكان الذي يهيئ لنا بعد ذلك أن نعثر على الطريق المؤدي إليه.

لم نقرر بعدُ إن كان ما نسمِّيه بالفن موجودًا أو غير موجود، وإن كان هو الذي يكوِّن حقيقة العمل الفني والفنان أو إن كان من الواجب أن نبحث عنهما في مجالٍ آخر، فلنُجرِّب إذن أن نبحث عن الفن حيث لا شك في وجوده، أعني في العمل الفني، فما هو العمل الفني وكيف يكون عملًا فنيًّا؟

نحن نعرف الفن من خلال الأعمال الفنية، ونعرف الأعمال الفنية من خلال الفن، أنكون بهذا القول كمن يدور في دائرة مفرغة يحرِّمها التفكير المنطقي ويرفضها الإحساس السليم؟ إن صحَّ أن حقيقة الفن لا تُعْرَف إلا من تأمل الأعمال الفنية، فكيف نتأمل هذه الأعمال إن لم تكن لدينا من قبل فكرةٌ سابقة عمَّا هو الفن؟ ومَنْ قال: إن الملاحظات العامة التي سنجمعها من تأملنا للأعمال الفنية يمكن أن تكشف لنا عن حقيقة الفن؟ كل خطوة نخطوها من العمل الفني إلى الفن لا بد أن تسبقها خطوةٌ أخرى من الفن إلى العمل الفني، وهذه الدائرة لا مناص منها؛ علينا إذن أن نُجرِّب طريقًا جديدًا، ولنبدأ بالسؤال عن العمل الفني نفسه، ما الذي يجعله منه عملًا؟

الأعمال الفنية معروفة لكل إنسان، يكفي أن ننظر في الحدائق والميادين العامة لنرى النُّصُب والتماثيل، وفي المتاحف والمعارض والبيوت لنرى اللوحات من مختلف البلاد والعصور، إن لها من الواقعية ما للأشياء، ومن الوجود ما لسائر ما نحسُّه ونراه ونستخدمه من موجودات، الصورة تعلَّق على الحائط كما تُعَلَّق بندقية الصيد أو أصيص الورد، واللوحة من رسم فان جوخ أو محمود سعيد تُنْقَل من بلد إلى بلد كما يُنْقَل الفحم والبطاطس والأخشاب، ورُباعيات بيتهوفن أو أغاني عبد الوهاب توضع في نوافذ المحلات كما توضع القمصان والأقلام وألعاب الأطفال، كل الأعمال الفنية فيها هذه «الشيئية» التي لا تخلو منها سائر الأشياء، ولكن ألا نغمطها بذلك حقها؟ ألا نعاملها معاملة التاجر والمخزنجي؟ أليس من حقها علينا أن ننظر إليها من وجهة نظر المجرب والمتذوق؟ ولكن ما حيلتنا إذا كان ما نسميه بالتجربة الجمالية لا تقوم له قائمة بغير «شيئية» العمل الفني؟ ماذا يكون التمثال بغير الحجر؟ واللحن بغير الصوت؟ واللوحة بغير القماش والورق واللون؟ فالشيء إذن ماثل في كل عمل فني، بل إننا لنستطيع أن نعكس الأمر فنقول: إن العمل الفني ماثل في الشيء، فالتمثال في الحجر، والحفر في الخشب، والرسم في اللون، واللحن في الصوت.

أنكون بهذا السؤال عن الشيء في العمل الفني قد أربكنا أنفسنا بغير طائل، في حين أن العمل الفني يتجاوز «الشيء» ويشير إلى ما هو أبعد منه؟ حقًّا، إن العمل الفني شيءٌ مصنوع، ولكنه يقول لنا أكثر مما يقوله مجرد الشيء، كما يوحي إلى ما يرتفع عنه ويرمز إلى ما يعلو عليه، ومع ذلك فقولنا: إن العمل الفني رمز لما وراءه لا يعفينا من البحث عما يرمز به، أعني أنه لا يعفينا من النظر إلى شيئيته التي يقوم عليها كيانه والتي خلق منها الفنان ما نسمِّيه عملًا فنيًّا. لا بد إذن من البحث عن واقع العمل الفني إذا كُنَّا نريد أن نعرف واقع الفن، ولا بد من البحث عمَّا هو الشيء الذي يكون منه هذا الواقع، أعني لا بد من السؤال عما هو الشيء، على الرغم من أننا نعلم سلفًا أن العمل الفني أكثر بكثير من أن يكون مجرد شيء.

فما هو الشيء من حيث هو شيء؟ وما هي طبيعة الموجود الذي نقول عنه في العادة: إنه شيء؟ نحن نقول عن الحجر على الطريق: إنه شيء، كما نقول عن الجرة والنبع، ولكن ما هو الحال مع اللبن في الجرة والماء في النبع؟ هما كذلك أشياء، مثلهما مثل السحاب في السماء، والشجرة في الحقل، والورقة في مهب الريح، والطائر في الغابة، كل ما يظهر بنفسه إلى الوجود يُسَمَّى في لغة الفلسفة شيئًا، بل إن ما لا يظهر ولا تراه عين أو يدركه حسٌّ قد نسمِّيه شيئًا. ألم يتحدث فيلسوف مثل «كانط» عن الشيء في ذاته؟ ألم يقصد به كلية الوجود وما يجعل الوجود وجودًا؟ كل ما ليس عدمًا فهو إذن شيء، سواء كُنَّا نريد به آخر الأشياء وأبعدها (كالموت والبعث) أو أقربها إلى عيوننا وحواسنا (كالحجر والجرة)، والكلام نفسه ينطبق على العمل الفني من حيث هو موجود بين الموجودات، غير أن وجوده كشيء لا يعنينا كثيرًا في التعرف على وجوده كعمل فني، بل إننا لنشفق على أنفسنا أن نسمِّيه شيئًا كما نشفق عليها من تسمية الفلاح في الحقل والمعلم في المدرسة أشياء؛ فالإنسان ليس شيئًا، وكرامته وتاريخه الحضاري يربآن به أن يكون شيئًا، كما يقفان في وجه كل مَنْ تحدثه نفسه أن يعامله معاملة الأشياء. والأفضل أن نُسَمِّي المطرقة شيئًا أو الحذاء أو الفأس أو الساعة، ومع ذلك فليست جميعها أشياء خالصة، بل الشيء الخالص فيها هو الخشب أو الحجر أو الحديد، أعني كل ما ليس بحي في الطبيعة أو في مجال الاستعمال. فالشيء الذي يستحق هذه التسمية هو الشيء الخالص الذي خرج عن مجال الحياة والاستخدام على السواء، إنه شيء وكفى. هل اقتربنا بهذا من واقع العمل الفني الذي قلنا: إنه يزيد عن كونه مجرد شيء، لنبتعد الآن عن التاريخ الميتافيزيقي الطويل الذي حاول على مر العصور أن يفسر شيئية الشيء بأنها الشيء الباقي وراء الخصائص والصفات، أو «الموضوع» الذي يحمل هذه الخصائص والصفات، أو الجوهر وراء الأعراض، أو المادة الأولى أو الهيولي التي تنطبع عليها الصورة فتتشكل على نحو ما نراها أو نلمسها أو نُحسُّها أو نتذوَّقها. لنبتعدْ عن هذا كله، ولنُبعدْ عنَّا كل ما يقف بيننا وبين الشيء نفسه مباشرة، لنحاول أن نلتقي بالأشياء أو نتركها تلاقينا عن طريق ما توصله إلينا حواس البصر والسمع واللمس، أو عن طريق ما نحسه فيها من لون أو صوت أو ملمس. لنحاول ما وسعتنا الطاقة أن نقترب منها القرب الخالص المباشر بعيدًا عن كل هدف يمكن أن تُسْتَخْدَم له أو تُصْنَع من أجله. لنترك شيئية الشيء تتحدث إلينا بنفسها — في تجربة اللقاء المباشر — بعد أن نتخلص من كل التصورات التقليدية التي حاولت أن تصف لنا الشيء أو تحدد لنا الموجود، سواء على أنه «حامل» الصفات أو وحدة الإحساسات المتنوعة أو المادة المشكلة. لنحاول كما قلت أن نفكر في الموجود من ناحية وجوده ولا نفرض نظريات ولا تصورات غريبة عليه، وأن نواجه الشيء بغير وسيط، ونُعانِقه كما يُعانِق الحبيبُ الحبيبَ، ونراه مرة بعين الطفل أو الشاعر أو الحكيم، هذه العين التي تعرف معنى الدهشة والعجب والحب والسرور.

لنضرب مثلًا شيئًا من الأشياء: ليكن زوجًا من الأحذية مما يلبسه الفلاحون، لنوضح المثل في ضوء لوحةٍ مشهورة من لوحات الأحذية الكثيرة التي رسمها الفنان العظيم «فان جوخ»، هو زوج من الأحذية كما قلتُ، وكل إنسان يعرف ما هو الحذاء وما وظيفته وما ينبغي أن يتوافر فيه لكي يكون حذاءً، وكل إنسان يعرف أن الأحذية أنواع وأن اختلاف الهدف منها له أثره في اختلاف مادتها وشكلها، فالحذاء الذي نلبسه في الصيف غير الذي نلبسه في الشتاء، والذي نذهب به إلى حفلةٍ رسمية غير الذي نلبسه في الحقل، ولكن هذا الشيء نعرفه من قبل، كما نعرف أن وجود الحذاء كأداة أمرٌ مرهون بالوظيفة التي يؤديها، فالفلاح في الحقل يلبس الحذاء (أو هذا على الأقل ما نتمناه لأهلنا جميعًا في الريف) وفي الحقل يكون وجود الحذاء أول ما يكون، بل إن درجته في الوجود تزداد كلما استغرق الفلاح في عمله فلم ينظر إليه أو يحسَّ به أو يفكر فيه. إنه يسير به وحسب، وهناك يكون الحذاء حذاءً بحق، أعني يكون الأداة التي تحقق ما خُلِقَت له، أمَّا إذا اكتفينا بتأمل الحذاء بوجهٍ عام، أو نظرنا إلى زوجٍ جديد من الأحذية لم توضع فيه قدم، فلن نستطيع بحال أن نعرف شيئًا عن طبيعة هذا الحذاء بما هو أداة صُنِعَت لتحقق غرضًا. صحيح أن الطفل الصغير يراه فيعرف أنه خُلِقَ لتلبسه القدم، أمَّا طبيعة هذا الحذاء الحقة فلا تتجلى بكل ما فيها من حضور حتى تلبسها القدم الخشنة أو الرقيقة، الصغيرة أو الكبيرة، المرفهة أو التي كُتِبَ عليها الشقاء.

ليستحضر القارئ في ذهنه صورة هذا الحذاء العجيب الذي رسمته ريشة فان جوخ؛ إن النظرة الأولى إليه لا تكاد تتبين شيئًا من حوله، اللهم إلا المكان الغامض غير المحدود، لن تجد شجرة ولا ورقة ولا كومة تراب، إنه زوج من الأحذية ولا شيء سواه.

ومع ذلك فمن سحنة هذا الحذاء الخشن الثقيل تطلُّ قسوة العمل وتعب النهار، في مظهره الغليظ وتعاريجه العميقة يجتمع الإصرار والصبر على المشوار الطويل الذي يقطعه صاحبه في أرجاء الحقل، ما بين ريٍّ وبذرٍ وحرثٍ، على الجلد الشاحب المتآكل آثار من عرق الأرض وألمها، من عرفانها وخصوبتها، تحت النعلين تنداح وحدة الطريق إلى الحقل خلال ظلمة النهار الغارب، وعلى وجه الحذاء المتعب الجاد تلمح العين طيبة الأرض وكرمها، وتسمع الأذن صدى ندائها المكتوم وهي تهدي منحتها الذهبية من الغلة، أو عطيتها الحلوة من الفاكهة. هل نسمع أيضًا صدى أنينها من حد المحراث الذي يشق جسدها الأسمر من آلاف السنين؟ أم نرى على خطوط الحذاء أثر القلق على لقمة العيش، والخوف من نزوات العاصفة وغضب الأمطار، والفزع أمام خطر الدودة والموت والجفاف؟ هل نرى عليه ملامح الفرح بالمحصول الجديد ودلائل الامتنان للأم الوفية؟ هذا الحذاء جزء من الأرض، جزء من عالم الفلاح، قطعة من حياته وكده وأنفاسه. وانتماؤه على هذا النحو إلى حياته وتاريخه وشقائه هو الذي يحقق وظيفته ويجعله ما هو عليه، أعني حذاء فلاح. إن الفلاح نفسه قد لا يعرف هذا كله، إنه يلبسه فحسب، وحين يعود إلى بيته في المساء يخلعه بعد نهارٍ حافل بالتعب والرضا والألم، ولكنه حين يمد يديه إليه في الصباح سيحسُّ بما قُلناه دون حاجة إلى التأمل والتفكير، وسيعرف أنه يؤدي وظيفته خير أداء، ولكنه سيعرف أيضًا أنه يستطيع أن يعتمد عليه، وأنه أحد هذه العوامل الكثيرة التي تجعله يحس بالراحة في ظل الأرض والأمان في عالمه الصغير المحفوف بالأخطار. هل نقول: إن الأرض والعالم بالنسبة للفلاح مجتمعان في هذا الحذاء؟ ربما كان في هذا شيء من المبالغة، ولكن الشيء الذي لا شك فيه أن الفلاح يحسُّ منه بكثير مما يستشعره في حياته من تواضع وبساطة واطمئنان. في هذا الاعتماد على الحذاء تكمن طبيعته كحذاء، في الاستعمال المتصل به حتى يبلى تكمن وظيفته كأداة، هل نكون بهذا قد اقتربنا قليلًا من طبيعة «الشيء» أو من حقيقة العمل الفني؟

إن صحَّ أننا عرفنا طبيعة الأداة بما هي أداة من مثال الحذاء الذي قدمناه، فلم تكن معرفتنا به عن طريق وصف ولا تفسير لصناعة الحذاء، ولا عن طريق ملاحظة أو تقرير لأوجه استعماله، لقد عرفنا ما عرفناه من سبيلٍ واحد لا سبيل سواه: بلقائنا مع رسم فان جوخ، تكلَّم إلينا الحذاء العجيب وأصغينا، شعرنا بأن كياننا في حضور هذا العمل الفني أصبح غيره في أوقاتٍ أخرى، تعلَّمنا منه ما هي حقيقة الحذاء، ونخطئ كثيرًا لو تصورنا أن ما قُلناه كان من قبيل الإسقاط الذاتي للمشاعر والأحاسيس، أو من قبيل الإعجاب المتحمِّس بعملٍ يستحق الإعجاب والحماس، فالأصح أن ما قُلناه عنه أقل بكثير مما يجب أن يُقال، وما جربناه أضعف مما ينبغي أن يُجَرَّب، وكذلك الشأن مع كل عملٍ فني عظيم لا مع هذا الحذاء الفريد وحده! المهم أنه جلَّى لنا حقيقة الحذاء بما هو حذاء، نقول: جلَّى حقيقته ونقصد أنه أظهرها بعد اختفاء، فالحقيقة هنا ظهرت أو تجلت، وهو ما كان يقصده اليونان من كلمة أليثيا Aletheia (أي الحقيقة) أو الجلاء بعد الغموض والاختفاء.

حقيقة الفن إذن هي إظهار حقيقة الوجود، وهنا يسأل القارئ: ولكن الفن يتعلق دائمًا بالجميل والجمال لا بالحق والحقيقة؛ فالحقيقة مجالها المنطق، والفن الجميل هو الذي يظهر الجمال، أم ترانا نريد بقولنا: إن الفن يظهر حقيقة الوجود أنه يُحسِن تقليده ومحاكاته، وهو الرأي القديم الذي لم يعد له اليوم مكان؟ أم نقصد أن لوحة فان جوخ قد نجحت في محاكاة حذاءٍ واقعي وجعلت منه عملًا فنيًّا؟ ليس الأمر كذلك.

فاللوحة لم تقتصر على إعطائنا صورة هذا الموجود الذي نسميه بالحذاء، بل نقلت إلينا الحقيقة العامة للموجود، وهي لم تنقل لنا هذه الحقيقة عن مثال أو فكرة سابقة في الوجود، (من يستطيع اليوم أن يزعم أن الفنان الذي يبني معبدًا يونانيًّا أو فرعونيًّا قديمًا قد نقله عن فكرة المعبد على وجه الإطلاق؟ أو أن المتنبي أو شكسبير قد حاكى بقصائده مثال الشعر في ذاته؟) بل أظهرت الحقيقة في هذا العمل الفني، أو جعلتها تحدث في الزمان والتاريخ، أو فتحت عين الموجود على الوجود، ولا بد هنا من أن نعود فنسأل: ما هي هذه الحقيقة التي تتجلَّى في بعض الأزمان في صورة الفن؟ وماذا نقصد بأن الفن يُظهر الحقيقة؟

الأصل في العمل الفني هو الفن، وما هو الفن؟ هو ما نجده في العمل الفني، ومن أجل هذا رحنا نبحث عن طبيعة العمل كعمل، وقادنا هذا إلى البحث عن صفة «الشيئية» التي تكمن وراء كل عمل فني أو غير فني، رأينا أننا لن نصل إلى نتيجة نرضى عنها بتصوراتنا التقليدية عن الشيء، لا لأن هذه التصورات التي ورثناها من تاريخ الميتافيزيقا لا تكفي للتعرف على شيئية الشيء فحسب، بل لأنها كذلك تسدًّ علينا الطريق إلى طبيعة العمل بما هو كذلك، فلكي نصل إلى حقيقة العمل لا بد أن ننتزعه من كل العلاقات التي تربطه بما عداه، حتى يقوم وحده بذاته وفي ذاته.

العمل الفني يُعْرَض في المعارض ويضم إلى المجموعات، المعجبون يتسابقون إلى رؤيته، والتجار يتنافسون في الحصول عليه، الجهات الرسمية تسهر على رعايته والنقاد يهتمون بأمره، والفلاسفة يجعلون منه موضوعًا لعلم الجمال.

ولكن هل نلتقي بهذا كله بالعمل الفني في حقيقته؟ لقد انتُزِعَ العمل الفني من عالمه ففقدنا القدرة على رؤيته على ما كان عليه، لوحات جويا أو أعمال باخ أو قصائد المعري هي هي، ولكنها لم تعد تقول لنا كل ما كانت تقول لأصحابها أو معاصريهم، لقد أصبحت تراثًا نحافظ عليه، أو نحاول القرب منه، ولكنها أصبحت بذلك أيضًا «موضوعات» للبحث والمناقشة والتذوق، وابتعدت بذلك أيضًا عن طبيعتها الأصلية.

بأي شيء إذن يرتبط العمل الفني إن نحن جرَّدناه من كل علاقة بما عداه؟ نقول: إنه ينتمي إلى عالمه الذي تتحقق ذاته من خلاله، فالحقيقة «تحدث» في العمل الفني وتتجلَّى فيه، وقد رأينا ذلك على ضوء لوحة فان جوخ، فلنجرب أن نراه الآن على ضوء عملٍ فنيٍّ آخر، وليكن معبدًا من معابد الإغريق. هذا البناء الذي نسميه بالمعبد لا يحاكي شيئًا، إنه يقف هناك في الوادي تحيط به الصخور من كل مكان، في داخله تمثال للإله، نراه من قاعة الأعمدة وتشعُّ حوله القدسية والجلال. المعبد هو الذي يجعل الإله يتجلَّى فيه ويغمره برهبته وحقيقته، والمعبد هو الذي يجمع ويهيئ هذه الوحدة من العلاقات التي نرى من خلالها قدر الإنسان اليوناني وتاريخه وميلاده وموته وهزيمته وانتصاره وارتفاعه وسقوطه، إنه يُفسح لنا هذا الأفق الواسع الذي نطَّلع منه على عالم هذا الشعب، وكأننا نراه وهو يعود إلى نفسه ويتأمل قدره ومصيره.

المعبد يقف هناك فوق الصخور، يستريح فوق هذه الكتلة المعتمة الصابرة، ويقاوم العاصفة الثائرة حوله، والمطر المتدفق عليه، ويبين كم هي غاضبة هذه العاصفة، وكم هو مقتدر هذا المطر، لمعان الصخر الذي تباركه الشمس هو الذي يظهر روعة النهار ورهبة السماء ووحشة الليل، صلابته التي لا تتزعزع تصطدم بها أمواج البحر الهائج فيذكرنا بهدوئه كم هي ثائرة، الشجرة والعشب، الحية والفراشة تظهر في صورتها وتبدو على ما هي عليه، كل شيء حول المعبد ينمو ويتشكل ويتَّخذ موضعه من الكل، والأرض كلها تظهر للإنسان في معناها الأصيل، سكنًا له وموطنًا، لا نعود نقول: إنها كتلةٌ هائلة من المادة، ولا إنها فلك من الأفلاك التي تسبح حول الشمس، بل نقول: هي التي تُظلُّ كل ما ينمو ويتفتح ويتنفس، وهي التي تعطي له المسكن والأمان، المعبد الشامخ في موضعه فوق الصخور هو الذي يفتح أعيننا على هذا العالم ويعين له مكانه فوق الأرض، هذا الوطن الأصيل. إننا لا نقول: إن البشر والحيوان والنبات والأشياء كانت موجودة ومعروفة من قبل ثُمَّ جاء المعبد فأصبحت الوسط الذي يحيط به، بل الأولى أن نفكر بالعكس، الإنسان لا يعرف قدره وتاريخه، وأنواع الحيوان والنبات لا تظهر حقيقتها إلا بعد أن يُظهِرها العمل الفني على عالمها ويضعها فيه؛ فالعمل الفني هو الذي يظهر الحقيقة ويجلِّيها ويخرجها إلى النور.

المعبد هو الذي يضع هذه الكائنات المحيطة به في عالمها الحقيقي، وهو الذي يعطيها وجهها ويطلعها على ذاتها قبل أن تصبح موضوعات للعلم والدرس والتحصيل، وكذلك الأمر مع صورة الإله المنقوشة بداخله وأمامه المحارب المنتصر الذي يقدم له القرابين، ليست الصورة من قبيل المحاكاة، ولا هي تريد أن تعرِّفنا كيف يبدو الإله، ولكنها العمل الفني الذي يدع الإله نفسه يظهر في حقيقته، أي الذي يجعله «يكون». من خلال العمل الفني «تظهر» الحقيقة، يكون الإله، «يوجد» العالم، ما معنى قولنا: إن العالم «يكون»؟ معناه أننا نعرف من خلال العمل الفني ما هو العالم، فليس العالم مجموعة من الأشياء والموضوعات مما نعرف وما لا نعرف، نحصيها ونضعها إلى جانب بعضها البعض، وليس العالم فراغًا حقيقيًّا أو مُتخيَّلًا نتصور مجموع الموجودات في إطاره؛ ذلك لأن العالم أعلى درجة في الوجود من كل ما نلمسه أو ندركه من الموجودات، ولأنه لا يمكن أن يصبح «موضوعًا» مما نجده أو نراه أمامنا، ففي الفترات الحاسمة من تاريخنا حين نولد أو نموت، وحين ننتصر أو ننهزم، ونكلَّل بالمجد أو نقع في الكارثة، في مثل هذه اللحظات يكون العالم عالمًا؛ ذلك لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي قُدِّر عليه — سواء أراد أو لم يرد — أن يوجَد في الوجود ويسأل عن حقيقة العالم، فالحجر لا عالم له، وكذلك النبات والحيوان، إنهم منتمون بالضرورة إلى وسط يرتبطون به على الرغم منهم، وعلى العكس من ذلك الفلاح، فهو يقيم في العالم المفتوح أمامه، المتَّسع لأفراحه وهمومه، الذي تلقَّاه حين وُلِدَ وسيُؤوِيه حين يموت، ولكنه حين يزرع ويرعى البذور ويتعهَّد الثمار بفض أسرار الأرض ويكشف عن حقيقتها ويجعلها تصبح أرضًا، وكذلك المثَال حين يعالج الصخر، والشاعر حين يتناول اللغة، والرسام حين يمدُّ ريشته في اللون، والموسيقيُّ حين يؤلف بين الأصوات، ففي كل عمل فني يتفتح العالم ككل، وتتجلى الحقيقة على حقيقتها.

في وقفة المعبد في مكانه الشامخ فوق الصخور «تحدث» الحقيقة، لا نقول: إن شيئًا قد صُوِّر هنا أو عُبِّر عنه أو أُتقِن تقليده، بل نقول: إن الوجود كله قد تجلَّى وظهرت حقيقته. وفي لوحة فان جوخ «تحدث» الحقيقة، لا نقول: إن شيئًا قد أُجيد رسمه أو أُحْسِنَت محاكاته، بل نقول: إن طبيعة الحذاء كأداة قد ظهرت في هذه اللوحة، وفي ظهورها تجلَّى الوجود كله — الأرض والعالم في تلاقيهما وفي تنازعهما — في نور الحقيقة، المعبد واللوحة كلاهما لا ينبئنا بشيء عن شيء، فالجمال يظهر في بساطتهما وصفائهما، وبظهوره تتجلى الحقيقة، حقيقة العالم والوجود كله، ألم نقل: إن الفن هو إظهار الحقيقة؟

تأملنا العمل الفني حتى الآن من ناحية العمل نفسه، أعني من ناحية شيئيته وواقعيته، ولم ننظر فيه من ناحية الفنان، أعني من ناحية الخلق والإبداع. إن سلوك الفنان والصانع يكاد يتشابه، على الأقل من ناحية المظهر؛ فسلوك الخزَّاف والمثَّال والنجار والرسام يكاد يكون واحدًا، والفنانون العظام كانوا دائمًا يقدرون الصنعة والصانع، ويعرفون أهمية الحِرَف اليدوية والمران اليدوي. ومن المعروف أن اليونان كانوا يطلقون كلمةً واحدةً على العامل اليدوي والفنان هي «تخنيتس»، ولكن هذه الكلمة لا تعني في الحقيقة أي نوع من أنواع الصنعة والإنجاز العملي، بل تعني أسلوبًا من أساليب المعرفة، والمعرفة عندهم كانت دائمًا ضربًا من الرؤية بمعناها الأعم، أعني إدراك الموجود بما هو موجود، وجوهر هذه المعرفة هو الحقيقة بالمعنى الذي ذكرناه، أعني تجلِّي الموجود وظهوره من الخفاء، «فالتخني» بهذا الفهم اليوناني إظهار للموجود من الغموض والخفاء بالمظهر الذي تراه العين منه، و«التخنيتس» ليس هو الصانع اليدوي، بل ذلك الذي يجعل الموجود يظهر على الحقيقة، أو يجعل حقيقته تظهر فيه. ولا عجب إذن أن تتوقف عملية الخلق في العمل الفني على طبيعة العمل نفسه، لا بوصفه شيئًا مصنوعًا بل باعتباره مجالًا تحدث فيه الحقيقة. ولكن ما هي هذه الحقيقة التي تظهر في العمل الفني؟ وما مدى صلتها به حتى تظهر فيه؟ قلنا: إن الحقيقة هي عدم التخفِّي أو هي الجلاء بعد الاختفاء، وهي بهذا التعريف لا تبدو إلا من خلال الشقاق القائم بين الإيضاح والإخفاء، والحقيقة بهذا هي مهد هذا الشقاق الأصلي الذي يكافَح فيه من أجل الوضوح أو الانفتاح.

وحين تظهر الحقيقة على هذا النحو في العمل الفني فليس معناه أنها لا تظهر إلا فيه (هل نستطيع أن نقول هذا والفنانون الحقيقيون هم أبعد الناس عن الغرور؟) إنها قد تظهر كذلك في تأسيس دولة أو في فداء بالروح، أو في سؤال جادٍّ عن معنى الحياة، أو في القرب من الوجود الحق.

فالحقيقة — بحسب جوهرها — تحب أن تستقر في الوجود؛ ولذلك فإن من جوهرها أيضًا أن «تكون» في العمل، واستقرار الحقيقة واتخاذها شكلًا في مثل هذا العمل هو إبداع للموجود الذي لم يكن من قبل ولن يتكرر من بعد، هو وضع له في الضوء والانفتاح، أعني في الحقيقة، وإنقاذ له من التخفِّي والانغلاق، أعني من عدم الحقيقة. إننا نستطيع أن نقول عنه الآن: إنه كائن وليس عدمًا، ولكن ألا يصح هذا عن كل موجودٍ آخر، سواء أكان عملًا فنيًّا أو يدويًّا أو أي شيء مسَّته يد الصنعة والصنَّاع؟ ما الذي يميِّز العمل الفني عنها جميعًا؟ يميِّزه عنها أننا نستطيع أن نقول عنه ما نقوله حين تظهر الحقيقة، أعني أنه «يكون»، ولكن أليس هذا شيئًا عاديًّا؟ ألا نقول عن كل ما نراه أو نلمسه أو نستخدمه: إنه كائن؟ نعم ولا، فكل ما ذكرناه موجودٌ حقًّا وكائنٌ، ولكنه سرعان ما يسقط في النسيان ويهبط إلى التعود ويصبح مجرد أداة أو وسيلة، أمَّا «الكينونة» في العمل الفني المبدع فهي أغرب ما فيه؛ ذلك لأنه «كائن» كهذا العمل الفني لا كشيءٍ آخر سواه (العمل الفني لا يريد ولكنه «يكون»، إن له معنًى ولكن ليس له غرض، سواء كان هذا الغرض علميًّا أم اقتصاديًّا أم إصلاحيًّا، إنه لا يقصد شيئًا بل يدلُّ ويشير)، وفي هذا التجلِّي والظهور على حقيقته تكمن وحدته وتفرُّده، وكلما توحد العمل الفني في انفتاحه على الوجود، وبدا كأنه يبتعد عنَّا؛ لأنه يبتعد عمَّا ألِفْنَا وتعوَّدنا، خرج من عاديته وازداد مِنَّا قربًا، أو بالأحرى ازددنا نحن من حقيقته اقترابًا، هنالك نعود إلى حقيقته ونصمد فيها، أعني إلى الوجود الذي فتح أعيننا عليها، فهل من عجب إن قلنا بعد ذلك إننا نكون موجودين بحق حين نكون أمام العمل الفني الحق؟ ما أبعد هذا عن التجربة والتذوِّق وكل ما يبدأ فيه العلم ويعيد! وما أقربه إلى حقيقة العالم والوجود والإنسان! هذا الذي راح يكتشف العمل الفني فاكتشف نفسه، ويبحث عن الشيء والصنعة فيه فوجد الأرض التي انتُزِعَ منها، والعالم الذي جعل مقامه عليه، والوجود الذي أظهر الحقيقة فيه!

الفن هو الذي يظهر الحقيقة، في كل مرة يظهرها يبدأ التاريخ أو يعود فيبدأ من جديد، والفن بذلك تاريخيٌّ، إنه إبداع الحقيقة في العمل الفني والمحافظة عليها، هو تاريخي لا بالمعنى الخارجي للتاريخ — من تغيُّر وتبدل في الزمان — بل بالمعنى الأصيل الخلَّاق من إظهار الحقيقة، ولا يكون ظهورها إلا في التاريخ. نحن نسأل عن حقيقة الفن، ولِمَ نسأل عنها؟ لكي نعرف إن كان الفن في وجودنا التاريخي أصلًا وحقيقةً أو مجرد ادعاء ودعاية، وحين يصبح الفن أصلًا وحقيقةً حاسمةً في حياتنا فسوف نعرف كيف نهيئ له المجال وللفنان الطريق، وكيف نساعد الإنسان العادي على أن يخرج مرةً عن أفقه اليومي المعتاد إلى أفق الحقيقة والنور.

العمل الفني إذن هو مَجلَى الحقيقة والفنان هو مُجلِّيها.

•••

ولكن لنحاول مرةً أخرى أن نضع السؤال بطريقةٍ أبسط، ونجيب عليه كذلك إجابةً بسيطة، ما هو هذا الشيء الغريب الذي يبدو كأن لا أثر له، ومع ذلك فتأثيره لا حدَّ له، ويستخلص من الحياة العادية، ومع ذلك فهو يلمس أعمق أعماق وجودنا، ونزنه بكل الموازين العملية فيبدو شيئًا كماليًّا، ومع ذلك فلا غنى عنه لكل من دخل مرة في حياته؟

لنتصور إنسانًا رُزِقَ موهبة الفن، أو لنقُلْ على وجه التحديد: موهبة الرسم، ولنتصور أنه يلتقي بمحض الصدفة بشيء من العالم الخارجي كشجرة أو حيوان أو وجه إنسان؛ إنه يحسُّ بشيء يلمسه أو يؤثر فيه، ينبعث من شكله أو لونه أو حركته ويدفعه إلى أن يعبِّر عن تأثره بالقول أو بالفعل، ويستعين بقدرته على التشكيل والتصوير في اكتشاف حقيقته أو خاصيته. إن كيانه الباطن ينفعل بهذا الشيء وتعروه حركةٌ عجيبة، فهو يتفتح ويتلقَّى، وهو يستيقظ ويتوتر ويستعدُّ للعمل، هذه الحالة الوجدانية التي يحسُّ بها قد تختلف درجتها قوةً أو ضعفًا، فقد تكون لمسةً خفيفة عابرة أو حالة من حالات التأثر الشديد والتسلط القاهر، إنه يحس عندئذٍ بأن لديه جهازًا عُضويًّا خاصًّا ينتبه إلى حقيقة الأشياء والأحداث، ويحاول أن يرصد شكلها المميَّز ويظهر طبيعتها الكامنة.

في مثل هذه الحالة الوجدانية يشعر الإنسان الذي تحدثنا عنه بأن لديه رغبة لا تقاوَم في تناول هذا الشيء الخارجي الذي يراه أمامه، لا لكي يستغلَّه في تحقيق غرضٍ عملي كما يفعل الصانع الفني، بل ليخلقه من جديد، ولكن كيف يتم هذا الخلق الجديد؟ بأن يحاول إعادة تشكيله، فيبدع من المادة التي لديه — وهي في حالتنا هذه الألوان والسطح الذي سيرسم عليه — شيئًا آخر يبدو شبيهًا بالشيء الذي وجده بالخارج، نقول: شبيهًا به، ونقصد بالطبع أن هذا الشبه تحدده طبيعة المادة التي أشرنا إليها، فالقماش الذي سيرسم عليه لا يقدِّم له إلا سطحًا أملس، بينما الشجرة الحقيقية التي يريد أن يرسمها موجودة كجسمٍ حي في العالم الخارجي، كذلك يحدده الأسلوب الفني السائد في عصره، فالرسام من عصر النهضة مثلًا يرى هذه الشجرة بعينٍ غير العين التي يراها بها فنانٌ تجريديٌّ حديث.

في هذا الفعل انتصار للفنان على الطبيعة، فهو فعل «خلاق»، يريد أن يبدع به عالمًا، ولكنه عالمه هو، هذا الخلق ليس شيئًا إراديًّا متعمَّدًا، ولكنه يخدم هدفًا معيَّنًا، أيَّ هدف؟ الوجود الإنساني. ولكن كيف يمكن للخلق الفني أن يخدم وجود الإنسان؟

قلنا: إن شكل الشيء الخارجي — ونعني بالشكل كل ما يمكن أن يدرَكَ إدراكًا حسيًّا من خط أو سطح، وبنية أو وظيفة، وحركة أو سلوك — يعبر عن جوهره وما يميزه، ويختص به ويعطي له معناه، هذا التعبير يكون في الشيء الخارجي ناقصًا وغير محدَّد، والفنان هو الذي يحسًّ برغبة تدفعه إلى إتمامه وإيضاحه، إنه يرى حقيقة الشيء تقترب منه فيضع نفسه في خدمتها، حتى يمكنها أن تتضح على نحوٍ أكمل، لا بالأفكار والتصورات والنظريات كما يفعل العالم، بل على نحوٍ حسيٍّ متصل بما يرى ويسمع ويلمس، إن شكل الأشياء يأخذ بيده ويتحكم فيه في نفس الوقت، فيقبل عليها ليستكمل بناءها أو يبسطها أو يكثفها أو ينظمها أو يفعل بها ما توحي به حاسته الباطنية التي أشرنا إليها لكي يرفع من درجة تعبيرها ويظهر طبيعتها المميزة. طبيعي أن هذا يذكرنا بالمحاكاة أو «الميمزز» التي تحدث عنها القدماء، ولكنها ليست تلك المحاكاة السطحية التي تنسخ الواقع، بل هي أعمق من ذلك بكثير، إننا نفهمها إذا تصورنا العلاقة بين الفنان والشيء الخارجي، كالعلاقة بين الممثل والشخصية التي يخلقها الشاعر أو الكاتب المسرحي؛ فالممثل يُسخِّر كل طاقته على التشكيل وعلى قدرته على الرؤية في تجسيم هذه الشخصية في صورةٍ حية، كما تفعل الطبيعة في الشيء نفسه، ولكن بصورة تتفوَّق عليها بقدر ما يتفوَّق الإنسان بفضل طبيعته العاقلة على الطبيعة، وحين يدرك الفنان طبيعة الشيء؛ يدرك في نفس الوقت حقيقته، لا إدراكًا نظريًّا كما يفعل عالم النفس الذي يبحث الحياة النفسية الباطنة، بل على نحوٍ حيٍّ مباشر؛ فالفنان حين يشعر بأن كيان الشيء يلمسه، يشعر كذلك بأن شيئًا يستيقظ في كيانه هو.

ذلك هو اللقاء بين الفنان والعالم الخارجي، فهو يرى الشيء، ويحسُّ بتفرُّده وجماله وعذابه، فيتردد على الفور شيءٌ كالصدى في نفسه يستيقظ ويسمو ويتفتح، وكلما زاد حظ الفنان من العمق والقوة والغنى الوجداني، كانت قدرته على هذا اللقاء أقوى وأعمق، وعلى الاستجابة للوجود الخارجي أغنى وأدقَّ. في هذا اللقاء وبهذه الاستجابة يعود الفنان أيضًا إلى نفسه، فقد رأينا أنه لا يدرك الشيء كما هو عليه من الواقع، بل يرى وراء ظاهره باطنه، ويستشعر حقيقته من مظهره، وفي هذا اللقاء تظهر حقيقته هو أيضًا، ويدرك وراء وجوده اليومي وجودًا آخر أعمق وأبعد. ليس هنا شيء من الغرور أو الأنانية، فكما برزت حقيقة الشيء في حس الفنان، فكذلك تستيقظ حقيقته هو نفسه ويدرك رسالته التي خُلِقَ لها ونودي إلى تحقيقها من خلال العمل الفني.

هكذا تتحد حقيقة الشيء وحقيقة الفنان في وحدةٍ حسية تجاهد في سبيل التعبير، إحساس الفنان بذاته يجري في طريقة رؤيته للشيء الخارجي، وشكل الشيء الخارجي يتم الإحساس به من خلال التجربة الذاتية، وكلاهما يندمج بحيث يصبح شكلًا أو عملًا فنيًّا يختلف الدافع إليه باختلاف العصور وتفاوت شخصيات الفنانين، فبعضهم يوجِّه اهتمامه إلى جوهر الشيء وقوامه، ويعني بالأشكال في علاقاتها وقوتها، كما نرى في الفن القديم، وبعضهم يهتم بالجو السائد بين هذه الأشكال، أي بالضوء أو اللون أو الجو العام، كما يفعل التأثيريون، وبعضهم يبحث عن البناء والمعمار، كما فعل «أندريا دل سارتو» (١٤٨٦–١٥٣١)، وبعضهم الآخر بالقوة المتدفِّقة بالحركة الديناميكية، كما نرى في لوحات «ميكيل أنجلو» أو تماثيله. أراد الفنان المصري القديم أن يصور الشيء المميز والقانون الباقي وراء التنوع الظاهر في العالم، بينما أراد الفنان الحديث أن يعبِّر عن الطابع الفردي الذي لا يتكرر (لنذكر رمبرانت أعظم الفنانين). كان الفن حتى الحرب العالمية الأولى يبدأ بما تقدمه الطبيعة؛ لكي يبرز ما فيها من تعبير وشفافية، ثُمَّ حدث شيءٌ جديد، وأخذ الفنانون يبحثون عن الأشكال الأولية الكامنة وراء الأشكال الطبيعية، لكي يعبروا بها عمَّا في الحياة من عناصر أولية، ونشأ بذلك ما نسميه اليوم بالفن التجريدي.

كذلك تختلف عملية التأثر والبحث والتكوين، ونحن بهذا نطرق فصلًا من أصعب وأمتع الفصول في حياة الفنانين ونفسياتهم، ونطَّلع على تاريخ العمل الفني الواحد من خلال الفنان، كما نتعرف على تاريخ تجربته في الخلق والإبداع، فمن الفنانين مَنْ يتحول انطباعهم إلى الفعل مباشرة، وكأن هذا الفعل يقفز على الفور من لقائهم الحي مع الشيء الخارجي (كما في رسوم دومييه)، ومنهم من يعاني هذا التأثر ثُمَّ تمر فترة طويلة من المعاناة قبل أن يتحقق في صورة عمل فني، فالشكل ينمو شيئًا فشيئًا، ويظل ينتقل من مرحلة إلى أخرى، ويضيف لنفسه عناصر شتى من تجارب سابقة، ويعالج انطباعات من أعمالٍ قديمة، ويحاول محاولات يطرح بعضها ويستبقي البعض الآخر حتى يصل أو يكاد يصل إلى التعبير الذي كان يبحث عنه، ولكل فنان في ذلك عاداته وطبعه الخاص، فما يعين أحدهم على الخلق قد يضايق الآخر، وكميات القهوة الرهيبة التي كان يستعين بها بلزاك على إنتاجه الخصب؛ تصبح تفاحةً عطِنة يحرص شاعرٌ مثل شيلر على شمها عند الكتابة!

•••

اقتصرنا حتى الآن على الكلام عن العناصر التي نراها مباشرةً في العمل الفني، على فرض أن للإنسان عينين تريدان وتستطيعان الرؤية، على أن هناك عناصر أخرى تشترك في تكوين العمل الفني لا تقل تأثيرًا عن سابقتها، وإن لم تكن في مثل وضوحها، من هذه العناصر ما يمكن أن نسمِّيه «بالصور الأولية»، فلكل شكل من الأشكال — وليكن تفاحة أو بذرة أو خيطًا — معناه المباشر، قد يكون هذا المعنى مرتبطًا بحياتنا العادية، وقد ندرس طبيعته من الناحية العلمية أو الصناعية، أو نجعله رمزًا يعبِّر عن معنًى من المعاني التاريخية أو الدينية أو الأسطورية. لنأخذ الخيط مثلًا، فنحن نستطيع أن نستخدمه في غرضٍ عملي، فنعلقه بين نقطتين أو نحيك به ثوبًا، نستطيع أيضًا أن نبحث عن خصائصه العلمية لنفهم قوانين المرونة التي يخضع لها أو مميزاته الاقتصادية في إنتاج الأقمشة، وما شابه ذلك، ويكتسب هذا الخيط معنًى أعمق حين نتحدث عن «خيط الحياة»، فنستعير هذه الصورة عن أسطورة قديمة، ونعني بها أسطورة آلهات القدر «النورن» اللائي يجلسن عند نبع «أورد» في مبدأ الخلق والتكوين، ويغزلن أقدار البشر في خيوط، فالأسطورة تصور الحياة خيطًا تغزله آلهات القدر ويمددن فيه زمنًا لكي يقطعنه في النهاية، والحياة في هذه الصورة شيء تبدأه قوًى مجهولة، وتصله فترة ثُمَّ لا ندري كيف تنهيه، إنها شيء يمكن أن يسير في نعومة الخيط وسهولته، ولكنه قد يتعقد ويلتفُّ ويضل، وقد يكون ضعيفًا واهنًا يهدد في كل لحظة بالانقطاع، وقد يحتمل الشدَّ والجذب والتوتر، وقد نرى حاضره ولكن لا نعرف أبدًا مستقبله.

في صورة الخيط إذن إشارة إلى وجود الإنسان، تكشف كل ما فيه من تشابكٍ أو بساطة، من عتمة أو إشراق، من خطر أو أمان، صورة الخيط المحسوسة هذه تلقي الضوء على غموض الوجود، وتعكس ألم المصير وصدقه، إنها لا تقدم للإنسان تصوُّرًا علميًّا عن طبيعته، بل شعورًا حيًّا لكل مَنْ يستطيع وجدانه أن يتفتح على معنى الوجود، وهي تعطيه وسيلة وأداة، لا لكي يحقق غايةً علمية أو عملية، بل ليفهم معنى حياته واتجاهها، قد تعبر أسطورة آلهات القدر عن هذه الصورة ولكنها لا تستنفدها؛ ذلك أنها أقدم من الأسطورة، كما أنها كامنة هناك في جوهر الأشياء وفي أعماق الضمير، وقد تفلح الأسطورة في إبرازها والتعبير بها عن مصير شعب من الشعوب، ولكن الصورة نفسها عنصرٌ أوليٌّ من عناصر الوجود الإنساني؛ ولذلك استطاعت أن تبقى بعد فناء التفكير الأسطوري، وزوال الاعتقاد في آلهات القدر، كما استطاعت أن تبقى كإشارة مسعفة نرمز بها لحياتنا ونفهم بها وجودنا، وقل مثل ذلك في صورةٍ أخرى كالميزان والدائرة والأفق والكف والطريق، تشير جميعًا إلى معنًى من معاني الوجود أو المصير.

ظهرت هذه الصور كلها أول ما ظهرت في مجال الرؤية على أرض الأسطورة والطقوس البدائية، ثُمَّ ضعفت القدرة على الرؤية بالتدريج، وحلَّ محلها الخيال الديني، وأصبحت حكمة لمن يرى الغيب موعظةً ومذهبًا في الحياة، وتفقد الطقوس سلطانها القديم لتصبح في دور العبادة التي لا تزال تحتفظ بها نوعًا من إثارة الشعور الديني بالرهبة والتقوى، وتتحلل الأسطورة لتحل في الحكاية الخرافية أو الشعبية أو العادة الموروثة، وتبقى الصورة في هذا كله تعبيرًا عن الحكمة الباقية مهما أضعف التفكير العقلي المجرد من قوَّتها أو قيمتها، وتحيا في أعماق الوجدان فيما نسميه باللاشعور، ومن هناك تواصل تأثيرها على الشعور، والتفكير والإلهام، بل قد تشارك في تكوين ما نسميه بالضمير، وتتحكم إلى حد لا يُستهان به في توجيه حكمنا على الأشياء والأحداث.

قد نكون فقدنا الشعور الواعي بهذه الصورة، ولكن هذا لا يمنع أنها لا تزال تتخلل حياتنا، وقد نحسُّ في بعض اللحظات بومضة من معناها القديم (عندما نقف إجلالًا لذكرى عزيز أو نقبِّل رأس ميتٍ حبيب أو نتبادل خاتم الزواج مع شريك الحياة)، إنها مظاهرُ واضحةٌ في حياة الطفل ولعبه واحتفاله، كما تظهر في ألعاب الشعوب واحتفالاتها وما بقي من طقوسها وأعيادها، ولكنها لا تظهر كأوضح ما تكون إلا في الفن؛ فالحالة التي تغزو الفنان — وهو يباشر الخلق — قريبة من حالة الطفل والعراف القديم، هي حالة لا يحكمها العقل الناقد ولا الإرادة الهادفة، بل تُستثار فيها الحياة، فتتفتح على العالم الخارجي وتتفتح للعالم الداخلي، هناك تظهر تلك الصورة، لا كما أرادها الوعي أو فكر فيها، بل تظهر منسوجة في خيوط ذلك الشيء العجيب الذي يتشكَّل ويتخلَّق، قد نحس بها في رسم يصور طبيعةً مفتوحة تتلاقى فيه حدود السماء العالية بالأرض المنبسطة، وبينهما تلك المنطقة المحدودة التي قُدِّر للإنسان أن يعيش فيها بين العلو والعمق والاتساع والضيق، وقد نشعر بها في رسم آخر يلتقي فيه البحر والشاطئ حين يقطعهما شكلٌ صغير لإنسانٍ عمودي عليهما، يقف منتصبًا هادئًا مصمِّمًا على الفعل مستعدًّا لمواجهة المجهول، بذلك تُثير هذه الصورة المرسومة صورةً أخرى سحيقة القدم ما زالت حية في أعماق الضمير، هي صورة الطريق والمصير، تراها العين أو تسمعها الأذن فيفرح الوجدان ويشرق؛ لأنه يرى ويسمع فيها أثر حكمةٍ قديمة تسجل صراعه مع الظلام الأبدي أو مع الموت المحتوم، كذلك الأمر مع إيقاع يتكرر في لحن أو قصيدة، أو مع دائرة تدخل في تكوين لوحة أو بناء، إنها جميعًا تضع الموجود الراهن في مكانه من الوجود الخالد العام.

ليس العمل الفني الأصيل إذن شيئًا جزئيًّا أفصله عما يحيط به من وجودٍ عام، بل هو دائمًا كلٌّ متصلٌ ووجودٌ مستقل، فالكرسي الذي أراه الآن أمامي موجود في محيط أشمل منه، فإذا التقطتُ له صورة فوتوغرافية اقتطعته من عالمه، أمَّا إذا رآه فنانٌ مثل فان جوخ وصوَّره؛ فإنه يجعل منه المركز الذي يتوسط بقية المكان، كما يتشكل الكرسي نفسه بحيث يبدو كُلًّا مستقلًّا بنفسه يُضفي على كل ما يحيط به روحه وشخصيته. هذا «التشكيل» يتفاوت بين عملٍ وآخر، قد يكون شفَّافًا مجردًا كالشكل الهندسي، وقد يكون ظاهريًّا أو عرضيًّا خالصًا، وقد يبدو من كتلة الجسم الذي يصوِّره الفنان وقد يبدو من خلال الحركة أو الجو العام، المهم أنه يحاول دائمًا أن يبرز الظاهرة الملقاة في عالم الواقع في وحدةٍ ممتلئة بالحياة، هكذا نحس دائمًا بأن هناك ما يعلو على الشيء المصوَّر ونعني به الوجود ككل، وهذا الوجود ككل لا أستطيع أن أزعم أنني أراه أمام عيني، فما أنا نفسي سوى جزءٍ ضئيل من كلٍّ لا آخرٍ له، وما كل شيء ألتقي به أو أتعامل معه سوى نقطة في بحر من الأشياء والعلاقات، ولكن عملية التشكيل الفني التي أشرت إليها تبرز أمرًا فريدًا، فهذه الوحدة التي نشأت عن لقاء الشيء المُدرَك بالإنسان المدرِك تشبه صوتًا يملك القدرة على الدعاء والنداء. إن الوجود كله حاضر فيها، كل الطبيعة والحياة والتاريخ في وحدةٍ حية، وليس معنى هذا أن العمل الفني يجب أن يكون دائرة معارف للحياة والأحياء، وليس معناه أن اللوحة الضخمة التي تصوِّر مختلف العصور وألوان النشاط الإنساني في بلد من البلاد أو عهد من العهود أَقْدَر من غيرها على إبراز هذه الوحدة الكلية، فليس المهم هنا ماذا يصوِّر الفنان، بل كيف يصوِّره، المهم هو الأسلوب الذي تُعالَج به الظاهرة الواحدة في عملية التشكيل الفني، وهنا يكون الحذاء أو الكرسي الوحيد الذي يرسمه فان جوخ على أرضٍ متواضعة أَقْدَر على إبراز الكل من لوحةٍ ضخمة على مبنًى رسمي يصور أشتاتًا من العصور والشخصيات؛ ذلك لأنه أَقْدَر منها على إسماعنا صوت الكل ونداء الوجود.

هكذا نحسُّ «بالعالم» في كل عملٍ فني، قد تختلف طبيعة هذا العالم من فنٍّ إلى آخر، ولكنها تظل في حقيقتها الأخيرة واحدة؛ فعالم الموسيقى يختلف عن عالم الرسم أو الهندسة، والعناصر الأولى في العالم الأول هي الزمن والنغم، وهي في الثاني السطح والخط واللون، وفي الثالث المكان والكتلة، ولكن اختلاف العناصر بين هذه الفنون لا يمنع أنها تتَّحد في النهاية في شيءٍ واحد، إنها تحاول أن تُضفي على الوحدة — التي تجمع بين الكون والإنسان — معنًى تفتقر إليه في الواقع العادي؛ لكي تعبِّر من خلالها عن شمول الوجود وحقيقة العالم.

•••

رأينا كيف أن الفنان يبرز جوهر الأشياء من خلال الرؤية والتشكيل، ويظهره في صورته الخالصة، هو في هذه الصورة الخالصة يظهر جوهره هو نفسه كما يظهر جوهر الإنسان بوجهٍ عام، فالشيء يكتسب معنًى جديدًا من خلال الرؤية والإحساس والتقييم الذي يقوم به الإنسان، كما يصل الإنسان نفسه من خلال هذا الشيء إلى الشعور بذاته، وحين يحدث هذا يشفُّ الوجود كله من خلال العمل، ويصبح الجزئي رمزًا للوجود الكلي. ولما كانت عملية التشكيل تتم على مادةٍ واقعية — كاللون والحجر والنغم واللغة — فإن نتيجتها تتم على هيئة عملٍ باق، وحيث يأتي المتفرج أو المتذوق ليتأمل هذا العمل، فهو يشارك في العملية التي أخرجته إلى الوجود، وبذلك لا يكون الفنان الذي وُلِدَ ليشاهد وخُلِقَ ليرى — كما يقول جوته — قد صنع شيئًا لنفسه فحسب، بل للناس جميعًا. إن في استطاعتهم الآن أن يتأملوه ويفهموه ويجرِّبوه؛ بذلك يتميز العمل الفني عن كل عملٍ سواه أيًّا كانت منفعته أو أهميته، فهو لم يوجد من تلقاء نفسه، بل أوجده الإنسان، وهو ليس جزءًا من ذلك العالم الأول الذي وُجِدَ من قبل أن نوجد ونعني به الطبيعة، بل هو جزء من ذلك العالم الثاني الذي ينتج عن التقاء الإنسان بالطبيعة، وهو يشغل مكانةً خاصة بين موجودات هذا العالم الأخير، تجعله — على الرغم من محدوديته وتناهيه — يمثل كلًّا منفردًا، ورمزًا للكون والوجود بوجهٍ عام؛ ذلك أن كل عمل فنيٍّ حقٍّ مهما كان صغيرًا فهو عالمي بطبيعته، إنه مكانٌ مشكَّلٌ زاخر بالمعنى، يستطيع المرء أن ينفذ إليه بالرؤية والسمع والحركة، هذا المكان يختلف في بنائه وتكوينه عن كل مكان يملؤه الواقع الخارجي، فليس أدقَّ وأعمق وأجمل وأكثر حياة من كل ما نقابله في حياتنا اليومية فحسب، بل إنه يختصُّ بميزةٍ فريدة: فالشيء والإنسان فيه يتفتحان. إن الشيء والإنسان يكونان مقيَّدين محجوبين في المكان الذي نحيا فيه حياتنا اليومية، وما ندركه منهما يكشف عن حقيقتهما ويخفيها عنَّا في نفس الوقت، لكن الفنان الذي يقدر على رؤية الحقيقة — كما يقدر على التعبير عنها — يستطيع أن يصل بها إلى التعبير الكامل عن نفسها؛ فالباطن قد أصبح ظاهرًا يمكن للعين أن تراه، والظاهر قد صار باطنًا يمكن للوجدان أن يحسَّ به ويضمه إلى تجاربه، ومن خلال ذلك تقترب الأشياء من بعضها كما يزداد الإنسان منها قربًا، بحيث يحسُّ أنه يحيا في هذا العالم الكلي الواحد حين يحيا في هذا العالم الجزئي الموحَّد الذي دخله من باب العمل الفني، ليس يكفي عندئذٍ أن يرى ويسمع ولا أن يستمتع ويتذوق، كما هو الشأن مع سائر ما يحيط به في حياته العادية، فالعمل الفني يفتح له أفقًا جديدًا يستطيع أن يتنفَّس فيه ويتحرك ويتعامل مع مخلوقات تفتحت كذلك على حقيقتها؛ لذلك فإنه مُطالَب بأن يبذل جُهدًا كبيرًا في التأمل، وهو هذه الموهبة التي كادت تضيع مِنَّا من فرط ما نعمل ونجتهد ونفخر بالعمل والاجتهاد، وننسى التركيز والسكون والمشاهدة والتفتح على حقائق الموجودات. إننا نسمع الكثيرين يتكلمون عن الفن، ولكن القليلين هم الذين يتَّصلون به اتصالًا أصيلًا، صحيح أن معظمهم يحسُّ بأن هناك شيئًا جميلًا، ويتحدث بطلاقة عن الأساليب والمدارس، ويُعنَى بإبراز الجديد في «الشكل» أو في «المضمون»، ولكن هذا كله لا يعبر عن صلةٍ حقيقية بالعمل الفني، فهذه الصلة لا تأتي إلا حين يجمع الإنسان نفسه أمام العمل الفني ويتعلم السكون ويستعد للتلقي، ويدخل في عالمه متفتِّح النفس، يقظ الحواس؛ فيشاهد وينصت ويعايش؛ عندئذٍ يتكشف لنا هذا العالم الذي نسمِّيه عالم الفن كما تتكشف لنا نفوسنا بمقدار ما نقترب من العمل الفني ونحاول أن نتعمَّقه، وهنالك تسقط الأقنعة اليومية وتتألق النفس بنورٍ مباشر ويخفُّ وجودنا الذي نحسُّ بثقله على مدى الأيام، وترتفع الأسوار التي كانت تسدُّ علينا الباب إلى قلب «العالم»، ونعرف معنى الأصالة والخصوبة والصفاء، كما نحسُّ لمس الحقيقة الخالدة على كياننا البائس الفاني.

١  تضمين أمين لمقال هيدجر «حقيقة العمل الفني» الذي نُشِرَ في كتابه «دروب مسدودة»، ومحاضرة لرومانو جوارديني بعنوان: «حقيقة الفن».
Ronamo Guatdini: uber das Wesen ES Kunst werks, Tubingen, 1956.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤