كهف أفلاطون

يمهِّد أفلاطون للحديث عن رمز الكهف في نهاية الباب السادس من جمهوريته، لكن الحديث نفسه يبدأ مع بداية الباب السابع. إن سقراط — الذي يُجْرِي أفلاطون على لسانه كل فلسفته — يتحدث إلى جلاوكون. الأوَّل يصوَّر الحكاية ويصف الكهف، والثاني يعلن عن دهشته التي تستيقظ في نفسه شيئًا فشيئًا، لنسمع الحديث معًا قبل أن نبدأ في الكلام عنه:

سقراط: والآن، قارن طبيعتنا من وجهة نظر التربية ونقص التربية، بمثل هذه التجربة.

تأمل هذا: أناس يقيمون تحت الأرض في مسكنٍ أشبه بالكهف، مدخله الممتد إلى أعلى يواجه ضوء النهار، في هذا المسكن يقيمون منذ الطفولة مقيَّدين بالسلاسل من سيقانهم ورقابهم، حيث يظلون في نفس الموضع، فلا يملكون إلا أن ينظروا إلى الأمام ليروا ما يواجههم، إنهم — بسبب هذه القيود والسلاسل — عاجزون عن إدارة الرءوس فيما حولهم، في استطاعتهم مع ذلك أن يبصروا نورًا يأتي من أعلى ومن بعيد، وإن كان ينبعث من نارٍ تلمع خلفهم، بين النار وبين المقيَّدين بالسلاسل [أعني في ظهورهم]١ يمتد في الجهة العلوية طريق بُنِيَ على طوله — تصوَّرْ هذا — حائط منخفض شبيه بالأسوار التي يقيمها المهرجون [أصحاب الألعاب البهلوانية] أمام الناس، لكي يعرضوا عليهم ألعابهم.

قال: هذا ما أراه.

تأمل كذلك كيف يعبر الناس على طول هذا الحائط الصغير حاملين مختلف الأشياء؛ من تماثيل وصورٍ حجرية وخشبية، وغير ذلك مما يصنع البشر، فيتحدث بعضهم مع بعض كما هو منتظَر، ويصمت البعض الآخر.

– صورةٌ غريبة هذه التي تتكلم عنها، هكذا قال، ومساجين من نوعٍ غريب.

قلت: إنهم يشبهوننا، نحن البشر، ماذا تحبُّ أن يكون عليه الأمر؟ مثل هؤلاء الناس لم تقع أعينهم منذ البداية — سواء كان ذلك من أنفسهم أو من غيرهم — إلا على الظلال التي تلقيها النار على حائط الكهف المواجه لهم.

قال: وكيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك ما داموا قد أُجْبِروا على عدم تحريك رءوسهم طوال حياتهم؟

– ولكن ماذا عساهم يرون من هذه الأشياء التي يحملها الناس [خلف ظهورهم]؟ ألا يرون هذه [الظلال] نفسها؟

– كذلك الأمر في الواقع.

– لو أنه كان في مقدورهم أن يتحدثوا بعضهم مع البعض عما يرون، ألا تعتقد أنهم كانوا سيحسبون أن ما يرونه هو الوجود؟

– بالضرورة.

– ماذا يكون الأمر إذًا لو أن هذا السجن كان يتردَّد فيه صدًى من الحائط المواجه لهم؟ ألا تظن أنهم كلما صدر صوت عن واحد من الذين يمرُّون وراء المسجونين اعتقدوا أن الحديث إنما يصدر عن الظلال التي تمرُّ أمامهم؟

– لا شيء غير ذلك، بحق زيوس.

قلت: إن أمثال هؤلاء المساجين لن يعتقدوا في واقع الأمر أن هناك شيئًا حقيقيًّا سوى ظلال الأدوات [التي يحملها العابرون].

قال: بالطبع هذا أمر ضروري.

قلت: تتبع إذن بنظرتك، كيف يفكُّ هؤلاء المسجونون قيودهم ويُشفَوْن في نفس الوقت من فقدان البصيرة، وتفكَّرْ عندئذٍ، كيف تكون طبيعة فقدان البصيرة هذه إذا حدث لهم ما يلي: كلما فُكَّت السلاسل عن أحدهم وأُجْبِرَ على الوقوف على قدمَيه فجأة والالتفات برقبته والسير قُدُمًا والتطلُّع إلى النور، فلن يقوى على ذلك إلا إذا عانى ألمًا [شديدًا]، ولن يستطيع من خلال الوهج أن ينظر إلى تلك الأشياء التي رأى ظلالها من قبلُ. [لو أن ذلك كله حدث له] فماذا تحسبه يقول لو أن أحدًا قال له إن ما رآه من قبلُ لم يكن إلا عدمًا، وأنه الآن أقرب إلى الوجود، وأن نظره أكثر صوابًا لأنه يلتفت إلى ما هو أكثر وجودًا؟ ولو أن أحدًا عرض عليه الأشياء التي مرَّت عليه واحدًا بعد الآخر واضطره أن يجيب عن سؤاله عما هو هذا الشيء، ألا تعتقد أنه سيَحار كيف يردُّ عليه وأنه سيَعتبر أن ما رآه بعينه من قبلُ أكثر حقيقةً مما يُعرَض عليه الآن؟

– بالطبع.

– وإذا أجبره أحد على النظر إلى النور [المنبعِث من النار]، ألن تؤلمه عيناه ويتمنَّى أن يحوِّلهما عنه ويفرَّ إلى ما يقوى على النظر إليه ويعتقد أن ما رآه أوضح في الواقع بكثير مما يُعْرَض الآن عليه؟

– الأمر كذلك.

قلت: وإذا حدث أن أحدًا جذبه بالقوة من هناك وشدَّه على الطريق الوعر [إلى خارج الكهف]، ولم يتركه قبل أن يعرضه لضوء الشمس، ألن يشعر عندئذٍ بالألم والسخط؟ ألن يحس — وقد وقف في نور الشمس — بأن عينيه قد بهرهما الضوء الساطع، وأنه لن يكون في وسعه أن يرى شيئًا مما يُقال له الآن إنه الحق؟

– لن يقوى أبدًا على ذلك، أو لن يقوى عليه فجأة على الأقل.

– أعتقد أن الأمر يحتاج إلى التعوُّد إذا كان عليه أن يرى ما هناك [أي خارج الكهف في ضوء الشمس]، إنه سيستطيع في أول الأمر [نتيجة لهذا التعود] أن ينظر في يُسرٍ شديد إلى الظلال، وسيكون في وسعه بعد ذلك أن يرى صور الناس وبقية الأشياء منعكسة على صفحة الماء، إلى أن يتمكن أخيرًا من رؤية هذه الأشياء نفسها [أي الموجودات الحقيقية بدلًا عن انعكاساتها]، ألا يكون في وسعه أن يرى من بين هذه الأشياء ما [يتجلَّى] منها في قبة السماء، كما يرى السماء نفسها، وأن تكون رؤيته لها بالليل حين يتطلع ببصره إلى نور النجوم والقمر أيسر من رؤيته للشمس وضوئها بالنهار؟

– لا شك في ذلك.

– أعتقد أنه سيتمكن آخر الأمر من النظر إلى الشمس نفسها، لا إلى صورتها المنعكسة في الماء أو حيثما ظهرت فحسب، [وسيتمكن من النظر] إلى الشمس نفسها كما هي عليه في ذاتها وفي الموضع المحدد لها؛ لكي يتأملها ويتعرف طبيعتها.

– من الضروري أن يصل به الأمر إلى ذلك.

– وبعد أن يبلغ ذلك سيكون في مقدوره أن يُجمِل القول عنها [أي عن الشمس] فيعرف أنها هي التي تضمن [تعاقُب] فصول السنة كما تضمن [مرَّ] السنين، وتتحكم في كل ما هو موجود الآن في محيط الرؤية، بل إنها [أي الشمس] هي عِلَّة كل ما يجده أولئك [المقيمون في الكهف] على نحو من الأنحاء حاضرًا أمامهم.

– واضح أنه سيصل إلى هذا [أي إلى الشمس وما يستضيء بنورها] بعد أن تجاوز ذاك [أي ما كان ظلًّا وانعكاسًا فحسب].

– ماذا يحدث إذن لو أنه تذكَّر مسكنه الأوَّل، وتذكر المعرفة التي كانت سائدة فيه، والمساجين الذين كانوا معه؟ ألا تعتقد أنه سيسعد بهذا التغيير الذي حدث له بينما يأسف لأولئك؟

– أسفًا شديدًا!

– فإذا حددت في المكان القديم [بين من كانوا يقيمون في الكهف] جوائز وألوانًا معينة من التكريم لكل من يرى الأشياء العابرة رؤيةً حادة، ويتذكر ما يمر منها في المقدمة، ثم ما يتبعها أو ما يتفق مروره معها في وقتٍ واحد ويكون أقدرهم على التنبؤ بما سيأتي منها في المستقبل قبل غيره، أتعتقد أنه [أي ذلك الذي غادر الكهف ورأى نور الشمس والحقيقة] سيحسُّ بالشوق إليهم [أي إلى الذين لا يزالون في الكهف] لكي يتنافس مع الذين يضعونهم موضع التكريم والقوة؟ أم لا تعتقد معي أنه سيأخذ نفسه بما يقول عنه هوميروس «من خدمة رجلٍ غريبٍ فقير» [أي أنه سيُفضِّل — مثل أخيل — أن يعمل كأجيرٍ حقير في عالم العقل العلوي، على أن يكون مَلكًا في عالم الأشباح] وسيحتمل كل ما يمكن احتماله بدلًا من أن يعتنق تلك الآراء [التي يؤمنون بها في الكهف] ويعيش على هذا النحو.

– أعتقد أنه سيؤثِر أن يحتمل كل شيء على أن يحيا تلك الحياة [التي يعيشونها في الكهف].

قلت: والآن تَفكَّرْ في هذا، إذا حدث لذلك الذي خرج على هذا النحو من الكهف أن هبط مرة أخرى إلى الكهف وجلس في نفس المكان [الذي كان يجلس فيه]، ألن تمتلئ عيناه بالظلمات بعد رجوعه فجأة من رؤية الشمس؟

قال: طبيعي جِدًّا أن يحدث له ذلك.

– فإذا عاد إلى الجدال مع المقيَّدين الدائمين هناك حول الآراء المختلفة عن الظلال، في الوقت الذي لا تزال فيه عيناه تعشيان [من الضوء] قبل أن تعودا سيرتهما الأولى — الأمر الذي سيستغرق منه زمنًا غير قليل حتى يتعوَّد عليه — [ألا تعتقد] أنه سيُعرِّض نفسه هناك للسخرية، وأنهم سيحاولون أن يقنعوه بأنه لم يغادر الكهف إلا ليعود إليه بعينَين مريضتَين، وأن الأمر لا يستحق أبدًا أن يشقَّ الإنسان على نفسه بالصعود إلى هناك؟ وإذا حاول أحد أن يمدَّ يديه ليفكَّ عنهم قيودهم ويصعد بهم إلى أعلى، [ألا تعتقد] أنهم لو استطاعوا أن يمسكوا به ويقتلوه فسوف يقتلونه حقًّا؟

قال: يقينًا سيفعلون ذلك (الجمهورية: ٧، ١٤، ٥١٤أ، ٢ إلى ٥١٧أ، ٧).

•••

ما معنى هذا الرمز؟ ماذا تدل عليه هذه الحكاية؟

إن أفلاطون يتولَّى بنفسه الجواب؛ فبعد الحكاية يأتي دور التفسير (٥١٧أ، ٨ إلى ٥١٨د، ٧)، فالمسكن الشبيه بالكهف صورة لمكان الإقامة الذي تقع عليه أعين من ينظرون حولهم كل يوم، والنار التي تتوهج خلف ظهور ساكني الكهف — أعلى منهم بقليل — هي صورة الشمس التي تسطع في الخارج، وقبة الكهف أو سطحه الذي تتطلع إليه عيون المساجين، تصوِّر قبة السماء المزدانة بالقمر والنجوم. تحت فلك القبة يحيا الناس مقيدين بالأرض، إنهم يحسون أن ما يحيط بهم هو الواقع، وأن ما يرونه هو الحق. لا وجود إلا الوجود الذي يرونه حولهم، ولا حقيقة إلا لما تلمس أيديهم، إن كانت أيديهم تستطيع أن تلمس شيئًا! في هذا المسكن الشبيه بالكهف يشعرون أنهم يعيشون في بيوتهم، ويقيمون في العالم، مطمئنين أن لا بيت لهم سواه ولا عالم غيره.

ولكن ما شأن الأشياء في خارج الكهف لا تنعكس إلا ظلالها على حائطه؟ هي رمز لما لا يقوم للموجود وجود إلا به، وما يجعله يتبدَّى على هيئته التي تراه بها العين، هذه الهيئة أو هذا المظهر الذي تتبدَّى به الموجودات هو ما يسميه اليونان الإيدوس أو الإيديا [المظهر، المثال].

والأشياء الموجودة خارج الكهف التي يغمرها ضوء النهار، ويتفتح عليها نور العين، هي رمز للأفكار أو «المُثُل» كما يسميها الفلاسفة، لو لم تقع عين الإنسان على «مظهر أو مثال» الكائنات من أشياء وبشر وأعداد وأشجار … إلخ؛ لما استطاع أن يعرف أن هذا الشيء أو ذاك بيت أو شجرة أو إنسان إلخ، لكن الإنسان يحسب عادة أن يرى هذه الشجرة وذلك البيت وما أشبه ذلك من موجودات دون أن يخطر بباله أنه لا يرى شيئًا مما يرى إلا على ضوء «المُثل»، ولا أن ما يسميه بالواقع مما يرى ويسمع ويلمس ويعد ليس إلا انعكاسًا لهذه المثل وظلالها، إنه يحيا حياته بين الظلال، والظلال تتحكم في حياته وعاداته وأحكامه، وتقيم حوله سجنًا يحجب عنه نور المثل الساطع وراء جدرانه، إنه لا يدرك أن هذا السجن سجن، ربما لأنه سجن واسع بلا جدران؛ لذلك يظن أن حياته اليومية تحت قبة السماء هي مسرح تجربته الذي لا مسرح سواه، وهي التي يستمد منها المقياس والقاعدة لكل ما يربطه بالكائنات من علاقات.

ولكن ماذا عسى أن يحدث لو أن إنسان الكهف هذا التفت وراءه فجأة فرأى النار التي تتوهج، وعرف أنها هي التي تلقي على الجدار المواجه له ظلال الأشياء؟ لا شك أن تغيير النظرة لن يعقبه كشف الغطاء. إنه في الكهف يملك «الواقع» ويعرف «الحقيقة»، ولن يخطر بباله أن هذا الواقع ظل، أو أن هذه الحقيقة خيال. إن أقصى ما يمكن أن تأتي به أن تُخِلَّ قليلًا بالسلوك المعتاد دون أن تغيره، أو تزعج الظن المألوف دون أن تهدمه من أساسه، وأنَّى له أن يعرف شيئًا عن الظلال، وهو لا يريد أن يعرف أي شيء عن النار التي تشتعل في الكهف أو عن الضوء المنبعث منها، مع أن النار شيء «مصنوع» ولا بد أن يكون مألوفًا لديه؟ أمَّا ضوء الشمس في خارج الكهف فهو على العكس من ذلك؛ شيء لم تصنعه يد الإنسان، فعلى نوره تتجلى الأشياء والكائنات تجليًا مباشرًا بغير حاجة إلى ظل أو انعكاس، إنه هو صورة المثل، أمَّا الشمس فهي صورة لما «يُظْهِر» المثل كلها أو هي صورة لمثال المثل جميعًا، الذي قد نسميه مثال الخير.

ذلك هو التقابل الذي نقيمه عادةً بين الظلال في الكهف وبين الواقع الذي نجربه كل يوم، بين ضوء النار المشتعلة فيه وبين النور الذي يغمر الأشياء من حولنا، بين المساجين المقيَّدين بالسلاسل وبيننا نحن البشر، بين الموجودات خارج الكهف وبين المُثل، بين الشمس وبين مثال المثل، غير أن هذا التقابل لا يستنفد مضمون الرمز الغني كله؛ ذلك لأنه لا يكتفي بأن يروي لنا أحداثًا تجري داخله أو خارجه فحسب، ولا يقف عند تقرير وضع الإنسان فيه أو فيما وراءه؛ فالأحداث التي يرويها لنا تصف كيف ينتقل الإنسان من الكهف إلى ضوء النهار، وكيف يعود من ضوء النهار إلى الكهف، ماذا يحدث في هذا الانتقال؟ كيف يتم؟ وما الضرورة التي تعود إليه؟ وما نصيبه من الأهمية؟

الانتقال من الكهف إلى ضوء النهار ومن ضوء النهار إلى الكهف يتطلب تحوُّلًا وتغييرًا فيما تعودت عليه العين من الظلام إلى النور ومن النور إلى الظلام، إن العين ترتبك مرتين — على حد قول أفلاطون — وارتباكها يكون لسببين: فإما أن يخرج الإنسان فجأة عن جهله الذي لا يكاد يحس به ليصل إلى حيث يتجلَّى له الوجود أكثر وجودًا وأكثر حقيقةً، دون أن يكون قد بلغ درجة من النضج تهيئه لذلك، وإمَّا أن يسقط من سماء المعرفة الحقة إلى ظلام المعرفة المألوفة بالواقع، ويفقد القدرة على النظر إلى المألوف والمعتاد على أنه هو الواقع.

كما ينبغي للعين أن تتعلَّم كيف تتعوَّد شيئًا فشيئًا على النور أو على الظلام، فلا بد للنفس كذلك أن تتعلَّم خطوة فخطوة كيف تتعوَّد على الوجود الجديد. إن عليها أن تُغيِّر نزوعها واتجاهها من أساسه، كما أن على الجسد أن يغيِّر من وضعه إذا أرادت العين أن تُغيِّر مجال الرؤية، ولكن لماذا يستغرق التغيير كل هذا الوقت الطويل؟ لماذا يحتاج التعود إلى هذا البطء الشديد؟ لأنه تغيير يتصل بوجود الإنسان كله ويشمل جوهره بأجمعه، ويحول سلوكه إلى اتجاهٍ جديد، هذا التغيير الشامل في وجود الإنسان وحقيقته هو ما يسميه أفلاطون بالتربية «بايديا»، وهو ما يُعبِّر عنه بقوله «تعديل النفس بأكملها»، وهو لذلك انتقال من حال إلى حال، وليس رمز الكهف كله سوى حكاية أو صورة تجسِّم لنا طبيعة التربية وتوضِّحها، فليست التربية أن نملأ النفس بالمعارف التي لم تتهيأ لها كما لو كُنَّا نصبُّها في وعاءٍ فارغ، بل التربية الأصيلة هي التي تُغيِّر النفس وتحوِّلها، فتضع الإنسان في مكانه الحق وتُعوِّده على الحياة فيه. وأفلاطون نفسه يؤكد أن رمز الكهف إنما هو صورة للتعبير عن جوهر التربية حين يقول في مطلع الكتاب السابع من الجمهورية: «اتخذْ لنفسك إذن من مثل هذه التجربة [التي سيشرحها ويصوِّرها فيما بعدُ] نظرة إلى [جوهر] التربية وعدم التربية الذي يتصل بوجودنا الإنساني في أساسه.»

صورة الكهف إذن تعبِّر لنا عن رأي أفلاطون في التربية، إنها تصوِّر المراحل التي تنتقل فيها النفس من الظلام إلى النور، من حالة نسيان للوجود إلى لقائه وجهًا لوجه، من معرفة الحس والظن إلى معرفة العقل واليقين، ولكنها تصوِّر لنا كذلك رأيه في الحقيقة [ولا أقول مذهبه، فهذه الكلمة البشعة لم تكن قد عُرِفَت بعدُ!] التي تحدِّد بدورها شكل التربية وتجعلها ممكنة.

فالتربية تعني تغيير الإنسان كله حين تنقله من مجال تعوَّد عليه إلى مجال آخر يظهر فيه الوجود على حقيقته. بهذا الانتقال يتغيَّر كل ما كان مألوفًا للإنسان ويتحوَّل شيئًا آخر؛ ما كان يحسبه حقيقة يصبح ظنًّا، والحقيقة التي لم يكن يعرف عنها شيئًا تتجلَّى له بعد طول تعوُّد ومراس. إنه ينتقل من مرحلة إلى مرحلة، ويترك مجالًا ليدخل في مجال، كما يترك وراء ظهره حقيقة ليشاهد حقيقة أخرى جديدة عليه.

رمز الكهف يصوِّر لنا هذه المراحل وكيف ينتقل الناس منها وإليها؛ فهم في المرحلة الأولى يعيشون في الكهف تغلُّهم السلاسل من أقدامهم ورقابهم، وتقيُّدهم الموجودات التي يفتحون عيونهم عليها ليل نهار، ليس هناك شيء يربطهم بالعالم الخارجي سوى الظلال الصامتة المضطربة التي تنعكس فوق جدارٍ أمامهم، هذا إذا تنبَّهوا إلى أنها تأتي من عالمٍ خارجي على الإطلاق. هم يستيقظون وينامون على الأشياء التي تحيط بهم، وهم يأخذونها معهم أيضًا في أحلامهم، وهم يتحدثون — إن تحدثوا — عن الظلال التي تهيم أمامهم، ولا تكاد توقظ فيهم أثرًا للدهشة أو السؤال: «أمثال هؤلاء المساجين لن يعتقدوا في واقع الأمر أن هناك شيئًا حقيقيًّا غير الظلال.»

وتأتي المرحلة الثانية، فها هي ذي السلاسل تُفَكُّ عنهم، وها هم أولاء يستطيعون أن يحرِّكوا رءوسهم وأقدامهم كما يشاءون، صحيح أنهم ما زالوا أُسارى الكهف، ولكن في وسعهم الآن أن يلتفتوا إلى ما لم يكونوا يلتفتون إليه، وصحيح أن عيونهم ما زالت ترى الظلال المنعكسة على الجدار، وأجسادهم ما تزال ترتعش من الرطوبة المنبعثة من الأرض، ولكن في مقدورهم الآن أن يشاهدوا النار التي تشتعل خلف ظهورهم وأن يقتربوا بذلك كثيرًا من الوجود.

اتضحت الأشياء بعض الوضوح، واستراحت العين قليلًا من الظلال، وعرف المساجين أن هناك مصدرًا للضوء الشاحب الذي كان ينسكب على الأشياء، والظلال القاتمة التي كانت تتراقص على الجدار. تحررت العيون من الظلال، واستطاعت بذلك أن تقترب مما يزيد عليها في الحقيقة. ولكن هل أدركتْ حقًّا أن ما تراه الآن أكثر حقيقة مما كانت تراه؟ إن السجين الذي نال هذه الدرجة من الحرية ما زال في الواقع سجين عادته؛ إنه سيعتقد أن ما كان يراه من قبل [أي الظلام] أكثر حقيقة مما يتبين له الآن.

ولكن ما الذي يمنعه من اكتساب حريته على الفور؟ أي قناع هذا الذي لا يزال يُغشي عينَيه؟ إن النار المشتعلة — على ضعفها واضطرابها — تُعشي عينيه، لقد تحرَّر حقًّا من سلاسل الحديد، ولكنه لم يتحرر بعدُ من قيود التعوُّد والتقليد.

إن عشى العينين يمنعه من أن يرى النار نفسها، ويدرك أن ضوءها هو الذي يسقط على الأشياء ويجعلها تظهر على ما هي عليه، وهو لذلك لا يستطيع أن يدرك أن ما كان يراه من قبل إنما هو ظل الأشياء الذي كانت تعكسه هذه النار. حقًّا إنه يرى الآن شيئًا يختلف عن الظلال، ولكن كل ما يراه يضطرب أمام عينيه اضطرابًا عجيبًا، وهو حين يقارنه بالظلال التي كان يراها منذ حين، تبدو له هذه الظلال ثابتة الأطراف محددة الأبعاد. ولن نستغرب عليه أن يظن في اضطرابه واختلاط الأمر عليه أن الظلال أكثر حقيقة من الأشياء التي يراها الآن على ضوء النار المتوهِّجة وراءه، إنه لم يستطع بعدُ أن يميز بين الحقيقة والوهم، ولا بين الموجود والظل؛ فالخلاص من القيود ما يزال بعيدًا عن الحرية الحقيقية.

هنا ننتقل إلى المرحلة الثالثة، فقد صعد «السجين الحر» على الطريق المؤدِّي إلى خارج الكهف، خرج — كما نقول اليوم — إلى الحرية؛ كل شيء الآن واضح أمامه وضوح النهار، والأشياء التي تقع عليها العين لم تعد تضطرب في الضوء الشاحب الذي كانت ترسله عليها نار الكهف. الآن فقط انتقل حقًّا إلى الحرية، لا لأن المكان اتسع فصار بلا حدود، بل لأن ضوء الشمس يغمر كل ما هو موجود، العين ترى كل شيء على ما هو عليه، وكل شيء يبدو للعين ويتجلَّى في مظهره [أيدوس] أكثر حقيقة وأشد صفاءً مما كانت عليه تلك الأشياء التي تضيئها النار «الصناعية» في الكهف إذا قورنت هذه الأشياء نفسها بالظلال.

ولكن هل يعرف سجيننا الذي تحرَّر منذ لحظة أن الأشياء الآن أكثر حقيقة مما كانت عليه في أي وقت مضى؟ هل يكفي أن يغمض عينَيه قليلًا لتستريحا من قسوة الضوء الباهر ليعرف الحقيقة دفعةً واحدة؟ إن كان تحويل البصر من الظلال إلى النار في داخل الكهف قد تطلَّب منه كثيرًا من الجهد والمشقة، فما أشد ما يحتاج إليه الآن من صبر وعناء ليرى الشمس وما تغمره من موجودات!

إن عليه أن يتعلَّم أوَّلًا أن التحرر من القيود والأغلال هو أضعف درجات الحرية، وأن الحرية الحقيقية لن تبدأ قبل أن يعوِّد عينيه على النظر والتفكير، وليست التربية إلا هذا «التوجه» ناحية الحقيقة، لا بل إلى ما هو أكثر حقيقة، ولن تكون التربية غير هذا «التعليم» والتعويد الصابر الشاقُّ على رؤية الحقيقة، فجوهر التربية إذن يقوم على جوهر الحقيقة، ولا سبيل إلى الفصل بينهما. وإذا كانت ماهية التربية في هذا التوجيه الشامل المتصل للنفس بكليتها، فإنها تظل كذلك محاولة متصلة للتغلب على نقص التربية. وما دام رمز الكهف هو الذي يصوِّر ماهية التربية ويرسم الطريق الصاعد إليها، فهو يصور كذلك الوسيلة إلى التغلب على الجهل والغباء والبلادة وكل ما نسميه بنقص التربية؛ لذلك لم يكن الوصول إلى نور الشمس أو نور الحقيقة هو الغاية الأخيرة من حكاية الكهف، بل إنها [وتلك هي المرحلة الرابعة والأخيرة من رحلة الكهف] تعود بسجيننا الذي تحرَّر من أغلاله إلى الكهف مرة أخرى، إنه يعود إلى رفاقه السابقين إنسانًا آخر، ورسولًا للتحرُّر والخلاص، فالحياة بين جدران الكهف لن تُقنعه بعد ذلك أو تُرضيه، وهو لا شك يدرك مدى الخطر الذي سوف يتعرَّض له، فرفاقه المساجين لا يعرفون أنهم مساجين، والحرية كلمة لا يفهمون عنها شيئًا، والحقيقة الوحيدة التي يعرفونها هي هذا الواقع الحسِّي الشاحب الذي يحيط بهم، ولو تجرَّأ رفيقهم على الحديث إليهم عن الحقيقة الأخرى أو عن الحرية أو النور فلا شك أنهم سيسخرون منه، بل إن السخرية ستكون أهون ما يتعرَّض له، فليس بعيدًا أن يهجموا عليه؛ لا ليضعوا قدميه ورقبته في الأغلال مرةً أخرى وإلا لهان الأمر أيضًا! بل ليمسكوا به ويقتلوه، وهو مصير يعرف أفلاطون تمام المعرفة أنه غير مُستبعَد في العالم؛ فلقد راح أستاذه سقراط ضحية له. وحين يُسأل أفلاطون في نهاية الحكاية على لسان سقراط: وإذا حاول أحد أن يمدَّ يديه ليفكَّ عنهم قيودهم ويصعد بهم إلى أعلى، ألا تعتقد أنهم لو استطاعوا أن يمسكوا به ويقتلوه فسوف يقتلونه بالفعل؟ وحين يسأل هذا السؤال نجد محدِّثه لا يتردد لحظة في الجواب، بل يقول يقينًا: سيفعلون؛ ذلك لأنه قد آمن مع أفلاطون بأن الصراع من أجل الحقيقة ليس مجرد نزاع حول المبادئ والقيم والأفكار، بل هو في صميمه مسألة حياة أو موت.

ماذا يقصد أفلاطون من وراء هذا الرمز؟

إنه — كما قدمنا — يفسِّره بنفسه حين يقول: إن الهدف منه هو إعطاء صورةٍ محسوسة لماهية التربية، وماهية التربية هي تحرير النفس الإنسانية بكلِّيتها، وتحرير البصر حتى يرى الجوهر والحقيقة، وتحرير النفس والبصر مرادف للأخذ بيَد الإنسان على الطريق الصاعد إلى ما يُسمِّيه أفلاطون مثال المُثل، أو الخير الأسمى، كما تقول الترجمة الشائعة. لكن ما السبب في كل هذه الأهمية التي يُضفيها أفلاطون على مثال المثل؟ سيقول: «إن مثال الخير هو السيد الذي يضمن الحقيقة كما يضمن إدراكها.» (٥١٧ﺟ)، إنه هو الوجود الأسمى الذي يُتيح لكل موجود أن يتجلَّى على ما هو عليه، أو هو الذي يُضفي عليه الوجود الحق، بل إن من الأمور الواضحة لدى الناس جميعًا أنه عِلَّة كل صواب [في سلوكهم]، كما هو سبب كل جمال (٥١٧ﺟ)، إنه هو الذي يُضفي الحقيقة على ما يعرف، ويهب مَلَكة المعرفة لمن يعرف (الكتاب السادس، ٥٠٨)، وكل إنسان يحرص على أن يكون على بصيرة في سلوكه الخاص أو العام، لا بد له أن يحرص كذلك على ألَّا يغيب المثال عن بصره (٥١٧ﺟ، ٤، ٥).

إن الكهف المليء برموزه الغنية يجعل لمثال المثل أو مثال الخير مكانه الفريد بينها؛ فهو يقابل الشمس ذات البهاء والجلال، ومصدر الدفء والحقيقة والحياة، إنها تتوهج في سناها الأبدي خارج الكهف، وعلى من يريد أن يجتلي بنورها أن يتجشَّم عناء الطريق الصاعد الطويل من باطن الكهف الرطب، حيث تسود معرفة الظن والحس، وحيث ترتعش الظلال والأصداء، إلى حيث تشاهد العين فتسعد، وتتملَّى النفس فتستريح، وهل أدل على خطورة شأنه من أن النار الشاحبة المتواضعة التي تعصم المساجين من التصادم في الظلام هي نفسها قبسٌ ضئيل منه؟ وأن السجين الذي واتاه الحظ فرآه لا يستطيع أن يستأثر لنفسه بهذا الجمال، بل يستجيب لصوت الواجب فيهبط إلى إخوانه المساكين ليدعوهم إلى الوجود الأسمى، ويبشرهم بالحقيقة الرائعة؟ ما أنبله من رسولٍ منقذ! إنه يعرف أن خطر الموت يحدق به، ومع ذلك لا يتردد عن أداء رسالته، لقد تجاوز المحسوس إلى ما وراء المحسوس، وارتفع من معرفةٍ زائلة إلى حكمةٍ باقية، وصعد من الكهف المعتم إلى الشمس المضيئة، لا كما يصعد الساكن من البدروم إلى الدور الأعلى، بل كما يخرج السجين من كهف الظلام والنسيان ليعود المربِّي الذي يبني الإنسان.

•••

رمز الكهف صورة تجمع بين صدق الشعر ووضوح المنطق، إنها التعبير الحي عن الخير الأسمى، ذروة فلسفة أفلاطون كلها وتاجها المضيء، وهل تهدف رحلة الخروج من الكهف — أو قل من هذا العالم — إلى نور الشمس الساطع — أو قل إلى مثال الخير الأكمل — إلى غاية أخرى غير هذه الغاية؟ إن فكرة الخير هي مصدر العدل والجمال كله (٥٠٥أ) وكل معرفة نحصِّلها تظلُّ بدونها عبثًا لا طائل وراءه، لكن الخير ليس هذا الخير الجزئي أو ذاك، بل هو الخير الكلي، أو هو مثال الخير الذي يشارك كل ما ينطوي على شيء من جمال أو صدق أو انسجام أو بهجة بنصيب فيه، أو ليس الخير بعد هذا كله ما لا يمكن أن يتنازع حوله اثنان.

على أن أفلاطون لم يقدِّم في أي كتاب من كتبه تعريفًا محدَّدًا للخير، وإن كان في إحدى محاوراته المتأخرة «فيليبوس» يضع ثلاثة من المُثل هي الجمال والتجانس والصدق، ويجعل منها معايير للحكم على ما إذا كان التعقُّل أو اللذة أقرب إلى الخير.

ويبدو أن المفكر حين يقترب من ذروة تفكيره لا يجد المنطق الذي يسعفه بالتعريف والتجديد؛ فيلجأ — والعذر لبشريتنا المحدودة! — إلى الرمز والصورة، ويستعير من الشاعر خياله ومن الرسام فرشاته، وهذا هو ما فعله أفلاطون في جمهوريته حين لم يجد وسيلة يصور بها طريق التربية الشاق إلى الخير الأسمى خيرًا من رمز الكهف، هذا الطريق الصاعد [أو ما يسميه الفلاسفة بالديالكتيك] يصل إلى غايته عندما يتأمل سجين الكهف القديم نور الشمس.

ولكن كيف له أن يعبِّر عن هذه الرؤية بالكلمات؟ لا بد إذن من اللجوء إلى الرمز والصورة؛ فالخير الأسمى — كما يقول في موضعٍ سابق (٥٠٧أ) — يكشف عن طبيعته في ولده هليوس [أي الشمس]، أسمى الآلهة وأكثرها تألُّقًا في السماء. ولكن ما العلاقة بين قوة البصر وبين إله النور السماوي؟ قد نقول: إن العين هي أكثر الأعضاء شبهًا بالشمس٢ ولكنها لا تستمد قدرتها على الرؤية إلا من نور الشمس، بهذا النور الذي تستمدُّه من الشمس يمكنها أن ترى الشمس نفسها، وإذا كانت الشمس هي مصدر النور، فهي بالمثل مصدر الرؤية.
والنفس في مجال المعرفة كالعين في مجال الرؤية، فإذا نحن وجَّهنا العين إلى عالم الليل والظلال بدلًا من عالم النور والنهار؛ وَهَنَتْ قدرتها على الإبصار، والنفس إن لم نوجِّهها إلى العالم الذي تضيئه أشعة الحقيقة والصدق؛ فقدت القدرة على الفهم والتفكير، وأصبحت معرفتها ظنًّا ورؤاها ظلالًا وأشباحًا، وكما تسكب الشمس نورها على المرئيات، كذلك يجود مثال الخير على كل ما تدركه النفس بالصدق والحقيقة، إنه الأصل في كل معرفة أو حقيقة من شأنها أن تجعل العالم المعقول قابلًا للتعقل، وتهبه الواقعية والنبل والصفاء، كما أن الشمس هي مصدر النور الذي يجعل العالم المحسوس قابلًا للرؤية، كما تمدُّه بقوة الحياة والدفء والنماء، ومع أن أفلاطون لم يصفْ مثال الخير الأسمى صراحةً بأنه إله، فهو في الحقيقة أولى المثل جميعًا بصفات الإله. وإذا كانت كل ألوان الخير والفضيلة تشارك في الخير المطلق الأسمى، وكانت غاية حياة الفيلسوف الذي يهتدي بالخير والفضيلة هي التشبه بالإله؛٣ فهل هناك كمال أقصى من هذا الكمال الذي يسعى إليه سجين الكهف في رحلته المضنية إلى نور الشمس، مثال المثل وخير الخيرات أجمعين؟ وهل يكون التشبُّه بالإله شيئًا غير هذا؟

•••

تعددت التأويلات التي ذهب إليها المفسرون لهذا الرمز الشاعري الجميل من العصور القديمة إلى اليوم، ومع ذلك فلعل التفسير الذي قال به أفلاطون نفسه في مبدأ الكلام عنه من أنه يدل على التربية أو نقص التربية؛ هو أقربها إلى الصواب، فصورة الشمس التي ترمز إلى مثال الخير الأسمى وصورة الكهف؛ كلتاهما تعبير عن طبيعة التربية، وعن موقف الإنسان من المعرفة أو الجهل، واليقين أو الظن، والتقدم أو التأخر؛ إنهما ترسمان الطريق الذي تصعد فيه الروح إلى الصدق والحقيقة والنور، حتى تصل إلى قمة المعرفة الفلسفية، ونعني بها مثال الخير.٤ ولم يكن هناك شيء يستطيع أن يعبِّر عما ستجرِّبه النفس من تحوُّل وما تكابده من مشقَّة وجهد حين تنتقل من الظلام إلى النور، ثم وهي تعود مرة أخرى من النور إلى الظلام لتدرك مقدار ما في وجود الإنسان بين الظلال والأشباح من هوان ومذلة؛ أقول: لم يكن هناك شيء يمكن أن يعبِّر عن هذا كله خيرًا من صورة الكهف. كان من السهل على أفلاطون أن يلجأ إلى الطريقة المجرَّدة المطلقة في شرح أفكاره، ولكن خطورة الموضوع — الذي هو بصدده — جعلته يعالجه على هذا النحو الإنساني الرائع؛ ليستطيع أن يُبرِز ما تعانيه النفس وهي تترك الشر إلى الخير وتنتقل من الظلام إلى النور، وتكابد كل ألوان العذاب التي توشك أن تنتهي بها إلى الهلاك. ولو أن الأمر كان يتعلق بالمعرفة فحسب لما كانت هناك حاجة إلى هذا الرمز الخصب، ومِنْ ثَمَّ كان في حقيقته أكبر من ذلك وأخطر، إنه «تحرير» الإنسان بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنًى. وإذا كان سقراط — بتواضعه المشهور — يصف صعود النفس إلى الخير الأسمى على أنه أمله الشخصي الذي يعلم الرب وحده مدى نصيبه من الحقيقة (الجمهورية ٥١٧ ب٦)، ففي استطاعتنا اليوم أن نقول: إنه الواجب الأكبر على الإنسان، ومهما يكن فهمنا لهذا الكهف وللمساجين الذين يقيمون فيه وللعالم الخارجي الذي تضيئه الشمس، فلا شك في أننا نحمل على الدوام مسئولية التحرر منه إلى أرض العدل والحق والنور، ولا شك أن هذا سيظل واجبًا على الإنسان، اليوم وغدًا وإلى آخر الزمان، ويا ويلنا إن كانت حياتنا على الأرض وكان العالم الذي نعيش فيه هو هذا الكهف المظلم! ويا ويلنا إن لم نحاول كل يوم أن نخرج منه إلى نور العدل والحرية والحقيقة!
١  كل ما يُوضَع بين قوسين فهو زيادة من بعض المترجمين أو مِنَّا لتوضيح النص اليوناني.
٢  يعبِّر جوته عن هذا المعنى أجمل تعبير في بيت مشهور يقول فيه: لو لم تكن العين مشمسة، فكيف كان يتسنَّى لها أن ترى النور.
٣  كما تقول الكلمة المشهورة في محاورة ثيايتيتوس (١٧٦ب).
٤  من المُلاحَظ أن هاتين الصورتين مرتبطتان بصورة أخرى هي صورة الخط، ب٢/ب١ // أ٢/أ١ المقسَّم، الذي يعبر به أفلاطون عن المراحل المختلفة التي تمرُّ بها المعرفة من الظن إلى اليقين، ومن المظهر إلى الحقيقة؛ فالمعرفة تتطور على نحوٍ رياضي في شكل خط مقسَّم إلى جزأَين غير متساويين (أ١، أ٢، ب١، ب٢). فالجزآن الرئيسيان: أ، ب، يمثلان العالم المرئي المحسوس والعالم العلوي المعقول على التوالي، أو عالم الظن وعالم الواقع والمعرفة، وفي جزأَي العالم المرئي (أ١، أ٢) يمثل أولهما (أ١) كل ما هو نسخة أو ظل، كالانعكاسات في الماء أو الصور على السطوح الناعمة، أمَّا الجزء الثاني (أ٢) فيمثل عالم النبات والحيوان الذي نعيش فيه، وكل ما صنعته يد الإنسان، والجزء الأوَّل في مجموعه يعتبر نسخة منه. أمَّا الجزء الأوَّل من القسم الثاني (ب١) فيحتوي على الفنون والمهارات التي نتعامل بها مع الأشياء، كالرياضة التي تبدأ بالفروض وتتابع نتائجها المنطقية حتى تصل إلى معرفةٍ جديدة. إنها المناهج الفلسفية في الوصول إلى المعرفة، ولكنها تظل مرتبطة بالعالم المحسوس وبالمعرفة الغالبة عليه وهي الظن؛ لأنها تبدأ من فروض لا تسلِّم بها ولا تتحقق من صحتها. أمَّا الجزء الآخر (ب٢) الذي يمثل القسم الثاني من العالم المعقول، فيغلب عليه نوع من المعرفة يبدأ بفروض تصعد منها إلى المطلق أو إلى مبدأ العالم، وإذا كانت صورة المعرفة هنا هي العقل «نوس» فهي في جزئه الآخر المتعلق بالمعرفة الرياضية فهم «ديانويا»، بينما الإدراك الحسِّي للعالم المادي هو الظن «بيستس» والمعرفة في الجزء الذي تسوده النسخ والظلال هي التخمين «إيكازيا».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤