تعلَّموا أن الإنسان يعلو على الإنسان

في زمنٍ يطغى عليه ضجيج الآلة، ويكسر جناحيه الخوف من المصير، لا تكاد كلمة باسكال هذه تجد أذنًا صاغيةً: «تعلَّموا أن الإنسان يعلو على الإنسان علوًّا غير مُتناهٍ»،١ تعلَّموا أنه يعلو على كل شيء كما يعلو على ذاته التي بين جنبَيه، نقول: يعلو، وقد نستطيع أيضًا أن نقول: يرتفع أو يصعد أو يتعالى، ولكن إلى أين يرتفع ويصعد ويتعالى؟ ما الذي يجنيه من هذا العلو؟ وأيَّ سلَّم يرتقي ليصل إليه؟ وإذا كان الإنسان يعلو على الإنسان، أي على ذاته وعلى ذوات الآخرين، فهل يستعصي عليه كذلك أن يعلو على كل شيء؟

علوٌّ أو تعالٍ، كلمتان حفظهما لنا تراثٌ فكريٌّ بعيد، لن نستطيع في هذه السطور القليلة أن ننقل هذا التراث أو نوغل بالبحث فيه، فكل ما نريد هو أن ندخل معه في حوار، أن نسأله ونسأل أنفسنا معه: ماذا نريد بهذه الكلمة الشهيرة في تاريخ الفلسفة «الترانسندس»؟ هل يهمنا في عصر العلم أن نعلو أو نتعالى؟ أنشيِّد له برج بابل جديدًا أم نطير إليه في صاروخ؟ هل في مقدورنا اليوم أن نعود إلى «المتعالي» أو نعيده إلينا؟ وكيف نستطيع؟ إذا أردنا أن نتحدث عنه فبأي لغة؟ وإذا حاولنا أن نفكر فيه فبأي تفكير؟ أترانا حين نصل إليه — إن كان ثمة وصول — أن تخرس لغتنا فلا نملك إلا الصمت ولا نجد إلا السكوت؟ ألا نوصف عندئذٍ — من جانب أهل الجدل والفطانة، وما أكثرهم في هذا الزمان! — بالتصوُّف أو حتى بالدروشة؟!

«التعالي هو الارتفاع فوق كل شيء على الإطلاق»، تعريف نسوقه في بداية هذا الحديث، ولكن ما أشد ما يحتاج إلى تفسير!

الكلمة في اللغات الأوروبية Transzendenz – Transcendence تنحدر من الفعل اللاتيني Trans-scendere المؤلَّف من السابقة (عبر وراء) Trans، والفعل scendere (يصعد، يرتفع، يتجاوز، يعلو)، ولكن إلى أين هذا العلو ولأية غاية؟ ألا يؤدي بنا العلوُّ فوق كل شيء إلى اللاشيء؟ ألا يُفضي بنا التصعيد فوق الوجود إلى الوقوع في العدم؟ ألسنا نخاطر بأن يكون علونا من قبيل التحليق الخيالي الذي نعزوه إلى الشعراء وقد نتهمهم به؟!
سنسارع قبل الإجابة على هذه الأسئلة فنقدم بين يدي القارئ مجموعة من القضايا التي سنحاول فيما بعدُ أن نحقِّقها ونتثبَّت من صحتها:
  • أوَّلًا: مشكلة المتعالي هي مشكلة المشكلات، ليست في الحقيقة مشكلة من مشكلات عديدة، بل هي «المشكلة» على الإطلاق، فإذا كُنَّا نقول: إن التعالي هو الارتفاع فوق كل شيء، فلا بد أن تحوي مشكلته سائر المشكلات، كما يحوي الكل بقية الأجزاء.
  • ثانيًا: مشكلة المتعالي فريدة في بابها، متميزة عن سائر ما عداها، وكيف لا تكون كذلك وهي — كما تقدَّم — ليست مشكلة من بين مشكلات عديدة، بل هي التي تحويها جميعًا؟
  • ثالثًا: هي أعظم المشكلات، إذ ما عساه أن يكون أعظم من محاولة العلوِّ فوق كل شيء على وجه الإطلاق؟ وأي فعل يمكن أن يقارن بالارتفاع فوق كل شيء حتى الارتفاع نفسه؟
  • رابعًا: المتعالي الذي يسمو فوق كل شيء هو في نفس الوقت أكثر الأشياء عمقًا؛ فكما أن العلو يكون من أسفل إلى أعلى، فكذلك يكون من أعلى إلى أسفل، من القمة إلى الأعماق. حقًّا إن هذه مفارقة تأباها لغتنا وتفكيرنا اليومي، كما يرفضها ما نسميه عادةً بالحس السليم، ولكن لا بد من قبولها في الفلسفة والفن والدين؛ إذ لا حياة لها جميعًا بغير المفارقة التي تتجاوز منطق المعقول والمقبول.
  • خامسًا: مشكلة المتعالي هي آخر المشكلات، وهي كذلك أخطرها، وهل هناك أخطر من أن يطمح الإنسان إلى العلوِّ فوق كل شيء، بينما يتهدَّده السقوط إلى أعمق الأعماق؟ أليس أقرب الناس إلى التردِّي في الحضيض أعلاهم فوق القمة؟
  • سادسًا: مشكلة المتعالي هي أقرب المشكلات إلينا وألصقها بوجودنا، ولمَّا لم يكن هناك وجود ولا حياة بغير موت وفناء، كان ارتباط التعالي بالموت أوثق ما يكون الارتباط، وكانت مشكلته أكثر مشكلات الإنسان إنسانية، ألسنا نقول الآن ونريد أن نبيِّن فيما بعدُ أننا لا نعلو على أنفسنا إلا لنعود إليها، وأن الإنسان لا يشعر بإنسانيته حتى يعلوَ عليها ويتجاوزها؟

قلنا: إن مشكلة التعالي هي المشكلة على وجه الحقيقة. ونذهب إلى أبعد من هذا فنزعم أنه حيث لا وجود لمشكلة التعالي فلا وجود لمشكلة الموت ولا لمشكلتَي الزمان والمكان، بَيْدَ أن التعالي موجود، وسيظل موجودًا ما بقيَ الإنسان حريصًا على إنسانيته، وإذا كُنَّا نلاحظ اليوم أنه تراجع من وجدان هذا الزمان، بحيث لم يبق منه سوى بضعة حروف سوداء في معاجم الفلسفة، فليس معنى هذا أنه اختفى من هذا الوجدان (إذ ما من شيء يختفي الحقيقة كل الاختفاء، وإنما كل شيء يتغير)، بل معناه أنه راقد فيه يحتاج إلى مَنْ يوقظه من سباته، ولا مفر لكل من يفكر فيه من المخاطرة على الطريق الخطر. إنه مضطر إلى التفكير في عصره، وربما اضطر أيضًا إلى التفكير ضد عصره.

كذلك قلنا: إن مشكلة التعالي هي أولى المشكلات وآخرها، وإنها أعمقها وأخطرها وأشدها التصاقًا بوجود الإنسان، ولا نعني بهذا القول أنها مشكلة كسائر المشكلات تقارن بها فتزيد عليها أو تنقص عنها في الأهمية، فالواقع أن هذه الصفات التي نُطلقها عليها شبيهة بتلك السلالم التي تحدَّث عنها الفيلسوف المنطقي المتصوف فتجنشتين في نهاية «رسالته المنطقية الفلسفية» حيث يقول: إن على المرء أن يُلقي بها بعيدًا بعد أن يصعد عليها ويصل إلى حيث أراد الوصول، نقول إلى «حيث»، وكأننا نريد أن نصل بالعلو إلى مكان أو موضع، وفي هذا القول خطأ لا بد من الاعتذار عنه؛ فالتعالي فعلٌ فريد، وكل تعالٍ يكون «فوق» شيء و«إلى» شيء، أمَّا التعالي الذي نتحدث عنه فهو كما عرفناه علوٌّ على كل شيء على وجه الإطلاق، علو تقف لغتنا حياله عاجزة لا تملك التعبير، إنها تُغيِّر عندئذٍ دلالتها كما تغيِّر وظيفتها، فتكتفي بالتلميح إلى ما لا تستطيع أن تصرح به كلمة أو ينطق به لسان.

ولكن ما هو هذا التعالي الذي وصفناه بأنه مشكلة المشكلات، وبأنه عمل فريد في بابه يجب على الإنسان أن يحقِّقه ليجد إنسانيته؟ وصفنا التعالي بأنه «الارتفاع فوق كل شيء على وجه الإطلاق»، فماذا يُفهَم عادةً من فعل التعالي أو من كلمة المتعالي حين نستخدمها في الفلسفة أو في غير الفلسفة؟

قد تُفْهَم على أنها التعالي فوق التجربة، بوصفها التجربة الحسية قبل كل شيء، وذلك هو الرأي الميتافيزيقي (بالمعنى الحرفي للكلمة)، أي الذي يتصور المتعالي على كل ما تجاوز عالم الطبيعة وجاء بعده، وإن بقي لهذا السبب نفسه متعلِّقًا به مُضافًا إليه، وقد يُفْهَم التعالي على أنه الارتفاع فوق الذات، أو صعود الذات فوق نفسها متجهة نحو الموضوع، وهو ما نستطيع أن نسميه بالفهم الذاتي للتعالي، وسنجد في سياق حديثنا أننا لا نستطيع أن نأخذ به أو نوافق عليه؛ لأننا نفهم من التعالي ما يرتفع فوق كل شيء، وبالتالي فوق الموضوعات والذات جميعًا.

ونعود فنسأل: «وما هو المتعالي؟» لا بد لنا قبل الإجابة على هذا السؤال أن نعرف أن المتعالي لا يمكن التفكير فيه من ناحية الإنسان أو العالم، بل يجب أن نفكر في الإنسان والعالم من ناحيته، وعلينا أن نذكر دائمًا أنه ليس مشكلة يضعها الإنسان، بل هو مشكلة يوضع فيها الإنسان فتستأثر به وتملك عليه كيانه، ولن يتم هذا قبل أن نعاني التحول الكبير الذي لا يمكن أن ننتظره من إنسان أو شيء سوانا، بل لا بد أن يكون ميدانه في الذات ومن أجل الذات، وأخيرًا لا بد أن ننقي كلمة المتعالي «الترانسندنس» من كل ما يخالطها، وأن نفرق فيها بين فعل التعالي نفسه وبين القائم بهذا الفعل أو «الترانسندنت»، كما نميز عنها ما نسميه بالكمون أو «الأماننس»، فهذا الكمون ليس عكس التعالي؛ لأنه صلة انعكاسية به، وقد تكون هذه الصلة بين القائم بفعل التعالي وبين المتعالي نفسه، كما تكون على العكس من ذلك بين المتعالي وبين مَنْ يتعالى إليه، أمَّا المتعالي فليس من ذلك في شيء، إنه يعبر عن علاقة لا يمكن عكسها؛ إذ إنها لا تبدأ من الذات التي تحاول أن تعلو إليه ولا يكون الإنسان هو أصلها، بل تبدأ من المتعالي الذي نحاول أن نرتفع إليه، والتعالي يختلف أيضًا عن ذلك الذي نعلو إليه ونسميه بالمتعالي؛ ذلك أننا بفعل التعالي نرتفع درجةً درجةً فوق الأشياء حتى نصل إلى الارتفاع فوق كل شيء، ولو كان المتعالي نفسه شيئًا لكان علينا أن نعلو عليه كذلك، فلا يبقى أمامنا إلا أن نقول عنه: إنه مطلق — بالمعنى الحرفي الأصيل لهذه الكلمة — من قيد كل شيء، مستقلٌّ غير مشروط بغيره، كامل وتام في ذاته، ومكتفٍ بذاته.

يبدو أن أفلاطون هو أول من اقترب من المتعالي في جمهوريته، فكلما ذكر الخير تبادر إلى الذهن ما نفهمه اليوم من العلو والتعالي؛ فالخير مثال، لا بل هو مثال المثل الذي يعلو عليها ويزيد عنها قوةً وصفاءً، وقد يختلف في ماهية وجوده عن سائر المثل، كما تختلف هذه عن سائر المحسوسات، ونظرة عابرة إلى رمز الكهف المشهور (الجمهورية من ٥١٤ إلى ٥١٧) تدلُّنا على أن الخير هو أعظم الموجودات شأنًا، وأشبهها بالشمس التي تغشي بنورها عيون الذين يحاولون أن يتطلعوا إليها بعد خروجهم من الكهف. غير أن أفلاطون لا يستقر في تعبيره عن الخير؛ فهو تارةً كالمتعالي وتارةً أخرى شيءٌ آخر يختلف عنه، وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن هذا القلق في التعبير عن المتعالي يسري في تاريخ الفلسفة كلها من أفلاطون إلى اليوم، فالفلسفة اليونانية القديمة لا تكاد تعرفه، وحين اقتربت منه واستطاعت أخيرًا أن تسمِّيه بالواحد كان يقع على أطراف حدودها ويتوِّج تطورها. والحق أن ما نفهمه اليوم — بوجهٍ عام — من كلمة المتعالي إنما جاء عن أفلوطين والأفلاطونية المحدثة، بحيث نستطيع أن نقول: إنه كان أول مَنْ عانى من تجربة العلو على وجهها الأصيل، وجعل من المتعالي مشكلة تفكيره الوحيدة (راجع رسالته عن الخير).

وفكرة المتعالي تشغل مكان الصدارة من فلسفة الوجود الحديثة، حتى لَتَذْهَب في بعض الأحيان إلى حد القول بأنها اكتشفتها اكتشافًا، وليس الارتفاع فوق الموجود إلى «الوجود» نفسه عند هيدجر، ولا ارتفاع الإنسان إلى «الشامل المحيط» عند ياسبرز — وإن تعذَّر عليه أن يُدرِك كنهه أو يدرك حقيقته — أقول: ليسا إلا تعبيرًا آخر عن العلو والمتعالي، وليس الوجود — كما قد يبدو لأول وهلة من تسمية الفلسفة المعاصرة نفسها بهذا الاسم — مبحثًا جديدًا على الإنسان، لقد شغل بارمنيدز في فجر الفلسفة، فكان هو الموجود الذي ينبغي أن يتَّجه إليه القول والفكر؛ لأن العدم هو ما ليس له وجود، ولأن السؤال عن الوجود كان ولا يزال — كما يقول أرسطو — هو السؤال الرئيسي الأوَّل الذي ينبغي على الإنسان أن يسأله الآن وعلى الدوام، والحق أن كلمة الوجود — كما أوضح هيدجر في بداية كتابه المشهور «الوجود والزمان» — ذات معانٍ كثيرة متشابكة، فليس الوجود شيئًا من جملة أشياء يوضع إلى جانبها ويُعَدُّ واحدًا من بينها، له جملة خواص: إحداها ما نسميه بالوجود. إنه يختلف عن الموجود اختلافًا رئيسيًّا، سماه هيدجر «بالاختلاف الأنطولوجي»، وليس من همنا أن نفصِّل القول في هذه الناحية، فكل ما نريد أن نؤكده هو أننا بمجرد أن نتصور المتعالي على أنه الوجود أو الموجود فإنما نفقده إلى غير رجعة؛ فليس المتعالي شيئًا يمكننني أن أتحدث إليه أو عنه أو حتى أن أفكر فيه، ليس شيئًا لأنه علوٌّ فوق كل ما هو شيء وما له شكل الشيء، وليس مما يمكن الحديث إليه أو عنه؛ لأنني سأجد في نهاية المطاف أن لغتي عاجزة عن التعبير عنه، وأن عليَّ إمَّا أن أبحث عن لغةٍ جديدة — وهو ما لا أقدر عليه — أو أن أَلزم الصمت المطلق (وهو ما لا يقدر عليه إلا الأموات!) والقول بأن المتعالي لا يستطاع التفكير فيه، ليس معناه أن أتخلَّى عن الفكر؛ فبالفكر وحده أعرف أن هناك مشكلة هي مشكلة التعالي، وبالفكر وحده أستطيع أن أفكِّر فيما لا سبيل إلى التفكير فيه بوسائلنا المألوفة وأشكالنا المنطقية المتواضَع عليها، وليس المقصود بالعبارة الأخيرة إلا أنني مُطالَب إزاء مشكلة المتعالي بتحمُّل أقصى ما يستطيع الفكر أن يتحمل من عناء، وبذل أقصى ما يمكن أن أبذل من جهد وحركة وتوتُّر.

علينا إذن أن نوسِّع آفاق نظرتنا إلى المتعالي، وأول ما نفعله في هذا السبيل هو أن نتغلَّب على العقبات التي تعترض سبيل هذه النظرة، ونكشف عن قصور تفكيرنا فيه حين نظن أننا نتحدث عنه، بينما نحن في الحقيقة نتحدَّث ضده ونتجاوز محدودية التصورات الميتافيزيقية والدينية والوجودية للعلوِّ والتعالي، مهتدين في ذلك بالتعريف الذي وضعناه في صدر هذا الكلام من أنه الارتفاع فوق كل شيء على وجه الإطلاق، علينا أيضًا أن نكشف عن العقبات الباطنية التي تعترض سبيلنا إلى المتعالي، وأن نواجه نزعتنا الطبيعية الدفينة إلى الهروب منه أيًّا كانت أشكال هذا الهروب، فنحن نهرب منه، لا بل نتمرَّد عليه بما طُبِعَ فينا من ميل إلى التفكير العملي أو التفكير السليم كما نسمِّيه عادةً، مع أن هذا التفكير السليم يقف بطبعه موقف المعاند لكل تفكيرٍ فلسفي أو ميتافيزيقي على وجه العموم، ونحن ندير له ظهورنا حين نضعه في عالمٍ «آخر»، ونحسب بذلك أننا نعلو بأنفسنا على هذا العالم بإعراضنا عنه وزُهدنا فيه، كل هذا بغير أن يخطر ببالنا أننا في كل الأحوال نهرب من المتعالي ونوفر على أنفسنا مشقَّة التفكير الجادِّ فيه ونؤْثر الطمأنينة على عذاب الصعود إليه.

إن أسباب الاعتراض على المتعالي كثيرةٌ كثرة أسباب الهروب منه، فقد يسأل سائل فيقول: إلى أين نرتفع فوق كل شيء؟ أليس ذلك ارتفاعًا إلى الفراغ والعدم؟ والجواب على هذا الاعتراض بسيط؛ فنحن حين نرتفع فوق كل شيء فإنما نرتفع أيضًا فوق الفراغ والعدم، والارتفاع والعلو بمعناهما الأصيل ارتفاع وعلو على الشيء وضده، أي على الكل والعدم على السواء.

وقد يعترض آخر فيقول: ما لنا نحن وللمتعالي وهو غير معقول ولا سبيل إلى التفكير فيه أو التعبير عنه؟ وهذا الاعتراض قديمٌ قِدَم أفلاطون، وحديثٌ حداثة المذهب الوضعي، إنه يقوم في أساسه على نزعةٍ كامنة فينا، تجعلنا نُنكر المتعالي أو بالأحرى نتنكَّر له، وربما كان خير اسم نُطلقه على هذه النزعة التي تشتدُّ لدى إنسان العصر الحديث هو «زوال المتعالي» أو اختفاؤه من وجدانه.

لنحاول إذن أن نفهم فكرة المتعالي بمعناها الميتافيزيقي الأعم. التعالي فعلٌ شخصي (بكل ما في كلمة الشخصية من وحدة وذاتية وتفرُّد) يفرد الإنسان ويزيد من فردانيته، هذه الفردانية (وهي بعيدة عن الانعزالية بُعد السماء عن الأرض) شيءٌ يكرهه الفهم السليم أو «الكمون سنس» وينفر منه. والتعالي في جوهره انفتاح للفكر واتساع لآفاقه وتجاوزٌ لكل الحدود، والفهم السليم يحب الانحباس بطبيعته، ويستريح للتجمُّد والقيود. إن العناد من طبعه، وتوكيد الذات دأبه وغايته، فإذا انحبس بين جدران ذاته فلكيلا يعلو عليها، وإذا تجمد في عالمه فلكي يحمي نفسه من المتعالي ويؤكد شعوره بنفسه وسيطرته على الطبيعة. إن من طبيعته أن يقول: كل شيء هو كل شيء ولا شيء هو لا شيء، أو يقول: الكلُّ كلٌّ والعدمُ عدمٌ، وإذا كان كل ما هو عظيم يبهره، فليس ذلك لميله للعظمة، بل لأنه يحب الكثرة ولا يعرف إلا الكَمَّ.

هذا الموقف الميتافيزيقي (وهو يظل كذلك وإن أنكر الميتافيزيقا) من جانب الفكر السليم هو في صميمه موقفٌ عدميٌّ (لنذكر تعريف نيتشه للعدمية في كتابه الرئيسي الذي لم يتم «إرادة القوة» بأنها تجريد القيم العليا من قيمتها، أو بأنها موت الإله كما عبر عن ذلك زرادشت)، والعدمية بهذا المعنى هي ضد التعالي ونقيضه، وهي عدمية في تعبيرنا هذا؛ لأنها تنكر كل ما يعلو على الحسِّ وتنفي كل ما يجاوز الطبيعة، وتنفِّر من كل ما لا تستطيع أن تلمسه وتقبض عليه بيديها.

والحقيقة إن ما نسميه بالفكر السليم لا بد أن ينفي وجود المتعالي ما دام لا يؤمن إلا بالتجربة، وما دام لا يفهم منها إلا أنها كل معرفة يُتوصَّل إليها عن طريق الإدراك الحسي؛ فالمتعالي لا يقع بطبعه في مجال التجربة، وإذا أردنا بالتجربة تلك المعرفة التي نكتسبها عن طريق الاتصال بالعالم الخارجي أو العالم الداخلي، فلا يمكن أن تكون هناك معرفة بالمتعالي. وهذا هو الموقف الذي انساق إليه «كانط» بنقده للعقل الخالص؛ فلقد وجد نفسه مُضطرًّا إلى إنكار تجربة المتعالي، واستحالة معرفته معرفةً مباشرة، وكان أنْ جعله فرضًا أو مثالًا يرى العقل الخالص ضرورة وجوده، ويحاول بطبيعته أن يقترب منه وإن كان يعلم أنه لن يستطيع أن يدرك حقيقته أو يصل إلى كنهه. نقول: إن «كانط» كان مُضطرًّا إلى اتخاذ هذا الموقف من المتعالي بعد أن حدَّد موقفه من التجربة؛ فالتجربة عنده هي معرفة الموضوعات عن طريق الإدراك الحسي، أمَّا موضوعية الموضوعات — إن جاز التعبير — فلا يمكن معرفتها إلا بتطبيق أشكال الفهم ومقولاته عليها؛ فليست التجربة تلقيًا سلبيًّا لمعطيات العالم الخارجي، ولا هي فعلٌ تلقائي من أفعال العقل، بل هي مزيجٌ منهما جميعًا، ومن هنا عبارة كانط المشهورة: «الموضوعات بغير تصورات عمياء، والتصورات بغير موضوعات جوفاء». المهم أن كانط ينازع في وجود موضوع متعالٍ أو في إمكان التجربة والمعرفة المتعالية، وهو في هذا منطقي مع نفسه، فما من شيءٍ عنده يمكن أن يكون موضوعًا للمعرفة حتى يُسْتَمَدَّ من التجربة، ويطبق عليه الفهم أشكاله ومقولاته، ولن يغير من موقفه هذا تسليمه بوجود ما يسميه بالشيء في ذاته (وهو تعبير كشف المثاليون من بعده عن تناقضه البيِّن في الحدود، فما هو في ذاته لا يمكن أن يكون شيئًا)؛ ذلك أنه يجعل هذا الشيء في ذاته فكرةً أو مثالًا للعقل الخالص، يفترض وجوده دون أن يستطيع بطبيعته معرفة حقيقته أو فهم كنهه.

ولسنا في حاجة إلى بيان ما في فكرة المتعالي عند كانط من قصور، فهو — في فهمه لها — ملتزم بالتراث الميتافيزيقي الذي تلقَّاه عن «فولف» وأتباعه، وهو في نقده لها ملتزم بالمهمة التي أخذها على عاتقه حين أقام بناءه النقدي العظيم، وأراد به فيما أراد أن يكفكف من غلواء هذا التراث الميتافيزيقي ويرسم له الحدود التي لا ينبغي له أن يتجاوزها بحال، ولسنا كذلك في حاجة إلى أن نشير إلى القصور الذي نجده في تصوِّر كانط للتجربة على أنها المعطى الحسي الذي ختم عليه الفهم بخاتمه ووضعه في قوالبه ومقولاته، فمعنى التجربة أوسع بكثير من أن تقتصر على المعطى المحسوس، بل لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن التجربة بمعناها الحق لا تكون كذلك حتى تكون تجربةً بما لا يُعْطَى أو يُحَس. ولو لم يكن الأمر كذلك لما استطاع الفكر أن يفكِّر في نفسه — فجوهر الفكر في هذا الانعكاس على ذاته — ولا قامت تجربة فنان أو شاعر أو متصوف، ولا تجربة حب أو مخاطرة أو موت، ولو لم تكن هناك تجربة أخرى غير تجربة المحسوسات والعينيات لما استطاع ديكارت مثلًا في التأمل الثاني من تأملاته العميقة الصافية أن يذهب إلى أن تجربة الذات لنفسها أكثر يقينًا من الأدلة الرياضية، ولما أمكنه بالفكر وحده أن يصل إلى عبارته المشهورة التي ما تزال تحيِّر الناس: أنا أفكر فأنا إذن موجود.

ولتجربة المتعالي درجاتٌ تختلف في عمقها وأصالتها، فمن علاماتها أنها تُصيب الإنسان حين تُصيبه بالدهشة الحقيقية والقلق الحقيقي، فمع الدهشة يصبح الموجود بما هو موجود شيئًا غريبًا ومفاجئًا غير مألوف، شيئًا تنظر العين إليه فكأنها تراه لأول مرة، ويدركه العقل فيسأله ما أنت؟ ومَنْ أنت؟ وإلى أين تصير؟ هذا القلق الحقيقي الذي لا يكون قلقًا من شيء بل إحساسًا غامرًا مفاجئًا بالضياع تُعبِّر عنه فكرة باسكال المشهورة (الفكرة ٢١٢) أجمل تعبير حين تقول: «إنه لشيءٌ مُفزِع أن يحسَّ الإنسان أن كل شيء يملكه ينزلق منه.»

لنقطع هذا الحديث لحظة لنسأل أنفسنا: هل هناك إذن تجربة بالمتعالي؟ والجواب على هذا السؤال بلا ونعم، الجواب بلا إذا فهمنا التجربة بمعناها الحسي المباشر الذي نفهمه منها كل يوم، والجواب بنعم إذا فهمنا التجربة بمعناها الأصيل، فهي عندئذٍ انفعال نعاني فيه ما نجربه ونشقى به، بمعنى الانفعال كما فهمه أفلاطون فأطلقه على الدهشة وجعلها جوهر التفلسف وأصله.

فتجربة المتعالي تختلف إذن عن كل تجربة حسية وغير حسية؛ ذلك أن كل ما نجرِّبه مما يقع في العالم من موجودات إنما يقوم على علاقة الذات والموضوع، وما كذلك تجربة الدهشة الحقَّة ولا تجربة القلق الحق.

فنحن لا نندهش حين نندهش حقًّا؛ لأن هذا الموجود أو ذاك على هذه الصفة أو تلك، ونحن لا نقلق حين نشعر بالقلق الحق من شيءٍ بعينه نتوقَّع منه خطرًا أو نخشى منه أذًى، إننا نشعر بأننا خارج العالم، بعيدين عن نطاق كل ما هو «عالمي» أو يمتُّ إلى العالم بسبب، على نحو ما شعر المتصوفون دائمًا في الشرق والغرب في تجربتهم بالمتعالي، وفي مقدمتهم أفلوطين، هذا الخروج عن العالم Ekstasis هو ما يسميه أفلوطين بالوجد، وذلك في رسالته عن الواحد في نهاية التاسوعة السادسة. والوجد بهذا المعنى اندهاش ونشوة وسعادة قد تصل إلى حد الجنون، والوجد، بالمعنى اليوناني للكلمة، قد يكون من معانيه كذلك الوقوف والسكينة والسكون. وأفلوطين يشير بذلك إلى المعنى الأصلي لهذه الكلمة وهو مغادرة الموضع والتخلي عن المكان أو الخروج منه، أي خروج الإنسان عن ذاته وعلوُّه عليها وعلى كل علاقة تربطه بالكون وما فيه، هذا الخروج من الذات هو في الحقيقة دخول إليها ورجوع إليها. ولا بد لنا لكي نعيش هذه التجربة أن نجرِّد لفظتي الدخول والخروج من كل مدلولٍ مكاني يَعْلَق بهما كما لو كُنَّا ندخل من بابٍ ونخرج منه، ولا بد للتجربة من أن تتخلَّص من كل عنصرٍ كوني أو عالمي، كما لا بد لها أن تتجرد من كل صبغةٍ نفسية أو اجتماعية. إن تجارب الدهشة والقلق الحقيقيين تجارب وجد، أي خروج من العالم وعلو عليه. والدهشة والقلق هما الطريق إلى تجربة المتعالي، أو قُلْ هما التجربة نفسها، وليس معنى ذلك أن كل مَنْ يعاني القلق أو يجرِّب الدهشة فقد جرَّب المتعالي أو اقترب منه، بل معناه أن كل مَنْ يعلو فوق ذاته وفوق العالم فلا بد أن تعصف به ريح القلق وتغلِّف عينَيه سحابة الدهشة.

قلنا: إن المتعالي ليس مما يدخل في العالم، وبالتالي لا يمكن أن يكون موضوعًا للفكر؛ لأن هذا يستمد موضوعه من العالم وما فيه، فإذا كان هذا هو شأن المتعالي، فهل يعفينا ذلك من محاولة التفكير فيه والبحث عن اللغة التي نتحدث بها عنه؟ إن المتعالي لا يمكن أن يظهر في اللغة ظهورًا مباشرًا؛ لأنه ليس ظاهرة من الظواهر على الإطلاق، ولكن هذا لا يعني أن اللغة لا شأن لها به؛ إذ إن المشكلة ستكون عندئذٍ كيف نُعبِّر باللغة عما يتعذَّر التعبير عنه بوسائلنا اللغوية المألوفة؟ وكيف نتكلم عما يمتنع بطبعه أن يكون موضوعًا للكلام؟

يقول فتجنشتين في رسالته المنطقية الفلسفية: «إن ما لا يستطيع الإنسان أن يُعبِّر عنه، عليه أن يسكت عن الخوض فيه.» فإن صحَّت هذه العبارة ففيمَ إذن كان كل هذا الحديث إذا كُنَّا سنلزم الصمت في نهاية المطاف؟ وهل يكون علينا أن نطبِّق كلمة فتجنشتين الصادقة القاسية على المتعالي وقد قلنا: إنه لا يُستطاع التعبير عنه؟ نعم ولا، والمهم بعد كل شيء هو أن نتفق على ما نريد من الصمت، فالصمت لا يقدر عليه إلا مَنْ يستطيع الكلام، والحيوان الأبكم لا يقدر على الصمت؛ لأنه لا يستطيع الكلام أصلًا.

ومِنْ ثَمَّ نستطيع أن نصوغ عبارةً جديدة على نحو عبارة فتجنشتين وإن كانت تختلف عنها كل الاختلاف، فنقول: «إن ما لا نستطيع أن نتكلم عنه، لا نستطيع أن نقول عنه: إننا لا نستطيع الكلام عنه»، عبارة محيرة ولا شك! ولكنها على عكس ما قد يبدو من ظاهرها، لا نعرف الخبث ولا نقصد التلاعب بالألفاظ، إنها تنقلنا إلى آخر حدود اللغة، حيث يكون العجز عن الكلام أصدق من كل كلام، ولكن لماذا تقف اللغة الموروثة ويقف الفهم العادي موقف العاجز أمام المتعالي؟

لقد اعتمدنا في نقدنا السابق لما سميناه بالفهم السليم (أو الحسِّ المشترك Common-sense) على أن المتعالي ليس شيئًا ولا يمكن الحديث عنه أو التفكير فيه كما نتحدث في العادة عن شيء أو نفكر في شيء، وكشفنا عن الموقف غير الميتافيزيقي الذي يقفه ما نسميه بالفكر السليم والذي أوجزناه في هذه العبارة التي لا يفتأ يرددها ويجعل منها شعارًا لنفسه: «الكُلُّ كُلٌّ والعدمُ عدمٌ.»

والواقع أننا لا نُنكِر أن الفهم السليم قد يتجاوز العالم ويعلو عليه، ولكن هدفه الدائم من هذا العلو هو إثبات العالم. وإثبات العالم عنده هو وليد إثبات الذات التي تريد تحقيق السيطرة على العالم. وإذا حدث له مرةً أن فكَّر في الموت فهو عنده النهاية الظاهرية للحياة، تلك النهاية التي تتبعها حياة لا تعرف الموت، والفهم السليم لا يريد بذلك أن يُفْهَم أن الموت ليس حدثًا يختم كل أحداث الحياة ويضع نهايتها، بل هو شيء يحيط بالحياة في كل لحظة، لا بل إن الحياة نفسها من لحظة الميلاد إلى لحظة الاحتضار ما هي إلا موتٌ متَّصل؛ ولهذا وحده استحقَّت أن تُعاش، فالفهم السليم لا يهمه في الحالين إلا أن يثبت قوته المطلقة ويؤكِّد سيطرته على العالم. ألا يعتقد أنه يفهم كل شيء أو يستطيع أن يفهم كل شيء؟ فكيف لا يذهب إلى التحكُّم في كل شيء وإثبات أنه هو كل شيء؟ ألا ينسى الفهم السليم بذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يتصور «كل شيء» بدون أن يتصوَّر العدم و«اللاشيء»، وأنه لا يستطيع أيضًا أن يعلو فوق كل شيء حتى يتخلَّى عن كل شيء؟ وإذن فالعلو الذي يحاوله الفهم السليم — إن حاول على الإطلاق — إنما هو عُلوٌّ فاسد لا يرتفع بصاحبه فوق العالم إلا لكي يعود فيسقطه فيه؛ ذلك لأنه ليس عُلوًّا على الذات والعالم من أجل العلو في ذاته، بل من أجل إثبات هذه الذات وتأكيد سيطرتها على العالم.

فإذا لم يكن هذا هو العلو الحق، فأين نجده إذن؟

قلنا: إن العلو يكون فوق كل شيء على وجه الإطلاق، ولا بد لنا الآن من الوقوف عند هذا الشيء الذي نريد أن نعلو عليه.

كل ما هو موجود فهو معيَّن ومحدود، وكل ما هو معين ومحدود فهو محتوًى في محل، وكل ما يُقال عنه: إنه «في غيره» فهو يقبل العلو عليه، لا بل يلزمنا بهذا العلو ويدعونا إليه، ولكن العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق لا يمكن أن ينتهي بنا إلى شيء أخير، وإلا لزم العلو عليه أيضًا، كما لا يمكن أن يفضي بنا إلى ما «في محل»؛ لأن كل «ما في محل» فهو قابل بالضرورة أن يُعلى عليه، وعلى ذلك فإن العلو على كل شيء على وجه الإطلاق لا يمكن أن يؤدي إلى شيء أو موضوع، ولا يمكن أن يصبح هو نفسه شيئًا أو موضوعًا.

لقد عرَّفَت فلسفة الوجود — وبالأخص عند هيدجر — وجود الإنسان بأنه موجود في العالم، وكلمة «العالم» في أصلها اليوناني واللاتيني تعني cosmos، كما تعني Mundus على الترتيب، ولكن معناها المكاني ليس هو معناها الوحيد، بل إن معناها الأصلي معنًى حضاري اجتماعي يدل على الإنسانية جمعاء. وما زالت كلمة العالم في اللغة العربية تدلُّ على مجموع الناس كما تدل على المكان الذي يعيشون فيه، وقد ظل الناس من عهد اليونان إلى العهد الحديث يتصوَّرون العالم على أنه كرة أو دائرة، وليس المهم في هذا التعبير هو كروية العالم أو دورانه، بل تصور محتوٍ قائم بذاته مكتفٍ بنفسه. وما زلنا نتحدث في لغتنا اليومية عن دائرة الأسرة أو دائرة المجتمع أو محيط السياسة … إلخ، فلا نقصد بذلك كله دوران الأسرة أو المجتمع بقدر ما نقصد كيانًا مستقلًّا يحتوي على غيره ويتميز عما عداه بالتمام والاكتفاء؛ فالعالم إذن دائرةٌ تامة وأفقٌ محدود يدور فيه وجودنا وفكرنا. ولقد حاول ياسبرز في العصر الحديث (في كتابه عن العقل والوجود) أن يستخرج فكرته عن المتعالي بوصفه الشامل المحيط من فكرة الأفق، بَيْدَ أن كل أفق بما هو كذلك يحيلنا إلى ما هو أبعد منه، وكذلك العالم يُشير إلى ما هو أبعد منه، لا إلى عالمٍ آخر — لأن هذا العالم الآخر لا بد وأن يشير إلى عالمٍ آخر سواه — بل إلى ما ليس بعالم ولا أفق على الإطلاق. ولكن ماذا عسى أن يكون هذا العالم الذي ليس بعالم ولا من العالم، لا بأفق ولا في أفق، وكيف نجد له اسمًا؟

سنحاول أن نعبِّر عما يدل عليه من تحرُّر وتفتُّح وانطلاق فنسمِّيه «الانفتاح»، وسنُسرع فنقول عنه: إنه لا يمكن أن يكون موضوعًا ولا شيئًا؛ فكل موضوع أو شيء يكون محتوًى في غيره، والانفتاح ليس شيئًا ولا في شيء، وهو كذلك يمكن أن يكون موجودًا — لأن الموجود يسري عليه ما يسري على الشيء والموضوع — وإن كان من المستحيل كذلك أن يكون عدمًا؛ إذن فليس لكلمة الانفتاح من معنًى إلا أن تكون رمزًا أو شفرةً نُشير بها إلى ما يحتجب بطبيعته عن الإنسان، أعني إلى المتعالي.

هل هذه هي نهاية المطاف؟ أهذا هو الذي سنصل إليه بالعلو؟ لا بد للإجابة على هذين السؤالين من الإشارة إلى ما فيهما من قصور؛ فالمطاف ليس له نهاية، وبخاصة في الفلسفة! والعلو لا يمكن في الحقيقة أن يوصل إلى شيء، وكل ما قد نستفيده من الانفتاح هو أن نقفز منه إلى ما بعده؛ فهو يحيط بكل شيء ويتوغل في كل شيء (تكفي نظرة واحدة إلى السماء ذات النجوم أو الصحراء الشاسعة أو البحر غير المحدود؛ لنشعر بالقشعريرة التي شعر بها باسكال أمام اللانهاية! فما بالك لو أضفنا إلى ذلك معلومات ساعةٍ واحدة نقضيها مع علم الفلك؟) فإذا عُدنا إلى سؤالنا الرئيسي: إلى أين يؤدي بنا العلو فوق كل شيء على الإطلاق؟

استطعنا أن نجيب بقولنا: إلى الانفتاح، وهذا الانفتاح لا يؤدي بنا إلى شيء ولا إلى ما يحتوي شيئًا، وهنا نعود مرة أخرى إلى فكرة المتعالي بوصفها خروجًا — من — أو وجدًا، وسنجد أننا لن نستطيع أن نتحدث عن الوجد حديثًا شافيًا حتى نتحدَّث عن القلق، ولقد تحدث كيركيكجور ومن بعده هيدجر عن العلاقة الوثيقة بين القلق والعدم فأفاضا في الحديث، ولسنا في حاجة إلى تكرار ما قالاه في هذا الصدد؛ فالقلق تجربة أساسية من تجارب الإنسان، وكلما أحس بالوجد أحس معه بالقلق الذي يصحبه ويلازمه.

ولا بد من التفرقة بين القلق والخوف؛ فالقلق يكمن في شعور الإنسان بخطرٍ يتهدَّده دون أن يكون هذا الخطر صادرًا من شيء أو موضوع بعينه، على عكس الخوف الذي يكون دائمًا خوفًا من شيء أو موضوع، والمهم الآن أن كل تجربة بالوجد تنتزع الإنسان من العالم كما تنتزعه من ذاته لتغوص به فيما يشبه العدم أو الفراغ، وهذا الإحساس بأنه ينتزع من نفسه يحمل في طياته معنى الفزع والجزع والقلق.

وإذن فتجربة المتعالي لا بد وأن تنطوي على القلق، وفي القلق يشعر الإنسان بأن كل شيء يصبح عدمًا أو أشبه بالعدم، وأنه ينزلق منه، يتسرب من بين يديه، يغوص معه في لجَّة معتمة، نقول: يشعر الإنسان، ولا نقول: «كل» إنسان؛ ذلك لأن الإنسان «العملي» من أصحاب «الفهم السليم» — الذي تحدثنا عنه فيما تقدم — لا يمكن أن يعاني الإحساس بالقلق؛ لأنه لا يحس أصلًا بمعنى العدم؛ فالعدم في نظره عدم، أعني أنه لا يستحقُّ منه أن يفكِّر فيه أو يحفل بأمره، وفهمه له على هذا النحو وقوف عند أدنى مستويات الفكر، أعني عند مرحلة العدم = لا شيء، وما ليس بشيء فهو أقل من أن يستحقَّ منه تعب التفكير فيه لحظةٍ واحدة، والنتيجة المحتومة أن يصبح القلق عند أصحاب الفهم السليم هو الآخر عدمًا، فيغلق أبوابه من دونه ليريح نفسه ويستريح.

بلغنا حتى الآن نقطتَين هامتَين نودُّ أن نشير إليهما قبل الانتقال إلى غيرهما:
  • أوَّلًا: كل ما هو موجود فهو موجود «في».
  • ثانيًا: كل ما هو «في» فهو قابل لأن يُعلى عليه.

ورأينا كيف أن ضرورة العلو فوق كل ما هو «في» تتضح من المثال الذي سقناه عن العالم بوصفه دائرة أو كُلًّا مُغلَقًا على نفسه، يشير باستمرار إلى ما يعلو عليه ويتجاوزه، أعني إلى ما ليس بعالم ولا يمكن أن يكون في عالم، وهو ما سميناه بالانفتاح، وجعلناه رمزًا أو شفرةً للمتعالي. فكل تعالٍ هو في نفس الوقت تعالٍ فوق كل ما هو «في» سواء في ذلك أكان هو العالم أو الوجود أو المطلق أو الروح … إلخ. ولكن علينا قبل أن نستطرد إلى نقطةٍ أخرى وأن نحدِّد بقدر الطاقة ما نريده من حرف «في»؛ فهو يُسْتَخْدَم في الأصل ليدل على المكان، كما نقول: الماء في الزجاجة، والضيف في الحجرة، والميت في القبر، وقد يُستعار للدلالة على علاقة زمنية وتبقى الدلالة المكانية على ما هي عليه، وإن أصابها شيء من الشحوب، فنحن نقول: «في» الماضي أو الحاضر أو المستقبل، ونستخدمها في الكلام عن الباطن والنفس والروح، وبالجملة على ما ليس في مكان ولا يمكن أن يدخل في محل. ونحن نقول كذلك: إن الوجود بعامة إنما يلحق بالموجود ويكون «فيه»، ولا يستطيع فكرنا أن يتصور موجودًا أيًّا كان حتى يتصوَّره على نحوٍ من الأنحاء «في» … ولن أستطيع — كما أوضح كانط — أن أتصوَّر جسمًا بغير أن أتصوَّره في مكان. وكذلك الأمر بالنسبة للزمان؛ فأنا لا أستطيع أن أتصوَّر حدثًا من الأحداث حتى أتصوَّره واقعًا «في» زمان. ولا أستطيع أن أتصوَّر حدثًا بغير زمن، يشترك في ذلك كله المحسوس والمعقول، المادة والفكر، والواقع والمتخيل، فكلها تحل على نحوٍ من الأنحاء «في»، وإلا تعذَّر على فكري المحدود أن يتصورها أو يفكر فيها. بل إن في وسعنا أن نقول: إن هذا الحرف الضئيل «في»، الذي لا يكاد يحتمل غمضة عين ليصفَّه جامع الحروف في المطبعة وأقل من غمضة عين ليقرأه القارئ؛ هذا الحرف من العِظَم والشمول بحيث يزيد على «الوجود» نفسه، وهو أكثر الصفات تعميمًا.

يمكننا الآن أن نقول: إن مشكلة المكان — التي عبَّرنا عنها بحرف «في» — تؤدي بنا إلى مشكلة التعالي، وقد تعيننا على إيجاد حلٍّ لها؛ فكل امرئ مِنَّا يذكر المكان حين يذكر الزمان، كما يذكر الزمان حين يفكِّر في المكان. إنه يضعهما إلى جانب بعضهما ولا يخطر له واحد بدون الآخر؛ فالمكان هو نظام التجاور أو وجود الأشياء إلى جانب بعضها، والزمان هو نظام التوالي أو تلاحق الأحداث إثر بعضها، كل هذا يعرضه كانط على وجه التفصيل في الجزء الأوَّل من كتابه الرئيسي «نقد العقل الخالص» تحت عنوان الإسطايطيقا الترنسندنتالية. وما يقوله كانط وتؤكده بعده فلسفة الوجود يتصل اتصالًا وثيقًا بمشكلة تناهي الإنسان (التي يدور حولها تفكير كانط النقدي كله) التي تتصل بدورها بطابع الزمانية والفناء الذي يميز الإنسان.

ولقد سبق باسكال فلسفة الوجود في هذه الناحية أيضًا، حيث يقول على سبيل المثال في الأفكار: «أرى الغرفات المفزعة للكون وأجلس مُقيَّدًا في زاوية منه»، وباسكال بهذه العبارة وأمثالها (وكلها تجعل منه الأب الشرعي لفلسفة الوجود) يُشير إلى مشكلة أساسية من مشكلات الإنسان، فهو لا يعرف لماذا كُتِبَ عليه أن يقبع في ركن من العالم دون غيره (الفكرة ٢٠٥). ولقد سبق باسكال أيضًا إلى هذا التعبير نفسه، وإن كان الوجوديون قد زادوا الكلمة تفصيلًا وربطوها بتحليلات الوجود.

والمهم في هذا السياق هو أن الزمانية تعبِّر عن تناهي الإنسان بأكثر مما تستطيع المكانية؛ فالزمانية من عهد عازف القيثار الفرعوني وسليمان الحكيم تُرادف في ذهن الإنسان معنى التناهي والفناء، والزمان ينقضي دائمًا من ماضٍ إلى حاضر إلى مستقبل، أو لنقُلْ على وجه التحديد: إن الحاضر وحده هو الذي يصبح ماضيًا كما يولد منه المستقبل، ولكننا لا نستطيع في أية لحظة أن نقول: إن هذا هو الحاضر؛ لأنه سرعان ما يكون عندئذٍ قد أفلت وصار ماضيًا، وإن كُنَّا نربط الزمان بالتناهي، فباستطاعتنا أن نربط المكان باللامتناهي. وتعريفنا للتعالي باعتباره عُلوًّا فوق كل شيء — على وجه الإطلاق — يقوم في أساسه على تصورنا للمكان؛ لأنه في حقيقته علو على المكان بكل ما يحل فيه من أشياء إلى ما ليس بمكان، ولا يمكن أن يحل في مكان.

وإذا سأل الآن سائل: إلى أين نعلو حين نعلو على المكان؟ فإنَّا سنحار عندئذٍ بماذا نجيب؛ ذلك أن المكان في الحقيقة أشمل من الزمان. ألسنا نطبق العلاقات والمقولات والأبعاد المكانية على الزمان، كما في قولنا مثلًا في الحاضر، أو في الماضي والمستقبل، ولكن لا نفعل العكس؟ ليست هذه بالطبع هي الإجابة المنتظرة على سؤالنا عن طبيعة المكان، فما هو المكان إذن؟ وماذا نقصد بظاهرة المكان بما هي كذلك وبالإضافة إلى مشكلة المتعالي؟

للمكان دلالتان: فهو يدل مرة على رقعة بعينها تكون محلًّا لحركة من موضع إلى موضع، كما يدل مرةً أخرى على المحل الذي يحدُّه حدٌّ، والواقع أن المكان كما نفهمه اليوم، بمعنى الخلاء الذي يحيط بالعالم؛ لا يدل على المعنى الأصلي للكلمة؛ فليس في هذا المعنى الأخير أثر للفراغ أو الخلاء ولا للامتداد أو الاتساع؛ ذلك أن المكان الحر الخالص المفتوح أسبق من المكان الممتد الذي يحيط بالعالم أو تحيط به الحدود، هذا المكان الخالص — المكان الباطني العظيم الذي يحمله كل إنسان في ذاته — هو الذي يتحدث عنه شاعر مثل رلكه في «مراثي دوينس»، حيث يبدأ المرثية الثامنة بقوله: بكل العيون ترى الخليقة الانفتاح.

هذا المكان الذي يبصره الشاعر في وجوه الأطفال والحيوانات؛ مكان تحرر من الموت ومن كل القيود والأشكال، ينتقل فيه الإنسان كما ينتقل في رحاب الأبدية، وهو المكان الذي يتحسَّر عليه الشاعر أيضًا حيث يقول:

نحن لا نجد المكان الخالص يومًا واحدًا أمامنا.
حيث تتفتح الورود بغير نهاية.

هنا يضع «رلكه» المكان الذي تتفتح فيه الورود في مقابل المكان الذي يحيط بالعالم، فهو مكان لا يعدم النور أبدًا، تستقبل الورود فيه الشعاع؛ فتتفتح وتزدهر وتشرئب نحوه.

علينا أن نفهم المكان بمعناه الأوسع، ظاهرة أولية تُظْهِر نفسها بنفسها، أو ظاهرة أصلية كما قد يقول شاعر آخر مثل جوته؛ فالمكان هنا تفتُّح وحرية، لا فراغ أو خلاء، وفهمنا له على هذا النحو ينبع من فهمنا للمتعالي كما يصبُّ فيه.

ولكن ما هو هذا المكان الحرُّ الخالص المنفتح المنير؟

سيقول الشاعر: إنه لا حدود له حيث لا يوجد النور، بعكس العالم أو المكان الكوني الذي قد يوجد حيث يسود الظلام وينعدم النور، وقد نزيد على ذلك فنقول: إنه المكان الذي لا تحده الحدود؛ لأنه يعلو على كل ما هو معدوم وموجود. إنه بعبارة أخرى: مكان بلا مكان، هو الانفتاح الخالص الذي تتحدث عنه المرثية الثامنة لتقول: بكل العيون ترى الخليقة الانفتاح، ونحن لا نستطيع أن نعطي هذا الانفتاح الذي يتحدث عنه الشاعر اسمًا وإلا حددناه بالقول ووضعناه هو نفسه في مكان. «فما نسميه تسميةً عاجزة بالانفتاح لا يعرف النوافذ والجدران، إنه لا يوجد «في» وليس له عالم ولا صلة له بما يوجد في العالم»، بل الحقيقة أننا لا نستطيع أن نتحدث عنه على الإطلاق، وكل ما نملكه هو أن نترك الانفتاح ينفتح، إن صح هذا التعبير، أعني أن نجرِّبه تجربة باطنية لا أن نطلق عليه اسمًا من الأسماء.

ليس من الصعب أن نخلص مما تقدم إلى هذه النتيجة: إن المكان هو راموز المتعالي أو شفرته، وقد كان علينا — لنصل إلى هذه العبارة — أن نبين أن ما نقصده من المكان لا يقتصر معناه على عالم الأجسام ولا على الخلاء المحيط به من كل جانب؛ فاستبعدنا المكان بمعنى صورة عالم المادة والأجسام أو صورة العيان الأولية كما سماه كانط، وبمعنى الوعاء الذي تتلامس فيه الأشياء وتتم فيه علاقات الحركة من موضع إلى موضع؛ ذلك أن تصورنا للمكان جاء من فعل «التمكين» نفسه — إن جازت هذه الكلمة — أي من إعطاء المكان لا من الإحاطة به وتطويقه.

وهنا يواجهنا سؤال بعد سؤال، وبخاصة إذا عرفنا أن المكان لا يُذكَر بمعزل عن الزمان، فما هو أصل المكان والزمان؟ هل هناك جذع شجرةٍ مشتركة يتفرعان منها؟ وأين نجد هذه الشجرة؟ وفي أي أرض؟ ومن أين نفهم إحساس الإنسان بالتناهي؟ أمن شعوره بأن المكان غير محدود في حين أنه هو نفسه محدود؟ أم من شعوره بأن الزمن الذي يُفنيه هو نفسه لا يَفنى؟ وإذا كانت فكرة اللاتناهي لا تزال تشغله وتؤرقه ولن تزال كذلك ما بقي على الأرض إنسان، فهل يأتي تصوره للاتناهي من رهبته أمام المكان الأبدي الصامت كما يعبر باسكال؟ أم من خوفه من الزمان والدهر الذي يُفني كل ما فيه؟

من الخير عند الإجابة على مثل هذه الأسئلة أو محاولة الجواب أن يعود المرء إلى أول مَنْ سألوها على الإطلاق؛ فقد سألت الفلسفة اليونانية وهي في مهدها الأوَّل: ما هو الوجود «وهو السؤال المشهور: تي تو أون»، وعبرت الفلسفة الحديثة على لسان ليبنتز عن نفس السؤال في هذه العبارة: لِمَ كان وجودٌ ولم يكن بالأولى عدم؟ في كِلا السؤالين استفسار عن الموجود، ينبعث عما سماه اليونان اﻟ «لتاومازين» أو الدهشة، والدهشة التي دفعت إليهما كانت دهشة من وجود الموجود على الإطلاق، لا من كيفية وجوده أو علِّته، ولا من قصر عمره أو تناهيه، إنهما لا يسألان عن الزمان أو الأبدية، لا يقولان مثلًا: لِمَ كان زمانٌ ولم تكن بالأولى أبدية؟ ولا يقولان: ما هو التناهي وما أصله على الإطلاق؟ وليس معنى هذا أن هذه الأسئلة هينة الجواب أو غير جديرة بالسؤال، وليس معناه أننا نجد الحل الحاسم لها حين نفر منها بوجه أو بآخر، حتى ولو كان هذا الفرار عبقريًّا «فما زال التعبير اليوناني القديم عن دائرة الزمن التي لا تبدأ ولا تنتهي، ولا تكون ولا تفسد، والذي أخذه نيتشه في العصر الحديث فزاده عُمقًا وزادنا حيرةً في تفسيره، وأعني به تعبيره المشهور عن عودة الشبيه الأبدية، أقول: إن هذا التعبير ما زال يحيِّرنا ويبعدنا عن الجواب أكثر مما يُقرِّبنا منه»، بل معناه أننا نقدِّم المكان على الزمان، كما نعترف له بالأسبقية عند مناقشتنا لمشكلة المتعالي.

وهنا نعود للكلام عن «المكان الخالص».

فما معنى هذه الكلمة الأخيرة؟ هل معناها المكان الخالي من كل شيء المجرد عن كل جسم؟ لا شيء من ذلك، وإلا فهمنا المكان بمعنى الخلاء، الأمر الذي نفيناه من قبل. إن كلمة «خالص» تفيد من دلالتها اللغوية معنى النقاء وعدم الامتزاج بعنصرٍ غريب، والمكان الخالص ليس شيئًا غير ما سميناه بالانفتاح.

وكلاهما يكون وحدةً جوهريةً بسيطة، إنه يختلف عن المكان الذي «تكمن» فيه الأشياء، ولكن مكان الأشياء أو العالم أو الكون لا يمكن تصوُّره بغير المكان الخالص، فما الفرق بينهما إذن؟

«المكان الخالص» هو الذي تجرد عن «أين»، ولم يعرف «هنا» أو «هناك»، بعكس المكان الذي يحوي الأشياء ولا يمكن تصوره بغير «أين»، أي بغير أن يكون هو نفسه محتوًى في مكان سواه.

وقد رأينا أن كل ما هو موجود فهو شيء، وكل شيء فهو في «أين»، بل كل فكرة فهي «في» …

ولكن ماذا عسى أن يبقى من مكان سقطت منه «أين»، وفي أي عالم نجده وفي أي كون، والعالم والكون لا يمكن تصورهما بغير «أين»؟ إنه إن كانت قد سقطت عنه «أين» فقد بقيت منه «في» خالصة وباطنة، ولا تعرف الموضع ولا المحل، فالمكان الخالص إذن باطن خالص لا ظاهر له؛ وبالتالي لا يمكن التعبير عنه، كما لا يمكن للباطن أن يتخذ شكلًا أو يظهر في مظهر.

من المكان الخالص بهذا المعنى تصل إلى العلو، إنه بلوغ الباطن الذي لا ظاهر له. والباطن الذي نعنيه يعلو بدوره على كل باطن وظاهر قد تعبر عنه لغة أو يلفظ به لسان.

هل سينتهي بنا فعل التعالي إلى الباطن؟

الأمر كذلك بالفعل، وليغفر لنا القارئ ما في هذه العبارة من مفارقة: إن التعالي هو في الحقيقة تعالٍ إلى الأعماق.

ونعود الآن فنسأل: ما هو هذا التعالي أو العلو؟ ومن الذي يقوم به؟

الحق أن طبيعة العلو تبدو من الوهلة الأولى بسيطة غاية في البساطة؛ فالذهن ينصرف عند التفكير فيه إلى أمورٍ ثلاثة: ذلك الذي نحاول أن نعلو عليه، وذلك الذي نريد أن نعلو إليه، وأخيرًا ذلك الذي يعلو ويعاني عملية العلو نفسها.

ولكن مَنْ هو الذي يعلو ويعاني تجربة التعالي؟

العلو فعل، وكل فعل يفترض مَنْ يقوم به، والقائم به هنا هو الفرد الذي يعلو بالفكر ويحقق بذلك الفعل الفلسفي، أي الإنساني الأصيل، وقد يتبادر إلى الذهن أن المراد به ذاتٌ متماسكة ترتفع من منطقة إلى منطقة تعلو عليها.

والاعتراض الشكلي البسيط على هذا نجده في تعريفنا السالف للتعالي، فالذي يعلو على كل شيء يعلو بالضرورة كذلك على ذاته، على أن العلو على الذات ليس فرارًا منها ولا إلغاءً لها، وسنلجأ إلى ضرب من المفارقة في التعبير حين نقول: إن الإنسان الذي يعلو على ذاته هو وحده الذي يعود إليها بحق، ومصداق هذا هو ما نجده في تجربتَي: الدهشة والقلق؛ ففي الدهشة الحقة، عندما يفتح الإنسان عينَيه فجأة على الوجود فيسأله: ما أنت ولِمَ وُجِدت ولم تكن بالأَوْلى عدمًا؟ يتجلَّى كل شيء كأنه يستحم في نور جديد، ويصبح كل ما اعتدناه شيئًا غريبًا غير مألوف.

وكذلك الأمر حين يفاجئنا الإحساس بالقلق فنشعر بأننا نعلو على كل شيء، بل بأننا نعلو على قلقنا نفسه، وأن كل شيء ينزلق مِنَّا كما يقول باسكال، وفي تجربة الوجد التي تحدثنا عنها شاهدٌ على ذلك.

فقد رأينا — فيما تقدم — أن التعالي يحمل طابع الوجد أو الجذب، أي أنه حال يخرج فيها الإنسان عن نفسه وعن العالم كله، فهل يكون التعالي بذلك فعلًا كبقية الأفعال التي تجري في الزمان؟ لا يمكن أن يكون كذلك؛ لأن الزمن نفسه يُعلى عليه، أين إذن يحدث هذا العلو؟ في اللحظة، فجأة وعلى غير انتظار، وقولنا «يحدث» اضطرار يدفع إليه قصور اللغة، فليس هنا ثمة حادث يتم في زمان؛ لأن الزمان لا بد أن يُعلى عليه، ما دمنا سنعلو على كل شيء، وبالتالي على الزمان.

كذلك فإن التعالي ليس فعلًا من أفعال الذات.

ومعنى هذا أن التعالي لا يقوم به الإنسان بنفسه، بل يحققه ذلك «الآخر» الذي نحاول العلو إليه، وإذا شئنا الدقة وجب علينا — كما تقدم — أن نفكِّر في الإنسان من ناحية المتعالي لا العكس، وهنا لا نكون في حاجة إلى القول بأن الإنسان «يعلو»، بل ينبغي عندئذٍ أن نقول: إنه «يُعلى به»، وليس معنى هذا أنه سلبيٌّ مستسلم ينتظر اليد التي ترفعه فوق السحاب، بل معناه أن التعالي ليس على الحقيقة فعلًا من أفعاله، يقوم به متى شاء وكيف شاء «وإن يكن قد عانى كل ألوان المشقة وتخلَّى عن كل ما يشغله من هذا العالم؛ لكي يكون على استعداد لتلقي شعاع واحد من نوره»، وليس معناه أيضًا أننا نلغي الذات الإنسانية أو نمحوها؛ لأن الذي يعلو فوق ذاته هو وحده الذي يستطيع أن يعود إليها بحق.

لا بد الآن أن القارئ يسأل: ولكن كيف يعود من يعلو على نفسه أول ما يعود إلى نفسه؟

إن الإنسان الذي يعاني تجربة المتعالي إنسانٌ وحيد، وحدته هذه ليست اعتذارًا عن تعاسته؛ لأنها وحدة مع الواحد، وليست وحدة فاسدة لمن يعيش بمفرده بعيدًا عن الآخرين. ولا أحسبني في حاجة لبيان الفارق الكبير بين الوحدة والانفراد؛ فالوحدة معناها الذي نفهمه هنا لا تنفصل عن الجماعة؛ لأن الوحيد وحدة أصيلة هو في نفس الوقت مَنْ يعيش مع الآخرين، أمَّا المنفرد فهو الذي يعيش حقًّا «وحيدًا» بمفرده، ولكنه يتلفت بقلبه على الدوام صَوب الآخرين.

فليس انفراده في الحقيقة تفرُّدًا أصيلًا، ولو عاش بين جدران أربعة، إنه يفتقدهم دائمًا ولا يستطيع أن يستغني عنهم لينفرد بحق مع من لا يصح الانفراد بأحدٍ سواه، وأعني به الواحد الآخر الهو، وهنا نجد أنفسنا مضطرين إلى العودة إلى المفارقة لنقول: إن الوحيد بحق هو مَنْ لا يعيش وحيدًا، ولقد كان أفلوطين — كما قدَّمنا — هو أول مَنْ عاش حياة الوحدة، ولكنه لم ينطوِ على نفسه أو ينعزل عن الناس، بل عاش — على حد تعبيره — «وحيدًا مع الواحد»، فالوحيد حرٌّ لا تربطه صلة بأي شيء أو أي موجود، وقد نستطيع أن نصفه بصفةٍ صوفية أصيلة، فنقول: إنه عريان عن كل شيء، فهو مستغنٍ عن كل شيء؛ لأنه غني «بالكل» عن كل شيء، وهو متحرِّر من كل شيء؛ لأن باطنه متصلٌ بأصل الأشياء جميعًا، مكتفٍ بالوجود نفسه عن سائر الموجودات.

بهذا المعنى الأصيل للوحدة نجد الصلة الوثيقة بما سميناه بالانفتاح، فنحصل على راموز أو شفرة جديدة للمتعالي، ألا وهي الحرية، وهنا أيضًا يفاجئنا اعتراض خطير: إلى أين يفضي بنا العري عن كل شيء إن لم يكن إلى الفراغ؟

ونردٌّ على هذا الاعتراض قائلين: إن خلاص الإنسان من كل صلة بالموجود، هو في الوقت نفسه ارتباط بالمُطلَق، أي أن وحدته بعيدًا عن كل موجود، هي في حقيقة الأمر وحدته مع الواحد الموجود، والإنسان لن يستطيع أن يكون وحيدًا وحدةً حقيقيةً إلا في لحظة — وأقول في لحظة — علوه فوق كل شيء على وجه الإطلاق، هنالك يتفتح له سر هذا الشيء الغامض الذي كافحت الإنسانية على مرِّ الأجيال لتؤكده، ألا وهو الشخصية، وليس معنى هذا أنه يكتشف في تجربة العلو أنه فرد فريد وحسب، بل معناه أن العلو أو التعالي فعل شخصي محض، لا بل هو الفعل الشخصي الذي لا يستطيع أحد أن يعاوننا على مكابدته أو ينوب عَنَّا فيه. مثل تجربة العلو في هذا كمثل تجربة الموت، إن صح أن للموت تجربة؛ فليس لأحد أن يحتمل عَنَّا عذابه أو ينوب عَنَّا ساعة الاحتضار، كُتِبَ علينا أن نموت وحدنا، كما كُتِبَ علينا أن نحقق تجربة العلو وحدنا.

إذن فلا تعالي بغير وحدة، ولا وحدة بمعناها الأصيل بغير تعالٍ، والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يملك أن يكون وحيدًا وحدة كاملة؛ لأنه هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يعلو على ذاته وعلى العالم، أي إلى معنى هذا العالم وقيمته العليا التي لا يمكن — حتى من الناحية المنطقية البحتة — أن تكون قائمة في داخله، كما يلاحظ فتجنشتين بحق في نهاية رسالته المنطقية الفلسفية، وهو على الرغم من كل ألوان التعاسة التي يلمسها كل يوم، يملك تلك الغريزة التي لا يستطيع — على حد قول باسكال (الفقرة ٤١١) — أن يكبتها في نفسه، والتي ترفعه — على الرغم من كل شيء — فوق كل شيء؛ سيعجز حين يصل إليه أو يظنه أنه وصل إليه عن التعبير، وسيجد أن المضمون الحق يمتنع أصلًا على التفكير، وأن الواحد الفرد المفرد — أو ما نشاء له من أسماء — لا يمكن أن يكون موضوعًا للتفكير المنطقي المستمَدُّ من العقل، ملكة الحساب والاستنتاج والترتيب (ليس معنى هذا أننا نغضُّ من شأن العقل، فهو أساس كل تفكيرٍ علمي، ولولاه ما كان علمٌ فزيائي ولا رياضي، ولا قامت حضارة ولا صناعة)؛ ذلك لأن الفكر الحق لا يفكر في موضوعه، ولا يجعل منه موضوعًا يقابل الذات المفكرة لتُقْبِلَ عليه بالتفسير والتحليل والتعليل، وتقع في شباك الصراع الأزلي بين الذات والموضوع، إنه يصطدم بالموجود الحق، أو قل: يشتعل به ويتَّقد. كذلك كان يفكِّر بارمنيدز وهيراقليطس وأفلاطون حتى يصل هذا الفكر إلى ذروته عند أفلوطين ومَنْ بعده من متصوفي الشرق والغرب، فالفكر عندهم هو — قبل كل شيء — تجربةُ وَجْدٍ وانفعال وحماس، وهو في صميمه تجربةُ اندهاشٍ بالمعنى الأصيل لهذه الكلمة التي جعلها أفلاطون أصل كل تفلسف، أمس واليوم وغدًا إلى أبد الآبدين، هنالك يفقد الإنسان نفسه ويجدها، يحترق ويصفو، يتعذَّب ويصمت.

هل بقي في زمنٍ أصبح يعادي المتعالي ويعانده بكل قوته — ربما لأنه يخافه ويهرب منه — مَنْ لا تزال لديه المقدرة أو الرغبة في العلو إليه؟ وهل نجد بيننا مَنْ يحتمل مشقة العلو على العالم والمجتمع والعصر، لا لأنه يتعالى عليه أو يفرُّ منه، بل لأنه يريد أن يجرِّب الحياة كأنما وُلِدَ فيه من جديد، ويبذل جهده لكي يحبه ويفهمه ويغوص بحقٍ في جذوره وأعماقه؟

من يدري؟

١  الأفكار، ٤٣٤، طبعة برونشفيج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤