قدر المفكرين حزين

«إن كان الفكر هو قدرك، فأجِلَّ هذا القدر إجلالك لله، وضحِّ من أجله بأفضل شيء لديك، وأحبِّ شيء إلى نفسك.»

الذي قال هذا الكلام لم يَكتفِ بقوله، بل عاشه وقدم حياته دليلًا على صدقه، لم تعد شخصيته اليوم موضعًا للنقاش العقلي أو الجدل الفلسفي كما كانت منذ نصف قرن؛ فقد هدأت العاصفة التي أثارها نيتشه، وسكنت الأمواج التي بعثتها روحه العتية الغاضبة، ولم تعد هناك حاجة لأن يختصم الناس حوله، أو يحذروا أبناءهم من قراءته، أو يؤلفوا الكتب للتشهير به، ولا عادت هناك أعياد «ديو نيزيوس» تُقام باسمه، كما كان الحال في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، ومع ذلك فلا يكاد يتنازع اثنان اليوم حول مكانته، ولا يكاد أحد ينكر دوره الكبير في تطور التفكير الحديث؛ فهو بمفرده يمثل بداية مرحلة أو بالأحرى نهاية مرحلة في تاريخ هذا التفكير، مئات الكتب توضع عنه، حتى ليوشك عددها أن يزيد على ثلاثة آلاف كتاب، ومئات العلماء يؤلفون الأبحاث التي تتناول فلسفته ومأساة حياته في دقة وعمق لا مزيد عليهما، ومئات المحاضرات تلقى عنه في مختلف الجامعات والمحافل العلمية.

ما الذي نستطيع أن نُضيفه إلى هذا كله، وليس فيه على ما يبدو مجال لجديد؟ أنكتشف في هذه الغابة الكثيفة دربًا مجهولًا والعلماء قد تركوا آثار أقدامهم في كل مكان؟ أم نواجه اليوم في حياتنا شيئًا يذكِّرنا بنيتشه ويدعونا إلى صحبته أو إعادة النظر فيه؟ لقد هدأت العاصفة التي أثارها كما قلتُ، وأصبح في مقدورنا — على خلاف الجيل الذي عاش بين الحربَين العالميتَين — أن نتأمل في فلسفته من مسافة بُعدٍ كافية، بحيث نتجنب الحماس في مدحه أو المبالغة في اللوم عليه، وليست مسافة البُعد هذه بالأمر الهيِّن الذي يمكننا أن نغفله أو نقلل من شأنه، بل هي في الحقيقة من أثمن ما يملك الإنسان في زمن ضاعت منه «عاطفة البُعد» في كل مجالات الحياة، على حد قول نيتشه نفسه، فهذا البُعد كفيل بأن يصحح نظرتنا إليه، ويزيل عنها سحابة الحقد أو غشاوة التعصب، وهو كفيل بأن ينأى بنا عن الحكم على فلسفته أو لها، فذلك شيء بعيد عن الهدف من هذه السطور؛ لأنها تهدف إلى شيء أبسط من ذلك بكثير، ألا وهو أن نعيش مع نيتشه بضع لحظات، أو بمعنى آخر: أن نحاول معًا أن نفكر فكره.

•••

«إن كان الفكر هو قدرك، فأجِلَّ هذا القدر كما تجلُّ الله، وضحِّ من أجله بأفضل شيء عندك وأحبِّ شيء إلى نفسك.»

الفكر إذن قدر، فكيف نشارك في هذا القدر، وهو — كما نعلم — قدرٌ تعيس؟ والمفكر قد انتهى به التفكير إلى الجنون، فما الذي يغرينا بصحبته، ونحن نحاول أن نحافظ على البقية الباقية من عقلنا، في عالم يحملنا كل شيء فيه على الموت أو الجنون؟! لنحاول أن نغوص في هذا التفكير، وسنجد أننا نغوص في متاهة تسلمنا إلى متاهة، ولنجرِّب أن نمسك بخيوط هذا القدر، وسنرى أنها تتشابك وتتعقَّد، بحيث تسوقنا في النهاية إلى ظلام لا يمكن الاهتداء فيه، أو غموض لا سبيل إلى التعبير عنه، ومع ذلك فلا داعي لليأس قبل أن نخطو الخطوة الأولى على الطريق! ولنحاول أن ننظر في شيء يعبر عن هذا الفكر أو يصور قدره.

من أهم الشواهد التي تعبر عن قدر نيتشه في المرحلة الأخيرة من حياته تلك القصائد التي يسمِّيها بأناشيد ديونيزيوس، وهي مجموعة من الأشعار ذات إيقاع حرٍّ، تنتمي للمرحلة التي وضع فيها كتابه «زرادشت»، وإن لم يجمعها أو يدوِّنها في صورتها النهائية إلا قبل إصابته بالجنون بزمنٍ قليل، إنه يقول في إحدى هذه القصائد أو «الديثيرامب»١ التي جعل عنوانها «بين الطيور الجارحة»:
الآن
مفردًا معك،
مثنًّى في معرفتي
بين مئات المرايا.
مُزيَّف أمامك أنت
بين مئات الذكريات،
مرتاب،
مُتعَب في كل جرح،
بردان في كل صقيع،
مخنوق بيدي،
عارف بنفسي،
جلاد نفسي!

وبعد هذه القصيدة بقليل نجد في المجموعة قصيدة أخرى هي «الشمس تغيب» تختتم بهذه الأبيات:

الوحدة السابعة!
ما أحسست أبدًا
بالأمان الحلو أقرب إليَّ
ولا بنظرة الشمس أدفأ عندي.
ألا يتوهج الثلج فوق قمتي حتى الآن؟
ها هو قاربي يسبح بعيدًا،
فضيًّا وخفيفًا كأنه سمكة …

ثم تبدأ «شكوى أريادنه» بهذه الأبيات:

من يُدفِئني؟ من الذي لا يزال يحبني؟
أعطوني يدين دافئتين!
أعطوني فحم القلب!
ممدَّد مرتعش،
أشبه بنصف ميت، يدفئون قدميه،
تنفضني — آه — نيران حمى مجهولة،
وأرتعد من سهام الصقيع الحادَّة،
مُطارَد أمامك، يا أيتها الفكرة!

وتنتهي قصيدة «المجد والأبدية» بالأبيات الآتية:

يا درع الضرورة!
يا كوكب الوجود الأعلى!
يا من لا تدركه رغبة،
ولا تلطخه «لا»،
يا «نعم» الوجود الأبدية
أنا «نَعمُك» إلى الأبد
لأنني أحبك، يا أيتها الأبدية!

في هذه المجموعة الواحدة من القصائد المذهلة نجد الشك والتمزُّق الأليم:

… مثنى في معرفتي
بين مئات المرايا
مزيَّف أمامك أنت، بين مئات الذكريات.
مرتاب.

إلى جانب الاطمئنان الجميل، والراحة السعيدة:

… ما أحسستُ أبدًا …
بالأمان الحلو أقرب مني …

وفي المجموعة نفسها نجد البرودة الرهيبة، التي توشك أن تصير تجمُّدًا:

… متعب في كل جرح
بردان في كل صقيع …

إلى جوار الإحساس بالدفء الخالص الذي يوشك أن يتجاوز طاقة البشر:

… ما أحسست أبدًا
بالأمان الحلو أقرب إليَّ
ولا بنظرة الشمس أدفأ عندي …

تقف جنبًا إلى جنب مع نوع من الأَسْر الذي يوشك أن يصبح اختناقًا، ويكاد ألا يكون منه هروب أو نجاة، لأن اليد تمتد بالحبل الذي يلتفُّ حول الرقبة:

مخنوق بيدي،
عارف بنفسي!
جلاد نفسي!

وتتبعها خفة وانطلاق يُخيَّل للإنسان أنهما لا يتصلان بهذه الأرض:

ها هو قاربي يسبح بعيدًا
فضيًّا وخفيفًا كأنه سمكة …

نجد هذا كله في تلك المجموعة النادرة من الأبيات، اليأس القاتل والضياع الموحش:

من يدفئني؟ من ذا الذي لا يزال يحبني؟
ممددٌ مرتعش،
أشبه بنصف ميت …

مع التأكيد المفعم بالحياة، والترحيب المطلق بها:

ذلك لأنني أحبك، يا أيتها الأبدية! …

مثل هذه الأبيات لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى سرها دفعة واحدة؛ إنها تحتاج إلى السير على طريقٍ طويل من الصبر والتفسير والتعمق، وتزداد هذه الحاجة إلحاحًا كلما حاولنا فهم هذه «النَّعم» التي تختتم بها قصيدة «المجد والأبدية»:

يا نعم الوجود الأبدية،
يا من لا تلطخها «لا»،
أنا إلى الأبد «نَعَمك» …

والتي تصل إلى أقصى قوتها؛ لأنها تصل إلى أقصى درجة من التجريد في هذا البيت: «يا من لا تلطخها لا» … ذلك لأن من أقدم أنظار الفلسفة أن النعم الخالصة لا يمكن التعبير عنها أو التفكير فيها إلا على هيئة النفي المزدوج، أي نفي النفي أو لا اللا، وإن دلتنا هذه الحقيقة على شيء فهي تدلُّنا على أن قدر نيتشه — أو القدر الذي ساقه إليه تفكيره — لا يمكن أن تفي بالتعبير عنه صيغةٌ مبسطة، بل لا يمكن أن تفي به أية صيغة من الصيغ، على كثرة محاولات المفسرين إلى يومنا الحاضر، أضِف إلى ذلك أن فكرة القدر نفسها تنطوي بطبيعتها على شيء قد نسمِّيه بالغموض أو الألغاز، وقد نصفه بالعلو على كل ما هو بشري أو أرضي، ومهما أشار المفسِّرون والشارحون بإصبع الاتهام إلى الجنون الذي انتهى إليه نيتشه، زاعمين أن هذه النهاية وحدها تدين فلسفته وتحكم عليه بالتناقض، ومهما اعتقد فريق منهم أن المحاولة التي قام بها للانتصار على ما سماه بالعدمية كانت محاولةً ناقصة وفاشلة، فلن يحملنا ذلك كله على النظر إلى قدر نيتشه نظرة النفي والإنكار، أو الزجِّ به في صيغة من الصيغ الجاهزة التي تتستر برداء المذهب أو التاريخ، لتحاول فيما تزعم أن تفهمه، وسنتجنَّب في كل الأحوال أن نُصْدِرَ عليه أو على فلسفته حُكمًا من تلك الأحكام الغليظة الشائعة التي كثيرًا ما تُبسِّط كل شيء لتفسد كل شيء، وسنتذكر ما يقوله في الجزء الأول من زرادشت في الفصل الذي يتحدث فيه عن ذباب السوق: أنت يا من تحب الحقيقة! لا تشعر بالغيرة من هؤلاء المطلقين والمتعجلين! فلم يحدث أبدًا أن تعلقت الحقيقة بذراع مطلق … بطيئة هي تجربة كل الينابيع العميقة، عليهم أن ينتظروا طويلًا، حتى يعرفوا ما الذي سقط في أعماقها.

سنحاول إذن أن نتجنب هذا كله؛ لأن احترامنا لمثل هذا القدر أكبر من أن يصرفنا عن الهبوط إلى هذا الينبوع العميق …

•••

كان الفكر هو قدر نيتشه.

ولكن ماذا نقصد بالفكر؟ وماذا نريد بالقدر؟ أمن الممكن أن يصبح الفكر — وهو نشاط العقل البشري — قدر الإنسان؟!

ألا يوضع نيتشه في تاريخ الفكر الفلسفي بين من نسميهم فلاسفة الحياة؟ أليست فلسفة الحياة هي تلك الفلسفة التي تبتعد بنفسها عن كل معرفة نظرية أو عقلية، وتتجه إلى الحياة الخصبة المباشرة؟ أليست هي التي تقدم الشعور على العقل، والتجربة على التأمل، والواقع على الفكر؟ لقد تعوَّدنا أن ننظر إلى الفكر — والفكر المجرد بنوعٍ خاص — على أنه بعيد عن الحياة بل غريب عليها، وتعودنا أن ننتظر من فلسفة الحياة تعبيرًا شعوريًّا أو شاعريًّا عن جوهر الأشياء لا أفكارًا مجردة أو تصوراتٍ ذهنية.

صحيح أنه لا ينكر أحد أن نيتشه كان شاعرًا، لا بالمعنى السطحي القريب لهذه الكلمة، بحيث يُقال إنه ألَّف القصائد الشعرية إلى جانب الكتابات النثرية، ووضع كتابًا فلسفيًّا — «زرادشت» — في صورةٍ شعرية، بل المقصود أنه كان شاعرًا بالمعنى الأعمق لهذه الكلمة، بحيث يمكن أن نقول إن الفكر لديه قد استحال شعرًا، وإن العلاقة بين الفكر والشعر، أو بين الحقيقة والفن، كانت نوعًا من التناقض الأساسي الذي حرك فلسفته من أولها إلى آخرها، حتى لنجده يعترف في أواخر حياته قائلًا: لقد فكرتُ تفكيرًا جديًّا في وقتٍ مبكر من حياتي عن العلاقة بين الفن والحقيقة، وما زلت أشعر بالفزع المقدَّس وأنا أقف الآن أمام هذا الصراع.

أنسمِّي نيتشه لهذا السبب شاعرًا فيلسوفًا؟ قد تكون التسمية جذابة، ولكنها لا تقول في الحقيقة شيئًا، والأفضل أن نُعفِيه من هذا الشعار السخيف؛ لكيلا نحرم أنفسنا من الإحساس المقدَّس الذي شعر به في أواخر حياته حين أحسَّ بالفزع من الصراع القائم بين الحقيقة والفن.

ولكن ألا نلاحظ أن نيتشه لا يكفُّ عن مهاجمة الفلسفة التقليدية لإيمانها البشع بالتصورات واصطناعها الدائم للأفكار، ولا ينقطع عن تسديد سهامه إلى المنطق والديالكتيك والإنسان النظري أو السقراطي أو غير ذلك من تسمياته المشهورة؟ أليس هو الذي قال في الفترة التي وضع فيها أول كتبه الكبيرة «ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى»: إنه ما من طريق يخرج من الفكرة ليؤدي إلى جوهر الأشياء؟ هل نستطيع أن نستخلص من هذا أن الفكر الحق لا بد أن يكون بالضرورة تفكيرًا بالتصورات، وأن من طبيعة هذا الفكر أن يتفكر في جوهر التصور، أعني أن يكون شيئًا أقرب إلى التفكير في التفكير؟ لعل الجانب الأكبر من فلسفة نيتشه ألَّا يخرج عن كونه تفكيرًا في التفكير نفسه.

ولكن كيف يتفق هذا مع ما قُلناه من أنه فيلسوف الحياة؟ أهناك أبعد من الحياة أو أكثر غرابة عليها من هذا الكلام؟ وما هي إذن حقيقة العلاقة بين الفكر والحياة عند نيتشه؟

إنه يقول في كتابه الأكبر الذي لم يُقَدَّر له أن يتمَّه هذه العبارة: «إن الفكر هو أقوى شيء نجده في كل مستويات الحياة.» الفكر إذن هو أقوى ما نجده على اختلاف مستويات الحياة، وأكثره تدفُّقًا بالحياة، ألا يتبع ذلك أن يكون أكثر الموجودات حياة هو الفكر الذي يصل إلى أقصى درجات التفكير؟ وأن تتمثل أقصى درجات الفكر في ذلك التفكير الخالص الذي يتحرك في عنصره النقي، أعني التفكير المجرد، بحيث يكون هذا التفكير المجرد أكثر ألوان الفكر حياة وحيوية؟

ولكن ألا نكون بهذا قد سرنا على الطريق الخاطئ؟ لنستمع إلى ما يقوله فيلسوف الحياة في ذلك، ها هو ذا يصرح في أحد كتاباته المتأخرة: «إن التفكير المجرَّد لدى الكثيرين عناء وشقاء، أمَّا عندي فهو في الأيام المواتية عيد ونشوة.» وليست النشوة التي يريدها نيتشه هنا إلا حالة من حالات السُّكْر بمعناه الأصيل الذي يجعله مقابلًا للحلم، بمعنى الارتفاع إلى أقصى درجات القوة والحياة؛ فالتفكير المجرد إذن هو أقصى درجات الحياة.

لكن هل يتسنَّى لكل من يفكر أن يجد في التفكير المجرَّد بهجة العيد ونشوة السُّكْر؟ لا شك أنه في حاجة إلى كثير من الصبر والمران حتى يجد البهجة والنشوة بدلًا من المشقة والعناء، ولن نجد بين فلاسفة العصر الحديث مَنْ راح يؤكد في إصرار أن التفلسف يحتاج — قبل كل شيء — إلى الوقت والصبر والتفرُّغ كما فعل نيتشه، ولن تجد أحدًا عبَّر عن سخطه على التسرُّع والتفاهة كما عبر نيتشه، إنه يقول في إحدى حِكم كتابه «العلم المرح» (رقم ٣٢٩) تحت عنوان «التفرغ والفراغ»: «إن التعجُّل هو الرذيلة الحقيقية للعالم الحديث.» كما يقول: «لقد بات الناس يخجلون من الراحة والهدوء، ويكاد التأمل الطويل أن يُصيبهم بلذع الضمير، إنهم يُفكِّرون وهم ينظرون إلى الساعة في أيديهم، تمامًا كما يأكلون طعام الغداء وأعينهم على أخبار البورصة.» … أو يقول في ختام المقدمة التي وضعها لكتاب «الفجر»: «مثل هذا الكتاب لا يعرف التعجُّل، ثم إننا أصدقاء الوقع البطيء، مثلي في ذلك مثل كتابي، ولم يكن عبثًا أن أكون لغويًّا، ولعلِّي ما زلت كذلك حتى الآن، أعني مُعلِّمًا للقراءة البطيئة، وأخيرًا يكتب الإنسان كذلك ببطء، هكذا أصبح الآن من عادتي، لا بل من ذوقي ومزاجي — وربما كان ذوقًا شرِّيرًا — ألا أكتب شيئًا لا يصيب المتعجل باليأس.» وكل مَنْ يقرأ نيتشه سيجد مثل هذه العبارات متناثرة في كتبه ورسائله، وكل من يريد أن يقرأه حقًّا فلا بدَّ له من التريُّث والصبر، أعني لا بد له من التفكير معه. ألسنا نراه يقول في كتابه «هذا هو الإنسان»: «الرقاد في سكون، التفرغ … الانتظار والصبر … ولكن هذا معناه التفكير!»

أراد نيتشه أن يجعل عنوان كتابه الأكبر الذي لم يتمَّه «إرادة القوة»، ولكن أليست إرادة القوة هي أصفى تعبير عن فلسفته؟ وما شأن فلسفة تتحدث عن القوة بالفكر والتفكير؟ وأين نعثر على أثر للتفكير بين أولئك الحكام «الأقوياء» الذين راحوا بين الحربَين العالميتَين يتمسَّحون بنيتشه ويهيبون بفلسفته؟ وهل قصد نيتشه بعبارته عن إرادة القوة شيئًا يتصل بالسياسة من قريب أو بعيد، كما أراد الذين أساءوا فهمه وجَنَوا عليه جناية لن ينصفه منها أحد إلى آخر الزمان؟ أم كانت في الحقيقة تعبيرًا ميتافيزيقيًّا يُلخِّص رأيه في حقيقة الحياة في كلمتين؟ أليس من واجبنا اليوم أن نبذل الجهد المضاعف لنفهم ما يريده بالإرادة والقوة وما يقصده من عبارته عن إرادة القوة؟

كُتِبَ على الفلاسفة العظام أن يُساء فهمهم، كما كُتِبَ عليهم أن ينتشر تأثيرهم على أساس من هذا الفهم السيئ. ولعل نيتشه قد أحس بأن الأجيال المقبلة لن تفهمه ولن تنصفه فكتب يقول في أوراقه التي عُثِرَ عليها بعد موته: «إرادة القوة، كتاب هدفه التفكير، ولا شيء غير هذا.» … «فإرادة القوة» قد وُضِعَ ليُفكِّر فيه الناس، أي إنه كلام ميتافيزيقي، لا يقول شيئًا عن أي شيء أو أية حالة تدخل في إطار هذا العالم، بل يتحدث عن العالم ككلٍّ، ويتجاوز كل ما يضمه من أشياء.

لم يكن نيتشه مفكِّرًا فلسفيًّا فحسب، بل كان قبل ذلك كاتبًا لامعًا يلمس القلوب ببيانه الرائع ويهز العقول بأسلوبه الحي، ولقد كان يعرف ما يقول حين كتب لصديقته الشابة لوسالومي — وهي التي ستصبح بعد ذلك صديقةً مقربة للشاعر رلكه — يوصيها بقواعد الأسلوب العشرة ويذْكر من بينها أنه كلما زادت الحقيقة التي يريد الإنسان أن يعلِّمها للناس تجريدًا، كان عليه أن يُغري بها الحواس، ولقد نجح نيتشه في هذا الإغراء، حتى غاب عن خصومه وأنصاره على السواء ما في أفكاره العميقة من التجريد، وتشبث القراء بأنه شاعر فيلسوف، ومع أن الوصف في جملته صحيح، إلا أنه لا يمنعنا من القول بأن فلسفته لا تقل تجريدًا ولا إحكامًا عن فلسفة أرسطو أو كانط أو هيجل، بل إن النفاذ إلى فلسفته لا يقلُّ صعوبة عن النفاذ إلى فلسفة هؤلاء، إن لم يزد عليها بكثير، فبينما يفر القراء من لغتهم الشاقة المعقدة التي تُظهِرهم على مشقة الموضوع الذي يتناولونه، يُغريهم أسلوب نيتشه اللامع المتدفق بأنهم يقرءون شيئًا يسيرًا، ويوقعهم في خطر الفهم السريع، في حين أنهم يكونون أبعد الناس عن فهمه، بل إنهم في معظم الأحيان ينتشون بقراءته دون أن يدروا شيئًا عن الموضوع الذي يتكلم عنه! والذين صبروا منهم على دراسته يعلمون تمامًا أنهم يصادفون لديه أصعب الأفكار والمشكلات التي تناولتها الفلسفة الغربية في تاريخها الطويل.

•••

كان الفكر هو قدر نيتشه.

ونحن لا نقصد من ذلك المعنى الخارجي الظاهر من حياته فحسب، على الرغم من أننا نعلم أن عاطفة التفلسف قد حددت هذه الحياة القصيرة من كل نواحيها، والْتهمتها في النهاية في جنونٍ مُفزِعٍ مخيف، فمما لا شك فيه أن حياة هذا المفكِّر كانت وستظل مثلًا مجيدًا مؤلمًا على نهاية الفكر الصادق الجادِّ. وسوف يحرِّك قلوبنا دائمًا أن نعرف كيف أن عاطفة الفكر المتحمِّسة قد جعلته في الرابعة والعشرين من عمره أستاذًا لِلُّغات القديمة في جامعة بازل، وأبعدت بينه وبين الحياة الاجتماعية المطمئنة، ودفعت به شيئًا فشيئًا إلى مواضع الخطر والعداوة والتهديد؛ فراح في سبيل هذا القدر يُضحِّي بالمستقبل الجامعي المشرق، وبالأصدقاء والمال والسمعة الطيبة، ويغوص بالتدريج في هاوية الوحدة والانفراد، حتى جاءت كارثة «تورين»٢ المعروفة، فعجَّلت بالنهاية المخيفة لكل هذا العذاب.

كل هذا معروف ومشهور، ولكن نيتشه يقصد شيئًا أكبر منه حين يتحدث عن «قدر الفكر»، وعن التضحية بأفضل شيء لدى الإنسان وأحب شيء إلى نفسه. إنه يقول في الكتاب الخامس من «العلم المرح» تحت عنوان: «نحن الذين لا نخاف» هذه العبارة: «هناك فرقٌ شاسع بين أن يقف المفكر بشخصه وراء مشكلاته بحيث يجد فيها قدره ومحنته وكذلك أسمى سعادته، وبين أن يقف منها موقفًا غير شخصي.» أعني أن يفهم كيف يلمسها ويمسك بها بقرون استشعار الفكرة الباردة المتطفِّلة. في الحالة الأخيرة لا يخرج الإنسان بشيء، على كثرة ما يمنِّي به نفسه؛ ذلك لأن المشكلات العظيمة — إذا فُرِضَ أنها تسمح لأحد بأن يفهمها — لا تدع للضفادع ولا المتخاذلين فرصة الاقتراب منها، إن هذا هو طبعها منذ الأزل، وهو بالمناسبة طبع تشارك فيه كل الفاتنات! ولقد كانت المشكلات التي عذبت نيتشه، والحقائق التي أحسَّ هو نفسه بالرعب منها، هي قدر فكره، إنه يكتب إلى صديقه «أوفربك» فيقول: «لقد كنت أُمْلِي ساعتين أو ثلاثًا كل يوم تقريبًا، ولكن «فلسفتي» — إذا كان من حقي أن أصف ما يعذبني حتى أعمق جذور حياتي بهذا الاسم — لم يعد من الممكن نقلها إلى أحد، أو على الأقل لم يعد ذلك ممكنًا عن طريق النشر.

إنني أشتاق في بعض الأحيان إلى عقد مؤتمر سري معك أنت ويعقوب بورخارت — لأسألكما كيف تواجهان هذه المحنة — أكثر من شوقي لرواية شيءٍ جديد لكما.» ولكن المرجح أن زميلَي نيتشه في جامعة بازل ما كانا ليوافقا على عقد هذا المؤتمر، ولو عقداه لما استطاعا أن يحسَّا بشيء من اليأس الذي أحس به في أواخر حياته، فلن يستطيع أن يشعر بهذا اليأس أو يشارك في بعض عذابه إلا من يجد في نفسه الاستعداد لمتابعته على طريق الفكر الشاق الطويل، والإرادة الكافية لتحمِّل قدره القاسي الأليم. إن نيتشه يقول بنفسه في إحدى القطع التي جُمِعَت بعد موته: «إن علينا — قبل أن يصيبنا القدر — أن نسوقه كما نسوق الطفل ونضربه بالسوط، فإذا ما أصابنا فعلينا أن نبذل جهدنا لكي نحبه.»

ومن الصعب أن نفهم كيف استطاع نيتشه أن يخطو هذه الخطوة نحو حب القدر، وأن يسير من النفي إلى نفي النفي، أو إلى النعم العليا، أو محبة القدر Amor fati كما يسميها.
إنه يتحدث في «هكذا تكلم زرادشت» عن الإرادة الكارهة Widerwille للزمن وﻟ «قد كان»، كما يتحدث عن الخلاص من هذه الإرادة الكارهة أو من عدم الإرادة (لا عن الإرادة بوجه مطلق؛ إذ إنه في حديثه ذاك إشارة إلى شوبنهور والبوذية اللذين يستنكر كلاهما عن الإرادة ويصفه بأنه أغنية الجنون الخرافية)، هذه الإرادة الكارهة للزمن أو المضادة له، والنزعة التي تميل إلى المخالفة والهجوم بوجهٍ عام، علامة من العلامات الدالة على تفكير نيتشه في مجموعه،٣ ولكننا نعلم أن كل نزعة مضادة أو مخالفة تظل على نحو من الأنحاء حبيسة لما تخالفه أو تكون ضدًّا له، فما من مخالفة لا تنطوي على نصيب من المشاركة ولا من تفكير يهاجم الميتافيزيقا أو الأفلاطونية أو المسيحية أو الزمن المعاصر له إلا ويظل بوجه من الوجوه ميتافيزيقيًّا أو أفلاطونيًّا أو مسيحيًّا أو معاصرًا، وهذا القول ينطبق على نيتشه أكثر من أي مفكرٍ سواه، بل نحن اليوم أقْدَر على قوله والإحساس به أكثر منه، ربما لبُعدنا عنه البعد الكافي لإصدار هذا الحكم الذي لم يكن في استطاعته أن يعيه أو يصدره بنفسه.

مهما يكن من شيء، ففي إمكاننا — من وجهة النظر هذه — أن نضع فلسفة نيتشه في مكانها، ونخطو خطوة على طريق النقد الشامل لها. يمكننا أن نقول — وهذا ما قاله الكثيرون وقاموا به بالفعل: إن فلسفة نيتشه تمثل الكمال والنضوج في مرحلة من مراحل الفكر الغربي، كما تمثل في نفس الوقت غاية هذه المرحلة ونهايتها، فهي في رأي هؤلاء المفسرين (والمقصود بهم هيدجر وتلاميذه بنوعٍ خاص) تمثل كلمة الختام في الفلسفة الحديثة من حيث هي فلسفة الفكر والإرادة الإنسانية التي تنعكس على نفسها أو تضع نفسها بنفسها، ومِنْ ثَمَّ يكون تفسيره للحياة والوجود بأنه إرادة القوة هو أقصى مرحلة لميتافيزيقا الذاتية، أي للفلسفة الحديثة التي يعرفونها أيضًا بهذه الصفة، حيث تبلغ هذه الفلسفة غاية إمكاناتها من حيث هي فلسفة ذاتية للإرادة. فإذا كان نيتشه قد وصل بهذه الذاتية إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه، وبلغ بها عن طريق تطرُّفه الحاسم الصريح إلى آخر حدودها، فلا شك أيضًا في أنه قد ظل أسير مملكتها ورهين أفكارها، ومع ذلك فإذا كانت هذه النظرة تنطبق إلى حدٍّ كبير على فلسفة نيتشه أو تمثل على الأقل جانبًا هامًّا من جوانبها، فلا شك أيضًا في أنها ليست هي النظرة الوحيدة الممكنة إلى هذه الفلسفة الخصبة المتعددة الجوانب والوجوه، أضف إلى ذلك أن الزج بإحدى الفلسفات في صيغة تاريخية أو مذهبية بعينها — مهما كان نوع هذه الصيغة — لا بد أن ينطوي على شيء من الإجحاف والظلم لتلك الفلسفة. وإذا صدق هذا القول على فلسفة ما، فهو أصدق ما يكون على فلسفة نيتشه؛ فالمتأمل لها لا بد أن تأتي عليه لحظة يسأل فيها نفسه: هل هذه الفلسفة شكل من الأشكال العديدة للفلسفة الحديثة؟ أم هي إلى جانب ذلك وفوق ذلك شيءٌ آخرُ مختلفٌ وجديد؟!

•••

ليست الكلمات التي تعبر عن «الضد» والمخالفة هي وحدها التي تدل على تفكير نيتشه، بل إن الكلمات التي تعبر عن التجاوز والعلو والمفارقة — مثل فوق ووراء وبعد التي تتكرر كثيرًا في كتاباته وبخاصة في زرادشت — قد تكون أكثر دلالة على طابعه الفكري والفلسفي، وكثيرًا ما قيل: إن هذه الكلمات وحدها تعبيرٌ واضح عن تطرف نيتشه أو تهوره، وهذا صحيح بالفعل، غير أنها لا تُسْتَخْدَم دائمًا للدلالة على صيغة التفضيل أو المبالغة، بل كثيرًا ما يُراد بها التعبير عن تجاوز الضدَّين جميعًا، والعلو فوق كل ما عرفته الإنسانية من أشكال التصور والتفكير. وأوضح مثل على هذا هو حرف فوق über كما يرد في الكلمة المركبة فوق الإنسان أو الإنسان الأعلى über-Mensch, Superman فليس الإنسان الذي يقصده نيتشه بهذه الكلمة إنسانًا أضخم حجمًا أو أقوى عضلًا من بقية الناس، ولا هو ذلك الوحش الأشقر الذي ظنت النازية البشعة أنها جاءت أخيرًا لتحقيق وجوده على الأرض، بل هو في الواقع مرحلة تتجاوز مرحلة الإنسان الحاضر، وتتحقق فيها فكرة نيتشه عن إرادة القوة وتأكيد الحياة، وليس للإنسان الأعلى صلة من قريب أو بعيد بالبطل المحارب ولا بالعملاق القوي، وإنما يقترب أكثر ما يقترب من ذلك «الطفل اللاعب» الذي يتحدث عنه زرادشت.

الأمر إذن أمرُ تجاوزٍ وعلوٍّ وارتفاع؛ تجاوز للإنسان الحاضر، وعلو فوق الأخلاق السائدة، وارتفاع على التركة الميتافيزيقية التي ورثها العالم عن أفلاطون. إن نيتشه لا يزال يتحرك — كما هو منتظَر — في إطار الفلسفة الحديثة بوصفها ميتافيزيقا الذات التي تضع نفسها وتتمثل نفسها، تشهد على ذلك المواضع الكثيرة التي يمجد فيها الأنا المريدة الخلَّاقة، أعجب الأشياء ومقياس الأشياء جميعًا (كما تقول قطعة معروفة في زرادشت في الفصل الخاص بسكان العالم الآخر)، ولكنه مع ذلك دائم البحث — كما لم يفعل أحد قبله أو بعده من مفكري العصر الكبار — عن المنابع الجديدة والآفاق الغريبة المجهولة، شأن الرواد والمكتشفين الذين لا تحلو لهم الحياة إلا بين مجاهل الكشف وأخطار الريادة! إنه يكتب في القطعة الأخيرة من كتاب «الفجر» تحت عنوان «نحن ملاحو الروح!» فيصف نفسه بأنه «كولومبوس» جديد، يوجه شراع سفينته نحو الغرب على أمل أن يكتشف الهند الجديدة، ولكن هل استطاع نيتشه — بعد أن اتجه بسفينته إلى الغرب إلى هناك «حيث غابت كل شموس البشرية» — أن يبلغ الهند، أي يبلغ الشرق الجديد أو يرى شطآنه على الأقل من بعيد؟!

مثل هذا السؤال لا يُجاب عليه بلا أو نعم قاطعة، وتتعذر الإجابة كلما تصورنا مدى خصوبة فلسفة نيتشه وعمقها وتعدد مستوياتها وأبعادها، والأفضل من ذلك أن نحاول البحث عن نصٍّ يلقي بعض الضوء على السؤال. ها هو ذاته يقول في مقطوعة هامة من كتابه الكبير «إرادة القوة» يصوِّر فيه حالة من حالات الصفاء والاتزان النادرة في حياته الفكرية العاصفة، ويعبِّر عن موقفه وهدفه الفلسفي فيقول: «الانتظار والاستعداد، انتظار تدفق الينابيع الجديدة، الاستعداد في ظل الوحدة للقاء الرؤى والأصوات الغريبة، تطهير النفس على الدوام من غبار السوق ومن ضجيج هذا الزمن، التغلُّب على كل ما هو مسيحي عن طريق شيء يتفوق على المسيحية ولا يكتفي بالتخلُّص منها، اكتشاف الجنوب في النفس من جديد ورؤية سماء الجنوب الساطعة الحافلة بالأسرار وهي تنتشر فوق رءوسنا، غزو الصحة الجنوبية والقوة الكامنة في النفس غزوًا جديدًا، أن يصبح الإنسان بالتدريج أكثر شمولًا واتساعًا ويصير عالميًّا وأوروبيًّا — وأكثر من أوروبي — وشرقيًّا إلى أن يصبح في النهاية إغريقيًّا؛ لأن الروح الإغريقية كانت هي التأليف والمركب الأول العظيم لكل ما هو شرقي كما كانت — لهذا السبب نفسه — مبدأ الروح الأوروبية: اكتشاف «عالمنا الجديد»، مَنْ ذا الذي يحيا وفق هذه التعاليم؟ ومن يدري ما الذي يمكن أن يحدث له ذات يوم؟ لعله أن يكون نهارًا جديدًا.»

إن نيتشه لا يتحدث هنا عن شيء يخالف المسيحية أو ينافي الروح الأوروبية، ولا يذكر شيئًا عن الضد أو العكس، بل يتجاوز جميع المواقف والأحوال والآفاق إلى ما وراءها، حيث ينتظره عالمٌ جديد ونهارٌ جديد، وهو لذلك في حاجة إلى منابعَ جديدةٍ تروي عطشه الذي يفوق احتمال البشر: «الانتظار والاستعداد، انتظار أن تنبثق منابع جديدة.» أو كما يقول في إحدى القطع التي كتبها عن زرادشت: «أن ينتظر المرء عطشه ويتركه حتى يصل إلى أقصى مداه؛ لكي يكتشف منبعه.»

والمنبع شيء يتدفق من تلقاء نفسه. إن الإنسان لا يصنعه، فأقصى ما يملكه أن يحاول الكشف عنه وينتظر تدفُّقه، هناك لا يكون محل للذات المريدة المتسلطة، بل للصبر والتريث والانتظار، وعندئذٍ نتذكر البيت الأول من قصيدته عن «سلس ماريا»: «هنا جلست أنتظر وأنتظر، لكنني كنت أنتظر لا شيء»، «الاستعداد في ظل الوحدة للقاء الرؤى والأصوات الغريبة.»

وهل فعل نيتشه شيئًا غير هذا في خلال السنوات العشر التي سبقت تخبطه في ظلام الجنون؟ ألم يبقَ مخلصًا لطبيعته على الرغم من كل المواقف التي تفجَّرت فيها نزعته إلى الهدم والعدوان والتظاهر بالعظمة؟ وهذه الرؤى الغريبة، أيمكن أن تكون شيئًا غير رؤياه عن عودة الشبيه الأبدية٤ والأصوات الغريبة؟ أليس من الممكن مقارنتها بتلك القطعة الأخيرة من القسم الثاني من زرادشت التي نجدها تحت عنوان: «أشد الساعات سكونًا»، حيث نسمع المجهول يتكلم مع زرادشت «بغير صوت»؟

أمَّا تطهير النفس على الدوام من غبار السوق وضجيج الزمن فهو واضح الدلالة على ضرورة العلو والتجاوز بوجهٍ عام، حتى ولو كان هذا العلو فوق ما حقَّقتْه أو أثارته ظاهرة الفيلسوف نفسه وتأملاته التي جاءت في غير وقتها أو ضد وقتها من غبار النجاح وضجيجه، ولن يخفى ما في «تطهير النفس على الدوام» من تذكير بمبدأ التطهير القديم عند الفيثاغوريين والأفلاطونيين، وأمَّا التغلُّب على كل ما هو مسيحي دون الاكتفاء بالتخلُّص منه، فأهم ما نلاحظه فيه أنه لا يذكر شيئًا عن عداوة المسيحية أو مخالفتها، بل يتحدَّث عن روح تتجاوز المسيحية وتعلو عليها؛ فلم يكن من الممكن أن يُوجِّه الفيلسوف همَّه إلى التخلُّص ببساطة من المسيحية، وهو الذي يصف نفسه بأنه سليل جيلٍ كامل من «القسس المسيحيين»، ولم يكن من الممكن أيضًا أن يدعو إلى نوع من الوثنية أو الإغريقية كما يزعم بعض خصومه، بل إن أقصى ما يريده أن يعلو ويتفوق بالإنسان إلى «نهار جديد» و«عالم جديد» يؤكد إرادة قوته وقدرته على العلو والتفوق فوق إنسانيته الحاضرة.

وتطالب السطور التالية بالعودة إلى اكتشاف الجنوب في النفس، والعودة إلى غزو الصحة الجنوبية فيها، فما هو هذا الجنوب الذي يريد الملاح أن يوجِّه إليه سفينته؟ إن الحكمة رقم ٢٥٥ من كتابه «وراء الخير والشر» تصف الجنوب بإشراقه الباهر وشمسه الساطعة بأنه «المدرسة العظمى لاستعادة الصحة في أمور الروح والحس.» وليس الجنوب رمزًا للإشراق الناصع فحسب، ولكنه كذلك رمز لكل ما هو عميق وقادر وغني بالأسرار؛ فلقد كان الشمال على الدوام أكثر سذاجة وسطحية من الجنوب، كما تقول الحكمة ٣٥ من كتاب «العلم المرح»، وكان الجنوب هو وريث «الشرق العميق» ووريث آسيا العريقة الغنية بالأسرار، كما كان كذلك رمز ما يسميه نيتشه بالروح الإغريقية.

ولكن هذا كله لا يعدو أن يكون تمهيدًا للسطور التالية التي تريد للإنسان «أن يصبح بالتدريج أكثر شمولًا واتِّساعًا، وأن يصير عالميًّا وأوروبيًّا وأكثر من أوروبي وشرقيًّا إلى أن يصبح في النهاية إغريقيًّا.» والإغريقي هنا رمز لنهاية الرحلة، أو لعالمنا الجديد كما يمضي الكلام بعد ذلك. ولكن ما هي بلاد الإغريق التي يريد نيتشه أن يعيد اكتشافها من جديد؟ وما صلتها بذلك البلد الذي اكتشفته علوم الآثار واللغات القديمة؟

إن الحكمة رقم ٤١٩ من «إرادة القوة» تقول: «إن الفلسفة الألمانية في مجموعها هي أشد ألوان الرومانتيكية والحنين التي وُجِدَت حتى الآن أصالة، وهي الشوق إلى أفضل ما عرفه الإنسان إلى اليوم، إن الإنسان لم يعد يشعر في أي مكان بأنه في وطنه، إنه يحنُّ إلى موضع يمكنه أن يقول عنه بطريقة ما إنه وطنه … وهذا الموضع هو العالم الإغريقي! غير أن جميع الجسور المؤدية إليه قد تحطَّمت، باستثناء أقواس قزح التصورات.»

إن نيتشه يعلم أنه لم تعد هناك جسور ترجع بنا إلى بلاد الإغريق غير جسور التصورات، وما بقي هذا الطريق الوحيد قائمًا فسوف نظل «كالأشباح الرقيقة»، صحيح أنه يعترف لهذه الأشباح ببعض الحقوق، ولكنها ستبقى شيئًا مؤقتًا، ممهِّدًا لما يأتي بعده، وسنظل على جهلنا ببلاد الإغريق ما بقي الطريق إليها مخفيًّا تحت الأرض، فعيون العلماء المتطفلة لن تبصر الحقيقة في هذه الأمور، وإن كان من الواجب بالطبع أن يستمر العلم في خدمة الكشوف والحفريات.

بلاد الإغريق الجديدة الخالصة لا شأن لها إذن ببلاد الإغريق القديمة، ونصيحته لنا بأن نصبح إغريقيين لا صلة لها بالدراسات الكلاسيكية واللغوية، بل إن الطريق إليها يزداد شمولًا باستمرار، حتى يصير عالميًّا وأوروبيًّا، وأكثر من أوروبي، وشرقيًّا إلى أن يمر أخيرًا ببلاد الإغريق! ومن الواضح أن كلامه عن الشرق لا يعني أن يكون طرفًا مقابلًا لأوروبا والغرب، بل عن شيء يسبق الغرب ويتجاوزه، ومِنْ ثَمَّ نجده يلاحظ الملاحظة التالية في أوراقه التي تحتوي على خططه ومشروعاته في الكتابة: «يجب عليَّ أن أتعلم كيف أفكِّر في الفلسفة والمعرفة تفكيرًا شرقيًّا، النظرة الشرقية إلى أوروبا.» وبذلك يتضح شوقه الغريب إلى أن يصبح الإنسان إغريقيًّا بعد أن يتم له بلوغ الروح الشرقية؛ ذلك لأن الروح الإغريقية كانت هي التأليف والمركب الأول العظيم لكل ما هو شرقي.

بلاد الإغريق التي يريدها نيتشه لا صلةَ لها إذن بذلك البلد الغربي القديم؛ فهو يريد بلاد الشرق الجديد مع الغرب الجديد، أي مع وطن إغريقي جديد، ومن هنا نفهم ذلك الشعار الهندي الذي يقدم به لكتابه «الفجر» الذي يشرق معه فجر تفكيره والذي يقول فيه: «هناك أشكال من الفجر لا حصرَ لها، لم يقدر لنورها أن يشرق بعد.» ومن هنا أيضًا كانت تلك الحكمة التي يختتم بها هذا الكتاب تحت عنوان: «نحن ملاحو الروح» والتي تنتهي بكلمةٍ غامضة عجيبة هي «أو»: «أيقول الناس عنَّا ذات يوم إننا نحن أيضًا كُنَّا نرجو — وقد اتجهنا بسفننا نحو الغرب — أن نصل إلى بلاد الهند؟ وإنه كان من نصيبنا أن نتحطم على «صخرة» اللانهاية؟ «أو» يا إخوتي؟ «أو»؟»

ما معنى هذه اﻟ «أو»؟ وما هي بلاد الهند التي يريد نيتشه أن تصل سفينته إلى شاطئها؟ أهي بلاد الديانة البوذية؟ ولكننا نعرف مدى احتقاره للبوذية، ونعرف كذلك أنه وصفها هي والديانة المسيحية بأنهما الديانتان العدميتان الكبيرتان، أم تكون الهند رمزًا للبلد الذي ستشرق منه ديانةٌ جديدة وفلسفةٌ جديدة؟

إن نيتشه يقارن نفسه هنا بكولومبوس، فالمعروف أن هذا قد اتجه بسفنه ناحية الغرب وهو يرجو أن يكتشف جُزُرًا هندية، غير أنه اكتشف بلدًا جديدًا لم يكن الهند بل أمريكا، فماذا تعني «أو» في نهاية المقطوعة السابقة؟ أتعني أنه كان يُرضيه أن يبلغ الهند لو لم تتكسر سفينته على صخرة اللانهاية؟ لو فعل ذلك لكان متناقضًا مع نفسه؛ فقد سبق له أن أسقط الهند «بلد الديانة العدمية» من حسابه. لم يبق إذن إلا القول بأنه كان يريد مثل كولومبوس أن يكتشف أمريكا أخرى أو عالمًا جديدًا يُسمِّيه «عالمنا» الجديد، وسواء بعد ذلك أن تكون سفينته قد تحطَّمت على صخور اللانهاية أو أن يكون قد اكتشف ذلك العالم الجديد، فلا يمكن القطع في ذلك بالنفي ولا بالإيجاب، ولن نستفيد في الحالتين شيئًا، فأهم من ذلك بكثير أن نعلم أنه لم يكفَّ عن البحث عن هذا العالم الجديد، ولم يبخل عليه بجهدٍ ممكن أو مستحيل، بل وهب له حياته حتى جُنَّ واحترق؛ ولذلك نجده يقول بحق على لسان زرادشت: «كان طريقي كله محاولةً وسؤالًا.» ولعل هذه التجربة المتصلة وهذا الإلحاح المستمر على السؤال الحر هما خير ما في فلسفة نيتشه، بل خير ما يمكن أن يوصف به الفكر على وجه الإطلاق.

إنه يقول في إحدى قطع «الفجر» التي جعل عنوانها «مملكة أخلاقية متوسطة»: «نحن تجارب، ونريد أيضًا أن نكون كذلك!» ولقد كان نيتشه على وعيٍ تام بوضعه التاريخي الخاص الذي جعله يقف بين عواصف الزمن وأمطاره كالحارس العنيد على بوابةٍ تفصل بين عهدٍ قديم وعهدٍ جديد، ولقد بلغ هذا الوعي في السنوات الأخيرة من حياته درجة من التهور الذي لم يقف عند حد. لنستمع إليه وهو يقول في بداية الفصل الأخير من كتابه «هو ذا الإنسان» تحت هذا العنوان: لماذا كنت قدرًا؟ «إنني أعرف نصيبي، سوف ترتبط باسمي ذكرى شيءٍ مخيف، ذكرى أزمة لم يحدث مثلها على وجه الأرض … لست بشرًا، إنني ديناميت.»

قد نسمِّي هذا تطرُّفًا أو تهوُّرًا، وقد نرجعه إلى مرضٍ نفسي لا شك أن نيتشه كان يعاني منه، أو نعود به إلى الوحدة المطلقة الأليمة التي عاش فيها طوال حياته، أو إلى تجاهل معاصريه لأعماله الفلسفية والأدبية تجاهلًا وصل في بعض الأحيان إلى حد الاحتقار، غير أن التطرف أو التهور لم يكن غريبًا على نيتشه؛ فقد طبع حياته وأعماله منذ البداية بطابعه، كما كان لسحر هذا التطرف أثره الكبير على التجاهل الذي أصابه في حياته، والمجد الذي انهال عليه بعد موته، وطقوس العبادة التي قُدِّمَت إليه قبل الحرب العالمية الأخيرة من جانب الفاشيين (الذين أساءوا إليه كما قلت وظلموه ظلمًا لا ندري كيف يمكن التكفير عنه).

ومع ذلك كله فقد كان نيتشه — وهو الذي عاش حياته يحترم الإغريق ويستلهم منهم أنبل ما فيهم وأقوى ما فيهم — يعرف قيمة الحد والتوسط والاعتدال أفضل معرفة، وها هو يكتب في إحدى ملاحظاته التي وُجِدَت بعد موته: «إيجاد الحد والوسط في أثناء السعي إلى تجاوز الإنسانية.» ولكنه كان يملك من الشجاعة ما يجعله يعترف بأن التزام الحد والتوسط شيءٌ غريب عليه وعلى جيله. هل كانت طبيعته البركانية أقوى من كل الحدود؟ هل كانت «الرؤى والأصوات الغريبة» — التي كانت تتدفق عليه طوال حياته تدفق موجات الإلهام العارمة — هي المسئولة عن عدم التزامه بالحد والاعتدال؟ مهما تكن الإجابة على هذه الأسئلة التي يصعب الجواب عليها، فإن نيتشه يعترف في الحكمة ٢٢٤ من كتابه «وراء حدود الخير والشر» بأن «الحد شيء غريب علينا.» ولا شك أنه يقصد بالحد شيئًا يختلف كل الاختلاف عما يقصده أوساط الناس العاديين «بخير الأمور الوسط» أو بالاعتدال الذي يفهمون منه القناعة والطمأنينة والرضا بالقليل؛ فقد كان دائم الاحتجاج على هؤلاء الأوساط والعاديين، دائم التمجيد للأفراد المستثنين غير العاديين. وما دام العاديون يحمون أنفسهم من سيطرة الغوغاء والشواذ على السواء، فسيكونون خصمًا جديدًا للاستثنائيين، كما يقول في إرادة القوة.

•••

يبدو كل شيء في حياة نيتشه وكأنه انجذب بسحر التهور والتطرف، وتمرد على كل القيود والحدود. والسنوات الإحدى عشرة التي عاشها بعد انهياره في مأساة تورين، أشبه ببقايا بركان محترق؛ تبدو هي أيضًا بهولها وبشاعتها وقد جاوزت كل الحدود. لقد راح يغوص في لُجَّة الجنون المعتمة كل يوم، ويرسل بعد الكارثة خطابات إلى معارفه وأصدقائه يسمِّي نفسه فيها قيصر أو ديونيزوس أو المصلوب، وحاولت شقيقته — التي طالما هاجمها الباحثون المحدثون بحق أو بغير حق — أن تُخفي من أسرار مرضه الفظيع ما استطاعت. ولكن هل هناك ما هو أفظع من هذه الحكاية التي روتها على لسانه، وأوردها أندريه جيد في رسالة له عن نيتشه إلى إنجيل في العاشر من ديسمبر سنة ١٨٩٨؟ فالأخت تقول: «إنه يتحدث معي، ويهتم بكل ما يراه حوله، وكأنه لم يُصَبْ أبدًا بالجنون، غير أنه لم يعد يعرف أنه هو نيتشه، في بعض الأحيان لا أستطيع أن أحبس دموعي عندما أنظر إليه، وإذا به يقول: لماذا تبكين؟ ألسنا سعداء؟»

حاول نيتشه أن يشرح للناس لماذا هو قدر؟ ولقد عاش كالقدر، وأحب كل ما ساقه إليه القدر، ووجد سعادته الأخيرة في الرضا بالضرورة والقدر، ودفع الثمن الذي لا بد أن يدفعه كل من يجد في الفكر الشجاع الجاد مصيره ومسئوليته وقدره، فمرض وتعذَّب وجُنَّ واحترق، لم يكن له مفر من ذلك؛ لأن قدر المفكرين حزين.

١  الديثيرامب: نسبة إلى أناشيد كانت تُسَمَّى بهذا الاسم وتلقى تمجيدًا للإله ديونيزيوس.
٢  من المعروف أن الكارثة التي انتهت بجنون نيتشه بدأت في شهر ديسمبر في مدينة تورين بإيطاليا، عندما كان يعدُّ كتابَيه «هو ذا الإنسان» و«نيتشه ضد فاجنر»، ففي أحد المقاهي تقدَّم ليربط رِجْل كلبٍ جريح، كما ألقى بنفسه على حصانٍ كان صاحبه يبالغ في ضربه وتعذيبه. وفي اليوم الثالث من شهر يناير انهارت قواه؛ فسقط مغشيًّا عليه في الطريق العام، ثم راح يكتب بعض الرسائل، التي تشي بجنونه، إلى ملك إيطاليا والبابا وصديقه القديم المؤرخ المشهور ياكوب بورخارت والفيلسوف الدنماركي برانديس وسترندبرج … إلخ، ويوقِّعها بإمضاء المصلوب. يقول في إحداها إلى بورخارت: «يجب على الإنسان — كما ترى — أن يبذل التضحيات كيف يعيش وحيث يعيش.» كما يقول لصديقه الوفي بيتر جاست: «غنني أغنية جديدة»: لقد صفا العالم والسماوات كلها تبتهج. ثم دخل نيتشه مستشفى الأمراض العقلية في مدينتَي بازل وبينا إلى أن عاش بقية سنوات حياته في رعاية أمه وشقيقته، حتى مات في أحد الأيام العاصفة الممطرة من شهر أغسطس سنة ١٩٠٠.
٣  من الملاحظ أن كلمة «الضد» أو ما يعبر عنها كلمةٌ شائعة في كل كتابات نيتشه، بل في عناوين هذه الكتب نفسها، فكتاباته الفلسفية الأولى تحمل هذا العنوان «تأملات في غير أوانها»، وكلمة ضد Anti تميز فلسفته التي يصفها بأنها «تأمل كوني ضد الميتافيزيقا»، كما تظهر في عنوان أحد كتبه الفلسفية المتأخرة وهو «ضد المسيح»، وفي كتابه «نيتشه ضد فاجنر».
٤  راجع مقال «العود الأبدي» في هذا الكتاب، وما بعدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤