الفصل الأول

البؤرة الحضارية والأسطورة الأولى

منذ أن انبثق الإنسان من المملكة الحيوانية، كان في صراع مع عوامل البيئة من أجل إثبات نفسه كجنس متميز يبتكر تاريخه الخاص، مبتعدًا عن الأجناس الأخرى التي خلَّفها وراءه بلا تاريخ مستسلمة لآلية الطبيعة. وقد جاءت حضارتنا الحديثة ثمرةً لذلك السعي الدائب الذي استمر مئات الألوف من الأعوام وتتويجًا له. إلا أن السؤال الذي طرح نفسه منذ أمدٍ طويل على العقل الإنساني، لم يجد جوابه إلا في العقود الثلاثة الأخيرة، ومن خلال البحث الأركيولوجي الحديث: فمتى بدأت حضارتنا الحديثة، وما هي العوامل الحاسمة التي أدت إلى ظهورها؟ أين ابتدأت هذه الحضارة؟ وكيف تمَّ تعميمها على جهات العالم الأربع؟ هل نشأت في بؤرة أساسية فشعَّتْ منها نحو الأطراف، أم صدرت عن مراكز متباعدة وسارت في خطوطٍ متوازية قبل أن تلتقي وتتمازج؟

تميز التاريخ الإنساني بأربعة تحولات أساسية؛ كان كل تحول منها يُحدِث انقلابًا شاملًا في شتى مناحي الحياة، ويعطي للحضارة نقلة حاسمة في شتى مظاهرها ومضامينها:
  • (أ)
    أقدم هذه التحولات حدث في مطلع العصر البليستوسيني الأعلى الذي امتد من عام ١٠٠٠٠٠ق.م. إلى عام ١٠٠٠٠ قبل الميلاد. فهنا تشير الدلائل إلى أن الإنسان قد أحسَّ انفصاله الفعلي عن عالم الحيوان، وأخذ في إدراك إمكانيات بيئته الطبيعية وتكييف نفسه تجاهها، وتنظيم جهوده من أجل استغلالها وتوجيهها لمصلحته. وقد اصطلح على تسمية جملة التغييرات التي حدثت خلال هذه الفترة بالثقافة بالباليوليتية Paleolithic أي ثقافة العصر الحجري القديم، والتي تمَّ تقسيمها إلى ثلاثة عصور فرعية هي: الباليوليتي الأدنى، والمتوسط، والأعلى.
  • (ب)
    التحول الثاني حدث في سياق الألف التاسع وأوائل الألف الثامن قبل الميلاد؛ وذلك بتأثير ثلاثة عوامل حاسمة هي: (١) الاستقرار في الأرض وبناء المستوطنات الثابتة الأولى. (٢) اكتشاف الزراعة والبداية المنظمة لإنتاج الغذاء. (٣) تدجين الماشية. ولقد أحدث هذا التحول هزة كبرى في بنية المجتمعات البشرية أعطتها الدفعة الأولى الحاسمة لبناء الحضارة، والخروج من رقدتها المستكينة في حضن الطبيعة، وامتلاك مصيرها بنفسها. فخرج الإنسان من كهوفه وبدأ ببناء القرى المستقرة الأولى في السهول المفتوحة، مُنهيًا بذلك تاريخًا طويلًا من التجوال في الأرض بحثًا عن الغذاء. ثم تعلَّم زراعة الحبوب بعد أن قضى زمنًا في جمعها من حقولها البرِّية، وسيطر على بعض الأنواع الحيوانية فدجَّنها وأخذ يستفيد من منتجاتها. ولقد أُطلق على هذا التحول الهامِّ اسم «الثورة النيوليتية» التي فتحت الطريق لثقافة العصر النيوليتي Neolithic الذي امتدَّ بين ٨٥٠٠ق.م. و٤٥٠٠ق.م. وانتهى بظهور أول المدن في تاريخ البشرية.
  • (جـ)
    حدث التحول الثالث مع تكون المدن الأولى في وادي الرافدين الأدنى بتنظيماتها المدنية والسياسية والدينية المتطورة، وهو التحول الذي أطلق عليه اسم «الثورة المدينية» Urban Revolution والذي كان بدايةً لعصرٍ ما زلنا نعيش فيه حتى الآن.
  • (د)
    أمَّا التحول الرابع فهو آخر التحولات وأقربها إلينا، وهو التحول المعروف باسم «الثورة الصناعية» في القرن التاسع عشر، والذي أحدث انقلابًا جذريًّا في كل أساليب الإنتاج.١ وأعتقد أننا الآن في خضمِّ ثورة رابعة هي الثورة المعلوماتية.
وفي الواقع، فإن الثورة النيوليتية التي أدت إلى الاستقرار واكتشاف الزراعة وتدجين الماشية، هي البداية الحقيقية لحضارتنا القائمة الآن. أما الثورة المدينية فهي التي أعطت هذه الحضارة أُطرها الأولى التي ما زالت قائمة في أساسات مجتمعات العصر الحديث. ورغم أنَّ كل الحضارات، القائمة منها والمندثرة، قد حققت هاتين الثورتين في زمنٍ ما من تاريخها، فإن علم الآثار الحديث يقرر اليوم أن الثورة النيوليتية والثورة المدينية قد حدثتا لأول مرة في تاريخ الشرية في منطقة الشرق الأدنى القديم، وهي المنطقة الوحيدة التي حققت ثورتَيها في معزلٍ عن كل تأثير خارجي، جاعلة من نفسها نموذجًا أوَّل للتحولات التالية في المناطق الأخرى.٢ فالثورة المدينية وظهور المدن الأولى، قد تم في سومر بوادي الرافدين، ومنها انتقلت جنوبًا نحو مصر، وشرقًا نحو الهند.٣ أما البشائر الأولى للثورة النيوليتية، البداية الحقيقية للحضارة، فقد انطلقت من سوريا، حيث أثبتت الحفريات الأثرية التي ما زالت قائمة اليوم على قدمٍ وساق، أن أولى التجمعات البشرية المستقرة، وأولى القرى المبنية في السهول المفتوحة قد قامت في سوريا الجنوبية في منطقة فلسطين ووادي الأردن خلال الألف العاشر والألف التاسع ق.م.٤ وأن أولى التجارب الزراعية قد تمت في المناطق الداخلية من سوريا على طول الشريط الممتد من جنوب حلب إلى صحراء سيناء، ويُعتقد أن قصب السبق في هذا المضمار كان لموقعين رئيسين هما موقع تل المريبط في الشمال عند شاطئ الفرات، وموقع أريحا في الجنوب بوادي الأردن، وذلك نحو نهاية الألف التاسع وبداية الألف الثامن قبل الميلاد.٥ وخلال الألفين التاليين تمَّ انتشار الزراعة انطلاقًا من مراكزها الأولى نحو جميع الاتجاهات، فلم يأتِ الألف السادس قبل الميلاد حتى كانت الثورة النيوليتية قد آتت ثمارها في جميع أنحاء الشرق القديم، وانطلقت منها نحو آسيا وجنوب أوروبا.٦ وهكذا يأتي علم الآثار ليدعم نظرية البؤرة الحضارية الأولى وانتشار الحضارة من مركزٍ واحدٍ، في مقابل نظرية التطور المتوازي، ويشير إلى منطقة الهلال الخصيب كموطنٍ لهذه البؤرة، حيث بدأ الاستقرار في الأرض وتبعته الزراعة في قرن الهلال الغربي، وظهرت المدينة الأولى نواة مدنية اليوم في قرنه الشرقي. ولسوف نأتي فيما يلي على سرد الخطوط العريضة لهذا التحول الكبير؛ وذلك لأهميته القصوى لموضوع هذا الكتاب.
لقد شكلت المرحلة الممتدة بين الألف العاشر والألف السادس قبل الميلاد، مرحلة حاسمة في تاريخ الإنسانية؛ فالتحولات الجذرية التي تمت هنا قد نقلت الإنسانية من مرحلة الصيد والالتقاط إلى مرحلة الاستقرار والزراعة وتربية المواشي. وإن الدلائل تشير حتى الآن إلى أن هذه التحولات التي شكلت القاعدة المكينة لحضارتنا المدنية قد تمت في الشرق الأدنى قبل أن تتم في أي مكان آخر على سطح الكرة الأرضية.٧ ولقد كانت نقطة انطلاق هذه التحولات مجموعة من الصيادين واللاقطين التي بدأت تدريجيًّا بالخروج من كهوفها والتجمع في وحدات قروية صغيرة شبه مستقرة، أخذت شكلها الثابت مع مطلع الألف التاسع قبل الميلاد في منطقة فلسطين وغور الأردن، حيث ظهرت أولى القرى ذات البنية الحضرية المكينة، فيما يُدعى بالحضارة النطوفية التي نشأت وتطورت مستوطناتها المستقرة الأولى قبل ظهور أية دلالات واضحة على إنتاج الغذاء.٨ ولقد كان اقتصاد هذه المستوطنات استمرارًا بطريقة جديدة لاقتصاد العصر الباليوليتي، إلا أنها قد أخذت بالاعتماد أكثر فأكثر على الاغتذاء بالقمح البري الذي كانت الشروط المناخية في المنطقة قد ساعدت على انتشاره بكثرة. فكانت المستوطنات في شكلها المتواضع البدئي تقام بصورة مؤقتة قرب حقول القمح البري على شكل مستوطنة، أم تدعمها معسكرات تابعة تبعد عنها مسافة ليست بالقصيرة، يقيم فيها رجال المجموعة خلال تطوافهم بحثًا عن الغذاء، ليعودوا من ثم إلى مستوطنتهم الأصلية التي كانت تنتقل من مكانها كل فترة سعيًا وراء حقوق قمح أغنى وقطعان صيد أوفر.٩
وقد استمدت هذه الحضارة النطوفية اسمها من وادي نطوف حيث تمَّ العثور على أولى مواقعها، وبعد ذلك تابع الكشف الأثري البحث عن امتدادات هذه الثقافة حتى تم اكتشاف ثلاثة عشر موقعًا رئيسيًّا من مواقعها، وذلك في الشريط الضيق الذي يمتد بعرض ثمانين كيلومترًا على محاذاة البحر المتوسط بين خط عرض بيروت وخط عرض القاهرة؛ أي من جنوب دمشق في الشمال حتى نهايات صحراء النقب باتجاه سيناء، فكانت هذه المنطقة من أكثر المناطق كثافة سكانية بمعايير ذلك الزمن. وفي الألف التاسع، أخذت المستوطنات النطوفية تأخذ شكل القرى المستقرة وبعضها كان يُسكن لمدة تصل عدة مئات من السنين، أمَّا تعداد سكانها فيتراوح بين الخمسين والمئتين والخمسين فردًا، وهو تعداد كبير إذا ما قورن بتعداد التجمعات الباليوليتية السابقة التي لم تكن تزيد عن الخمسة والعشرين فردًا. في هذه القرى ظهرت العمارة لأول مرة، وبُنيت البيوت ذات الأساسات والجدران الصلبة والثابتة والأرضيات المرصوفة، فكان عدد بيوت القرية الواحدة يصل في بعض الأحيان إلى خمسين بيتًا. ورغم أن الزراعة لم تكن قد اكتُشفت بعد، إلا أن الاستفادة المكثفة من القمح البري وبعض الحبوب الأخرى كانت على ما يبدو المرحلة المنطقية الممهدة للمرحلة الزراعية، حيث تمَّ في المواقع النطوفية العثور على أدوات الاستفادة من الحبوب وتحضيرها للغذاء، وذلك كالمناجل الصوانية وأحجار الطاحون وما إليها، ومخازن الحبوب، دون العثور على أية بينة تشير إلى توصل هذه الحضارة إلى تقنيات الزراعة أو البداية المنظمة لتدجين الماشية.١٠
وإضافة إلى النشاطات شبه الزراعية والصيد، فإن التبادل التجاري الإقليمي، قد بدأ في شكله المتواضع البدئي خلال الفترة النطوفية، ولعب دورًا مكملًا في اقتصاد تلك القرى الأولى؛ فقد تم العثور في المواقع النطوفية على بعض أنواع أصداف الزينة التي يرجع مصدرها إلى البحر المتوسط والبحر الأحمر؛ مما يدل على وقوع تبادل تجاري مع تلك المواقع. كما تشير الدلائل إلى حصول تبادلات تتعلق بأنواع أخرى من بضائع الرفاهية وبضائع الاستهلاك؛ مثل الأحجار، وقطع العظم المحفورة، والجلود، والملح.١١ نحو نهاية الألف التاسع انتهت الثقافة النطوفية، وهُجرت قراها دون سببٍ واضحٍ، مفسحة المجال لظهور القرى الزراعية الأولى.
أثبت علم الآثار الحديث بالتعاون الوثيق مع علم الحياة النباتية لما قبل التاريخ، أن الزراعة لم تظهر لأول مرة في وديان الأنهار الخصبة، كما جرى الاعتقاد لفترة طويلة، بل في السهول والوديان الداخلية التي ترويها مياه الأمطار، وفي المناطق التي شهدت لفترة طويلة النمو الحر لحقول الحبوب البرية، وعلى الخصوص سهول سوريا الداخلية وسفوح زاغروس الغربية شرقي وادي الرافدين.١٢ فمع مطلع الألف الثامن قبل الميلاد تظهر البينات على بداية التجارب الزراعية الأولى في سوريا في أريحا جنوبًا، وفي تل المريبط شمالًا، وبذلك يبتدئ العصر النيوليتي الأول، الذي اصطُلح على تسميته بنيوليتي ما قبل الفخار، والذي استمر حتى الألف السادس قبل الميلاد.١٣ كما تظهر البينات بعد ذلك بوقتٍ قصير على تدجين الماشية لأول مرة في الشرق القديم في موقع «الخيام» غربي البحر الميت.١٤
تظهر أريحا كقرية مكتملة منذ عام ٨٣٥٠ق.م. فوق موقع نطوفي قديم، وتستمر آهلة بالسكان مدة ألف عام كاملة حتى ٧٣٥٠ق.م. وذلك على ما أعطته تواريخ الفحم ١٤. وفي الحقيقة فإن إطلاق اسم قرية على هذا الموقع ليس إلا انسجامًا مع التسمية السائدة لمواقع ذلك العصر؛ ذلك أنَّ أريحا كانت الموقع الرائد لسلسلة أعقبتها خلال الألفين التاليين من مواقع أشباه المدن. فعدد السكان يقفز هنا من تعداد المواقع النطوفية الذي لم يتجاوز الثلاثمائة بأية حالٍ، إلى الألفي نسمة وربما أكثر، في مساحة تزيد عن خمسة الهكتارات، كما أن البنية المدنية والسياسية والاقتصادية تتطور وتتعقد تاركةً إلى الأبد الشكل النطوفي البسيط. فاستمرار هذا الموقع قائمًا لمدة ألف عام ومسكونًا بالثقافة نفسها، إنما يدل على اقتصاد مستقر وثابت، وعلى بنية مدنية وسياسية متطورة. كما أن السور الحجري الذي تمَّ الكشف عن بعض أجزائه، والذي يعتقد أنه يحيط بالمدينة من شتى جهاتها بسماكة ثلاثة أمتار، وارتفاع يزيد عن أربعة، وهو أول سور في التاريخ يُبنى حول مدينة، إنما يكشف عن موارد مادية وبشرية ضخمة بمقياس ذلك العصر، وعلى وجود سلطة مركزية متطورة قادرة على القيام بمثل هذا العمل الجماعي الجبار وتوجيهه والإنفاق عليه. فإلى جانب الزراعة، تظهر التجارة كعامل مكمل في دعم اقتصاد أريحا. ويبدو خلال هذه الفترة أن خطوط التجارة قد امتدت إلى مئات الكيلومترات عبر سوريا في اتجاه الشمال لتصل إلى الأناضول؛ فقد عثر في أريحا على أدوات من حجر السبج (الأوبسيدان)، وهو زجاج بركاني استعمله الأقدمون في صنع المرايا والنصال الصلبة الحادة، ولم يكن متوفرًا إلا في منطقةٍ واحدةٍ في هضبة الأناضول. كما كانت أريحا تبادل بمواد الأسفلت والكبريت والملح المتوفر من البحر الميت، وبعض المنتجات الحرفية المصنوعة محليًّا. أما موقع تل المريبط (٨٠كم جنوب شرقي حلب)، فرغم كونه أصغر قليلًا من أريحا، إلا أنه يعكس خصائص مشابهة. فهنا توصل الإنسان إلى اكتشاف تقنيات الزراعة منذ مطلع الألف الثامن قبل الميلاد، واستمر في سكن هذه القرية الزراعية الأولى مدة ألف عام كاملة، كما هو الحال في أريحا. وقد تمَّ هجر هذين الموقعين دون سبب واضح في نهاية الألف الثامن، حيث أتت إليهما بعد ذلك أقوام جديدة وحلَّت فيهما ثقافات أخرى. وهنا يتحول المركز الحضاري كلية من سوريا الجنوبية إلى سوريا الشمالية خلال الألف السابق قبل الميلاد؛ أي في المرحلة الثانية من العصر النيوليتي ما قبل الفخاري.١٥
خلال الألف السابع قبل الميلاد، بلغت الثورة النيوليتية غايتها، حيث صارت الزراعة العامل الأساسي في اقتصاد البؤرة الحضارية، بعد أن كانت في شكلها الأوَّلي مجرد عنصر داعم، واكتمل الشكل المدني والسياسي للقرى الكبيرة المستقرة التي تزايد عددها بشكلٍ كثيفٍ من غابات ساحل المتوسط غربًا، إلى حوض الفرات شرقًا، مرورًا بالسهول الداخلية، وما يُعرف الآن ببادية الشام، ومن طوروس شمالًا إلى أريحا في الجنوب. من هذه القرى ما تمَّ الكشف عنه مؤخرًا في رأس شمرا على شاطئ المتوسط الشمالي، وأبو هريرة ويقرص في حوض الفرات، وتل أسود على رافد بليخ، والكوم ومواقع أخرى حول منطقة تدمر، وتل أسود وتل الرماد حول مدينة دمشق. وقد اعتمد الاقتصاد الزراعي لهذه المستوطنات على الزراعة المطرية، إلا أن تقنيات السقاية البدائية قد بدأت بالظهور في أكثر من منطقة. وبالإضافة إلى الزراعة فقد تابع إنسان المنطقة الاعتماد على الصيد، إلا أن تدجين الماشية الذي غدا نشاطًا مستقرًّا قد حلَّ تدريجيًّا محل الصيد. وقد ارتبطت هذه المستوطنات بعضها ببعض من خلالها شبكة تجارية متطورة، حيث كان تبادل السلع يتم عبر دروب تتراوح من عشرات الكيلومترات إلى مئات الأميال. كما نشطت بشكل كثيف تجارة حجر السبج من الأناضول.كل ذلك جعل من المنطقة السورية وحدة ثقافية متكاملة.١٦ وفي أواسط هذه الفترة حوالي ٦٥٠٠ق.م. ظهرت على الوجود مستوطنة شتال حيوك جنوب الأناضول، وهي أكبر مستوطنة نيوليتية تمَّ الكشف عنها حتى الآن، وهي أقرب إلى المدن السومرية الأولى التي ظهرت بعد ٣٥٠٠ق.م. في وادي الرافدين، بمعابدها وكهنتها المتفرغين وعمارتها المتطورة الجدارية وتماثيلها. فكانت هذه المدن جزءًا من البؤرة الحضارية الأولى أغنتها واغتنت بها.١٧
مع نهاية الألف السابع وبداية الألف السادس قبل الميلاد ينتهي العصر النيوليتي ما قبل الفخاري، ليبدأ عصر الفخار الذي أبدع فيه الإنسان أرقى فنونه التشكيلية. غير أن الألف السادس تميز بالتحول التدريجي لمركز الثقل الحضاري من سوريا باتجاه وادي الرافدين. فعبر الفترة الممتدة من ٥٥٠٠ إلى ٤٥٠٠ قبل الميلاد نشأت في وادي الرافدين الأعلى، وفي القوس الممتد من نهر الخابور الذي يرفد الفرات إلى شواطئ دجلة الوسطى والجنوبية ثلاث حضارات تتابعت وتداخلت فيما بينها زمنيًّا وثقافيًّا، وهي حضارات حسونة وسامراء وتل حلف، وجميعها نشأ بتأثيرات شرقية واضحة. ولم تقتصر كل حضارة من هذه الحضارات على الموقع الأساسي الذي أعطاها اسمها، بل انتشرت شرقًا وغربًا من المحيط الهندي إلى ساحل المتوسط، على طول الخطوط التجارية البعيدة المدى. وقد تميزت هذه الفترة بنهضة جمالية شاملة تجلت على وجه الخصوص في الفخاريات الرائعة التي تعد من أجمل ما أنتج العصر النيوليتي على الإطلاق، وذلك بخطوطها الجيومترية التي ظهرت لأول مرة في هذه المواقع وألوانها البديعة الغنية والمتنوعة. كما أن فنون وتكنولوجيا العصر النيوليتي من نحتٍ وعمارةٍ وحياكةٍ وتقنيات زراعية، قد وصلت هنا إلى أبعد مدى في التطور. أمَّا التعدين والصناعات المعدنية المتواضعة؛ فقد ازدهرت نسبيًّا في هذه الفترة تمهيدًا لعصور المعادن القادمة.١٨
مع انهيار حضارة حلف حوالي ٤٥٠٠ق.م. تنهي الثقافة النيوليتية أشواطها الأخيرة، وتفسح المجال لعصر المدينة الذي كان موقع تل العُبيد جنوبي وادي الرافدين مقدمة له، مهيئًا المسرح لظهور الحضارة السومرية التي ابتدأ معها تاريخ الإنسان المكتوب. وقد انتشرت تأثيرات حضارة تل العُبيد من مواقعها الرئيسية لتغطي كل المناطق التي شملتها تأثيرات الحضارات الآنفة الذكر، ولم يتسنَّ لحضارة بمفردها قبل تل العُبيد أن يبلغ تأثيرها في جميع الاتجاهات مبلغ هذه الحضارة.١٩ إلا أنه منذ مطلع الألف الرابع قبل الميلاد يبدأ السومريون بالتدفق على وادي الرافدين الجنوبي، آخذين ببناء حضارة جديدة على أنقاض حضارة تل العُبيد التي انطفأت مراكزها واحدًا إثر الآخر بتأثير الضغط الجديد. ويبدو أنَّ الثقافة السومرية التي ازدهرت فيما بعد مدينة إلى ثقافة تل العُبيد بأكثر مما اعتقده المؤرخون قبل أن يتم الكشف الكامل عن أوابد هذه الثقافة.٢٠
أعطى السومريون كل العناصر الأولى التي قامت عليها حضارة الإنسان المكتوبة. فإلى جانب الكتابة السومرية، وهي أول كتابة في تاريخ البشرية، قدم السومريون العَجَلة والمحراث وأوجدوا النظام العُشري، وقسموا محيط الدائرة إلى ٣٦٠ درجة، والسنة إلى ٣٦٥ يومًا، ووضعوا أسس الرياضيات ومبادئ الهندسة، وراقبوا الأفلاك، وبنوا المعابد، وأسسوا نظم الحكم والإدارة، وصاغوا الشرائع المكتوبة.٢١ وما إن نصل إلى عام ٣٠٠٠ قبل الميلاد، وهو العام الذي تبدأ كتبُ التاريخ فيه سرد قصة الحضارة، حتى تكون الثورة المدينية قد اكتملت وبدأت بالانتشار خارج البؤرة الحضارية الأولى على الدروب نفسها التي سارتْ عليها الثورة النيوليتية.
في الوقت الذي عبرت فيه الثقافة النيوليتية من سوريا إلى أرض الرافدين، كانت تنطلق في اتجاهات أخرى وخصوصًا نحو الشمال والغرب، وذلك بتأثير الاحتكاك المباشر والتجارة والتحركات الديمغرافية. فباتجاه الشمال اجتازت الأناضول إلى بحر قزوين والبحر الأسود، وباتجاه الغرب وصلت جنوب أوروبا وقطعت البحر إلى قبرص وكريت، حيث نجد الثقافة النيوليتية تظهر فجأة في هاتين الجزيرتين دون مقدمات؛ مما يدل على وصول مهاجرين ذوي ثقافة نيوليتية مكتملة. أما الانطلاق نحو إيران والهند من جهة، ومصر، بوابة أفريقيا، من جهة ثانية؛ فقد تأخر عن موجات الانطلاق السريعة الأولى.٢٢ وهكذا كانت الثقافة النيوليتية تبتعد عن بؤرتها في حلقات يولد بعضها بعضًا، طاردة أمامها الثقافة الباليوليتية حتى بلغت شواطئ المحيط الأطلسي الأوروبية، والمحيط الهادي عند أطراف الصين. وهناك توقفت فترة قبل أن تتمكن من العبور نحو العالم الجديد عن طريق بولونيزيا وميلانيزيا.٢٣ فعند حدود الأطلسي لا نعثر في تلك الأطراف الأوروبية على دلائل لإنتاج الغذاء قبل عام ٤٠٠٠ ق.م. وكذلك الأمر في الصين. أما في العالم الجديد فيبدو أن الزراعة لم تتوطد تمامًا بعد فترة التجارب الابتدائية قبل عام ٢٥٠٠ق.م.٢٤
وعندما كانت الثقافة النيوليتية تجاهد لاكتساب العالم، اكتملت الثورة المدينية في سومر، وانطلقت منها أول ما انطلقت نحو الهند ومصر،٢٥ فكانت التأثيرات السومرية بمثابة المحرض الأول للنهضة المدينية الأولى مع مطلع عهد الأسرات في مصر عام ٢٨٠٠ق.م. بعد ذلك انطلقت الثورة المدينية نحو كريت غربًا والهند شرقًا في الوقت نفسه تقريبًا عام ٢٦٠٠ق.م. ووصلت الصين عام ١٦٠٠ق.م. وأخيرًا عبرت المحيط الهادي نحو العالم الجديد فوصلت أمريكا الوسطى والجنوبية بين القرن السابع والقرن الرابع قبل الميلاد.٢٦ وعلى ذلك يمكن القول بحق: إن الحضارة الكونية عبارة عن شجرة واحدة ذات أصل واحد وفروع متعددة.٢٧

الأسطورة الأولى

إن المقدمة التي سقناها حول أصل الحضارة ونظرية البؤرة الواحدة، كانت ضرورية لتحديد منطلق هذه الدراسة. فإذا كانت البؤرة الحضارية قد قدمت الأسس التقنية والمادية الأولى التي قامت عليها الحضارة من زراعة، وتدجين ماشية، وعمارة، وفن، وكتابة، ونظم مدينية وما إليها، فإنها بلا شك كانت الرقعة التي نضجت فيها تأملات الإنسان البدئية وتصوراته الدينية وأساطيره. ولذا فإن البحث في هذه العوامل غير المادية للحضارة يجب أن يأخذ نقطة انطلاق له من المكان الأول الذي نشأت فيه هذه العوامل، فيدرسها في بيئتها الأولى ليلاحظ فيما بعد كيفية انتشارها خارج هذه البيئة. أي إن نقطة الانطلاق يجب أن تكون من ديانة الثقافة النيوليتية وأساطير زراع القمح الأول، والشكل اللاحق لهذه الديانة والأساطير في المجتمع المديني الأول؛ ومن ثم دراسة تنوعاتها من خلال عبقريات الحضارات الأخرى ونظمها الدينية والأسطورية. إن المنهج المقارن الذي اعتمد حتى وقت قريب دراسة الثقافات البدائية القائمة أو القريبة منا زمنيًّا، ثم إسقاطها على الأشكال الأولى لديانات الإنسان وأساطيره، لم يعد مبررًا الآن بعد أن صارت بين أيدينا الوثائق الدينية للعصر النيوليتي من تماثيل وعادات دفن وهياكل عبادة وما إليها. إلا أنَّ هذا المنهج المقارن سيبقى مفيدًا عندما يتعلق الأمر بملء بعض الفجوات الأساسية التي تعجز هذه الوثائق عن ملئها.

إن نظريتنا في هذا الكتاب تقوم على القول بنشوء ديانة مركزية واحدة وأسطورة أولى في العصر النيوليتي، كانت ذات تأثير مباشر على الأشكال الدينية والأسطورية لدى جميع الثقافات اللاحقة، بدءًا من المجتمع المديني الأول في وادي الرافدين وانتهاء بالديانات الكبرى للحضارات اللاحقة. فمع انتشار الأسباب المادية للثقافة النيوليتية من بؤرتها الأولى، انتشرت معها الأفكار المرتبطة بحضارة الاستقرار والزراعة، وقام كل شعب من الشعوب التي تبنت الثقافة الجديدة بابتكار تنويعه الخاص انطلاقًا من هذه المعطيات الأولى. وهذا ما يفسر لنا بحقٍّ تشابُه الأساطير الأساسية لدى شعوب العالم القديم، وهو التشابه الذي سنعمل على كشف كثير من جوانبه عبر فصول هذا الكتاب. ورغم أن جهدنا لن ينصبَّ بالدرجة الأولى على إثبات هذه النظرية في مقابل نظرية النشوء المتوازي المعاكسة؛ إلا أن البرهان سيتكامل من تلقاء ذاته تدريجيًّا، وذلك من خلال المجرى الرئيسي لدراستنا وهو: الإلهة الأم.

كيف كانت ديانة الإنسان النيوليتي؟ وعلى أي شكل جاءت أساطيره؟ وما فحوى غيبياته فيما وراء المادة؟ لم يترك العصر النيوليتي لنا نصوصًا مكتوبة ولكنه ترك لنا رسومًا وتماثيل ومدافن ومعابد، حمَّلها كل ما يمكن أن تحمله الرُّقم المخطوطة، فوصلت إلينا رسائله عبر فنونه وجمالياته وإبداعاته التشكيلية والمعمارية. ولقد صار لدينا الآن ثروة من نتاجاته كافية لفهم حياته الروحية وتصوراته الدينية وطبيعة طقوسه وعباداته. وفي الحقيقة فقد ورثت الثقافة النيوليتية الزراعية المعطيات الثقافية للعصر الباليوليتي وطورتها في اتجاهات تتلاءم وأسلوب الحياة الجديد، وذلك إضافة لإبداعاتها الخاصة التي أنشأتها من العدم.

وفي المجال الديني ورثت عن آخر حلقات العصر الباليوليتي (٣٠٠٠٠–١٠٠٠٠ق.م.) تصوُّرها للقوة الإلهية في شكل وماهية أنثوية، هي الأم الكبرى للكون. غير أن الإنسان النيوليتي قد بنى حول هذا الشكل الإلهي القديم بنية جديدة من التصورات والاعتقادات والأساطير، ذات فحوى ومضامين تتصل بالزراعة التي غدت جوهر حياته وأساس تنظيمه الاجتماعي والسياسي. فالديانة النيوليتية الأولى والحالة هذه هي ديانة زراعية في اعتقادها وطقسها، والأسطورة الأولى هي أسطورة زراعية تتركز حول إلهة واحدة هي سيدة الطبيعة في شكلها الوحشي، وشكلها المدجن الجديد الذي تشارك يد الإنسان في صنعه.

كانت إلهة العصر الباليوليتي ومطلع العصر النيوليتي وحيدةً تتربع على عرش الكون، ولكننا مع نضوج الثقافة النيوليتية واكتمال الشكل الاقتصادي الجديد، وتزايد الدور الاجتماعي للرجل بعد أن كان المجتمع حتى ذلك الوقت أموميًّا في جوهره، نجد إلى جانب الإلهة الكبرى ابنها الذي دعته عصور الكتابة بتموز أو أدونيس، لا ندري بأي اسم دعاها عُبَّادها الأولون، ولكننا نعثر على تماثيلها في كل موقع من مواقع العصر النيوليتي، هذه التماثيل التي ابتدأت طينية صغيرة على شكل دمى،٢٨ وانتهت حجرية ضخمة تسكن المعابد الكبرى. وعندما تعلم الإنسان الكتابة أخبرنا بأسمائها، وقدمتها لنا فنونه التشكيلية في صورٍ شتى ترمز كل منها إلى خصيصةٍ من خصائصها أو جانبٍ من جوانبها؛ فنراها في هيئة امرأة حُبْلى، أو أُمٍّ تضم إلى صدرها طفلها الصغير، أو عارية الصدر تمسك ثدييها بكفيها في وضع عطاء، أو ترفع بيديها باقةً من سنابل القمح، أو باسطة ذراعيها في وضع مَن يستعد لاحتواء العالم، أو ممسكة بزوجٍ من الأفاعي، أو معتلية ظهور الحيوانات الكاسرة.

ولقد لعبت المكانة الاجتماعية للمرأة في تلك العصور، والصورة المرسومة لها في ضمير الجماعة، دورًا كبيرًا في رسم التصور الديني والغيبي الأول وفي ولادة الأسطورة الأولى. كانت المرأة بالنسبة لإنسان العصر الباليوليتي موضع حبٍّ ورغبة، وموضع خوف ورهبة في آنٍ معًا؛ فمن جسدها تنشأ حياة جديدة، ومن صدرها ينبع حليبُ الحياة، ودورتها الشهرية المنتظمة في ثمانية أو تسعة وعشرين يومًا تتبع دورة القمر، وخصبها وما تفيض به على أطفالها هو خصب الطبيعة التي تهب العشب معاشًا لقطعان الصيد، وثمار الشجر غذاء للبشر. وعندما تعلَّم الإنسان الزراعة وجد في الأرض صنوًا للمرأة؛ فهي تحبل بالبذور وتطلق من رحمها الزرع الجديد. لقد كانت المرأة سرًّا أصغر مرتبطًا بسرٍّ أكبر؛ سر كامن خلف كل التبديات في الطبيعة والأكوان؛ فوراء كل ذلك أنثى كونية عظمى، هي منشأ الأشياء ومردها، عنها تصدر الموجودات، وإلى رحمها يئُول كل شيء كما صدر.

غير أنَّ الأنظمة الدينية النيوليتية تتزعزع مع بزوغ عصر الكتابة، وظهور المدن الكبيرة ذات التنظيمات المدنية والسياسية والاقتصادية المعقدة، التي عكست واقعها على الحياة الدينية الجديدة. فمع انتقال السلطة في المجتمع إلى الرجل، وتكوين دولة المدينة ذات النظام المركزي، والهرم السلطوي والطبقي التسلسلي الصارم، الذي قام على أنقاض النظام الزراعي البسيط، يظهر الآلهة الذكور ويتشكل مجمع الآلهة برئاسة الإله الأكبر، ذلك المجتمع الذي يعكس تشعب الاختصاصات وتقسيم العمل في المجتمع الجديد وتمركز السلطة في يد الملك. هنا تجد الإلهة الكبرى للعصر النيوليتي نفسها وقد غدت إحدى آلهة المجمع، بعد أن كانت الإلهة الواحدة لا يشاركها في السطات سوى ابنها، الذي نشأ عنها، وكان مقدمةً لظهور بقية الآلهة الذكور. غير أنَّ هذا التحول في مكانة الأم الكبرى، لم يتم إلا على النطاق الرسمي؛ بينما بقيت مكانتها القديمة على حالها في ضمير الناس عامة ممن لم يتوجهوا إلا إليها عند الخوف واليأس وأزمنة الشدة.

ومن ناحيةٍ أخرى فإن الكتابة التي ابتكرها الإنسان في مطلع العصر المديني، وراح يدوِّن بها أساطيره الموروثة عن أسلافه البسطاء، قد ساهمت في تظليل صورة الأم الأولى، وإسدال حُجب سميكة أمام وجهها. فالكهنة المتفرغون ممن ساعد الرفاه الاقتصادي في المجتمع الجديد على تفرغهم كليةً للنشاط الديني، والذين كانوا أول من استعمل الكتابة وحفظ أسرارها المقدسة، قد راحوا يدوِّنون أساطير الأمس بلغة اليوم الشعرية، التي ابتعدت عن أصلها الطبيعي المباشر متجهة أكثر فأكثر نحو المجاز والرمز، وانتشت نفوسهم بهذه الأداة الجديدة، فأخذوا يطلقون على الأم الكبرى أسماء متعددة يشير كل منها لوظيفة من وظائفها أو خصيصة من خصائصها. ثم استقلت الأسماء فصارت ذوات منفصلة بتأثير التوجه الديني الجديد، ولكن دون أن يفقد الإنسان إحساسه بالوحدة الصميمية لهذه الذوات وتطابقها، وبكونها تنبع عن وتصبُّ في ذات واحدة؛ فالفكر الأسطوري لا يهمه أن يُعبر عن الحقيقة بطريقة مباشرة كما هو شأن الفكر الفلسفي والعلمي اللاحقَين، بل إنه يسعى إلى التعبير بلغة المجاز والخيال والرمز، وإيصال رسالته إلى القلوب والمشاعر لا إلى العقول والأذهان. فالأسطورة، والحالة هذه، ليست عين شكلها وما ترويه من قصص وأحداث، بل هي كالحلم الذي يبدو غامضًا متنافر الوقائع؛ ولكنه غني بكل معنى ودلالة. إن منطقها ليس أن: «آ» هو «آ» وليس «ب» كما هو الحال عند أرسطو، بل منطق أن: «آ» هو عين «ب» إذا كان الاثنان يشفَّان عن حقيقة واحدة، ويظهران كتبدٍّ لمبدأ واحد. إن آخر مأرب للأسطورة أن تؤخذ بحرفيتها وشكلها ونصها؛ لأنها إشارة وإيماءة، لا دوغما جامدة.

من الأسماء التي استقرَّت فصارت ذواتًا، نجد في سومر الإلهة «نمو» الإلهة البدئية والمياه الأولى، و«إنانا» إلهة الطبيعة والخصب والدورة الزراعية. وفي بابل نجد «ننخرساج» الأم — الأرض، وعشتار المقابلة لإنانا. وفي كنعان «عناة» و«عشتارت»، وفي مصر «نوت» و«إيزيس» و«هاتور» و«سيخمت»، وعند الإغريق «ديمتر» و«جايا» و«رحيا» و«أرتميس» و«أفروديت». وفي فرجيا بآسيا الصغرى «سيبيل». وفي روما «سيريس» و«ديانا» و«فينوس». وفي جزيرة العرب «اللات» و«العزى» و«مناة»، وفي الهند «كالي»، وفي حضارة السلت الأوروبية «دانو» و«بريجيت». أسماء متنوعة لإلهة كانت واحدة قولًا وفعلًا في العصر النيوليتي، فصارت متعددة قولًا وواحدة فعلًا في عصور الكتابة. وإني لأدعوها في هذا الكتاب باسمها البابلي «عشتار»، عيش الأرض.

قد يعجب من تعوَّد قراءة الكتب الأكاديمية في الأسطورة، مما نقول به من تطابق بين إلهات عرفهنَّ كلًّا على حدة؛ إلا أن أحد أهدافنا الرئيسية في هذا الكتاب هو البحث عن التطابق في التباعد وعن الوحدة في الشتات. ولسوف يتفتح اللغز تدريجيًّا وبشكل تلقائي عبر الفصول القادمة. وها هي «إيزيس» تقدم لنا منذ البداية بعض المعونة؛ إذ تقول عن نفسها في أحد النصوص من الفترة الرومانية: «أنا أم الأشياء جميعًا، سيدة العناصر وبادئة العوالم، حاكمة ما في السماوات من فوق وما في الجحيم من تحت، مركز القوة الربانية. أنا الحقيقة الكامنة وراء الآلهة والإلهات، عندي يجتمعون في شكل واحد وهيئة واحدة، بيدي أقدار أجرام السماء وريح البحر وصمت الجحيم، يعبدني العالم بطرقٍ شتى وتحت أسماء شتى، أما اسمي الحقيقي فهو «إيزيس»، به توجَّهوا إليَّ بالدعاء».٢٩

لا يقتصر لغز عشتار على تعدد الأسماء وتنوع التجليات، بل يتعدى ذلك إلى كل ما يتعلق بها من خصائص ووظائف وطقوس وأساطير وتراتيل. ولعل في لغز عشتار البابلية نموذجًا لألغاز شبيهاتها عشتارت الثقافات الأخرى؛ فكل سرٍّ من أسرارها يُفضي إلى سرٍّ آخر، ولا نكاد نمسك بها في صورةٍ حتى تنحلَّ إلى أخرى، أو نقبض عليها في هيئةٍ حتى تنقلب إلى نقيضها. هي ربَّة الحياة وخصب الطبيعة، وهي الهلاك والدمار وربة الحرب. في الليل عاشقة وفي النهار مقاتلة ترعى المواقع وتغشى المذابح. هي الأم الحانية، راعية الحوامل والمرضعات الحاضرة أبدًا قرب سرير الميلاد، وهي البوابة المظلمة الفاغرة لالتهام جثث البشر. هي ربة الجنس وسرير اللذة، وهي من يسلب الرجال ذكورتهم ويُخصى تحت قدميها الأبطال. هي القمر المنير، وهي كوكب الزهرة. هي النور ورمزها الشعلة الأبدية، وهي العتم والظلمة وما يخفى. هي القاتلة، وهي الشافية. هي العذراء الأبدية، وهي الأم المنجية. هي البتول، وهي البغيُّ المقدسة. هي ربة الحكمة، وهي سيدة الجنون. هي الإشراق بالعرفان، وهي غيبوبة الحواس وسُباتها. التقت عندها المتناقضات وتصالحت المتنافرات.

إن بحثنا في لغز عشتار هو في الوقت ذاته بحثٌ عن الأسطورة الأولى، والديانة المركزية الأولى والطقوس الأولى. إنه بحث عن أصول الديانات البشرية ومردِّها، عن مبدأ الحياة الروحية والغايات التي تسعى إليها. عدتنا في هذه المغامرة: أداة … وخيال. أمَّا الأداة فهي ما تركه لنا الأقدمون من أساطير ونصوص طقسية وصلوات، وما كشفت عنه الحفريات من رسومٍ ونقوش ومنحوتات. وأما الخيال، فليس خيالًا جامحًا فوق الحد والقيد، بل هو الخيال اللازم لأي معرفة ومغامرة فكر. سيساعدنا الخيال على تخطي صرامة الفكر الحديث، الذي يحاكم تركه الماضي بأطر العصر ومنطقه وعلومه الوضعية، فنلبس لبوس الإنسان القديم وننظر إلى العالم بعينه، ونفكر بطريقته ومن خلال منطق أسطورته. سننظر إلى الأسطورة من داخلها، ونهبط إلى مستوياتها السرانية الباطنية منحدرين من شكلها الخارجي إلى أعماقها الحقيقية، مما يظن فكرنا المنطقي العلمي الفلسفي أنها تقول إلى ما تريد فعلًا أن تقول.

ومن ناحيةٍ أخرى فلن يكون منهجنا تاريخيًّا يعتمد تسلسل المراحل وتتابعها، ولا إثنولوجيًّا يعتمد دراسة معتقدات كل شعب على حدة ومقارنتها، من ثم، بمعتقدات الشعوب الأخرى؛ بل سنضع أنفسنا في قلب اللغز متتبعين طريقنا في كل الاتجاهات زمنيًّا وجغرافيًّا وإثنيًّا لنصل إلى أطرافه. وستقدم لنا في كثيرٍ من الأحيان أعمال الإنسان الفنية التشكيلية معونة أكبر مما تقدمه لنا نصوصه المكتوبة. فالكلمة مخادعة مخاتلة، تزوغ من معنًى لتلبسها معان، أمَّا العمل التشكيلي فشاهد صامت، أسهل قراءة في رأينا وأكثر قدرة على الإيصال. غير أن الأداتين ستتعاونان تعاونًا فعالًا في مسار البحث، فيلقي العمل الفني ضوءًا على النص، ويفك لنا النص رموز العمل الفني. إن عملًا فنيًّا من العصر النيوليتي سيلقي ضوءًا على آخر من مطلع عصر الكتابة، أو على نص من فترة الحضارات الكبرى. وبالمقابل فإن نصًّا مكتوبًا سيعيننا على فهم عمل فني تركه صاحبه دون رسالة مكتوبة. سوف تتبادل عشتار المعابد الكبرى والتماثيل الرخامية الرائعة أسرارها مع عشتار المزارع الأول الذي صنع لها الدمى بطين حقله معجونًا بعرق بدنه، وستتعاون الاثنتان على كشف كثير من جوانب الديانات الكبرى اللاحقة، التي يربطها بأول طقس قام به إنسان المستوطنات الزراعية في سوريا، وهو يزرع سنبلته الأولى، خيط مكين.

عشتار سيدة الأسرار، مَن يجرؤ على هتك سرها حلَّت عليه لعنتها المقيمة. تقول عن نفسها بلسان الأم المصرية الكبرى: «أنا ما كان، وما هو كائن، وما سيكون … وما من إنسان بقادر على رفع برقعي»،٣٠ ومَن حاول رفع الستر عنها لقي مصير الشاب الذي أزاح البرقع عن تمثال لإيزيس في أحد هياكلها؛ فأصابه الخبال لما رأى، وانعقد لسانُه بقية حياته. وكذلك مصير الشاب الصياد الوسيم «أكيتون» الذي اقتحم على أرتميس وهي تستحم عارية في مياه البحيرة العالية عند منبع النهر، فمسخته الإلهة أيلًا طاردته كلابه فمزقته إربًا إربًا. هذه القصص لا تشير إلى احتجاب عشتار بجسدها؛ فهي العارية أبدًا، التي صوَّر الإنسان جسدها منذ أن تعلَّم تشكيل المادة بيديه، ولكنها تشير إلى لغزها الكبير وحيرة الألباب في أمرها. ومع ذلك فإننا سوف نبدأ برفع براقعها واحدًا تلو آخر، لنكشف عن وجهها الأخَّاذ؛ وجه الأنثى الخالدة الكامن في ضمير كلٍّ منا. سوف أنطلق من المشهد البانورامي لأسطورة الشرق القديم وأساطير الحضارات الكبرى، ثم أرتقي الأحراش الجبلية في طرق ضيقة وعرة نحو البحيرة الصافية حيث تستحم عشتار، وعندما أصل لن يُثنيني عن الاقتحام لعناتها المقيمة؛ لأنني لا أكشف عن وجهها كشْف هتكٍ بل كشف عشق.
١  Charles Redman. The Rise of Civilzation, p. 1–2.
٢  ibid, pp. 6–7.
٣  Gordon Child, The Most Ancient Near East, p. 238.
٤  Charles Redman, The Rise of Civilzation, pp. 71–74.
٥  James Mellart, The Neolithic of The Near East, p. 274.
٦  ibid, p. 255.
٧  J. Cauvin, Religions Neolitques, p. 7.
٨  J. Cauvin. Les Premiers Villages, pp. 1–3.
٩  O. D. Henry, The Natufians, pp. 421–430.
١٠  Charles Redman, The Rise of Civilization pp. 71–77.
١١  James Mellart, The Neolithic of the Near East, p. 33.
١٢  James Mellaart, Catal Huyuk, p. 16.
١٣  James Mellaart, The Neolithic of the Near East, p. 274.
١٤  J. Cauvin, Religions Neolithiques, p. 35.
١٥  James Mellaart, The Neolithic of the Near East pp. 42–51.
١٦  Andrew Moore, North Syria in Neolithic 2, pp. 445–456.
١٧  James Mellaart, Catal Huyuk.
١٨  James Mellaart, Earliest Civilization of the Near Esat, pp. 63–66.
١٩  ibid pp. 130–132.
٢٠  James Mellart, The Neolithic of Near East, p. 281.
٢١  S. N. kramer. Histoey Begins at Sumer.
٢٢  James Mellaart. The Neolithic of the Near East, pp. 275.
٢٣  Joseph Campbell, Primitive Mythology, p. 135.
٢٤  Robert Braidwood, Prehistoric Man, pp. 142–143, 178–184.
٢٥  Gordon Child, The Most Ancient Near East, p. 238.
٢٦  Joseph Campbell, Primitive Mythology, p. 148.
٢٧  ibid, p. 149.
٢٨  ما زالت التقنيات الجارية في المواقع النيوليتية في سوريا تمدنا بهذه الدمى الطينية للإلهة الأم.
٢٩  Joseph Campbell, Primitive Mytholugy, p. 56.
٣٠  J. Viaud, Eghptian Mythology, p. 37.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤